الخصائص العامة لفكر الشهيد الصدر

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

يعتقد أستاذنا الشهيد محمد باقر الصدر أن علم الأصول الذي نشأ وترعرع وبلغ رشده على يد علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) قد مرّ بعصور ثلاثة:

«الأوّل: العصر التمهيدي، وهو عصر وضع البذور الأساسية لعلم الأصول، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل وابن الجنيد وينتهي بظهور الشيخ الطوسي.

الثاني: عصر العلم، وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور، وأثمرت وتحدّدت معالم الفكر الأصولي، وانعكست على مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي، ومن رجالاته الكبار:

ابن إدريس الحلّي والمحقّق والعلاّمة الحلّيان والشهيد الأوّل وغيرهم من النوابغ.

الثالث: عصر الكمال العلمي، وهو العصر الذي افتتحته في تاريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدّمته من جهود متضافرة في الميدانين الأصولي والفقهي.

وقد تمثّلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد، وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمّة.

ففي هذه المدّة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة.

ويتمثّل الجيل الأوّل في المحقّقين الكبار من تلامذة الأستاذ الوحيد كالسيّد مهدي بحرالعلوم المتوفى سنة 1212 هـ  والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1227 هـ  والميرزا أبي القاسم القمي المتوفى سنة 1227 هـ والسيد علي الطباطبائي المتوفى سنة 1221 هـ  والشيخ أسدالله التستري المتوفى سنة 1234 هـ.

ويتمثّل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرّجوا على بعض هؤلاء كالشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم المتوفى سنة 1248 هـ، وشريف العلماء محمد شريف بن حسن علي المتوفى سنة 1245 هـ ، والسيد محسن الأعرجي المتوفى سنة 1227 هـ ، والمولى أحمد النراقي المتوفى سنة 1245 هـ ، والشيخ محمد حسن النجفي المتوفى سنة 1266 هـ ، وغيرهم.

وأمّا الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقّق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري الذي ولد بُعيد ظهور المدرسة الجديدة عام 1214 هـ ، وعاصرها في مرحلته الدراسية وهي في أوج نموّها ونشاطها، وقُدّر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمّة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها إليها. ولا يزال علم الأصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الإمامية يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الأستاذ الوحيد»[1].

ولا يخفى أنّ كلّ هذه الأدوار التي مرّ بها علم الأصول إنّما كان بعد أن غُرست بذرة التفكير الأصولي لدى فقهاء أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) منذ أيام الصادقين(عليهما السلام). يقول السيّد الصدر عن هذه المرحلة: «ولا نشكّ في أنّ بذرة التفكير الأصولي وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) منذ أيام الصادقين(عليهما السلام) على مستوى تفكيرهم الفقهي. ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وجّهها عدد من الرواة إلى الإمام الصادق وغيره من الأئمّة(عليهم السلام) وتلقّوا جوابها منهم، فمن ذلك الروايات الواردة في علاج النصوص المتعارضة، وفي حجّية خبر الثقة وفي أصالة البراءة، وفي جواز إعمال الرأي والاجتهاد وما إلى ذلك من قضايا»[2].

ولا نبالغ إذا قلنا: إنّ البحث الأصولي بلغ أوجه على يد السيد الصدر بنحو يمكن أن تعدّ مدرسته الأصولية عصراً رابعاً من عصور تطوّر هذا العلم. يقول السيّد كاظم الحائري أحد أبرز تلامذة الأستاذ الشهيد: «لئن كان الفارق الكيفي بين بعض المراحل وبعض حينما يعتبر طفرة وامتيازاً نوعياً في هوية البحث يجعلنا نصطلح على ذلك بالأعصر المختلفة للعلم، فحقّاً أنّ علم الأصول قد مرّ على يد أستاذنا الشهيد بعصر جديد، فلو أضفناه إلى الأعصر التي قسم إليها فترات العلم في المعالم الجديدة لكان هذا عصراً رابعاً هو عصر ذروة الكمال»[3].

ولست الآن بصدد بيان الملامح والسمات العامة التي تميّزت بها هذه العصور الأربعة من عصور العلم، وما تركته من آثار عميقة وواسعة على عملية الاستنباط عموماً سواء على مستوى القواعد الأصولية أو الأبحاث الفقهية؛ لأنّ ذلك له مجال آخر، وإنّما الذي أريد الوقوف عليه قليلاً، هو بيان بعض السمات والخصائص العامّة التي تميّزت بها المدرسة الفكرية للسيّد الصدر عموماً لاسيما فيما يرتبط بإبداعاته ونظرياته في علم الأصول.

الخصوصية الأولى

في مجال نظرية المعرفة

من السمات البارزة التي تميّزت بها مدرسة السيد الصدر إبداعاته الأساسية في مجال المعرفة الإنسانية، ونعني بها «تناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس، ومحاولة استكشاف الركائز الأوّلية للكيان الفكري الجبّار الذي تملكه البشرية، والإجابة بذلك عن هذا التساؤل: كيف نشأت المعرفة عند الإنسان، وكيف تكوّنت حياته العقلية بكلّ ما تزخر به من أفكار ومفاهيم، وما هو المصدر الذي يمدّ الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك؟»[4].

والمتتبّع للأبحاث الأصولية يعلم جيّداً بأنّ الأصوليين وإن لم يعنونوا البحث عن نظرية المعرفة تحت عنوان مستقل إلاّ أنّ البحث الأصولي امتدّ إلى هذا المجال الأساسي بشكل عميق وواسع، ومن أهم مظاهر ذلك البحث هو ما نجده في «الصراع الفكري الشديد بين الأخباريين والمجتهدين، الذي كان ولا يزال يتمخض عن أفكار جديدة في هذا الحقل»[5].

يقول الأستاذ الشهيد عن تاريخ هذا الصراع: «وقد مُني علم الأصول بعد صاحب المعالم بصدمة عارضت نموّه وعرّضته لحملة شديدة، وذلك نتيجة لظهور حركة الأخبارية في أوائل القرن الحادي عشر على يد الميرزا محمّد أمين الاسترابادي ـ المتوفى سنة 1021 هـ ـ واستفحال أمر هذه الحركة بعده وبخاصة في أواخر القرن الحادي عشر وخلال القرن الثاني عشر»[6].

«وقد قُدّر للاتجاه الأخباري في القرن الثاني عشر أن يتّخذ من كربلاء نقطة ارتكاز له، وبهذا عاصر ولادة مدرسة جديدة في الفقه والأصول نشأت في كربلاء أيضاً على يد رائدها المجدّد الكبير محمّد باقر البهبهاني المتوفى سنة 1206 هـ، وقد نصبت هذه المدرسة الجديدة نفسها لمقاومة الحركة الأخبارية والانتصار لعلم الأصول، حتّى تضاءل الاتجاه الأخباري ومُني بالهزيمة. وقد قامت هذه المدرسة إلى صف ذلك بتنمية الفكر العلمي، والارتفاع بعلم الأصول إلى مستوى أعلى حتّى أنّ بالإمكان القول بأنّ ظهور هذه المدرسة وجهودها المتضافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة مدرسته المحقّقون الكبار قد كان حدّاً فاصلاً بين عصرين من تاريخ الفكر العلمي في الفقه والأصول»[7].

وقد تعرّض الأستاذ الشهيد « ضمن أبحاثه الأصولية لدى مناقشته للأخباريين في مدى حجّية البراهين العقلية على نمط التفكير المنطقي الأرسطي ونقده بما لم يسبقه به أحد، وبعد ذلك طوّر من تلك الأبحاث وأكملَها وأضاف إليها ما لم يكن يناسب ذكره ضمن الأبحاث الأصولية ، فأخرجها بأروع صياغة باسم كتاب: الأسس المنطقية للاستقراء»[8].

وهذا ما أكّده السيد الصدر في تقريرات بحثه حيث قال في معرض حديثه عن الصراع المذكور آنفاً: «إنّ طريقة تولّد المعارف البشرية ـ حسبما يصوّرها المنطق الصوري ـ أنّ الفكر يسير دائماً من معارف أوّلية ضرورية هي أسس المعرفة البشرية إلى استنباط معارف نظرية جديدة بطريقة البرهان والقياس، التي يحدّد صورتها علم المنطق، فأي خطأ يفترض إن كان في الصورة فعلم المنطق هو العاصم منه، وإن كان في مادّة القياس؛ فإن كانت المادة أوّلية فلا مجال لوقوع الخطأ فيها، وإن كانت ثانوية مستنتجة فلا محالة تكون مستنتجة من برهان وقياس فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى خطأ يكون في الصورة؛ لأنّ المعارف الأوّلية لا خطأ فيها بحسب الفرض لكونها ضرورية. وقد اصطلح على المعارف الأوّلية في الفكر البشري بمدركات العقل الأوّل وعلى المعارف المستنتجة منها بمدركات العقل الثاني.

إلاّ أنّ هذا التصوّر أساساً غير صحيح على ما شرحناه مفصّلاً في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء. فإنّ هذا البحث كان منشأً لانتقالنا إلى نظرية جديدة للمعرفة البشرية استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال ألفي سنة»[9].

ولكي يتّضح الدور المهم الذي قام به السيّد الشهيد في بناء المعرفة الإنسانية لا بأس بالإشارة ـ ولو إجمالاً ـ إلى ما كان عليه المنطق الأرسطي؛ لبيان كيفية توالد المعرفة الإنسانية، وما انتهى إليه السيد الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء.

نعلم جميعاً أنّ الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري يمكن تقسيمه إلى قسمين رئيسيين:

«أحدهما الاستنباط، والآخر الاستقراء، ولكل من الدليل الاستنباطي والدليل الاستقرائي منهجه الخاص وطريقه المتميّز.

ونريد بالاستنباط: كلّ استدلال لا تكبر نتيجته المقدّمات التي تكوّن منها ذلك الاستدلال. ففي كلّ دليل استنباطي تجيء النتيجة دائماً مساوية أو أصغر من مقدّماتها، فيقال مثلا: محمّد إنسان، وكلّ إنسان يموت، فمحمّد يموت. ويقال أيضاً: الحيوان إمّا صامت وإمّا ناطق، والصامت يموت والناطق يموت، فالحيوان يموت.

ففي قولنا الأول استنتجنا أنّ محمّداً يموت بطريقة استنباطية، وهذه النتيجة أصغر من مقدّماتها لأنّها تخصّ فرداً من الإنسان وهو محمّد، بينما المقدّمة القائلة: “كلّ إنسان يموت” تشمل الأفراد جميعاً. وبذلك يتّخذ التفكير في هذا الاستدلال طريقه من العام إلى الخاص فهو يسير من الكلّي إلى الفرد ومن المبدأ العام إلى التطبيقات الخاصة.

ويطلق المنطق الأرسطي على الطريقة التي انتهجها الدليل الاستنباطي في هذا المثال اسم «القياس» ويعتبر الطريقة القياسية هي الصورة النموذجية للدليل الاستنباطي.

وفي قولنا الثاني استنتجنا أنّ الحيوان ـ أيّ حيوان ـ يموت بطريقة استنباطية أيضاً، ولكن النتيجة مساوية للمقدّمة التي ساهمت في تكوين الدليل عليها القائلة: “الصامت يموت والناطق يموت” لأنّ الصامت والناطق هما كلّ الحيوان بموجب المقدّمة الأخرى القائلة: الحيوان إمّا صامت وإمّا ناطق.

ونريد بالاستقراء: كلّ استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدّمات التي ساهمت في تكوين ذلك الاستدلال، فيقال مثلاً، هذه القطعة من الحديد تتمدّد بالحرارة، وتلك تتمدّد بالحرارة، وهذه القطعة الثالثة تتمدّد بالحرارة أيضاً، إذن كلّ حديد يتمدّد بالحرارة. وهذه النتيجة أكبر من المقدّمات ؛ لأنّ المقدّمات لم تتناول إلاّ كميّة محدودة من قطع الحديد ثلاث قطع أو أربع قطع… أو ملايين، بينما النتيجة تناولت كلّ حديد وحكمت بأنه يتمدّد بالحرارة، وبذلك شملت القطع الحديدية التي لم تدخل في المقدّمات ولم يجر عليها الفحص. ومن أجل هذا يعتبر السير الفكري في الدليل الاستقرائي معاكساً للسير في الدليل الاستنباطي الذي يصطنع الطريقة القياسية، فبينما يسير الدليل الاستنباطي ـ وفق الطريقة القياسية ـ من العام إلى الخاص عادة، يسير الدليل الاستقرائي ـ خلافاً لذلك ـ من الخاص إلى العام.

ومنذ بدأ الإنسان يدرس مناهج الاستدلال والتفكير ويحاول تنظيمها منطقياً طرح على نفسه السؤال التالي: هب أنّ المقدّمات التي تقرّرها في الدليل الاستنباطي أو الاستقرائي صحيحة حقّاً، فكيف يتاح لك أن تخرج منها بنتيجة وتتخذ تلك المقدّمات سبباً كافياً لتبرير الاعتقاد بهذه النتيجة؟ وقد أدرك الإنسان لدى مواجهة هذا السؤال فارقاً أساسياً بين الاستنباط والاستقراء، واكتشف على هذا الأساس ثغرة في تركيب الدليل الاستقرائي لا يوجد في الدليل الاستنباطي ما يماثلها.

ففي الاستنباط يرتكز استنتاج النتيجة من مقدّماتها ـ دائماً ـ على مبدأ عدم التناقض، ويستمدّ مبرره المنطقي من هذا المبدأ، لأنّ النتيجة في حالات الاستنباط مساوية لمقدّماتها أو أصغر منها ـ كما تقدّم ـ فمن الضروري أن تكون النتيجة صادقة إذا صدقت المقدّمات؛ لأن افتراض صدق المقدّمات دون النتيجة يستبطن تناقضاً منطقياً ما دامت النتيجة مساوية أو أصغر من مقدّماتها أي مستبطنة بكامل حجمها في تلك المقدّمات.

وهكذا نجد أن الاستدلال الاستنباطي صحيح من الناحية المنطقية ، وأن الانتقال فيه من المقدّمات إلى النتيجة ضروري على أساس مبدأ عدم التناقض.

وأمّا في حالات الاستقراء فإنّ الدليل الاستقرائي يقفز من الخاص إلى العام؛ لأنّ النتيجة في الدليل الاستقرائي أكبر من مقدّماتها وليست مستبطنة فيها، فهو يقرّر في المقدّمات أن كمية محدودة من قطع الحديد لوحظ تمدّدها بالحرارة، ويخرج من ذلك بنتيجة عامة وهي “أن كلّ حديد يتمدّد بالحرارة”.

وهذا الانتقال من الخاص إلى العام لا يمكن تبريره على أساس مبدأ عدم التناقض كما رأينا في حالات الدليل الاستنباطي؛ لأنّ افتراض صدق المقدّمات وكذب النتيجة لا يستبطن تناقضاً. فبالإمكان أن نفترض أنّ تلك الكمية المحدودة من القطع الحديدية قد تمدّدت بالحرارة فعلاً ونفترض في نفس الوقت أنّ التعميم الاستقرائي القائل “إنّ كلّ حديد يتمدّد بالحرارة” خطأ، دون أن نقع في تناقض منطقي، لأنّ هذا التعميم غير مستبطن في الافتراض الأوّل.

وهكذا نعرف أن منهج الاستدلال في الدليل الاستنباطي منطقي، ويستمدّ مبرّره من مبدأ عدم التناقض، وخلافاً لذلك منهج الاستدلال في الدليل الاستقرائي فإنّه لا يكفي لتبريره منطقياً مبدأ عدم التناقض، ولا يمكن على أساس هذا المبدأ تفسير القفزة التي يصطنعها الدليل الاستقرائي في سيره من الخاص إلى العامّ وما تؤدّي إليه من ثغرة في تكوينه المنطقي»[10].

وبناءً على ذلك يتّضح لماذا آمن المنطق الأرسطي بأنّ الاستدلال القياسي إذا كانت مقدّماته ـ مادّة وصورة ـ يقينيّة يفيد اليقين، بخلافه في الدليل الاستقرائي.

وتظهر أهمّية الدليل الاستقرائي من جهة أن جميع العلوم الطبيعية من فيزيائية وطبّية وفلكية ونحوها؛ كلّها تعتمد الملاحظة والتجربة للانتهاء إلى التعميمات التي تصل إليها.

ومن هنا حاول المنطق الأرسطي إرجاع الدليل الاستقرائي (الذي يسير من الخاص إلى العام) إلى الدليل القياسي (الذي يسير من العام إلى الخاص) وذلك تخلّصاً من تلك الثغرة التي يتركّب منها تكوينه المنطقي.

توضيحه: «أنّ الدليل الاستقرائي بعد أن يحصل خلال الاستقراء الناقص على عدد كبير من الأمثلة، ينطلق من ذلك المبدأ العقلي، ويتّخذ الشكل القياسي في الاستدلال، فيقرّر أنّ ظاهرة (أ) وظاهرة (ب) قد اقترنتا خلال الاستقراء في مرّات كثيرة، وكلّما اقترنت ظاهرتان بكثرة فإحداهما سبب للأخرى؛ لأنّ الاتّفاق لا يكون دائمياً ولا أكثرياً، ويستنتج من ذلك أن (أ) سبب لـ (ب).

وهذا استدلال قياسي بطبيعته، لأنّه يسير من العام إلى الخاص، وليس من نمط الاستدلال الاستقرائي الذي يسير من الخاص إلى العام. وإذا ثبت باستدلال قياسي يسير من العام إلى الخاص أن بين الحرارة وتمدّد الحديد رابطة سببية، استطعنا أن نؤكّد أنّ الحديد يتمدّد كلّما تعرّض للحرارة لأنّ المسبَّب يوجد كلّما وُجد سببه.

وعلى هذا الضوء يتّضح أن الدليل الاستقرائي في المنطق الأرسطي يستبطن قياساً. فهو في الحقيقة دليل قياسي يسير من العام إلى الخاص، وليس دليلاً استقرائياً يسير من الخاص إلى العام.

ويسمّي المنطق الأرسطي هذا الدليل الاستقرائي ـ بما يستبطن من قياس ـ تجربة، ويعتبر التجربة أحد مصادر المعرفة ـ أي من القضايا اليقينيّة في المنطق الأرسطي ـ ويؤمن بقيمتها المنطقية وإمكان قيام العلم على أساسها، خلافاً للاستقراء الناقص الذي يمثّل أحد عنصري التجربة ويعطي صغرى القياس المستبطن فيها. فالتمييز بين التجربة والاستقراء الناقص في المنطق الأرسطي يقوم على أساس أنّ الاستقراء الناقص مجرّد تعبير عددي عن الأمثلة التي لوحظت خلال الاستقراء، وأمّا التجربة فهي تتألّف من ذلك الاستقراء ومن مبدأ عقلي مسبق يتكوّن منهما معاً قياس منطقي كامل»[11].

وهكذا نعرف لماذا يقول المنطق الأرسطي تارة: إنّ الاستقراء الناقص لا يفيد علماً، ويقول أخرى: إنّ التجربة تفيد العلم، بل تجعل المجرّبات من اليقينيات التي يقوم عليها صرح المنطق الأرسطي، حيث إنّه يريد بالاستقراء الناقص الذي لا يفيد العلم تلك الحالة التي نشاهدها من خلال إجراء التجربة على بعض الظواهر الطبيعية من دون أن يضاف إليها أيّ مبدأ عقلي مسبق يكون كبرى عملية الاستدلال، ويريد بالتجربة التي تفيد العلم تلك الظواهر الطبيعية إذا أمكن تطبيق المبدأ العقلي القائل إنّ الصدفة والاتفاق لا يكون دائمياً ولا أكثرياً؛ ليتألّف من الاستقراء الناقص وذلك المبدأ العقلي قياس منطقي كامل يبرهن على التعميم الذي نريد الوصول إليه.

يقول المحقّق الطوسي في شرحه لمنطق الإشارات «المجرّبات تحتاج إلى أمرين: أحدهما: المشاهدة المتكرّرة، والثاني القياس الخفيّ»[12].

إذن النقطة المركزية في المنطق الأرسطي هو أنّ الاستقراء الناقص ـ لكي يفيد علماً ـ لابدّ أن يستبطن قياساً خفيّاً، فيكون الاستقراء صغرى القياس، والقضية القائلة: “إنّ الصدفة لا تكون دائمية ولا أكثرية” كبرى القياس. هذا أوّلاً.

وثانياً: أنّ هذه الكبرى إنّما يؤمن بها المنطق الأرسطي كقضية قبلية «أي أنه مدرك للعقل بصورة مستقلّة عن الاستقراء والتجربة لأنّه إذا كان مستخلصاً من الاستقراء والتجربة فلا يمكن أن يعتبر أساساً للاستدلال الاستقرائي وشرطاً ضرورياً للتعميمات الاستقرائية، إذ يصبح هو بنفسه واحداً من تلك التعميمات الاستقرائية، فيتوجّب على المنطق الأرسطي ـ وهو يحاول أن يتّخذ من ذلك المبدأ أساساً منطقياً للاستدلال الاستقرائي عموماً ـ أن يمنحه طابعاً عقلياً خالصاً ويؤمن به بوصفه معرفة عقلية قبلية مستقلّة عن الاستقراء والتجربة»[13].

وهنا تكمن نقطة الخلاف الجوهرية بين المنطق الأرسطي وبين ما أسماه الأستاذ الشهيد بالمنطق الذاتي[14] الذي وضع قواعده في كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» حيث يرى «أنّ المبدأ الذي ينفي تكرّر الصدفة النسبية باستمرار ليس معرفة عقلية قبلية بل هو ـ إذا قبلناه ـ ليس على أفضل تقدير إلا نتاج استقراء للطبيعة، كشف عن عدم تكرّر الصدفة النسبية فيها على خط طويل، وإذا كان هذا المبدأ بنفسه معطىً استقرائياً فلا يمكن أن يكون هو الأساس للاستدلال الاستقرائي، بل يتوجّب عندئذ الاعتراف بأنّ الأمثلة التي يعرضها الاستقراء كافية للاستدلال على قضية كلّية وتعميم استقرائي دون حاجة إلى إضافة ذلك المبدأ الأرسطي إليها»[15].

وبكلمة واضحة: إنّ الأستاذ الشهيد يعتقد أننا يمكن أن ننتهي إلى النتائج الكلّية من خلال نفس الاستقراء الناقص وذلك من خلال المنطق الذاتي، بلا حاجة إلى ما تكلّفه المنطق العقلي في الاتجاه الأرسطي من إرجاع الدليل الاستقرائي الذي يسير من الخاص إلى العام، إلى الدليل القياسي الذي يسير من العام إلى الخاص.

يقول بهذا الصدد: «ويكفي هنا أن نسجّل رأينا هذا دون أن ندخل في تفاصيله، تاركين ذلك إلى القسم الثالث من هذا الكتاب، حيث نستعرض ـ بشمول وعمق ـ النظرية التي يتبنّاها هذا الكتاب في تفسير الدليل الاستقرائي، والتي تؤكّد أن الاستقراء يؤدّي إلى التعميم بدون حاجة إلى أي مصادرات قبلية، وسوف يبدو بوضوح في ضوء تلك النظرية أنّ المصادرات الثلاث التي آمن بها المنطق الأرسطي وربط مصير الدليل الاستقرائي بها يمكن إثباتها جميعاً بالاستقراء نفسه كما نثبت أي تعميم من التعميمات الأخرى عن طريق الدليل الاستقرائي»[16].

هذه هي خلاصة المحاولة التي قام بها الأستاذ الشهيد في هذه «الدراسة الشاملة للكشف عن الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي، الذي يضمّ كلّ ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة، واستطاعت أن تقدّم اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة يفسّر الجزء الأكبر منها تفسيراً استقرائياً مرتبطاً بتلك الأسس المنطقية التي كشف عنها البحث»[17].

وممّا تقدّم اتّضح أنّ السيد الصدر لم يهدم ما بناه المنطق الأرسطي برمّته كما قد يُتوهّم، وإنّما أضاف طريقاً آخر لتوالد المعرفة البشرية، وهذا ما يصرّح به في مواضع متعدّدة.

قال في مباحث الأصول: «والصحيح في دفع منشأ التشكيك للأخباري أن يقال: إنّ العقل العملي ينقسم إلى قسمين، عقل أوّل وعقل ثان، كما قسّموا العقل النظري إلى قسمين، بديهي أوّلي وبرهاني ثانوي ونحن أضفنا إليهما الإدراك بحساب الاحتمالات[18].

وقال في الأسس المنطقية في تفسير نمو المعرفة: «إنّ المعارف القبلية الأوّلية كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ وكيف يمكننا أن نستنتج من القضايا التي تشكّل الأساس الأوّل للمعرفة قضايا أخرى وهكذا حتّى يتكامل البناء؟

وفي هذه النقطة يختلف المذهب العقلي مع المذهب الذاتي اختلافاً أساسياً. فالمذهب العقلي لا يعترف عادة إلاّ بطريقة واحدة لنموّ المعرفة وهي طريقة التوالد الموضوعي، بينما يرى المذهب الذاتي أنّ في الفكر طريقتين لنمو المعرفة إحداهما التوالد الموضوعي، والأخرى التوالد الذاتي ويعتقد المذهب الذاتي بأنّ الجزء الأكبر من معرفتنا بالإمكان تفسيره على أساس التوالد الذاتي»[19].

وأمّا المعطيات الأساسية التي تحقّقت من خلال هذه الدراسة فهي:

أ: على مستوى الأصول العقائدية

يقول السيّد الصدر: «إنّ هذه الدراسة تبرهن على حقيقة في غاية الأهمّية من الناحية العقائدية وهي الهدف الحقيقي الذي توخّينا تحقيقه عن طريق تلك الدراسة، وهذه الحقيقة هي أنّ الأسس المنطقية التي تقوم عليها كلّ الاستدلالات العلمية المستمدّة من الملاحظة والتجربة هي نفس الأسس المنطقية، التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبّر لهذا العالم من طريق ما يتّصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير، فإنّ هذا الاستدلال ـ كأي استدلال علمي آخر ـ استقرائي بطبيعته وتطبيق للطريقة العامّة التي حدّدناها للدليل الاستقرائي في كلتا مرحلتيه.

فالإنسان بين أمرين ـ فهو إمّا أن يرفض الاستدلال العلمي ككلّ، وإمّا أن يقبل الاستدلال العلمي ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي.

وهكذا نبرهن على أنّ العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن ـ من وجهة النظر المنطقية للاستقراء ـ الفصل بينهما»[20].

ومن هنا نجد أن الأستاذ الشهيد حاول في مقدّمة كتابه «الفتاوى الواضحة» تأسيس أصول العقائد من خلال نظرية الاحتمال التي انتهى إليها، فنراه يقول بصدد إثبات الصانع الحكيم المدبّر لهذا العالم: «وسنعرض فيما يلي لنمطين من الاستدلال على وجود الصانع الحكيم سبحانه، يتمثّل في كلّ منهما معطيات الحسّ والتجربة من ناحية وتنظيمها عقلياً، واستنتاج أن للكون صانعاً حكيماً من خلال ذلك. والنمط الأوّل نطلق عليه اسم الدليل العلمي (الاستقرائي). والنمط الثاني نطلق عليه اسم الدليل الفلسفي»، ومقصوده من الدليل العلمي هو «كلّ دليل يعتمد الحسّ والتجربة ويتّبع المنهج الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات»[21].

وأمّا فيما يرتبط بنبوّة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فيقول: « كما ثبت الصانع الحكيم بالدليل الاستقرائي ومناهج الاستدلال العلمي كذلك نثبت نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) بالدليل العلمي الاستقرائي، وبنفس المناهج التي نستخدمها في الاستدلال على الحقائق المختلفة في حياتنا الاعتيادية وحياتنا العلمية»[22].

ب: على مستوى علم الأصول

وكذلك الحال عندما نأتي إلى الأبحاث الأصولية، نجد أنّ من السمات الواضحة في مدرسة الشهيد الصدر هو الاعتماد في كثير من أسسها على نظرية الاحتمال، ومن الأمثلة البارزة على ذلك أنّه أقام صرح أكثر الأبحاث المرتبطة بالحجج والأمارات والأصول العملية على أساس حساب الاحتمالات، كالسيرة والظهور والتواتر والإجماع ونحوها.

يقول السيد الشهيد: «بعد أن تكلّمنا عن الدلالات العامّة للدليل الشرعي نريد أن نتكلّم الآن عن وسائل إثبات صدور الدليل من الشارع، وهي على نحوين: أحدهما وسائل الإثبات الوجداني، والآخر وسائل الإثبات التعبّدي.

والمقصود بالإثبات الوجداني اليقين، ولما كانت وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي بالنسبة إلينا كلّها وسائل تقوم على أساس حساب الاحتمال كالتواتر والإجماع ونحوهما…»[23].

وتأسيساً على ذلك نحاول هنا ذكر بعض الأمثلة لبيان الفرق بين المنهج المعروف لتحقيق تلك المسائل والمنهج الذي أسّسه السيّد الصدر ، وهي: التواتر، والإجماع، والشهرة.

1ـ التواتر

ينقسم الخبر إلى خبر علمي مفيد لليقين الحقيقي أو العرفي أو الاطمئنان، وخبر غير علمي. والأوّل أوضح مصاديقه الخبر المتواتر. وقد عُرّف الخبر المتواتر أو القضية المتواترة في المنطق الأرسطي بأنّها «اجتماع عدد كبير من المخبرين على قضية بنحو يمتنع تواطؤهم على الكذب نتيجة كثرتهم العددية» وعندما ندقّق في هذا التعريف نجد أنّه ينحلّ إلى صغرى وكبرى. أمّا الصغرى فهي اجتماع عدد كبير على الإخبار بقضيّة معيّنة. وأمّا الكبرى فحكم العقل الأوّلي بأن كلّ عدد من هذا القبيل يمتنع تواطؤهم على الكذب. وبضمّ إحداهما إلى الأخرى يستنتج على طريقة القياس حقانيّة القضية المتواترة وصدقها، والقضية الأولى ـ وهي الصغرى ـ خارجية، والثانية عقلية أوّلية وليست مستمدّة من الخارج والتجربة.

ومن هنا جعل المنطق الأرسطي القضية المتواترة إحدى القضايا الستّ الأوّلية في كتاب البرهان؛ لأنّ كبراها عقلية أوّلية، وإلاّ فنفس القضية المتواترة بحسب التحليل قضية مستنتجة بالاستدلال القياسي الاستنباطي بحسب المصطلح الحديث، وهي ما تكون النتيجة دائماً مستبطنة في المقدّمات وليست أكبر منها، في قبال الاستدلال الاستقرائي الذي تكون النتيجة المتحصّلة فيه أكبر من المقدّمات. وسنخ هذا ذكره المنطق الأرسطي أيضاً في القضايا التجريبية، والتي جعلها أيضاً إحدى القضايا الست؛ لأنّ الكبرى القائلة “إنّ الصدقة لا تكون دائمية” مضمرة فيها.

«وقد رفض الأستاذ الشهيد في منطق الاستقراء كلّ هذه الكلمات ، فلا توجد هناك كبريات عقلية أوّلية في باب التواتر والتجربة تقتضي بامتناع التواطؤ على الكذب، أو امتناع غلبة الصدفة كقضايا أوّلية قبلية يؤمن بها العقل، وإنّما هذه الكبريات بأنفسها قضايا تثبت بالاستقراء والمشاهدة أي إنّها قضايا غير أوّلية، بحيث لو قطعنا النظر عن العلم الخارجي، ومقدار تكرّر الصدفة أو التواطؤ على الكذب فيها، لكنّا نحتمل عقلاً تكرّر الصدفة دائماً والتواطؤ على الكذب من جمع غفير. وإنّما ننفي ذلك بعد التجربة والمشاهدة لعالم الخارج ، وليس حكم عقولنا في مثل هذه القضايا كحكمه باستحالة اجتماع النقيضين ـ كما يدّعي المنطق الأرسطي ـ إذن فهذه قضايا تجريبية بنفسها، غاية الأمر أكبر من القضايا التجريبية الخاصة في كلّ مورد مورد، فتكون محكومة للقوانين المنطقية التي تحكم على التجربة والاستقراء، وهي قوانين حساب الاحتمال والتوالد الموضوعي أوّلاً؛ ثمّ قوانين المنطق الذاتي والتوالد غير الموضوعي ثانياً»[24].

«وإذا دققنا النظر وجدنا أن الكبرى التي تعتمد عليها القضايا المتواترة مردّها إلى نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضية التجريبية، لأن كذب المخبر يعني افتراض مصلحة شخصية دعته إلى إخفاء الواقع، وكذب العدد الكبير من المخبرين يعني افتراض أن مصلحة المخبر الأول في الاخفاء اقترنت ـ صدفة ـ بمصلحة المخبر الثاني في الاخفاء ، والمصلحتان معاً اقترنتا ـ صدفة ـ بمصلحة المخبر الثالث في الشيء نفسه، وهكذا على الرغم من اختلاف ظروفهم وأحوالهم، فهذا يعني أيضاً تكرّر الصدفة مرّات كثيرة.

وعلى هذا الأساس أرجع المنطق الاستدلال على القضية التجريبية والقضية المتواترة إلى القياس المكوّن من المقدّمتين المشار إليهما، واعتقد بأن القضية المستدلّة ليست بأكبر من مقدّماتها. ولكن الصحيح أن اليقين بالقضية التجريبية والمتواترة يقين موضوعي استقرائي، وأن الاعتقاد بها حصيلة تراكم القرائن الاحتمالية الكثيرة في مصبّ واحد، فإخبار كلّ مخبر قرينة احتمالية، ومن المحتمل بطلانها لإمكان وجود مصلحة تدعو المخبر إلى الكذب، وكلّ اقتران بين حادثتين قرينة احتمالية على العلية بينهما، ومن المحتمل بطلانها ـ أي القرينة ـ لإمكان افتراض وجود علّة أخرى غير منظورة هي السبب في وجود الحادثة الثانية، غير أنها اقترنت بالحادثة الأولى صدفة، فإذا تكرّر الخبر أو الاقتران تعدّدت القرائن الاحتمالية، وازداد احتمال القضية المتواترة أو التجريبية، وتناقص احتمال نقيضها حتى يصبح قريباً من الصفر جداً، فيزول تلقائياً لضآلته الشديدة»[25].

وهنا قد يقال: إنّ تناقص احتمال النقيض لا يجعله صفراً، وهذا ما صرّح به السيد الصدر، فكيف يصل الإنسان إلى اليقين مع وجود احتمال النقيض ولو بنحو الكسر الضئيل؟

وقد أجاب السيد الصدر عن ذلك بأنّ هناك مصادرة يفترضها الدليل الاستقرائي في مرحلته الثانية لا ترتبط بالواقع الموضوعي، ولا تتحدّث عن حقيقة من حقائق العالم الخارجي، وإنما ترتبط بالمعرفة البشرية نفسها، ويمكن تلخيص المصادرة كما يلي:

«كلّما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد فحصل هذا المحور ـ نتيجة لذلك ـ على قيمة احتمالية كبيرة، فإنّ هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحوّل ـ ضمن شروط معيّنة ـ إلى يقين. فكأن المعرفة البشرية مصمَّمة بطريقة لا تتيح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جدّاً، فأي قيمة احتمالية صغيرة تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة، وهذا يعني: تحوّل هذه القيمة إلى يقين، وليس فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة نتيجة لتدخّل عوامل بالإمكان التغلّب عليها والتحرّر منها، بل إنّ المصادرة تفترض أن فناء القيمة الصغيرة وتحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقين يفرضه التحرك الطبيعي للمعرفة البشرية، نتيجة لتراكم القيم الاحتمالية في محور واحد بحيث لا يمكن تفاديه والتحرّر منه، كما  لا يمكن التحرّر من أي درجة من الدرجات البديهية للتصديق المعطاة بصورة مباشرة، إلاّ في حالات الانحراف الفكري»[26].

ومنه يتضح وجه زوال ذلك الكسر الضئيل والانتقال إلى اليقين.

إلى هنا اتضح أنّ القضية المتواترة والتجريبية لا تستند إلى قضايا قبلية أولية ـ كما يعتقد المنطق الأرسطي ـ وإنّما هي قضايا غير أوّلية، وقد برهن الأستاذ الشهيد على هذه الدعوى ببراهين عديدة نقتصر هنا على واحد منها هو:

«نجد أن حصول اليقين بالقضية المتواترة والتجريبية يرتبط بكل ما له دخل في تقوية القرائن الاحتمالية نفسها، فكلّما كانت كلّ قرينة احتمالية أقوى وأوضح كان حصول اليقين من تجمع القرائن الاحتمالية أسرع. وعلى هذا الأساس نلاحظ أن مفردات التواتر إذا كانت إخبارات يبعد في كلّ واحد منها احتمال الاستناد إلى مصلحة شخصية تدعو إلى الإخبار بصورة معينة، ا ما لوثاقة المخبر أو لظروف خارجية، حصل اليقين بسببها بصورة أسرع، وكذلك الحال في الاقترانات المتكرّرة بين الحادثتين، وليس ذلك إلاّ لأنّ اليقين في المتواترات والتجريبيات ناتج عن تراكم القرائن الاحتمالية وتجمّع قيمها الاحتمالية المتعدّدة في مصبّ واحد، وليس مشتقاً من قضية عقلية أولية كتلك الكبرى التي يفترضها المنطق»[27].

وإلاّ لو كانت هذه القضايا كما يدّعيه المنطق الأرسطي لما كان هناك أي تأثير لزيادة عدد المخبرين وقلّتهم أو وثاقتهم وعدم ذلك، كما لا نجد ذلك في القضايا العقلية الأوّلية ـ كقضية اجتماع النقيضين ممتنع ـ فانها لا تزداد رسوخاً كلما ازدادت الأمثلة والمصاديق لها.

ويترتّب على هذا الفارق المنهجي بين التفسيرين للقضية المتواترة وغيرها، أنّه على المنهج الموروث في المنطق الأرسطي يستحيل الانفكاك ـ عقلاً ـ بين القضية المتواترة وصدقها، فالملازمة بينهما عقلية كالملازمة الموجودة بين الزوجية والأربعة، وهذا بخلافه في المنهج الاستقرائي فإنّه لا ملازمة عقلية بين القضية المتواترة وصدقها، ومن ثم فيمكن عقلاً الانفكاك بينهما وإن لم يقع ذلك خارجاً كما يقوله هذا الاتجاه، وذلك لأن « كلّ خبر خبر في القضية المتواترة يحتمل نشوؤه من مناشئ محفوظة حتى مع كذب القضية، فلا ملازمة عقلية كما بُرهن على ذلك في كتاب الأسس المنطقية، وإنّما الاستكشاف مبني على أسس الدليل الاستقرائي المبتني على أساس حساب الاحتمالات»[28].

قال السيد الصدر: «والصحيح أنه لا ملازمة بين التواتر وثبوت القضية المتواترة، وهذا لا ينفي أننا نعلم بالقضية القائلة “كلّ قضية ثبت تواترها فهي ثابتة” لأن العلم بأن المحمول لا ينفك عن الموضوع غير العلم بأنه لا يمكن أن ينفك عنه، والتلازم يعني الثاني، وما نعلمه هو الأول على أساس تراكم القيم الاحتمالية وزوال الاحتمال المخالف لضآلته لا لقيام برهان على امتناع محتمله عقلاً»[29].

2ـ الإجماع

قُسم الإجماع في كلمات الأصوليين إلى أقسام:

منها المحصّل والمنقول. ومنها البسيط والمركّب.

ومقصودهم من التقسيم الأوّل:

أ ـ الإجماع المحصّل: هو الذي يحصّل الفقيه العلم به عن طريق الحسّ والتتبّع، لا عن طريق النقل والسماع.

ب ـ الإجماع المنقول: وهو نقل الإجماع المحصّل مروياً إلى الآخرين بلسان فقيه أو أكثر، فإذا نقله إلى الآخرين الذين لم يحصّلوه كان الإجماع منقولاً بالنسبة إليهم بخبر الواحد»[30].

ويقسم الإجماع إلى بسيط ومركب:

أ ـ الإجماع البسيط: هو الاتفاق على رأي معيّن في المسألة.

ب ـ الإجماع المركّب: هو انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة وجوه أو أكثر، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتاً بالإجماع المركّب»[31].

والحديث هنا إنّما هو عن الإجماع المحصّل البسيط.

فنقول: اختلفت كلمات الأصوليين حول حجّية مثل هذا الإجماع على مسالك متعدّدة:

المسلك الأوّل: هو المنسوب إلى بعض الأقدمين من أصحابنا؛ ومن جملتهم الشيخ الطوسي، ويبتني على أساس قاعدة اللطف، ومؤدّى هذا المسلك هو حكم العقل بلزوم تدخّل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ.

المسلك الثاني: هو قيام دليل شرعي على حجّية الاجتماع ولزوم التعبّد بمفاده كما قام على حجّية خبر الثقة والتعبّد بمفاده. وبناءً على هذا المسلك فحجّية الإجماع من باب الأمارات المنطقية التي قد تخالف الواقع.

المسلك الثالث: هو الذي يقوم على أساس إخبار المعصوم وشهادته بأن الإجماع لا يخالف الواقع، كما في الحديث المدّعى «لا تجتمع أمّتي على خطأ» ونحوه. وبناءً على هذا الوجه فالإجماع كاشف عن الحكم الواقعي.

المسلك الرابع: هو إثبات حجّية الإجماع بلحاظ مدركات العقل النظري. وبيانه: «أن الأصوليين قسّموا الملازمة ـ كما نلاحظ في الكفاية وغيرها ـ إلى ثلاثة أقسام، ثم بحثوا عن تحقّق أي واحد منها بين الإجماع والدليل الشرعي، وهي الملازمة العقلية والعادية والاتفاقية ومثّلوا للأولى بالملازمة بين تواتر الخبر وصدقه، وللثانية بين اتفاق المرؤوسين على شيء ورأي رئيسهم، وللثالثة بين الخبر المستفيض وصدقه»[32].

هذه هي أهم المسالك الموجودة في حجّية الإجماع، إلاّ أن السيد الشهيد رفض جميع هذه الوجوه والاستدلالات وآمن بحجية الإجماع ـ في موارد الحجّية ـ على أساس آخر، وتقوم تلك الفكرة في تفسير كشف الإجماع على أساس حساب الاحتمالات، وذلك من خلال «أنّ الفقيه لا يفتي بدون اعتقاد للدليل الشرعي عادة، فإذا أفتى فهذا يعني اعتقاده للدليل الشرعي، وهذا الاعتقاد يحتمل فيه الإصابة والخطأ معاً، وبقدر احتمال الإصابة يشكل قرينة احتمالية لصالح إثبات الدليل الشرعي، وبتراكم الفتاوى تتجمّع القرائن الاحتمالية لإثبات الدليل الشرعي بدرجة كبيرة تتحوّل بالتالي إلى يقين لتضاؤل احتمال الخلاف»[33].

فهنا وإن كان احتمال الخطأ في فتوى كلّ فقيه وارداً «إلاّ أنّه بملاحظة مجموع الفقهاء المجمعين، وإجراء حسابات الاحتمال فيها عن طريق ضرب احتمالات الخطأ بعضها بالبعض، نصل إلى مرتبة القطع والاطمئنان على أقل تقدير بعدم خطئها جميعاً وهو حجّة على كلّ حال».

ومنه يتضح «أن روح الكاشفية وملاكها في كلّ من التواتر والإجماع وإن كان واحداً إلاّ أن هناك نقاط ضعف عديدة في الإجماع توجب بطء حصول اليقين منه، بل وعدم حصوله في كثير من الأحيان غير موجودة في التواتر»[34].

وبالالتفات إلى ما تقدّم «يتبيّن ما معنى ما استقر عليه رأي المتأخّرين من الأصوليين بحسب ارتكازهم من أنّ الإجماع بالملازمة الاتفاقية يكشف عن قول المعصوم، فإنّ هذا مدركه الفني ما ذكرناه من أنّ كاشفية الإجماع إنّما هي بنكتة حساب الاحتمالات، وهو يتأثر بعوامل وضوابط عامة وخاصة متعدّدة، ولهذا تختلف الإجماعات من حيث الكشف المذكور حسب اختلاف مواردها وخصائصها. كما أنه باكتشاف ضوابط الكشف الرئيسية يُقضى على الفوضى الفقهية في الاستدلال بالإجماع، إذ قلّما يمكن تحديد وتفسير مواقف بعض الفقهاء في مجموع المسائل الفقهية حيث قد يناقش الإجماع في مسألة وقد لا يناقش في أخرى»[35].

وممّا تقدّم في بحث الإجماع يتّضح الكلام في حجية الشهرة، وأنها أيضاً قائمة على أساس حساب الاحتمالات وتراكمها حتى يحصل اليقين أو الاطمئنان بالحكم على أساسها، إلاّ أنّ جريان حساب الاحتمالات فيها أضعف من جريانه في باب الإجماع، لسببين:

الأوّل: قصور كمية الأقوال والفتاوى لأنّ المفروض عدم اتفاق كلّ العلماء.

الثاني: معارضتها بفتاوى غير المشهور لو كانت مخالفة، فتكون مزاحمة مع حساب الاحتمالات في فتاوى المشهور. ولهذا يكون الغالب عدم إنتاج حساب الاحتمالات في باب الشهرة فلا تكون حجّة غالباً»[36].

هذه هي بعض الآثار التي تركتها نظرية حساب الاحتمالات على المستوى الأصولي، ونكتفي بهذا القدر آملين أن نوفق لاستيعاب تلك المعطيات في دراسة أدق وأوسع وأشمل.

والحاصل أنّ النتيجة المهمّة التي تؤخذ من هذه السمة البارزة في ملامح هذه المدرسة هي أنّ للمنهج دوراً فاعلاً وأساسياً في بناء المعارف العقائدية والبحوث الأصولية والفقهية، بمعنى أن الذين يحاولون أن يكتبوا ويحققوا في هذه الأبعاد المختلفة، عليهم أن يبيّنوا المنهج الذي يتّبعونه في تنقيح تلك المسائل، وذلك لأن المناهج المتّبعة مختلفة ومتعددة، فهناك المنهج العقلي بقسميه القياسي والاستقرائي، والمنهج النقلي، والمنهج الكشفي، وغيرها، ومن الواضح أن تطبيق أي منهج من هذه المناهج في عملية الاستنباط له آثار ومعطيات تختلف فيما لو طُبق منهج آخر.

وممّا يؤسف له أننا لا نجد ذلك واضحاً في كثير من الكتابات المعاصرة، التي حاولت الانفتاح على مثل هذه الأبحاث، خصوصاً العقائدية منها وأعطت وجهات نظر فيها، بل على العكس من ذلك نجد خلطاً واضحاً في المناهج المتبعة، ممّا يجعل التعامل مع مثل هذه الكتابات أمراً ليس سهلاً.

الخصوصية الثانية

تجذير المسائل

من المقولات الأساسية في فكر السيد الصدر، خصوصاً على مستوى تحقيقاته في علم الأصول هو القيام بالبحث عن الجذور الأساسية التي انحدرت منها مسائل هذا العلم. وهذا ما يؤكّده في كتاباته المختلفة، حيث إنه يعتقد أن هناك مصادر متعددة كانت تلهم الفكر الأصولي، وتمدّه بالجديد من النظريات. فمن تلك المصادر:

أوّلاً: علم الكلام

«فقد لعب دوراً مهمّاً في تموين الفكر الأصولي وإمداده، خاصة في العصر الأوّل والثاني، لأن الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين، حين بدأ علم الأصول يشق طريقه إلى الظهور فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه»[37].

ويمكن ذكر أمثلة لهذا الاستلهام والتي كان لها دور كبير ومؤثر في تحقيق المسائل الأصولية المختلفة، منها:

l قاعدة الحسن والقبح العقليين.

l قاعدة أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية.

l قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وهكذا غيرها من القواعد الكلامية التي استفيد منها في تنقيح وتحقيق البحوث الأصولية.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض تلك القواعد التي كانت لها آثار واسعة وعميقة على الفكر الأصولي مثل: قاعدة قبح العقاب بلا بيان

فإن «المعروف بين محقّقي العصر الثالث عدم الخلاف في حكم العقل بالبراءة، وجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وذلك أنهم يدّعون البداهة في حكم العقل بقبح العقاب من المولى للعبد على تكليف غير مبيّن. وهذه القاعدة التي فُرضت أصلاً موضوعياً مع قاعدة أخرى تضايفها وهي ” حسن العقاب مع البيان ” هما الركنان الأساسيان اللذان قام عليهما الفكر الأصولي الحديث، الذي وضع أسسه الوحيد البهبهاني في مباحث الأدلّة العقلية، وهي القطع والظنّ والشك. فإنّهم بعد أن فرضوا أنّ العقل يحكم بقبح العقاب من قبل المولى بلا بيان، وأنّ العقل يحكم بكون البيان هو المصحح لحسن العقاب، استنتجوا من ذلك أنّ الحجّية والمنجّزية هي من الشؤون الذاتية للقطع، ثمّ تكلّموا فيما إذا كان من الذاتيات بمعنى لوازم الوجود كالحرارة بالنسبة إلى النار، أو لوازم الماهية كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، وكون عدم المنجزية من ذاتيات اللابيان وعدم القطع؟ ومن هنا التزموا بأنّ الظنّ حيث إنّه ليس بياناً ـ لملائمته مع احتمال الخلاف ـ يستحيل أن يكون حجّة بذاته. نعم يمكن أن يكون حجّة بجعل جاعل، وإلاّ لو كان حجّة بنفسه يلزم تخصيص قاعدة “قبح العقاب بلا بيان” وهو غير معقول؛ لأنّه تخصيص في القانون العقلي. ومن جهة أخرى فإن حصول غير الذاتي بلا سببب غير ممكن أيضاً لأنّ المنجزية ليست ذاتية لغير العلم، وتفرّع على ذلك في تفكيرهم الأصولي أنّ الامارات مع أنها ليست إلاّ ظنوناً كخبر الثقة والظواهر ونحوهما، كيف يمكن أن تكون منجزة للواقع مع أن اللابيان ثابت وإلاّ يلزم التخصيص في القانون العقلي أو ثبوت غير الذاتي بلا سبب، وكلاهما محال؟ ومن هنا التزموا بأن الأمارات والمنجزات الشرعية قد جُعلت فيها البيانية، فنشأت مباني جعل الطريقية والكاشفية بعرضها العريض، والذي وصل أوج تحقيقه على يد الميرزا النائيني وغيره من المحققين، كلّ ذلك لأجل أن يقولوا بأن منجزية الأمارة تكون من باب رفع موضوع القانون العقلي تخصصاً لا تخصيصاً، لأنّ المولى جعل الأمارة كاشفاً تامّاً تعبّداً، فلم يبق محذور في منجزية الواقع بها، لأننا خرجنا من دائرة قبح العقاب بلا بيان ودخلنا في دائرة حسن العقاب مع البيان أي في دائرة حجية القطع؛ لأنّ المفروض أن الأمارة قطع بالتعبد الشرعي.

وتفرع على هذه الأصول والمباني ما ذكر في محلّه، من تخيّل أنّ الفرق بين الأمارات والأصول العملية إنّما هو في اللسان ومقام الإثبات، وكذلك مباني الحكومة وغيرها من النتائج التي نجدها في القسم الثاني من علم الأصول. كلّ هذه النظريات منبعها وأصلها الموضوعي قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

إلاّ أن هذا المنهج في مقام تحقيق واستكشاف حال البيان واللابيان لم يرتضه الأستاذ الشهيد من أساسه وذلك «لأن روح هاتين القاعدتين يرجع إلى شيء آخر وهو ما فرضه المشهور مفروغاً عنه وتكلّموا هنا في التنجيز وعدمه، وكأنّهم تصوّروا أن هناك بابين لا علاقة لأحدهما بالآخر.

الأوّل: مولوية المولى وحق الطاعة له، فهذا أمر واقعي لا نزاع فيه وهي حقيقة غير مشككة ومحدّدة لا تقبل الزيادة والنقصان.

الثاني: باب الحجّية والمنجزية، وهذا مرتبط بالبيان والقطع وعدمهما، ورتّبوا على ذلك هاتين القاعدتين، ووقَعوا فيما وقَعوا فيه.

إلاّ أن هذا المنهج غير صحيح ويجب أن يتغيّر من أساسه؛ لأنّ روح البحث في القاعدتين يرجع إلى تلك المولوية التي فرضوها أمراً ثابتاً، بل لابدّ من القول: إنّ هذه المولوية هي أمر قابل للتشكيك والزيادة والنقصان في حدودها، لأن المنجزية وعدمها وقبح العقاب وعدمه إنّما يدوران مدار حق الطاعة للمولى.

إذن ففي الرتبة السابقة على حجّية القطع إمّا أن نفرض أننا نتكلّم في القطع بأحكام المولى، وإما أن نفرض أننا نتكلّم بأحكام إنسان ليس بمولى، ونريد بالقطع تثبيت مولويته وحقّه. ومن الواضح أنّ مجرّد القطع بصدور تكليف من مثل هذا الإنسان لا يجعله مولى، ولا يحقّق حقّ الطاعة له على شخص آخر، وإنّما الكلام على الفرض الأوّل، فحينئذ لابدّ من ملاحظة تلك المولوية الثابتة في الدرجة السابقة المعترف بها قبل الدخول في بحث حجية القطع سعةً وضيقاً؛ لأنّ جوهر المولوية ودائرتها سعة وضيقاً يدور مدار حق الطاعة.

وهنا لابد من أن يعلم أنّ البحث في أصل المولوية وهل هي ثابتة أم لا، هو من وظائف علم الكلام، وإنّما البحث الأصولي ينحصر في بيان سعة دائرة حق المولوية وضيقها بعد الفراغ عن ثبوتها لله سبحانه وتعالى، ومن هنا يتضح أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترتبط صحّةً وفساداً بسعة تلك الدائرة وضيقها. فإذا قيل بأنّ دائرة حق الطاعة وسيعة فلا أساس لقاعدة البراءة العقلية، وإلاّ فلا مناص من الالتزام بها، ولكن لا بمعنى قبح العقاب بلا بيان، بل بمعنى قبح العقاب بلا مولوية، فالبيان نبدّله بالمولوية، فمثلاً لو فرضنا أنّ حقّ الطاعة للمولى لا يقتضي إلاّ إطاعة تكاليفه القطعية والظنّية، وأمّا تكاليفه المشكوكة والموهومة فليس من حقه أن نطيعه فيها، فيقبح على المولى المعاقبة فيهما لا من باب أنه بلا بيان بل من باب أنه عقاب بلا وجود حق الطاعة له. وعليه فقاعدة “قبح العقاب بلا بيان” ليست صياغة فنية للفكرة، بل يكون البحث في القاعدة قبل الانتهاء من تحديد حدود مولوية المولى لغواً في نفسه وخلاف الترتيب المنطقي فيها.وحينئذ لابدّ من أن يقع الكلام في أنّ المولى هل له حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة فقط، أو يشمل ذلك حتى التكاليف المحتملة أيضاً، هذان كلاهما معقول في نفسه، إذ يمكن أن يفرض أن المولى له حق الطاعة في خصوص تكاليفه المعلومة، ويمكن أن يفرض أيضاً في مطلق تكاليفه ما لم يقطع بالعدم، ويمكن أن تفرض مرتبة متوسطة بين هذا العموم وذاك الخصوص. هذا كلّه معقول في المقام وهو تابع لتشخيص حدود المولوية وحق طاعته على العباد.

وبناءً على هذا التحليل يتّضح أنّ المشهور من المحقّقين، الذين بنوا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان غفلوا عن أن روح هذه الدعوى مرجعها إلى تحديد مولوية المولى وحق طاعته بحدود التكاليف المعلومة فقط، وأمّا غيرها فلا حقّ له فيها على عبيده، وحينئذ كيف يمكن إدراج تكليف في دائرة حق الطاعة بمجرّد جعل الطريقية له من قبل الشارع؟ فإنّ جعل الطريقية والكاشفية لا يزيد على أنّه تفنّن في مقام التعبير عن واقع ذلك المطلب الذي بيّناه.

هذا على مسلك المشهور من الأصوليين. وأمّا بناءً على المسلك الذي اختاره أستاذنا الشهيد فإنّه كان يعتقد أنّ العقل العملي كما يدرك أصل حق الطاعة للمولى الحقيقي، كذلك يدرك حدود هذا الحق، ويرى أنّ دائرته أوسع من التكاليف المقطوعة بل يشمل المظنونة والمشكوكة، والمحتملة احتمالاً بنحو لا يرضى بفواتها لو كانت ثابتة في الواقع، وهكذا يتضح أنّ الحجية والمنجزية من الشؤون الذاتية لمولوية المولى وحق طاعته، فلو قلنا: إنّ العقل العملي يدرك تلك الدائرة الوسيعة من حق المولى لتشمل المحتملات أيضاً لكانت حجية الاحتمال ـ عقلاً ـ ذاتية على حدّ ذاتية الحجّية للقطع ـ مع بعض الفوارق التي ذكرت في محلّها ـ.وبذلك يتبيّن عدم صحّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنحو الذي تصوّره المشهور، وبانهدامها تسقط كلّ تلك الآثار والأفكار التي ترتّبت على هذا الأصل الموضوعي المزعوم، كما هو محقّق في مظانّه»[38].

وبهذا نصل إلى أنّ الرجوع إلى الجذور الأساسية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان أوصل الأستاذ الشهيد إلى نتيجة مخالفة تماماً لما انتهى إليه أساطين الفقه في العصر الثالث من عصور العلم، ولم يكن الوصول إلى تلك النتيجة ميسوراً لولا الانفتاح على المباني الأساسية التي استمدّت منها تلك القاعدة.

وهكذا عندما ننتهي إلى مسألة أخرى من مسائل علم الكلام وهي قاعدة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية، الذي هو مسلك العدلية في هذا المجال، حيث إنّ البناء على هذا المسلك يؤدّي بنا إلى مشكلات ليست بالقليلة، وخصوصاً على مستوى الأبحاث المعروفة في علم الأصول ببحث “الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي” التي أخذت قسطاً وافراً من أبحاث العلماء في المدرسة الأصولية الحديثة، وتعدّدت النظريات والتحقيقات التي أوردها محققو هذا الفن عن الإشكالات والمحاذير، التي تلزم القول بجعل الأحكام الظاهرية في مورد شك في الحكم الواقعي.

بيانه: أنّ الحكم الظاهري إذا خالف الحكم الواقعي، فحيث إن الحكم الواقعي محفوظ بمبادئه في هذا الفرض بحكم قاعدة الاشتراك التي مؤداها: أنّ أحكام الشريعة ـ تكليفية كانت أو وضعية ـ تشمل ـ في الغالب ـ العالم بالحكم والجاهل على السواء ولا تختص بالعالم، يلزم من جعل الحكم الظاهري محاذير متعدّدة.

توضيحه: «أنّ الإشكال في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي تارة ينشأ من ناحية العقل النظري، وأخرى ينشأ من ناحية العقل العملي.

أمّا الأوّل فبأحد بيانين:

أ: لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين، فلو كان الحكم الظاهري مطابقاً للحكم الواقعي لزم اجتماع المثلين، ولو كان مغايراً له لزم اجتماع الضدّين لتضاد الأحكام من حيث المبادئ.

ب: لزوم نقض الغرض وهو محال لاستحالة انفكاك المعلول عن علّته، فإنّ الغرض علّة غائية لما اشتمل عليه من فعل أو ترك، والالتفات إليه يحرّك الفاعل نحو الفعل أو الترك، فإذا التفت المولى إلى غرضه الواقعي الذي يفوت بجعل الحكم الظاهري ولم يتحرّك نحو ترك هذا الجعل كان هذا يعني انفكاك المعلول عن علّته.

أمّا الثاني: فببيان أنّ الترخيص في مقابل الأحكام الواقعية تفويت للمصلحة على العبد وإضرار به؛ لإدائه إلى فوات ملاكات الأحكام الواقعية الناشئة عن المصالح والمفاسد، وهذا قبيح لا يصدر من المولى الحكيم، نعم لا استحالة في صدوره من المولى غير الحكيم، وهذا بخلاف الوجهين الأوّلين غير المربوطين بالعقل العملي، فإنّ اجتماع المثلين أو الضدّين أو انفكاك المعلول عن العلّة محال حتى لو كان المولى غير حكيم»[39].

ولا نجازف إذا قلنا: إنّ ما ذكره أستاذنا الشهيد في حقيقة الحكم الظاهري أولاً، وطريقة الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ثانياً، يعدّ من أروع وأدق ما ذكر في كلمات المحقّقين في هذا المجال إلى يومنا هذا.

والحاصل أنّ هذه البحوث وغيرها توقِفنا على نتيجة أساسية مهمّة وهي: أن الأصولي ما لم يقف على الجذور الأساسية لمسائل هذا العلم وقوفاً علمياً استدلالياً فإنّه لا يمكنه تنقيح تلك المسائل، وهذا يفتح لنا باباً جديداً ينبغي للمجتهد أن يتوفّر عليه لكي يحقّ له إبداء الرأي فيها.

ثانياً: الفلسفة

«وهي لم تصبح مصدراً لإلهام الفكر الأصولي في نطاق واسع إلاّ في العصر الثالث تقريباً، نتيجة لرواج البحث الفلسفي على صعيد المدرسة الشيعية بدلاً عن علم الكلام وانتشار فلسفات كبيرة ومجدّدة كفلسفة صدر الدين الشيرازي المتوفى (1050) من الهجرة، فإنّ ذلك أدّى إلى اقبال الفكر الأصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي، ومن أمثلة ذلك ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعدّدة»[40].

منها: مسألة تعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد.

توضيح ذلك: إذا أمر الشارع بشيء كقوله «صلّ» فهِمنا من أمره أنّ المطلوب طبيعة الصلاة وإيجادها في الخارج سواءً امتثلت في الفرد الأعلى أم الأدنى، فالمهمّ الامتثال والخروج عن عهدة التكليف. وإذا نهى عن شيء كقوله «لا تكذب» فهِمنا من نهيه المطلوب مجرّد الترك لطبيعة الكذب بشتى أفراده الضار منها والنافع، وهكذا يفهم كلّ الناس من الأمر والنهي إذا أُطلقا من غير قرينة، ولا ينبغي الإشكال والخلاف في هذه الحقيقة بعد ثبوتها بالحسّ والوجدان.

وقال الأصوليون: أجل لا خلاف في أنّ التكليف بظاهره متعلّق بالطبيعة، ولكن هل المطلوب أوّلاً وبالذات وفي نفس الأمر والواقع هو الفرد الخارجي الذي تصدق عليه الطبيعة، أمّا هي فغير مطلوبة لنفسها بل كوسيلة للتعبير عن المطلوب، أو أنّ المطلوب أوّلاً وواقعاً هو نفس الطبيعة الشاملة لكلّ فرد، وحيث إنّ الطبيعة لا توجد إلاّ بوجود أفرادها، اعتبر الفرد كوسيلة للامتثال وكفى؟»[41].

هناك مسالك متعدّدة للجواب عن أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع أو الأفراد، ومن بينها مسلك يُرجع البحث عن هذه المسألة إلى مسألة الوجود أو أصالة الماهية فيقول: «يتعلّق الأوامر بالأفراد إذا كان الوجود هو الأصيل، وأمّا إذا كانت الماهية هي الأصيلة فالأوامر تتعلّق بالطبائع»[42].

ومنها: مسألة اجتماع الأمر والنهي.

«اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد، وهنا قد يتساءل: هل من عاقل ينكر ويجادل في أنّ الأمر غير النهي، والوجوب غير التحريم، وأنهما ضدّان لا يجتمعان في شيء واحد، وإذن فلا معنى للنقاش في جواز اجتماعهما ما دام مستحيلاً في ذاته؟

الجواب أجل، لا عاقل ولا قائل يقول: بأنّ الشيء الواحد يسوغ الحكم عليه بالوجوب والتحريم معاً. ولكن بعد الاعتراف بهذه الحقيقة حدث الخلاف في أنّ الفاعل المختار إذا تصرّف وفعل ما يجمع بين عنوان تعلّق به الأمر وآخر تعلّق به النهي ـ كما لو صلّى في مكان الغصب ـ فهل فعله هذا وإيجاده العنوانين بعملية واحدة يستدعي اتحاد متعلّق الأمر ومتعلّق النهي بحيث يكون المأمور به عين المنهيّ عنه، والمنهيّ عنه نفس المأمور به في الواقع، حتّى نلجأ إلى علاج مشكلة الحكمين المتعارضين، أو أنّ الصلاة في الغصب لا تستدعي هذا الاتحاد. بل يبقى كلّ من متعلّق الأمر ومتعلّق النهي محتفظاً باستقلاله في نظر العقل سوى أنّ المكلّف قرن بينهما وجمع شملهما بعد أن كانا متباعدين، وعندئذ تجري عملية التزاحم بين الجارين في مقام الامتثال لا في مقام الجعل والتشريع؟»[43].

إذا اتضح ذلك نقول: حاول بعض المحقّقين أن يبني مسألة جواز الاجتماع أو امتناعه على مسألة أصالة الوجود أو الماهية، فقال: «بناءً على أصالة الوجود وتعلّق الأمر به لا يوجد إلاّ وجود واحد في مورد الاجتماع فلا يمكن الاجتماع، وبناءً على أصالة الماهية وتعلّق الأمر بالطبيعة يجوز الاجتماع لتعدّد الماهية»[44].

وهكذا في غيرها من المسائل الأصولية نجد بصمات هذه المسألة الأساسية في الحكمة المتعالية في الأبحاث الأصولية. ولست الآن بصدد تقييم صحّة الاستلهام من البحوث الفلسفية لتوظيفها في المسائل الأصولية؛ لأنّ ذلك يستدعي مجالاً آخر وذلك لأنّ هناك اتجاهاً ظهر في الآونة الأخيرة في المدرسة الأصولية في حوزة قم يرفض الاستفادة من القواعد العقلية عموماً والفلسفية خصوصاً في تحقيق المسائل المرتبطة بعلم الأصول والفقه، وعلى رأس هذا الاتجاه العلاّمة الطباطبائي كما نجد ذلك واضحاً في كتاباته المختلفة[45].

ثالثاً: عامل الزمن

«وأعني بذلك أنّ الفاصل الزمني بين الفكر الفقهي وعصر النصوص كلّما اتسع وازداد تجدّدت مشاكل وكلّف علم الأصول بدراستها، فعلم الأصول يمنى نتيجة لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوان من المشاكل، فينمو بدراستها والتفكير في وضع الحلول المناسبة لها.

ونحاول هنا الاستعانة ببعض المسائل الأصولية لتوضيح هذا العامل.

إنّ الفكر العلمي ما إن دخل العصر الثاني حتّى وجد نفسه قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة تجعل أكثر الأخبار والروايات التي لديه غير قطعية الصدور، ولا يتيسّر الاطّلاع المباشر على صحّتها كما كان ميسوراً في كثير من الأحيان لفقهاء العصر الأوّل، فبرزت أهمية الخبر الظنّي ومشاكل حجّيته.

وفرضت هذه الأهمية واتساع الحاجة إلى الأخبار الظنّية، على الفكر العلمي أن يتوسّع في بحث تلك المشاكل، ويعوّض عن قطعية الروايات بالفحص عن دليل شرعي يدلّ على حجّيتها وإن كانت ظنّية. وكان الشيخ الطوسي رائد العصر الثاني هو أوّل من توسّع في بحث حجّية الخبر الظنّي وإثباتها.

ولمّا دخل العلم في العصر الثالث أدّى اتساع الفاصل الزمني إلى الشكّ حتّى في مدارك حجّية الخبر ودليلها، الذي استند إليه الشيخ في مستهلّ العصر الثاني، فإنّ الشيخ استدلّ على حجّية الخبر الظنّي بعمل أصحاب الأئمة به، ومن الواضح أننا كلّما ابتعدنا عن عصر أصحاب الأئمة ومدارسهم يصبح الموقف أكثر غموضاً والاطلاع على أحوالهم أكثر صعوبة، وهكذا بدأ الأصوليون في مستهل العصر الثالث يتساءلون: هل يمكننا أن نظفر بدليل شرعي على حجّية الخبر الظنّي أو لا؟ وعلى هذا الأساس وجد في مستهل العصر الثالث اتجاه جديد يدّعي انسداد باب العلم؛ لأنّ الأخبار ليست قطعية، وانسداد باب الحجّية لأنّه لا دليل على حجّية الأخبار الظنّية، ويدعو إلى إقامة علم الأصول على أساس الاعتراف بهذا الانسداد كما يدعو إلى جعل الظن بالحكم الشرعي ـ أي ظن ـ أساساً للعمل دون فرق بين الظنّ الحاصل من الخبر وغيره ما دمنا لا نملك دليلاً شرعياً خاصّاً على حجّية الخبر يميّزه عن سائر الظنون»[46].

ومن المصاديق البارزة التي يؤثّر فيها عامل الزمن بشكل واضح بعض البحوث المرتبطة بمسألة حجّية الظواهر، ومن هنا نجد أنّ الأستاذ الشهيد وجملة من المحقّقين تعرّضوا في بحوثهم الأصولية إلى مسألتين تعدّان من أركان بحث الظواهر وهما:

الأولى: الظهور الذاتي والموضوعي: وهو البحث في أنّ حجّية الظهور هل موضوعها هو الظهور الذاتي أو الظهور الموضوعي. والمقصود بالأوّل هو «الظهور الشخصي الذي ينسبق إلى ذهن كلّ شخص شخص»[47].

وهذا الظهور قد يختلف من شخص إلى آخر عند أبناء لغة واحدة؛ لأنّه «عبارة عمّا ينسبق إليه ذهن السامع ووعاء ذهنه، ومن المعلوم أنّ ذهن السامع ليس وعاءً فارغاً بل هو وعاء مشحون بمختلف الخصوصيات السابقة، والعوامل المؤثرة في المحاورات والتعايشات والتفكيرات ومقدار الاطّلاع على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى أو ذاك وما إلى ذلك من أمور، وهذه كلّها تختلف من شخص لآخر، فالظهور الذاتي شأنه شأن الماء الذي يجري في أوعية مختلفة فيكتسب ألوانها، إذن فالظهور الذاتي لكلّ كلام هو نتيجة اللغة زائداً المؤثرات الشخصية»[48].

وأمّا الظهور الموضوعي فهو «الظهور النوعي الذي يشترك في فهمه أبناء العرف والمحاورة الذين تمّت عرفيتهم. بعبارة أخرى هي «الدلالة التصديقية النهائية التي تتعيّن للكلام بلحاظ مجموع النظم والقوانين الموجودة لدى العرف لاقتناص المراد»[49].

ومن الواضح أنّ هذين الظهورين قد يتطابقان وقد يختلفان «لأنّ الشخص قد يتأثّر بظروفه وملابساته وسنخ ثقافته أو مهنته أو غير ذلك، فيحصل في ذهنه أنس مخصوص بمعنى مخصوص لا يفهمه العرف العام عن اللفظ.

ومن هنا يعلم أنّ الظهور الذاتي الشخصي نسبي، مقام ثبوته عين مقام إثباته، ولهذا قد يختلف من شخص إلى آخر، وأمّا الظهور الموضوعي فهو حقيقة مطلقة ثابتة، مقام ثبوته غير مقام إثباته؛ لأنّه عبارة عن ظهور اللفظ المشترك عند أهل العرف وأبناء اللغة بموجب القوانين الثابتة عندهم للمحاورة وهي قوانين ثابتة متعيّنة، وإن شئت عبّرت عنه بأنّه الظهور عند النوع من أبناء اللغة، ومن هنا يعرف أنّه يعقل الشكّ فيه لكونه حقيقة موضوعية ثابتة قد لا يحرزها الإنسان وقد يشكّ فيها.

والظهوران قد يتطابقان كما عند الإنسان العرفي غير المتأثّر بظروفه الخاصة، وقد يختلفان فيخطئ الظهورُ الذاتي الشخصي الظهورَ الموضوعي، وذلك لعدم استيعاب ذلك الشخص لتمام نكات اللغة وقوانين المحاورة، أو لتأثره بشؤونه الشخصية في مقام الانسباق من اللفظ إلى المعنى.

ولا ينبغي الإشكال في أنّ موضوع أصالة الظهور هو الظهور الموضوعي لا الذاتي؛ لأنّ حجّية الظهور بملاك الطريقية وكاشفية ظهور حال المتكلّم في متابعة قوانين لغته وعرفه، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله متابعة العرف المشترك العام لا العرف الخاص للسامع القائم على أساس أنس شخصي وذاتي يختص به ولا يعلم به المتكلّم عادة، وهذا واضح»[50].

وهذه المشكلة تزداد خطورة وتتفاقم تعقيداً، عندما تفصل الشخص الممارس لعملية الاجتهاد عن النصوص التي يمارسها فواصل تاريخية وواقعية كبيرة.

الثانية: أن الفاصل الزمني بين عصر صدور النصّ وعصر وصول النصّ أوجد لنا مشكلة أخرى وهي «أنّ الظهور الموضوعي الحجّة، هل هو المعاصر لزمن صدور الكلام أو لزمن وصوله إلينا فيما إذا فرض اختلاف الزمانين، كما في النصوص الشرعية بالنسبة إلينا، فإنّ الأوضاع اللغوية بل وحتى الظهورات السياقية التركيبية قد تتغيّر وتتطوّر بمرور الزمان وإن كان ذلك بطيئاً جدّاً لأنّ اللغة وما يرتبط بها ظاهرة اجتماعية فتكون متأثّرة بطرائق الحياة الاجتماعية
لا محالة»[51].

ومن هنا فقد «يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفاً للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث»[52].

ومن الواضح أنّ موضوع الحجّية هو «الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له»[53]. «وذلك لأنّ أصالة الظهور ليست تعبّدية بل هي أصل عقلائي مبني على تحكيم ظاهر حال المتكلّم في الكشف عن مرامه، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله الجري وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمان صدور النصّ لا التي تنشأ في المستقبل»[54].

وتأسيساً على ذلك تنشأ عندنا مشكلة أساسية ثانية وهي الطريق لإحراز أنّ الظهور الموضوعي الذي انتهينا إليه في عصر الوصول هو نفس الظهور الموضوعي المراد للمتكلّم في عصر الصدور.

إذن هنا إشكاليتان كان لعامل الزمن مدخلية في وجودهما، خصوصاً الثانية.

الأولى: ما هو الطريق لإحراز أنّ هذا الظهور الذي تبادر إلى ذهن المستمع هو الظهور الموضوعي لا الذاتي.

الثانية: لو تغلّبنا على الإشكالية الأولى واستطعنا إحراز الظهور الموضوعي الذي هو موضوع حجّية الظهور، توجد مشكلة أخرى وهي أن هذا الظهور الموضوعي الذي توصّلنا إليه في عصر السماع كيف نثبت أنّه هو الظهور الموضوعي الذي أراده المتكلّم في عصر الصدور، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ اللغة ظاهرة اجتماعية فتكون ـ لا محالة ـ محكومة بقانون التغيّر والتطوّر والتكامل.

وقد حاول الأستاذ الشهيد أن يتغلّب على الإشكالية الأولى بطريقين، نكتفي بذكر أحدهما، قال: إنّه يمكن إحراز الظهور الموضوعي من خلال الظهور الذاتي وذلك «بملاحظة ما ينسبق من اللفظ إلى الذهن من قبل أشخاص متعدّدين مختلفين في ظروفهم الشخصية، بنحو يطمئن بحساب الاحتمالات أن انسباق ذلك المعنى الواحد من اللفظ عند جميعهم إنّما كان بنكتة مشتركة هي قوانين المحاورة العامة لا لقرائن شخصية؛ لأنّ هذا خلف اختلافهم في الملابسات الشخصية»[55].

وأما الإشكالية الثانية: «فقد عالجها المحقّقون من علماء الأصول بأصل عبّروا عنه بأصالة عدم النقل، وقد يسمّونه بالاستصحاب القهقرائي؛ لأنّه يشبه الاستصحاب ولكن مع تقدّم المشكوك على المتيقّن زماناً.

إلاّ أنّه من الواضح عدم إمكان استفادة حجّيته من دليل الاستصحاب، وإنّما هو مفاد السيرة العقلائية ، وقد اصطلح عليه الأستاذ الشهيد بأصالة الثبات في الظهورات؛ لأنّ هذا الأصل كما أشرنا إليه لا يقتصر فيه على الأوضاع اللغوية، بل يشمل الظهورات السياقية التركيبية غير الوضعية أيضاً»[56].

ولا ينبغي الإشكال في انعقاد السيرة على هذا الأصل، ولها مظهران:

أحدهما: السيرة العقلائية: ويمكن تحصيلها في مثل ترتيب العقلاء آثار الوقف والوصية ونحوهما على النصوص والوثائق القديمة في الأوقاف والوصايا طبق ما يفهمه المتولي في عصره ولو كان بعيداً عن عصر الوقف.

ثانيهما: السيرة المتشرعية: ويمكن تحصيلها من ملاحظة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) الذين كانوا يعملون بالنصوص الأوّلية من القرآن والسنّة النبوية الشريفة على ما يستظهرون منه في عرفهم وزمانهم كما كان يصنع أسلافهم، مع أنّه كان يفصلهم عنهم زمان يقارب ثلاثة قرون وقد كانت فترة مليئة بالحوادث والمتغيّرات.

ونكتة هذه السيرة ـ بكلا مظهريها ـ وملاكها بحسب الحقيقة ندرة وقوع النقل والتغيير وبطئه، بحيث إنّ كلّ إنسان بحسب خبرته غالباً لا يرى تغييراً محسوساً في اللغة؛ لأنّ عمر اللغة أطول من عمر كلّ فرد، فأدّى ذلك إلى أن كلّ فرد يرى أن التغيّر حادث على خلاف الطبع والعادة، وحينئذ إمّا أن يفترض أنّ الأصحاب قد التفتوا إلى احتمال النقل والتغيير في الظهورات السابقة على زمانهم صدوراً ومع ذلك أجروا أصالة الظهور، أو أنّهم غفلوا عن هذا الاحتمال بالمرّة وعملوا بما يفهمونه من الظهورات. فعلى الأوّل يكون بنفسه دليلاً على حجّية أصالة الثبات شرعاً. وعلى الثاني فنفس الغفلة في مثل هذا الموضوع تعرّضهم لتفويت أغراض الشارع لو لم تكن أصالة الثبات حجّة، فسكوت المعصوم (عليه السلام) وعدم تصدّيه لإلفاتهم دليل على إمضاء هذه الطريقة، وكفاية الظهور الذي يفهمه الإنسان في زمانه في تشخيص الظهور الموضوعي المعاصر لصدور الكلام»[57].

فإن قلت: إنّ هذا الثبات النسبي للغة وظواهرها وإن كان يوحي للأفراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيّرها وتطابق ظواهرها على مرّ الزمن، إلاّ أنّه إيحاء خادع وغير مطابق للواقع، فكيف يمكن الاعتماد عليه؟

قلت: « إنّ هذا الإيحاء وإن كان خادعاً ولكنّه ـ على أي حال ـ إيحاء عام استقر بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتبار أنّ التغيير حالة استثنائية نادرة تنفى بالأصل، وبإمضاء الشارع للبناء المذكور تثبت شرعية أصالة عدم النقل أو أصالة الثبات. ولا يعني الإمضاء المذكور تصويب الشارع للإيحاء المذكور وإنّما يعني من الناحية التشريعية جعله احتمال التطابق حجّة ما لم يقم دليل على خلافه.

ومن هنا فلا تجري أصالة الثبات في اللغة فيما إذا علم بأصل التغيّر في الظهور أو الوضع وشك في تاريخه هل متقدّم أو متأخّر، لعدم انعقاد البناء العقلائي في هذه الحالة على افتراض عدم النقل في الفترة المشكوكة. والسرّ في ذلك أنّ البناءات العقلائية إنّما تقوم على أساس حيثيات كشف عامة نوعيّة، فحينما يلغى احتمال النقل عرفاً يستند العقلاء في تبرير ذلك إلى أنّ النقل حالة استثنائية في حياة اللغة ـ بحسب نظرهم ـ وأمّا حيث تثبت هذه الحالة الاستثنائية فلا تبقى حيثية كشف مبرّرة للبناء على نفي احتمال تقدّمها»[58].

هذه بعض الموارد الأساسية التي كان لعامل الزمن دور مهمّ في وجودها والوقوف عندها، ومن الواضح أنّ مثل هذه الأبحاث لم تكن مورد ابتلاء المعاصرين للنصّ الشرعي أو القريبين منه.

رابعاً: العامل النفسي

يعتقد الأستاذ الشهيد أنّ جملة من القواعد الأصولية التي استحدثت في العصر الثالث من عصور العلم، التي يمكن عدّها من السمات البارزة في هذه المرحلة إنّما نشأت من عامل نفسي كان يعيشه الفقهاء، ولولا تلك الحالة لما انصبّ جهدهم لتأسيس هذه القواعد التي كان لها دور كبير وعميق في تأسيس وتنقيح كثير من المسائل التي بحث عنها في الفقه والأصول معاً.

والمثال البارز لهذه الحالة هو البحث في السيرة العقلائية وما استتبع ذلك من أبحاث مفصّلة حول نكاتها وموارد جريانها، حيث إننا عندما نراجع كلمات السابقين على عصر الشيخ الأنصاري لا نجد مثل هذا الاهتمام بالاستدلال بالسيرة كما نجده في كلمات الشيخ الأعظم ومن تأخر عنه؛ فلهذا يقول السيد الشهيد: ولذا نرى الاستدلال بالسيرة في ألسنة المتأخّرين عن الشيخ الأعظم كثيراً وفي لسان الشيخ قليلاً فضلاً عمّا قبل الشيخ.

أما ما هي النكتة في ذلك، ولماذا حصل هذا التحوّل في عملية الاستدلال بالسيرة؟

يقول السيّد الصدر: إنّ الذي يظهر من كلمات جملة من الأكابر والمحقّقين أنّ هناك محذوراً لا يمكن للفقيه أن يلتزم به، وهذا المحذور يُجعل غالباً دليلاً برأسه لإبطال كلّ دعوى تؤدّي إلى ترتّب ذلك المحذور وهو ما يعبّر عنه في كلمات القوم بأنه «يلزم منه تأسيس فقه جديد» فمثلاً يقال بأنّ التمسّك بإطلاق “لا ضرر ولا ضرار” يلزم منه تأسيس فقه جديد، وهكذا يشكل بهذا المحذور على جملة من المدّعيات بأنّها لو تمّت لأدّت إلى هذا التالي الباطل، فيستكشف من بطلان التالي بطلان المقدّم.

والذي يستظهر من جملة من الكلمات أنّ هذا المحذور ليس المقصود منه أنه يلزم منه خلاف مقتضى أدلّة قطعية أخرى واضحة الدلالة وإلاّ لقيل: إنّ التمسّك بإطلاق دليل ” لا ضرر ” أو أنّ القول بالإباحة في المعاطاة أو أنّ التمسّك بإطلاق القرعة في أخبار القرعة معارض بالأدلّة الكذائية التي تدلّ على خلاف ذلك، وهي أقوى دلالة وأوضح سنداً، وليس المقصود أيضاً أن ذلك المحذور هو أنّه يلزم منه خلاف الإجماع، وإلاّ لو كان هذا هو المراد لقالوا: إنّه باطل لأنّه خلاف الإجماع، كما نجدهم يقولون ذلك في إبطال بعض المدّعيات.

ومن هنا قد يقال: إنّ الذي يظهر ـ بعد ملاحظة قرائن ذلك وسوابقه ولواحقه وموارد تطبيقاته ـ أنّ المقصود لهؤلاء الفقهاء من هذه العبارة حينما تستعمل في موارد مخصوصة هو التعبير عن حقيقة ثابتة في الرتبة السابقة، وتلك الحقيقة هي أنّ هناك جملة من المسلّمات والأُطر الفقهية التي تُلقيت بالقبول من قبل الفقهاء الأوائل، وأُخذت  بطريق لا نعرفه دون أن يكون عليها دليل صناعي يبرهن عليها إلاّ أنّها حقائق لنا القناعة بأنها أُخذت من يد الشارع الأقدس، ولهذا تكون هذه المسلَّمات بالنسبة إلينا جزءاً ضرورياً في الفقه ولابدّ من الالتزام بها، وكلّ بناء استدلالي في الفقه لابدّ من أن يتحفّظ على هذه المسلّمات وإلاّ لما كان بناءً استدلالياً كاملاً وصحيحاً.

وتأسيساً على ذلك حصلت حالة وجدانية قبلية عند الفقهاء أوجبت التفكير في أن يقام صرح علم الأصول وإطاره الاستدلالي بنحو تحفظ فيه هذه المسلمات الفقهية ولا يتجاوز عنها، وبتعبير آخر لابدّ من أن تكون عملية الاستنباط ـ سواء على مستوى العناصر المشتركة أو المختصّة ـ مقيّدة بحدود هذه المسلّمات والأُطر، ولا يمكن أن ندخل العملية الاستنباطية متجاوزين هذه الدائرة.

وهذه الفكرة كأنّها كانت مرتكزة في ذهن كثير ممّن يشتغل بالفقه سواء على مستوى المدرسة الشيعية أو السنّية، لأننا نجد أنّ مثل هذا اللازم والتالي يحكّمونه في بعض الموارد ويبطلون به بعض المدّعيات، ومن المحتمل قويّاً أن سدّ باب الاجتهاد عند المدرسة السنّية كان تعبيراً ـ بحسب الحقيقة ـ لعلاج هذه الناحية في الفقه السنّي، فإنّ هؤلاء سدّوا باب الاجتهاد خارج المذاهب الأربعة المعروفة مع فتحه داخل هذه المذاهب، وهذا يعني أن ما اتفقت عليه كلمة المذاهب الأربعة فهو من المسلّمات، التي لا يمكن الخروج عنها بأي نحو من الأنحاء ولا مجال للاجتهاد فيها حتى لو فرض أنه وجد شخص يعتبر نفسه من العلماء المحقّقين كالغزالي، فإنّه مع ذلك لا يسمح لنفسه أن يجتهد فيما تسالم عليه الأئمة الأربعة، نعم يحقّ له الاجتهاد في داخل دائرة هذه المذاهب الأربعة، فقد يخالف فلاناً ويوافق آخر ويسمّونه بالمجتهد في المذهب، وأمّا المجتهد في الشرع فهم خصوص الأئمة الأربعة.

طبعاً أصل فكرة التحديد من المحتمل أن تكون ناشئة بداعي علاج هذه المسلّمات والأطر الفقهية لضمان أن لا يتجاوزها فقيه بعد ذلك، ولكن تطبيق هذه الفكرة على خصوص هذه المذاهب الأربعة دون غيرها لعلّ كثيراً من القرائن والشواهد تثبت أنّه تطبيق ناشئ من عوامل سياسية، وإلاّ لا ميزة واقعية لهؤلاء الأربعة على قرنائهم في المدرسة السنّية فضلاً عن علماء المدرسة الشيعية.

إذا اتضحت هذه المقدّمة نقول: إنّ علماء الأصول عندما واجهوا الفقه الموجود بأيديهم، وكانت لديهم تلك القناعة الوجدانية والحالة النفسية وهي التحفّظ على أطر ومسلمات ذلك الفقه، صاروا بصدد إيجاد قواعد أصولية يمكن أن تشكّل الغطاء الاستدلالي لتلك المسلّمات الفقهية. فنشأت عندنا قواعد حجية الشهرة والإجماع المنقول وانجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب ووهن الخبر الصحيح بإعراضهم، بل تعمّقوا أكثر من هذا في مقام المحافظة على المسلّمات الفقهية فعمّموا قاعدة انجبار السند بعمل الفقهاء لتشمل انجبار الدلالة بفهمهم، وهذا ما نجده واضحاً في بعض كلمات الشيخ الأنصاري الذي يعدّ من أركان المدرسة الأصولية الحديثة في النجف، حيث إنّه لا يعمل بإطلاق أخبار القرعة قائلاً: إنّنا نعمل بهذه الأخبار في كلّ مورد عمل به الأصحاب، ولا نعمل بها في كلّ مورد لم يعملوا به.فمثل هذه القواعد الأصولية التي أسسها العلماء في علم الأصول كانت تشكّل الغطاء الصناعي والعلمي الذي أُقيمت عليه تلك المسلّمات والأطر الفقهية، إذ لا يوجد واحد من تلك المسلّمات إلاّ ويوجد عليها إجماع منقول أو شهرة أو عمل للأصحاب ونحو ذلك من القواعد التي بُني عليها الفقه الموروث عندنا.

حتى انتهى الأمر إلى العصر الثالث وجاء دور الشيخ الأنصاري ومن تبعه من المحقّقين فأشكلوا على هذه القواعد واحدةً بعد الأخرى، فناقشوا في حجّية الإجماع المنقول والشهرة؛ وتأمّلوا في قاعدة انجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب، ولعل الأستاذ السيد الخوئي كان من أوائل من بنى على هذا في فقهه، وهكذا تهدّمت كلّ هذه القواعد الأصولية التي كانت تؤمّن الغطاء العلمي لتلك المسلّمات الفقهية، ولكن هؤلاء الذين هدموا هذه القواعد في علم الأصول كالشيخ ومن تبعه لم يهدموها في الفقه، بل بقي علم الفقه محافظاً عليها وإن كانت لا دليل على حجّيتها في الأصول، والسبب في ذلك يرجع إلى تلك الحالة النفسية التي كانت تمنع الفقيه عن أن يسقط تلك المسلّمات وإن سقط دليلها العلمي في الأبحاث الأصولية. فلم يكن المانع عن رفض تلك المسلّمات الفقهية هو وجود دليل علمي عليها، بل كان المانع هي تلك الحالة الوجدانية والقناعة النفسية بالمحافظة على تلك الأطر الموروثة في الفقه المتعارف. ومن هنا نجد أنّ المحقّقين المتأخّرين عن الشيخ الأنصاري بدأوا محاولة جديدة لتأسيس قواعد أصولية تعوّض عمّا هدموه؛ لأنّه لا يمكن الالتزام بتلك المسلّمات من دون وجود دليل عليها ، وهنا خطر على بال المحقّقين المتأخّرين أنّ السيرة العقلائية يمكن أن تكون تعويضاً مناسباً عمّا هُدم بمعول الصناعة العلمية من تلك القواعد، ولذلك نرى أنّ السيرة العقلائية كان لها دور كبير وواسع في كتب المتأخّرين وخصوصاً السيّد الخوئي، وأصبحت السيرة هي الدليل على إثبات كثير من تلك المسلّمات، وهذا ما يفسّر لنا رواج السيرة العقلائية في كتب المتأخّرين بخلافه في كلمات السابقين حيث لم تلق هذا الرواج، وهذا يرجع إلى معالجة تلك الحالة النفسية التي أُشير إليها.

والحاصل أنّ تلك الحالة النفسية هي التي كانت تمنع الفقيه عن هدم تلك المسلّمات ، ولكن الذوق الاستدلالي للفقيه كان يمنعه أن يقول: إنّ تلك الحالة هي الدليل فحاول أن يؤسّس أدلّة علمية لإثبات تلك المدّعيات»[59].

ومن هنا احتل بحث السيرة العقلائية موقعاً مهمّاً وأصبح أحد الدعائم الأساسية، التي يتشكّل منها ملامح العصر الثالث من عصور علم الأصول، بل بلغ أوجه على يد الشهيد الصدر.

يقول السيد الحائري في مقدّمة تقريرات بحث السيد الأستاذ: «ما جاء في البحث الرائع لسيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة ، فقد تكرّر لدى أصحابنا المتأخّرين التمسّك بالسيرة لإثبات حكم ما، ولكن لم يسبق أحد أستاذنا ـ فيما أعلم ـ في بحثه للسيرة وإبراز أسسها والقوانين التي تتحكّم فيها، والنكات التي ينبني الاستدلال بها على أساسها، بأسلوب بديع ومنهج رفيع وبيان متين»[60].

ويقول السيد الهاشمي وهو تلميذ آخر من تلامذته المبرزين: «والواقع أن الاستدلال بالسيرة لم يقتصر على خصوص المسائل الأصولية وفي باب الأمارات، بل شاع ذلك في الفقه أيضاً، خصوصاً في مثل أبواب المعاملات التي يكون للعقلاء تقنين فيها. بل الملحوظ اتساع دائرة الاستدلال بها كلّما تقلّصت الأدلّة التي كان يعوّل عليها سابقاً لإثبات المسلّمات والمرتكزات الفقهية من أمثال الإجماع المنقول والشهرة وإعراض المشهور عن خبر صحيح أو عملهم بخبر ضعيف ونحو ذلك، فإنّه قد عوّض بالسيرة عن مثل هذه الأدلّة في كثير من المسائل التي يتحرّج الفقيه الخروج عن فتاوى القدماء من الأصحاب أو الآراء الفقهية المشهورة»[61].

ولم يذكر لنا الأستاذ الشهيد بعض تلك المسلّمات والمرتكزات الفقهية التي ورثها المتأخّرون عن المتقدّمين، ولكن لعلّ واحدة من أهم تلك المسلّمات هو تجريد النصوص الواردة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية ، والعلاقات التي كانت تحكم الناس في ذلك الزمان، وفهمها بمعزل عن تلك الشرائط التي صدر النصّ فيها.

ولعل هذا التجريد للنصّ وعزله عن العوامل التي قد تكون دخيلة في فهمه يمكن أن يعدّ من أهمّ المسلّمات والأطر الفقهية التي لم يقع فيها كلام عند أحد من علمائنا المتقدّمين والمتأخّرين، بل كان هناك اتفاق قطعي من جميع فقهاء الطائفة على اختلاف مشاربهم ومبانيهم الأصولية والفقهية، على أن الأصل في هذه النصوص عدم مدخلية تلك الشرائط الزمانية والمكانية التي صدر النصّ فيها.والشاهد على هذه المقولة أننا لا نجد فقيهاً حاول أن يفهم النصوص الواردة عن الرسول الأعظم والأئمّة الأطهار من خلال الأوضاع الاجتماعية والشرائط الاقتصادية، ولهذا لا يدخل أي فقيه في حسابه أثر الزمان والمكان في فهم النصّ الشرعي.

ومن هنا نجدهم يوقعون المعارضة بين نصّ صدر في القرن الأوّل مع نصّ آخر صدر في القرن الثالث، ويقطعون النظر عن التطوّر الهائل الذي حصل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والعلاقات التي كانت تربط بعضهم ببعض، إضافة إلى التطوّر الفكري العظيم الذي وصل إليه المجتمع الإسلامي من خلال دخول منظومات فكرية وفلسفية واجتماعية متعدّدة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم مدخلية تلك الظروف والعوامل في فهم النصّ وإلاّ لو كان للزمان والمكان أيّ أثر في فهم النصوص الشرعية لكان بالإمكان أن يقال: إنّه لا تعارض بين هذه النصوص لاختلاف شرائطها الاجتماعية والفكرية، وكان ينبغي ـ بدل أن نوقع التعارض بينها ـ أن نرجع إلى الظروف الزمانية والمكانية التي صدر النصّ فيها. وحينئذ لو ثبتت وحدة الظروف والشرائط لوقع التعارض وإلاّ فلا.

والواقع أنّ تجريد النصوص عن الزمان والمكان الذي صدرت فيه، وعدم إدخال الخصائص التي تحكم عصر الصدور وعزل النصّ عن العوامل التي قد تكون دخيلة فيه، والقول بالتعميم يعدّ من أهمّ المسلّمات والمرتكزات الفقهية التي بقيت تحكم علم الأصول ـ والفقه ـ إلى يومنا هذا مع كلّ التغييرات والتطوّرات الأساسية التي مرّ بها هذان العلمان والمراحل المتعدّدة والأشواط الطويلة التي قطعها حتى انتهى إلى ما هو عليه في زماننا الحاضر.ولا أجازف إذا قلت: إنه مع الاعتقاد الكامل بالإنجازات العلمية الضخمة التي أنجزها أستاذنا الشهيد على مستوى علم الأصول ـ بنحو يمكن عدّ مدرسته الأصولية عصراً رابعاً من عصور العلم ـ إلاّ أنّها وإن وفِّقت في تغيير جملة من الأركان الأساسية لعلم الأصول المتعارف ـ كما تقدّم في بحث قبح العقاب بلا بيان ـ ولكن مع ذلك بقيت محكومة بنفس الأطر والمسلّمات الفقهية الموروثة عن علمائنا السابقين، ولم تستطع تجاوز أو تطوير تلك الأسس، وهذا ما نجده واضحاً في الأبحاث الفقهية الاستدلالية التي أدلى بها شهيدنا الصدر. مع أنه ـ كما هو واضح من الدراسات الفكرية العميقة التي قدّمها في هذا المجال وخصوصاً في كتاب “اقتصادنا” كان ملتفتاً جيّداً إلى هذه الحيثية التي أشرنا إليها، ويمكن مراجعة ذلك في بحثه القيّم عن “عملية الاجتهاد والذاتية” ولكن مع هذا كلّه لم يفعل شيئاً يتناسب مع ذلك البحث ـ في بحوثه الاكاديمية في الأصول والفقه ـ ولعلّ السبب يرجع إلى تلك الحالة النفسية التي أشار إليها هو، لأنّ هذه الحالة توجد عند الفقيه قناعات وجدانية لا يمكنه تجاوزها، فلهذا نجد أنّه كان يعتقد أنّ الإنسان قد تحصل له قناعة بشيء وهي حجّة ينبغي قبولها وإن لم يكن واقفاً على الدليل عليها.

يقول: «إنّ هذا النزوع والاتجاه نحو وجدان دليل وفق ما تقتضيه تلك الحالة النفسية لعلّه ـ والله العالم ـ من نتائج المنطق الأرسطي القائل بأن الشيء لابدّ من أن يكون ضرورياً أو مكتسباً منتهياً إلى الضروري، فخلّف هذا المنطق في الأذهان في مختلف العلوم، ومنها علم الفقه تخيّل أن الإنسان غير الساذج لا ينبغي له تسليم أي دعوى لا تكون ضرورية ولا منتهية إلى الضروريات. ومن هنا يحاول الفقيه أن يجد دليلاً وفق مقصوده كي لا يكون مدّعياً لشيء بلا دليل.ولكن الواقع أنّ العلم ليس دائماً ناشئاً من البرهان بل قد ينشأ عن علّة أثّرت في النفس تكويناً فأوجدت العلم بلا برهان. والعلم بنفسه أمر حادث قائم بممكن حادث تسيطر عليه قوانين العلّية والمعلولية، ومهما وجدت علّته يوجد العلم قهراً سواءً علمت تلك العلّة أو لا، وليس حصول العلم بحاجة إلى التفتيش عن علّته كي نجدها فيوجد العلم، وليست نسبة العلم إلى علّته إلاّ كنسبة الحرارة إلى علّتها، فكما أنّ الحرارة توجد بوجود علّتها سواء فتّشنا عن علّتها ووجدناها أو لا، كذلك الحال في العلم فلا موجب لهذا النزوع والاتجاه.

نعم لو أُريد إعطاء صفة الحجّية المنطقية للعلم يجب التفتيش عن علّته، وملاحظة مدى انطباقها على قوانين المنطق القديم»[62].

وهذا النصّ وإن كان يبيّن بوضوح أنّ تلك الحالة النفسية والقناعة الوجدانية قد تحصل عند الإنسان وإن لم يقف على دليلها ويتعرّف عليه، إلاّ أنّ الظاهر كما قال السيّد الحائري بأنّ هذا الكلام إنّما صدر من الأستاذ بعد استكشافه لمنطق الاحتمالات، وعدم برهانية كثير من العلوم الموضوعية للإنسان وقبل انتهائه إلى تحقيقاته النهائية في منطق حساب الاحتمالات وما أسماه أخيراً بالمنطق الذاتي.

أمّا بعد ذلك فمن الواضح أنّ هذا البيان غير صحيح ، لأنّ العلم موجود حادث وممكن يتبع علّته، لكن العلم في غير الضروريات إنّما يكون موضوعاً إذا انتهى إما إلى البرهان أو إلى قوانين حساب الاحتمالات المنقّحة في بحث المنطق الذاتي، وإن لم ينته إلى هذا ولا ذاك فهو علم غير موضوعي ناتج عن وهم، أو عن مقاييس لم يكن ينبغي للإنسان أن يحصل له العلم منها. ونفس التفتيش عن علّة هذا العلم قد يوضّح للإنسان أنّ علمه هل هو موضوعي أو لا؟ فإن عرف أنّه غير موضوعي فقد تصبح نفس هذه المعرفة سبباً لزوال ذاك العلم، والإنسان الذي يعلم بشيء ميّال إلى معرفة سبب علمه ومدى موضوعيته، وعن طريق معرفة السبب يستطيع أن ينقل علمه إلى الآخرين، فليس من الصحيح القول بأنّه لا حاجة إلى التفتيش عن سبب العلم لأنّه إن حصلت علّته حصل وإلاّ فلا كما لا يخفى»[63].

وكيفما كان فالمدرسة الأصولية والاستدلالات الفقهية التي تركها لنا الأستاذ الشهيد كلّها تثبت بما لا مجال للشكّ فيه أنّه كان ملتزماً بتلك المسلّمات التي تسلّمها فقهاؤنا الأوائل من يد الشارع الأقدس ـ على حدّ تعبيره ـ وأن الإبداعات الأصولية التي جاء بها الصدر كانت ضمن ذلك الإطار الذي تبلورت خطوطه العامّة على يد الرعيل الأوّل من فقهاء الطائفة.

الخصوصية الثالثة

الروح العامة التي تحكم الشريعة

والأخذ بها في عملية الاستنباط.

توضيح ذلك: أننا لكي نقف على الأحكام التفصيلية للدين في مختلف المجالات لابدّ من التعرّف أوّلاً على الروح العامّة والمقاصد الأساسية لذلك الدين. فمثلاً عندما نراجع القرآن الكريم نجد أنّه يضع إقامة العدل الإجتماعي على رأس الأهداف الأساسية التي لأجلها بُعث جميع الأنبياء والمرسلين، ونزلت جميع الشرائع الإلهية، يقول تعالى في سورة الحديد: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتْابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيز([64].

فإقامة القسط والعدل الاجتماعي هو في رأس لائحة الأهداف السماوية، وتأسيساً على ذلك فإنّ كلّ حكم شرعي لابدّ من أن يكون منسجماً مع هذا الهدف الأساسي للشريعة، وإلاّ لو انتهت بنا بعض المباني والاستدلالات الفقهية إلى ما يخالف هذا الأصل القرآني فلابدّ من ردّه وعدم قبوله.

وتظهر ثمرة هذا الأصل في مواضع متعدّدة:

منها: أنّه وردت جملة من الروايات عن الرسول الأعظم وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) مفادها أنّ الميزان في قبول الخبر الوارد عنهم هو العرض على القرآن الكريم، فما وافق يؤخذ به وما خالف فهو زخرف لم يصدر عنهم.

عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «يا أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»[65].

وعن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبدالله الصادق (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به. قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به.[66]

يقول الأستاذ الشهيد: إنّ أخبار العرض على الكتاب يمكن تفسيرها بنحو آخر لا يحتاج معه إلى كثير من الأبحاث التي جاءت في كلمات الأصحاب وهو: أنّه لا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم، أو ما ليس عليه شاهد منه، طرح ما يخالف الروح العامة للقرآن الكريم وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه، ويكون المعنى حينئذ أنّ الدليل الظنّي إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العامّة لم يكن حجّة، وليس المراد المخالفة والموافقة المضمونية الحدّية مع آياته. فمثلاً لو وردت رواية في ذمّ طائفة من الناس وبيان خسّتهم في الخلق أو أنّهم قسم من الجنّ، قلنا: إنّ هذا يخالف الكتاب الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً، ومساواتهم في الإنسانية ومسؤولياتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم. وأمّا مجيء رواية تدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً، فهي ليست مخالفة للقرآن الكريم وما فيه من بحث على التوجّه إلى الله والتقرّب منه عند كلّ مناسبة وفي كلّ زمان ومكان، وهذا يعني أنّ الدلالة الظنّية المتضمّنة للأحكام الفرعية فيما إذا لم تكن مخالفة لأصل الدلالة القرآنية الواضحة تكون بشكل عام موافقة للكتاب وروح تشريعاته العامة.

وممّا يعزّز هذا الفهم ـ مضافاً إلى أنّ هذا المعنى هو مقتضى طبيعة الوضع العام للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ودورهم في مقام بيان الأحكام، الأمر الذي كان واضحاً لدى المتشرّعة ورواة هذه الأحاديث أنفسهم، والذي على أساسه أمروا بالتفقّه في الدين والاطّلاع على تفاصيله وجزئياته، التي لا يمكن معرفتها من القرآن الكريم، ممّا يشكّل قرينة منفصلة بهذه الأحاديث تصرفها إلى إرادة هذا المعنى ـ ما نجده في بعضها من قوله «إن وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من الكتاب» فإنّ التعبير بالشاهد الذي يكون بحسب ظاهره أعمّ من الموافق بالمعنى الحرفي، مع عدم الاقتصاد على شاهد واحد خير قرينة على أنّ المراد وجود الأمثال والنظائر لا الموافقة الحدّية.

وقد جاء هذا المعنى في رواية الحسن بن الجهم عن العبد الصالح قال: «إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا فإنّ أشبهها فهو حقّ وإن لم يشبهها فهو باطل».

وهذه الرواية وإن كانت واردة في فرض التعارض إلاّ أنّها بحسب سياقها تشير إلى نفس القاعدة المؤكّدة عليها في مجموع أخبار الباب»[67].

وهذه النظرية لو تمّت أصولها الموضوعية لفتحت علينا آفاقاً جديدة في عملية الاستدلال، وألقت بمسؤوليات إضافية على عاتق الممارس لعملية الاستنباط؛ لأنّه في مثل هذه الحالة لا يمكن الاكتفاء بالتوفّر على الفقه والأصول والاقتصار عليهما للدخول في ممارسة العملية الاجتهادية ، وإنّما لابدّ من الوقوف على روح التشريعات العامّة للقرآن الكريم ومعرفة الأسس والقواعد الكلية، التي تحكم هذا الكتاب السماوي ليمكن معرفة صحّة الخبر من عدم صحّته عند العرض عليه، خصوصاً فيما يرتبط بالأصول العقائدية والمفاهيم العامّة والجوانب الاجتماعية في الدين.

فالإنسان لا يكون فقيهاً جامعاً لشرائط الاستنباط إلاّ إذا كان مفسّراً قبل ذلك، وإلاّ فلا يحقّ له ممارسة هذا الدور.

وسيتضح من خلال هذا البحث الذي بين أيدينا أن جملة من تلك النكات التي أشرنا ليها فيما سبق، تجد لها تطبيقات واضحة في هذا المجال. فمثلاً عندما يأتي السيد الأستاذ للإجابة على واحدة من أهم الإشكالات التي ذكرت على هذه القاعدة وهي كثرة التخصص يقول:

«من الإشكالات الأساسية التي أُثيرت حول هذه القاعدة، لزوم تخصيص الأكثر المستهجن. وهذه المشكلة إنما تنجم لو أخذنا بالظهور الأوّلي للكلام وجمدنا على حاقّ الإطلاقات الثابتة بهذه الجملة، من دون تحكيم عنصر مناسبات الحكم والموضوع والارتكازات العقلائية والاجتماعية لفهم النص، فإنه يمكن أن يقال: إن هذه القاعدة تنفي كثيراً من الأحكام الفقهية الثابتة كالقصاص والديات والضرائب المالية وبعض العبادات كالحج ونحوها، فيلزم تخصيص هذه القاعدة في الموارد المذكورة التي هي أضعاف ما يبقى فيها، ولما كان تخصيص العام في أكثر مدلوله غير جائز، فيتوجّه الوهن إلى العام.

إلا أن الاقتصار على مثل هذا الإطلاق غير صحيح، لأنه حينما يقال: «لا ضرر» من ناحية الشريعة، فهذه الإضافة المستفادة من تلك القرينة اللبية والحالية التي تقدّم الكلام عنها، تعطي نوعاً من التخصيص والتقييد لمفاد هذه الجملة بحسب مناسبات الحكم والموضوع. فإن المركوز في الأذهان العقلائية أن من المقوّمات الأصلية للشريعة اشتمالها على قواعد وأنظمة وتشريعات تحقّق العدالة الاجتماعية للناس. ولعل هذه هي المسؤولية الأساسية التي أُلقيت على عاتق الشريعة الحقّة العادلة. ومن الواضح أن تحقيق ذلك لا يمكن إلاّ من خلال مجموعة من التشريعات والقوانين الفردية والاجتماعية التي تحدّد للناس ما لهم من الحقوق وما عليهم من المسؤوليات والالتزامات. ولا يمكن أن يقال إن مثل هذه التحديدات الصادرة من الشارع الأقدس ضررٌ على الناس، لما فيه من المصالح الحقيقية في الدنيا والعقبى، وإن لم تظهر لهم جميعاً بكامل تفاصيلها وآثارها ؛ والتاريخ والتجربة الإنسانية خير شاهد على ذلك. بل الضرر أن تخلو الشريعة التي تدّعي لنفسها ضمان سعادة الإنسان، من تلك الأحكام التي تقتصّ من الجاني وتعاقب السارق وتشغل ذمّة من أتلف مال الغير وتأخذ الحقوق المالية كالزكاة والخمس من الأغنياء للفقراء ونحوها.

على هذا الأساس، فالضرر الذي يكون مؤدّياً إلى تحقيق تلك المصالح الاجتماعية والفردية، لا يكون منفياً بمثل هذه العبارة، بل المنفيّ بها هو ذلك الضرر الذي يكون خارجاً عن حريم تلك المصالح المركوزة في الأذهان العقلائية. فمناسبات الحكم والموضوع الاجتماعية، أو ما نصطلح عليه بالفهم الاجتماعي للنص، تقتضي في المقام أن يكون المقصود من الضرر المنفيّ غير تلك الأضرار التي يراد منها التحفظ على تلك المصالح.

بناءً على ما ذكرنا فمثل الحدود والقصاص والديات ونحوها من الأحكام الضررية وإن كانت مؤدية إلى أضرار بالنسبة إلى الأفراد حقيقة، لكننا بلحاظ إضافتها إلى الشريعة من جهة، ونفي عنوان الضرر عن الشريعة من جهة أخرى، نستكشف ـ بمناسبات الحكم والموضوع القائمة على أساس ارتكاز أن الشريعة صلاحيتها بأن تكون في مقام التحفظ على المصالح النوعية ـ أن هذا الضرر المنفيّ لا يمكن أن يكون شاملاً لهذه الأحكام الضررية.

فهذه النكتة كافية في مقام بيان أن أكثر ما ذكر من هذه التخصيصات ليست هي في الحقيقة تخصيصاً للقاعدة،وإنما هي خارجة تخصصاً. وما بقي من التخصيصات الأخرى، فهي طبيعية يمكن أن تطرأ على أي قاعدة أخرى، وليست هي بالقدر الذي تهدم ظهورها وتوجب وهنها في كونها قاعدة عامّة. هذا هو الحل الصحيح لهذه المشكلة».

هذه المحاولة

لقد شهدت الدائرة العلمية التي تنتهي إلى مدرسة الشهيد الصدر أكثر من صياغة في تقرير قاعدة «لاضرر ولا ضرار» مما يضع هذه المحاولة تحت السؤال، ويحوطها باستفهامات تسعى أن تعرف البواعث التي أملت علينا تقديم بحث جديد حيال القاعدة ذاتها.

في الحقيقة يمكن الباعث الأساسي فيما اتفقت عليه كلمة تلامذته وأشرنا ليه خلال المقدمة مرات ـ من أنّ الجهود الأصولية للسيد الصدر تستبطن بذور مرحلة رابعة على خط تطوّر الفكر الأصولي. ومن الجلي أن عملية اكتشاف قواعد هذه المدرسة ومعرفة مكوّناتها، وبانة بداعاتها نقداً وتأسيساً، ويضاح سهاماتها المنهجية والمضمونية، هي عملية شاقّة ودائمة لا تتوقّف عند هذا الجهد أو ذاك، بل تمتد لتستوعب كل بادرة تطمح أن ترى نجاز السيد الشهيد وهو يأخذ موقعه اللائق في الأصولي المعاصر.

فلما كان سيدنا الأستاذ بجهازه العقلي العملاق وعدته المنهجية الرفيعة وأسلوبة الرائق في البيان، هو الأقدر على بانه معالم فكره، فقد اخترنا أن نعرض هذا البحث وهو أقرب ما يكون لى عبارته وأسلوبه.

على أن لهذه الطريقة فضيلة أخرى وهي تكشف عن نمو الأفكار وتحولاتها في طار تأريخي يسمع للباحث أن يصحب السيد الشهيد ويرافقه بدقّة في مساره الفكري. فما تمتاز به هذه البادرة ذاً أنها جاءت أقرب ما تكون روحاً وأسلوباً ولفظاً لى دروس السيد الشهيد وهو يقرّر القاعدة على تلاميذه.

وما تهدف إليه، هي أن تكون لبنة جديدة في الصرح العلمي للسيد الأستاذ تسهم في الكشف عن مدرسته الأصولية وصفها مرحلة أخرى على خط تطور علم الأصول.

عند هذه النقطة صار من المناسب التوفر على ذكر ملاحظتين:

الأولى: علاقة كاتب الطور بدروس السيد الشهيد.

الثانية: عمله في هذا الكتاب.

بشأن الملاحظة الأولى تتوزع علاقتي مع الدروس الأصولية للسيد الشهيد كما يلي:

1ـ أتيحت لي فرصة حضور دروسه الأصولية مباشرة والتتلمذ على يديه (قدس سره) لمذة وصلت الى خمس سنوات استوعبت آخر مباحث المطلق والمقيد لى مباحث الاشتغال من الدورة الثانية.

2ـ أفدت بحث الاستصحاب كاملاً استعارة من تقريرات السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره) الذي يتحلى في هذا المجال بروح كريمة وأريحية عالية.

3ـ بين هذا وذاك استكملت مباحث القسم الثاني من تقريرات المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي.

أما بشأن الملاحظة الثانية، فيمكن أن اضع النقاط التالية:

1ـ لما كانت فلسفة هذه المبادرة أنها تحاول تقديم البحث أقرب ما يكون صلةً لى السيد الشهيد، فقد حرصت على أن أقلل تدخلي في المتن، إلاّ ما كان ضرورياً كحذف المكرّر إذا اشترك في بيان واحد، وتنظيم العباثر، وإدخال أدوات الربط، ووضع العناوين الدالة.

2ـ بذلت جهدي لكي يأتي هامش الكتاب مكملاً للمتن لما يخدم إبراز مقولات السيد الأستاذ واعتراضاته، حيث عمدت الاستخراج ما أستطيع من الأقوال والمناقشات، مشيراً إلى مصادرها ونصوصها إذا كان ثم ضرورة لذلك، مع الكشف عن خلفيات بعض النظريات وغير ذلك مما سيلمسه القارئ مباشرة.

3ـ توفرت في هذه المقدمة على بيان بعض معالم التحديد في الفكر الأصولي للسيد الصدر، منطلقاً من بداية  ـ لا أزال أراها الأقدر من غيرها على إبانة عناصر الإبداع في المدرسة الصدرية ـ تمتلك في بيان موقف السيد الأستاذ من نظرية المعرفة، والإسهام الذي قدمه في هذا المضمار تم متابعة بعض النتائج التي انعكست على الممارسة الأصولية للسيد الشهيد كأثر لمتبنياته المعرفية، وذلك لما يكشف الترابط الوثيق بين الموقف المعرفي والمتبنيات الفكرية على مختلف الضعف الفلسفية والكلامية والأصولية والفقهية.

لقد تعامل السيد الصدر مع نظرية المعرفة تعاملاً منهجياً دقيقاً وداعياً، فقرّر موقفه المعرفي في البدء، ثم انطلق منه كحجر أساس وبنّاء تحتي لتشييد رؤاه في بقية العلوم.

ولا يزيد ماجاء في المقدمة على هذا الصعيد، أكثر من كونه اشارات أولية وبسيطة ترمي أن تفتح الطريق للتعاطي في قراءة الراحل العظيم.

إلى جوار نظرية المعرفة؛ انطلقت المقدمة من الخصائص البارزة التي تنتظم المنظومة الفكرية للسيد الصدر عامة، في درس تمهيدي سعى أن يستقصي نتائج هذه الخصائص وما تبسطه من آثار على النسيج العلمي للسيد الشهيد في علم الاصول كما في غيره.

يبقى أن أشير إلى أن هذه محاولة أولى أخطط أن أشفعها بدراسات أخرى على المنوال ذاته؛ يزيدني في العزم موقعها الذي تلقاه عند أهل العلم وطبيعة تلقّي الأروقة العلمية لها.

السيد كمال الحيدري

قم المقدسة

21 شوال 1420

[1] المعالم الجديدة للأصول، محمد باقر الصدر، مطبوعات مكتبة النجاح ، طهران، الطبعة الثانية ، ص87.

[2] المعالم الجديدة، مصدر سابق، ص47.

[3] مباحث الأصول، تقريراً لأبحاث سماحة آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر، السيد كاظم الحسيني الحائري، الجزء الأول من القسم الثاني، ص58.

[4] فلسفتنا، دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية وخاصة الفلسفة الإسلامية والمادية الدياليكتيكية (الماركسية)، الشهيد محمد باقر الصدر، الطبعة العاشرة، دار الكتاب الإسلامي، قم، ص57.

[5] المعالم الجديدة، مصدر سابق، ص96.

[6] المعالم الجديدة، مصدر سابق، ص76.

[7] المعالم الجديدة، مصدر سابق، ص85.

[8] مباحث الأصول، مصدر سابق، ج1، ص63.

[9] بحوث في علم الأصول، مباحث الحجج والأصول العملية، تقريراً لأبحاث سيدنا وأستاذنا الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر طاب ثراه، السيد محمود الهاشمي، ج1، الحجج والأمارات، ص130.

[10] الأسس المنطقية للاستقراء، دراسة جديدة للاستقراء تستهدف اكتشاف الأساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللإيمان بالله، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، ص5 ـ 7.

[11] الأسس المنطقية، مصدر سابق، ص33 ـ 34.

[12] الإشارات والتنبيهات للشيخ أبي علي حسين بن عبد الله بن سينا، ج1، ص217.

[13] الأسس المنطقية ، مصدر سابق، ص45.

[14] يقول (قدس سره): «ونريد بالمذهب الذاتي للمعرفة اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة يختلف عن كلّ من الاتجاهين التقليديين اللذين يتمثّلان في المذهب العقلي والمذهب التجريبي». الأسس المنطقية، ص133.

[15] الأسس المنطقية، مصدر سابق، ص46.

[16] الأسس المنطقية، مصدر سابق، ص70.

[17] الأسس المنطقية، مصدر سابق،  ص507.

[18] مباحث الأصول، مصدر سابق، ج1، ص546.

[19] الأسس المنطقية، مصدر سابق،  ص134.

[20] الأسس المنطقية، مصدر سابق،  ص507.

[21] الفتاوى الواضحة وفقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة السادسة، ص17.

[22] المصدر نفسه، ص61.

[23] دروس في علم الأصول، تأليف الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر طاب ثراه،…..، الطبعة الثانية، الحلقة الثالثة، القسم الأول، ص194.

[24] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص327، بتصرف.

[25] الحلقة الثالثة، مصدر سابق، ج1، ص199.

[26] الأسس المنطقية، مصدر سابق، ص368.

[27] الحلقة الثالثة، مصدر سابق، ج1 ص201.

[28] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص309.

[29] الحلقة الثالثة، مصدر سابق، ج1، ص212.

[30] علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، محمد جواد مغنية، انتشارات ذو الفقار، ايران، قم، الطبعة الثانية، ص227.

[31] الحلقة الثالثة، مصدر سابق، ج1 ص219.

[32] الحلقة الثالثة، مصدر سابق، ج1، ص211.

[33] الحلقة الثالثة، مصدر سابق، ج1، ص212.

[34] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص309.

[35] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص311.

[36] المصدر السابق، ج4، ص321.

[37] المعالم الجديدة، مصدر سابق، ص92.

[38] ما قرّرناه عن الأستاذ الشهيد في مجلس الدرس.

[39] مباحث الأصول، مصدر سابق، ج2 ص25.

[40] المعالم الجديدة، مصدر سابق، ص92.

[41] علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، مصدر سابق، ص80.

[42] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج3، ص58.

[43] علم الأصول في ثوبه الجديد، مصدر سابق، ص126.

[44] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج3، ص58.

[45] حاشية الكفاية، ص10، رسالة الاعتباريات في رسائل سبعة، ص123 وما بعد، أصول الفلسفة……

[46] المعالم الجديدة، مصدر سابق، ص93.

[47] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص291.

[48] مباحث الأصول، مصدر سابق، ج2 ص247.

[49] المصدر السابق، ج2 ص246.

[50] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص291.

[51] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص293.

[52] الحلقة الثالثة، مصدر سابق، ج1، ص278.

[53] المصدر نفسه.

[54] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص293.

[55] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص293.

[56] المصدر نفسه.

[57] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص294.

[58] الحلقة الثالثة، مصدر سابق ج1، ص279

[59] ما قرّرناه عن الأستاذ الشهيد في مجلس الدرس.

[60] مباحث الأصول، مصدر سابق، ج1 ص59.

[61] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص233.

[62] مباحث الأصول، مصدر سابق، ج2 ص133.

[63] المصدر السابق، ج2 ص134.

[64] الحديد: 25.

[65] تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تأليف الفقيه المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (ت: 1104 هـ)، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ج 27، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

[66] المصدر السابق.

[67] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج7، ص333.