بيان جبر
امتاز الإمام الصدر _ دون سائر المرجعيات التي انطلقت في عصره _ بمجموعة من المزايا والمواصفات أهّلته فيما بعد للقيام بدور اجتماعي وسياسي وعقائدي وحضاري كبير رفع الأمة في العراق إلى مستوى المسؤولية التاريخية وحمل أهداف الإسلام وتحقيق مقولة (الأمة الوسط) وهي تتصدى لأعتى ديكتاتورية سلطوية في التاريخ، وتمهّد عبر قراءتها لسياق الحركة الاجتماعية في القرآن الكريم تأسيس مشروع قيادي يؤسس فيما بعد لوسطية الأمة ووسطية حضارتها في عالم اليوم.
وإذا كانت الشخصية الصدرية امتازت في الجانب المعرفي بحسن العبقرية والنبوغ وسعة الأفق والقدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها كما الإمكانية الإجتهادية، فقد امتازت بنفس الوقت وبموازاة ذلك كله بالسلوك السياسي العبقري، الذي استطاع بقدرته الشخصية وما كابده من معاناة وقهر ومظاهر العنت والصلف الاجتماعي والعلمي التقليدي من تأسيس مجال للحركية الإسلامية.
وما زالت وستبقى النجف ومنتدياتها الفكرية والمعرفية ومرجعياتها الدينية تقف بكل إجلال واحترام لها؛ لأنها أصبحت جزءً منها بل إن النجف احتلّت مكانتها العقائدية والسياسية الفريدة في الصراع مع الطاغوت بفضل العبقرية النظرية والرمز وحركيته التي أدخلته _ رغم المعاناة والمكابدة _ في (نادي المرجعيات الثورية) القادرة على صناعة الفعل التاريخي.
أسهمت حركية الصدر رضوان الله علیه لا في تحريك الجوانب الفاعلة القريبة لذاته الإسلامية سواء في الحوزة والشارع الاجتماعي النجفي، بل في تحريك وتفعيل النشاط الاجتماعي والسياسي والعقائدي في الشارع العراقي العام، وبقدر ما اشتغل الإمام الصدر على ذاته وربّاها على الفضائل الثورية والاتصال بالأمة وتنشيط التواصل مع الشارع والأسرة والبيت والجامعة والمؤسسة والدائرة والمسجد، واستطاع أن يقوم في استقطاب الجمهور الاجتماعي والسياسي والنخبة المثقفة بقدر ما تحوّل الصدر إلى مشروع كبير لثنائية مركزية في هيكلية الإسلام السياسي الحركي في العراق وهي ثنائية الرمز _ الفكرة؛ إذ أن الشعب العراقي الذي كان يرقب الصدر في الحوزة ومناهجها والمرجعية وخطوط اتجاهاتها التقليدية والثورية وفي إسهاماته في المعرفة والثقافة والتنوير والتصدي للمدارس الفلسفية والعقائدية والفكرية المادية، هذا الشعب أيقن عبر تماسه به وقراءته لمشهده الثقافي وحركيته السياسية أن الصدر قيادة عبر رمزها وفكرتها وتطور أساليب العمل فيها، وتمكّن من إنجاز ما يختلج في ضميرها الداخلي من طموحات في الحياة وأهداف في السيادة الكونية للإسلام.
إن حركية الصدر أفادت من موقعها في المكان _ النجف الأشرف _ ومن ارتكاز المعرفة ويقين الصدق عبر تواترها العقلي والنقلي على يد فقهاء أفذاذ عبر التاريخ، ومن خلال رؤية تاريخية موضوعية تجسّدت في التراكم العقائدي والعلمي والسلوكي والعرفاني والقرآني، حوّلت الشخصية إلى مظهر بطولي يدافع عن كل هذه القيم ويعبّر عنها في كتاباته واعتقاله ومناهضته للسلطة، وفي تعبده وقراءاته العرفانية وفي منظومة مفاهيم الإسلام، التي أيقن أنه المدافع البطل عنها في غمرة الخوف الذي احتوى الآخرين وزجّهم في متاهاته غير الآمنة.
لهذا فهو مرجع تجاوزت حركته الرسالية كل المزايا التقليدية التي قدّمتها بعض المدارس الحوزوية للفكر والمقلدين، ودعت الأمة للاقتداء بها وهي لا تمتّ إلى المرجعيات السياسية الفاعلة، فهو المرجع الذي يحاكي الأمة تماماً كما يحاكي نفسه، ويكاشفها في كل العناوين المتعلقة بها وبالثورة والتنوير والعبادة والتقليد والنهضة مثلما يكاشف ذاته أنه آمن منذ اليوم الأول الذي أودع الله تعالى فيه الحركية القيادية والقيادة الحركية بأن الخطوة الأولى للمكاشفة تبدأ من الأمة إلى الذات، وبمقدار ما تكون صادقاً مع الأمة تكون صادقاً ونزيهاً مع الذات.
الشعب العراقي الذي كان يراقب سياق الصدر الاجتماعي والفكري والسياسي والقيادي تجاوز في علاقته به حدود علاقة الأمة مع الفقيه عميقاً في الذوبان الشعبي بأطروحته في السياسة ومنهجه في الحكم وتطلعاته في الحوزة العلمية وأهدافه في بلورة البديل الاجتماعي الصالح، هذا الذوبان كان له الأثر الكبير في تحريك الشارع باتجاه الأمل والمستقبل والمصير.
إن حركية الإمام الصدر لم تكن حالة قيمية مجسدة بفقيه، بل كانت منظومة قيم متحركة تستلهم النص المقدس قاعدة عمل إسلامي لبناء قبول جماهيري يدعو إلى تقرير المصير بإنشاء الكيان الإسلامي.
هنا تتحول حركية الصدر إلى مستقبل ومصير مشرق للعدالة والمساواة وإيمان بأحقّية الأمة في الريادة والحرية والتطبيق النظيف لمبادئ الشريعة المقدسة، وهي حركية نبوية متجددة ثورية تطرح نفسها بعقلانية مشروع النبوة وعبر مراحل من التطور الإنساني الذي نقله الإمام الصدر في ثلاث خطوط، كما جاء في محاضرة له ألقاها في مجموعة من طلاب العلوم الدينية[1] بعنوان (التجديد والتغيير في النبوة) 1388ق /1978م.
إن الشهيد الصدر وفي كل المشاريع الجهادية في المعرفة والاقتصاد والمرجعية الرشيدة الصالحة والصدام مع السلطة، كرّس مفهوم الثنائية الحضارية الموسومة بـ (الرمز _ الفكرة) فهو الرمز القيادي الحريص على شعبه وأمته ومصالح الإسلام والشريعة الإسلامية وفكرة خوض الصراع مع الدكتاتورية، لإحقاق حقوق الشعب العراقي وعودة الحريات والدفاع عن مكتسبات الشريعة والحياة في العراق.
وقد تميّز هذا القائد الإسلامي الكبير بهذا كله عبر الاختبار الإلهي لذاته في الحوزة وفي العراق مركز الحالة الشيعية والإسلامية ومن خلال ارتكاز الشخصية على بعد حركي للعب الدور الإنساني في بلورة خطابه السياسي والقيادي، الأمر الذي أعاد لنا وفي غضون أقل من عشرين عاماً _ فترة اشتغاله في المعرفة والقيادة والتعبد _ نموذج المشروع القيادي الذي يستعد لخوض غمار التحدي الحضاري ضد فرعونية الفساد السياسي وقهر الدولة المفسدة والارتقاء بالأمة إلى الرشد العقلي، لكي تحسن اختيار بديلها السياسي والاجتماعي في الحياة.
حركية الرمز
مند بواكير تطلعاته الأولى مارس الإمام الصدر نشاطاً إسلامياً مختلفاً عن بقية أقرانه من الذين يعملون في النشاط الإسلامي العام، ومختلفاً عن السائد في المناهج وتقاليد الوضع الثقافي في الحوزة العلمية التقليدية، وتميز هذا الاختلاف عند الإمام عبر الطرح الإسلامي الفلسفي أو ما يعرف بتعيين الوظائف الإنسانية لنظرية المعرفة. وفي طرحه هذا امتلك الشهيد الصدر ناصية المبادئ الموضوعية لهذه النظرية، وخاطب بها المدارس الأخلاقية والعقائدية والفلسفية الأخرى تاركاً في ذهن الحياة الثقافية الإسلامية بخطوطها التقليدية والثورية أثراً واضحاً تجسّد في التفاف الشباب المتدين على كتاباته الإسلامية الفلسفية بدفع فاعل من مرجعية الإمام الحكيم رضوان الله علیه.
فقد اتسمت أعمال الشهيد الصدر بأنها تعبير عن محاولات منهجية جادّة لتأصيل نظرية الإسلام في كل حقل من حقول المعرفة الإسلامية التي اهتمّ بالكتابة فيها، ولو حاولنا أن نتعرف بدقة على ما تسعى مجموعة مؤلفاته لتأسيسه لاحظنا بوضوح أنها تنتظم في مشروع واحد هو محاولة تحديد إطار نظري في بحث ودراسة الفكر الإسلامي وتحديد منهج آخر في البحث بقوائم من متطلبات الحياة المعاصرة.
وبكلمة أخرى أن الهمّ الإنساني الذي يضطلع به مشروع الشهيد الصدر هو الحرص على اكتشاف نظريات الإسلام في التاريخ والاقتصاد والسياسة والمجتمع، فهو مكتشف كبير دأب على الأخذ بمنهج التفكير الإسلامي نحو آفاق جديدة لم يعهدها هذا التفكير من قبل، إلا بصورة محدودة في أعمال بعض المفكرين المسلمين ممن سبقوه، فيما كان هذا التفكير يتحرك في دائرة المنهج المتوارث في معاينة مشكلات الحياة والتعرف على مواقفه الشرعية منها؛ ولذلك ظل يكرّر الإجابات ذاتها على هذه المشكلات من دون أن يتمكن من اكتشاف فضاءات أخرى يغور من خلالها في وقائع الحياة فيستنطق القرآن الكريم والسنة الشريفة لكي يقول الإسلام كلمته المطلوبة إزاء تلك الوقائع[2].
في هذا الصدد أردت أن أؤكد على حقيقة (الرمزية) التي تجسدت في شخصية السيد الصدر في الفكر، ومحاكاته الموضوعية في طرق أكثر المسائل سخونة في الشريعة والقرآن والسنة ومحاكاة التاريخ، وأفصح عن هذا الاتجاه بأنه الاتجاه الذي يتناول حياة كل إمام ويدرس تاريخه على أساس النظرة الكلية، بدلاً من النظرة التجزيئية، أي ينظر إلى الأئمة ككل مترابط ويدرس هذا المشترك ومزاجه الأصيل، ويفهم الترابط في خطواته وبالتالي الدور الذي مارسه الأئمة( جميعاً في الحياة الإسلامية.
هذا المنحى أصَّل في ذات السيد الصدر خطوات السير في ذات المنهج المترابط وقراءة ملامح المدرسة الإمامية عبر الغور في فلسفة التاريخ والمجتمع وملامح الأنظمة السياسية التي عاصرها الأئمة( في حياتهم، ولعل التوفيق والنجاح الكبير الذي تحقّق على يد الشهيد الصدر في الدراسات القرآنية كان فترة ناضجة لمنهج التأصيل النظري، ذلك المنهج الذي وُلد في ذهنه أوائل العقد الثالث من عمره وقطف الشهيد الصدر ثمرته باكراً في (اقتصادنا) أي قبل حوالي عشرين عاماً من تاريخ صياغته للمعالم والأسس التفصيلية لهذا المنهج ومحاولة تطبيقه في ميزان الدراسات القرآنية[3].
الأمر الذي أرسى في ذهنه معالم نظرية تأصيلية تستدعي كل العناصر المتوافرة في المعرفة والقرآن والخبرة في تمثيل النص، وتقوم بإسقاط هذا التراكم من الاستنباط في حركة المشاريع والدراسات والهموم الاجتماعية والمعرفية والقرآنية وحتى السياسية التي كان يشتغل عليها رضوان الله علیه.
لقد تحرك السيد الصدر عملياً في أجواء فكرية راكدة ومنظومات أخلاقية امتازت بالوقوف عند حدود النص ولم تتجاوزه عميقاً في العلاقة بالواقع، وهذا الأمر دفع بالسيد الصدر إلى محاولة استدعاء لافتة لجميع الآليات الموضوعية التي تحفّز المؤسسة الحوزوية إلى تفعيل ثنائية النص _ الواقع.
ومن الطبيعي أن يقوم بمعالجة إسقاطات ابتعاد الاجتهاد بالنص عبر تأسيس مناهج في الفلسفة والأصول والاقتصاد والمجتمع مغايرة للمناهج التي كانت سائدة، وقد فعل ذلك بقوة ووضوح وإبداع، والدليل أن مساحات كبيرة من المؤسسات الحوزوية في إيران والعراق وسوريا ولبنان واتجاهات ثقافية مختلفة في العالم الإسلامي لا زالت تأخذ بمنحى الإمام الشهيد وتطبّق الكثير من إلماحاته وآرائه في مدارسه الفقهية والأصولية.
كما أن حشر السيد الصدر في جانب حركي وإهمال آرائه المتحركة في المناحي المعرفية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية الأخرى خطأ كبير يجب الالتفات إليه؛ لأن الشهيد الصدر كان حركياً في كل المناحي ولم يكن حركياً في جانب معين، مثلما من الخطأ فهم الحركية عبر تأسيسه للحزب الإسلامي أو مساهمته في جماعة العلماء في العراق.
وحين نقول: (خطأ) فلأن السيد الصدر أشاع بنهج الحركية هذا في جميع أبعاد واتجاهات وجوانب حياته الفكرية والفلسفية وطروحاتها الاجتماعية والقيادية، ولم يدع مجالاً (للتقليدي) في شخصيته، لكن حين نمرّ على السياسة في حياته وإسهاماته السياسية في تاريخ الحركة الإسلامية والمشروع الفكري والعقائدي في العراق فيجب أن نطلق على ذلك بقولنا: (النظرية السياسية في فكره) أو (الحزب الإسلامي في إستراتيجيته الحركية) وهكذا.
فعلى مستوى الأعمال الفكرية[4] فيمكن أن نذكر ما دوّنه الشهيد الصدر في الكرّاس الصغير الذي تناول فيه أطروحة المرجعية الموضوعية أو ما كتبه من شرح أسس الدولة الإسلامية، وكذلك ما دوّنه في بعض رسائله الخاصة حول دلالة آية الشورى على أساس الحكم الإسلامي، وكذلك ما دوّنه في بعض الكراسات التي كتبها في أواخر حياته تحت عنوان (الإسلام يقود الحياة) وكراس (دستور الجمهورية الإسلامية) وخلافة الإنسان وشهادة الأنبياء ورأيه بولاية الفقيه التي يستند فيها إلى التوقيع المعروف المروي عن الإمام الحجة.: (أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله).
العمل الحزبي ـ دور الإمام الحكيم في دعم السيد الصدر ورؤية خاصة
ينفرد آية الله السيد محمد باقر الحكيم برؤية تاريخية سياسية خاصة عن العمل الإسلامي ورؤية الشهيد الصدر له وبدايات انطلاقه في رحاب العمل الحزبي ويروي بدقة الإرهاصات الأولى التي تشكّلت على أساسها الذهنية الحركية القرآنية الصدرية وكيفية معالجتها لهموم العمل الإسلامي الاجتماعي والسياسي في ظل مرجعية الإمام الحكيم الذي كان يرعى السيد الصدر ويحتضن طموحاته الإسلامية وأهدافه الحضارية في أصعب مرحلة مرّ بها تاريخ العراق وشعبه.
وإذا كان آية الله السيد محمد باقر الحكيم يروي هذه الحوادث الواقعية بلغة الشاهد، فلأنه كان العضد المفدّى للشهيد الصدر، وأسهم بشكل مباشر في مشاركته قلق السيد الصدر الفكري والسياسي، بل كان كما دلّت الوقائع التاريخية وما كتبه في مؤلفه (النظرية السياسية عند السيد الصدر) أقرب إليه من بين أقرانه وأبناء جيله المعرفي والفقهي.
يقول آية الله الحكيم: وعلى مستوى الأعمال والنشاطات السياسية فيمكن أن نذكر منها مساهمته في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية في أواخر صيف 1378ق / 1958م، ثم خروجه من الحزب في صيف عام 1380ق / 1960م ومساهمته في تأسيس وإسناد جماعة العلماء، إسناده لمرجعية آية الله العظمى المغفور له السيد الحكيم، ومشاركته في مجمل الأعمال السياسية التي كان يتصدى لها، رعايته للحركة الإسلامية في العراق بشكل عام، تأسيسه شورى المرجعية، طرحه مسألة فصل العمل المرجعي وجهازه عن العمل التنظيمي الخاص _ الحزب _ عملياً، ثم فصل الحوزة العلمية بشكل عام عن العمل التنظيمي الخاص _ الحزب _ وتصريحاته وفتاواه بهذا الصدد التي تعبّر عن موقف سياسي عملي، ثم موقفه من الحركة الإسلامية بعد ذلك الذي تجسّد بتعيين ممثل له لدى بعض أطراف الحركة الإسلامية، ثم تسليم بعض الأطراف الأخرى لقيادته بعد انتصار الثورة الإسلامية، مبادرته إلى تأسيس حركات ومكاتب إسلامية في الخارج وتعيين ممثلين له كذلك، إضافة إلى اعتماد أسلوب تعيين الممثلين والعلماء في مختلف المناطق بعد تصديه للمرجعية الدينية وقبلها.
لقد كانت حياة الشهيد الصدر زاخرة بالأحداث والمواقف والأعمال والنشاطات السياسية والفكرية؛ لذلك يحتاج هذا البحث إلى دراسة مستفيضة أو تتبّع لجميع الأقوال والنشاطات والكتابات التي دوّنها الشهيد الصدر، ولكن من خلال معايشة قريبة لمسيرة أعماله ومواقفه التي استمرت أكثر من أربع وعشرين سنة، أي منذ 1376ق حتى سنة 1400ق التي استشهد فيها رضوان الله علیه، وكذلك من خلال مراجعة سريعة لمجمل أعماله يمكن أن نتعرف على تصور إجمالي واضح لنظريته السياسية.
ومن الواضح أن البحث في هذا الموضوع الشائك قد يثير بعض التحفظات أو الأسئلة أو ردود الفعل والانفعالات، لذلك نرى وانسجاماً مع الظروف التي تعيشها المرحلة السياسية الحاضرة للقضية الإسلامية العراقية أهمية تجنّب الإثارات ذات ردود الفعل العاطفية والنفسية، وبالقدر الذي لا يكون على حساب المصالح الأساسية والمبادئ ذات القيمة العملية في حياتنا.
وأداءً منّي لبعض الحق والواجب والمسؤولية التي أشعر بها تجاه سيدنا وأستاذنا الشهيد الصدر سوف أحاول إلى أبعد الحدود تجنّب المناطق الحساسة أو الأرقام ذات الطبيعة السلبية، ونكتفي بذكر شواهد التي تؤكد النظرية مع قطع النظر عن ملابساتها الخارجية أو علاقاتها ذات الطبيعة الشخصية.
في نظرية الشورى والحزب
فلقد بدأ الشهيد الصدر تصوره للنظرية السياسية انطلاقاً من عدة نقاط فقهية وعملية.
الأولى: أن الشهيد لم يتم لديه دليل واضح على صيغة الحكم الإسلامي بشكل خاص، حيث كتب في بداية تكوّن التصور السياسي رسالة ناقش فيها جميع الأدلة التي يذكرها الفقهاء على الصيغة الخاصة للحكم الإسلامي، سواء روايات ولاية الفقيه المطلقة أو دليل الحسبة الذي كان يراه دليلاً قاصراً عن الوفاء بجميع متطلبات الحكم الإسلامي، وأتذكر بهذا الصدد أنه بعد أن دوّن هذه الرسالة قمت بطرحها على بعض الفقهاء المعروفين في النجف الأشرف آية الله الشيخ حسين الحلّي حيث أعجب بها وإن لم يكن يتفق مع الشهيد الصدر في نتائجها.
الثانية: الاستفادة من آية الشورى <وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ> للدلالة على إمكان إقامة الحكم الإسلامي على قاعدة الشورى؛ لأن الحكم يمثّل أمراً مهماً من أمور المسلمين ولا يمكن تجاهله في مجتمعهم، والتجاهل يؤدي إلى تهديد أصل الدين إضافة إلى سيطرة الكفار وعقائدهم على المجتمع الإسلامي.
ولابد من الالتزام بحكم الأكثرية؛ لأن الإجماع في الأمور الاجتماعية أمر نادر. وهذا يعني أن إقامة الحكم على أساس الشورى يعني الرجوع إلى الأكثرية، وإلا تعطلت آية الشورى ولم يكن لها مدلول عملي.
الثالثة: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الإسلام والدين من أهم الواجبات الإسلامية، ولمّا لم تكن هناك طريقة محددة وإطار سياسي عام مشخص لهذه الدعوة، فيمكن انتهاج كل أسلوب مؤثر في هذا المجال يعطي للمسلمين القوة والقدرة على تحقيق هذا الهدف، أو القيام بهذا الواجب الإسلامي.
وحينئذ يمكن طرح أسلوب التنظيم الحزبي كأفضل طريقة توصّل إليها الإنسان في التحرك السياسي، حيث إنها الطريقة المتبعة والمعروفة الآن في المجتمع الإنساني _ الحضارة الغربية والشرقية _ والتي أثبتت جدواها وتأثيرها من خلال التجربة. كما أن هذه الطريقة هي التي يمكن أن تواجه الأسلوب الجذاب في المجتمع الإنساني الذي اعتمدته الأيديولوجيات والنظريات الحديثة الوضعية.
الرابعة: أن للفقهاء في النظرية الإسلامية وفي التاريخ الإسلامي دوراً متميزاً، وذلك في مجالي استنباط الأحكام الشرعية وفي القضاء الإسلامي، كما أن الأمة ارتبطت بالفقهاء عملياً وواقعياً بحيث أصبحت تقدّسهم وتنقاد لهم. وهذه حقيقة عقائدية وتاريخية لا يمكن تجاهلها في العمل السياسي، ولا يمكن التفكيك عملياً بين هذا الواقع العقائدي والتحرك السياسي، حتى لو انتهينا إلى التفكيك بين المرجعية في الفتوى والقيادة السياسية على المستوى النظري.
وعند التركيب بين هذه المفردات الأربع لوجدنا أنه يمكن تأسيس الحزب الإسلامي الذي يتبنى الدعوة إلى الإسلام وتنظيم جماعة المسلمين، ويدعو إلى إقامة الحكم الإسلامي على أساس الشورى والديمقراطية العددية ضمن الضوابط الإسلامية العامة. ويكون للفقهاء في هذا الحزب والحكم الإسلامي دور المتخصصين في القضايا الإسلامية النظرية التي يمكن الرجوع إليهم فيها، شأنهم في ذلك شأن ذوي الاختصاص الآخرين في مختلف القضايا العلمية.
وتتم إدارة البلاد من المتخصصين في الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والمالية تحت إشراف الفقهاء الذين لابد لهم من أن يمارسوا تخصصهم من أجل ضمان سلامة المسيرة الإسلامية في هذه المجالات، من دون أن يكون لهم دور خاص بما هم فقهاء في القيادة والإدارة الإسلامية على المستوى النظري.
ولكن من الناحية العملية والواقعية يمكن الاستفادة من الطاقات الهائلة التي يملكها المراجع والحوزة العملية، والإمكانات الكبيرة في التبليغ والتوعية، وعلاقة التقديس من الأمة لهؤلاء الفقهاء، ويتم ذلك عن طريق تحويل الواجهة القيادية في الأمة إلى العلماء، وعن طريق المزاوجة والتوفيق بين التنظيم الخاص والجماعة الواعية في الحوزة والمرجعية الرشيدة، بحيث يتحول الحزب إلى قيادة واقعية تنظّم حركة الأمة، والمرجعية إلى قيادة واجهية تمنح الفكر الإسلامي الأصيل، والقدسية للتحرك الإسلامي في أوساط الأمة، كما أنها توظّف أكبر الطاقات لخدمة هذا العمل الإسلامي.
وهذه النتائج التي توصّل إليها آية الله العظمى الشهيد الصدر تعني بطبيعة الحال مشروعية العمل الحزبي من اختيار الأمة له، بدلالة آية الشورى، بحيث تكون الأمة لها القيمومة والنظارة والاختبار بشأن العمل الحزبي من ناحية.
كما أنه يمكن لها أن تختار تعدد الأحزاب والتشكيلات السياسية أو اختيار أي منهج آخر للعمل تراه مناسباً لحركتها وتطلعاتها وأهدافها، حيث إن هذا التصور للنظرية يعني أن الشارع المقدس لم يعيّن أسلوب العمل السياسي ومنهجه، وإنما تركه للإنسان. ويفترض أن منهج العمل الحزبي هو أفضل أسلوب توصّل إليه الإنسان في العصر الحديث، فعندما يتوصل الإنسان في ضمن ظروف معينة أو من خلال دراسة التاريخ الإنساني إلى أسلوب ومنهج أفضل فلابد من أن يكون ذلك المنهج هو المختار.
ونرى أن هذه النقطة كانت ولا زالت تشكّل نقطة ضعف مهمة في هذه النظرية، حيث تفترض أن الإسلام الذي عالج مختلف القضايا في الكون والمجتمع قد ترك معالجة هذه النقطة في العمل السياسي، فلم يحدد المنهج العام، وإنما تركها نقطة فراغ يعالجها الإنسان حسب الظروف والتطورات، مع أن التاريخ الذي يعرضه القرآن الكريم عن سيرة الأنبياء وأعمالهم لا توجد فيه أي إشارة إلى مثل هذا المنهج.
مرجعية الإمام الحكيم وشرعية التحرك
وبعيداً عن الدراسات الأكاديمية عميقاً في المشاهدات الميدانية المحسوسة فقد شهدت الفترة الأخيرة التي ترعرعت فيها إسهامات السيد الصدر الفكرية وإفاداته من مرجعية الإمام الحكيم الذي كانت مرجعيته تمثّل المرجعية الأولى في العراق والعالم الإسلامي مدة عقدين من الزمن، وقد أفاد السيد الصدر إفادة كبيرة من هذه المرجعية عبر العمل في ظلها واعتمادها ركيزة أساسية في نظرية العمل وفي انتشار مؤلفاته وكتبه التي احتضنتها بعد صدورها مباشرة مكتبات الإمام الحكيم لا في النجف وسامراء وكربلاء وحسب بل في كافة المحافظات والمدن العراقية.
لقد كان السيد الصدر قريباً من هموم مرجعية الإمام الحكيم، قريباً من تطلعاتها وأهدافها وأحلامها، خصوصاً هموم الفراغ العقائدي والفكري الكبير الذي كانت تعيشه أوساط الشارع العراقي في نهاية الخمسينات وسيطرة الأفكار المادية وهيمنة قوى اليسار وطغيانها العقائدي في الساحة.
فلا غرو هنا أن يكون السيد الفقيد استوعب ما يعانية الإمام الحكيم والحوزة العلمية ومؤسسات الشريعة الإسلامية والشارع العراقي من فراغ وهمّ وأداء لمسؤولية إنقاذ الشارع والإسلام في بلورة خطاب إسلامي يقوم على أساس المطالبة بإقامة الشعائر وحرية ممارستها وفسح المجال واسعاً أمام تعبير أكثر رسوخاً وارتياحاً للحريات الاجتماعية والسياسية والثقافية في العراق، وصناعة حالة إسلامية يعود فيها شعب العراق إلى تأكيد مركزيته الحضارية في الصراع مع قوى الشر والعدوان الدولي.
وقد أحدثت مؤلفات السيد الصدر وإسهاماته العقائدية في ظل الرعاية الأبوية للإمام الحكيم رضوان الله علیه في خلق حركة عقائدية وفكرية كبيرة تلخصت في انخراط الشباب المتدين في حلقات الدروس العقائدية التي كان يلقيها السيد الصدر في الكاظمية كل أسبوع، وخلق حالة تأصيلية ارتكازية في المعاهد والجامعات والمنتديات الثقافية العراقية.
والأكبر من هذا أن القوى اليسارية التي كانت تسيطر على الشارع العراقي بدأت تخشى سيطرة أفكار الإسلام ومنطقه الجديد وخطابه الحضاري، الذي اتضح في مؤلفات السيد الصدر التي لاقت تقدير واستحسان وإعجاب وإقبال قطاعات واسعة من الشارع الثقافي والفكري في العراق. هنا لابد أن نثير الإشكالية التالية:
لماذا اختلف الشهيد الصدر عن غيره من الكثير من الفقهاء وخريجي مدارس العلوم الإسلامية وامتاز عنهم بخصائص فردية ذات قيمة معيارية ضخمة؟
إن ذلك عائد بالأساس إلى مواصفات شخصية في التفكير والعمل والدور بالمستوى الذي مكّنه من تشييد منهجية ساهمت في إعطاء التجديد بعداً تاريخياً في مفصل مهم وخطير من مفاصل حركة الفكر الإسلامي، لقد كان من أبرز خصائص هذه المنهجية:
1_ الأصالة والإحاطة والشمول بالمستوى الذي جعله فقيهاً متميزاً صاحب رؤية تجديدية في الاستنباط ووعي النص من خلال حركته في الواقع الموضوعي والخارجي، فالشهيد الصدر مع تواضعه المعرفي، إلا أنه لم تأسره آراء الكبار ولم يقع فريسة الجمود، بل تعامل من موقع الباحث عن الحقيقة بلا حدود ولا موانع شخصية أو معرفية، ساعده في ذلك عقلٌ متوثب وذكاء خارق وشجاعة نادرة، فأعطى للاجتهاد معناه الواقعي من دون خروج على شروطه وحيثياته.
2_ الدراية العميقة بإشكاليات الواقع الاجتماعي ومعايشته لها من موقع الفكر الواعي لمسؤوليته ودوره وحسه النقدي وحرصه على تدعيم الأنا الحضارية في صراعها مع الآخر وتحدياته المتزايدة.
3_ قراءته الواعية للمشكلة الإنسانية المعاصرة، وانفتاحه على تيارات الفكر الإنساني الحديث، واطلاعه على ما وصل إليه شوط المعرفة الإنسانية وتقنياتها ومناهجها الحديثة، وتمييزه بين الجوانب العقيدية والمذهبية والجوانب الفنية والتقنية، ودراسة كل ذلك من موقع تأثيرها على الفكر الإسلامي ووعي ثقافة المسلمين.
4_ النظرة المستقبلية عبر المبادرة إلى بلورة المشروع الفكري الذي يستهدف معالجة مشكلة العالم الإسلامي الخاصة، ومشكلة الحضارة الإنسانية الراهنة من زاوية علاقة العلم بالإيمان الديني، انطلاقاً من ضرورة ممارسة الفكر التوحيدي لدوره ومهمته على قاعدة خاتمية الإسلام وصلاحيته غير المحدودة بالزمان والمكان.
5_ عدم الاكتفاء بالتنظير وممارسة التغيير والعمل الفكري والسياسي ميدانياً مع حذر دائم من جمود الأساليب ووعي حاضر للّحظة التاريخية التي يعيشها المجتمع.
ومن هنا يجدر بنا أن نقول بأن الفقيه الصدر وقف على ما يسمّى بمشكلة الأصالة والمعاصرة كما وقف عليها من بعده الكثير من المفكرين والمثقفين، لكنه لم يتعرف إلى المصطلحات ودلالاتها بقدر ما اهتمّ بالمضمون وهو يحاول معالجة المشكلة.[5]
وعبر هذا المضمون في المعرفة وفي الإلحاح على إيجاد البديل الكوني كانت لمشروع السيد الصدر في العراق تأثيرات كبيرة أفرزت أعمالاً ونشاطات وأولويات واهتمامات توزّعت ما بين حركة شارعية اتسمت بالتبليغ وأداء مسؤوليات الإرشاد الديني وبين تأسيس عمل إسلامي ينشد السيادة الكونية للإسلام والإبقاء على وهج الحالة الإسلامية متوهجاً في تضاعيف المجتمع العراقي والإسلامي عبر ضخّ المزيد من الأفكار المنبّهة والمحذّرة من أخطار اليسار المتطرف واليمين الجامد المتحجر، إضافة إلى السبات اللامبرر الذي كان يلفّ مساحات غير قليلة في المجتمع العراقي؛ ولذا كنت شاهداً على حجم النشاط الإسلامي والثقافي والسياسي والتبليغي للسيد الصدر في الستينات، وأستطيع القول: إن هذا النشاط كان له جانبان واتجاهان رئيسيان:
1 _ المرأة: فالمعروف أن دوراً كبيراً رسمه الإسلام للمرأة في المشروع الإسلامي وفي تضاعيف العمل لأجل استعادة حضارة الإسلام وبديله الاجتماعي، وبما أن السيد الصدر كان يطمح إلى نهوض إسلامي بحجم أهداف سيادة الإسلام، فقد وضع في أولويات مشروعه الاجتماعي _ السياسي _ التبليغي قضية تثقيف المرأة بالإسلام وإعداد كتلة نسوية متدينة مجاهدة متطلعة تحمل أفكار الإسلام النهضوية، ويعُدّ منها كتلةً قيادية تنهض بأعباء المشروع التغييري الإسلامي العام، وقد عهد السيد الصدر هذا المشروع لأخته المفكرة والمثقفة الشهيدة بنت الهدى، فقد كانت تلقي محاضرات إسلامية في مدينة الكاظمية والكرادة بمجموعة من النساء العراقيات وفي عدة بيوت، وهناك اليوم مجموعة من النساء العراقيات اللواتي كنّ يحضرن محاضرات الشهيدة بنت الهدى نجدهن في مؤسسات ثورية وتربوية وإيمانية في المهجر، وإذا كان الأمر يدل عن شيء فإنه يدل على عمق الأثر الإيماني والتربوي الذي تركته هذه العلوية الطاهرة في نفوسهن وفي عموم الحركة الإسلامية النسوية في العراق، هذا الأثر الذي سيبقى خالداً ويؤشر بقوة على خارطة الجهد الذي بذلته هذه المرأة المجاهدة للوصول إلى الأهداف العليا.
2 ـ الجهد الذي كان يبذله الشهيد الصدر نفسه وهو جهد تربوي _ عقائدي _ أخلاقي، عبر المحاضرات التي كان يلقيها في الكاظمية حيث كان يحضر إليها قادماً من النجف الأشرف برفقة أخيه آية الله المرحوم السيد إسماعيل الصدر.
المرجعية الدينية ـ البعد الحركي الأبرز
منذ أن ثنيت الوسادة لمرجعية قيادية تنوي استقطاب جمهور نخبوي، يعبأ الأمة ويدفعها باتجاه تفعيل العمل الإسلامي وصناعة البديل الإسلامي _ الوطني، والمرجع الصدر يعمل في إطار استقطاب الجمهور ويحاول عبر تحرّكه الاجتماعي وخطابه الفكري والثقافي العام تعبئة الأمة في مواجهة الطاغوت، ويطالبها بإزالته عن صدرها لكي ترتقي بنفسها إلى مصاف الدور المرسوم لها في إستراتيجية مشروعه التغييري.
لقد دخل للأمة وحاكاها ونمّى فيها دورها وأثرها ومكانتها في الجغرافية السياسية والحضارية، ودفعها إلى إكمال شوط (عراقيتها) و(إسلاميتها) لنيل الأهداف العليا، وما أبلغه حين يخاطب الأمة وهو يتقدمها إلى الشهادة، وهي بعده الحركي الأخير، و(إني صممت على الشهادة) الأمر الذي أكّد من دون شك قيادته المرجعية الأولى، هذه القيادة التي تفانى الجمهور العراقي في سبيل خلودها وتحوّلها إلى قيادة أبدية عبر الجموع المليونية التي تهافتت على منزله عبر ما سمّي في حينه بـ(وفود البيعة) إن نزول السيد الصدر إلى الأمة له أثر سايكلوجي حقيقي قادر على إعادة إحياء منظومة الأفكار الإسلامية وينضج في نفسها مشروع الانقلاب الثوري.
ومن معالم مرجعية السيد الصدر اهتمامه بالكادر العلمي والثقافي أو من يمتلك مؤهلات التصدي السياسي، وهذه الحركة الثورية التي امتلكها الصدر خلقت مراجع وشخصيات فكرية وفقهية نراها اليوم تتسنّم مواقعها في المجالات السياسية والقضائية والفكرية والمرجعية.
السيد الصدر والثورة الإسلامية في إيران
العلاقة بين الإمام الخميني والشهيد الصدر علاقة تاريخية قديمة تمتدّ لأيام انطلاقة ثورة 15 خرداد 1963 في إيران، والدويّ الذي أحدثته في المحيط العربي والإسلامي والعراقي بالتحديد وصعود شخصية الإمام الخميني كقائد ومنظّر ومرشد لها، ومنذ مجيء الإمام إلى النجف الأشرف قادماً من تركيا منفاه الأول والعلاقة تتوثق بين الرجلين.
يقول آية الله السيد محمد باقر الحكيم في هذا الصدد[6] _ نقلاً عن دراسة كتبها الأستاذ محمد حسين جمشيدي بعنوان (التأثير المتبادل بين الحركة الإسلامية في العراق والثورة الإسلامية في إيران) _: كان الشهيد الصدر من المؤيدين لتحرّك الإمام باتجاه الثورة الإسلامية في إيران، وكان على الدوام مؤيداً ومواكباً له، ومن الناحية الفقهية لم يكن في وضع يوجب عليه طاعة الإمام والتحرك إلى جانبه، لكن نظرته الإسلامية والثورية والعملية كانت توجب عليه هذا الدعم والإسناد، فكان يوصي دوماً طلابه الذين يعرفون الفارسية بالحضور في دروس ولاية الفقيه للإمام والاتصال به أكثر.
ويقول السيد حسين الصدر مؤيداً ذلك: (أنا شخصياً أمرت من قبل السيد الصدر الحضور في دروس ولاية الفقيه للإمام الخميني في النجف، وهذا دليل على رغبة السيد الصدر بمشاركة طلابه في الدروس التي كان الإمام الخميني يلقيها).
وقد توثقت العلاقة بين الإمام والسيد الصدر بعد ذلك خلال مشروع النظام الهمجي بإخراج علماء النجف في العراق، فوقف السيد الصدر موقفاً حاسماً من هذا الإجراء مثلما وقف الإمام الموقف ذاته.
بعد إخراج الإمام الخميني من العراق كان السيد الصدر أول من أعلن سخطه على موقف النظام، وذلك خلال اتصال هاتفي وبرقية بعث بها، وفي تلك الفترة أصدر فتواه التاريخية حول شهداء الثورة الإسلامية في إيران: (الذين يثورون في إيران دفاعاً عن الإسلام والمسلمين ويقتلون هم شهداء وسيحشرهم الله مع الإمام الحسين% في الجنة).
وقد أصدر السيد الصدر هذه الفتوى في الوقت الذي كان النظام منشغلاً في تشويه نموذج الثورة الإسلامية عند الشعب العراقي، ولن ننسى مقولة السيد الصدر التي أطلقها لكل أبناء الحركة الإسلامية في إيران، والتي شدّد فيها على قيادة الإمام وضرورة طاعتها؛ لأنها تمثّل قيادة الإسلام في مواجهة تآمر القوى الكبرى على الإسلام والعالم الإسلامي والشعوب المحرومة، حيث قال: (ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام)، ولعل شهادته المباركة على يد النظام الدكتاتوري في العراق أوضح دليل على مدى التفاني والطاعة التي كان يرى الشهيد الصدر أنه ملزم بها أمام الإمام الخميني وقيادته ومشروعه الإسلامي. وسيبقى السيد الصدر خصوصاً بعد عشرين عاماً على شهادته الناقوس المقدس الذي يقرع بقوة في مشروع الفكر كما في مشروع البديل الإسلامي الذي لابد وأن يأخذ موقعه في حركة الشعب العراقي وعموم المنطقة والعالم.
[1]. مجلة دراسات وأبحاث، جماعة العلماء المجاهدين في العراق.
[2]. قضايا إسلامية، العدد الثالث 1996، عبد الجبار الرفاعي، منهج التأصيل النظري.
[3]. م. ن.
[4]. النظرية الإسلامية عند الشهيد الصدر، محمد باقر الحكيم.
[5]. دراسات إسلامية، الفقيه المثقف.
[6]. دراسات إسلامية، دور فكر الشهيد الصدر في الثورة الإسلامية في إيران، محمد حسين جمشيدي.