مقابلة مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين

أُجريت يوم الأحد في بيروت ـ لبنان، بتاريخ 29/ 6/ 1985م

نحن اليوم مع سماحة العلاّمة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهذا اليوم هو يوم الأحد، التاسع والعشرون من حزيران عام 1985م ـ الثاني عشر من شهر شوّال عام 1405 هـ في بيته الذي هو مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لأجل أن نتحدث عن علاقة الشيخ محمد مهدي شمس الدين بالإمام الشهيد المرجع محمد باقر الصدر.

الشيخ شمس الدين:

بسم الله الرحمن الرحيم … لا تزال تمضي الأيام والشهور والسنين وكلما مضى مزيد من الوقت على فقدان السيد الشهيد رضوان الله عليه تنكشف للبصائر فداحة النكبة التي حلت بالإسلام والمسلمين لفقده، لا أقصد النكبة على صعيد المرجعية أو الإنتاج العلمي الفقهي والأصولي، وإنما على صعيد الحالة الإسلامية العامة على مستوى العالم الإسلامي، حيث إنه كان في حياته يمثل حالة ليست نجفية أو عراقية أو شيعية، وإنما كان يمثل في واقع الأمر حالة إسلامية لم يكن لها مثيل في عمقها ولا في شموليتها ولا في صفائها، الآن نشعر أكثر فأكثر بأنّه، ليس العراق وحده فقد السيد الشهيد، وإنما المسلمون جميعاً، والسؤال عن بدايات المعرفة، ولا أستطيع الآن أن أضع يدي على وقت بعينه أو حادث بعينه أو إطار بعينه لأُحدّث كيف كانت بدايات المعرفة؟

حصلت المعرفة من خلال إطار المشاركة التي كنا في بدايتها أو كان في نهايتها أو كان قد أنجزها وأتمها بالنسبة إلى السيدين الجليلين آية الله العظمى المرحوم السيد الحكيم وآية الله العظمى السيد الخوئي حفظه الله .. هذا كان إطار من أُطر التعارف، ونمط الحياة الفكرية الذي ساد في النجف في أواخر الخمسينات الميلادية ونشوء الحالة الإسلامية الصافية المباركة في ذلك الوقت كردّ على التحدي الكبير الذي نشأ بسبب ما ساد في حينه من اعتقاد عن إمكانية سيطرة نظام معادٍ للإسلام، وليس محايداً بالنسبة للمسالة الدينية، وإنما معادٍ للمشروع الإسلامي على الحكم بالعراق بأيام عبد الكريم قاسم، وبعد ذلك من خلال المؤسسات التي أنشئت كأجهزة وأدوات لبرمجة وتوجيه العمل الإسلامي مركزياً إن سواء مؤسسة جماعة العلماء أو مؤسسة مجلة الأضواء وما إلى ذلك، وكانت هذه هي الأطر وهي المناخات التي تم فيها التعارف بيننا وبين السيد الشهيد رضوان الله عليه، ومنذ ذلك الحين نشأت علاقة هي من سعاداتي ـ اعتبر أنها من سعاداتي ـ نشأت علاقة بيننا وبينه استمرت إلى بعد هجرتي إلى لبنان، وأذكر أن هجرتي إلى لبنان تمّت بعد بحث مستفيض استغرق أكثر من جلسة، وآخرها كانت جلسة في بيته الذي كان وراء ثانوية الخورنق في ليلة منذ ما بعد صلاة العشاء وإلى قريب الفجر من تلك الليلة، وكان ثالثنا في هذه الجلسة الأخ المجاهد السيد محمد باقر الحكيم، حيث تم في هذه الجلسة عرض شامل ومعمّق لطبيعة المرحلة وخصوصيات العمل فيها في العراق وطبيعة المرحلة وخصوصيات العمل فيها في لبنان، وكنا نتدارس أين يكون وجودي أفضل وأكثر نفعاً للإسلام والمسلمين، وكان هذا في الأشهر الأخيرة من وجودي هناك.

س: في أي سنة؟

لا أذكر بالتحديد؛ لكن يمكن معرفة السنة، الآن لكن ربما نستغرق وقت إذا أردنا تذكّر السنين، واستمرت كما قلت هذه العلاقة بعد المجيء إلى لبنان، جاء السيد الشهيد رحمه الله في إحدى السنين إلى لبنان وكانت لقاءات واجتماعات هنا في بيروت وفي جباع، جاء السيد لقضاء فصل الصيف وسافر سفراً مستعجلاً في حينه سنة 1969 لأن النظام العراقي في ذلك الحين ضيق فيه بشدة على العراقيين المسافرين إلى لبنان، بحيث أنه خلال (24) ساعة، انتزعوه انتزاعاً منا كما انتزعوا غيره ويذكر العراقيون واللبنانيون الذين عاشوا تلك الفترة والمرحلة كيف كانت عملية السفر والعودة إلى العراق.. واستمرت هذه العلاقة كما قلت في النجف من خلال اللقاءات والاجتماعات، وفي لبنان من خلال المراسلات المكتوبة والشفهية، وكان هذا اللقاء المرة الوحيدة التي رجعت فيها أنا إلى العراق بعد هجرتي إلى لبنان، وأذكر أنها كانت آخر رجب، ولا أذكر من أي سنة هجرية لأجل حضور الاحتفال الذي كان يقام في النجف بمناسبة مولد الإمام الحسين (ع)، الاحتفال العالمي الكبير الذي كان يقام بإشراف السيد الحكيم رضوان الله عليه، وفي تلك السنة وهو أظنّ آخر احتفال أُقيم بهذه المناسبة في النجف آخر احتفال، هذه هي أجواء التعارف والتواصل كما أتذكرها في هذه العجالة في اللقاء مع جنابكم..

بالنسبة إلى السؤال الثاني عن دور السيد الصدر في النشاط والتحرك السياسي الشامل والوعي الإسلامي على الأصعدة المختلفة، الحقيقة أنه سيقال كلام كثير في هذا الشأن، وفي جوانب كثيرة من تاريخ هذه المرحلة، في هذا الموضوع لا تزال بعض الأمور خافية؛ ولكن بحدود ما أعلم وأنا عايشت المرحلة وشاركت فيها من الداخل وليس الخارج، أنا أعتقد أن الأب الأكبر والأكثر وعياً والأعمق والأبعد نظراً للحالة الإسلامية في العراق وللحالة الإسلامية وبشكل مباشر من الشيعة العرب هو الشهيد الصدر، ولا يوجد شخص آخر، يوجد كبار في هذا الحقل، يوجد أشخاص كثيرون أتشرف أن أكون منهم ولكن ليس في هؤلاء جميعاً، ومنهم أنا أو غيري مَن يمكن أن يداني المساهمة التي حققها الشهيد الصدر، سواء بالنمط التربوي في حوزته الخاصة العلمية في إطار طلابه ومريديه، أو في التأثير الفكري الذي مارسه كما يقولون على محيطه في النجف وفي الجماعات الكثيرة من الشباب العراقيين الذين كانوا يتصلون به أو في إنجازاته الفكرية الأمهات، التي لا تزال حتى الآن هي أصول كبرى في الفكر الإسلامي الحديث المؤسس من كل مساهماته، لا أريد أن أذكر أعماله الفقهية والأصولية، هذه لها شأنها، ولكن حينما نتكلم عن الحالة الإسلامية كظاهرة فكرية سياسية تغييرية نعيش الآن آثارها، نذكر «فلسفتنا» و«اقتصادنا» وغيرهما و «البنك اللاربوي» وغيرها نذكرها باعتبارها هي النصوص الأمهات إذا صح التعبير والتي لا تزال حتى الآن، أعتقد وكما قلت سيقال كلام كثير لأجل الكشف عن مدى العمق والشمولية اللتين تميز بهما عمله وفكره في هذه المرحلة التي لا تزال مستمرة حتى الآن هو السيد الصدر هو لا يزال يمارس حتى الآن تأثيراً مباشراً على كل الأفراد والجماعات والمجموعات التي تلتزم الخط الإسلامي الرسالي في المسألة السياسية، حتى الآن نستطيع أن نقول أن هناك خرّيجين على فكر وأعمال الشهيد السيد الصدر، طبعاً دون التقليل إطلاقاً من التأثير الكبير والحاسم الذي يمارسه وجود وأدبيات الثورة الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ لكن مع هذا الفكر الخاص، فكر السيد الصدر الخاص لا يزال حياً ويمارس تأثيره الكبير، إذاً على هذا الصعيد اعتقد أن التقييم بالإجمال هو كما ذكرت بالتفصيل يحتاج إلى عمل هذا الرجل رجل غير عادي؛ لذلك سيكون هو حياته وفكره موضوع لدراسات متخصصة في هذا الشأن.

 س: شيخنا السؤال الثاني تكلمتم فيه عن الجانب الفكري جانب العمل الإسلامي الذي مر بالسيد خلال جماعة العلماء خلال تلك الفترة

لا.. هو هكذا أنا تكلّمت عن التفاصيل، أقصد أنه اشتغل هو في نطاق جماعة العلماء، وكان ركناً من أركان هذه الجماعة التي كانت تضمّ الكبار في ذلك الحين لبعض الوقت، هو كَتب كلمة جماعة العلماء التي كانت تصدر كل أسبوعين وكانت تنشرها «الأضواء» بعنوان «رسالتنا»، وبعد ذلك حينما اشتد الضغط لأجل «رسالتنا» وأنا استمريت في كتابتها إلى أن توقفنا بالكتابة مثلاً، كان هذا النص المنشور في الأسواق بدون مؤلف بعنوان «رسالتنا» الذي يمثل افتتاحيات مجلة «الأضواء» الأساسية، قبل أن تنشر فيها الافتتاحيات بعنوان كلمتنا هذا الكتاب قسم منه ـ الافتتاحيات الاُولى ـ هي كتبها الشهيد الصدر والافتتاحيات التالية كتبتها أنا، بالنسبة لحقل معين في العمل نشير إليه مجرد إشارة؛ لأنه ليس هنا موضع الحديث فيه، وكل الإخوان الأحياء حفظهم الله والشهداء رضوان الله عليهم هم يعرفون هذا ويعلمونه علم اليقين أن السيد الصدر مؤسس الحركة الإسلامية في العراق بدون الدخول في تسميات وهو في صميمها وهو أبوها.

س: بالنسبة لهذا الأمر وبالنسبة لأُمور أُخرى حبّذا لو عندكم بعض الوقائع باعتبار أنتم عشتم معه فترة أكثر من غيركم؟

الآن هذا المقدار يكفيك.

بالنسبة إلى العلاقة الشخصية، الحقيقة أن هذا الرجل بالرغم مما تميز به من علم ومركز معنوي كبير ولا ننسى أنه بلغ ليس مرتبة المرجعية وإنما واقع المرجعية في فترة مبكرة جداً، وكان له مقلدون كثيرون في العراق وخارج العراق، كان يتميز ليس معي فقط وإنما مع كل الناس بتواضع كبير، أي لا يمكن أن ينسى الإنسان تواضعه، كانت علاقاته مع إخوانه – وهذا ما ربما ينعكس كثيراً في رسائله المكتوبة – بروح مودّة وحب فياض وتواصل إنساني، تواصل القلب بشكل ليس عليه من مزيد قطعاً، كان من سماته البارزة وهي سمات كل الأتقياء الكبار؛ لكن قد يغفل عنها الإنسان، هذا الرجل لاحظت أنه لا يغفل في الحقيقة أو أنه قليل الغفلة، أنه يتعمد التنويه والتنويه البارز بأي إنجاز حسن جيد من أي شخص، من كان يكتب مقال جيد أو كتاب جيد، أو يعبّر عن رأي جيد تراه وكأنه يعطيه شحنة يعطيه دفعاً قوياً من الثقة بالنفس ومن الشعور بالافتخار، بحيث يشجعه على بذل المزيد من الجهد وإنجاز المزيد من العمل، وهذه هي وصية أئمة أهل البيت سلام الله عليهم للتنويه بكل محسن، كان يمثل في علاقاته الشخصية الإنسان المتواضع الودود البعيد عن الغرور الواقعي والمحب.

فحياته الشخصية وهذه ناحية لعلّها لم ترد في هذه الأسئلة والأقوال كانت حياته الشخصية تتميز ببساطة كبيرة وبزهد، بحالة الزهد أي أنتم تعرفونه هو كان في بيته وفي ملبسه وفي مأكله ورأينا مأكله، مراراً ورأينا ملبسه دائماً ورأينا بيته دائماً، كان يتميز بما دون الوسط أي أنه كان بعيداً بعداً كاملاً عن عقلية الترف، كان بعيداً بعداً كاملاً عن الاهتمام بالرخاء، رخاء العيش، وكان بعيداً بعداً كاملاً عن الاهتمام بالعيش الشخصي كان دون الوسط وبطبيعة الحال كان قادراً على أن يحيا حياة شخصية ومنزلية في الذروة من التمتع بطيبات العيش والسكن واللباس وما إلى ذلك، كان رجلاً زاهداً ينطبق عليه عنوان الزهد الإسلامي بكل معناه.

من الخصوصيات الشخصية أيضاً والعامة في نفس الوقت أنه بحسب الاصطلاح المتاح المتعارف في الحوزات هو كان من أهل العرفان أيضاً، كان له جانب عرفاني وهذا الجانب كان يظهر في مسلكه الذي ذكرته في علاقاته مع الناس وفي طبيعة حياته الشخصية وفي علاقاته مع طلابه ومريديه.

س: بالنسبة إلى السؤال عن دوره في القضية اللبنانية؟

نعم، عن دوره أو عن آرائه بالقضية اللبنانية (باعتبار أن لبنان بلد مفتوح على الوطن العربي والساحل) كان يبدي اهتماماً دائماً وحيّاً بوضع المسلمين في لبنان، وفي هذا الإطار بوضع لبنان كان فيما أذكر – كما ذكرت قبل قليل – إحدى النقاط المهمة في درسي، سفري إلى لبنان، انتقالي وبقائي في لبنان، هو مبني على هذا الجانب، أذكر مثلاً قبل انتقالي إلى لبنان وفي البدايات الأُولى لفكرة تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان حينها في إحدى الزيارات التي جاء جناب الأخ السيد موسى الصدر فيها إلى العراق وإلى النجف واجتمعنا معه طبعاً، كان السيد الصدر موجوداً وإخوان آخرون، وكان من جملة الذين شاركوا في التفكيرات الأولية التي كنا نتداولها مع السيد الصدر موسى، في وضع المسلمين اللبنانيين وكيفية إيجاد حالة تدفع بالحالة الإسلامية في لبنان إلى مزيد من الانتظام لكي تنهض بالشيعة اللبنانيين ويكونون منتظمين؛ لأنهم في هذه يكونون أقدر على إيجاد الحالة الإسلامية على قاعدة التكامل مع الطائفة السُنية في لبنان، وليس كما توهم البعض في حينه وحارب فكرة المجلس الشيعي أنه هذه حالة تقسيمية، لا، هي لم تكن حالة تقسيمية أو تفريقية، هي كانت لإيجاد حالة مكتملة عند الإخوان في الطائفة السُنية (وتوجد لا حالة) أي توجد حال انعدام وزن أو حالة لا شيء حالة سلبية بمعنى عدم وجود أي شيء على الصعيد الشيعي ، كان يوجد شيعة، كانت إحدى الأفكار في خلفيات تأسيس المجلس هي أن توجد حالة انتظامية أوتنظيمية للطائفة الشيعية حتى تكون قادرة على أن تدخل في حالة تكاملية مع الإخوان السُنة، في حين قبل فكرة المجلس وقبل مؤسسة المجلس كان يمكن أن أشخاص من الشيعة يتفاهمون أو يتكاملون مع الطائفة السُنية، الغرض كانَ الشهيد الصدر مِنَ الذين ساهموا؛ لأنه مهتم ، لأنه متابع في هذا الشأن في موضوع المجلس، فكان وبعد أن نشأت الفتنة طبعاً في سنة (1975م) كان يتابع باستمرار من خلالنا جميعاً وطبعاً أكثر المتابعة تتم مع الإمام موسى الصدر؛ ولكن من خلالنا جميعاً كان يتابع، ولا أزال أذكر وقلبي مملوء بالحسرة والتألم هو أنه في الاتصالات الأخيرة التي تمت بيني وبينه طبعاً بعد نكبتنا بالإمام موسى الصدر واختفائه الذي حصل له طبعاً كنا نتواصل بالتلفون.

س: مع السيد الشهيد؟

مع السيد الشهيد .. أنا لا أزال أذكر أنه في الاتصالات الأخيرة التي تمت بعد أخذه الأول واعتقاله الأول وإعادته، اتصلنا لأجل الاطمئنان وهو في الحالة التي تعلمونها كانت بداية المصيبة بدأت بالنسبة إليه، وكان شبه سجين بالبيت في ذلك الحين رحمة الله عليه لم ينس أن يسأل ويستفسر عن أوضاع لبنان وأوضاع المسلمين في لبنان مما يدل على درجة تأصل ورسوخ الاهتمام بالمسألة اللبنانية في نفسه وفكره.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.