السيد الصدر شخصية عظيمة، منقوشة في ذاكرة التاريخ، وهي لذلك خالدة أبد الدهر، ولن يطويها النسيان مهما طال الزمان، لأن عطاءات الشهيد الفكرية والجهادية أضحت منطلقاً للأجيال الحاضرة والمقلبة.
فالسيد الصدر كان قضية ورمزاً وإطاراً للمسيرة الإسلامية الصاعدة، وهو مصدر إلهام لكل من يقارع قوى الفكر، ويتصدى لها بالفكر والسلاح.
وعلى هذا الأساس بات هذا المفكر العملاق قضية دائمة وساخنة، تتجدد في كل عام يمر على ذكرى شهادته الأليمة.
في مطلع الأربعينات قدم النجف الأشرف فتى يافع في بدايات العقد الثاني من عمره، لم يثر قدومه انتباه طلبة العلم هناك، إذ لم يكن يتصور أحد أن هذا الفتى سيفجر ثورة في ميادين العلم والفلسفة والفكر، ويبني مدرسة جديدة في أساليب البحث والنقد والحوار البناء، ترث المدرسة التقليدية التي حالت دون تطور آلة الفكر الإسلامي، لتكتسح المبادئ والأفكار الوضيعة الهشة، وتتبوأ المكانة المشرفة من بين المدارس الفكري الأخرى.
لكن سرعان ما تفتقت عبقرية الشهيد، وانطلقت مواهبه المدهشة من خلال حواراته القيمة مع أساتذة الحوزة العلمية، ومدرسية هو بالخصوص فأردك هؤلاء منزلة الصدر الرفيعة، وموهبته المفرطة التي قلما أنجب التاريخ مثلها.
لقد أضفى الشهيد الصدر لوناً جديداً على أسلوب مقارعة الأفكار الوافدة، أو المستوردة من الشرق والغرب، بحيث أخفق الأعداء في مواجهته، لأنهم لم يألفوا هذا النمط من الدفاع عن المعتقدات الإسلامية الرصينة.
ولم يقتصر اهتمام المفكر الشهيد في مجال واحد من مجالات العلم والثقافة والدين، بل زج فكره وقلمه في شتى المجالات والحقول، وأبدع كل الإبداع في صياغة الأسس والموازين التي تتحكم في أصول التفكير والاستنتاج.
وبقدر ما تولى السيد الصدر مهمة الدفاع عن العقيدة الإسلامية والذود عنها بوجه الهجمات الفكرية المضادة وبقدر اهتمامه لرفع شأن الإسلام، ودحض المبادئ والنظم الوضيعة المتهافتة، بقدر كل ذلك، كان الشهيد يحتضن معاناة الأمة، ويتصدى لمأساة الشعب العراقي المقهور بصدره الرحب الذي وسع جميع آهات وزفرات المعذبين في العراق الجريح.
ولم يفتر هذا المفكر العملاق لحظة واحدة في حياته، حيث كانت كل سنوات عمره عطاءً ثرا، وجهاداً متواصلاً حتى لحظات استشهاده الأخيرة.
والمعروف عن السيد الصدر عليه الرحمة: أنه لم يتفرغ للجوانب الفكرية والعقائدية والحوزوية فقط، بل استوعب الجوانب الإنسانية والاجتماعية من حياة المجتمع لكون الجوانب الأخيرة ليست بأقل أهمية من الأولى نظراً لأنها تتعلق بواقع الأمة المعاش، فقد وصل السيد الشهيد إلى قناعة تامة بأن تلك المرحلة تستوجب القيام بموقف صارم ينسجم مع الظروف الطارئة في حياة الجماهير المسلمة في العراق، ولكي يتيح هذا الموقف الشجاع للفكر الإسلامي بإطاره الجديد الاستمرار والرسوخ، لأنه يصبح في هذه الحالة فكراً منسجماً مع القضية، وممتزجاً بالمحنة، ولم يكن في يوم من الأيام ترفاً فكرياً خارجاً عن نطاق الحياة اليومية للجماهير.
ولد الشهيد الصدر في مدينة الكاظمية من أسرة عريقة معروفة بالعمل والتقوى، حيث عاش في بداية حياته يتيماً فقيراً، ما لبث أن انتقل إلى النجف مدينة العلم الشامخة، إذ بدا عليه النبوغ المبكر، فألف أول كتبه وعمره لا يتجاوز السبعة عشر عاماً، ونال درجة الاجتهاد وهو في نهاية العقد الثاني من عمره الشريف.
وكان الإمام الصدر يتلقى العلوم ذاتياً، إذ لم يكن كغيره من الطلبة الذين يعتمدون على الأستاذ في حصولهم على المعلومات، وإنما كان يتابع قراءة الكتب دون الرجوع إلى المدرسين، إلا في بعض الحالات النادرة فمثلاً كان يطالع كتب الفلسفة أمام أستاذه، ثم يسأله عما أشكل عليه.
وقلّما شهد التاريخ على امتداده موهبة عالية كالتي تميز بها السيد الصدر، وأدت إلى هذا النتاج الفكري الهائل من الأطروحات والحلول للمشاكل والمعضلات التي تزخر بها الإنسانية.
وقد اتسمت طروحات الإمام الشهيد بالشمولية والعمق والإصالة والحيوية، ولذا فقد لقيت تلك الطروحات رواجاً واسعاً في أوساط المثقفين وغيرهم، فأقبلوا على دراستها بشغف وشوق شديدين.
ورغم هذا الإقبال المنقطع النظير على كتب الصدر وأفكاره الأصيلة، إلا أن العالم ما يزال يجهل الكثير عن هذه الشخصية العظيمة، وما قدمته للبشرية من حلول ناجعة لمختلف القضايا والمسائل.
شخصية متواضعة ومواقف صلبة
كان الصدر الشهيد إلى جانب علمه الغزير وعبقريته الفذة متواضعاً إلى حد لا يوصف، كما لم ير طيلة حياته متوتراً وإنما كانت البسمة دوماً تعلو وجهه المشرق، علاوة على احترامه لجميع أفراد الناس، كباراً وصغاراً، المرموقين منهم والعاديين.
وأيضاً كان السيد يتقبل أي سؤال يوجه إليه وفي أي وقت، وأجابته تكون بالطبع مفصلة ومركزة، ولو كان في تلك اللحظة مرهقاً أو منهكاً.
ونجحت أفكار ومواقف الإمام الصدر في استقطاب طبقات المجتمع كافة، وبالأخص الطبقة الواعية من الشباب الجامعي والمثقف، الذين اكتشفوا فيه الأمل المنشود والمشعل الذي ينير طريق الأجيال المقبلة لما قامت به أفكاره من دور فاعل في رسم خطوط المستقبل على أساس الإسلام دون سواه من المبادئ والنظم الوضعية الواهية.
أما المستضعفون فقد سحرتهم شخصية الشهيد ومزاياه الحميدة، ولكونه شعلة متقدة من الرفض والتحدي والمقاومة الصلبة، إضافة لتنبيه محنة المسلمين في العراق.
مع كل هذه العطاءات والجهود الجمة لم ينج الإمام الصدر من الحملات المسعورة التي استهدفت إسقاطه من أعين الجماهير وكان لتلك الحملات، دوافع سياسية وشخصية، غير أن الشهيد مضى في طريقه القويم، غير ملتفت إلى أراجيف المنافقين والحساد، حتى لقي ربه صابراً محتسباً، وأضحت تعاليمه وأفكاره مناراً لكل الثائرين والمجاهدين.
الشهيد الصدر في مواجهة الحكومات المنحرفة
تاريخ شهيدنا الغالي السيد الصدر في كل أفكاره النيرة ومواقفه الحازمة يرتبط بالتاريخ السياسي المعاصر للعراق الحافل بالأحداث والخطوب، وهو ولا ريب انعكاس طبيعي لتطلعاته الرسالية المبكرة، ونتيجة منطقية لنظراته المسؤولة والثاقبة.
فمراجعة ولو سريعة لتلك الحقبة من تاريخ هذا البلد وبالتحديد الفترة الممتدة ما بين أواخر عقد الخمسينات وأوائل هذا العقد، حيث استشهاده رضوان الله عليه تفي للوقوف على سجل هذا الرجل العظيم الحافل بالأفكار القيمة، والمواقف الملتزمة.
ويمكن ربط التحرك السياسي للشهيد الصدر بالمرحلة التي أعقبت انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 في العراق والذي أدى إلى سقوط النظام الملكي وقيام ما سمي بالنظام الجمهوري في هذا البلد، فقد أعقب هذا التاريخ مباشرة موجة من الغوغاء السياسي، رافقتها أجواء ملبدة بالأفكار المسمومة والملحدة، بعد أن استشرى المد الماركسي بمفاهيمه الملحدة وتوجهاته المتحللة في أوساط الأمة، مستهدفاً مسخ شخصيتها الإسلامية، وحرفها عن قيمها الرسالية.
وفي كل تلك الأجواء الضاغطة، كان على الشهيد الصدر أن يمارس وظيفته الشرعية، وواجبه كعالم دين ملتزم فبادر رضوان الله عليه إلى توجيه جهود المخلصين من العاملين على الساحة الإسلامية في العراق، من علماء ومثقفين رساليين وشباب مؤمن، وكان من ثمرات جهوده الخيرة هذه تأسيس جماعة العلماء في عام 1959 لتضطلع بدور فعال ومؤثر في نشر الفكر الإسلامي، والتصدي للأفكار الدخيلة والمستوردة فكانت مجلتها (الأضواء) وبعض افتتاحياتها المعنونة (رسالتنا) بقلم الشهيد السعيد نفسه الرصاصة الموجهة إلى صدور أولئك المنحرفين والشوكة في عيون الملحدين، وشعر الشهيد الصدر خلال هذا المقطع الزمني الحساس من تاريخ الأمة في العراق بوجود فراغ فكري لابد من تغطيته بأسرع وقت، فقام وخلال فترة زمنية قياسية في التأليف والكتابة بترجمة أفكاره السياسية والفلسفية والاقتصادية في كتابيين قيمين، هما: (فلسفتنا) و(اقتصادنا) ناقداً فيهما ومعرياً المذهبين الوضعيين الرأسمالي والاشتراكي ليكونا بذلك مادة الحركة الإسلامية في العراق، وسلاحها الفكري والسياسي في مواجهة الأفكار المادية الوضعية.
وفي شباط من عام 1963 تمكن البعثيون وبمساعدة أميركية بريطانية من السيطرة على مقاليد الأمور في العراق حيث بدأوا بحملات مسعورة على العلماء الأعلام، وفي مقدمتهم شهيدنا السعيد السيد الصدر، فكان لابد من مواجهة مدروسة للتصدي لهذه الحملات الظالمة، فأخذ يركز أكثر على نشاطه الحوزوي، رافداً الحوزة العلمية في النجف الأشرف بالمزيد من عطاءاته الفكرية والعلمية، طارحاً الفكر الإسلامي بلغة معاصرة مجيباً عن كل ما يراود الشباب الرسالي من أسئلة.
وفي هذه المرحلة من تاريخ العراق بدأ التيار القومي الذي تمثل بالبعثيين والقوميين العرب بطرح نفسه كبديل للرأسمالية والماركسية، مستفيداً من تناقضاتهما المعروفة، باعتباره فكراً اشتراكياً عربياً، فبادر شهيدنا الصدر بشجاعته المعهودة، ومنهجيته المعروفة إلى نقد ما سمي في حينه بالاشتراكية العربية نقداً علمياً لاذعاً، كما ورد في مقدمة (اقتصادنا) الطبعة الثانية.
الشهيد الصدر وهموم المرجعية الدينية
جاء البعثيون إلى السلطة مرة ثانية في انقلاب عسكري مشبوه وذلك في تموز عام 1986، ولم تمض على انقلابهم المشؤوم هذا سنة واحدة حتى بدأوا حرباً شعواء على المرجعية الدينية التي كانت ممثلة بآية الله العظمى المرجع الراحل السيد محسن الحكيم رضوان الله عليه، وقد كانت هذه الحرب المخططة سلفاً إيذاناً بضرب الحوزة العلمية وتصفيتها كما رآها الشهيد وأحس بها في حينه، مما حدا إلى مواجهة هذا المخطط الخبيث، وذلك بانصرافه إلى الحوزة وشؤونها إدارةً وتنظيماً وتوجيها، مع توكيده على تطعيم هذه الجامعة بشباب مثقف، وإضافة بعض الدروس الجديدة، لأن سماحته كان يعتقد أن النهج التقليدي في التربية الدينية إنما يعني وإلى حد بعيد بالطرح الفردي البعيد عن طموحات الرسالة وتطلعاتها في السيادة والتصدي لمناحي الحياة كافة.
والشهيد الصدر قد جسد تلك التطلعات والرؤى في مفهومه المجدد وتصوره الرشيد للمرجعية الدينية، فقد اعتبرها الإطار العام الذي لابد أن تصب فيه جميع الطاقات الإسلامية، من علماء وكوادر رسالية وتجمعات وأحزاب إسلامية باعتبارها القيادة الموجهة نحو الأهداف السامية للمجتمع، وهو ما نجده مفصلاً في بحثه القيم: المرجعية الصالحة.
فالشهيد الصدر كان يرى في المرجعية القيادة الفكرية والسياسية والاجتماعية للأمة، وليس مجرد هيكل لممارسة بعض المهام الجزئية والهامشية.
فهي كما عبر عنها (رضوان الله عليه) في بحثه الموسوم (لمعة فقهية تمهيدية عن دستور الجمهورية الإسلامية) (قضية اجتماعية موضوعية في الأمة تقوم على أساس الموازين الشرعية العامة، وهي المعبر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام من الناحية الشرعية).
لهذا كان الشهيد السعيد موضع عدم رضا الحاكمين المتسلطين بالقوة والجبروت، وحسد بعض المتخاذلين من المحسوبين على علماء الدين.
الشهيد يتحدى البعث
ومرة ثانية يرفع الاستكبار العالمي احتياطيه المعروف حزب البعث العفلقي إلى دست السلطة من جديد في عراق المقدسات، بعد أن شهد تنامياً سريعاً في الوعي الإسلامي في أوساط الأمة، خاصة الشباب والنخبة المثقفة في المجتمع العراقي، ولهذا شهد الإسلام في هذا البلد ممثلاً بعلمائه الأعلام وقواه الإسلامية الناهضة مواجهة حامية مع هذا الحزب وأجهزته القمعية، وكان للسيد الشهيد الدور البارز في هذه المواجهة التاريخية والحضارية وفي الأحداث والمواقف التالية ما يؤيد ذلك ويثبته:
ممارسة البعثيين في بداية تسلطهم المفروض على العراق حرباً نفسية مركزة على شخص شهيدنا العزيز، وكان لبعض المندسين ووعاظ السلاطين دور معروف في هذا المجال.
فقد شرع هؤلاء المشبوهون والحاقدون بالتشهير في إمكانات السيد الشهيد العلمية، وقدراته الفكرية، خاصة وأن الشهيد الصدر كان قد أبدى موقفاً حازماً زمن عمليات التسفير الجماعي للعراقيين إلى إيران، والتي بدأها النظام البعثي في عام 1970 مندداً بها داعياً المتصدين للمرجعية في العراق آنذاك المطالبة بالتنديد بها وإيقافها، خاصة وإن النظام الحاكم شمل في حملة التهجير هذه طلبة الحوزات العلمية، وهو الهدف الأساس للنظام وديدنه الدائم.
تنديد السيد الشهيد بالحرب ضد المسلمين الأكراد، حيث امتنع عن إعطاء فتوى في محاربة هذه الفئة المستضعفة من أبناء العراق، بعد أن طلب منه البعثيون منه ذلك، بل حرم على كل ضابط وجندي المشاركة الفعلية في هذه الحرب المشبوهة، مؤكداً في حينه على ضرورة التخلص من هذا المأزق الشرعي.
في عام 1972 كان النظام البعثي في العراق يواجه أوضاعاً خطيرة تنذر بالانفجار من تصاعد النقمة الشعبية إلى الأوضاع الاقتصادية والعسكرية المتدهورة، محاولين كسب تأييد السيد الشهيد بهدف استدراك وضعهم المتزلزل، فأرسلوا إلى سماحته عضو القيادة القومية لحزبهم آنذاك المدعو زيد حيدر، لكنه ما لبث أن عاد خائباً يجر أذيال الانكسار والهزيمة بعد أن واجهه الشهيد السعيد بحزم ورباطة جأش عظيمين، مما اضطر النظام الغاشم إلى اعتقاله، ومن ثم أرغم صاغراً تحت ضغط الجماهير وسخطها على إطلاق سراحه.
أثر الانتفاضة الجماهيرية العارمة التي واجهها النظام البعثي في بغداد عام 1977 بعد أن حاول منع المسلمين من إحياء ذكرى أربعينية سيد الشهداء (عليه السلام) طلب هذا النظام من شهيدنا الصدر إرسال برقية تأييد للممارسات القمعية والوحشية التي اقترفها النظام في حينه بحق المشاركين في هذه المناسبة، إلا أن سماحته بادر وبذكائه المعهود، وشجاعته المعروفة، بإرسال برقية إلى رأس النظام آنذاك البكر، يحثه فيها على ضرورة احترام الشعائر الإسلامية وعقائد المسلمين، مما حدا بصبية النظام إلى اعتقاله، ومن ثم أفرجوا عنه مرغمين صاغرين.
الشهيد الصدر مفجر الثورة الإسلامية في العراق
لقد كان الشهيد الصدر وجماهير المسلمين كافة في العراق يترقبون بحرارة وأمل كبيرين انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني قدس سره، معتبرين هذا الحدث العظيم في دنيا المسلمين نقطة انعطاف تاريخية وحاسمة في مواجهة الطواغيت والمستكبرين، وهو ما عبر عنه السيد الشهيد في برقيته التاريخية إلى سماحة قائد الأمة الإمام الخميني الكبير (و إنا إذ نتطلع إلى المزيد من انتصاراتكم الحاسمة نضع كل وجودنا في خدمة وجودكم الكبير، ونبتهل إلى المولى سبحانه وتعالى أن يديم ظلكم، ويحقق أملنا في ظل مرجعيتكم وقيادتكم).
وفي الوقت نفسه أخذت الجماهير المسلمة في العراق تعبر عن مشاعرها الجياشة وغبطتها بانتصار الإسلام في إيران من خلال الوفود الشعبية التي بدأت تتقاطر زرافات زرافات على بيته الشريف في النجف الأشرف، من مختلف المدن والقصبات العراقية، مما أثار القلق والرعب في صفوف حكام بغداد، فقاموا باعتقال سماحته في حزيران عام 1979، وأفرج عنه بعد ذلك تحت ضغط شعبي هائل ليفرضوا عليه الإقامة الجبرية، وفي هذه الأثناء أصدر الشهيد فتواه الشهيرة بتحريم الانتماء إلى حزب البعث الحاكم، مما أثار ضغينة البعثيين، وزاد من تخبطهم في مواجهة الهيجان الشعبي، فصعدوا من ممارسة قمعهم وإرهابهم للجماهير خاصة بعد تنحية البكر، وتسلط صدام على مقاليد الأمور في تموز عام 1979.
وفي خضم تلك الظروف الإرهابية والأجواء القمعية كثف الشهيد الصدر في المقابل من تحركه على الساحة كمرجع وثائر، ليوجه بذلك طاقات الأمة من علماء مجاهدين، ومثقفين رساليين، ومؤمنين مضحين، ليضع الجميع في مواجهة حاسمة مع النظام الصليبي الحاقد في العراق، فمن نداءاته الثورية إلى أبناء شعبه ((فعلى كل مسلم في العراق، وعلى ككل عراقي خارج العراق أن يعمل كل ما بوسعه، ولو كلفه ذلك حياته من أجل إدانة هذا النظام، لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب، وتحريره من العصابة اللاإنسانية وتوفير حكم فذ شريف يقوم على أساس الإسلام)).
ولم يستثن الشهيد أحداً من الشعب العراقي في هذه المواجهة، ولم يحدد نهضته بإطار مذهبي معين، أو قومي محدد، وذلك ليسقط من يد السلطة المتفرعنة ورقة الطائفية البغيضة، والعنصرية الميقتة، التي كانت تريد أن تستغلها في خضم الصراع الدائر بينها وبن أبناء الصدر الأبطال، فهو يخاطب شعبه بالقول ((أيها الشعب العظيم إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك، بكل طوائفك وفئاتك، بعربك وأكرادك، وبسنتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخص مذهباً دون آخر، ولا قومية دون أخرى…)).
ولم يحد من عزم الشهيد كل محاولات التهديد والترغيب وحملات البطش والإرهاب بحق أبناء الحركة الإسلامية بل زاده ذلك إيماناً وعزيمة على مواصلة الدرب وتحقيق الظفر لأن الشهيد الصدر في موقفه هذا كان يعبر بحق عن مظلومية الأمة وتطلعاتها، باعتباره مسؤولاً من الناحية الشرعية كمرجع وثائر، وهو يقول بهذا الخصوص ((وإني أعلم أن هذه الطلبات سوف تكلفني غالياً، وقد تكلفني حياتي، ولكن هذه الطلبات ليست طلب فرد، لكنها إرادة أمة وطلبات أمة ومشاعر أمة)).
وهكذا واصل شهيدنا الصدر نهجه الجهادي ومنهجه الرسالي الرافض لنظام الكفر والعمالة حتى آخر لحظة من حياته الشريفة، كان ثمنها أن ضرج بدمائه الزكية شهيداً هو وأخته المظلومة بنت الهدى بعد اعتقال دام ثلاثة أيام ليكون بذلك الأسوة لكل المجاهدين، والنموذج لجميع الثائرين فيا لها من مكرمة إلهية لسيدنا الشهيد، ويا لخزي الدنيا وعذاب الآخرة لقتلته المجرمين.
الشهيد الصدر وموقفه من الثورة الإسلامية في إيران
على الرغم من الجو الإرهابي الخانق، والممارسات البعثية القمعية أعلن السيد الشهيد إسناده المطلق للثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني قدس سره، فنشوته رضوان الله عليه بانتصار هذه الثورة المباركة لا يمكن أن توصف، ولعل في برقياته المرسلة إلى سماحة الإمام حفظه الله، وبياناته التي أصدرها رضوان الله عليه قبل انتصار الثورة الإسلامية وبعدها ما قدمه من بحوث، كلها تشير إلى هذا التأييد والإسناد أليس هو القائل ((ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام)) وهل غيره من المتصدين لشؤون المرجعية في العراق باتوا أكثر منه وضوحاً وجرأة عندما بعث رضوان الله عليه برقيته التاريخية إلى سماحة الإمام الخميني وهو رهن الاحتجاز وليس الإنسان إلا بمقدار ما يعطي، ولقد أعطيتم من وجودكم وحياتكم وفكركم ما يجعلكم مناراً عظيماً على مدى الأجيال.
أنظر إلى أحاسيسه الجياشة والصادقة وهو يهنئ قائد الأمة أمل المستضعفين الخميني العظيم بمناسبة انتصار الثورة الإسلامية ((إني أكتب إليكم في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ أمتنا الإسلامية لأعبر عن اعتزاز لا حد له بما حققه المسلمون من انتصار باهر بقيادتكم الرشيدة)).
ذلك في الواقع ما هو إلا نزر يسير من مواقف هذا الرجل المضحي العظيم من الثورة الإسلامية، فالصدر الشهيد كله عواطف جياشة، ومشاعر فياضة للثورة الإسلامية قيادة وجماهير.
مجلّة الوحدة الإسلاميّة، العدد 86
بغية الراغبين 675-684