من المواجهة إلى الشهادة – قراءة في البيانات السياسية الثلاثة للإمام الشهيد السيد محمدباقر الصدر

السيد حسين الصدر

لماذا اخترنا البيانات الثلاثة دون سواها؟

بمقدورنا أن نوجز القول في الدوافع والمبررات التي حملتنا على استنطاق هذه البيانات السياسية الثلاثة للإمام الشهيد الصدر۔ طيّب الله ثراه ۔ بالنقاط التالية:

١) رغم مرور أكثر من عقدين من الزمن على هذه البيانات إلا أنها بقيت حتى الآن من أهم الوثائق السياسية تعبيراً عن جوهر الدكتاتورية الحاكمة في العراق، كما أنها صوَّرت أروع تصوير واقع المعاناة التي يعيشها العراقيون دينياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً.

٢) تمثل هذه البيانات صفحة مشرقة من تاريخ المرجعية الصالحة الرشيدة وجهادها الدائب من أجل رفعة الإسلام وكرامة الإنسان.

٣) يمكن اعتبار هذه البيانات موقفاً محدداً للحركة الإسلامية في العراق إزاء كل تحديات السلطة الحاكمة بالحديد والنار وحزبها العفلقي المشؤوم.

4) تشتمل هذه البيانات على أهم الركائز المبدأية والثوابت التي لا محيص عن الالتزام بها في حاضر المنازلة الساخنة مع السلطة الصدامية ومستقبلها.

ومن هنا فهي مرآة صافية تعكس الفكر السياسي الإسلامي الأصيل من جهة، وتؤشر بوضوح إلى الأهداف الكبيرة والطموحات المتوخاة في الحاضر والمستقبل من جهة أخري.

5) وهي إلى جانب ذلك كله جوابٌ شافٍ عن سؤال مركزي مثير يطرح نفسه ويقول: هل ترك لنا الإمام الشهيد الصدر من خطة واضحة يمكن اعتبارها بعد استشهاده وغيابه عن الساحة، لاسيما وإن هذا الغياب المر، سيعرض المسيرة الصاعدة إلى ألوان من العوائق والمشكلات مما لا عهد لها به من قبل على كل المستويات والصعد.

6) ونريد بهذه القراءة أن نفتح الباب أمام قراءات أخرى تعكف على دراسة هذه البيانات من مختلف الزوايا، لتصبّ الحصيلة النهائية لصالح مشروع التغيير للواقع الفاسد القائم في العراق، مذكية عزائم الأحرار لمواصلة الأشواط الجهادية حتى بزوغ فجر الخلاص من ليل الدكتاتورية الحالك، وكابوسها الثقيل الجاثم على صدر العراق الحبيب.

٧) أن تفعيل عملية الاستنطاق لهذه البيانات الثلاثة له مردودات إيجابية كبري، في هذه المرحلة بالذات حيث ارتفع صوت نشاز يقول:

إن النظام استطاع أن يحدث ثغرات كبيرة في جدار الحصار، وأن يطبّع علاقاته مع بعض الدول عربياً، وإقليمياً وأوروبياً فيما لم تستطع المعارضة العراقية أن تُحدث التغيير المنشود.

ومن هنا بدأ التنظير المشبوه لما يسمى (بالمصالحة الوطنية)، عبر الحوار مع السلطة، انطلاقاً من المقولة المعروفة (السياسة فن الممكن).

ونحن على يقين من أن هذه الدعوات يقف وراءها النظام الصدامي نفسه، وتباركها القوى الشيطانية التي ساعدته في إجهاض انتفاضات شعبنا المجيدة والتي لم تنقطع منذ صفر عام 1397ق/1977م، مروراً بانتفاضة رجب الباسلة عام 1399ق/1979م، والانتفاضة الشعبانية الكبرى عام 1411ق/1991م، وانتهاءً بالانتفاضة الحرة في شباط 1999م في أعقاب اغتيال المرجع الديني المظلوم الشهيد آية الله السيد محمد الصدر رضوان الله عليه الذي انطلق من موروثه الصدري، وما استوعبه من روح أستاذه الإمام الشهيد الصدر الأول، فلبس الكفن ووظف صلاة الجمعة العتيدة، جاعلاً منها قلعة للمواجهة مع نظام القتلة الذين أعادوا الجاهلية الأولى من خلال عبادتهم للصنم الكبير ۔ صدام ۔ الذي لا يرضى إلا أن يكون الآمر الناهي في كل مناحي الحياة، يستعبد الناس ويتحكم بهم كيفما شاء دون وازع أو رادع.

البيانات السياسية الثلاثة

ملاحظات أولية

١) يظهر المنحى الأخلاقي في خطابات الإمام الشهيد الصدر واضح البصمات وآية ذلك أنه لم يعتبر تدفق الجماهير إليه (وفود البيعة) مسألة شخصية تعكس عظيم محله في القلوب، وإنما قفز بها إلى مستوى أرحب حينما اعتبرها مشاعر للتعبير عن الولاء للإسلام، باعتبار ما تمثله (المرجعية) من ثقل ديني وروحي كبيرين (انظر البيان الأول).

والمرجعية الصالحة الرشيدة هي الشهيد الرباني على الأمة في عصر الغيبة الكبرى (وفق النظرية الصدرية).

٢) التأكيد في ندائه الأول على قانون اجتماعي مفاده:

إن الأنظمة القمعية لابد أن تزول، (وإن القوة لو كانت علاجاً حاسماً دائماً لبقي الفراعنة والجبابرة) (انظر البيان الأول).

وفي هذا من الإدانة والتقريع ما فيه.

ثم إنه يقرع أجراس الإنذار للطاغي الجبار، ويذكره بأنه لابد أن يلتحق بقافلة الغابرين من الطغاة المستبدين.

٣) لم يكتف الإمام الشهيد الصدر بمجرد المطالبة بالسماح للشعب العراقي بممارسة الشعائر الإسلامية، وإنما خص الشعائر الحسينية بالذكر، باعتبار أنها تربط الشعب العراقي بالنهج الحسيني الرافض لكل ألوان الظلم، والذي يعلّم الناس فن الثورة على الواقع الفاسد، ويقودهم إلى الدفاع عن حرمات الرسالة والذب عن الإنسانية المعذبة (انظر البيان الأول).

4) وفي سياق الإشارة إلى (فترة الانتقال) كشَفَ الإمام الشهيد الصدر عن حقيقة الأوضاع الاستثنائية التي يعيشها العراق في ظل النظام الدكتاتوري الصدامي، فالدستور الدائم مفقود، والقوانين معطلة، وليس ثمة إلا الحاكم الأوحد، والواجهات الصورية المتمثلة (بالحزب) و(مجلس قيادة الثورة)، وهو ما عبر عنه قدس سره (بالحكم المطلق).

ولقد كان تساؤله عن المدة الزمنية لفترة الانتقال مثيراً للغاية، يستبطن كل ألوان التعرية السياسية للنظام الحاكم (انظر البيان الأول).

5) بدا الإمام الشهيد الصدر مُحيطاً بكل ما تمور به الساحة العراقية من هموم ومشكلات وهواجس.

وليس من امتهان لكرامة المواطن أكبر من أن ينساق قهراً للانتماء إلى عصابات لا تُحسن إلا فن الانتهاك للحرمات تسمي نفسها (حزباً)!!

ويتجلى البعد القيادي في خطاباته من خلال تركيزه على كرامة الإنسان، أياً كانت هُويته أو قوميته.

ولم تهدر كرامة الإنسان العراقي عبر تاريخ العراق الطويل، كما هدرت أيام الحكم الدكتاتوري الحالي وما (الاعتقال التعسفي) الكيفي البعيد عن القضاء، إلا نموذج بسيط لهذا الهدر الفظيع (انظر البيان الأول).

وجاءت الإشارة إلى دور القضاء تأكيداً على أن المطلوب توفير أجواء من النزاعة والعدالة في مرحلتي التحقيق والمحاكمة، مضافاً إلى أنها مطالبة ضمناً بدولة المؤسسات تعريضاً بالوضع الفعلي القائم على أنها سلطة مطلقة.

وفي لفتة قيادية بارعة تُعنى بالشعب كله، لا بشريحة معينة منه قال الإمام الشهيد الصدر:

(ألا ترون أنهم يمارسون أشد ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب؟) (انظر البيان الثالث).

فهو يدافع إذن عن كل فئات الشعب العراقي بعربه وكرده وتركمانه، بشيعته وسنته، بمسلميه ومسيحييه وأقلياته.

6) انطلق الإمام الشهيد الصدر من موقعه المرجعي القيادي فطالب السلطة (باسم العراقيين جميعاً وباسم القيم التي يمثلونها) بأن يشارك الشعب العراقي في صياغة القرارات السياسية عبر (مجلس أمة منتخب) يمثل الشعب تمثيلاً صادقاً (انظر البيان الأول)، لا كما اضطر النظام إلى إجرائه فيما بعد، من انتخابات مزيفة لما سمي زوراً (بالمجلس الوطني)، وبالاستفتاء الرئاسي.

وشخص الإمام الشهيد الصدر أن هذه الطلبات باهضة الثمن، وسوف تكلفه حياته الغالية، وبالفعل صدق توقعه، إلا أن المهم في تلك الطلبات أنها على حد قوله (ليست طلب فرد ليموت بموته، وإنما هي مشاعر أمة وإرادة أمة) (انظر البيان الأول).

وربما يتساءل البعض:

لماذا قدم الصدر العظيم هذه الطلبات إلى السلطة في الوقت الذي كان يرى فيه وجوب زوالها؟

والجواب:

ليس من الضروري أن يبدأ الإمام الصدر المواجهة مع السلطة من اليوم الأول بأعنف الأساليب.

ولعل إقامة الحجة عليها بتقديم تلك الطلبات يقطع دابر كثير من الإشكاليات التي قد تُثار عليه من قبل المهزومين نفسياً والمتخاذلين.

إلا أن هذا لا يعني على الإطلاق، احتماله استجابة السلطة لطلباته، وإلا لما ذَكر الثمن الغالي لتلك الطلبات، والذي لم يكن غير القتل، نظراً لعمق الهوية الإجرامية للسلطة.

٧) وضع الإمام الشهيد الصدر يده على الجرح حينما اعتبر النظام الصدامي متمرساً بالعمل لتحقيق هدفين مركزيين هما:

۔ إذلال الشعب.

۔ وربطه بالرموز المنحرفة بدلاً من ارتباطه بقادته الربانيين (انظر البيان الثاني).

وهو تلخيص رائع للمهمات التي أوكلت إلى العفالقة وصنمهم المنصوب ببغداد.

٨) سلط الإمام الشهيد الصدر الأضواء على العزلة الشعبية التي يعيشها الحكام في العراق، والعزلة الشعبية دليل الإفلاس.

وقال عنهم أنهم: (يزدادون يوماً بعد يوم حقداً على الشعب وتفنناً في امتهان كرامته والانفصال عنه والاعتصام في مقاصيرهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات) (انظر البيان الثالث).

ولم يكتف بذلك بل جردهم من كل المواصفات والمؤهلات المطلوبة في الحاكم عبر استحضار صورة تاريخية عن القيادة الحقيقية فقال:

(بينما كان علي وعمر يعيشان مع الناس، وللناس، وفي وسط الناس ومع آلامهم وآمالهم).

إن لصدام أحد عشر شبيهاً ۔ كما تقول آخر المتابعات ۔ وإذا دل ذلك على شيء، فإنما يدل على عظيم حرصه على الهروب من مواجهة الجماهير.

ولو كان يحظى بحب الشعب وتقديره لما توارى عنه بمثل هذه الأساليب الماكرة!!

قراءة في البيانات السياسية الثلاثة

كثيرون أولئك الذين تستعر الحسرات في نفوسهم، لأنهم لم ينعموا بلقاء الإمام الشهيد الصدر، ولم يستمعوا إليه وهو يوضح طروحاته السياسية في مرحلة المواجهة الساخنة مع النظام الحاكم في العراق.

إنهم عجزوا عن اقتناصها من كتبه وآثاره المتداولة.. .

وإذا كان هذا الشعور كاشفاً عن حجم التحرق لمعرفة (الاستراتيجية الصدرية) في خضم مرحلة الصراع الضاري مع النظام العفلقي الحاكم في العراق، فإننا سنحاول أن نقدم لهم شيئاً مما يبحثون عنه، من خلال استنطاق البيانات الثلاثة التي سجلها بصوته، لتذاع على الشعب العراقي، وعلى كل المعنيين بالشأن العراقي.. .

إن هذه البيانات انطوت على جوانب في غاية الخطورة والأهمية من منظور ديني واجتماعي ووطني، فضلاً عن مداليلها السياسية.

إنها تضعنا وجهاً لوجه أمام ما بينه الإمام الشهيد الصدر من آراء، لا ما بين الآخرون من آرائه.

والبون بين البيانين شاسع بعيد.

وليس من الصحيح أن تنأى هذه البيانات ۔ الوثائق عن أيدي الباحثين والمحللين، لأن في ذلك تضييعاً للكثير من النظرات والنظريات الصدرية التي لابد أن يستوعبها الباحثون عن شخصية هذا القائد الرباني الكبير، الذي امتزج دمه بفكره امتزاجاً فريداً خلّده في التاريخ، وحمله إلى العقول والقلوب معاً، فاقتحم أسوار الزمان والمكان كأروع ما يكون عليه الفاتحون المبدأيون.

ويمكن أن يتلخص معالم المشروع الصدري للتغيير بما يلي:

المَعلم الأول: إيمانه بالشعب العراقي والتعويل على دوره في عملية التغيير

إن أول المفردات في الاستراتيجية الصدرية الموقف المتميز من الشعب العراقي، والتعويل عليه في إنجاز عملية التغيير، من موقع الإيمان به وبروحه الكبيرة وتاريخه المجيد.

لقد خلع عليه سماتٍ ذات دلالات كبيرة، فالشعب العراقي عنده (حرٌّ أبيٌّ كريم).

ومقتضى الحرية: أن يتحرك هذا الشعب لتحطيم السلاسل والقيود والأغلال التي كبّله بها الفاشيون العفالقة.

كما أن مقتضى الإباء: أن ينهض متمرداً على سياسة الإذلال والاستلاب للحقوق والكرامات التي أمعن النظام الحاكم في جعلها الوتيرة الثابتة في تعامله مع الشعب.

ومقتضى الكرم: أن يسخر في ساحات النزال بالغالي والنفيس من أجل تحقيق أهدافه الكبري.

والتعويل على الشعب العراقي في إنجاز التغيير يشكل أخطر بنود (الاستراتيجية الصدرية) ذلك أن قوة العلاقة بين القيادة وقواعدها الشعبية تنعكس إيجابياتها ميدانياً وسياسياً على مجمل التحرك من جهة، وطريقة تعامل السلطة معها من جهة أخري، ناهيك عما يمثله حمل القيادة لآمال وآلام الشعب بصدق وحرارة، من زخم وعطاء ونتائج ومردودات.

وبدلاً من استيعاب هذه الحقيقة ۔ أي ضرورة التعويل على دور الشعب العراقي في عملية التغيير ۔ تخبطت أجنحة وهياكل من هواة السياسة ومحترفيها في القضية العراقية طيلة هذه السنوات العجاف، ذات اليمين وذات الشمال، في التعويل على العامل الدولي أو الإقليمي دون أن يصلوا إلى شيء مما يريدون!!

لقد آل الأمر ببعضهم إلى مباركة ضرب وطنهم بالصواريخ الأمريكية!!

وبمقدار ما كان ارتباط الإمام الشهيد الصدر رضوان الله عليه بالجماهير العراقية راسخاً قوياً عميقاً، كان ارتباط الجماهير به على الدرجة نفسها من القوة والرسوخ والعمق.

في بيانه السياسي الأول بدأ الامام الصدر قدس سره بمخاطبة الشعب العراقي ليعرب عما يعتمل في نفسه من حب عميق لهذا الشعب العريق.

أسمعه يقول:

أيها الشعب العراقي المسلم

إني أخاطبك أيها الشعب الحر الأبي الكريم، وأنا أشد الناس إيماناً بك، وبروحك الكبيرة، وبتاريخك المجيد…

وفي بيانه الثاني يؤكد هذا المنحى فيقول:

الجماهير دائماً هي أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة، وقد تصبر ولكنها لا تستسلم.

ويصف الشعب العراقي بأنه (عظيم) ويخاطبه بالقول:

أيها الشعب العظيم إنك تتعرض اليوم لمحنة هائلة على يد السفاكين والجزارين…

ثم يقول في سياق حديثه عنه:

وهكذا فوجئ الطغاة بأن الشعب لا يزال ينبض بالحياة، ولا تزال له القدرة على أن يقول كلمته.

إنه يكشف عن روح الشعب العراقي الموّارة بالحياة والفاعلية والقدرة، في وقتٍ صُبَّت فيه على هذا الشعب المظلوم، ألوانُ النعوت الباطلة من قبل جهات شتي.

المَعلم الثاني: البذل والتضحية وتوطين النفس على الشهادة في سبيل الله من أجل الشعب

وحين تخاض المعركة بهذه الروح، يكون الفوز بإحدى الحسنيين (النصر أو الشهادة) مضموناً لا محالة.

قال رضوان الله عليه في البيان الأول:

(يا شعب آبائي وأجدادي إني معك، وفي أعماقك ولن أتخلى عنك في محنتك، وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك).

وقال قدس سره في بيانه الثاني:

(وأنا أعلن يا أبنائي.. إني صممت على الشهادة).

وبعد إعلانه هذا التصميم خاطب الشعب العراقي قائلاً:

(إن أبواب الجنة قد فُتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب الله لكم النصر).

وما ألذ الشهادة التي قال عنها رسول الله صل الله عليه و آله إنها حسنة لا تضر معها سيئة.

والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت.

وإطلاق وصف الشهادة على ضحايا المنازلة مع السلطة الغاشمة، يقفز بالمواجهة قفزة نوعية تصبح معها معركة (مقدسة) بعد أن كانت (عادلة).

يقول شاعر معاصر في هذا المضمار:

وحثوا الخطى شوقاً إليه وأسرعوا                    شهادتكم في الله عيدٌ فأزمعوا

غدت كالنجوم الزُهر في الأفق تلمعُ                    خذوها من (الصدر) العظيم ملاحماً

وفي كل قلب خُطَّ (للصدر) مضجعُ                    لقد خط للأحرار درباً مباركاً

بغير الكفاح المُرّ هيهات يصنعُ                    ألا أن يوم الانتصار وإنْ دنا

وإذا كان المنسوب الثوري العراقي قد انخفض بشكل عام في المهجر فإنه ليس كذلك داخل الوطن يقيناً.. .

المَعلم الثالث: تعرية السلطة وإدانة نهجها التسلطي

كان الإمام ضمير الأمة ولسانها

قال رضوان الله عليه في بيانه الأول:

أود أن أؤكد للمسؤولين إن هذا الكبت الذي فُرض بقوة الحديد والنار على الشعب العراقي فحرمه من أبسط حقوقه وحرياته في ممارسة شعائره الدينية لا يمكن أن يستمر ولا يمكن أن يعالج دائماً بالقوة والقمع.

إن هذه الكلمات أشعلت فتيل الثورة على الظالمين، وأججت الحماس الثوري، وقرعت آذان الحكام بلونٍ من الإدانة لا عهد لهم به من قبل، وفتحت الباب على مصراعيه لمفاجئات ومنازلات يصعب معها أن تشعر السلطة بالاستقرار والاطمئنان.

وبلغ التحدي ذروته حين قال الإمام الشهيد الصدر مخاطباً السلطة:

إذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجمد أجهزتها القمعية أسبوعاً واحداً فقط، ولتسمح للناس أن يعبروا خلال أسبوع واحد عما يريدون. (البيان الأول)

المَعلم الرابع: إدامة الجهاد ومواصلة النضال إلى أن يتم التحرير

أعطى الإمام الشهيد الصدر لمنازلة الشعب العراقي للسلطة العفلقية الغاشمة بُعداً شرعياً، يضاف إلى الأبعاد السياسية والوطنية والأخلاقية.

قال (في بيانه الثاني):

فعلى كل مسلم في العراق، وعلى كل عراقي في خارج العراق، أن يعمل كل ما بوسعه، ولو كلفه ذلك حياته من أجل إدامة الجهاد والنضال لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب وتحريره من العصابة اللاإنسانية.

وقد استهدف أمرين:

١) توسيع رقعة المواجهة من خلال إدخال المسلمين الموجودين داخل العراق في حلبة الصراع، ويبقى دور العراقيين في المواجهة هو الأساس، وهو دور لا يقتصر على داخل الوطن بل يمتد ليشمل العراقيين أينما كانوا.

وهكذا تكون المواجهة من مواقع مختلفة، وبطرق شتي.

٢) اعتبار التصدي للسلطة ومقاومتها من (الواجبات الشرعية) مضافاً إلى كونه من المهام الوطنية.

إن الإمام الشهيد الصدر، كان قد دعا أبناء الشعب العراقي الأبي ۔ في بيانه الأول ۔ إلى مواصلة حمل ما قدم من طلبات.

وكان عادلاً في هذه الدعوة التي لم يكلفهم بها حتى بدأها بنفسه وظل مصراً عليها حتى الشهادة.

إنه قدس سره جعل سقف المواجهة مفتوحاً إلى حين تحقيق الهدف، وهو: (إزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب).

ومن الطبيعي أن تزداد الصعوبات والمشاق على الناس كلما بعدت عليهم الشقة، وطالت أيام المحنة، ولكن الإصرار على إدامة النضال هو المعيار الذي نلجأ إليه لمعرفة الصادقين مع ربهم وشعبهم من غيرهم.

وهذا المعيار من معالم الاستراتيجية الصدرية لا يسوغ تعطيله بحال من الأحوال.

المَعلم الخامس: السعي لإقامة النظام المستقبلي البديل على أساس الإسلام

تبنى الإمام الصدر رضوان الله عليه مشروع (توفير حكم صالح فذّ شريف، يقوم على أساس الإسلام)، وقد نكص الكثيرون عن حمل هذا المهم لأسباب كثيرة منها:

١) الرضوخ للضغوط الدولية والإقليمية التي تخشى على مصالحها من الحكم الإسلامي في العراق، وتسعى لإبعاد الإسلام عن الواجهة.

٢) التذرع بالتركيب المتنوع العراقي، والخليط البشري غير المتجانس من الأديان والمذاهب والقوميات، الذي قد يقف حائلاً في زعمهم بوجه ذلك المنحي، مثيراً المصاعب والمشاكل.

٣) الموقف السلبي الذي تتبناه أطراف سياسية عراقية معارضة من الأطروحة الإسلامية نفسها.

ولابد أن نشير باختصار في مقام الرد إلي:

١) الرضوخ للضغوط الدولية والإقليمية مسلك وعر، ولن تقف المسألة عند هذا الحد، فهل ننسلخ من عقيدتنا وقيمنا استجابة لضغوطهم؟!!

٢) لا يكون الحكم (صالحاً فذّاً شريفاً) إذا فرّط بذرة من حقوق مواطنيه وحرياتهم، فعلى مَ الخوف إذن؟

٣) ليس من حق أحد الحيلولة بين الشعب العراقي وبين اختياره لما يريد من شكل الحكم وهويته.

والأمر موكول إلى الشعب العراقي نفسه، ولا يملك أحدٌ حق الوصاية عليه على الإطلاق.

إن إسلامية الدولة لا تعني التفريط بحقوق وحريات مواطنيها من غير المسلمين، أو تضييق الخناق عليهم.

والشعب العراقي عريق في إسلامه، وفي حسن تعامله مع أتباع كل الأديان الأخري.

أما المشكلة الكردية فلا حل لها إلا في ظل الإسلام الذي ساوى بين العربي والكردي والتركي في الحقوق والواجبات، ورفضَ كل النزاعات العنصرية.

المَعلم السادس: وحدة الكلمة والموقف بعيداً عن الطائفية أو التحيز القومي أو التعصب العرقي

جسّد الإمام الشهيد الصدر رضوان الله عليه هذا المنحى في بيانه الثالث بقوله:

إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وكردك، بسنتك وشيعتك لأن المحنة لا تخص مذهباً دون آخر.

وذكّر بمسألة تاريخية مهمة فقال:

إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشعية قبل نصف قرن، بوجوب الجهاد من أجله، وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل حماية الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام.

ولقد خاطب الإمام الشهيد الصدر أبناءه من السنة والشيعة على حد سواء من خلال نزعة توحيدية إسلامية حيث قال:

فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام.

وقال:

يا إخوتي ويا أبنائي من أبناء الموصل والبصرة، من أبناء بغداد وكربلاء والنجف، من أبناء سامراء والكاظمية، من أبناء العمارة والكوت والسليمانية…

وهكذا توجه إلى العراقيين جميعاً على حد سواء بروح الأب الحاني على أبنائه.

ونشير هنا إلى أن الإمام الشهيد الصدر لم ينح المنحى الطائفي على الإطلاق في مؤلفاته وآثاره ودونك (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الإسلام) و(الأسس المنطقية للاستقراء).

إنها إذن ممارسة نابعة من صميم واقعه، وليست حالة طارئة اقتضتها ظروف الثورة والتحرك.

وقال الصدر الفاتح:

فلتتوحد كلمتكم ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلطة، وبناء عراق حر كريم تغمره عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان ويشعر المواطنون جميعاً على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم بأنهم إخوة، يساهمون في قيادة بلدهم، وبناء وطنهم وتحقيق مُثُلهم الإسلامية العليا المستمدة من رسالتنا الإسلامية ومن فجر تاريخنا العظيم.

وحين حل التشرذم والتمزق والتنازع والفئويات والعصبيات، محل وحدة الكلمة والمواقف، امتدت أيام الدكتاتورية السوداء، وازدادت جرائمها وأهوالها، ولسنا مرشحين لأوضاع مستقبلية، أفضل من الأوضاع الحالية، ما دمنا بعيدين عن المنهج المرسوم لنا من قبل القائد الصدر الشهيد.

البيانات السياسية الثلاثة للإمام الشهيد الصدر رضوان الله عليه

البيان الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين

أيها الشعب العراقي المسلم!

إني أخاطبك ۔ أيها الشعب الحر الأبي الكريم ۔ وأنا أشد إيماناً بك، وبروحك الكبيرة، وبتأريخك المجيد، وأكثرهم اعتزازاً بما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحب والولاء والبنوة للمرجعية، إذ تدفقوا إلى أبيهم يؤكدون ولاءهم للإسلام، بنفوس ملؤها الغيرة والحمية والتقوي، يطلبون مني أن أظل إلى جانبهم أواسيهم وأعيش آلامهم عن قرب، لأنها آلامي.

وإني أود أن أؤكد لك ۔ يا شعب آبائي وأجدادي ۔ أني معك وفي أعماقك، ولن أتخلى عنك في محنتك وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك! وأود أن أؤكد للمسؤولين: أن هذا الكبت الذي فُرض بقوة الحديد والنار على الشعب العراقي، فحرمه من أبسط حقوقه وحرياته في ممارسة شعائره الدينية، لا يمكن أن يستمر، ولا يمكن أن يستمر، ولا يمكن أن يعالج دائماً بالقوة والقمع.

إن القوة لو كانت علاجاً حاسماً دائماً لبقي الفراعنة والجبابرة!

أسقطوا الأذان من الإذاعة فصبرنا!

وأسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا!

وطوّقوا شعائر الإمام الحسين عليه السلام ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا!

وحاصروا المساجد وملأوها أمناً وعيوناً فصبرنا! وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إلى حزبهم فصبرنا! وقالوا: إنها فترة انتقال يجب تجنيد الشعب فيها فصبرنا! ولكن إلى متي؟ إلى متى تستمر فترة الانتقال؟! إذا كانت فترة عشرة سنين من الحكم لا تكفي لإيجاد الجو المناسب لكي يختار الشعب العراقي طريقه فأي فترة تنتظرون ذلك؟!!

وإذا كانت فترة عشرة سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم – أيها المسؤولون – إقناع الناس بالانتماء إلى حزبكم إلا عن طريق الإكراه، فماذا تأملون؟!

وإذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجمد أجهزتها القمعية أسبوعاً واحداً فقط، ولتسمح للناس بأن يعبروا خلال أسبوع عما يريدون.

إني أطالب باسمكم جميعاً أطالب بإطلاق حرية الشعائر الدينية، وشعائر الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام.

وأطالب باسمكم جميعاً: بإعادة الأذان وصلاة الجمعة، والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة.

وأطالب باسمكم جميعاً: بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث على كل المستويات.

وأطالب باسم كرامة الإنسان: بالإفراج عن المعتقلين بصورة تعسفية، وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء.

وأخيراً؛ أطالب باسمكم جميعاً، وباسم القيم التي تمثلونها: بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقية حقة في تسيير شؤون البلاد، وذلك عن طريق إجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس يمثل الأمة تمثيلاً صادقاً.

وإني أعلم أن هذه الطلبات سوف تكلفني غالياً، وقد تكلفني حياتي، ولكن هذه الطلبات ليست طلب فرد ليموت بموته وإنما، هذه الطلبات هي مشاعر أمة وإرادة أمة، ولا يمكن أن تموت أمة تعيش في أعماقها روح محمد وعلي، والصفوة من آل محمد وأصحابه. وإذا لم تستجب السلطة لهذه الطلبات، فإني أدعو أبناء الشعب العراقي الأبي إلى المواصلة في حمل هذه الطلبات، مهما كلفه ذلك من ثمن لأنه دفاع عن النفس وعن الكرامة، وعن الإسلام رسالة الله الخالدة، والله ولي التوفيق.

20/رجب/1399

محمد باقر الصدر

البيان الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين

يا شعبي العراقي العزيز!

يا جماهير العراق المسلمة التي غضبت لدينها وكرامتها، ولحريتها، وعزتها، ولكل ما آمنت به من قيم ومثل!

أيها الشعب العظيم!

أنك تتعرض اليوم لمحنة هائلة، على يد السفاكين والجزارين، الذين هالهم غضب الشعب وتململ الجماهير، بعد أن قيدوها بسلاسل من الحديد، ومن الرعب والإرهاب، وخيل للسفاكين إنهم بذلك انتزعوا من الجماهير شعورها بالعزة والكرامة، وجردوها من صلتها بعقيدتها وبدينها وبمحمدها العظيم، لكي يحوّلوا هذه الملايين الشجاعة المؤمنة من أبناء العراق الأبي إلى دُمى وآلات، يحركونها كيف يشاؤون، ويزقونها ولاء (عفلق) وأمثاله من عملاء التبشير والاستعمار، بدلاً عن ولاء محمد وعلي (صلوات الله عليهما).

ولكن الجماهير دائماً هي أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة، وقد تصبر ولكنها لا تستسلم، وهكذا فوجئ الطغاة بأن الشعب لا يزال ينبض بالحياة، ولا تزال لديه القدرة على أن يقول كلمته! وهذا هو الذي جعلهم يبادرون إلى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الآلاف من المؤمنين والشرفاء من أبناء هذا البلد الكريم، حملات السجن والاعتقال والتعذيب والإعدام، وفي طليعتهم العلماء المجاهدون، الذين يبلغني أنهم يستشهدون الواحد بعدد الآخر تحت سياط التعذيب!

وإني في الوقت الذي أدرك فيه عمق هذه المحنة التي تمر بك يا شعبي! يا شعب آبائي وأجدادي ۔ أؤمن بأن استشهاد هؤلاء العلماء واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين وأبنائك الغيارى تحت سياط العفالقة، لن يزيدك إلا صموداً وتصميماً على المضي في هذا الطريق، حتى الشهادة أو النصر!

وأنا أعلن لكم ۔ يا أبنائي ۔ إني صممت على الشهادة! ولعل هذا آخر ما تسمعونه مني، وأن أبواب الجنة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء؛ حتى يكتب الله لكم النصر! وما ألذ الشهادة التي قال عنها رسول الله صل الله عليه و آله: (إنها حسنة لا تضر معها سيئة. والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت).

فعلى كل مسلم في العراق، وعلى كل عراقي في خارج العراق: أن يعمل كل ما بوسعه ۔ ولو كلفه ذلك حياته ۔ من أجل إدامة الجهاد والنضال لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب، وتحريره من العصابة اللاإنسانية، وتوفير حكم صالح فذ شريف، يقوم على أساس الإسلام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

10/شعبان

محمد باقر الصدر

البيان الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه الميامين

يا شعبي العراقي العزيز!

أيها الشعب العظيم!

إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك: بعربك وأكرادك، بسنتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخص مذهباً دون آخر، ولا قومية دون أخري، وكما أن المحنة هي محنة كل الشعب العراقي، فيجب أن يكون الموقف الجهادي، والرد البطولي، والتلاحم النضالي، هو واقع كل الشعب العراقي.

وإني منذ عرفت وجودي ومسئوليتي في هذه الأمة، بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي، على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تضمهم جميعاً، ولم أعش بفكري وكياني إلا للإسلام: طريق الخلاص وهدف الجميع.

فإنا معك يا أخي وولدي السني! بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي! أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام؛ وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلط والذل والاضطهاد.

إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنة: إن المسألة مسألة شيعة وسنة، ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك.

وأريد أن أقولها لكم ۔ يا أبناء علي والحسين، وأبناء أبي بكر وعمر: إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني.

إن الحكم السني الذي مثله الخلفاء الراشدون، والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل علي السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول (أبي بكر)، وكلنا نحارب عن راية الإسلام، وتحت راية الإسلام، مهما كان لونها المذهبي.

إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة ۔ قبل نصف قرن ۔ بوجوب الجهاد من أجله وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام، ومن أجل حماية الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام.

إن الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنياً، وإن كانت الفئة المتسلطة تنتسب تاريخياً إلى التسنن.

إن الحكم السني لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنيين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر، الذي تحداه، طواغيت الحكم في العراق اليوم في كل تصرفاتهم، فهم ينتهكون حرمة الإسلام وحرمة علي وعمر معاً في كل يوم، وفي كل خطوة من خطواتهم الإجرامية.

ألا ترون –يا أولادي وإخواني– أنهم أسقطوا الشعائر الدينية التي دافع عنها علي وعمر معاً؟!

ألا ترون أنهم ملأوا البلاد بالخمور، وحقول الخنازير، وكل وسائل المجون والفساد التي حاربها علي وعمر معاً؟!

ألا ترون أنهم يمارسون أشد ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب؟! ويزدادون يوماً بعد يوم حقداً على الشعب، وتفنناً في امتهان كرامته والانفصال عنه، والاعتصام ضده في مقاصيرهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات، بينما كان علي وعمر يعيشان مع الناس وللناس وفي وسط الناس ومع آلامهم وآمالهم.

ألا ترون إلى احتكار هؤلاء للسلطة احتكاراً عشائرياً، يسبغون عليه طابع الحزب زوراً وبهتاناً؟! وسد هؤلاء أبواب التقدم أمام كل جماهير الشعب سوى أولئك الذين رضوا لأنفسهم بالذل والخنوع، وباعوا كرامتهم وتحولوا إلى عبيد أذلّاء.

إن هؤلاء المتسلطين قد امتهنوا حتى كرامة حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث عملوا من أجل تحويله من حزب عقائدي إلى عصابة تطلب الانضمام إليها والانتساب لها بالقوة والإكراه، وإلا فأي حزب حقيقي يحترم نفسه ۔ في العالم ۔ يفرض الانتساب إليه بالقوة؟!

إنهم أحسوا بالخوف حتى من الحزب العربي الاشتراكي نفسه الذي يدعون تمثيله أحسوا بالخوف منه إذا بقي حزباً حقيقياً له قواعده التي تبنيه، ولهذا أرادوا أن يهدموا قواعده، لتحويله إلى تجميع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب ليفقد مضمون حقيقي له.

يا إخواني وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة.. من أبناء بغداد وكربلاء والنجف.. من أبناء سامراء والكاظمية.. من أبناء العمارة والكوت والسليمانية.. من أبناء العراق في كل مكان، إني أعاهدكم بأني لكم جميعاً، ومن أجلكم جميعاً، وإنكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل.. فلتتوحد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلطة، وبناء عراق حر كريم، تغمره عدالة الإسلام، وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنون جميعاً ۔ على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم ۔ بأنهم إخوة، يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم وبناء وطنهم وتحقيق مثلهم الإسلامية العلياء، المستمدة من رسالتنا الإسلامية وفجر تاريخنا العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد باقر الصدر ۔ النجف الأشرف