حقوق الإنسان في فكر وممارسة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر

د. وليد شهيب الحلي

أستاذ جامعي زائر في جامعة لندن

الأمين العام لمجموعة حقوق الإنسان في العراق

توطئة

أضحى الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره من أبرز ضحايا حقوق الإنسان في القرن العشرين على مستوى العراق والدول العربية والإسلامية ودول العالم، حيث مورس ضده جميع أنواع الاضطهاد والقمع والاعتقال والتعذيب والاحتجاز في المستشفى عندما كان مريضاً عام 1972، وفي بيته عندما كان محجوزاً عامي 1979 و1980.. وحوصر في فكره وإنتاجه العلمي والإسلامي حياً وميتاً.. فكان ولا يزال مصير من يحتفظ بكتاب للإمام الصدر في العراق الاعتقال والتعذيب والإعدام.

قام نظام صدام حسين في العراق باعتقاله عدة مرات عام 1972 و1977 و1979 و1980، وتعذيبه أشد العذاب.. وقام بمصادرة ثروته العلمية، ومتابعة تلامذته ووكلائه حيث أعدم (80) عالماً دينياً من طلبته، واعتقل وعذّب أكثر من 000/50 من الموالين والمحبين للإمام الشهيد وخاصة من أعضاء حزب الدعوة الإسلامية.[1] كذلك فإن أخته العالمة آمنة الصدر قد عذّبت عذاباً شديداً وانتهكت حرماتها وأعدمت أمام السيد الصدر.

وعلى مستوى الدول العربية والإسلامية عرف الإمام الشهيد الصدر من قبل علماء الدين والشخصيات الإسلامية والسياسية في الدول العربية والإسلامية، ودُرِست عدد من كتبه في بعض الجامعات العربية، إلا أنه لم يحظ باهتمام هذه الدول والشخصيات التي نسته أثناء محنه، حيث لم تعمل من أجل إطلاق سراحه في محطات اعتقالاته المستمرة في العراق، ولم تقف بوضوح ضد الجريمة التاريخية في إعدامه على يد صدام حسين وأخيه برزان في اليوم الثامن من نيسان 1980م.

والذي أثبتته الأيام أن قرار إعدامه كان قراراً دولياً حيث نفذ حزب البعث الصدامي هذه الجريمة نيابة عن الدول التي جاءت به إلى سدّة الحكم، وخاصة إذا عرفنا أن ذلك جاء بعد أشهر قليلة من انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني، الثورة التي هزت الوجود الأميركي والاستكباري في منطقة الخليج والعالم. وجاء ضمن مخطط مكون من أربعة بنود للقضاء على دور الإسلاميين في العراق؛ خوفاً من قيام الثورة الإسلامية في العراق، وذلك من خلال:

أولاً: القضاء على المرجعية الدينية الواعية في العراق التي كانت تتمثل بقيادة الإمام الصدر.

وثانياً: تصفية الحركة الإسلامية وعلى رأسها حزب الدعوة الإسلامية والمتعاطفين معه والسائرين في نفس الاتجاه من الشخصيات والحركات والفصائل الإسلامية، نفذ ذلك من خلال قرار ما يسمى بـ(مجلس قيادة الثورة) المرقم 461 والصادر في 31/3/1980، أي قبل إعدام الصدر بـ 8 أيام.

وثالثاً: تهجير التجار وأصحاب الأموال العراقيين بعد مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة، وتهجير غيرهم بحجة أن أصولهم إيرانية؛ وذلك من أجل القضاء على مصادر التمويل المالي وتصفية التحرك الجماهيري في العراق.. شرع في التهجير من بداية نيسان 1980م.

ورابعاً: إبدال أحمد حسن البكر بصدام حسين في 18/7/1979م؛ وذلك لأن الأخير متمرس في القتل والقمع، وأكثر كفاءة في تصفية المعارضين له، وتحقيق الأهداف الثلاثة أعلاه.

كل هذه الإجراءات جاءت مقدمة لقيام صدام بحربه العدوانية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في 22/9/1980م؛ إذ بدون تنفيذ البنود الثلاثة الأولى أعلاه ۔ أي في قتل الصدر وتحجيم دور مرجعيته، وتحجيم دور حزب الدعوة الإسلامية، ومحاولة القضاء على مصادر المد المالي والجماهيري للمرجعية الدينية والحركة الإسلامية ۔ ما كان لصدام القدرة على تحقيق أهداف هذه الحرب.

إن قتل الصدر وأخته العالمة آمنة الصدر، والرساليين الذين استشهدوا على دربه، لم يعدّ انتهاكاً كبيراً لحقوق الإنسان فحسب، بل هو جريمة تاريخية بحق العلماء والقادة، ويعتبر ممارسة خطيرة بحق المفكرين والواعين الذين قدموا أنفسهم للأجيال القادمة؛ من أجل إحقاق الحق، وكشف الظلم والباطل، وترشيد مسيرة الإنسان نحو الكمال والسعادة والحياة الأفضل.

المقدمة

العدل حق الحياة، حق المساواة أمام القانون، حق الحرية، حق الاعتقاد، حق التفكير والتعبير عن الرأي، حق الأمن، وحق مقاومة الظلم والقهر والاضطهاد، حق التصويت والانتخاب الحر، حقوق طبيعية للإنسان انتهكت منذ اليوم الأول الذي تصارع به قابيل مع هابيل ابني آدم. وبعد نزعات وحروب كثيرة، ورغم إرسال الأنبياء والمرسلين من قبل الله (عز وجل) لبناء الإنسان وضبط مسيرته وحريته ضمن برنامج سعادته ورفاهه، إلا أن بعض الناس كان ولا زال أسير شهواته وأنانيته ومرتعاً للشيطان، وبالتالي فهو يضطهد ويظلم من أجل أن يسعد هو ويقهر غيره.

وقد ظهر في القرن العشرين عدة إعلانات ودساتير تنادي بحقوق الإنسان، منها إعلان عصبة الأمم سنة 1919م، وميثاق الأمم المتحدة سنة 1945م، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948م، والإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان عام 1981م.[2]

وقد اهتم الإمام الشهيد الصدر بأسس حقوق الإنسان، حيث بحث عن العدل والحرية والحقوق الأخرى ضمن دراسات متنوعة.[3]

وقد أولى الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر اهتماماً خاصاً بما يعانيه المجتمع البشري من اضطهاد وجور، على متسوى النظريات التي تطرح لحل مشاكله ومعاناته وعلى مستوى التطبيق. وقد ناقش النظريات الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية وكيفية معالجتها لمفاهيم الحرية والضمان الاجتماعي وغيرها من الأفكار التي طرحتها، وطرح البديل الإسلامي الذي يحمي الإنسان من الاستغلال والمصالح الذاتية. كما أنه شخّص في أن ظلم المسلمين من قبل أعداء الإسلام يتأتى من خلال النظرة المادية الضيقة للحياة، وسلخها من علاقتها بربها وعدم ارتباطها باليوم الآخر الذي يجازي المحسن فيها وينال المسيء عقابه فيها.. وقد تناول البحث دراسة الإمام الشهيد الصدر لمفهوم الحرية، وطرحه لنظرة الإسلام للضمان الاجتماعي، وكيفية تطوره فكرة الضمان الاجتماعي في العالم والغرب بشكل خاص وتنفيذه لها بمساحات واسعة بعد الحرب العالمية الثانية.

وسلّط البحثُ الضوءَ على عدد من مطالب حقوق الإنسان في العراق في النداءات الثلاثة التي وجهها الإمام الشهيد الصدر للمسلمين قبيل شهادته.

الضمان الاجتماعي

3ـ1. الضمان الاجتماعي في الإسلام

فرض الإسلام على الدولة وجعل من مسؤوليتها ضمان معيشة جميع أفراد المجتمع ضماناً كاملاً، بحيث تهيء لكل فرد وسائل العمل والكسب، أو المال الكافي لسد حاجاته، وتوفير الحد المقبول من العيش له. ويشمل هذا الضمان العاجزين أو العاطلين عن العمل والمعوزين.

وانطلق الإمام الشهيد الصدر في تعريفه هذا الضمان الاجتماعي[4] على أساسين:

الأول: إيمان الإسلام بحق الجماعة في موارد الثروة التي تحت تصرف الدولة حسب الآية القرآنية الكريمة <خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً> وسماه (حق الجماعة في موارد الدولة العامة).

والأساس الثاني: كفالة المسلمين بعضهم لبعض، حيث فرض فيه الإسلام على المسلمين تقديم الدعم المادي للمسلمين المحتاجين وسماه (التكافل الاجتماعي العام).

وأسند السيد الصدر ذلك بذكر الحديث الذي ينقل عن الإمام الصادق عليه السلام حيث إنه سأل عن قوم عندهم فضل، وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس يسعهم الزكاة، أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم؟ فإن الزمان شديد، فرد الإمام عليه السلام قائلاً: (إن المسلم أخ المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحرمه، فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه والتواصل والتعاون عليه، والمواساة لأهل الحاجة).[5]

وذكر بعهد الإمام علي عليه السلام إلى واليه في مصر مالك الأشتر التي أكد فيها على حقوق الضعفاء والفقراء جاء فيها:

ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤس والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومُعتراً. واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلّات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استُرعيتَ حقه، فلا يشغلنّك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه فأحكامك الكثير المهم، فلا تُشخص همك عنهم، ولا تُصعّر خدّك لهم. وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمهُ العيونُ وتحقره الرجال ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه. فإن هؤلاء من بينِ الرعية أحوجُ إلى الإنصاف من غيرهم. وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم، وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه.[6]

وفي تفسيره للآية القرآنية <مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاٰ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ>، [7] يعتبر الإمام الشهيد الصدر: (أن الفيء ملك المنصب الذي يشغله النبي والإمام، ومصرفه الذي يجب عليه صرفه عليه هو ما يدخل ضمن العناوين التي ذكرتها الآية).[8] والفيء في الأصل هو ما يغنمه المسلمون من الكفار بدون قتال.

وفي هذا التوجه القرآني تأكيد واضح على توزيع الثروة على الجماعة، فهي ليست محتكرة لجماعة دون أخرى، وإنما يشترك فيها الفقير واليتيم والمسكين وابن السبيل وبقية الناس.

3ـ2. حق غير المسلمين بأموال الدولة الإسلامية

فرض الإسلام على الدولة أيضاً نفقة غير المسلمين (الذمي) من بيت المال. وقد روي عن الإمام علي عليه السلام أنه مر بشيخ مكفوف كبير يطلب المساعدة، فقال الإمام علي عليه السلام: (ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني، فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال).[9]

3ـ3. تعميم الغنى في الإسلام

شرع الإسلام الزكاة والخمس كمصادر مالية (ضرائب شرعية) لدعم حاجة الدولة والمجتمع للمال، ولتكوين مجتمع غني ينعدم فيه الفقر؛ تحقيقاً للتوازن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي.

فعن الإمام موسى بن جعفر؟عهما؟ (إن الولي يأخذ المال فيوجهه الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم، للفقراء والمساكين، يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق ولا تقية، فإن فضل من ذلك شيء رد إلى الوالي، وإن نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يموّنهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا).[10]

3ـ4. الضمان الاجتماعي في الغرب

ظهر الضمان الاجتماعي Social Security في الغرب قبل 500 عاماً عندما صدرت قوانين (فقراء المدن) في ألمانيا عام 1520م، Town Poor Laws، ولتتوسع في عام 1530م، لتفرض على المدن والمجتمعات الألمانية ضريبة دفع أموال للفقراء.. .[11]

وفي عام 1601م صدر في إنجلترا وويلز قانون إغاثة الفقراء.[12]

وفي القرن التاسع عشر ونتيجة للثورة الصناعية وتأثيراتها على التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الأوروبي والأميركي أصبحت الحاجة إلى تأسيس نظام الضمان الاجتماعي أكثر من قبل.[13] وبدأ العمل بتطبيق هذا النظام بشكل واسع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. [14] و[15]

عرّفت أهداف الضمان الاجتماعي في المرحلة الأولي[16] على أنها تهتم بالرعاية الطبية للأفراد، ودعم الأشخاص فاقدي العمل. وإضافة مبالغ إلى العاملين مع عوائلهم الذين لا تكفي رواتبهم لمعيشتهم.

وعرفت المرحلة الثانية على أنها إعطاء حقوق الأفراد العاملين بعد تحقيق ما عليهم من حقوق المجتمع والمؤسسات. أما المرحلة الثالثة فهي تختص في آلية عمل الضمان الاجتماعي بأن تكون إدارته منتخبة من الجماهير أو مشاركة فيها أو تتكون من لجنة خاصة (ذاتية) مستقلة عن الحكومة.

وقد توسعت فكرة هذا الضمان ليشمل نظام التأمين الصحي والتأمين للعاطلين عن العمل، ونظام حقوق الأيتام والأرامل وكبار السن، ونظام الإسناد للعوائل، ونظام إسناد المعوقين والمرضى وغيرها من الأنظمة.. وازدادت نفقات هذه الأنظمة لتصل إلى 700/37 مليون باوند في عام 1985م في بريطانيا، وهي مجمل المصاريف التي صرفتها الحكومة البريطانية لتغطية النظام الاجتماعي في ذلك العام حيث صرف حسب النسب التالية: 4/15% رواتب المتقاعدين، 4/6% مساعدات إضافية، 3­/­­­­­­­­4­% مساعدات الأطفال، 2/4% مساعدات إيجار البيوت، 6/2% مساعدات المرضى، 6/1% المساعدات للعاطلين عن العمل، 3/1% للمعوقين، 8/0% للأرامل، 5/0% لمتقاعدي الحرب، 6/0% مساعدات أخرى.

وقد جمعت الحكومة هذه المبالغ بالنسب التالي:

3/25 % من العاملين، و3/24% من أصحاب المعامل والشركات، 2/49% من الضرائب العامة، و2/1% من مصادر أخرى.[17]

وبهذا فقد توسع استخدام الضمان الاجتماعي في أوروبا من مبلغ 1/5% من مجمل الدخل الكلي للدولة في بداية استخدامه إلى حوالي 10% في عام 1950م، وإلى 20-30% في عام 1980م وإلى 30-40% في نهاية القرن العشرين نسبة إلى مجمل الدخل الكلي للدولة. صرفت الحكومة البريطانية 905/76 مليون باوند للضمان الاجتماعي و948/33 مليون باوند للضمان الصحي خلال ميزانية عام 1996 ۔ 1997م، وأصبح المجموع يساوي 948/109 مليون باوند (176 مليار دولار أميركي) من أصل 100/309 مليون باوند (495 مليار دولار أميركي) مجموع مصروفات الحكومة العامة. وهذا يعني أن 36% من مصروفات الحكومة البريطانية في ميزانية عام 1996 ۔ 1997م صرف للضمان الاجتماعي والصحي في المملكة المتحدة.[18]

وقد التجأت الدولة الأوروبية إلى الضمان الاجتماعي في الصرف نتيجة الإحصاءات التي أجرتها، والتي أثبتت تأثير هذا النظام على الحياة الاجتماعية فيها، وضمان استقرارها، والذي نتج عن ذلك قلة الجرائم كالاعتداءات والسرقة والقتل والجرائم الأخلاقية والأمنية الأخرى التي تكون ناشئة من الفقر والعوز والحاجة.

3ـ5. أخلاقية الضمان الاجتماعي في الإسلام والغرب

بينما يعتمد النظام الاجتماعي في الإسلام على طبيعة العلاقة الأخوية بين الإنسان والإنسان، والرابطة الأخلاقية التي تربطهما وتغطّي كل علاقاتهم على أساس أنهم عباد الله في الأرض، كقول الرسول صل الله عليه و آله: (خيركم من يَألف ويُؤلف) نجد أن هذا الجانب الأخلاقي ليس له ذلك الأثر في العلاقة بين الناس في الدول الأوروبية.. يطلب الإسلام من المسلم أن يدفع الحقوق الشرعية التي على عهدته (20% من فائض مدخراته بعنوان الخمس) بدون إكراه وإجبار، بينما نجد أن الإنسان الغربي يتفنن في عدم دفع الضرائب.. إنها تتعلق بتربية الإنسان الأوروبي التي تعتمد بشكل أساسي على الجانب المادي والمصلحة الذاتية والخوف من القوانين وسلطة الشرطة أكثر من الخوف من الله (عز وجل) ويوم الحساب.

بينما تعتمد التربية الإسلامية من منطلق المحبة للفرد والإخلاص لله والإيمان بالمسؤولية تجاه الناس والمجتمع. إننا نلاحظ في التاريخ الإسلامي، وفي عهد عمر بن عبد العزيز، أن الولاة كانوا يبحثون عن الفقراء لدفع المال إليهم، فلم يجدوا أحداً؛ لأنهم جميعاً بلغوا حد الكفاف مما جعل الأموال مكدّسة في بيت المال.

وهذا يعكس جانباً من التربية التي اعتمدها الإسلام في تربية المسلم على العطاء والإنفاق للآخرين عندما تطبّق القواعد الإسلامية الصحيحة في الحكم، في حين نجد أن الكثير من حكومات الشعوب الإسلامية لا تلتزم بالتعاليم والأصول الإسلامية، وبالتالي فهي مبتلاة بالانهيارات الاقتصادية وتفشّي الفقر بين أفرادها.. ولا يعزى ذلك إلى عدم قيام الدولة باتباع النهج الاقتصادي الإسلامي فحسب، وإنما نتيجة عوامل أخرى خارجية وداخلية تملى على هذه الحكومات التي تجعلها تظهر الوجه غير الحسن للنظام الإسلامي.. .

في حين انتصر المعسكر الرأسمالي الغربي على عدوه المعسكر الشيوعي، بقوة النظام الاقتصادي المعتمد فيه، انهارت الشيوعية بعد (70) عاماً من الحكم نتيجة سقوطها في فخّ الصراع الاقتصادي بينها وبين الغرب ونتيجة لفشل نظامها الاقتصادي والسياسي تجاه شعوبها والشعوب التي وقعت تحت هيمنتها.

والضمان الاجتماعي إضافة إلى أنه مظهر من مظاهر الرقي الاجتماعي الحضاري، بالقضاء على الفقر والعوز، إلا أنه سيظل عاجزاً عن حل المشاكل الحقيقية التي يعاني منها الإنسان في الغرب، ألا وهي الجدب الروحي والتفسخ الأخلاقي، وعدم الشعور بالارتباط بالغيب ورقابة الله تعالى.

الحرية

يؤكد الإمام الشهيد الصدر مبدأ الحرية الذي بينته قواعد الإسلام وجسده الرسول الأكرم محمد صل الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام والقادة الصالحين في احترام الحرية للمجتمع، وهذا ما تناولته مؤخراً المدارس الرأسمالية والشيوعية من أن كل إنسان له الحق في التمتع بالحرية التي كسبها الفرد من الطبيعة.. ويعتبرها إحدى المقومات الجوهرية للإنسانية؛ لأنها تعبير عن الطاقة الحيوية فيها.. ويميز السيد الصدر الحرية التي كسبها الفرد من الطبيعة (الحرية الطبيعية) عن تلك الحرية التي يكسبها الفرد من المجتمع والتي يسميها (الحرية الاجتماعية).[19] فالحرية الطبيعية منحة الله للإنسان، بينما الحرية الاجتماعية يمنحها النظام الاجتماعي، ويكفلها المجتمع لأفراده، وهي محل دراسة المذاهب الفكرية والأنظمة الاجتماعية، وعندها تظهر الاختلافات بين هذه المدارس.. ويقسم السيد الصدر الحرية الاجتماعية إلى قسمين:

١. الحرية الاجتماعية الجوهرية، وهي تمثل المحتوى الحقيقي للحرية الاجتماعية، وتعرف بأنها القدرة التي يكسبها الإنسان من المجتمع على القيام بفعل شيء معين. وتعني أن المجتمع يقوم بتوفير كل الوسائل والشروط اللازمة للفرد، لتمكينه من ممارسة دوره. مثلاً يمكّن المجتمع كل أفراده من شراء السلع بتوفير المال اللازم لذلك له.

٢. الحرية الاجتماعية الشكلية: وهي تمثل المحتوى الظاهري (الشكلي) للحرية، حيث لا يوفر المجتمع القدرة اللازمة للفرد بفعل شيء معين. كأن تكون السلع متوفرة، ولكن الأفراد لا يملكون المال اللازم لشرائها، وبالتالي فإن هذه الحرية لا تكفل مطالب أفرادها، وقد تقود هذه الحالة إلى انسياق العديد من أفراد المجتمع للسرقة والعداوة والخيانة وغيرها من الأعمال المضرة بالمجتمع.

ويعتمد المذهب الرأسمالي على الحرية الاجتماعية الشكلية في تعامله مع أفراد المجتمع، فهو لا يعني بالشكل المطلوب في توفير القدرة لدى الإنسان لشراء احتياجاته من السوق.. ويعتقد هذا المذهب بأن الحرية الاجتماعية الجوهرية، ما هي إلا القدرة على الاستفادة من الحرية وليست هي الحرية نفسها، وأن الحرية التي يبتغيها هي الحرية الشكلية.

وينطلق المذهب الرأسمالي في تفسيره لذلك، بأن وضع أفراد المجتمع في حلبة التنافس ينمّي قدراتهم وإمكاناتهم، وبالتالي فإن الحرية الشكلية تساهم في تنشيط المجتمع لاكتساب الحرية الجوهرية؛ لأنها تفسح المجال أمام كل فرد ليخوض المعترك السياسي والاقتصادي ويجرب مواهبه. أما إذا منح الفرد الحرية الجوهرية، بتقديم الضمانات الكافية لنجاحه في أي سبيل يسلكه، وهو يضعف إلى مدى بعيد شعور الفرد بالمسؤولية، ولا يحرك فيه شعور النجاح واستثمار قدراته ومواهبه؛ لأن الحرية الجوهرية توفر له الضمانات اللازمة لذلك.

أما الاشتراكية الماركسية فقد قضت على الحرية الشكلية، وتبنّت إقامة جهاز ديكتاتوري يتولى السلطة المطلقة في البلاد. وإن هذا الجهاز لا يضمن للمواطنين العمل والحقوق الأخرى.

ويعلق السيد الصدر على ذلك بقوله: (أخذ كل من المذهبين بجانب من الحرية، وطرح الجانب الآخر، ولم يحل هذا التناقض المستقطب بين الحرية الشكلية والحرية الجوهرية، أو بين الشكل والجوهر إلا في الإسلام، الذي آمن بحاجة المجتمع إلى كلا اللونين من الحرية، فوفر للمجتمع الحرية الجوهرية بوضع درجة معقولة من الضمان تسمح لجميع أفراد المجتمع الإسلامي بالحياة الكريمة، وممارسة متطلباتها الضرورية، ولم يعترف في حدود هذا الضمان بالحرية. وفي نفس الوقت لم يجعل من هذا الضمان مبرراً للقضاء على الحرية الشكلية، وهدر قيمتها الذاتية والموضوعية، بل فتح السبيل أمام كل فرد خارج حدود الضمان، ومنحه ما ينسجم مع مفاهيمه عن الكون والحياة، فالمرء مضمون بدرجة، وفي حدود خاصة، وحر خارج هذه الحدود).[20]

4ـ1. الحرية الطبيعية؛ وليست الاجتماعية المختصة بكرامة الإنسان

كثيراً ما يشاع في الأواسط المضادة افتراءات على الإسلام، مفادها أن الدين عامة، والدين الإسلامي خاصة، إما يضيّق دائرة الحرية للإنسان أو يعدمها أحياناً. وفي هذا الصدد أورد السيد الصدر الفقرات التالية رداً على هذه الافتراءات:

(إن الحرية جزء من كيان الإنسان، وإذا سلب الإنسان حريته فقد بذلك كرامته ومعناه الإنساني الذي يتميز به عن سائر الكائنات، وهذا التعبير المهلهل لا ينطوي على تحليل علمي للقيمة الذاتية للحرية، ولا يمكن أن يجذب سوى من يستهويه التلاعب بالألفاظ؛ لأن الإنسان يتميز كيانه الإنساني الخاص عن سائر الكائنات بالحرية الطبيعية، بوصفه كائناً طبيعياً، لا بالحرية الاجتماعية باعتباره كائناً اجتماعياً، فالحرية ۔ التي تعتبر شيئاً من كيان الإنسان ۔ هي الحرية الطبيعة، لا الاجتماعية التي تمنح وتسلب تبعاً للمذهب الاجتماعي السائد).

(من وظيفة المذهب الاجتماعي أن يعترف بالنزعات والميول الأصلية في الإنسان ويضمن إشباعها؛ لكي يصبح مذهباً واقعياً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية التي يعالجها ويشرّع لها، فلا يمكن لمذهب إذن أن يكبت في الإنسان نزعته الأصيلة إلى الحرية).[21]

(وليس من المستساغ لكي يكون المذهب واقعياً وإنسانياً أن يعترف بإحدى تلك النزعات الأصيلة، ويضمن إشباعها إلى أقصى حد على حساب النزعات الأخرى.

فالحرية مثلاً، ولو كانت نزعة أصيلة في الإنسان؛ لأنه يرفض بطبعه القسر والضغط والإكراه، لكن لهذا الإنسان حاجات جوهرية، وميولاً أصيلة أخرى. فهو بحاجة ماسة ۔ مثلاً ۔ إلى شيء من السكينة والاطمئنان في حياته؛ لأن القلق يرعبه كما ينغّصه الضغط والإكراه. فإذا فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته، خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى الاستقرار والثقة، كما أنه إذا خسر حريته تماماً، وقام جهاز اجتماعي يملي عليه إرادته بالضغط والإكراه، كان قد فقد حاجة جوهرية أخرى، وهي حاجته إلى الحرية التي تعبر عن نزعة أصيلة في نفسه.

فالتوفيق الدقيق الحكيم بين حاجة الإنسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته الأصيلة إلى شيء من الاستقرار والثقة، وسائر حاجاته الأصيلة الأخرى هو العملية التي يجب أن يؤديها المذهب للإنسانية إذا حاول أن يكون واقعياً قائماً على أسس راسخة من الواقع الإنساني. وأما أن تطرح الميول والحاجات الأخرى جانباً، ويضحى بها لحساب حاجة أصيلة واحدة، كي يتوفر إشباعها إلى أبعد الحدود ۔ كما فعل المذهب الرأسمالي ۔ فهذا يتعارض مع أبسط الواجبات المذهبية).[22]

(إن موقف الرأسمالية من الحرية والضمان لئن كان خطأ فهو مع هذا ينسجم مع الإطار العام للتفكير الرأسمالي كل الانسجام؛ لأن الضمان ينطوي على فكرة تحديد حريات الأفراد والضغط عليها، ولا تستطيع الرأسمالية أن تجد لهذا الضغط والتحديد مسوغاً، على أساس مفاهيمها العامة عن الكون والإنسان).

(وقد يستمد الضغط والتحديد مبرره من الإيمان بسلطة عليا، تملك حق تنظيم الإنسانية وتوجيهها في حياتها، ووضع الضمانات المحددة لحريات الأفراد ۔ كما يعتقد الدين إذ يرى أن للإنسان خالقاً حكيماً من حقه أن يصنع له وجوده الاجتماعي، ويحدد طريقته للحياة).[23]

المطالبة بحقوق الإنسان في العراق

تناول الإمام الشهيد الصدر في نداءاته الثلاثة التي وجهها للشعب العراقي وللعالم في رجب وشعبان 1399ق (حزيران ۔ تموز 1979) أموراً عديدة تتعلق مطالبه بحقوق الإنسان العراقي،[24] حيث أكد على أنه يعمل على إرجاع حقوق الشعب المضطهد على يد حزب البعث الحاكم في العراق.

وضمن استعراضنا لهذه المطالب نجد أنها تنسجم مع عدة من البنود الأساسية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة في عام 1948م:[25]

المادة الأولى والثانية من الإعلان العالمي: حول مساواة أبناء البشر في الكرامة والحقوق، دون تمييز من حيث القومية أو الجنس أو اللغة أو الدين.

السيد الصدر (فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي.. بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء ومن أجل العربي والكردي على السواء).

حيث يؤكد الصدر على أنه يدافع عن حقوقهم على السواء بغض النظر عن كونه سنياً أو شيعياً أو عربياً أو كردياً أو تركمانياً من دون تمييز طائفي أو قومي أو تمييز على أساس اللغة أو الأصل.

۔ المادة الثالثة والرابعة والخامسة من الإعلان العالمي: حول حق الحياة والحرية وعدم الاستعباد والتعذيب والمعاملة الظالمة أو المخالفة للإنسانية أو امتهان الإنسان.

الإمام الصدر يقول: (ألا ترون أنهم يمارسون أشد ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب؟.. ويزدادون يوماً بعد يوم حقداً على الشعب وتفنناً في امتهان كرامته والانفصال عنه والاعتصام ضده في قصورهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات).

حيث يوضح سياسة حزب البعث التي تعتمد على الاضطهاد والقمع، وهم يخافون الشعب الذي يضطهدونه؛ لأنهم لو لم يخافوا الشعب لمنحوه حق الحرية وانتخاب حكومته.

المواد من السادسة إلى الحادية عشر من الإعلان العالمي التي تهتم بالحقوق القانونية العادلة للفرد دون تمييز.

السيد الصدر: (أطالب باسم كرامة الإنسان بالإفراج عن المعتقلين بصورة تعسفية، وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء).

لأن النظام البعثي امتهن كرامة الإنسان العراقي بشكل تعسفي ومنعه من ممارسة حقوقه القانونية، بوجود محام حر يدافع عن حقوقه ووجود محاكم عادلة والقدرة على التمييز والاستئناف ضد الحكم الذي يصوغه نظام البعث كما يشتهي.

المادة (18) و(19) من الإعلان العالمي حول حق الحرية الدينية وإقامة المراسم الدينية. السيد الصدر: (أطالب بإطلاق حرية الشعائر الدينية).

حيث قام النظام بمنع الشعارات الدينية الواعية التي تفضح ممارساته القمعية للجماهير.

المادة (20) من الإعلان العالمي حول حق تشكيل الاجتماعات والجمعيات، وعدم إجبار أحد للاشتراك بها.

السيد الصدر: (وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إلى حزبهم فصبرنا، وإذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجمّد أجهزتها القمعية أسبوعاً واحداً فقط، ولتسمح للناس بأن يعبروا خلال أسبوع واحد كما يريدون).

(ألا ترون إلى احتكار هؤلاء السلطة احتكاراً عشائرياً يضفون عليه طابع الحزب زوراً وبهتاناً؟ وسدّ هؤلاء أبواب التقدم أمام كل جماهير الشعب سوى أولئك الذين رضوا لأنفسهم الذل والخضوع وباعوا كرامتهم وتحولوا إلى عبيد أذلاء. إن هؤلاء المتسلطين قد امتهنوا حتى كرامة حزب البعث العربي الاشتراكي حيث عملوا من أجل تحويله من حزب عقائدي إلى عصابة تفرض الانضمام إليها والانتساب إليها بالقوة والإكراه. وإلا فأي حزب حقيقي يحترم نفسه في العالم يطالب الانتساب إليه بالقوة؟ إنهم أحسوا بالخوف حتى من الحزب نفسه الذي يدّعون تمثيله، إنهم أحسوا بالخوف منه إذا بقي حزباً حقيقياً له قواعده التي تبنيها؛ ولهذا أرادوا أن يداهموا قواعده بتحويله إلى تجمع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب ليفقد أي مضمون حقيقي له).

(وأطالب بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلىحزب البعث على كل المستويات)، حيث وضع الشهيد الصدر في هذه النصوص واقع حزب البعث وسلطة صدام، التي ابتدأت بتصفية الكوادر البعثية غير الموالية لصدام ثم تصفية المعارضة العراقية بكل أصنافها من دون رادع أو خوف أو رجوع إلى أي قانون أو حق.

المادة(29) من الإعلان العالمي حول تمتع الجماهير بالحقوق والحريات ضمن ضوابط أخلاقية صحيحة.

يضيف السيد الصدر: (تململ الجماهير.. بعد أن قيدوها بسلاسل من الحديد ومن الرعب.. ولكن الجماهير دائماً هي أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة، وقد تصبر ولكنها لا تستسلم. أطالب بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقية حقه في توفير شؤون البلاد، وذلك عن طريق إجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس حر يمثل الأمة تمثيلاً صادقاً).

يؤمن الشهيد الصدر بأن الشعب يجب أن يمارس دوره في انتخابات حرة نزيهة ينتخب فيها حكومته التي يؤمن بها ويساندها.. ويؤكد هنا أن الطاغوت مهما مارس من قمع وظلم فإنه لا يستطيع البقاء في السلطة، بينما تبقى الأنظمة التي تمثل الشعب في مواقعها من دون خوف من أحد.. إن الاضطهاد هي وسيلة الديكتاتورية والأنظمة الجائرة، الأنظمة التي جاءت لتحكم البلاد بقرار أجنبي، جاءت لكي تجعل الشعب وإمكاناته تخدم مآرب الاستكبار الذي يريد الحروب بين المسلمين أنفسهم من أجل إشغالهم في معارك وهمية تؤخرهم عن الركب الحضاري المتطور.. وبالتالي لكي يبرر الاستكبار بقاءه في المنطقة يحتاج إلى أجواء متوترة وحروب دائمة.. حتى ترجع الأطراف المتحاربة له في حل مشاكلها والحفاظ على أمنها.. ورهن قدرات الشعب والأمة بيده وبيد مخططاته التي تصبّ في نهاية المطاف لصالح الكيان الصهيوني وامتداداته بالمنطقة.

ثم إن الاستكبار يريد بسط يده في بيعه الأسلحة، ومع وجود أجواء سلام وأمن بين دول المنطقة فهو لا يستطيع تسويق الأسلحة التي أصبحت قديمة مع ما يصنع من أسلحة متطورة وحديثة.

ثم إن الشركات الكبرى لا يمكن أن تجد طريق بيع منتجاتها في الدول مستخدمة ظروف المنافسة الحرة وأجواء الحرية والسلام والأمن إلا من خلال تدخّل الدول الكبرى لصالحها.

وبما أن المنطقة تحتفظ بـ 60% من المخزون النفطي العالمي فإن للاستكبار الأطماع الكبرى فيها.. فمع أجواء السلام تحدد دول المنطقة أسعار النفط ومنتجاته بما يخدم مصلحها، أما في أجواء الحروب والأزمات الاقتصادية التي تفرض عليها يصادر منها هذا الحق.
ولهذا ولغيره من العوامل.. فقد قيدت الجماهير بسلاسل من حديد.. فهي ممنوعة من الحرية والتعبير عن رأيها، وممنوعة من ممارسة دورها في الانتخاب والمحاسبة.. وممنوعة من اختيار طبيعة نظامها، وممنوعة من صياغة علاقاتها مع دول العالم بما يخدم مصالحها الحقيقية.

الخلاصة

عني الإمام الشهيد الصدر بعدد من مفاهيم ومصطلحات حقوق الإنسان.. فقد اهتم في دراسة الحرية الفردية وحرية المجتمع، وبيّن رأي المدرسة الرأسمالية في الحرية وكذلك رأي المدرسة الاشتراكية الماركسية.. وأظهر أن الحرية الطبيعية هي الحرية التي يتمتع بها جميع البشر، وأن الحرية الاجتماعية هي التي تتأثر بالمدارس الفكرية المختلفة.. وبيّن أن الإسلام يهتم بالحرية الاجتماعية الجوهرية والحرية الاجتماعية الشكلية سوية، وليس على حساب أحدهما على الأخرى كما في الرأسمالية والاشتراكية الماركسية.

وفي سرده لاهتمام الإسلام بالضمان الاجتماعي ۔ الذي عبر عنه بحق الجماعة في موارد الدولة العاملة والتكافل الاجتماعي العام ۔ بيّن أن الإسلام فرض على الدولة عدة قواعد، تشيع الغنى في المجتمع.. وبعد ظهور الدين الإسلامي بألف عام بدأت بوادر الاهتمام بالفقراء في أوروبا.. ثم بعد الثورة الثناعية في فرنسا في القرن التاسع عشر توسعت فكرة الضمان الاجتماعي لتشمل الولايات المتحدة الأميركية وعموم أوروبا.

وازداد الاهتمام الأوروبي والأميركي بالضمان الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية.

في حين شهدت الدول الإسلامية تراجعاً في مثل هذا الاهتمام؛ وذلك بسبب عدم اهتمام أغلب قادة الدول الإسلامية في تطبيق الشريعة الإسلامية في بلدانهم. وبالمقابل استعاروا الصورة المشوهة أو الناقصة للنظام الأوروبي، حيث أنتج ذلك الأزمات الاقتصادية والاختناقات في جميع الصعد المتعلقة بها.

وطالب الشهيد الصدر المسلمين تطبيقَ أحكام الإسلام في الحكم وتنفيذ قواعد المذهب الاقتصادي الإسلامي، وفي إعطاء الحريات للجماهير لاختيار الأشخاص والأنظمة التي تخدم مصالحهم الإسلامية.

وعلى صعيد العراق فقد حدد الشهيد معالم حكومة حزب البعث الصدامي، ووصفها بأنها تمثل طبيعة الأنظمة (الفرعونية) و(الطاغوتية) وأنظمة القمع والتعذيب والإرهاب والإكراه، والأنظمة التي تفرض إرادتها مستخدمة القوة والنار والإكراه. وطالب الشعب العراقي بالكفاح بكل ما أوتي من قوة، للتخلص منها، بعد أن خنقت أنفاسه، ومنعت حريته، وفرضت عليه القوانين الجائرة والأجهزة التعسفية.

وطالب الشهيد الصدر إعطاءَ الشعب العراقي كامل حريته في الانتخاب الحر والنزيه، ليختار بنفسه ومن دون وصاية أو إرهاب أو تدخل أجنبي شكلَ الحكم الذي يحكمه وحكومته.. وبهذا فقد حدد السيد الشهيد الصدر المشاكل التي تعاني منها الشعوب، وطالب إعطائها حقوقها وحرياتها؛ لكي تواكب التقدم الحضاري الإنساني في كل صعده، وتساهم في بناء الإنسانية الرائدة إلى الخير والرفاه والمحبة للسلام والأمن في كل مكان.

[1]. العراق، الواقع وآفاق المستقبل، الدكتور وليد الحلي، دار الفرات، بيروت ۔ لبنان 1992م؛ حقوق الإنسان في العراق 1968 ۔ 1988م، الدكتور وليد الحلي، Media Reach Ltd.، لندن 1988م؛ الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، محمد الحسيني، دراسة في سيرته ومنهجه، دار الفرات، بيروت ۔ لبنان 1989م؛ محمد باقر الصدر، دارسات في حياته وفكره، نخبة من الباحثين، دار الإسلام، لندن، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت ۔ لبنان 1996م؛ المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر (15 جزء)، دار التعارف، بيروت ۔ لبنان، الطبعة العشرون 1987م؛ الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمد رضا النعماني، المطبعة العلمية، قم 1996م.

[2]. حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الثانية 1997م.

[3]. اقتصادنا، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ۔ لبنان 1987م.

[4]. م. ن، ص 659 ۔ 679.

[5]. الوسائل، الحر العاملي، الجزء 11، ص 597.

[6]. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، نهج البلاغة، تحقيق السيد جعفر الحسيني، دار الثقلين، قم 1419ق ۔ 1999م، ص 464 ۔ 465.

[7]. الحشر: 7

[8]. اقتصادنا، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ۔ لبنان 1987م، هامش 666.

[9]. م. ن، ص 666.

[10]. أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج 1، ص 540.

[11]. The New Encyclopedia Britannica, Vol. 27, 15th Edition, Encyclopedia Britannica, 1993, London, P. 379.

[12]. Reform of Social Security, Background Papers, Vol. 3 Her Majesty`s Stationary Office: London, June, 1985, P. 59.

[13]. Collier`s Encyclopedia, Vo. 21, Collier L.P., 1995, P141.

[14]. Ref. 17, P. 64.

[15]. Ref. 16, P. 389.

[16]. Ref. 16, P. 378.

[17]. Ref. 17, P. 101.

[18]. Whitaker`s Almanack: 1999, The Stationary Office: London, 1999, P.604 – 605.

[19]. اقتصادنا، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ۔ لبنان 1987م، ص 255 ۔ 276.

[20]. م. ن، ص 272.

[21]. م. ن، ص 273.

[22]. م. ن، ص 274.

[23]. م. ن، ص 275.

[24]. النداءات الثلاثة للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 760 ۔ 765، محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، دار الإسلام، لندن، طباعة مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت ۔ لبنان 1996م.

[25]. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948م.