فلسفة التاريخ من خلال كتابات الامام الصدر ونقد نهاية التاريخ

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

ان التحولات التي يشاهدها العالم الاسلامي منذ عصر الاصلاح (السيد جمال الدين الحسيني الافغاني) وما تلاه من استعمار وتحرر من الاستعمار ومحاولات للخروج من التخلف. كل هذه العوامل حتمت اللجوء الى التاريخ من طرف المفكرين في العالم الاسلامي بكل اتجاهاتهم (الاتجاه الاسلامي والاتجاه المحدث)[1].

وقد كان هذا اللجوء الى التاريخ، وما يزال اما لتبرير مواقف مسبقة من تاريخ الامة الاسلامية او لتأسيس الرؤية السياسية والحضارية على اسس متينة. اي على خلفية تعتمد على رؤية فلسفية وعلمية الى التاريخ.

وعلى العموم، فالفكر الاسلامي المعاصر لم يستطع الى حد الآن صياغة منظومة فكرية تصل الى مستوى النظرية او المذاهب[2]. في المجال الاجتماعي على العموم وفي مجال فلسفة التاريخ على وجه الخصوص. فأكثر المساهمات تتصف بالاندفاع والمواقف العاطفية التي تعبر عن عجز الفكر الاسلامي المعاصر للوصول الى صياغة جهاز مفاهيمي. وتعتبر كتابات السيد محمد باقر الصدر مواقع فكرية جد متقدمة في مجال التنظير والنظرة المستقبلية.

فالسيد محمد باقر الصدر قد ترك نسقا فكريا يحتوي على مذهب اقتصادي وسياسي يرتكز على رؤية فلسفية الى التاريخ على اعتبار ان كل مذهب اجتماعي الا ويتطلع الى تحقيق اهداف او مشروع في المستقبل. وهذا ما يجعل فلسفة التاريخ بعدا ضروريا وجوهريا بالنسبة لكل مشروع حضاري.

وقد حاول الشهيد الصدر ان يحرر تاريخ الامة من التساؤلات المتسرعة التي يتميز بها الاتجاه المحدث في العالم الاسلامي. وهي تأويلات تخضع التاريخ الى افكار مسبقة لتطبيق النموذج الحضاري الغربي عن طريق اللجوء الى نماذج التنمية الاشتراكية او الرأسمالية، ولتبرير الدول القومية في العالم الاسلامي[3].حاول السيد الصدر ان يحرر التاريخ من هذه المقاربات الذاتية فاعتمد على تحليل الحقل النظري[4]. الذي انتج النموذج الحضاري الغربي ليستنتج عدم صلاحيته لان يكون نمودجا كونيا. اعتمد الصدر في نقده هذا على التاريخ فقارن بين تاريخ الغرب وتاريخ الامة الاسلامية ليبين بأن مسار حركة تاريخ كل شعب هو مسار خاضع لعوامل اجتماعية واقتصادية وقيمية ودينية تختلف من مجتمع الى مجتمع[5].

لا شك ان السيد الصدر لم يفرد مؤلفا خاصا بفلسفة التاريخ. وهذا راجع الى عوامل منها:

1ـ عامل مرتبط بمسألة الاولويات حيث ان الصدر لم يكن يهتم بالمجال النظري المجرد فحسب. بل كان يعالج قضايا كانت، وما تزال، تطرح على الفكر الاسلامي وعلى الحركات الاسلامية يوميا وفي الواقع الحي.

2ـ العامل الثاني عامل ابستمولوجي[6]: الرؤية الاسلامية الى القضايا رؤية شمولية يتداخل فيها الجانب المعرفي مع الجوانب الاخرى الاجتماعية والسياسية والميتافيزيقية[7]. وهذا ما يتجلى بوضوح في كتابات الصدر حيث ان فلسفة التاريخ تعد في كثير من جوانب كتاباته العمود الفقري لافكاره. فهي توجد بصورة صريحة او ضمنية في صياغاته للفكر الاقتصادي الاسلامي وللفكر السياسي، كما توجد في كتاباته التي تبدو في الظاهر لا علاقة لها بفلسفة التاريخ كأصول الفقه والعبادات[8].

لقد استنطق الصدر التاريخ وحلله في كل كتاباته. وقد كان هذا التحليل يسعى الى الوصول الى الكشف عن عوامل النهضة والانحطاط. وكان يسعى الى الكشف عن الارضية التي جعلت المسلمين يشيدون حضارة رائدة. ان هذه المقاربة للتاريخ ليست من نوع الدراسات التمجيدية، بل هي مقاربة هدفها تمييز عناصر القوة من عناصر الضعف في تاريخ الامة. اي التمييز بين الامامة والملك، بين الخط الرسالي والخط المنحرف.

فالصدر طرح مشكلة فلسفة التاريخ بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، اي انه تناول المعرفة التاريخية كموضوع بالتحليل والنقد، كما تناول حركة المجتمعات البشرية عبر الزمان كتجربة، وبغية الوصول الى معنى هذه الحركة وقيمتها[9].

لقد كان الصدر يرى بأن وضع القضايا المطروحة على العالم الاسلامي في اطار الرؤية الفلسفية للتاريخ سيحرر الفكر الاسلامي من انتظار الخلاص من لدن المستبدل العادل[10]. او انتظار الخلاص من الفكر الغربي الجاهز. فهذا النوع من الانتظار هو النتيجة الحتمية للتفكير السطحي الناجم عن النظرة التجزيئية للقضايا والذي لا يمكن التحرر منه الا بالنظرة الشمولية الملازمة للرؤية الفلسفية للتاريخ.

ان الوعي بضرورة فلسفة التاريخ لتنظير وتجسيد مشروع حضاري سوف يصبح اطروحة مثيرة للابتكار اذا تأسس على محاولة الاستقلال الفكري ومراجعة التصورات السائدة عن الحضارة الاسلامية. وهي مراجعة تحتاج الى جرؤة فكرية واجتهادية يحرران الفكر الاسلامي المعاصر من المواقف المريحة التي تدعي ان كل شيء جاهز من ماضينا او من حاضر الثقافة الغربية.

فالرؤية الفلسفية للتاريخ من حيث هي رؤية نقدية مرتبطة بالمراجعات المستمرة التي تتطلبها تطورات المجتمع منجهة، ومكتسبات العلوم الانسانية من جهة اخرى. هذه المراجعات ضرورية لتصحيح المفاهيم وادراك الواقع. فعقلانية المنهج وعقلانية العمل او الممارسة عامل اساسي وضروري لتغيير الواقع المنحط وخوض الصراع الحضاري الذي يتسم به هذا العصر.

فالعقلانية التي لا تعتمد على فلسفة التاريخ هي عقلانية اما مجردة او تجزيئية لا يمكن ان تكون اداة او سلاحا للنهضة وللصراع الحضاري.

لا يمكن ان يحصل استيعاب للصراع الحضاري بكل امتداداته خارج فلسفة التاريخ. ان كل نقص في الرؤية التاريخية الا وظهرت نتائجه كعجز حضاري يشكل عائقا امام تقدم الامة الاسلامية. ذلك ان المجتمعات لا تتقدم بالاستقراءات السطحية للتاريخ او بالنظرة التمجيدية له. ففي كلتا الحالتين يغيب الموقف النقدي ويغيب التفسير الذي بفضله يبرز التصور الشامل للتاريخ ويعرف مسار التاريخ من جميع جوانبه.

لقد دخلت الشعوب الاسلامية منذ القرن التاسع عشر مرحلة تاريخية جديدة، وقد حاولت كل الاتجاهات الفكرية في العالم الاسلامي ان تحدد هذه المرحلة الجديدة(خط السيد جمال الدين الحسيني الافغاني وخط المحدثين).

على الرغم من وجود بعض المحاولات لضبط رؤية (للجديد) ضمن صيرورة الامة، الا انها كانت، وما تزال، محاولات في مراحلها الاولية والبسيطة. هذه المحاولات لم تستوعب في مستوى التحليل الفلسفي الا نادرا. مثلا لم تحلّل المرحلة التاريخية الجديدة على طريقة فلاسفة التاريخ في الغرب ـ المجتمع الصناعي والحالة الوضعية عند اجوست كونت «Auguste Conte» والمجتمع الرأسمالي ونظرية ماركس «Marx».

ففلاسفة التاريخ في الغرب كانوا يشاهدون نشوء مجتمع جديد: اوجست كونت، قد حدد معالم لهذا المجتع وكذلك فعل ماركس حيث، انه ركز على العوامل الرئيسية، في نظره، لتطور المجتمع، وهكذا، ففلاسفة التاريخ في الغرب لم يتجاهلوا التغيرات التاريخية التي وقعت في ذلك العصر.

يمكن القول، في هذا السياق، بأن الشهيد الصدر كان واعيا بأن الواقع الجديد الذي تعيش فيه الامة في هذه العقود الاخيرة يحتم على الفكر الاسلامي المعاصر أن يعيد تحديد موقعه من الفكر المعاصر على العموم ومن فلسفات التاريخ على الخصوص.

فاللجوء الى فلسفة التاريخ في صورتها الغربية (المفاهيم، الرؤى، الحقب التاريخية) مغامرة غير مأمونة، سوف تؤدي الى اعادة انتاج التخلف والانحطاط بشكل دائم.

ومن هنا يرى السيد الصدر انه لا بد من ثورة على صعيد المفاهيم لتوضيح اسباب التشويش المنهجي، والمعرفي الذي يتخبط فيه الفكر المحدث في العالم الاسلامي وكذلك بعض جوانب الفكر الاسلامي. وهذا لن يتم ـ في نظر الصدر، دون موقف نقدي يفلسف عملية اللجوء الى التاريخ ويبين علاقة الأمة بالتاريخ في خصوصياتها وكونيتها.

ان الصياغة الفلسفية للتاريخ تحرر هذا الأخير من الطريقة السردية الحاكائية[11].

التي لا تنظر الى تقدم الشعوب وانحطاطها الا من خلال الافراد (الملوك «الابطال»، «العظماء») فالتحليل الفلسفي للتاريخ يفتح الطريق للبحث عن العوامل والأسباب المؤثرة في سير التاريخ، وتتابع مراحله. فالفكر الاسلامي المعاصر لا يمكن ان يستمد القيم، والمفاهيم من التاريخ لمعالجة الواقع المعقد الا عن طريق الرؤية الفلسفية للتاريخ. ان الطريقة السردية طريقة تجزيئية لا يمكن ان تكون معياراً لاتخاذ موقف من واقع القرن العشرين.

ان البحث عن معنى التاريخ لتحديد موقع الأمة ضمن الصيرورة التاريخية، وموقعها بالنسبة للقيم الملازمة لهويتها، ان هذا البحث لن يتحقق الا من خلال رؤية شمولية للتاريخ، رؤية تربط الجانب الاجتماعي بالجوانب الروحية والاقتصادية والثقافية والسياسية.

وهكذا لقد طرح الصدر الرؤية الاسلامية الى التاريخ كبديل لكل فلسفات التاريخ الغربية. وهي رؤية حاول الصدران يرسم في نطاقها معالم صيرورة الأمة من عصر الرسالة الى ظهور الامام المهدي الموعود (ع). لذلك فان فلسفة التاريخ الاسلامية في شكلها العام ليست من قبيل فلسفات التاريخ الغربية التي تأتي بها ظروف ثم تتجاوزها ظروف اخرى. ففلسفة التاريخ الاسلامية كما صاغها الصدر تعتمد على اسس اسلامية لا يمكن لمن كان مسلماً ان ينكرها مثل: الأمة وعلاقتها بخلود الرسالة الاسلامية، الفرق بين الرسالة والدورة الحضارية، وعد الله بنصر المؤمنين، انتصار الحق على الباطل.. الخ[12].

اولا: الرؤية الاسلامية الى التاريخ واشكالية مشروعيتها من الناحية الابستمولوجية:

1ـ الايديولوجية والعقيدة وفلسفة التاريخ:

يزعم فلاسفة التاريخ الوضعيون بأنهم يفسرون التاريخ دون الانطلاق من خلفية ميتافيزيقية صريحة او ضمنية. في حين ان كل دراسة تاريخية تتضمن رؤية فلسفية الى التاريخ يعبر عنها المؤرخ او يتركها متضمنة في تحليله. ان الموضوعية في فلسفة التاريخ جد نسبية. ففيلسوف التاريخ يتصور حركة التاريخ وينظرها بالنظر الى الاهداف التي تصورها مسبقاً.

فصياغة فلسفة التاريخ لا تخلو اذاً من افكار مسبقة[13].

يمكن القول بأن الامام الصدر يلتقي مع فلاسفة التاريخ الغربيين في هذه النقطة: صياغة فلسفة التاريخ لا تنطلق من الفراغ بل من افكار قبلية. لكن نقطة الاختلاف ان الافكار القبلية التي ينطلق منها فلاسفة التاريخ الغربيون مصدرها انساني. فماركس مثلا تصور مجتمعاً بدون طبقات ثم نظّر رؤيته الفلسفية الى التاريخ حسب هذه الفكرة القبلية (اي قبل التجربة) ورسم معالم حركة التاريخ على شكل مراحل: من مرحلة المشاعة البدائية الى المرحلة الاخيرة: المرحلة الشيوعية. ونفس الامر بالنسبة «لأجوست كونت» الذي نظّر الى حركة التاريخ من خلال فكرة مسبقة: سيادة الفكر الوضعي. فحقب «أ ـ كونت» حركة التاريخ انطلاقاً من هذه الفكرة القبلية. يمكن القول بان قانون الاحوال الثلاثة الذي صاغه «أ. كونت» يفرض على التاريخ مساراً محدداً لايخرج عنه[14].

اما بالنسبة للامام الصدر فمنطلقاته، في تنظيره لفلسفة التاريخ، هي منطلقات ثم استخراجها من القرآن الكريم في صورة مبادىء عامة تشكل مفاهيم استكشافية تجعل فيلسوف التاريخ لا ينطلق من الفراغ. ولكن اضافة الى هذه المبادىء العامة هناك معالم يقدمها القرآن الكريم ترشد عملية التنظير في مجال فلسفة التاريخ مثلا: وعد الله بنصر المستضعفين في صراعهم ضد المستكبرين، انتصار الحق على الباطل. وقد ساعدت هذه المبادىء والمعالم القبلية المفكرين المسلمين وخاصة الشهيد الصدر على توقع سقوط النظامين الاشتراكي والرأسمالي وسيادة النموذج الحضاري الاسلامي.

ففلسفة التاريخ التي يطرحها الصدر تعتمد اذاً على جانب قبلى[15].

فالصدر لا يبحث في التاريخ ومراحله واتجاهه ومعناه ثم يصل بعد ذلك الى النظرية العامة حول التاريخ. مسار الامام الصدر في البحث ليس مساراً امبريقياً (تجريبياً)[16]. فالنظرية لا تأتي بعد البحث، ولكنها لا توجد قبله كذلك. فمقاربة الصدر لحركة التاريخ ولحركة الأمة عبر التاريخ تنطلق من اطر مفاهيمية وقيمة ومن الواقع في نفس الوقت. فهو مثلا يحلل حركة الأمة في التاريخ كما وقعت بالفعل ولكنه لا ينهي بحثه عند هذه النقطة بل يتجاوزها بالرجوع الى مفهوم قرآني: الامة الشاهدة. فيربط الواقع بالمثال وينظّر حركة الامة المستقبلية في هذا الأفق. اضافة الى ما سبق فان الصدر لا ينطلق في بحثه من الفراغ ليستمد افكاره كلها من الواقع ومن التاريخ على العموم ومن تاريخ الأمة خاصة. هذا الاطار الفكري العام هو عبارة عن قيم ومفاهيم استخرجها الصدر اما بصورة مباشرة من القرآن الكريم او بصورة غير مباشرة من الاحكام الشرعية[17]. وعلى العموم هذه القيم والمفاهيم هي عبارة عن ادوات استكشافية وليست نظرية جاهزة في مجال فلسفة التاريخ كما اشرنا فيما سبق.

ولكن الرؤية الاسلامية الى التاريخ لا يمكن ان تنظّر الا عن طريق هذا الاطار القيمي والمفاهيمي العام ذي المصدر القرآني، والا اصبحت هذه الرؤية الى التاريخ غير اسلامية كما هو الامر بالنسبة للرؤية التاريخية لدى المحدثين في العالم الاسلامي الذين حجزوا افكارهم داخل الفلسفة الغربية جملة وتفصيلا وفرضوا رؤى هذه الفلسفة على تاريخ الامة الاسلامية. فهم مثلا يقسمون تاريخ الامة على غرار تاريخ الغرب الى عصر وسطي يصفونه بالعصر الظلامي والى عصر الانوار.. الخ كما ينظرون الى حركة تاريخ الشعوب الالسامية انطلاقاً من صراع الطبقات وتطور وسائل الانتاج وما ينتج عنه من تطورات اجتماعية وسياسية وثقافية في نظرهم.

وقد وصل المحدثون الى تقسيم تاريخ الامة، انطلاقاً من هذه الرؤية، الى مراحل كمرحلة العبودية والاقطاعية وتوقعوا ظهور المرحلة الرأسمالية في العالم الاسلامي ثم مرحلة الاشتراكية واخيراً المرحلة الشيوعية كمنتهى لحركة الامة عبر التاريخ.

يمكن القول، في هذا السياق، بان ربط التاريخ بالتعالي[18]. ليس مسألة عقائدية فحسب بل هو كذلك مسألة معرفية. ان الفكر المحدث في العالم الاسلامي يربط هو الآخر التاريخ بالتعالي، لكنه تعالي مزيف. نقصد بالتعالي هنا، وبالنسبة للاتجاه المحدث، الافكار المسبقة التي يدرس هذا الاتجاه حركة الأمة انطلاقاً منها. هذا النوع من التعالي هو تعالي من صنع البشر اي ايديولوجيا يعرف المفكر عن طريقها وبصورة مسبقة حركة التاريخ ماضياً ومستقبلا.

فهنا تطرح مشكلة على الصعيد الابستمولوجي على اعتبار ان الفكر المحدث في العالم الاسلامي جعل تاريخ الامة كموضوع في خدمة المنهج المعد سلفاً. في حين ان العكس هو الصحيح على الصعيد العلمي: فالمنهج هو الذي يخضع للموضوع ويتغير تبعاً لتغير المواضيع.

ان الايديولوجيا من صنع الانسان: وهي غالباً ما تقوم كعائق امام البحث العلمي في مجال العلوم الانسانية لأنها تقدم افكاراً مسبقة تؤثر في مسار البحث وفي ذاتية الباحث. اما العقيدة (الاسلامية) فهي ليست ايديولوجيا في مصدرها (لأن مصدرها الهي). لكن الجانب الايديولوجي حاضر في العقيدة لما تغيب التقوى لدى الانسان في فهمه للعقيدة فينظر الانسان الى العقيدة، ذات المصدر الالهي، من خلال ذاتيته وأهوائه وخارج اطار الاجتهاد الذي يسمح، نسبياً، بتدخل الذاتية كمعطى من معطيات الذات الانسانية لا كأفكار مسبقة[19].

ان المواقف الايديولوجية تتجلى بصورة واضحة لدى المحدثين عندما يحاولون التوفيق بين الاسلام والاشتراكية او بين الاسلام والرأسمالية انطلاقاً من الفكر الغربي ومتطلباته. فتنتهي مواقفهم الى مواقف تلفيقية لا أساس لها لا من حيث ارتباطها بالاسلام ولا من حيث ارتباطها بالواقع (واقع الشعوب الاسلامية). وهكذا تشكل الايديولوجيا عائقاً ابستمولوجيا امام المعرفة التاريخية. فالشرط الأساسي للمعرفة التاريخية هو اذاً احداث قطيعة ابستمولوجية مع الايديولوجيا. وعلى العكس من هذا بالنسبة للعلاقة بين الدين الاسلامي والمعرفة التاريخية. فان الالتحام بالعقيدة هو من الشروط الأساسية للوصول الى المعرفة التاريخية.

2ـ التعالي وأبعاده المعرفية:

لا يمكن صياغة رؤية عقلانية الى التاريخ الا باتخاذ موقع من التاريخ والنظر اليه ككل. هذه النظرة الى التاريخ من اعلى هي التي تمكن فيلسوف التاريخ من النظر الى الحوادث في ترابطها وتمكنه من اسقاط العلاقات السببية بين الحوادث في المستقبل. ثم يستمر فيلسوف التاريخ في هذه العملية فيتجاوز حدود توقع المستقبل وينتهي الى طرح مشكلة غاية التاريخ او «ناية التاريخ».

ان هذه الطريقة في صياغة فلسفة التاريخ وفي طرح مشكلة نهاية التاريخ وغايته تعتمد على تعالي وهمي ومزيف ما دامت عملية التنظير تتم من منظور وضعي وفي اطار التاريخانية[20]20. وفي كلتا الحاتلين فان الفكر المنظّر لا يملك مقومات التعالي على الحاضر ليسمح لنفسه بالنظر الى التاريخ نظرة كلية تمكنّه من تنظيره وتصور غايته.

_________________________

(1) (20)

هذا العائق الذي يقف امام الفكر في مجال التنظير يعبر عن ازمة قاتلة للعقل تختلف عن ازمة العقل المنتجة للمعرفة.

الأزمة المنتجة للمعرفة (او الأزمة الايجابية) هي التي تأتي نتيجة لمواقف نقدية تجاه فكر معينة او نظرية معينة فتنسف ما كان ينظر اليه على انه من البديهيات فتصبح النظرية غير صالحة لتفسير المشاكل المطروحة (سواء في مجال المادة او في مجال العلوم الانسانية). فالأزمة هنا تطرح سؤلا. وهو سؤال ملزم لكل معرفة جديدة. «ان كل معرفة علمية هي جواب على سؤال، فاذا لم يكن هناك سؤال فلا وجود لمعرفة علمية» كما يقول غاستون باشلار (Gaston Bachelar). اما الأزمة بمعناها السلبي فهي ازمة الاصطدام بعائق العجز الناتج من التناقض: اذ كيف يتصور الفيلسوف التاريخ من اعلى (اي فوق التاريخ) ويتوقع حركته في المستقبل ويرسم معالم هذه الحركة او مراحلها اذا كان يتجاهل او لا يعترف بقدرة العقل على التعالي؟ وحتى لو قال الفيلسوف بالتعالي، فانه لا يكون تعالياً صحيحاً الا اذا تم من موقع الايمان بوجود الله. لأن التعالي الذي تطرحه كثير من الاتجاهات في الفكر الغربي هو تعالي من صنع الانسان: هو تعالى مزيف مثله مثل الذي يريد ان يقفز فوق ظله ويسبقه.

وهكذا فان الاشكال المطروح هو كالتالي: ما هي المقومات المعرفية التي تسمح للفكر بتأمل التاريخ من اعلى اي من خارج التاريخ حيث يتمكن الفكر من التحليق فوق حركة التاريخ فيكتشف مصدرها ومعناها ونهايتها؟

لذلك يمكن القل بان الفكر غير المرتبط بالتعالي هو فكر مستغرق في الزمان (في الزمان الحاضر) فالفكر هنا لا يتجاوز حدود الحادثة التاريخية وزمانيته تشكل محدوديته. لا يستطيع هذا الفكر اذاً ان يعي نفسه خارج التاريخ.

لكن القل بعلاقة الفكر بالتعالي في مجال تنظير فلسفة التاريخ لا يعني ان الفكر يتعالى على التاريخ بالمعنى الكلي لهذه الكلمة. اي ان التاريخ لا يؤثر في الفكر. فالفكر يحدد بتعاليه وبتاريخيته في نفس الوقت، فتعاليه لا ينفي تاريخيته، وتاريخيته لا تنفي تعاليه.

ان فلسفة التاريخ من حيث هي نظرة شمولية الى التاريخ في حاضره وماضيه ومستقبله تحتاج الى التعالي، الى مصدر متعالي يمكّن الانسان من اعطاء معنى للتاريخ والنظر اليه نظرة كلية نسبياً.

والنظرة العلمية الى التاريخ لا تتناقض مع التعالي اذا فهم (التعالي) خارج النزعة الغيبية اي الغيب بمفهومه المبتذل.

وفي هذا السياق، فان فلسفة التاريخ كما يطرحها الشهيد الصدر تختلف عن فلسفة التاريخ التي بدأت في الظهور بالغرب في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والتي تشكلت ضد اللاهوت. ففلسفة التاريخ في الفكر الغربي تنفي نفياً قبلياً كل علاقة مع الدين.

ان تحليل الصدر للتاريخ تم من موقع فلسفي وصل الى مستوى المذهب في ميدان المعرفة التاريخية. فالصدر قد حلل مشكلة السببية ومشكلة القانون ومشكلة معنى التاريخ ومشكلة التقدم. وكل هذه المفاهيم قد تم تحليلها في اطار نسقي يعبر عن مذهب الشهيد الصدر في ميدان فلسفة التاريخ. وهذا الميدان يتميز عن المذاهب الغربية بجانب جوهري: ان المذهب الفلسفي في التاريخ لدى الصدر ليس مجرد انعكاس للظروف الاجتماعية والتاريخية فقط. فمرجعية الصدر (القرآن الكريم) تجعل افكاره تتمتع بالتعالي او على الأقل بروح المبادرة تجاه مؤثرات المرحلة التاريخية التي عاش فيها. اي المرحلة المعاصرة.

على الرغم من ان بعض اتجاهات فلسفة التاريخ في الغرب تربط نظرتها بالتعالي، على الرغم من ذلك، فان الثنائية هي الطابع العام الذي تتصف به كل مدارس الفكر الغربي. ان رجوع الفكر الغربي الى الروحانية في هذه العشريات امر مشكوك فيه. لأن الروحانية التي ترتبط بها بعض مدارس فلسفة التاريخ، رؤيتها هي روحانية صورية ومن صنع الانسان[21]. اما الروحانية التي يشكل الصدر رؤيته الى التاريخ على ارضيتها فهي روحانية مصدرها الوحي (القرآن الكريم)، ولذلك فهي روحانية حقيقية وتعاليها على مؤثرات العوامل التاريخية هو تعالي حقيقي.

ان التعالي بمنظوره الاسلامي يستمد معناه من التوحيد الذي سيظل مبدأ ثابتاً، لأنه اصل الوجود كله، وأصل كل نظرة مستقبلية تسعى الى تحرير الانسان من الآلهة الكاذبة[22]، خاصة ألوهية المفاهيم كالعقل في التاريخ عند هيجل او المجتمع الشيوعي عند ماركس او نهاية التاريخ عند فرانسيس فوكوياما (Fukyam Frncis)

ان مبدأ العلاقة بين التعالي والتاريخ، في نظر الصدر، ليس مجرد مبدأ منهجي ومعرفي بل هو كذلك مبدأ تحرري. فعلاقة التعالي بالتاريخ تنتج عنها عملية تسريعية (لحركة التاريخ) تفجر الطاقات الكامنة في انسان العالم الاسلامي وتعيد الفعالية للأمة الاسلامية لاستعادة مكانتها في العالم وفي التاريخ. ان قطع التاريخ عن التعالي يؤدي، في نظر الصدر، اليواقعية تبريرية (الخضوع لثقل الواقع الفاسد) عكس الواقعية الجهادية التي هي واقعية تحويل وتجاوز عوائق الامر الواقع.

وهكذا يمكن القل بان علاقة التاريخ بالتعالي لا تشكل عائقاً ابستمولوجياً امام التنظير الفلسفي للتاريخ. فالتعالي والقدر والامداد الغيبي سنة من سنن الله. هذه المفاهيم القرآنية لا تتناقض مع العلاقة السببية التي تخضع لها الحوادث التاريخية. ان خضوع التاريخ لسنن الله يعني ربط عالم الشهادة بعالم الغيب، من جهة. وربط الحوادث التاريخية بعضه ببعض، من جهة اخرى[23].

من هذا المنطلق ينفي الصدر لاهوتية الفكر الاسلامي (اللاهوتية على غرار الفكر المسيحي في العصور الوسطى). فالصدر يتبنى المنهج العلمي ويرى بأن هناك سنناً تسود الطبيعة والمجتمع والتاريخ. وهذه السنن تجسد ارادة الله. ومن هنا فالصدر يتجاوز العائق الابستمولوجي الذي يفصل بين التفكير اللاهوتي والتفكير العلمي. وقد تم هذا التجاوز بفضل مفهوم قرآني «سنن الله».

ان تجاوز هذا العائق يفتح الباب واسعاً للفكر الاسلامي لتنظير رؤية فلسفية الى التاريخ في افق علاقة التاريخ بالتعالي: التدخل الالهي في حركة التاريخ يتم عن طريق سنن الله في الكون. ويتم هذا التدخل كامداد غيبي لما تتوفر الشروط الموضوعية للتغيير (النبوة والامامة)[24].

فالانسان عامل اساسي في التغيير لأنه مسؤول عن توفير شروط التغيير، ومعنى هذا ان السببية، وموضوعية الحوادث التاريخية لا تحدث قطيعة مع الجانب الغيبي على غرار الفكر اللاهوتي المسيحي في العصور الوسطى[25]. وتنتج عن هذه النظرة ان الانسان يتحكم في مصيره وانه لا يخضع خضوعاً كلياً للحتمية الاجتماعية والتاريخية. فالانسان يربط الحتمية بال هداف التي يرسمها وبالقيم الأخلاقية والدينية.

هذا الموقف يختلف عن الفلسفة الوضعية التي تمت صياغة فلسفة التاريخ في اطارها. حيث ان الفلسفة الوضعية ليست لها ركائز فكرية تسمح لها بالقول بأن الانسان لا يخضع لحتمية مطلقة، لأن هذه الفلسفة لا تعترف بالتعالي بل ترى ان كل معرفة مرتبطة بالتعالي هي معرفة غير علمية قد تجاوزتها حركة التاريخ.

ان نفي التعالي في المجال المعرفي وفي المجال العملي يؤدي الى حتمية مطلقة وقاهرة للانسان. وعلى عكس الفكر الوضعي فان فلسفة التاريخ من المنظور الاسلامي تفتح امام الانسان آفاقاً لا حدود لها لتغيير اوضاعه.

ان منطق فصل التاريخ عن التعالي يكشف عن زيف الأرضية المعرفية التي ينطلق منها الفكر الوضعي. ان الغاء ارادة الله من التاريخ يؤدي الى تناقض، حيث يصبح التاريخ هو الذي يتمتع بصفة مباشرة او غير مباشرة بصفات الألوهية. ومعنى هذا ان فصل التاريخ عن التعالي له نتائج سلبية على الصعيد المعرفي (تحويل النسبي الى مطلق) وعلى الصعيد الاجتماعي (تأليه البشر للبشر)[26].

ان النظرة الى حركة التاريخ من الزاوية الوضعية امر مشكوك فيه من الناحية المنهجية اذاً. فموقف فيلسوف التاريخ في المجال المعرفي ليس موقفاً متعالياً على حركة التاريخ بلموقفه تاريخي ومستغرق في التاريخ. ومعنى هذا ان فلسفة التاريخ هنا هي مجرد ظاهرة تاريخية[27].

ان النسق العقلي (اي المعرفة التاريخية كنسق فكري) لكي يتمتع بالمشروعية في الميدان العلمي يجب ان يكون متعالياً على التاريخ اي غير مستغرق في التاريخ الى درجة ان يصبح مجرد رد فعل على ظروف المرحلة التاريخية التي يعيش فيها فيلسوف التاريخ. وهذا التعالي مستحيل اذا تم الاعتماد على النظرية الوضعية وحدها.

ان التفسير الوضعي للتاريخ يتضمن اللجوء الكلي الى الضرورة والى القوانين والى التطور الخطي او الحلزوني لحركة التاريخ. هذه المفاهيم السابقة تصبح وحدها مبادىء وأدوات لتفسير التاريخ، فتحول هذا الاخير الى منطق خارج الزمان ويصبح التاريخ ـ نتيجة لذلك ـ خاضعاً الى حتمية مطلقة وقاهرة تنتهي الى اعتبار الانسان مجرد عنصر ثانوي من عناصر التاريخ واعتبار المكجتمعات البشرية مواضيع للدراسة كسائر المواضيع والأشياء الاخرى التي تدرسها العلوم الطبيعية. فليس الانسان اذاً هو الذي يعيش التاريخ، بل التاريخ هو الذي يشمل الانسان في كل جوانبه الى درجة ان الزمان هو الذي يعيش الانسان.

هذا الموقف مع التفسير الذي قدمه الامام الصدر للآية الكريمة: «ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد 11)[28]. حيث ان هذه الآية تتضمن التاريخ والزمان كما يعيشهما الانسان. فتحديد الصدر لحركة التاريخ يختلف اختلافاً جذرياً عن التحديد الوضعي. فالصدر يحدد التاريخ كدراسة لنشاط الانسان عبر الزمان كنشاط يجسد خلافة الانسان لله في الأرض: اى تأثير الانسان في الطبيعة وفي المجتمع.

هذا التحديد يجعل الانسان هو الفاعل الأساسي في التاريخ لا الوقائع التاريخية. لأن هذه الأخيرة لا تستمد معناها الا من الانسان.

ان الصدر لا ينفي، بموقفه هذا قوانين التاريخ، بل هو يؤكد على عقلانية التاريخ. وهي عقلانية تستمد مصدرها من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والروحية المؤثرة في سير الحوادث وترابط بعضها ببعض. غير ان هذه العوامل ليست من قبيل الحتمية المطلقة لأن الانسان يؤثر فيها ويؤثر في قوانين التاريخ. وهو لا يخضع لقوانين التاريخ خضوعاً سلبياً لأنه يتجاوز ـ عن طريق وعيه ـ العوامل المؤثرة في التاريخ. وبدون هذا التجاوز لا يمكن ان يكون هناك تاريخ.

فالانسان هو الذي يصنع التاريخ (من التاريخ) في نظر الصدر وليس التاريخ هو الذي يصنع الانسان كما ترى المدرسة الوضعية.

مع العلم بأن هذا لا يعني بأن الصدر يحلل حركة التاريخ من موقع مجرد ومثالي. فاذا كان التاريخ لا صنع الانسان، فان الانسان لا يتطور ولا يجسد خلافته لله، وان الأمة لا تحقق خلافتها وشهادتها الا في التاريخ وبفضل التاريخ.

ان عقلانية التاريخ فكرة واضحة في رؤية الصدر. فالمجتعات الانسانية ليست مستقلة او منفصلة عن التاريخ. انها تعيش في الطبيعة وفي المجتمع وترتبط بشروط مادية ومعنوية. وهذا الارتباط يشكل عقلانية التاريخ. غير ان هذه العوامل ليست تأثيراتها مطلقة كما يرى اصحاب النظرة التاريخانية. بل هي شروط لحركة التاريخ. انها شروط ضرورية ولكنها غير كافية.

ان القول بوجود قوانين يسير بمقتضاها التاريخ لا يتناقض، في نظر الصدر، مع حرية الانسان ومسؤوليته. اذ لا يمكن للانسان ان يساهم في حركة التاريخ ما لم يخضع التاريخ الى نظام او سنن. فالحرية لا تعني الفوضى والعبث وتدخل الانسان في حركة التاريخ هو سنة من السنن الالهية في الكون.

لقد تناول الصدر مشكلة التاريخ وخضوعه الى قوانين، وذلك من خلال تحليله لمفهوم السنة (سنة الله في الكون). ان الصدر لم يتناول هذا المفهوم بصورد عابرة بل تناوله بعمق وانتقد، نتيجة لذلك، التفكير اللاهوتي وحاول ان يبين ان الرؤية الاسلامية الى التاريخ هي رؤية علمية وليست لاهوتية، وان ربط التاريخ بالغيب هو تفسير علمي وليس تفسيراً لاهوتياً شريطة ان لا يكون هذا الربط مباشراً[29]. يرى الصدر ان هناك انتظاماً سننياً للوجود بجانبيه الكوني والانساني. وهذا ما يعبر عنه بالخلق التكويني والخلق التشريعي. هناك توافق وانسجام وتلازم بين الخلقين فالله تعالى الذي خلق الكون هو الذي شرع للانسانية.

لقد رسم الصدر الاطار العام للرؤية الفلسفية الاسلامية الى التاريخ من هذا المبدأ: ان الرؤية التاريخية لا يمكن ان تتشكل كلية داخل التاريخ لأنها سوف تبقى مجرد ظاهرة تاريخية هي الاخرى. لكن ربط الرؤية التاريخية بمصدر خارج عن التاريخ (التاريخ والتعالي) لا يعني نفي العقلانية والسببية في سير الأحداث ونفي قوانين التاريخ. فربط التاريخ بالتعالي ـ كما اشرنا فيما سبق ـ يدعم عقلانية سير الحواث. فالسنن التاريخية هي من هذا المنظور، جانب من جوانب علاقة التاريخ بالتعالي. ومعنى هذا ان حركة الامة، وهي حركة تتم في اطار الخلافة والتسخير، لا يمكن ان تتحقق الا بمعرفة السنن المحركة للتاريخ. فالنظرة الى التاريخ التي لا تعتمد على ربط الحوادث ربطاً سببياً، اي سننياً، هي نظرة لا تاريخية وغير علمية. لذلك يرى الصدر ان ربط التاريخ بالغيب لا ينفي تدخل العقل في تفسير الظواهر التاريخية، بل على العكس يدعمه ويدفعه الى البحث عن الحقيقة.

لم يحجز الصدر تحليله للتاريخ في الاطار الضيق للحوادث او للأفراد «ابطال» التاريخ بل تجاوز التاريخ السردي ووصل الى التاريخ المعتمد على ادوات علم الاجتماع[30]. اي البحث عن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والروحية التي تؤثر في حركة التاريخ. فالصدر لم ينظر الى الانسان كحالة ثابتة. فالفطرة او الطبيعة البشرية لا تعيش خارج التاريخ بل في التاريخ. فالفطرة في صيرورة مستمرة. ففلسفة التاريخ عند الصدر عبارة عن الفطرة في حركتها نحو تحقيق الخلافة.

لقد كان الصدرواعياً بعمق بأن الرؤية الاسلامية الى التاريخ وما تتضمنه من مشروع حضاري بديل لا يمكن ان تتم ضياغتها الا عن طريق نقد فلسفات التاريخ الغربية. وقد تم هذا النقد بالفعل. وهو نقد له نوعيته لأنه تم خارج النموذج المعرفي الغربي، وبصورة متحررة من ثقل الواقع الذي تعيشه الأمة (واقع التبعية والتخلف وسيادة العقلانية الغربية).

فالفكر الغربي، في نظر الصدر، له هوية واحدة وأساس واحد وكذلك (المحدثون) في العالم الاسلامي. انه فكر منقطع عن الله. لقد تجلت هذه الظاهرة بصورة واضحة منذ الثمانينات (اي بعد استشهاد الصدر). فعلى الرغم من تعدد المدارس والاتجاهات في الفكر الغربي والفكر المحدث او المتغرب في العالم الاسلامي، لم يعد هناك اي تمايز بين هذه الاتجاهات والمذاهب امام صعود الحركة الاسلامية.

ان الفكر الغربي لا يعترف بحق الاختلاف ولا يعترف، بالتالي، بحق ممارسة الحرية النابعة من ثقافة الشعوب الاسلامية ودينها. ان هذه الخلفية التي ينطلق منها الفكر الغربي هي التي تشكل غشاوة او عائقاً ابستمولوجياً يقف بين هذا الفكر وبين الحقيقة التاريخية.

ويتجلى، في هذا السياق، ان البديل الاسلامي الذي يطرحه الصدر في المجالات الاجتماعية والسياسية وفي الرؤية الاسلامية الى التاريخ هو الشرط الاساسي والضروري لتحقيق الحرية لأنه بديل يفجر طاقات انسان العالم الاسلامي ويعبؤها لتحقيق المشروع الحضاري.

على الصعيد الابتسمولوجي الرؤية الفلسفية الى التاريخ عند الصدر اقرب الى الموقف العلمي من الرؤية الغربية. نلاحظ لدى الصدر انفتاحاً على الثقافات والابتعاد عن ردود الفعل الانفعالية وعن الرفض المطلق وللامشروط للفكر الغربي. فالصدر يتعامل مع الفكر الغربي من خلال المفاهيم العلمية والمنج العلمي. اما الفكر الغربي فلم يتحرر من الخلفية المعرفية والاخلاقية لاطروحات الفكر الوضعي الذي يطرح نظرياته على انها نظريات علمية لا يمكن رفضها لانها كونية. الامر الذي اخرج مقاربة الفكر الغربي لفلسفة التاريخ من مسارها العلمي حيث اصبح هذا الفكر يقدس المفاهيم، كمفهوم الديمقراطية الليرالية مثلا، ومفهوم فصل الدين عن الدولة. والعامل الرئيسي الذي شكل مواقف الفكر الغربي هذه يتمثل في التاريخانية كمرجعية وحيدة لهذا الفكر.

ان الفكر الاسلامي لا يمكن ان يطرح مفهوم التاريخانية الا من موقع نقدي رافض. غير ان رفض الفكر الاسلامي للتاريخانية كما يتجلى عند الصدر لا يعني انه فكر اطلاقي يرفض تأثير العوامل التاريخية كما يزعم المحدثون. فالصدر يميز بين التاريخانية التي ترجع كل شيء التاريخ كمرجعية مطلقة الى درجة ان التاريخ يكفي نفسه وسياسية من موقع نسبي لا ينفي البعد الغيبي. فاذا كانت التاريخانية تنفي التعالي، فان التاريخية مثلها مثل الدراسة السوسيولوجية (عكس النزعة الاجتماعية) فانها لا تنفي التعالي مبدئياً.

اذا انتقلنا من الميدان الابتسمولوجي الى الميدان الاجتماعي نرى بأن هناك علاقة بين هذين الميدانين. وهي علاقة لم يستوعبها لا فلاسفة التاريخ الغربيون ولا المحدثون في العالم الاسلامي لأنهم يعتبرون ان التاريخانية[31]. هي منطق للخروج من الأزمات اي منطق للتحرر من التخلف (منطق للتقدم). ان الصدر قد قام، في هذا السياق، بتحليل ابستمولوجي لمفهوم التاريخانية، واستنتج بان هذا المفهوم لا يمكن ان يكون منهجاً للتقدم لأنه من انتاج الواقع اي هو مجرد انعكاس وانتاج للتاريخ. لذلك فالنظرية التي تنطلق من التاريخانية ليست لها رؤية مستقبلة. ومعنى هذا في نظر الصدر ان التاريخ لا يتحرك بعوامله الذاتية فحسب بل لا بد له من عامل خارجي متعالي عليه.

ان الرؤية المعرفية الاسلامية التي صاغها الشهيد الصدر لا تحدث قطيعة بين القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وخليفتها الفلسفية (فلسفة التاريخ). هذه النظرة الشمولية المتثملة في تداخل انواع المعرفة من اقتصاد وساسة وفلسفة التاريخ تستمد حقيقتها من نظرة كلية اكبر وأشمل منها بحكم تحرر نظرية المعرفة من محدودية العلاقة بين العقل والتجربة. اي تحررها من الاحادية: العقل كمصدر للمعرفة (المذهب العقلي)، او التجربة كمصدر وحيد للمعرفة (النزعة التجريبية) كما تحررها من الث والموضوع او بين العقل والتجربة كمصدرين للمعرفة). ان هذه النظرة الشمولية والكونية تستمدها نظرية المعرفة من انفتاح كل من العقل والتجربة على الغيب اي على الوحي.

لقد اعتمد الصدر على هذه النظرية للمعرفة في كل كتاباته. لذلك تعتبر فلسفة التاريخ خلفية فكرية لكل دراساته، حيتى في مجال العبادات حيث يرى ان حركة التاريخ تتجه نحو المثل الأعلى (الله) وان هذه الحركة تكون اقوى كلما ارتبط الانسان بالمثل الاعلى ارتباطاً تعبدياً[32]. لقد تجاوز الصدر الاشكالية العقيمة التي تأسست عليها الفلسفة الاسلامية القديمة، وهي اشكالية العلاقة بين العقل والوحي او الفلسفة والدين. وهي علاقة تمت على حساب متطلبات الدين وقدسيته. فالطرح كان طرحاً مزيفاً منذ البداية حيث جعل كثير من الفلاسفة المسلمين العقل في مستوى الدين ان لم يكن اعلى درجة منه. في حين ان المذهب الاجتماعي عند الصدر والرؤية الفلسفية الى التاريخ، كل هذه الجوانب ارتكزت على نظرية للمعرفة ربطت العقل النسبي بالدين المطلق فحررت الرؤية الفلسفية الى التاريخ من سلبيات التاريخانية ومن سلبيات النسبية المتشتته حيث ان تنظير الرؤية الاجتماعية والتاريخية قد تم في افق نسبية بناءة لانها تعتمد على المطلق من منظور تعبدي يجعلها معرفة نسبية ولكنها مفتوحة وقابلة للتطور اكثر فأكثر.

انتقد الصدر ـ من هذا الموقع الشمولي ـ الطريقة اللاتاريخية في التفسير (تفسير القرآن الكريم). اي الطريقة السكونية الناتجة عن التفسير التجزيئي. فالصدر حاول استخراج قوانين التاريخ ولم يحجز الفكر الاسلامي داخل الحدود الضيقة للحدث التاريخي الملازم للتاريخ التمجيدي. لذلك اعتمد الصدر في التفسير على منهج حركي تتم فيه قراءة النص المقدسة من خلال الواقع الموضوعي للوصول الى «ما وراء الآيات» القرآنية والاحكام الشرعية من مفاهيم يتم بواسطتها التنظير الاجتماعي والسياسي وتنظير الرؤية الفلسفية الى التاريخ وما تتضمنه هذه الرؤية من السنن والقوانينى التاريخية. «ومن هذه السنن قانون الهامش التاريخي والاستثناء التاريخي الذي يؤكد القانون التاريخي العام في نجاح وفشل الضحارات المؤمنة والمنحرفة، الى آخر ذلك من قوانين تاريخية صارمة»[33].

لقد طبق الصدر منهجيته في دراسة التاريخ (نظرية) المعرفة: الذات والموضوع (اي العقل والتجربة والوحي) عندما درس دور ائمة اهل البيت (عليهم السلام) بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم). درس الصدر ادوار اهل البيت من خلال التاريخية (لا من خلال التاريخ السردي) اي في الاطار الموضوعي للعوامل الاجتماعية والتاريخية ومن خلال علاقة التاريخ بالغيب او التعالي. فاذا كانت ادوار اهل البيت (ع) متعددة فان الهدف كان واحداً: الرجوع الى الخط الرسالي لعصر الرسول (ص) لتجاوز الانحراف[34]. وهكذا فربط التاريخ بالتعالي في اطار نظرية المعرفة التي تربط العقل بالتجربة وبالوحي ينتج وعياً رسالياً للتاريخ يقوم على تجاوز الامر الواقع والتطلع الى المثل الاعلى الذي يثبت حركة التاريخ في خط النهضة الحضارية الشاملة.

ان صياغة الرؤية الفلسفية الى التاريخ عند الصدر تتم من خلال متطلبات المرحلة التاريخية، ولكنها تتجاوزها في نفس الوقت، حيث ان الاسلام ينير طريق البحث عن طريق القيم والمفاهيم كأدوات استكشافية. وهذه هي نقطة الاختلاف الجذرية بين الصدر وفلاسفة التاريخ الغربيين الذين لا تتجاوز نظرياتهم معطيات المرحلة التاريخية. اما منهج الصدر فيتجاوز هذه المعطيات نحو نظرة مستقبلية تنير مسيرة الأمة نحو المثل الأعلى وذلك من خلال ربط التاريخ بالتعالي[35].

ان علاقة التاريخ بالتعالي تعصم الفكر الاسلامي ـ من الناحية المعرفية ـ من الوقوع في الأخطاء الكبيرة على اقل تقدير. فالفكر الاسلامي فكر معصوم نسبياً. وهذا ما يبينه لنا الواقع والتاريخ: فكل المفكرين المسلمين السائرين في خط السيد جمال الدين الحسيني (الافغاني) كالصدر والسيد قطب والامام الخميني وغيرهم لم يتراجعوا عن اسس الفكر الاسلامي ومعالمه الرئيسية في المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي. فهم قد انتقدوا كلا من الاشتراكية والرأسمالية من موقع ثوابت الفكر الاسلامي ومعالم مسار الأمة المستقبلي[36].

وعلى الصعيد الفردي يبين لنا التاريخ بأن الائمة (ع) كانوا قد ربطوا في ممارساتهم ومواقفهم التاريخ بالغيب الى اقصى درجة، لذلك لم يرضخوا للأمر الواقع المتمثل في الخط المنحرف، بل قاوموا خط الانحراف الى اقصى حد من المقاومة والجهاد والرفض الجذرى. وقد كان هذا الخط الرسالي متناقضاً مع الخط المنحرف الذي ظهرت معالمه الأولى ابتداءً من حادثة السقفية. وهو ذلك الخط المرتبط «بالتاريخ» اي لم يتحرر بعد من ثقل الواقع السلبي الذي كانت تمثله النزعة القبلية. في حين ان الامام علي (ع) كان يمثل النظرة المستقبلية المتجاوزة للقبلية والمنفتحة على كونية الأمة الاسلامية[37].

وهكذا فان الصدر لم ينظر الى التاريخ كمجرد سرد للحوادث بل نظر اليه من زاوية دلالة تعاقب الحوادث ومن زاوية العوامل التي تعتمد عليها حركة التاريخ.

فالصدر يؤكد على علمية الظاهرة التاريخية والظاهرة الاجتماعية، فالتقدم يتحقق بناء على عوامل وأسباب. فالحوادث التاريخية لا تتخبط بصورة عشوائية. ومن هنا اعتمد الصدر في تحليله لتاريخ الأمة وللتاريخ بصورة عامة على التفسير السوسيولجي والتاريخي. اي اعتمد علي علم الاجتماع وعلى التاريخ (تسلسل الحوادث) لتفسير التاريخ. او بعبارة اخرى اعتمد، لتفسير التاريخ، على ترابط الظواهر الاجتماعية من زاوية سكونية (في الحاضر او في مرحلة تاريخية معينة). ومن زاوية حركية (الظواهر الاجتماعية عبر التاريخ) لذلك استخدم الصدر مفاهيم مثل انسان العالم الاسلامي، عوامل التغيير، الوعي التاريخي، المجتمع والدولة والأمة، البناء التحتي للتغير، العلاقة بين الفرد والمجتمع.. الخ.

عندما نقارن بين الصدر وهيجل نرى هذا الأخير يتسرع في الاستنتاج ويتسرع في التعميم وفي صياغة مذهبه الفلسفي. فهيجل، من هذا المنظور يحل المشاكل بكل بساطة وبكل سهولة: فالعقل الكوني يسيّر العالم وكل واقعي معقول وكل معقول واقعي، ونابليون هو الروح على جواد.. الخ. فهيجل يبني رؤيته الفلسفية الى التاريخ على اسس لم يختبر صحتها.

ان هيجل عندما جعل التاريخ هو المرجعية التي تكفي نفسها بنفسها كان امام خيارين: اما ان يترك التاريخ مفتوحاً وعدم اعتباره كمرجعية مطلقة. لأن النظر الى ان التاريخ مفتوح يعني ان فيلسوف التاريخ لا يعرف من التاريخ الا جزءاً صغيراً لا يسمح له باعطاء معنى لحركة التاريخ ككل، ويتوقع معالم هذه الحركة.

والخيار الثاني هو ان يختم هيجل التاريخ بظهور نابليون الامر الذي يجعل هيجل يقول بنهاية مصطنعة للتاريخ.

ان هيجل لم يتردد تجاه مشكلة الاختيار هذه فلجأ الى ختم التاريخ بدلا من فتحه للمجهول والحركة لا نهاية لها.

ان القول بنهاية التاريخ بهذه الطريقة جعل هيجل يقدّس الحادثة التاريخية ويستسلم لها. وهذا ما ادى الى استحالة اية نظرة معيارية الى التاريخ لأن التاريخ هو المعيار الوحيد ولا معيار غيره. ان المعيار (القيمة) لا يتحكم في مسار الحوادث، بل مسار التاريخ هو القيمة العليا. فليس المؤرخ هو الذي يحكم على التاريخ ويقيمه بل التاريخ هو الذي يحكم على المؤرخ (باستثناء هيجل في نظر هيجل!).

لقد سارت كل من الماركسية وبعض الاتجاهات الوجودية في طريق هذا المذهب الذي يرتكز على نزعة تاريخية (التاريخانية) لا أخلاقية لم تميز بين القيمة وحركة التاريخ. ان هذا الموقف يعتبر من اخطر المواقف في حياة الانسان وحركة الشعوب لأنه ينتهي بصورة مباشرة (هيجل)، او غير مباشرة (الفلاسفة الآخرون) الى تبرير الواقع مهما كان فاسداً والى غلق كل امكانية للتطور امام الشعوب المتخلفة.

اما في الرؤية الاسلامية التي يطرحها الصدر فالمعيار يوجد خارج التاريخ، لأنه ذو مصدر متعالي يؤثر في التاريخ ولا يتأثر به.

ان التاريخانية كما تتجلى عند هيجل تحلل كل حوادث التاريخ ـ حتى الجرائم والحروب ـ وتعتبرها حوادث معقولة لأنها واقعية يمكن البرهنة عليها عن طريق المنهج الجدلي. ان حكم القيمة ـ في هذا السياق ـ في ميدان التاريخ امر مستحيل لأنه لا يمكن وضع القيمة مقابل الواقع فما هو كائن هو واقع وهو القيمة: هو المعقول وهو القيمة[38].

ويمكن ان نتساءل: باسم اي مبدأ علمي بنى هيجل ـ بصورة قبلية ـ العالم والتاريخ حسب قوانين ضرورية ومعروفة مسبقاً؟ ان رؤية هيجل الى التاريخ لا تخضع لمبررات معرفية. فهذه الفلسفة لا تتمتع بشمروعية.

المشكل الرئيسي الذي يطرح على كل فكر يتركز على مرجعية دينية هو كالتالي: هل هذا الفكر مستقبلي؟ عندما يطرح هذا السؤال بالنسبة للفكر الاسلامي نلاحظ، على العموم وجود تيارين. تيار يرجع الى الماضي والى اصول الاسلام بصورة غير واعية. وتيار اخر يستوعب متطلبات الحاضر وثوابت الاسلام من موقع وعي لحركة التاريخ.

فالتيار الأول ليست له نظرة مستقبلية. فهذه الأخيرة توجد في التيار الثاني. غير ان وجود النظرة المستقبلية في هذا التيار ما زال الى ايامنا هذه ولدى كثير من المفكرين لم يصل بعد الى مستوى الطرح الفلسلفي. وقد تميز الصدر في دراسته لعلاقة الاسلام بالتاريخ برفع الفكر الاسلامي الى مسستوى الرؤية الفلسفية في هذا الميدان. لقد كان الصدرواعياً بأن المسألة مسألة منهجية في الأساس. فالصدر لم يردد مقولة الاسلام صالح لكل زمان ومكان كسائر المفكرين المسلمين من موقع تمجيدي، بل ربط هذه المقولة بمنهجية يتم التعامل عن طريقها مع الاسلام ومع التاريخ. وهذا ما دفعه الى تحليل ظروف العصر الحاضر وتحديد مشكلاته من خلال متطلبات الاسلام وتوقعات المستقبل.

ان اعتماد الصدر على هذه المنهجية جعله يفصل بين ما هو الا هي ثابت ومطلق وبين ما هو نسبي ومرحلي كالتطبيقات التي ظهرت بعد عصر الرسول (ص). انطلاقاً من هذه النقطة فتح الصدر مجالا آخر يتمثل في تحليل مشاكل العصر بأدوات اجتماعية تمت صياغتها من القرآن الكريم. وربط هذا التحليل بمشروع مستقبلي يسعى الى طرح نفسه كبديل لكل المشاريع ذات المصدر الوضعي.

لقد تمكن الصدر من صياغة منهجية لتنظير مذهب اجتماعي وسياسي مؤسس على رؤية فلسفية الى التاريخ.

ان مبدأ الرجوع الى الأصل الذي لا يكون الفر الاسلامي فكراً اسلامياً الا به والذي لا يمكن تصور معنى للتاريخ خارجه: هذا المبدأ واجب شرعي وعامل سوسيولوجي بفضله يصبح الفكر اسلامياً. ان هذا المبدأ له قيمة معرفية اضافة الى قيمته الشرعية والاخلاقية والحضارية. ان الرجوع الى الأصل يعني في الرؤية الاسلامية تجاوز القطيعات للوصول الى الاستمرارية التاريخية والحضارية التي ينظر الهيا الاسلام على انها واجب شرعي. لأن الرجوع الى الأصل يعني الرجوع الى عصر السول (ص) اي الرجوع الى القرآن الكريم والسنة الشريفة. ان الرجوع الى الأصل[39].

هو المعيار الذي يسعى المسلمون عن طريقه الى تحديد موقعهم من الماضي (عصر الوحي) ومن المستقبل (تصورهم للمستقبل).

ويمكن القول في هذا، السياق، بأن منهجية العلوم الانسانية الغربية قاصرة عن ادراك كل ابعاد هذه الافكار السابقة. ان الرجوع الى الاصل في نظر هذه المنهجية هو مجرد نزعة ماضوية وهروب من الحاضر. في حين ان هذا المبدأ يعبر في الفكر الاسلامي عن مثالية، ـ مثالية نوعية. فالرجوع الى الأصل لا يؤدي الى مثالية من انواع مثاليات الفكر الغربي التي هي بمثابة اسقاط فكري على مستقبل مجهول. اما المثالية في الفكر الاسلامي فهي مثالية تجسدت في الواقع وفي التاريخ: دولة المدينة في عصر الرسول (ص) كنموذج لكل الأجيال اللاحقة لكنه نموذج يختلف عن السنق المغلق الذي تتميز به فلسفات التاريخ في الفكر الغربي. فمنهجية تطبيق النموذج عبر التاريخ تعتمد على عناصر ثابتة واخرى متحركة ومتغيرة لاستيعاب المستجدات اي استيعاب حركة التاريخ. هذا المنهج يطلق عليه الامام الصدر اسم منطق الفراغ.

3ـ منطقة الفراغ:

منطقة الفراغ اطار معرفي لحل مشكلة التنظير في فلسفة التاريخ. ان اكبر مشكلة تطرح على الفلسفة الوضعية هي مشكلة العلاقة بين الثابت والمتغير. في حين ان هذه المشكلة تجد حلها في نظرية المعرفة التي صاغها الصدر. فنظرية المعرفة ليست عند الصدر نسقاً مغلقاً تتجاوزه حركة التاريخ. ان الاسلام كما يرى الصدر قد وضع لحركة التاريخ اطاراً نظرياً يستوعبها (منطقة الفراغ)[40].

فالفلسفة الوضعية ـ وخاصة التاريخانية كما تتجلى عند هيجل ـ تصطدم بالعوائق التالية في تنظيرها لفلسفة التاريخ:

1ـ الجدلية تقضي على نفسها بنفسها. اذ باسم اي مبدأ تتعالى نظرية هيجل اوماركس او غيرهما على الجدلية. اي لا تصبح خاضعة هي الأخرى للمنهج الجدلي حيث ان كل اطروحة تستعدي نقيضها؟

2ـ كيف تمكّن الفيلسوف من صياغة نظريته في التاريخ؟ ما هو موقعه في التاريخ ومن التاريخ؟ أليس الفيلسوف ـ بدوره ـ ظاهرة تاريخية؟

ان منطقة الفراغ كمنهج لا تصطدم بهذه العوائق لأنها تتضمن جانباً متعالياً من حيث انها تستمد مرجعيتها من القرآن الكريم والسنة الشريفة. كما تتضمن جانباً محايثاً للتاريخ ومتحركاً يعطيها مرونة تستوعب عن طريقها المستجدات.

ان ارتباط منطقة الفراغ بالتاريخ من خلال علاقة الثابت بالمتحرك او المتعالي بالتاريخ يجعل منطقة الفراغ منهجاً لاستيعاب الواقع في حركته ولاستيعاب عطاءات الثقافات. كما ان هذا الارتباط يبعد الفكر الاسلامي عن التكيف السلبي مع حركة التاريخ ومتطلبات الثقافات كما فعلت الفلسفة الاسلامية في القديم حيث اخضعت الشريعة الالهية لمتطلبات الفلفة اليونانية.

اذاً الجوانب الثابتة في منطقة الفراغ ـ بفضل علاقتها، الشرعية بالجوانب المتغيرة ـ هي التي تجعل الفكر الاسلامي يستوعب حركة التاريخ ويوجهها ويتوقع مسارها المستقبلي.

ان منطقة الفراغ ليست نوعاً من انواع الأفكار المسبقة التي تؤدي الى مواقف ذاتية في دراسة التاريخ. فالمنهج العلمي الذي يسعى فلاسفة التاريخ الغربيون الى تطبيقه في نظريتهم لا ينفي المواقف القبلية. المنهج التاريخي الذي يعتمد عليه فلاسفة التاريخ في الغرب ينطلق دائماً من فرضية او فرضيات تتم من خلالها دراسة الماضي ثم اسقاط هذه الدراسة او تعميم نتائجها على المستقبل. اما الصدر فانه يستخدم نفس المنهج لكن بالاعتماد على منطقة الفراغ التي من خلالها يسقط الماضي ـ عن وعي نقدي ـ على المستقبل انطلاقاً من كونية الاسلام ومن مرونة عناصر منطقة الفراغ. والماضي هنا له معنى خاص: عصر الوحي ومعنى عام: ماضي الأمة وماضي البشرية على العموم.

غير ان موقف فلاسفة التاريخ في الغرب ليس مضموناً من الناحية العلمية. فدراسة الماضي من اجل معرفة المستقبل لا تنتهي بالضرورة الى نتائج ايجابية. حيث لا يمكن تصور ما سيكون انطلاقاً مما كان. اما بالنسبة لفلسفة التاريخ التي نظّرت في اطار منطقة الفراغ فان الأمر مختلف لأن:

1ـ منطقة الفراغ تستمد اطارها العام وبنيتها التي لا تتغير من الاسلام. وهذا ما يجعلها تختلف عن الفرضيات والمناهج وعن الأفكار المسبقة التي تتميز بها فلسفات التاريخ في الغرب.

2ـ منطقة الفراغ تحتوي على عناصر ثابتة واخرى متحركة تسمح لها بعدم السقوط في فخ الذاتية والتمسك بالمواقف المسبقة كما هو الحال بالنسبة للفرضيات التي تعتمد عليها فلسفات التاريخ في الغرب.

وقد برهن الواقع، خاصة في هذه العشريات الاخيرة على زيف فلسفات التاريخ التي انطلقت من انساق فكرية مغلقة ونهائية. وليس الأمر كذلك بالنسبة لمنطقة الفراغ الذي تمتلك العناصر والمؤهلات للانفتاح على تجربة حركة التاريخ. فمنطقة الفراغ هي: من هذا المنظور، منهجية فلسفة التاريخ في الرؤية الاسلامية واطارها الابستمولوجي. اي الاطار الذي ينتج ضمنه الفكر الاسلامي مفاهيمه حول التاريخ.

وهكذا فمنطقة الفراغ تستمد مشروعيتها على الصعيد الابستمولوجي من تجذرها في التاريخ ومن تعاليمها على التاريخ في نفس الوقت. نقصد من تجذرها في التاريخ انها تحتوي على عناصر متحركة تجعلها تتأثر بحركة التاريخ. لكن هذا التأثير ليس من نوع التأثير الناتج عن التاريخانية، بل هو تأثير موجه من طرف العناصر الثابتة الموجودة في منطقة الفراغ.

هناك فرق ـ في هذا السياق ـ بين منطقة الفراغ والنسق (Systeme) الذي تخضع له فلسفات التاريخ في الغرب. منطقة الفراغ تتشكل باستمرار في اطار ثوابتها. وهذا هو سر قوتها. فمنطقة الفراغ ليست تامة. وهذا ليس نقص بل هو قوة لأن منطقة الفراغ تختلف عن النسق الذي يطرح نفسه، منذ البداية، كنسق تام او كامل ونتيجة لذلك كنسق مغلق. اما منطقة الفراغ فهي مفتوحة للمستجدات اي لحركة التاريخ. لكن انفتاحها على حركة التاريخ لا يعني انها تتشكل حسب العوامل التاريخية الى درجة انها تصبح مجرد انعكاس لظروف المرحلة التاريخية، بل هي التي تحكم على المؤثرات التاريخية انطلاقاً من الثوابت اي انطلاقاً من الواجبات الشرعية والأحكام والقيم والمفاهيم ذات المصدر الديني. ومن هنا فنمو وتطور منطقة الفراغ لا حدود له. في حين ان النسق جامد لا يتحرك. ففلاسفة التاريخ مثل اجوست كونت وهيجل وماركس يرسمون الاطار النهائي للبحث في مجال فلسفة التاريخ. فالمستقبل مخطط تخطيطاً دقيقاً ونهائياً في هذه الفلسفات. ولا يمكن في نظر هذه الأنساق الفلسفية، البحث عن شيء آخر اي شيء جديد خارج ما يقتضيه النسق. مثلا لا يمكن تصور حركة للتاريخ ـ في نظر اجوست كونت ـ غير الانتقال من الحالة اللاهوتية الى الحالة الميتافيزيقية ثم الى الحالة الوضعية. كما لا يمكن تصور مستقبل ـ في نظر ماركس ـ غير الشيوعية كمرحلة نهائية لحركة التاريخ. ونفس الأمر بالنسبة لفرانسيس فوكوياما في هذه الأيام، حيث لا يمكن في نظره، تصور نموذج غير نموذج الديمقراطية الليبرالية. وهكذا بالنسبة لكل فلاسفة التاريخ الغربيين.

لا شك ان منطقة الفراغ تخضع، هي الاخرى، لنظام. ولكن هذا النظام ليس من نوع الانساق الفلسفية المغلقة بل هو بناء عام يسمح لمنطقة الفراغ بالتطور في خط عمومية البنية العامة. فالبناء العام والتطور غير متناقضين بل على العكس ان عمومية البناء (او البنية) هي التي تقتضي المرونة والتطور.

ان تحليل الامام الصدر لمفهوم منطقة الفراغ يطرح آفاقا جديدة للبحث في مجال فلسفة التاريخ على العموم، وفي مجال الابستمولوجيا على وجه الخصوص. فالفلسفة الغربية ما زالت لم تحسم الامر بعد فيما يخص اشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير، وبين النسق والتاريخ. فالمذاهب الفلسفية التي تؤكد على التاريخ وعلى الحركة تنفر من الثابت ومن البنية، والعكس بالنسبة للمذاهب الفلسفية وخاصة البنيوية التي ركزت على الثابت او البنية على حساب الحركة والتاريخ. فالنسق في المذهب البنيوي يكفي نفسه بنفسه. فهو يحتوي على منطق داخلي يشكل قانون تطور البيئة في الحدود التي يرسمها النسق (لكن هذه الحدود ضيقة الى اقصى حد). مع العلم بأن المذاهب التي ركزت على التاريخ مثل هيجل وماركس حصرت، هي الاخرى حركة التاريخ في اطر منطقية صلبة كالمنطق الجدلي. وعلى العموم يبدو ان المنطق الجدلي وكأنه لا ثوابت له لأنه مستخرج من حركة التاريخ التي تكفي نفسها بنفسها (التاريخانية).

وما نلاحظه في هذا السياق هو ان الصدر قد حل هذا الاشكال عن طريق مفهوم منطقة الفراغ. ان هذا المفهوم لا يحل مشكلة العلاقة بين الثابت والمتغير فحسب، بل يحل كذلك مشكلة العلاقة بين الحقيقة والتاريخ: الاسلام كحقيقة مطلقة وحركة التاريخ او علاقة النسبي بالمطلق. فالصدر لم يطرح فكرة منطقة الفراغ مجرد فكرة عابرة او مبدأ عام، بل طرحها كمفهوم اي فكرة منظمة وموجهة للبحث في مجال الاجتهاد (اي كمنهج) وفي مجال علاقة الشريعة بحركة التاريخ. لهذا تعتبر منطقة الفراغ اداة فكرية لفهم التاريخ وتحليله وتفسيره.

ان منطقة الفراغ تتضمن ـ من هذا المنظور ـ الوعي التاريخي، وعي متطلبات كل عصر وكل مرحلة تاريخية من مراحل حركة الأمة عبر التاريخ. هناك نظرة مستقبلية في القرآن الكريم. فالوحي قد هيأ ـ منذ المرحلة المكية ـ ذهنية المسلمين للتغيير ووجّه النظر الى عوامل التغيير والانتقال من الواقع بثقله وعوائقه الى توقع واقع احسن منه في ضوء السنن الالهية. غير ان هذا التوقع الذي يقدمه القرآن الكريم ليس توقعاً قابلا لأي تأويل، لأن القرآن الكريم عندما يتحدث عن المستقبل يربط هذا الأخير بالاستخلاف: استخلاف المؤمنين في الأرض والتمكين للاسلام. وهنا تأتي منطقة الفراغ لتجعل من النظرة المستقبلية حقيقة متجسدة في التاريخ. فالنظرة المستقبلية تبقى مجرد طوباوية وتطلعاته حالمة اذا لم ترتكز على منهج يحققها.

فمنطقة الفراغ كما يطرحها الصدر هي منهج لاستكشاف أدوات فكرية تضبط الاستمرارية في علاقتها بالتغيير. لذلك فالصدر قد حرر الفكر الاسلامي من التي تطرح من موقع تناقض علاقة الجديد بالقديم والمادي بالروحي والثابت بالمتغير والأصالة بالمعاصرة. فمنطقة الفراغ منهج كسر هذه الثنائية وربط الثابت بالمتحرك ضمن علاقة تكاملية.

لذلك تتمتع منطقة الفراغ بامكانيات لا نهاية لها لاستيعاب حركة التاريخ والتأثير فيها حسب متطلبات الشريعة ومتطلبات الواقع معاً. فالفكر الاسلامي يمتلك ـ بفضل منطقة الفراغ ـ الأدوات المنهجية التي لا تسمح له باستيعاب المستجدات فحسب، بل تسمح له كذلك بالمساهمة في طرح الحلول واتخاذ مواقف تجاه التغيرات الجذرية التي نشاهدها هذه الايام في المذاهب الاجتماعية والسياسية وما ينتج عن ذلك من اشكاليات فلسفية.

فمنطقة الفراغ لا تخضع في جوهرها لضغط الحداثة او التحديث على اعتبار انها اطار منفتح على حركة التاريخ وله قدرة استيعابية لا حدود لها بحكم العلاقة التكاملية بين الثابت والمتغير المتضمنة في هذا الاطار العام. لذلك فان منطقة الفراغ تعيد اكتشاف القران الكريم عبر التاريخ: اكتشاف القرآن الكريم حسب متطلبات القرآن الكريم في الأساس، ووفق شروط المرحلة التاريخية. فمنطقة الفراغ هي اذن منهج العلاقة بين القرآن الكريم والتاريخ اي بين الوحي والتاريخ والتعالي والتاريخ.

ان السيد الصدر عندما عالج المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على العموم لم يهدف الى اكتشاف الاحكام الشرعية فحسب بل تجاوز هذا المستوى الى مستوى آخر: الوصول الى «ما وراء الاحكام» اي الوصول الى المفاهيم التي يتم عن طريقها تشكيل المذهب الاجتماعي. ونفس الأمر بالنسبة للرؤية الفلسفية للتاريخ عند الصدر. فالصدر لا يتوقف عند المعنى الظاهر والمباشر للآيات القرآنية بل يتجاوز هذا المستوى ليصل الى المفاهيم. كما انه لا يقف عند محلية اسباب النزول بل يتجاوزها الى كونية القرآن الكريم. وهي كونية لا يمكن الوصول اليها الا عن طريق استخراج المفاهيم المتضمنة في الآيات القرآنية[41].

لذلك فالرؤية الفلسفية تتكون عند الصدر من المفاهيم المتضمنة في الاحكام وفي الآيات القرآنية الاخرى كالآيات التي تناولت الصراع بين الحق والباطل، خلافة الانسان، التسخير، الأمة، انتصار المستضعفين على المستكبرين..

هذه الخلفية التي انطلق منها الصدر هي التي جعلته يتجاوز حدود ردود الفعل تجاه المذاهب الاجتماعية الغربية وتجاه فلسفات التاريخ في الفكر الغربي. كما انه تجاوز مواقف المفكرين المسلمين الذين حاولوا التوفيق بين الاسلام والفكر الغربي. فعبر اكتشاف المنهج (منطقة الفراغ والتفسير الموضوعي) تفهّم الصدر وحلل العلاقة بين التاريخ والغيب او التعالي خارج التفكير الأسطوري والتفكير اللاهوتي. وتم كذلك استيعاب المنهج العلمي وتطبيقه في صياغة المذهب الاقتصادي والسياسي وفي صياغة الرؤية الفلسفية الى التاريخ. غير ان هذا المنهج العلمي الذي اعتمد عليه الصدر له نوعيته التي تميزه عن المنهج ذي المصدر الغربي. ذلك ان خضوع العالم المادي والانساني لسنن الله يعني ربط عالم الشهادة بعالم الغيب: يعني من الناحية المعرفية والفلسفية وضع العلوم الطبيعية والانسانية على العموم من العقلانية الوضعية التي تميزه عن المنهج ذي المصدر الغربي. ذلك ان خضوع العالم المادي والانساني لسنن الله يعني ربط عالم الشهادة بعالم الغيب: يعني من الناحية المعرفية والفلسفية وضع العلوم الطبيعية والانسانية على العموم من العقلانية الوضعية التي نفت قيمة الانسان واعتبرته مجرد موضوع للدراسة كسائر المواضيع المادية الاخرى. فدوركايم (Durkhaim) كان يؤكد على انه يجب اعتبار الظواهر الاجتماعية كالأشياة. يقول محمد ابو القاسم حاج حمد: «.. هكذا نكتشف عبر القرآن ان الانسان مطلوب لذاته ليكون هو قيّماً على المعرفة في صياغة المنهج وتحديد الرؤية الكونية. في حين ان جميع الفلسفات الوضعية الاخرى انما تحاول ـ بطرق مباشرة او غير مباشرة ـ ان تمنهج الانسان وفق ضوابطها هي ما ينتهي الى الغاء الدور الانساني في المعرفة وبالتالي تحجيم الانسان لمصلحة (النظام) واستلابه طبقياً او حزبياً»[42].

ان نظرية المعرفة في المجال الانساني ـ وما يهمنا في هذا البحث يتمثل في فلسفة التاريخ ـ لها غاية اجتماعية وحضارية. فالحتمية المطلقة تؤدي بصورة مباشرة الى نفي تدخل الانسان في عملية التغيير. وهذا هو اكبر مشكل طرح على الرؤية الوضعية الى التاريخ خاصة عند هيجل وماركس. ان دمج المعرفة في المجال التاريخي بنظرية المعرفة في المجال المادي لا يطرح مشاكل ميتافيزيقية واخلاقية فحسب، بل يطرح كذلك مشكلة دور الانسان في عملية التغيير. مع العلم بأن هذا الدور سلبي. فهيجل يذيب الفرد في المجتمع او الكل المطلق. وهو كل يدل على كل شيء ولا يدل على اي شيء في نفس الوقت. في حين ان ماركس اصطدم بتناقض كبير في محاولة توفيقه بين الحتمية التاريخية وتدخل الانسان في حركة التاريخ عن طريق الوعي الطبقي وثورة البرولتياريا لاقامة نظام اشتراكي ثم شيوعي.

ان اصطدام فلسفات التاريخ الغربية بهذا الشكل هو النتيجة المباشرة والضرورية للخلفية التي تم فيها تشكل هذه الفلسفات: التاريخانية اي التاريخ كمرجعية مطلقة تكفي نفسها بنفسها.

يمكن ربط مفهوم العبودية كما حلله الصدر بهذه الاشكالية الفلسفية السابقة: ان التاريخانية هي نوع من انواع الشرك لأنها تجعل الانسان عبداً للتاريخ. وبالفعل فقد كان هيجل يؤله التاريخ. في حين ان مفهوم العبودية في الاسلام كما حلله الصدر وكذلك علاقة التاريخ بالتعالي (اي رفض التاريخانية) فهذان الجانبان يحرران نظرية المعرفة من المأزق الذي وضعتها فيه الرؤية الوضعية. ومعنى هذا ان العبودية لها انعكاسات اجتماعية ومعرفية اضافة الى بعدها الروحي الخاص بعلاقة الانسان بالخالق. يقول الصدر في هذا السياق: «… حينما تتقدم الانسانية في هذا المسار واعية على المثل الأعلى وعياً موضوعياً يكون التقدم تقدماً مسؤولا، يكون عبادة بحسب لغة الفقه، لوناً من العبادة يكون لها امتداد على الخط الطويل وانسجامن مع الوضع العريض للكون»[43].

لقد حطم الصدر المسلمات التي كانت تحول دون الرؤية المتكاملة لعلاقة الشريعة بالتاريخ، هذه المسلمات التي تحولت الى بديهيات مصدرها الفكر الغربي والفكر المحدث التابع له في العالم الاسلامي. لقد تأرجحت دراسات تاريخ الأمة الاسلامية وعلاقة الدين بهذا التاريخ بين منهج لا تاريخي يرتكز على العودة الى عصر الرسول (ص) دون وعي تاريخي، وبين التاريخانية التي تلغي الجوانب الثابتة، بل والمصدر الالهي للاسلام، وترجع كل شيء الى التاريخ.

وهكذا تتأرجح الدراسات التاريخية بين منهجين متناقضين احدهما يحلل الاسلام في اللامكان واللازمان. والمنهج الأخر يخضع خضوعاً كلياً ومطلقاً لحركة التاريخ (التاريخانية).

يمكن ـ في هذا السياق ـ اعتبار الاطار العام الذي رسمه الصدر لرؤية فلسفية اسلامية الى التاريخ كاعادة نظر جذرية في المسلمات والمفاهيم التي اعتمدت عليها فلسفات التاريخ في الغرب والتي تجسدت في اكمل وجه لها عند هيجل.

ان التناقض الرئيسي يبرز ـ كما اشرنا فيما سبق ـ في العلاقة بين الجدلية التي تطرح كمنهج لحركة تاريخية مفتوحة والنسق كاطار معرفي مغلق. هذا التناقض غير موجود في الرؤية الاسلامية الى التاريخ كما يطرحها الصدر، حيث ان الحركة التاريخ منهجاً يؤثر فيها ويتأثر بها. هذا المنهج هو (منطقة الفراغ). هذه الأخيرة ليست كالنسق الهيجلي او الماركسي لأن كلمة الله لا تنفد[44]. لذلك فمنطقة الفراغ تؤدي الى اكتشاف امور جديدة على اعتبار ان حركة التاريخ لا تتوقف.

محدودية النسق تكمن في جانبين:

1 ـ النسق مغلق ويقضي على نفسه بنفسه (كجدلية) لأن كل اطروحة تستعدي نقيضها.

2 ـ النسق له مصدر محدود هو الاسنان، في حين ان منطقة الفراغ ليست نسقاً مغلقاً. هناك بنية وتنسيق في منطقة الفراغ ولكنه ليس تنسيقاً صلباً ومغلقاً بل تنسيق مرن. اضافة الى ذلك منطقة الفراغ ليس مصدرها الانسان. هذا الاخير يتدخل لكن على اعتبار ان خلفية منطقة الفراغ مستمدة من القرآن الكريم.

وهكذا فالفرق بين النسق، كما يتجلى في فلسفة التاريخ لدى هيجل وماركس، ومنطقة الفراغ هو ان النسق سكوني في حين ان منطقة الفراغ حركية (لها جوانب ثابتة والاخرى متحركة) وهذا ما يسمح لها باستيعاب الصيرورة التاريخية.

وعلى العكس من ذلك فالفكر الجدلي يزول، بالنسبة لهيجل، حينما تنتصر الدولة وينتصر النسق. فنظرية هيجل حول الدولة وحول علاقة العقل او الروح بالتاريخ تحكم على الجدلية بالموت، وتصبح الدولة هي الواقعي وهي المعقول. اي يزول المنهج الجدلي كنسق ويذوب في الواقع اي يصبح مجرد نزعة تجريبية (امبريقية) تخضع للواقع كموضوع اي كمرجعية مطلقة (اي تبرير الواقع).

هذه الفكرة تتجلى بوضوح عند (فأ فوكوياما) كما سنرى، حيث حول الجدلية الى برجماتيه اي الى مجرد فكر نفعي يبر الواقع. معنى هذا ان الجدلية تقضي على نفسها وان الاختلاف جذري بين الجدلية كمنهج وكنسق وبين منطقة الفراغ كمنهج. فمنطقة الفراغ، عكس الجدلية، لا تقضي على نفسها ولا تقضي عليها صيرورة التاريخ لما تصل الى مرحلة معينة. بل على العكس فمنطقة الفراغ تقوى وتتعمق وتتكون لديها مبادرة اقوى اكثر فأكثر في توجيه التاريخ ما دام هذا الاخير يتحرك نحو المثل الأعلى (نحو الله).

ان الأفكار التي عرضناها فيما سبق تبين لنا ان الرؤية الفلسفية الى التاريخ عند الصدر لا يمكن فهمها من الناحية الابستمولوجية بالرجوع الى مفاهيم فلسفة التاريخ في الغرب كالواقعية والمثالية والنزعة التجريبية وغير ذلك.

ان الصدر في تحليله لتاريخ الأمة الاسلامية وتاريخ البشرية لم ينطلق من هذه المفاهيم. فهو ينظر الى تاريخ الأمة الاسلامية منخلال الواقية والمثالية معاً. فهناك الواقع، في نظر الصدر، وهناك المثال او الأهداف التي يتطلع اليها المسلمون. وبما ان هذه الاهداف مقدسة في نظر الاسلام والمسلمين (انتصار الأمة وعودتها الى مسرح التاريخ) لا يمكن تجاهلها في تنظير فلسفة التاريخ لأن هذه التطلعات واقع يعيشه انسان العالم الاسلامي[45].

لقد طرح السيد الصدر مشكلة العلاقة بين التاريخ والتعالي طرحاً، معرفياً، وفلسفياً، وشرعياً، في نفس الوقت. فخلافة الانسان وشهادة الأنبياء تجعلان من الأمة الاسلامية امة رسالية لا يمكن ان تزول كما زالت الأمم والحضارات الأخرى. فقد تجمد الروح الجهادية لدى المسلمين وقد تنحط الأمة نتيجة لفشلها في الحروب او فشلها في محاولتها للخروج من التخلف. ولكن الأمة الاسلامية ككل لا تتنازل عن اهدافها. فالأمة من هذا المنظور هي امة رسالية اي هي متعالية على التاريخ ومتجذرة فيه في نفس الوقت[46].

وهكذا فالأبعاد الشرعية والتاريخية والمعرفية هي أبعاد متكاملة في علاقة تلازمية. لا يمكن لأمة ان تغير مواقفها حسب الظروف والأحوال اذا كانت هذه المواقف مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالعقيدة والشريعة. فالايديولوجيا تتغير تغييراً جذرياً وتقع تراجعات وتنازلات كما نشاهد اليوم بالنسبة للبلدان الاشتراكية. هذه الحالة لا يمكن تصورها بالنسبة للأمة الاسلامية، فانسان العالم الاسلامي يوجد بصورة او باخرى كما يرى الصدر مهما كانت درجة انحطاط الأمة وضعفها[47].

ان ربط التاريخ بالتعالي هو، من هذا المنظور، طريق مفتوح امام الشعوب الاسلامية لكسر حواجز اليأس وتكرار المعجزة التاريخية (عصر الرسول (ص)). فكلما ارتبطت الأمة بالتاريخ حسب متطلبات الشرع الا وربطت التاريخ بالتعالي وأعطت لوجودها معنى يعبؤها وتتحرك باسمه.

ثانياً: معنى التاريخ:

1ـ الدين ومعنى التاريخ:

ان مشكلة معنى التاريخ هي من المشاكل التي تفرض نفسها على الفكر الاسلامي. خاصة عندما يصد هذا الفكر الى المستوى المفاهيمي.

ان معنى التاريخ عند الصدر ليس من قبيل الدعايات السياسية على اعتبار ان الأحزاب تسعى الى تدعيم مواقفها باعتبار نفسها مندمجة في الخط التاريخي الصحيح الذي يمثل معنى التاريخ.

ان مفهوم معنى التاريخ هو مبدأ للمعقولية ومبدأ للفعل او العمل لأن المسلمين ـ والبشر كلهم ـ يتحركون باسم معنى التاريخ، مع اختلاف واحد هو ان معنى التاريخ عند المسلمين مستمد من الايمان بالله. ان الفكر الغربي والفكر المحدث في العالم الاسلامي يريدان نفي هوية الأمة الاسلامية ونفي كل مشروع حضاري بديل وذلك عن طريق احداث قطيعة بين التاريخ والعقيدة الاسلامية. اي بين التاريخ والتعالي.

يرى السيد الصدر ان علاقة العقيدة الاسلامية بالحياة الاجتماعية وبالتاريخ هي علاقة موجودة بصورة او باخرى في العالم الاسلامي[48]. ان الشريعة الاسلامية تعتبر ان علاقة التاريخ بالعقيدة من الثوابت. اي هي عنصر بنيوي لا يمكن تغييره. ان الصدر حلل هذه العلاقة على المستوى السوسيولجي كذلك اي على مستوى واقع الشعوب الاسلامية. فالعقيدة تؤثر في سلوك المسلمين وتشكل ذهنيتهم. وقد تقترب علاقة العقيدة بالحياة الاجتماعية او تبتعد حسب الظروف، الا انها لا تزول ويستحيل ان تزول، لأن معناه زوال الأمة من التاريخ. ومعنى هذا ان التاريخ (تاريخ الأمة) لا يمكن تحييده والنظر اليه كمادة خام يمكن تشكيله حسب اية صورة. لأن العقيدة عنصر اساسي وجوهري في تشكله ورسم معالم حركته.

لقد اراد  الغرب منذ عصر النهضة احداث قطيعة بين الأمة وبين عقيدتها وتاريخها. ان هذه الظاهرة التي حللها الصدر وأكد عليها وصلت الى اعلى درجة من الوضوح في هذه العشريات الاخيرة، خاصة منذ الثورة الاسلامية فلي ايران. فالنظام الدولي الجديد ـ القديم يسعى الى ابتلاع الأمة الاسلامية وحجزها ضمن الرؤية الغربية التي تشكلها العلاقة بين الانتاج والاستهلاك.

هذه الأفكار السابقة قد استوعبها الصدر من خلال تحليله لحركة التاريخ من منظور الفقه الحاضري الذي يبحث عن قوانين الحركة التاريخية. يرى الصدر ان العمل لتحقيق المشروع الحضاري الاسلامي هو واجب شرعي وعنصر رئيسي وجوهري من العناصر المكونة لمعنى التاريخ. فمعنى التاريخ عند الصدر ليس مجرد مسألة نظرية، بل له جانب عملى، وهذا الجانب العمل هو، بدوره، عامل أساسي من العوامل المشكلة لمعنى التاريخ. فعلاقة الشريعة بالواقع هي التي تنتج معنى التاريخ[49].

ان فكرة معنى التاريخ تطرح اشكالية فلسفية كبرى، خاصة بالنسبة لفلسفات التاريخ الوضعية. لأن القول بأن للتاريخ معنى يسلم صاحبه، بصورة مباشرة او ضمنية، بوجود معرفة صحيحة للتاريخ ككل اي للتاريخ الكوني وما يتضمنه من عوامل ذات تأثير متداخل ومتشابك.

يمكن التساؤل ـ على الصعيد الابستمولوجي ـ اذا كانت هذه المعرفة (المعرفة الكلية للتاريخ) ممكنة مع محدودية العقل الانساني ونسبيته. وهنا يبرز موقف الدين على الصعيد المعرفي وعلى صعيد اعطاء معنى للتاريخ (وهما فكرتان متلازمتان) فالدين وحده هو الذي يمكّن الانسان من طرح مشكلة المعرفة التاريخية ومشكلة معنى التاريخ. ومعنى هذا، من الناحية الفلسفية، ان ربط التاريخ بالتعالي هو الذي يجعل الانسان المحدود بالظروف والعوامل التاريخية يتحرر من ثقل الحاضر ويتحرر ـ معرفياً ـ من مؤثرات المرحلة «التاريخية» ليصل الى معرفة تاريخية تتجاوز نسبيته وتسمح له باعطاء معنى للتاريخ.

ان مرجعية الامام الصدر فيما يخص معنى التاريخ هي مرجعية دينية اولا وفلسفية ثانياً. لكن العلاقة بين الفلسفة والدين في هذا السياق لم تطرح في اطار الثنائية بين العقل والدين، او من موقع النظرة الى الدين حسب متطلبات العقل كما هو الأمر بالنسبة للفلسفة الاسلامية القديمة. العلاقة بين العقل والدين هي علاقة النسبي بالمطلق في نظر الصدر. لذلك جاءت الرؤية الفلسفية الى التاريخ التي صاغها الصدر مختلفة عن فلسفات التاريخ في الغرب التي طرحت نفسها كفلسفات مختلفة مع الدين المسيحي اي كفلسفات للتاريخ تعطي معنى للتاريخ دون اللجوء الى الدين.

لقد نظر الصدر الى التاريخ من الزاوية السوسيولوجية. اي من خلال مفاهيم علم الاجتماع. غير ان الصدر لم يقف في تحليله للتاريخ عند هذا الحد بل تجاوزه. فالدراسة السوسيولوجية للتاريخ تحاول الكشف عن القوانين التي تخضع لها حركة التاريخ ولكنها لا تتكلم على غاية الحركة وأهدافها. ان فكرة غاية التاريخ او معنى التاريخ استمدها الصدر من الاسلام. فعلاقة الدنيا بالأخرة انتجت «معنى الوجود»، ومنهذا المفهوم العام صاغ الصدر رؤيته حول «معنى التاريخ».

ان معنى الوجود خلفية اعتمد عليها الصدر في تقسيمه التاريخ البشري الى مراحل، وكذلك تاريخ الأمة الاسلامية التي ادمج في التاريخ الكوني العام بحكم كونية الأمة الاسلامية.

ومن هنا فقد حلل الصدر خلافة الانسان في الأرض وتسلسل الرسالات السماوية وختم النبوة وعلاقة الامامة بالنبوة، وحلل كذلك مفهوم الغيبة (الصغرى والكبرى) والظهور (للامام الغائب الموعود) في اطار معنى الوجود كاطار عقائدي وفلسفي في نفس الوقت[50].

يلتقي الصدر مع فلاسفة التاريخ الغربيين عندما يعتبر ان التاريخ يتجه الى غاية ايجابية: تحرير انسان. فهيجل يرى ان حركة التاريخ نتجه نحو تأليه الاسنان. اما ماركس فيرى بأن الجدلية التاريخية ستحول الدولة الرأسمالية، عن طريق الصراع الطبقي، الى مجتمع شيوعي مبني على العدالة والحرية، اذا انتقلنا الى الرؤية الفلسفية الى التاريخ المبنية على الدين نلاحظ نفس الهدف (تحرير الانسان). فالقديس اوغسطيس يعتبر التاريخ كصراع بين المدينة الأرضية والمدينة السماوية. وان هذه الأخيرة هي التي ستنتصر.

لكن المفهوم معنى التاريخ كما يطرحه الصدر لا يتفق مع هذه الرؤى السابقة الا من حيث النهاية الايجابية بالنسبة للانسان. ان الطابع العام الذي يغلب على فلسفات التاريخ في الغرب هو الثنائية. انها فلسفات التاريخ تتأرجح بين الخلاص الدنيوي والخلاص الروحي الأخروي. هذه النظرة الجزئية تجاوزها الصدر ونظر الى معنى التاريخ من خلال مبدأ الاسلام دين ودنيا وحضارة. اي من خلال نظرة كلية تربط المادي بالروحي والأرض بالسماء. ان هذه النظرة الكلية التي يعتمد عليها مفهوم معنى التاريخ تمنع الأمة الاسلامية من الاستغراق في ردود الفعل الآنية تجاه حركة التاريخ. فالرؤية الاسلامية الى التاريخ باعتمادها على معايير ثابتة ترسم معالم لحركة الأمة: لذلك سيبقى المشروع الحضاري الاسلامي صامد امام كل المؤثرات عكس المشاريع الاخرى التي تتغير، واحياناً تتراجع عن ثوابتها وأهدافها. مثلا الاحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية تخلت منذ السبعينات عن اسهها كالصراع الطبقي وكمفهوم دكتاتورية البروليتاريا. واخيراً قد تخلت البلدان الاشتراكية عن الماركسية. كما ان المشروع الحضاري الاسلامي لا يمكن ان يجمّد حركة التاريخ على غرار نهاية التاريخ عند كل من هيجل وف. فوكوياما. فارتباط التاريخ بالتعالي يعطي للتاريخ معنى منفتحاً على المطلق. ومن هنا فحركة التاريخ لا نهاية لها[51].

وهكذا فان الفكر الغربي بحكم نظرته المادية الى الكون والانسان لم يستطع النظر الى التاريخ من خلال معايير ثابتة لأن النظرة المادية لا يمكن ان تنتج عنها قيم ثابتة بل تنتج افكاراً كرد فعل ظرفي تجاه حركة التاريخ. فالنظرة المادية الى الكون والانسان لا تتجاوز الموقف الامبريقي الذي يجعل الفكر خاضعاً للموضوع، ومعنى التاريخ خاضعاً للواقع الرهن وللمرحلة التاريخية.

لا شك ان فلسفة هيجل ربطت التاريخ بالتعالي. لكنه تعالي مزيف لأنه من صنع الانسان النسبي: من صنع هيجل. لذلك جمّد هيجل حركة التاريخ في معركة يينه (Lena) واعتبر نابليون ممثلا لله. فأصبح معنى التاريخ مجرد تبرير للأمر الواقع: فكل واقعي معقول وكل معقول واقعي.

وهكذا لا يمكن اعطاء معنى للتاريخ الا بالرجوع الى مصدر خارج عن التاريخ ومتعالي عليه. لأن التاريخ ليس هو الحقيقة النهائية، انه لا يكفي نفسه بنفسه. لذلك يتميز المشروع الحضاري الاسلامي عن سائر المشاريع الحضارية الاخرى بارتباطه بمعنى التاريخ ذي مصدر متعالي على التاريخ. فتصبح علاقة المشروع الحضاري بمعنى التاريخ تستمد قوتها من علاقة النسبي بالمطلق او علاقة الانسان بالمثل الأعلى.

ان علاقة التاريخ بالتعالي لا تنفي تدخل الانسان في حركة التاريخ. ان الرؤية الاسلامية الى التاريخ تتجاوز، في نظر الصدر، كلا من الرؤية اللاهوتية التي تفسر التاريخ بأسباب غيبته بصورة مباشرة، والرؤية الوضعية التي تصوغ معنى التاريخ من خلال التاريخ كمرجعية تكفي نفسها بنفسها (التاريخانية). ان معنى التاريخ يستمد من التاريخ ومن فوق ـ التاريخ بحكم علاقة الانسان بالغيب اي بالتعالي.

وهكذا يتضمن معنى التاريخ علاقة الانسان بالانسان وبالطبيعة وبالله. ان خلافة الانسان لله في الأرض تنطلق من هذه العلاقات الثلاثة لتتجسد في التاريخ. اما فلسفات التاريخ الغربية فانها تحصر معنى التاريخ في علاقة الانسان بالانسان وعلاقة الانسان بالطبيعة.

ان محدودية فلسفات التاريخ الغربية ناجمة عن محدودية نظرية المعرفة التي ترتكز عليها، كما اشرنا فيما سبق، وهي نظرية للمعرفة لا تتشكل خارج العلاقة بين الذات والموضوع. غير ان اصحاب هذه النظرية يرفعونها الى درجة المعرفة المطلقة. مثلا فلسفة التاريخ عند كل من هيجل وأ. كونت وماركس ترتكز على نظرية للمعرفة مطلقة ـ بصورة ضمنية ـ لدى هؤلاء الفلاسفة. وليس الأمر كذلك بالنسبة للرؤية الاسلامية الى التاريخ حيث ان نظرية المعرفة التي ترتكز عليها هذه الرؤية لها بعد متعالي. هذا البعد المتعالي هو الذي يدعم معنى التاريخ ويعطيه صورته العامة. مثلا معنى التاريخ في الرؤية الاسلامية التي صاغها الصدر لا يمكن ان يتخلى عن تسلسل الرسالات السماوية التي ختمت بالرسالة الاسلامية. ولا يمكن ان يتحلى عن ظهور الامام المهدي (ع) ووعد الله بنصر المومنين. فهذه الجوانب كلها جوانب عقائدية تعطي معنى للتاريخ وتقتضي في نفس الوقت تدخل ارادة الانسان ومسؤوليته في حركة التاريخ. فالشعوب التي تسير في خط معنى التاريخ هي التي تتقدم اما التي تسير في خط معاكس لمعنى التاريخ ذاتها تخضع لعوامل الانحطاط. وبعبارة اخرى فالشعوب التي تسير في خط خلافة الانسان وشهادد الانبياء هي التي تسير في خط المعنى الحقيقي للتاريخ. فالصدر يربط بين الخلاص (نصر الله) وفلسفة التاريخ.

فالرؤية الاسلامية الى التاريخ كما يطرحها الصدر هي رؤية تعرف اين يتجه التاريخ. هذه المعرفة ليس مصدرها التاريخ او العقل الانساني وحده بل مصدرها علاقة التاريخ بالتعالي. ان علاقة التاريخ بالتعالي ليس معناها التبؤ بما سيقع في المستقبل على غرار تنبؤات علماء الفلك. ان علاقة التاريخ بالتعالي ينتج عنها معنى للتاريخ يطمئن المؤمنين ويعبؤهم. في نفس الوقت، لخوض معركة اعادة بناء الأمة الاسلامية. لا شك ان المستقبل مجهول، لكن فلسفة التاريخ التي تستمد رؤيتها من الاسلام تضمن تاريخ الأمة كتاريخ ممثل للخط الرسالي كما تضمنه من كل الرؤى التاريخية الاخرى التي تهدد معالم حركته وتهدد معقوليته.

لكي يتمكن الفيلسوف من اعطاء معنى للتاريخ يجب ان ينظر الى التاريخ ككل. في حين ان المؤرخ او فيلسوف التاريخ لا يعرفان بداية التاريخ كما انهما لا يعرفان نهايته. فالاطار الابستمولوجي الذي ينطلق منه فيلسوف التاريخ لا يسمح له بالنظرة الكلية الى التاريخ. فالوثائق والأخبار لا تسمح الا برؤية جزئية وجد نسبية الى التاريخ. انهذا العائق يزول عندما يتعالى مصدر معنى التاريخ على التاريخ. فهنا تتشكل رؤية فلسفية الى التاريخ تملك مقومات الطرح الكلي لحركة التاريخ ومعناه. فمعنى التاريخ من هذا المنظور ليس مصدره التاريخ بحيث يصبح بدوره ظاهرة تاريخية نسبية. وهذا ما اخذه الصدر على فلسفات التاريخ الغربية خاصة عند كل من هيجل وماركس[52]. حيث اتت نظرتهما الى التاريخ كرد فعل مباشر للمرحلة التاريخية التي عاشا فيها ولمؤثرات الحضارة الغربية (كالصراع بين العلم والمسيحية خاصة في العصور الوسطى وما نتج عنه من حكم ثيوقراطي قاهر، ثم عصر النهضة وظهور الاكتشافات في المجال العلمي والتقني، تقدم الصناعة، الاستعمار ونشر الثقافة الغربية باسم كونية الحضارة الغربية.. الخ). ففلاسفة التاريخ في الغرب كانوا ـ عند تنظيرهم ـ يتصورون الزمان في الماضي والحاضر والمستقبل. في حين انهم لا يملكون ـ على الصعيد الابستمولوجي ـ مقومات هذا التصور. فجاءت رؤيتهم الى التاريخ ومعناه مجرد ظاهرة تاريخية محدودة بمحدودبية العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي اثرت فيها.

لذلك لم يطرح الصدر فكرة معنى التاريخ وفلسفة التاريخ على العموم خارج الدين الاسلامي (خارج الرؤية الدينية المحللة في افق فلسفي). فمعنى التاريخ ليس تاريخيا في نظر الصدر اي ليس مجرد ظاهرة تاريخية في جوهره ـ وهذا لا يعني بأن الصدر اهمل العوامل التاريخية في تشكيل معنى التاريخ واكد على البعد المتعالي وحده. ان معنى التاريخ في نظر الصدر هو نتيجة للتعالي وللتاريخ في نفس الوقت. وهذا ما يتجلى بوضوح في تحليل الصدر للنبوة ولتسلسل الرسالات السماوية وتحليله للامامة والعصمة. فهذا التحليل تم انطلاقا من خلفية معرفية منقطعة النظير. اي من خلفية معرفية لا يمكن حصرها في مذهب من المذاهب الفلسفية المعروفة كالنزعة التجريبية او المذهب العقلي او الواقعية او المثالية او التفكير اللاهوتي. لانها خلفية معرفية تفتح نظرية المعرفة على آفاق الغيب التي لا تنفد[53]. وقد كسرت هذه الخلفية المعرفية حاجز الثنائية التي تتميز بالنظرة الجزئية والتجزيئية الى القضايا وما ينجم عنها من طرح ناقص للمشاكل. فالفكر الغربي لا يرى طريقا ثالثا في مجال المعرفة غير الموقف الوضعي والموقف اللاهوتي المناقض له. فكل دراسة للتاريخ تدخل الجانب الغيبي تصبح، بالنسبة للفكر الغربي نظرة لاهوتية متناقضة مع العلم يقول ريمون گرون (Raymon Aron) في هذا السياق: «.. ان البعد التاريخي يختلف بصورة جذرية مع فلسفة التعالي»[54].

ان معنى التاريخ في كتابات الصدر يتحدد حسب غاية التاريخ. فهذا الاخير لا يكون اتجاها معينا ما لم يسع الى غاية معينة. فكرة الغاية تقتضي بدورها، فكرة النهاية، نهاية التاريخ (هذا المفهوم سنحلله في آخر البحث ونكتفي هنا بالقول بأن نهاية التاريخ في الرؤية الاسلامية لها معنى خاص). وفكرة النهاية تسمح بالدراسة العقلانية للتاريخ، وهي عقلانية تتضمن تسلسل الحوادث التاريخية تسلسلا سببيا. وهو تسلسل لا يمكن تصوره دون وجود غاية يسعى التاريخ نحوها. لذلك لم يعالج الصدر التاريخ من منظور مثالي متطرف او من منظور طوباوى للهروب من الواقع القاسي والقفز نحو المستقبل المنتظر حيث وعد الله بنصر المؤمنين. بل اصبحت فكرة النهاية كغاية لتاريخ الامة، اداة للدراسة العلمية لحركة التاريخ. فوعد الله بنصره المؤمنين وظهور الامام المهدي (ع) يقتضيان في نظر الصدر تعبئة الشعوب الاسلامية لاستحقاق الامداد الغيبي ونصر الله. فالتعبئة الجهادية ومعنى التاريخ فكرتان متلازمتان، لان التاريخ لا يتحقق عن طريق عقل كوني كما هو الامر عند هيجل او عن طريق حتمية تاريخية تكفي نفسها بنفسها كما هو الامر عند ماركس. بل يتحقق التاريخ عن طريق التدخل الواعي والملتزم للاسنان. من هذا المنظور طرح الصدر البديل الاسلامي. طرحه كحل آخر خارج الطرح الهيجلي والطرح الماركسي، لا كحل تلفيقي بين هذين التيارين. فالصدر قد حلل تحليلا نقديا فكرة معنى التاريخ عند كل من هيجل وماركس. معنى التاريخ عند هيجل يتحقق في الفلسفة السياسية كنظرية للدولة التي تصبح منتهى صيرورة العقل الكوني عبر التاريخ. وتصبح مجسدة للعقل الكوني. اي تصبح الدولة كتجسيد لله في التاريخ. وتصبح مجسدة للعقل الكوني. اي تصبح الدولة كتجسيد لله في التاريخ، وتصبح ـ تبعا لذلك ـ مبررة كل السلوكات حتى ولو كانت لا انسانية لان الدولة هي الواقعي وهي المعقل.

اما معنى التاريخ عند ماركس فيتحقق عن طريق الثرة البروليتاريا وعن طريق قهر الانسان للطبيعة وتحويلها، كما يتحقق التاريخ ويصل الى منتهاه عندما تزول الطبقات.

يرى الصدر ان التاريخ منذ قرن لم يتحقق بصورة يقينية من اية فرضية من هذه الفرضيات السابقة. كما ان التاريخ لم يثبت ـ في نظر الصدر ـ صحة نظريات التقدم التي ظهرت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وهكذا اصبحت كل انواع نهاية التاريخ مجرد تخمينات قد فقدت معناها أو ستفقد معناها.

يجب اذن، على الصعيد العلمي، البحث عن فرضية اخرى لحركة التاريخ ومعناه خارج الرؤية الغربية الى التاريخ.

ينطلق الصدر من خلفية معرفية تختلف عن الخلفية التي ينطلق منها فلاسفة التاريخ في الغرب على اعتبار انهم ينطلقون من فرضيات مصدرها العقل وحده. كما ان موقف الصدر يختلف عن المفكرين الذين يعتمدون على الدين في تفسير التاريخ واعطائه معنى حيث يفسرونه بعوامل غيبتة مباشرة، ينطلق الصدر من اطار شرعي ومعرفي وقيمي مصدره القرآن الكريم. هذا الاطار يقدم معالم حركة التاريخ التي تسير في اتجاه الخط الرسالي كما يقدم من عالم حركة التاريخ المنحرفة عن الخط الرسالي.

فمنطلق الصدر ليس اذن ذا طابع افتراضي بل هو منطلق ايماني، لان معنى التاريخ في الاسلام ليس قابلا لاي تأويل: معنى التاريخ في الاسلام ليس مجرد فرضية تحتمل الصواب والخطأ. فانتصار الاسلام والامة جانب عقائدي لا يمكن التخلي عنه او انكاره على غرار ما تفعله الايديولوجيات الاخرى الماركسية والليبرالية معا التي تتخلى عن كثير من ثوابتها ان لم تتخل عنها كلها كما هو الامر بالنسبة للاشتراكية الماركسية في هذه السنوات.

لكن المنطلق الايماني الذي يعتمد عليه الصدر لصياغة معنى التاريخ ليس ايمانيا بالمعنى الروحي فحسب، بل هو ايماني بالمعنى المعرفي كذلك. فهو ليس مجرد حالة روحية مريحة او مجرد حالة عاطفية، بل هو كذلك ـ والى درجة كبيرة فيما يخص صياغة معنى التاريخ ـ ذو جانب فكري. فالمنطلق الايماني ليس، من هذا المنظور، عائقا ابستمولوجيا امام المعرفة على اعتبار انه في جوهره قبلي (اي ليس مستمدا من التجربة) بل المنطلق الايماني يحفظ الباحث من أن يتيه في متاهات الافتراضات او يتيه في متاهات المثاليات المتطرفة. مثلا يعرف الباحث بفضل المنطلق الايماني ان الترف يؤديب الى الفساد ثم الى الهلاك: هلاك القرية او الحضارة. وان عملية التغيير ليست عملية اجتماعية فحسب على اعتبار ان المجتمع كائن منفصل عن الافراد، بل عملية التغيير من صنع الافراد والمجتمع في علاقتهما بالله.

هكذا يعتمد الصدر في صياغته لمعنى التاريخ على المنطلق الايماني كاطار يحمل ادوات استكشافية ترسم الاطار العام ـ لا الجزئي او الدقيق ـ للبحث.

فطر البديل فيما يخص معنى التاريخ، وفيما يخص البديل الحضاري الاسلامي على العوم، يقتضي حتما قطيعة جذرية مع نظرية المعرفة التي ارتكزت عليها فلسفات التاريخ في الغرب. ويقتضي ـ نتيجة لذلك ـ رفض الفكر التاريخي بمفهومه الغربي خاصة في علاقته مع التاريخانية من حيث هي المصدر الوحيد لصياغة معنى التاريخ. فالصدر يرى ان القطيعة الابستمولوجية المنتجة للرؤية البديلة الى التاريخ لا يمكن ان تأتي من الفكر الغربي. كما انه لا يكفي ان تأتي من خارج الغرب او خارج الفكر الغربي. كأن تأتي مثلا من بلد من البلدان المتخلفة. فالقطيعة الابستمولوجية تأتي من الطرح الفلسفي لحركة التاريخ وللمشروع الحضاري من موقع علاقة التاريخ بالتعالي. وهي العلاقة التي تحرر الفكر التاريخي من الافكار الظرفية الخاضعة للمرحلة التاريخية او لمتطلبات الحضارة التي ينتمي اليها فيلسوف التاريخ.

ان معنى التاريخ من هذا المنظور الذي يقدمه الصدر هو عبارة اذاً عن نهاية لتاريخ معين اي لنموذج حضاري معين ودخول الى التاريخ بالنسبة للمشروع الحضاري الاسلامي. فالخروج من التاريخ بمفهومه الغربي يتطلب التجاوز: تجاوز النموذج الحضاري الغربي وتجاوز فلسفة التاريخ في صورتها الغربية ومرتكزاتها المعرفية ونتائجها الاخلاقية. اي كسر الوثوقية الغربية في المجال المعرفي وامتداداته السياسية التي تعتبر استعمار الشعوب تحديثاً والتي تبرر قهر الشعوب باسم تفوق الحضارة الغربية وباسم مقولة كل واقعي معقول وكل معقول واقعي.

لا شك ان معنى التاريخ في نظرية الصدر يتضمن، هو الآخر، البعد السياسي، بل هذا البعد موجود بصورة مباشرة في الرؤية الفلسفية الى التاريخ لدى الصدر. فالحضارة الاسلامية لن تتحقق بدون دولة. فالدولة هي اداة للتفعيل الحضاري. لكن نقطة الاختلاف بين الصدر والفلسفة الغربية في هذا المجال تكمن في الطرح الناقص لهذه المشكلة في الفكر الغربي. وهو طرح يتأرجح بين تأليه الدولة واعتبارها كنهاية للتاريخ (هيجل) وبين اعتبار الدولة اداة شر (وسيلة للاستغلال) يجب ان تزول كما يرى ماركس. فالصدر عالج المشكلة باعتبار الدولة ظاهرة نبوية وضرورة حضارية، فربط الدولة بالتاريخ وبالتعالي معاً. وهذا ما جعل الدولة في نظر الصدر تتجه نحو الكونية: فظهور الامام المهدي (ع) هو جانب من جوانب علاقة التاريخ بالتعالي. وهذا ما يجعل الدولة تسير في خط تصاعدي حتى تصير دولة كونية في عصر الظهور.

فالصدر ربط الدولة بمعنى التاريخ وحررها من الثيوقراطية بمفهومها اللاهوتي (المسيحية في القرون الوسطى والملك في تاريخ الأمة) كما حررها من «الثيوقراطية» بمفهومها الوضعي، ان صح التعبير، كما يتجلى ذلك في فلسفة هيجل[55]. واذا كانت الدولة في فلسفة هيجل هي منتهى حركة التاريخ فان الأمر ليس كذلك عند الصدر. حيث ان الدولة مؤسة لتطبيق شرع الله. فهي اذاً وسيلة وليست غايتها في ذاتها. فولي الأمر هو عبد من عباد الله وليس ممثلا لله في الأرض او مجسداً لحركة التاريخ او للعقل الكوني كما كان يرى هيجل حيث اعتبر هذا الفيلسوف ان نابليون هو «الروح على جواد».

ان موقف الفلسفة من علاقة الانسان بالله ينعكس على الرؤية الى التاريخ. فالسميحية التي ألهت المسيح (ع) تنطلق من الله الى الانسان (جدل هابط). وهذا ادى الى فكرة الحلول ثم الى رؤية فلسفية الى التاريخ تقول بحلول العقل الكوني (او الله في نظر هيجل) في التاريخ الى درجة ان الله والتاريخ شيء واحد.

اما الاسلام فينطلق في رؤيته الى علاقة الانسان بالله من الانسان الى الله. وهذه الرؤية لها انعكاسات على نظرة المسلمين الى التاريخ. فحركة الانسان نحو الله في نظر الصدر تعبر عن خلافة الانسان لله لذلك يتطلع الانسان النسبي الى

المثل الأعلى المطلق. واذا كانت فكرة (الحلول) المسيحية قد أثرت في فلسفات التاريخ الغربية بصورد مباشرة او غير مباشرة فأصبحت هذه الفلسفات حول الانسان النسبي الى المطلق وانتهت الى مقولة نهاية التاريخ. فان الأمر ليس كذلك في الرؤية الاسلامية التي تجعل من الخلافة (خلافة الانسان لله في الأرض) حركة مستمرة نحو المثل الأعلى، وتجعل التقدم تقدماً لا نهاية له بحكم الغاية المطلقة التي تتجه نحوها حركة التاريخ.

وهكذا فمعنى التاريخ عند الصدر هو جانب من جوانب العقيدة وليس مجرد موقف فلسفي. فالعقيدة الاسلامية تنتج عنها نظرة الى الكون والانسان ومصيره. فخارج معنى الوجود لا يوجد الا العبث واللامعقول: وهذه حالة من حالات الشرك المتناقضة جذرياً مع عقلانية التوحيد الصارمة.

2ـ التاريخانية والتعالي:

ان الرؤية الاسلامية الى التاريخ هي رؤية جهادية ذات ثورية جذرية الى اقصى حد لأن الأساس الفكري والقيمي لعملية التغيير لا يستمد مصدره من الظروف الاجتماعية التي انتجت الاوضاع التي تتجه الثورة الى ازالتها. ان هذه النقطة هي الحد الفاصل بين الرؤية الاسلامية الى التاريخ وبين الرؤية الوضعية.

فهذه الاخيرة تستند على اساس فكري يضرب بجذوره في الظروف والعوامل الاجتماعية التي ينبغي الثورة عليها. في حين ان عملية التغيير يجب ان تنبع من مصدر خارج عن الخلفية الثقافية التي افرزت الأحوال التي تسعى الثورة الى القضاء عليها وتغييرها.

يرى الصدر في هذا السياق، ان الرأسمالية والماركسية تشكلتا، معاً، في ارضية ثقافية واحدة: الثقافة الغربية. ولذلك لا يمكن تعميمها على كل شعوب العالم. معنى ذلك ان الفر الغربي فكر غير كوني. ان التغيير الذي يسعى الى ثورة كونية لتحقيق مشروع حضاري كوني ينبغي ان يستند على اسس ثقافية مختلفة عن الثقافة الغربية. اي يستند على ثقافة ذات قيمة كونية. والاسلام هو وحده الذي يتمتع بالبعد الكوني الذي يرشح المسلمين لعلملية التغيير الجذري الذي تنتظره البشرية.

لم يأت الاسلام ليعالج جانباً من جوانب الحياة الانسانية كما هو الأمر بالنسبة للرسالات السابقة عليه. فالاسلام استوعب كل الرسالات السابقة وأتى بمبادىء ومعايير وأحكام شرعية تسمح له باستيعاب حركة التاريخ عن طريق نظرة كلية الى الانسان والمجتمع والتاريخ. لذلك تتميز الأمة الاسلامية بتفتحها على كل الحضارات كما تتميز بقدرتها الاستيعابية لعطاءات كل الحضارات[56].

فالامة الاسلامية امة كونية وليست خاصة بشعب معين او بمنطقة جغرافية معينة. الامة الاسلامية تستمد كونيتها من المبادىء والقيم الالاهية وتستمدها كذلك من التجربة التاريخية، حيث انها استطاعت في مرحلة تاريخية معينة ان تستوعب عطاء الحضارات (الحضارة اليونانية والفارسية والهندية..) فكونية الامة مستمدة من معايير كونية عكس الحضارة الغربية التي انتجت كونية مزيفة لانها تتمتع بمعايير تسمح لها بأن تعمم نموذجها الاجتماعي والسياسي على شعوب العالم. يرى الصدر ان كونية الحضارة الغربية مزيفة لانها ترتكز على القوة المادية (الاستعمار واستغلال الشعوب) العنصرية، النظرة الناقصة والتجزيئية الى الانسان باعتباره ككائن تتمحور حياته حول الانتاج والاستهلاك). وهنا يطرح النموذج الحضاري الاسلامي كنموذج كوني قادر على القيام بتغييرات جذرية لان مصدره خارج الظروف التي انتجت ازمة الحضارة المعاصرة، ولأنه يتمتع بمعايير الكونية والقدرة على التحكم في حركة التاريخ لا الخضوع لها وتبريرها[57].

لكن من جهة اخرى، قد ادى تخلي الفكر الغربي (او بعض مذاهبه) عن التاريخانية الى التمسك بالعدمية. وهكذا يتميز الفكر الغربي بردود الفعل الآنية او الظرفية نتيجة لمرجعيته التي لا تتجاوز العقل والتاريخ. فعندما لاحظ الفكر الغربي كذب تنبؤات فلسفات التاريخ في القرنين الثامن عشر

_________________________

(1) التجديد والتغيير فهي النبوة.

(2) محمد مورو. مقدمة في لاهوت التحرر: الاسلام ايديولوجية الفقراء ـ مجلة العالم. لندن، ابريل 1995م عدد 529، ص 25.

والتاسع عشر تاه في متاهات العدمية. والحق ان العدمية متضمنة في التاريخانية على اعتبار ان معنى التاريخ عن هذه الاخيرة هو معنى مزيف لان التاريخ لا يكفي نفسه بنفسه.

ويرى الصدر، في هذا السياق، ان معنى التاريخ لكي يكون حقيقا من الوجهة المعرفية، ومعبئا من الناحية العملية يجب ربط التاريخ بالتعالي. اي ربط المعرفة التاريخية بالادوات الاستكشافية التي يقدمها القرآن الكريم. وهذا يؤدي ـ حتما ـ الى رفض التاريخانية والاعتماد في صياغة معنى التاريخ على القرآن الكريم وعلى التاريخية اي النظر الى التاريخ بمنظار سوسيولوجي (لا مجرد سرد الحوادث او التاريخ السردي) وربطه بالتعالي. فالصدر ـ كما اشرنا فيما سبق ـ لا يرفض التاريخ كواقع وكمعطي من معطيات الحقيقة وجانب من جوانبها. بل على العكس فان ما يميز كل كتابات الصدر هو التأكيد على التاريخ وعلى التاريخية كموضوع للمعرفة العلمية، فمعنى التاريخ في نظر الصدر يبقى مجرد تخمينات ميتافيزيقية اذا لم ينبع من نظرة علمية الى التاريخ.

ويمكن القول، في هذا السياق، ان نهاية الايديولوجيات او ما يسمى بنهاية التاريخ وهي نهاية قد توقعها الفكر الاسلامي منذ السيد جمال الدين الحسيني، تعني نهاية معنى معين للتاريخ لا معنى التاريخ باطلاق. ذلك ان علاقة التاريخ بالتعالي هي التي تفتح المجال لمعنى حقيقي للتاريخ. فليس اذن كل واقعي معقول وكل معقول واقعي. هناك دائما فجوة او اختلاف بين التاريخ والحقيقة (او بين التاريخ والمثل الاعلى حسب تعبير الصدر). الحقيقة لا يمكن للتاريخ ان يستوعبها في كل جوانبها. انها متعالية وتاريخية في نفس الوقت. هي متعالية في مصدرها وتاريخية في تطبيقاتها الانسانية.

قد تم تشكيل معنى التاريخ في الفلسفة الغربية في القرن الثامن عشر خاصة، من موقع تفاؤلي: البشرية تسعى ـ باسم التاريخ ـ نحو هدفين: الحرية ووفرة الانتاج. وقد دعمت هذه النظرة باسم معرفة علمية وفلسفية للتاريخ (اجوست كونت وماركس وغيرهما).

وما زال الفعل ورد الفعل هو الطابع المميز للفلسفة التاريخ في الغرب. خاصة في السنوات الاخيرة بعد سقوط الانظمة الاشتراكية. فقد تنبأ ماركس بزوال الدين والاسرة والدولة والطبقات. اي تنبأ بنهاية التاريخ. ولقد كذب التاريخ كل هذه التنبؤات. ومن هنا رد الفعل الرافض للماركسية من طرف المفكرين الرأسماليين الذين طرحوا الديمقراطية الليبرالية كغاية نهائية للتاريخ.

اما الصدر فقد طرح مشكلة معنى التاريخ وغايته خارج الاشكالية الغربية. وهي اشكالية ضيقة في نظر الصدر لانها لا تتصور طريقا آخر لحركة التاريخ غير الطريقين الرأسمالي (والاشتراكي سابقا). ولا تتصور في المجال الاجتماعي والاقتصادي الا صورتين للملكية: الملكية الخاصة والملكية الجماعية. وقد بيّن الصدر بأن النظرة الشمولية الى الانسان والكون التي يتميز بها الاسلام تتجاوز هذه الرؤية الضيقة في المجالات السياسية والاقتصادية والحضارية على العموم. فالاسلام لا يحدث قطيعة بين الروحي والحضاري وبين الفردي والاجتماعي. لذلك فالمعني الاسلامي للتاريخ يتجاوز المعنى الغربي بجانبيه الرأسمالي والاشتراكي بهذا الطرح الشمولي للانسان ولحركة التاريخ[58].

لقد انتقد الصدر مادية الحضارة الغربية. فهو يرى بأن النظام الرأسمالي يريد ان يكيف المجتمع ليصبح الانسان مجرد انسان استهلاكي. فالمعرفة والقيم توظف لخدمة السوق والاستهلاك. ونفس الامر بالنسبة للنظام الاشتراكي الذي ينطلق ـ في نظر الصدر ـ بصورة مباشرة وواضحة من نظرة مادية الى الكون. وهذه النظرة المادية هي، في نظر الصدر، النتيجة المباشرة للرؤية الوضعية الى الانسان والتاريخ في الفكر الغربي.

عندما يطرح الصدر الاساس الفكري الذي تعتمد عليه عملية التغيير ويرى بان هذا الاساس الفكري لا تكون له النتائج المرجوة في تغيير التاريخ اذا كان مصدره التاريخ نفسه. اي يستمد مصدره من الاوضاع التي يراد تغييرها. عندمايطرح الصدر هذا المشكل فانه يدحض فلسفات التاريخ الوضعية كلها ويكشف عن تناقضها الداخلى[59]. فهيجل عندما يضع فلسفته كنهاية للتاريخ يتجاوز ـ في سياق الرؤية الصدرية ـ درجة الفيلسوف ليضع نفسه بصورة ضمنية او صريحة في مستوى «الانبياء». فهيجل يعتبر نفسه انه اكتشف ما لم يكتشفه احد: اكتشف المنطق الداخلي لحركة التاريخ اكتشافا نهائيا. فهو قد سعى الى وعي يمثل منتهى صيرورة كونية. لا شك ان هذه النبؤة ليست الا نبؤة مزيفة أي «نبؤة وضعية» لا تلك مقومات التعالي على التاريخ حتى تتمكن من اكتشاف منطق حركته ومنتهى صيرورته.

ويعتبر الفكر الغربي كله امتدادا لفلسفة هيجل من حيث كون الفكر الغربي يعتبر نفسه فكرا كونيا ينفي كل بديل. فالاستعمار يبرر نفسه باسم هذه الكونية وكذلك العلاقات الدولية التي ظهرت بعد الاستعمار المباشر. ويمكن اعتبار فرانسسيس فوكوياما في هذه الايام فيلسوف النهاية والكونية المنتظر الذي يجسد فلسفة هيجل[60].

وفي هذا السياق فان فلسفات التاريخ الغربية ترى بان حل مشكلة البشرية هو حل سياسي (زوال الدولة عند ماركس، سيادة الديمقراطية الليبرالية عند الرأسماليين) وحل اقتصادي: انتشار وتعميم مجتمع الاستهلاك.

ويقدم الصدر الحل الاسلامي، حيث يرى بأن حل مشكلة الانسان ليس حلا سياسيا او اقتصاديا في الاساس. هذه الجوانب وسائل فقط. فحل مشكلة الانسان يمكن في معنى الوجود. اي علاقة الانسان بالتاريخ وبالغيب[61].

وهكذا فالتاريخ بالنسبة للفكر الوضعي هو «الشيء في ذاته». اي التاريخ يكفي نفسه بنفسه. اما بالنسبة للصدر فالتاريخ لا معنى له، معنى حقيقيا؟ في ذاته. فالتاريخ نسبي ولا يستمد معناه الا بفضل علاقته بالتعالي.

وتجدر الاشارة الى ان المحدثين في العالم الاسلامي قد حاولوا دمج التاريخانية في الفكر الاسلامي. حاولوا دمجها كما هي دون تحليل نقدي ودون اعادة النظر في بعض جوانبها على اقل تقدير. فهم يرون ان الحداثة أن تتحقق الا اذا نظر اليها من خلال التاريخانية.

فالحداثة في نظر المحدثين في العالم الاسلامي لا توجد الا في شكلها الغربي. يقول عبد الله العروي: «ان ارتباط الامة بالتراث قد انقطع نهائيا فيب جميع الميادين وان الاستمرار الثقافي الذي يخدعنا لاننا ما زلنا نقرأ المؤلفين القدماء ونؤلف فيهم انما هو سراب. وسبب التخلف الفكري عندنا هو ـ الغرور بذلك السراب وعدم رؤية الانفصام الواقعي فيبقى الذهن العربي حتما مفوصلا عن واقعه متخلفا عنه بسبب اعتبار الوفاء للاهل حقيقة واقعية مع انه اصبح حساً رومانسياً منذ ازمان متباعدة[62] وعليه فالمرجعية المحركة للتاريخ الغربي الممتد من عصر النهضة الى الثورة الصناعية هو المرجع الوحيد للمفاهيم التي تشيد على ضوئها السياسات الثورية الرامية الى اخراج البلاد غير الاوروبية من اوضاع (وسطوية) مترهلة الى اوضاع صناعية حديثة. ليست هذه الفرضية فكرة مسبقة بل نتيجة لاستطلاع التاريخ والواقع، وهي المبرر الوحيد لحكمنا على السفلية والليبرالية والتقنوقراطية، بالسطحية، وعلى الماركسية بانها النظرية النقدية للغرب الحديث. النظرية المعقولة الواضحة والنافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه.

وهكذا فالحداثة في العالم الاسلامي ليست الا امتداد للفكر الغربي. يقول ريمون آرون: «ان البشرية كلها قد بدأت تصل الى صورة الوعي التاريخي الذي يتميز به الغرب في العصر الحديث. ان الغرب لم ينشر التكنولوجيا والرياضيات والفيزياء وسائر العلوم الاخرى فحسب بل قد نشر كذلك الافكار التي تشكل الوعي التاريخي عنصرا هاماً من عناصرها. فالاوروبيون هم الذين صاغوا للهنديين وعيهم بماضيهم. فالتاريخ الذي صاغه الاوروبيون هو الذي يساعد اليابانيون على استيعاب ماضيهم عن طريق تأويله وتفسيره. ففلسفة التاريخ التي تمت صياغتها في القرن الآخير في الغرب هي التي يستوحي منها الحكام الصينيون تصورهم للمجتمع المنشود ورؤيتهم لماضيهم ولمستقبلهم»[63].

لقد تغافل المفكرون الغربيون والمحدثون في العالم الاسلامي عن مبدأ معرفي جوهري: لا يمكن صنع تاريخ الامة الاسلامية الا بالاندماج فيه. اي لا يمكن صنع تاريخ الامة خارج تاريخها. انطلاقا منهذا المبدأ كشف الصدر عن حقيقة الحداثة والتاريخ في الغرب: ان حداثة الغرب تحققت عن طريق استعمار الشعوب وقهرها. في حين ان هذا لا يمكن ان يحدث في العالم الاسلامي. فتحدثت العالم الاسلامي، اذا نظرنا اليه من الناحية السوسيولوجية والتاريخية، لا يمكن ان يتحقق جملة وتفصيلا على غرار تحديث الغرب. فذلك فشل المحدثون في العالم الاسلامي في بلورة مشروع حضاري يمكن ان يسترشد به المسلمون في محاولتهم لتحقيق النهضة.

3 ـ خلافة الانسان:

ان معنى التاريخ عند الصدر هو تجسيد تدريجي لخلافة الانسان عبر التاريخ. ان مفهوم خلافة الانسان كما يطرحه الصدر يجعل الفكر الاسلامي يتجاوز الطرح الناقص لمشكلة العلاقة بين الماهية والوجود في الفلسفة الغربية، حيث ظهر مذهبان مختلفان احدهما يقول بأسبقية الماهية على الوجود، والآخر يقول بأسبقية الوجود على الماهية. هذان المذهبان يعبران عن معالجة ناقصة لمشكلة العلاقة بين الانسان والتاريخ، بين اثابت والمتغير في حياة الانسان. وهي معالجة قد تمت في اطار الثنائية. اما الفكر الاسلامي كما يطرحه الصدر فهو فكر يكسر الثنائية وينظر الى الماهية والوجود كجانبين متكاملين احدهما يتضمن وجود الآخر. فالتاريخ نتيجة لعلم الانسان، ولانهكذلك فهو يجسد قيمة الانسان عبر المزان. اي التاريخ يجسد خلافة الانسان. فليست الخلافة حقيقية تتعالى على التاريخ. بل الخلافة حقيقية تاريخية ذات مصدر الهي. فالخلافة في تحقق مستمر: هي الانسان في واقعه التاريخي.

فمفهوم الخلافة كما حلله الصدر ليس حقيقة متعالية على التاريخ بحيث يصبح هذا الاخير مجرد كشف لحقيقة سابقة على الانسان. فالخلافة لكي تتحقق تتطلب وجود التاريخ وتتضمن مسؤولية الانسان. فالوجود التاريخي هو بعد اساسي من الحقيقة الانسانية. لكن التاريخ ليس كل شيء بالنسبة للصدر. فعلى الرغم من اهميته فانه لا يكفي نفسه بنفسه. ان خلافة الانسان لله في الارض تجعله يتجاوز نفسه باستمرار اي يتجاوز مؤثرات العوامل التاريخية، لا عن طريق تجاهلها بل عن طريق التأثير فيها وتوجيهها. فالخلافة هي الامكانيات العقلية والروحية التي يتمتع بها الانسان. فهي عامل اساسي من العوامل المكونة للتاريخ، وهي كذلك مبدأ لتفسير التاريخ واعطائه معنى.

ان الخلافة من حيث هي تعبير عن علاقة التاريخ بالتعالي تجعل الانسان النسبي يتطلع الى المثل الاعلى. وهذا التطلع هو الذي يجعل التقدم ممكنا. بل يجعل الرؤية الاسلامية الى التقدم رؤية نوعية تتجاوز كل الرؤى الاخرى التي تجعل اهدافا نسبية او مثلا «عليا» مزيفة امام الانسانية كالمجتمع اللاطبقي عند ماركس او الديمقراطية الليبرالية في المذهب الرأسمالي[64].

ان الرؤية الغربية الى التاريخ هي رؤية نسبية في المظهر فقط لان الفكر الغربي يطرح نفسه كفكر مطلق، فالجدلية رغم مظاهرها التي تعبر عن نسبية المعرفة ـ تطرح نفسها، ضمنيا، كمعرفة مطلقة لانها تستوعب الواقعي والعقلي معا: فكل واقعي معقول وكل معقول واقعي. في حين ان مفهوم خلافة الانسان ليست له هذه الاطلاقية لانه مفهوم تلزم عنه فكرة العلاقة بين الانسان النسبي والله المطلق. اي يلزم عنه ان حركة التاريخ مفتوحة الى ما لا نهاية. فالانسان يجسد الخلافة عبر التاريخ بالتدريج وعن مراحل.

وهذا يعني ان تاريخية الانسان تتجلى بصورة اقوى في مفهوم الخلافة كما حلله الصدر اكثر مما تتجلى في المقولة  الهيجلية «كل واقعي معقول وكل معقول واقعي».

هذه نقطة اختلاف بين مفهوم الخلافة ومقولة هيجل. وهناك نقطة اختلاف اخرى لها اهميتها. فعلى الرغم من ان الخلفية العامة التي تشكلت ضمنها فلسفة التاريخ عند هيجل (هي تجسيد العقل الكوني في التاريخ) فقد بقي هذا العقل الكوني متعاليا بالنسبة للانسان تعاليا جعل المجتمعات والشعوب والاشخاص مجرد لعبة في يده. فهم يقومون بادوار في التاريخ ولكنهم لا يشعرون بادوارهم هذه، انهم مسيّرون من طرف العقل الكوني. اما مفهوم خلافة الانسان لله في الارض فانه لا ينفي ذاتية الفرد ولا ينفي مسؤولية الانسان فردا وشعوبا وامما، بل الخلافة والمسؤولية فكرتان متلازمتان[65].

لم يحلل الصدر مشكلة حرية الانسان تحليلا مجردا بل ربط بالحرية بالتاريخ وبالحقيقة اي بقضاء الله وقدره وبخلافة الانسان في الارض. فتجسيد الخلافة عبر التاريخ يقتضي حتما ان الانسان مسؤول وانه يصنع التاريخ من حيث هو ذات مستوعبة لمتطلبات التغيير. فالحرية التي تعطي معنى لوجود الانسان تستمد حقيقتها من الغيب اي من خلافة الانسان لله في الارض. والخلافة معناها ان الانسان ليس مادة فحسب بل له جانب روحي يربطه بعالم الغيب. هذا من جهة، ومنجهة اخرى فان الصدر لم يطرح مشكلة الحرية طرحا مزيفا كما عودتنا اكثر المذاهب الفلسفية التي تأرجحت بين اثبات الحرية ونفيها، بل طرح مشكلة الحرية في افق تجسيد خلافة الانسان بالانسان. فالحرية عند الصدر ليست معطاة اذن بل هي تحرر مستمر بتحويل الطبيعة لصالح الانسان وتحويل المجتمع وتغييره وبالارتباط بالقيم الالاهية. هكذا ربط الصدر معنى التاريخ بخلافة الانسان وبالحرية. فالانسان لا معنى له والتاريخ لا معنى له الا بارتباطهما بالله تعالي. فالايمان بالله هو الذي يحرر الانسان ويعطي معنى للوجود وللتاريخ.

هكذا فالتاريخ عند الصدر ليس عرضة للصدفة، وليس خاضعاً لاسباب خارجة عن الانسان. فالتاريخ يخضع لنظام ويتجه نحو غاية. لكن عقلانية التاريخ التي يستمد منها معناه لا تكفي نفسها بنفسها بل تستمد هي الاخرى حقيقتها من الله تعالى. وهذا هو الفرق الجوهري بين فلسفة التاريخ عند الصدر وفلسفة التاريخ في الفكر الغربي كما يتجلى عند هيجل وماركس. فهجيل مثلا يرى بان التاريخ يخضع لنظام. وهو يعطي لهذا النظام اسماء مختلفة. فمرة هو العقل الكوني ومرة يسميه الله ومرة اخرى يسميه الروح او الوعي الكوني. هناك قانون عام في نظر هيجل: ان كل ما يقع وما سيقع في العالم يعبر عن تجسيد العقل في التاريخ اي عن التحقق التدريجي للوعي الكوني. وهذا يعني ـ كما اشرنا سابقا ـ ان الافراد والشعوب عندما يصنعون التاريخ فانهم يصنعونه من حيث لا يعلمون. فهم ليسوا الا ادوات يستخدمها العقل الكوني للوصول الى اهدافه. هم مجرد وسائل يستخدمها التاريخ. هكذا فالتاريخ بالنسبة لهيجل لا يمكن ان يكون بصورة اخرى غير صورته الحالية. هذه الجبرية التي تنفي تدخل الانسان في حركة التاريخ قد اعاد ماركس صياغتها فاصبحت المادية التاريخية هي التعبير «العلمي» عن مصير البشرية.

فهناك اختلاف جذري اذن بين الصدر وكل من هيجل وماركس فيما يخص علاقة الانسان بالتاريخ. فاذا كان هذان الفيلسوفان ينفيان الانسان كذات واعية ومسؤولة: هيجل يدمج الفرد في الكل، اما ماركس فيذيب الفرد في المجتمع. ويذنب المجتمع في حركة التاريخ التي تتحرك حسب نمط وسائل الانتاج. فان الصدر يؤكد على الذات الفاعلة الحرة الموجهة لحركة التاريخ والمتأثرة ـ في نفس الوقت ـ بحركة التاريخ. وقد صاغ الصدر موقفه هذا الاعتماد على المفاهيم القرآنية كتدخل الانسان في عملية التغيير (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[66]. وكمفهوم الخلافة (خلافة الفرد وخلافة الامة).

وعلى الرغم من ان ماركس يؤكد على دور الانسان في التاريخ. فهو يرى مثلا بان الوعي الطبقي سيدفع بالبروليتاريا الى تغيير التاريخ، على الرغم من ذلك فان موقفه هذا ليست مبررات مفاهيمية وقيمية لانه لا يمكن القول بأن الانسان حر ومسؤول وانه عامل اساسي وجوهري من العوامل المحركة للتاريخ، لا يمكن القول بذلك اذا كان الانسان ذائبا في المجتمع وفي التاريخ ولا يتمتع ببعد متعالي يسمح له بالتحرر من الحتمية.

فلسفة التاريخ كما تتجلى عند هيجل وماركس تصطدم امام تناقض جذري. فهي من جهة فلسفة ترتكز على حركة التاريخ وعلى فكرة التقدم لكنها من جهة اخرى تتضمن رؤية الى التاريخ مبنية على حتمية مطلقة وقاهرة. وذلك بسبب نفي هذه الفلسفة للبعد المتعالي في الانسان وهو البعد الذي عن طريقه يتمكن الانسان من التحرر من كل انواع الحتميات[67].

هذا المشكل لا يطرح في رؤية الصدر الى التاريخ. فاذا كان ماركس قد اذاب الفرد في المجتمع واخضع المجتمع الى حتمية قاهرة نتيجة لنفي الجانب المتعالي في الانسان، واذا كان هيجل قد تأثر بفكرتي التجسيد والتثليث في المسيحية، فاوصل التجسيد الى منتهاه عندما جعل العقل الكوني متجسدا في التاريخ. اي جعل التاريخ هو الله. فان الصدر قد صاغ معنى للتاريخ يؤكد على مسؤولية الانسان الخليفة الذي يحرك التاريخ عن طريق العبودية لله المجسدة للخلافة عبر الزمان.

أ ـ الخلافة والدولة:

الدولة في فلسفة الصدر لها علاقة مباشرة مع خلافة الانسان لله ومع التاريخ من حيث هي اداة شرعية وضرورية للتغيير. فهي عنصر بنيوي ـ لا في المشروع الحضاري الاسلامي فحسب ـ بل عنصر جوهري في الاسلام نفسه: (هي واحب شرعي وظاهرة حضارية) حيث لا وجود لقطعية بين المادي والروحي، بين السياسة والعبادة[68]. فخلافة الانسان ليست حالة روحية منعزلة عن الجانب الاجتماعي والتاريخي للبشرية. فالسير في طريق تحقيق الخلافة عبر التاريخ يقتضي وجود دولة. هكذا ترتبط السياسة بالتاريخ وبالنبوة. لان المشروع الحضاري الذي يستمد مصدره من الوحي هو مشروع ينمو ويتطور بالتوازي مع نمو وتطور وعي الانسان. وهنا تبرز العلاقة بين النبوة وحركة التاريخ. فالنبوة تتجدد لحفظ الانسان من الانحراف عن خط المشروع الحضاري نحو المثل الاعلى[69].

ان الامداد الغيبي او علاقة التاريخ بالتعالي، هذه المفاهيم استخرجها الصدر وصاغها انطلاقا من مفهومي الخلافة والشهادة. فالشهادة تتجسد في شخص واقعي هو النبي او الامام كما تتجسد في الفقيه (اي الذين يسيرون في الخط الرسالي). فالشهادة قانون مصدره الاهي وتجسيداته واقعية تبرز في التاريخ لتوجهه حسب متطلبات الشرع (المشروع الالاهي للبشرية)[70].

فهناك قانون الشهادة وهناك قانون الخلافة العام. وكلاهما ذو علاقة مع حركة التاريخ ومن موقع علاقة هذا الاخير بالغيب. واذا كان قانون الشهادة يحمي المشروع الحضاري الالاهي من الانحراف، فان قانون الخلافة العام يركز على هدف حركة التاريخ: الى اين يتجه الانسان والى اين يتجه التاريخ؟ حركة التاريخ تتجه نحو هدف الاهي: سعي البشرية لتحقيق صفات الله كالعدل والعلم والرحمة والانتقام من الظالمين، والقدرة.. اي تشبّه الانسان باخلاق الله وصفاته. وهو تشبه يجعل الانسان النسبي مرتبطا بالمطلق، لذلك تصبح حركة التاريخ مستمرة لا نهاية لها. ولم يترك الاسلام ـ في نظر الصدر ـ هذه الحركة نحو المطلق مجرد حالة روحية او عاطفية غير مؤطرة وموجهة، بل جعل الاسلام الشهادة هي الشرط الشرعي والضروري لحفظ حركة البشرية من الانحراف عن خط الخلافة.

وهنا نجد الاختلاف الجذري بين فلسفة التاريخ كما صاغها الصدر وفلسفات التاريخ الغربية في نقطتين خاصة: الدولة ونهاية التاريخ.

اذا كانت الدولة عند هيجل هي المجسدة لله في التاريخ او هي الاله، فانها عند الصدر مجرد وسيلة لحفظ حركة التاريخ من الانحراف عن خط الخلافة. فالدولة هنا ـ على عكس نظرية هيجل ـ هي لون من الوان العبادة. كما ان علاقة الانسان النسبي بالمثل الاعلى (المطلق) لا يمكن ان تجعل لحركة التاريخ نهاية، بل هي حركة مستمرة. وهذا ما يجعل فكرد التقدم التي صاغها الصدر تختلف عن التقدم بمفهومه الغربي، وهو تقدم محدو د بحكم الاطار المعرفي الوضعي الذي يرتكز عليه.

وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان ربط حركة التاريخ بالغيب (الخلافة والشهادة) لا ينفي العلاقة بين حركة التاريخ والشروط الموضوعية المحققة لهذه الحركة. فالدولة (جانب من جوانب الشهادة) وظيفتها تحقيق الشروط الموضوعية على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي لتجسيد الخلافة[71]. فالقيادة اي الدولة المتمثلة في النبي او الامام او الفقيه) هدفها ليس هدفا محدودا حتى تصبح حركة التاريخ محدودة تبعا لذلك بل هدفها مطلق وليس مرحليا او نسبيا. لذلك تقدم الدولة القوة التي تحرك التاريخ. فقدرة الدولة نابعة من هدفها المطلق. فالدولة عند الصدر عكس هيجل وفوكوياما ـ تخضع لهدف يتجاوزها ـ[72].

ولقد ربط الصدر هذه الافكار والمفاهيم السابقة بتاريخ الامة الواقعي (كما هو) والحقيقي (كما يجب ان يكون). فما دامت الامة لم تنس الهدف المطلق 0المثل الاعلى) او لم تحدث بينها وبينه قطيعة نهائية فانها تملك القدرة على التجاوز: تجاوز ثقة الواقع كالتخلف والاستعمار والتبعية والاقتصادية فالدولة عند الصدر تمفصل (اي تربط) شرع الله مع حركة التاريخ من موقع توجيه العوامل التاريخية الموضوعية نحو الهدف (المثل الاعلى). اي الدولة اداة تعبّدية يلتقي فيها الروحي بالسياسي وبالتاريخ معا[73]. فالصدر يتعامل مع الرسالة الاسلامية لا كحقيقة فوق ـ تاريخية بحكم مصدرها الالاهي بل كحقيقة ذات مصدر الاهي ارتبطت منذ نزولها بالتاريخ. ان التحليل العقائدي والسوسيولوجي للدولة جعل الصدر يصوغ نظرية للدولة ورؤية فلسفية الى التاريخ منقطعتي النظير: الدولة والتقدم مفهومان متلازمان. والتقدم هنا له خصوصيته لانه من حيث كونه اتجاه نحو المطلق ـ فهو لا يتوقف. وهذا هو سر الطاقة الهائلة في هذه الدولة وقدرتها على التطوع والابداع المستمر في مسيرة الانسان نحو الله. (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)[74].

ولم يقف الصدر، بالنسبة لعلاقة الدولة بحركة التاريخ في حدود الافكار المجردة بل ربط نظريته حول الدولة والتاريخ بظواهر واقعية تعيشها الامة. فهو يرى ان الدولة الاسلامية قوة معبئة للتحرر من التخلف. والمعركة ضد التخلف لها معنى خاص في نظر الصدر لانها لا تعني مجرد تحولات اقتصادية واجتماعية بل هي معركة حضارية شاملة تسعى الى جعل الامة في الخط الرسالي الذي يسمح له بقيادة العالم. كما ان الصدر ربط نظريته حول الدولة والتاريخ بظاهرة كان شاهد ظهورها ونموها: الثورة الاسلامية ودولتها في ايران. فصاغ لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية. وقد تمت هذه الصياغة ضمن خلفية فكرية تربط متطلبات المرحلة مع المبادىء العامة للشريعة ومع هدف حركة البشرية عبر التاريخ (المثل الأعلى)[75].

وهكذا تتشكل الرؤية الفلسفية الى التاريخ عند الصدر عن طريق تركيب بين الغيب ومتطلبات المرحلة التاريخية والهدف (المطلق) لحركة التاريخ.

ان الاعتماد على التاريخ كمرجعية فكرة واضحة في كتابات الصدر. فالدولة نشأت نتيجة لحاجة اجتماعية حيث ادى اختلاف الناس الى تأسيس الدولة من طرف الأنبياء. فالدولة ظاهرة اجتماعية وتاريخية ذات مصدر الهي. لانها نشأت على يد الانبياء (ع) الذين رسموا لها الطريق نحو المثل الأعلى[76].

فالدولة ظاهرة نبوية تمفصلت مع التاريخ (فهي اذاً ظاهرة تاريخية كذلك). انها حاجة اجتماعية وتاريخية لباها الوحي وأطرها بالاحكام الشرعية التي تجعلها محركة للتاريخ ومؤثرة فيه. الدولة من هذا المنظور جانب جوهري من جوانب معنى التاريخ. وعندما تنحرف الدولة عن الخط الرسالي فانها تخرج عن معنى التاريخ وتصبح متناقضة مع حركة التاريخ كالملك قديماً والقومية حديثاً. فدولة الأمة مرتبطة بالغيب وبالتاريخ معاً. لذلك فهي محررة للانسان من كل انواع الاستلاب لانها مبنية على التوحيد الذي يجعل المؤمنين لا يخضعون الا الله وحده. ومن هنا قوة التجاوز التي تكونها الدولة (دولة الأمة) في ذهنية المؤمنين لان العبودية لله تعني رفض كل القوى الاخرى والنظر اليها على انها قوى نسبية. لأن القوة الحقيقية بيد الله. فليس كل واقعي معقول وكل معقول واقعي. فالواقعي يتم النظر اليه من خلال وعي عقائدي وتاريخي ينشأ من تطلع المؤمنين الى المثل الأعلى كهدف اسمى لحركة التاريخ[77]. وهنا كذلك يتجلى الطابع التحريري لعلاقة التاريخ بالتعالي. فاذا كانت فلسفات التاريخ المعتمدة ـ معرفياً ـ على التاريخانية تخضع الانسان الى ثقل الواقع واطلاقية التاريخ فان الأمر على العكس عند الصدر حيث ان قيمومة التشريع الالهي (اي ارتباط التاريخ بالتعالي) هي المحررة للانسان من كل انواع العوائق والاستلاب التي تصطدم بها الحركة التاريخية[78].

فالصدر لا يعالج مشكلة معنى التاريخ بصورة مجردة كما انه لا يعالج مشكلة الدولة في اطار سياسي ضيق. بل يتميز طرحه بأنه طرح شمولي يعالج المشكلة السياسية ضمن المشكلة الحضارية المرتبطة بمعنى التاريخ وغايته. لذلك ربط الصدر حركة التاريخ بالتركيب العقائدي للدولة الاسلامية وبالتركيب العقائدي والنفسي للفرد المسلم: «فالتركيب العقائدي للدولة الاسلامية الذي يقوم على اساس الايمان بالله وصفاته ويجعل من الله هدفاً للمسيرة، وغاية للتحرك الحضاري الصالح على الأرض، هو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمد الحركة الحضارية للانسان بوقود لا ينفد»[79].

وهكذا فالدولة الاسلامية هي وحدها التي تستطيع ان تقدم «المركب الحضاري» الذي يعبىء الامة ويفتح لها الطريق نحو التقدم باتجاه المثل الأعلى. ان الدولة الاسلامية هي، من هذا المنظور، دولة المسافات البعيدة واللامحدودة. كما ان هذا المركب الحضاري هو الذي يحل مشكلة التناقض بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية. لقد طرح ف. فوكوياما هذه المشكلة في نظريته حول نهاية التاريخ. ويرى، معتمداً في ذلك على افلاطون وهيجل، بأن «الرغبة في الاعتراف» هي التي تحل التناقض بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. وان الرغبة في الاعتراف هي المحركة للتاريخ. غير ان هذه الفكرة لا تملك في حد ذاتها، القدرة على حل مشكلة العلاقة بين الفرد والمجتمع.

وهنا يتجلى عطاء الصدر حيث يرى ان «معنى الوجود» هو الذي يجعل الفرد يخرج من انانيته الضيقة لينفتح على المجتمع وعلى الأمة وعلى الانسانية. وينتقد الصدر كل الانظمة التي تنطلق من الرؤية المادية الى الكون لتؤسس عليها نظريتها حول التقدم. وهنا يمكننا القول في سياق نقد الصدر للنظامين الاشتراكي والرأسمالي بان فكرة الرغبة في الاعتراف لا تكفي وحدها لتعبىء الفرد والمجتمع طالما ان هذه الرغبة محصورة في الاطار المادي النفعي. ان الرغبة في الاعتراف كمايطرحها فوكوياما ليست لها آفاق مستقبلية حتى تصبح محركة نحو التقدم. هي محدودة بمحدودية الرؤية البرجماتية النفعية التي تنشط بموجبها. فالمنفعة تعبر عن ما هو كائن ولا يمكن ان تكون قيمة اخلاقية معبئة. لأن القيمة تعبر عن ما يجب ان يكون. ان الزامية الرغبة في الاعتراف الزامية محدودة، اذاً لا تستطيع ان تتجاوز الاطار الفردي. وعلى العكس من ذلك فان مفهوم معنى الوجود الذي صاغه الصدر، وهو مفهوم يربط الانسان بالغيب وبالعالم الآخر ويربط عمله بالجزاء الاخروي. ان هذا المفهوم هو الذي يملك القوة التعبوية والالزامية عن اقتناع داحلي (تقوى الله). ومفهوم معنى الوجود يحرر، كذلك، الانسان من الانانية ليربطه بالمصلحة العامة، بل بالمصلحة الانسانية حيث يمنع الاسلام استغلال الشعوب ويربط العلاقة بين الشعوب على اساس العدل والحق ومساعدة المستضعفين وتحريرهم من بطش المستكبرين[80].

هكذا يربط الصدر معنى التاريخ بالدولة والرسالة والأمة. فيصبح هذا المعنى معنى كونياً تابعاً لكونية الرسالة الاسلامية والأمة الاسلامية[81].

4ـ الأمة:

ان ما يميز الامة الاسلامية، بالنسبة للصدر، هو وعيها التاريخي الذي لا ينقطع ولا يمكن ان يزول. قد يضعف هذا الوعي وتقل ثوريته على الواقع المنحط، ولكنه يبقى متجذراً في عمق ذهنية انسان العالم الاسلامي وعواطفه[82]. فالوعي التاريخي يعتمد على زمان تاريخي غبر عادي هنا وليس كسائر الازمنة التاريخية لانه يستمد حقيقته من عصر الرسول (ص) اي عصر الوحي. من هنا فان معنى التاريخ يعتمد في الاساس على هذا الوعي. بل هو الوعي هو الذي يصنع التاريخ لأن المسلمين يثورون ويجاهدون ويسعون الى التحرر من كل العوائق التي تقف امام عودة الأمة الى مسرح التاريخ بالرجوع الى الاصل: الى عصر الوحي.

فلا يمكن لوعي تاريخي من هذا النوع ان يبسط او يؤطر حسب متطلبات الانتاج والاستهلاك او يحجز في افق نظري وضعي او نفعي او امبريقي كما يتجلى ذلك في كتابات فوكوياما حول نهاية التاريخ. ان التغافل عن هذا الوعي معناه التغافل عن الواجب الشرعي لأن بمجرد الانتماء الى الاسلام يتم الانتماء الى الأمة والى التاريخ في افق وفي اتجاه معنى معين للتاريخ: وعد الله بنصر الأمة الاسلامية.

ان معنى التاريخ من هذا المنظور، هو معنى متجذر في عمق وعي انسان العالم الاسلامي. وزوال هذا المعنى او تغييره يعني خروج الأمة عن الاسلام. وهذا ما لا يمكن تصوره شرعاً (لأن الحفظ الالهي للقران الكريم يلزم عنه استمرارية الأمة الاسلامية عبر التاريخ)، وعقلا لأن امة لها تاريخ وحضارة وامكانيات مادية وروحية لا يمكن ان تزول كما زالت الأمم الاخرى.

هكذا يتبين لنا ان الرجوع الى الأصل يحفظ معنى التاريخ من الزوال ومن التغيير لأنه على العموم هو الحافظ لتاريخ الأمة، التاريخ ككل اي ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها. لذلك ربط الصدر مشكلة التنمية بالأمة لا بالقومية[83] فالتنمية في العالم الاسلامي ليست ـ في نظر الصدر ـ مجرد تغييرات اقتصادية واجتماعية وثقافية. بل هي نهضة حضارية. والنهضة الحضارية في العالم الاسلامي المتخلف تتطلب تعبئة جهادية لا يمكن للقومية ان تكون اطاراً ايديولوجياً وفكرياً لها. فالأمة هي التي تسير في خط معنى التاريخ في نظر الصدر. والقمية ـ كمجتمع مغلق ـ تسير في الخط المعاكس لمعنى التاريخ. هذا التناقض بين مفهومي الامة والقومية بدأ منذ وفاة الرسول (ص) فالصراع قد بدأ منذ حادثة السقيفة بين الأمة كمجتمع كوني وبين النزعة القبلية كمجتمع مغلق. هذا الصراع كان، وما يزال، يعبر عن التناقض بين نوعين من الوعي: الوعي القرآني والوعي الجاهلي[84]. وعلى العموم فقد كانت السلطة بعد تحول الخلافة الى ملك هي التي تمثل الوعي الجاهلي الى درجة ان تحقيب التاريخ تم بالرجوع الى القبلية. فهناك العصلر الأموي والعصر العباسي وهكذا.. في حين ان الشعوب الاسلامية المكونة للأمة تمثل الوعي القرآني. وفي العصر الحديث فان السلطات في العالم الاسلامي (الدول القومية) تمثل الوعي الجاهلي وشعوب العالم الاسلامي تمثل الوعي القرآني المرتبط شرعاً وعقلا بمعنى التاريخ.

وعلى العكس من ذلك فقد انتهى الفكر الغربي في هذه العشريات الاخيرة الى مستوى لم يعد يعتمد فيه على التاريخ لتحديد الأهداف وتحديد الغاية او الغايات (سقوط الأنظمة الاشتراكية وظهور فكرة نهاية التاريخ من جديد عند فوكوياما وغيره من المفكرين الغربيين).

لقد كان الفكر الغربي ـ خاصة في النصف الأول من القرن العشرين ـ يبرر سلوكاته تجاه الشعوب بالاعتماد على التاريخ. فقد كان كل من النظامين الرأسمالي والاشتراكي يعطي لنفسه اهدافاً تاريخية. فالنظام الاشتراكي يرى بأن الطبقة البروليتارية ستحقق رسالتها التاريخية: بناء المجتمع الشيوعي عن طريق الثورة. اما النظام الرأسمالي فيرى هو الآخر بان له رسالة تاريخية: تحضير الشعوب.

فقد ادت هذه النظرة الى التاريخ في كلا النظامين الى قهر الشعوب واستغلالها. ويرى الصدر بان هذه النتائج اللاانسانية للنظامين الرأسمالي والاشتراكي هي نتائج كانت متوقعة حتماً لأن هذين النظامين يستمدان حقيقتهما من النظرة الوضعية الى التاريخ. وليس الأمر كذلك بالنسبة لمعنى التاريخ في المنظور الاسلامي حيث ان مفهوم خلافة الانسان وخلافة الأمة يجعل من هذه الاخيرة امة رسالية لا تبرر سولكاتها تجاه الشعوب بردود الفعل على عوامل ظرفية او بمنافع مادية، بل تبرر رساليتها بقيم فوق تاريخية لا تميز بين الشعوب والحضارات. كما ان مفهوم الامة يعطي للتاريخ معنى خاصاً. فالأمة ليست ما هو كائن بل هي دائماً ما يجب ان يكون على اعتبار انها امة رسالية فهي امة في تحقق مستمر اي في صيرورة مستمرة[85]. وكل فكرة تشعر بنهاية التاريخ بالمعنى الغربي (الهيجلي او الماركسي او بالمعنى الذي يطرحه فوكوياما) فهو معنى للتاريخ يتناقض مع مفهوم الأمة من الناحية الشرعية والتاريخية في نفس الوقت. فالأمة الاسلامية لا تتحدد بالتراب او بالعراق او بكل نوع من انواع الخصوصيات الضيقة والمنغلقة على نفسها والتي ليست لها طاقة محركة للتاريخ حتى تنهيه. لذلك يرى الصدر ان ثقل الواقع مهما كان قوياً لا يمكنه ان يوقف حركة الأمة. وعلى العموم، وكما سنرى في آخر هذا البحث، فان فلسفة التاريخ الغربية لم تصل الى مستوى الطرح الفلسفي لفكرة نهاية التاريخ بالعمق الذي طرحه الصدر لهذه المشكلة. ان الطرح الفلسفي لمعنى التاريخ عند الصدر مرتبط بنهاية التاريخ من منظور نهاية تاريخ معين لبداية تاريخ جديد لا تنفد طاقاته لانها ذات مصدر الهي يربط الانسان بالمطلق فتصبح العلاقة منتجة لتاريخ يتطلع الى هدف مطلق. فمعنى التاريخ من منظور الطرح الاسلامي الذي حلله الصدر مصدره خارج التاريخ لذلك فهو معنى لا تنفد طاقاته.

ومن هنا يرى الصدر ان الامة توجد في التاريخ ولكنها كأمة محققة لخلافة الله في الأرض توجد خارج التاريخ، اي تعتمد في حركتها عبر التاريخ على قيم ومفاهيم الهية. لذلك فالأمة تملك الامكانيات القيمية والمفاهيمية لتوجيه التاريخ. وهذا ما يجعلها قادرة على تحدي العوائق التي تقف في طريقها.

كلما ابتعد المسلمون في حياتهم السياسية والاقتصادية والقيمية عن الأمة كلما عاكسوا حركة التاريخ ومعناه واتجهوا نحو الانحطاط. وقد بدأت ظاهرة الانحطاط (بذورها الأولى) قبل نهضة الحضارة الاسلامية. بدأت منذ ان تحولت الخلافة الى ملك. فهنا ظهرت جدلية الانحطاط المتمحورة حول النزعة القبلية المناقضة لكونية الأمة وانفتاحها على كل الشعوب والثقافات. فالأمة ـ في المنظور الاسلامي ـ لا تقضي على هوية الشعوب بل تربط هذه الهويات بالغاية التي يتحرك نحوها التاريخ. لذلك فالأمة (نشر الاسلام او الفتوحات) تختلف عن الاستعمار الذي يتميز باستغلال الشعوب والقضاء على ثقافاتها. في حين ان الامة الاسلامية مبنية على مبدأ «التعارف». هذا هو معنى الآية الكريمة (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم)(الحجرات، 13) فالتعارف قيمة روحية واخلاقية وسياسية وحضارية يجعل الامة امة كونية تتأثر بالعوامل التاريخية وتؤثر فيها. لذلك فالأمة والاسلام متلازمان. فهي الاطار الشرعي والسياسي والحضاري لحركة الشعوب الاسلامية عبر التاريخ. لذلك يرى الصدر ان القمية وما تتضمنه من فصل الدين عن السياسة وتمزق لوحدة العالم الاسلامي هي خطر، لا على وحدة العالم الاسلامي فحسب، بل على الاسلام نفسه. ومن هنا يرى الصدر بانه على الرغم من ان الامة واجب شرعي ومطلب جماهيري وتاريخي في نفس الوقت الا ان اعادة بنائها يقتضي جهاداً مستمراً نظراً للعوائق الخارجية المتمثلة في الدول القومية في العالم الاسلامي وفي العوائق الخارجية المتمثلة في الغرب الذي يدرك بان وحدة الامة الاسلامية تعني طرح البديبل الحضاري الاسلامي مقابل النموذج الغربي. فالجهاد هن وحده القادر على اعادة الامة الى مسرح التاريخ لأن الجهاد يسرّع حركة التاريخ نحو المثل الأعلى بفضل الطاقة الهائلة التي يتضمنها. وهي طاقة تسمح للمسلمين بتجاوز تحديات الامر الواقع. فوجود الأمة والتطلع الى المثل الأعلى متلازمان. لذلك يرى الصدر بان هناك علاقة بين وحدة الأمة وشهادة الامة.

فغياب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في الامة معناه غياب الريادة اي غياب الرسالية وغياب النموذج الحضاري الاسلامي.. ومن هنا فالأمة جزء اساسي من العقيدة الاسلامية وهي كذلك مشروع حضاري يسير في اتجاه معنى التاريخ. ولأن الأمة تسير في اتجاه معنى التاريخ فهي الاطار السياسي والحضاري الذي تحقق فيه البشرية وحدتها.

لقد كتب المفكرون المسلمون كثيراً عن الأمة، لكن اكثر هذه الكتابات تميزت بالطابع الدفاعي التمجيدي. في حين ان الصدر قدم نظرية حول الأمة. فهو قد صاغ هذه النظرية في جوانبها العقائدية والسياسية والاقتصادية والحضارية.

تعتبر نظرية الصدر حول الأمة وعلاقتها بالتاريخ اعادة نظر في الفكر الاسلامي منذ معركة صفين. صاغ الصدر نظرية الامة انطلاقاً من نظرة تركيبية ثورية لا نظرية توفيقية بالمعنى المهادن لهذه الكلمة. ربط الصدر مفهوم الامة بالوعي القرآني المناقض للوعي الجاهلي من حيث ان هذا الاخير هو تعبير عن مجتمع مغلق والآخر تعبير عن مجتمع مفتوح نحو حركة التاريخ ونحو الكونية.

اذا كان الوعي الجاهلي الذي ظهر بعد وفاد الرسول (ص) يمثل القطيعة التي احدثها الخط المنحرف. فان الوعي القرآني يمثل الخط الرسالي.

فالرجوع الى الأصل اي الى عصر الرسول (ص) لا يعني ان الامة متشبثة بالماضي بالمفهوم السوسيولوجي والنفسي لهذه الكلمة اي العودة اللاواعية الى الماضي للهروب من ثقل الحاضر، فالعودة الى عصر الرسول (ص) لها نوعيتها:

1ـ هي عودة نقدية مننتجة لوعي تاريخي جهادي على اعتبار انها تسمح للمسلمين للتمييز الخط الرسالي عن الخط المنحرف.

2ـ هي عودة تضع حركة الأمة في التاريخ وفي خط التطلع الى المثل الأعلى:

3ـ وهكذا بمجرد العودة الى الأمة كاطار سياسي وحضاري لحياة المسلمين بدلا من القمية، يكون المسلمون قد وضعوا انفسهم ضمن التطلع الى نظرة مستقبلية منقطعة النظير لأنها نظرة تدفع بحركة التاريخ الى غاية مطلقة ولا نهائية.

4ـ ونتيجة لذلك كله ان الأمة كمرجعية سياسية وحضارية لشعوب العالم الاسلامي تجعل ظطاهرة النهضة والسقوط ظاهرة لها خصوصيتها. فالنهضة هنا تقدم لا نهاية له، نظراً للهدف المطلق الذي تتجه نحوه حركة الأمة عبر التاريخ.

اما مسألة الانحطاط فهي الأخرى لها معنى خاص. انحطاط الأمة لا يعني زوالها كما زالت الحضارات الاخرى، بل هو انحطاط مؤقت لان ارتباط تاريخ الامة بالتعالي من موقع الرسالة الخاتمة المستوعبة والمتجاوزة لكل الرسالات السابقة يجعل الانحطاط مجرد عائق في طريق الأمة نحو التحقق المستمر. لذلك فالصراع الحضاري بين الامة والغرب هو صراع نوعي اي يختلف عن الصراع بين الغرب والحضارات الاخرى. لأن الامة الاسلامية تتمتع بثقافة لها بعد غيبي متعالي يمنحها مناعة لا توجد لدى الشعوب والحضارات الاخرى. فالامة الاسلامية بمجرد ان توجد تكون امة رسالية تسعى الى الريادة، لأن انضمام الشعوب من اجل هدف هو في حد ذاته نموذج حضاري.

وهكذا فالامة الاسلامية كأمة شاهدة تتصارع مع القضايا الكبرى ومع التحديات الكبرى ومع التاريخ المنقطع عن التعالي. ان حركة الامة عبر التاريخ تعبر عن علاقة الواقع بالمثال والنسبي بالمطلق.

ان ارتباط الامة بالتاريخ هو ارتباط بنيوي. اي الامة تستمد حقيقتها من التاريخ. وهو الاخير يستمد، هو الآخر، صورته ووجهة حركته من الامة. فذلك فالوعي التاريخي هو وعي ملازم لذهنية انسان العالم الاسلامي الى درجة ان نقد التاريخ ليس مجرد موقف ابستمولوجي، بل هو واجب شرعي. فالجانب الابستمولوجي هنا ملازم للجانب التعبدي (تقوى الله من جراء الموقف الموضوعي تجاه تاريخ الامة). وهذا ما جعل الصدر يراجع ـ عن طريق التحليل النقدي ـ تاريخ الامة ويربط معالم حركة الأمة بعصر الرسول (ص) اي بالخط الرسالي. من هذا الموقع حلل الصدر حادثة السقيفة والتشيع وصفين وكربلاء ودور الائمة عبر التاريخ.

يجد المسلمون هويتهم في الماضي (عصر الرسول 0ص). وبمجرد ان يرجعوا الى ذلك العصر يصبح لديهم وعي تاريخي مستقبلي. فالرجوع الى عصر الرسول (ص) يعني الرجوع الى مرجعية حركة التاريخ التي تتجه نحو المثل الأعلى الحقيقي. ويرى الصدر، في هذا السياق، ان التاريخ المنفصل عن التعالي قد تحكم في القيم الاسلامية بعد معركة صفين. ومن هذا المنظور يخضع تحقيب التاريخ عند الصدر لمتطلبات الاسلام ولاتاريخ الأمة حسب موقعه من عصر الرسول (ص). فهناك معالم لمراحل تاريخ الامة: عصر الرسول (ص)، الامامة والخلافة، الملك، كربلاء،.. الخ.

ان توحيد شعوب العالم الاسلامي (اي اعادة بناء الأمة) ليس مجرد تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية. بل ان اعادة بناء الأمة متلازمة مع اعادة بناء انسان العالم الاسلامي وجعله يسير في الخط الرسالي المتطلع الى المثل الاعلى[86]. فبروز الامة في مسرح التاريخ يتضمن حتماً تغيير العالم. لذلك ليس الاستقلال (التحرر من الاستعمار)، ثم التنمية الا مجرد مرحلة من مراحل تاريخ الامة وتحركها نحو النهضة الحضارية الكونية. فاذا كانت الامة كما يطرحها الصدر تعبر عن مثالية فهي مثالية واقعية. فالامة الشاهدة تعطي معنى التاريخ عن طريق الجهاد المستمر والتطلع الى المثل الأعلى تطلعاً تعبدياً. فالامة الاسلامية لها مسؤوليتها بالمكانة التي منحها الله اياها: مصير البشرية مرتبط بمصير الامة.

ان الدولة الكونية تنبع من الامة الاسلامية كأمة منفتحة على حركة التاريخ ومنفتحة على الحضارات انطلاقاً من مبدأ قرآني: «التعارف». فالدولة الكونية لا تنبع من الامة بمفهومها الغربي المبني على اقصاء الآخر ولا على الأمة بمفهومها اليهودي المبني على الأرض الموعودة وعلى التقوقع على الذات.

ان صراع الأمة مع الحضارات الاخرى هو صراع له معنى خاص يختلف عن الصراع بمفهومه النفعي المبني على ثقافة الاستهلاك والسوق الحرة وما ينتج عنها من استغلال للشعوب. فصراع الأمة مع الحضارات الاخرى هو صراع قيمي مبني على مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا الصراع القيمي منقذ للشعوب من هيمنة المطلقات المزيفة كالصراع الطبقي والربح المادي، والتاريخ والدولة كمرجعيات مطلقة.

5ـ النبوة والامامة:

فمن هذا المنظور هناك فرق جذري بين الرسالة (الاسلامية) والدورة الحضارية. ان علاقة الامة بالغيب اي بالرسالة الاسلامية يجعلها تتصف ـ رغم خضوعها لسنن النهضة والانحطاط ـ ببعد جوهري: الكونية والاستمرارية. فمن هذا المنظور تكمن قوة الرسالة في قدرتها على التأثير في التاريخ واعطائه معنى. وهذه القدرة تستمدها الرسالة من مصدرها الالهي من جهة ومن استيعابها للعوامل المؤثرة في حركة التاريخ، من جهة اخرى. مع العلم بان هذين الجانبين متداخلان. فاستيعاب الرسالة لحركة التاريخ تستمده من مصدرها المتعالي الذي يسمح لها بالنظرة الكلية والشمولية الى التاريخ.

ان تحليل الصدر للرسالات هو تحليل تم بأدوات منهجية ومعرفية مرتبطة بالتاريخية كاطار معرفي عام. لكن التاريخية استخدمها الصدر كمنهج ضروري لفهم الرسالة ولكنه منهج غير كافي. فالمصدر الالهي للرسالة لا يمكن تفسيره عن طريق العلوم الاجتماعية وحدها لانها علوم لا تكفي نفسها بنفسها[87]. فالرسالة هي من هذا المنظور، انبثاق يتجاوز الواقع الذي ظهرت فيه. وهذه القدرة على التجاوز تختلف من رسالة الى اخرى. وعلى العموم فالرسالات التي جاءت قبل الاسلام جاءت لتعالج جانباً من جوانب الحياة الانسانية الى درجة ان بعض الرسالات تزامنت في مرحلة معينة واماكن متقاربة. وليس الامر كذلك بالنسبة للرسالة الاسلامية لانها ـ بحكم ختم النبوة ـ رسالة كونية تستوعب كل الرسالات السابقة وتتجاوزها لتستوعب التاريخ كله. لذلك جهزت الرسالة الاسلامية بمقومات الاستمرارية وتوجيه الصيرورة التاريخية. ومن هذه المقومات: المبارىء العامة، المفاهيم المتضمنة في الاحكام الشرعية، الامامة، الاجتهاد.. الخ.

لذلك فالرسالة الاسلامية لها طاقة قيمة ومفاهيمه لا تنفد[88]. فمعنى التاريخ يتشكل، عند الصدر، من تسلسل الرسالات ليصل هذا المعنى الى صورته النهائية في الرسالة الاسلامية الخاتمة وفي علاقة الامامة بها[89]. لذلك فالرسالة الاسلامية متعالية وتاريخية في نفس الوقت. ان السائرين في الخط الرسالي والمستوعبين لمتطلباته الى اقصى حد وهم الائمة، يجسدون الرسالة في الواقع اي في المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها، كما انهم يجسدون الرسالة ليس مجرد تحليل تاريخي ينظر الى حياة كل امام (ع) كحدث تاريخي ينتهي بنهاية حياة الامام. بل حياة كل امام تعتبر عنصراً جوهرياً من العناصر المشكلة لمعنى التاريخ. ان حياة كل امام كما تتجلى في تحليل الصدر هي نتيجة لتعامل الامام مع متطلبات المرحلة التاريخية من موقع رسالي اي من موقع علاقة التاريخ بالغيب او التعالي. وقد ينتهي هذا التعامل مع متطلبات الواقع الى حد تضحية الامام بحياته عن وعي تقوائي منقطع النظير كما حدث للامام الحسين (ع) الذي مارس الاسلام، تجاه الخط المنحرف، بصرامة مبدئية لايمكن وصفها او تحليلها عن طريق العلوم. الاجتماعية ذات المصدر الغربي، وهكذا فكل امام عاش عصره وتجاوزه في نفس الوقت[90].

فالصدر قد كشف عن العلاقة بين الاسلام والتاريخ. فالاسلام ـ من حيث هو الدين الخاتم والمكمل لكل الرسالات السابقة عليه ـ جاء بفكرة التطور المستمر لحركة التاريخ. ان تسلسل الرسالات يتضمن بصورة مباشرة، في نظر الصدر، ان التاريخ في حركة مستمرة. وان لهذا التاريخ معنى وليس عبارة عن حركة فوضوية. فتحليل الصدر للرسالات وللامامة يطرح عدة اشكاليات فلسفية منها:

1ـ ان الله تعالى لم يترك الانسان وحده للبحث عن معنى وجوده. فالوحي هدى ورحمة. هو انقاذ للبشرية في الآخرة وفي الدنيا كذلك بتحرير الانسان من كل انواع الاستلاب وخاصة تحريره من فوضى العبث اللامعقول. فالوحي قد رسم معالم حركة التاريخ نحو المثل الأعلى.

2ـ التعالي والمحايثة لهما معنى خاص في تحليل الصدر لعلاقة الاسلام بالتاريخ. فالوحي عن طريق الرسالات يعني حضور الله في التاريخ لا على الطريقة الهيجلية لأن الله في الاسلام ليس مفهوماً مجرداً بل هو حي قيوم وحضوره في التاريخ يتم عن طريق عنايته ولطفه. كما ان حضور الله في التاريخ يتجلى في محاولة الانسان التخلق بصفاته المطلقة الكمال. فالمحايثة لا تعني حضور العقل الكوني (الهيجلي) في التاريخ. وهو عقل يدل على كل شيء ولا يدل على اي شيء. والتعالي هنا لا يعني ترك الانسان سدى عبداً لفوضى حركة التاريخ. فالمحايثة ـ عن العلاقة بين الانسان والمثل الأعلى ـ تؤكد على التعالي وتعبر عن عبودية الانسان لله وحده.

3ـ ونتيجة لذلك فلا وجود لتناقض بين المحايثة والتعالي في تحليل الصدر لعلاقة التاريخ بالتعالي. هذا التناقض قد اصطدمت به كل المذاهب الفلسفية الى يومنا، نتيجة للطرح الجزئي والناقص لهذا المشكل. وهو طرح يتأرجح بين التعالي الذي يفصل الله عن الكون والانسان، والمحايثة التي تدمج الله في الكون فتنفي وحدانيته وصفاته. وعلى العموم، فالتعالي الذي طرحته المذاهب الفلسفية يفصل بين الله والكون والانسان. اما المحايثة فتنفي الالوهية بمعناها الحقفيقي وتؤله التاريخ مكان الله.

4ـ ان الانسان يتمتع ـ كخليفة الله في الارض ـ بامكانيات تساعده على التوجه الى الله وتوجيه حركة التاريخ انطلاقاً من علاقته التعبدية مع الله. مع العلم بان امكانيات الانسان محدودة ولذلك يحتاج الانسان الى الرسالات التي ترسم له معالم مسيرته ونشاطه المعرفي والعملي.

5ـ ان الشرك يؤدي الى فوضى في العقل وفي الطبيعة وفي التاريخ.

هكذا ينتهي الصدر الى القول بان فلسفات التاريخ الغربية تعبر عن نبوءات مزيفة لأنبياء مزيفين سواء بالمفهوم الهيجلي الذي رأى في نابليون الروح على فرس كما رأى في الدولة التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية الدولة الكونية الممثلة لله في التاريخ. او بالمفهوم الماركسي الذي يرى في المجتمع الشيوعي منتهى حركة التاريخ. واخيراً بالمفهوم الرأسمالي كما يتجلى عند فوكوياما الذي يرى في الديمقراطية الليبرالية النموذج المثالي والاخير الذي لا يمكن تجاوزه.

هذه «النبؤة» الوضعية «ليست لها مبرات معرفية واخلاقية، في حين ان النبؤة والامامة في الاسلام (والرسالات السماوية كلها) تملكان تلك المبررات من مصدرهما الغيبي (الوحي) وما ينتج عنه من عصمة ومن ارتباط بالتاريخ من موقع يجعل النبي (والامام المعصوم) يستوعبان حركة التاريخ بدرجة لا يمكن مقارنتها مع الفلسفة الوضعية التي هي مجرد انتاج بشري وظاهرة تاريخية.

لقد حرر الصدر الفكر الاسلامي من النظرة التجزيئية التي لا تربط الفكر السياسي بالتاريخ من موقع ارتباط هذا الاخير بالرسالة. لذلك لم تصبح الثيوقراطية مخالفة للشرع فحسب، بل انها معاكسة لحركة التاريخ ومعناه، لانها متناقضة مع تطلع الشعوب الى العدالة والمساواة. ونلاحظ في هذا السياق ان الصدر يدمج الائمة المعصومين (ع) في حركة التاريخ. فالعصمة الى كونها ظاهرة روحية (مصدرها الاهي) فهي ظاهرة تاريخية كذلك في نظر الصدر[91].

هكذا يصبح المعنى الاسلامي للتاريخ محرراً للشعوب من الثيوقراطية ومن استبداد الحكام لأن هناك الخط الرسالي الذي يجسد المعنى الاسلامي للتاريخ. (وهو خط يعتمد على خلافة الأمة وشهادة الانبياء والائمة)، وهناك الخط المنحرف المناقض للخط الرسالي. فالملك ليس مخالف للشريعة فحسب بل هو كذلك معاكس لحركة التاريخ ومعناه.

وتتجلى هنا كذلك اهمية العلاقة بين التاريخ والتعالي. هذه العلاقة محررة للشعوب لانها تفتح مجالا واسعاً للتغيير وتجاوز ثقل الامر الواقع، في حين نلاحظ العكس عند كثير من المفكرين المسلمين قدماء ومعاصرين (وهؤلاء ليسوا بالضرورة من فقهاء السلطة، بل نيتهم صادقة ولكن هذه النية لا تكفي) فهم رغم ربطهم التاريخ بالتعالي من موقع ارتباط الدنيا بالغيب وبالحياة الاخري، رغم ذلك فانهم نظروا الى السلطة من خلال التاريخ المعطى، تاريخ الأمر الواقع. فلم يربطوا الحاضر بالرسالة وبالمثل الاعلي. بل برروا الامر الواقع واصبحت الثورة على الحكام المستبدين فتنة كما يتجلى ذلك عند «الماوردي» في كتابه «الاحكام السلطانية» وكذلك في بعض جوانب فلسفة ابي حامد الغزالي. فقد اصبح الأمر الواقع «السلطان المطاع» ـ لا معنى التاريخ المستمد من الشريعة ـ هو المرجعية في المجال السياسي عند كثير من المفكرين المسلمين. ومن هنا ـ مثلا ـ ظهور مقولة «المستبد العادل» او عودة ظهورها عند «الشيخ محمد عبده» في الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر.فالسلطان المطاع والمستبد العادل وحكم الزمان، هي كلها مفاهيم تنبع من تاريخ لا علاقة له بالتعالي اي لا علاقة له بالخط الرسالي. وهذا عكس الامامة ـ وولاية الفقيه التابعة لها ـ التي تنبع من عمق علاقة التاريخ بالتعالي والتي تسير في الخط الرسالي وتتماشى، نتيجة لذلك، مع معنى التاريخ بمفهومه الاسلامي.

وقد جسد الامام الحسين (ع) العلاقة بين الشريعة وصيرورة التاريخ الى حد الاستشهاد. فالارتباط بالتاريخ من خلال المبادىء ذات المصدر الغيبي عنصر جوهري من العناصر المكونة للامامة. سلوك الائمة (ع) ليس سلوكاً آنياً وظرفياً، بل هو سلوك متجذر في تاريخ الامة. اي سلوك له بعد مستقبلي وكوني وطاقة قيمة ومفاهيمة يكتشفها المسلمون عبر التاريخ. ومن هنا فالامام يوجه التاريخ وليس موجهاً من طرف التاريخ بالمعنى السلبي الذي يدل على ان الامام يبرر الامر الواقع.

هذا الموقف نلاحظ بوضوح في تاريخ الائمة الاثني عشر (ع) ولدى كل الذين ينتمون الى خطهم الرسالي سواء كانوا ينتسبون مذهبياً وسوسيولوجياً الى الشيعة ام الى السنة. مثلا مواقف سيد قطب والصدر من السلطة، مواقف الامام الخميني من السلطة والرسالة التي بعثها الى غورباتشوف[92]. كل هذا يدل على ان الذين ينتمون الى الخط الرسالي يتأثرون بحركة التاريخ تأثراً ايجابياً اي من موقع علاقة التاريخ بالتعالي لا من موقع التاريخ كمرجعية مطلقة.

ان عصمة الامام تنتج عنها معرفة (للامة) ذات مصدر الهي للاسلام وللواقع وللتاريخ. فالامام لا يعتمد على مظاهر حركة التاريخ بل له قوة النفوذ. فهو لا يحكم على الاشياء في مظاهرها بل في حقيقتها. الامام الحسين (ع) مثلا لم تكن حركته مجرد رفض لشرعية السلطة بل حركته رسالية تمتد في الآفاق: آفاق التاريخ. نلاحظ هذه الفكرة عند الصدر عندما يحلل الامامة على العموم، وخاصة عندما يحلل العلاقة بين الامام المهدي (ع) والتاريخ. فهو يحلل العصمة والغيبة (كجوانب ذات مصدر غيبي) تحليلا سوسيولوجياً (اي بالاعتماد على ادوات علم الاجتماع) ونفسياً وتاريخياً. فالصدر يرى ان العصمة هي استيعاب كلي وجذري للرسالة. والغيبة هي التفاعل والاستيعاب الكلي مع حركة التاريخ من موقع العصمة.

ان التاريخ في نظر الصدر ليس مادة خام يستخدم لخدمة مواقف معينة خاصة خط الطاعة السياسي الذي تتميز به المؤسسات الثقافية والسياسية في انظمة الحكم في العالم الاسلامي. ان المنهج الذي اعتمده الصدر في تحليله للامامة يحتم ـ من زاوية النظرة العلمية والشرعية معاً ـ مقاربة تاريخ الأمة من خلال اداتين: الامامة والملك. اي من خلال مفهومين: مفهوم الخط الرسالي ومفهوم الخط المنحرف.

وهكذا فتحليل الصدر لتاريخ الامة لم يتم من زاوية اخلاقية فحسب على اعتبار ان الخط الرسالي اخلاقي والخط المناقض له هو خط اخلاقي. تحليل الصدر يتضمن الجانب الاخلاقي. لكن هذه الاخلاقية تتجاوز الوعظ والارشاد، كما يتجاوز هذا التحليل الحكم الشرعي ليصل الى اسسه المفاهيمية. لأن الصدر يستخدم فكرتي الخط الرسالي والخط المنحرف كأدوات لتحليل حركة التاريخ من موقع صياغة رؤية فلسفية الى التاريخ. وبعبارة ادق فان الرسالية والانحراف فكرتان تشكلان مفهومين اي فكرتين منظمتين لتحليل تاريخ الأمة.

هذا الموقف يتناقض تماماً مع الموقف الآخر الذي يسعى الى تغييب القيم التي عبر عنها الصراع بين الامامة والملك في معركتي صفين وكربلاء. هذا الموقف الاخير (الخط المنحرف) يختزل الصراع بين الكونية والقبلية ويحوله الى مجرد صراع قبلي بين البيتين الهاشمي والاموي وذلك بهدف احداث قطيعة بين النموذج الحضاري الاسلامي وحركة التاريخ.

ان الرؤية الفلسفية الى حركة الأمة عبر التاريخ التي تتميز بها كتابات الصدر تتناقض تناقضاً جذرياً مع ايديولوجيا التبرير (احكام الزمان، السلطان المطاع) التي تبخس الامة الاسلامية قدرها فتحول رساليتها ذات المصدر الالهي الى مجرد نزاع قبلي. والنتيجة ان الملك «العضوض» مساوي للامامة.

ان تحليل الصدر للامامة والملك يعتمد على التاريخية اي ربط الحوادث بعضها ببعض، ولكنه يرفض التاريخانية (اي الاعتماد على التاريخ كمرجعية مطلقة لتفسير الحوادث بدون ربط هذا التفسير بمصدر خارج عن التاريخ). ذلك ان الامامة تتناقض مع التفسير التاريخاني لانها اي (الامامة) ذات مصدر الاهي. فالتاريخانية تفقد معالم تاريخ الأمة حقيقتها كالرسالة والامامة.

ان تحليل الصدر لتاريخ الأمة يقوم على اساس فكرة الصراع بين الاسلام كدين كوني وكمشروع لنهضة حضارية كونية وبين نزعة قبلية تسعى الى تهميش كونية الاسالم وكونية الأمة عن طريق نظرة تجزيئية الى الاسلام تفصل الروحي عن الحضاري. وهذا ما جعل الأمة الكونية التي تتميز بيرورة تاريخية لا نهاية لها (هي امة في تحقق مستمر) تتحول من رسالتها المركزة على التبشير العقائدي الى التركيز على التوسع الجغرافي.

لقد استوعب الصدر بعمق حقيقة هذا الانحراف وأبعاده ونتائجه فربط بين انحطاط الامة والانحراف ربطاً سببياً. كما ربط نهضة الامة بمعرفة وتجاوز اسباب الانحراف. اي تجاوز معيارية الملك (القبلية، الترف، الاستغلال، الرضوخ للواقع.. الخ) للوصول الى المعيارية الاسلامية المحررة للشعوب والمحركة للتاريخ والتي تتجسد في الامامة.

ان الكشف عن هذه الحقيقة يتماشى، في نظر الصدر، مع مبدأ اعتبار الانسان كائناً حراً، ومسؤولا، وعاملا اساسياً في حركة التاريخ، لأن الامامة تعني التأكيد على خلافة الانسان وخلافة الأمة. اي التأكيد على دور الانسان في المجال الاجتماعي والسياسي والحضاري.

وهكذا تبرز العلاقة بين الامامة وفلسفة التاريخ عند الصدر. فهو لم يحلل الامامة في اطار العقيدة والفقه من منظور تجزيئي، بل ان الطرح الكلي للقضايا عند الصدر هو الذي جعله، منهجياً، يحلل مسألة الامامة من منظور فلسفي الى التاريخ. وهو منظور يبين كيف ان الملك اغتصب الحقيقة التاريخية وما زال يغتصب هذه الحقيقة الى يومنا هذا لخدمة السلطة المنقطعة عن انسان العالم الاسلامي وأحاسيسه وتطلعاته[93].

الامامة اذاً هي حوار مع التاريخ ومع العصر الذي نعيش فيه. فالامامة هي المستقبل وهي التقدم. لذلك فالامامة، من هذا المنظور، تحتوي على معايير ومفاهيم وممارسات تجعل المسلمين يميزون بينها وبين كل انواع «المهدويات» الوضعية[94]. كما تتجلى في الماركسية وفي الليبرالية. فهذه المذاهب تتصور خلاص الانسانية عن طريق التقدم في الميدان الاقتصادي والعلمي دون ربط هذا التقدم بالغيب.

ويرى الصدر في هذا السياق ان التغيرات التي تنتظرها البشرية هي تغيرات كبيرة وجذرية. تغيرات تحدث قطيعة مع الواقع الفاسد. لذلك تحتاج هذه العملية، في نظر الصدر، الى اطار معرفي وقيمي خارج عن الظروف الاجتماعية والتاريخية التي يراد تغييرها. لكن هذا لا يكفي وحده في نظر الصدر، اذ لا بد للشخص الذي سيقود عملية التغيير ان يكون خارج التاريخ، وفي التاريخ في نفس الوقت. وهذا هو معنى الغيبة[95].

6ـ الانتظار:

فالصدر لا يجعل من معنى التاريخ مجرد عاطفة عفوية. ان انتظار ظهور الامام المهدي (ع) ليس مجرد انتظار نابع من الغليان العاطفي. الغليان العاطفي بدون تأطير شرعي ومفاهيمي هو غليان عاطفي سلبي لا يغير التاريخ. لذلك اطر الصدر الغيبة الصغرى والكبرى والانتظار والظهور تأطيراً مفاهيمياً مرتبطاً بقوانين التاريخ.

لذلك ينظر الصدر الى فكرة الانتظار من خلال متطلبات القرآن الكريم. وهي متطلبات تتمحور كلها حول مسؤولية الانسان المؤسسة على التوكل على الله. لذلك يرى الصدر ان علاقة المسلم مع المستقبل هي علاقة تفاعل متبادل التأثير. فاذا كان المستقبل يؤثر في الانسان، فان الانسان يؤثر، بدوره، في المستقبل الى درجة ان هذا الاخير يصبح  نتيجة لوعي الانسان وعمله. في هذا السياق ظرح الصدر مفهوم الانتظار. طرحه في معناه الجهادي كاستعداد مستمر لمجابهة المشاكل القادمة. هذا النوع من الانتظار بعيد عن الطوباوية وعن المثالية كذلك. فاذا كانت هناك مثالية فهي مثالية نوعية تختلف عن المثاليات الحالمة او المثاليات المتطرفة التي لا تنطلق من الواقع والتي لا تعتمد على اي مرجعية. فمقولة الانتظار كما يطرحها الصدر تقوي الجهد التغييري لدى المسلمين وتحفظه من الزوال.

فالانتظار ـ من هذا المنظور ـ لا يعني الاستسلام للأمر الواقع عن طريق الهروب منه بل الانتظار يعني مجابهة الواقع مهما كان فاسداً ومظلماً من موقع الانفتاح المطمئن على المستقبل الموعود. هذا هو منطق الانتظار عند الصدر وهو منطق يحول التشاؤم الى تطلع والى انتظار وتجاوز للعوائق والصعوبات.

ان الزمان يسير نحو غاية. وهنا يصبح الزمان زماناً تاريخياً لأن الانسان يعرف بأنه يتجه الى هدف والى غاية. ان الغاية التي يتطلع اليها الانسان ويتجه التاريخ نحوها قد تكون مجرد حلم او مجرد هروب من الواقع القاسي. فالانتظار هنا هو انتظار لا اساس له، هو مجرد ظاهرة نفسية ليست لها اسس لا في الواقع ولا في التاريخ.

وهنا يتجلى الفرق بين الأهداف الخيالية او الاسطورية والأهداف التي تستمد حقيقتها من التاريخ. وفي هذا السياق ينبغي التمييز بين كل انواع المهدويات والطرح الاسلامي لظهور الامام المهدي (ع). اذا كانت كل انواع المهوديات الاخرى تمثل تطلعات الانسان نحو مجتمع مثالي، وهي تطلعات تتيه في متاهات الوضعية (كالماركسية) او المثالية (كالهيجلية)، فان الطرح الاسلامي على عكس ذلك ينطلق من حادثة تاريخية: الامام المهدي (ع) كائن واقعي وجد في التاريخ وما زال موجوداً في التاريخ وهذا من اسرار قوته، لأن وجوده في التاريخ (الغيبة الكبرى) يجعله يعيش الحركة التاريخية ويستوعب عن قرب وعن عمق، نشوء الحضارات ونهضتها وسقوطها كما يرى الصدر[96]. لذلك فان الانتظار هنا له معنى خاص. انه انتظار مبني على الواقع وعلى التاريخ وتنتج عنه مثالية واقعية لا مثالية متطرفة. فالانتظار مبني على ظاهرة تاريخية ومعقولية ولكنها، في نفس الوقت، تتجاوز العقل والتاريخ.

هناك دائماً فجوة او قطيعة بين الواقع والأهداف التي يتطلع اليها الانسان. وهذا التطلع، كما رأينا، موجود لدى كل الشعوب. هو كوني في نظر الصدر. غير ان هذا التطلع الى مستقبل زاهر يتخذ شكلا آخراً في الديانات السماوية على العموم وفي الاسلام على وجه الخصوص: وعد الله بنصر المؤمنين وظهور الامام المهدي (ع). مع العلم بأن رب الحياة الدنيا بالآخرة ينتج عنه، بالضرور، انتظاراً و تطلعاً الى المستقبل.

اضافة الى هذه العوامل التي تنتج ذهنية الانتظار وتدعمها، هناك الامة الملازمة للرسالة الخاتمة وللدين الاسلامي الكوني. فالأمة كونية ووضعيتها في مرحلة تاريخية معينة ليست الا وضعية مؤقتة على اعتبار ان الأمة كأمة كونية هي تحقق مستمر نحو ظهور الدولة الكونية على يد الامام المهدي[97].

وهكذا يتبين لنا مما سبق ان الصدر حلل علاقة الواقع بالمثال او علاقة ما هو كائن بما يجب ان يكون من موقع منهجي: معرفة قوانين وسنن حركة التاريخ. لذلك اختلفت رؤية الصدر الى مستقبل الأمة والبشرية كلها عن سائر المفكرين الغربيين وكذلك عن كثير من المفكرين المسلمين الذين تغافلوا عن هذا المنهج العلمي فسقطوا في فخ المثالية المتطرفة. وبدلا من المعرفة الحقيقية لعوامل التغيير لجأوا الى الاطروحات التمجيدية والاخلاقية والى ردود الفعل الانفعالية تجاه ثقل الواقع والمستقبل الموعود.

ان فكرة الانتظار ـ تعني ـ في الرؤية الاسلامية ـ ان المستقبل كغاية عامة متوقع سلفاً (انتصار الاسلام على سائر الديانات والايديولوجيات)[98] لكن هذه الظاهرة لا تنفي، بالنسبة للصدر، المشاكل والمحن التي ترافق مسيره المسلمين نحو الهدف. وقد كانت المحنة الاولى والكبرى استشهاد الامام الحسين (ع) وعودة استشهاده في الحرب التي شنها النظام البعثي في العراق على الجمهورية الاسلامية في ايران.

وهكذا فالصدر يربط بين الانتظار (كمثالية) وبين الواقع بكل ثقله ومآسيه ومحنه. ان هذا الموقف المعرفي لا يمكن ارجاعه الى اي مذهب من المذاهب الفلسفية الغربية. فهو ليس واقعياً على غرار النزعة التجريبية المستغرقة في الواقع الأني، وليس مثالياً منقطعاً عن الواقع. فالنمط المعرفي الذي يعتمد عليه الصدر في تنظيره للتاريخ هو تركيب بين الواقعية والمثالية. ومن هنا فالانتظار ليس مجرد امل، بل الانتظار عند الصدر يجمع بين الواقعية والمثالية من حيث كونه (اي الانتظار) حكماً شرعياً.

ان تمزق وحدة الامة والتخلف والاحوال المأساوية التي يعاني منها المسلمون لم تقض على تطلع ذهنية انسان العالم الاسلامي الى الخلاص. فهناك ثقة ايمانية تجاه المستقبل. فالمسلمون يتوقعون وقوع المشاكل والعوائق وينتظرون الخلاص في نفس الوقت. من الخصائص الاساسية للقرآن الكريم انه يتوجه نحو المستقبل. النظرة المستقبلية في القرآن الكريم واضحة لا تحتاج الى تأويل. ويرى الصدر ان الشريعة قد وضعت منهجاً لهذه النظرة المستقبلة: منطقة الفراغ. اي قراءة القرآن الكريم قراءة حركية. فكلام الله يفتح الماضي والحاضر نحو المستقبل[99].

وهكذا يتجلى لنا من خلال كتابات الصدر ان الانتظار الذي اكد عليه هو انتظار ايجابي يعتمد على الجهاد والاجتهاد اي العمل على بناء دولة اسلامية كمرحلة اولية لتعجيل الظهور (ظهور الامام المهدي (ع) وتحقيق الدولة الكونية. فالصدر كنظرة مستقبلية وقوة معبئة للشعوب الاسلامية في مسيرتها نحو المثل الأعلى. هناك توتر في نفسية انسان العالم الاسلامي تجاه الواقع الفاسد. وهذا ما ينتج عنه تطلع نحو ما يجب ان يكون. هذه ظاهرة ثابتة في ذهنية انسان العالم الاسلامي. فليس الانتظار تخميناً ميتافيزيقياً مجرداً او تنبؤاً وهمياً، بل هو موقف ايماني عقائدي ينتج عنه توقع يرتكز عن مقاربة المسألة، مسألة انتظار بقدر ما هي استعداد وتهيؤ لعصر الظهور بتدخل انسان العالم الاسلامي في حركة التاريخ: الانسان كفرد وكمجتمع وكأمة ودولة[100]. ان المستقبل يخيف ويرعب او يحمّس. ان موقف الحضارات من المستقبل يتأرجح بين الخوف والأمل والوهم والانتظار. لكن الانتظار في الحضارة الاسلامية ليس قابلا لأي تأويل. الانتظار معناه ان المسلمين لا يتحركون نحو المجهول على غرار الحضارات الاخرى، بل يعرفون اين يتجهون ونحو اية غاية يتحرك التاريخ.

7ـ التقدم:

ان فكرة غاية التاريخ ملازمة لفكرة معنى التاريخ. فاحداهما تتضمن وجود الاخرى. يشبّه اشبنجلر الحضارة بالكائن الحى. هو يعتمد على النظرية العضوية لتحليل وتفسير حركة التاريخ من خلال مراحله والغاية التي يتجه نحوها. فالحضارة في نظر هذا الفيلسوف كالكائن الحي: تولد، تنمو، تنحط ثم تموت. ويرى اشبنجلر (Spengler) ان الحضارة الغربية قد وصلت الى مرحلتها النهائية. انه «انحطاط الغرب» الذي يتماشى مع منطق التاريخ في رأي هذا الفيلسوف. اما توينبي (Toypee) فيرى بدوره بان كل حضارة تتحرك حسب مراحل طبيعية: البروز، النمو، الانحطاط والتفتت. فالحضارات التي تزول هي تلك التي لا تستطيع مجابهة التحديات التي يطرحها التاريخ امامها وتطرحها الطبيعة. فالحضارات التي تبقى على قيد الحياة هي التي تستطيع مجابهة التحديات.

ان هذه الرؤى الى التاريخ تعترف، على العموم، بتداول الحضارات. ولكنها تبقى ـ على الرغم من ذلك ـ رؤى محجوزة داخل التاريخ. هي ظواهر تاريخية تتأثر الى حد كبير الى اقصى درجة بالمرحلة التاريخية التي عاش فيها اصحابها كما اشرنا فيما سبق.

وهنا يتجلى لنا بوضوح الطرح الفلسفي للتاريخ عند الصدر وما يتميز به عن سائر الاطروحات الاخرى. فمعنى التاريخ كما يطرحه الصدر ليس مجرد ظاهرة تاريخية (انعكاس لظروف المرحلة التاريخية)، بل يتمتع مفهوم معنى التاريخ عند الصدر بمقومات تحرره من ذاتية المؤرخ ومن ذاتية او نسبية المرحلة التاريخية. لأن معنى التاريخ في الرؤية الاسلامية مصدره القرآن الكريم. ففلسفة التاريخ هنا تعتمد على اطار تنظيري عام يقدمه القرآن الكريم ويمنع الرؤية الى التاريخ من الانحراف كما يمنع الأمة من الخضوع للأمر الواقع اي لواقع المرحلة التاريخية الفاسد كالانحطاط والتخلف والتبعية.

لا شك ان الصدر يلتقي مع فلسفات التاريخ الغربية التي ترى بأن العصر الذهبي يوجد امامنا في المستقبل. فالبشرية تتحرك وتتقدم نحو العصر الذهبي. (مع العلم بأن فلسفات التقدم المتفائلة والتي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قد حلت محلها فلسفة للتاريخ متشائمة نتيجة للاصطدام بالواقع: الحرب العالمية الاولى والثانية والاستغلال والتلوث.. الخ) غير ان مفهوم التقدم عند الصدر يختلف عن مفهوم التقدم عند فلاسفة الغرب. فالنظرة الغربية الى التقدم تتأرجح بين القول بأن حركة التاريخ تتجه نحو تحرير الانسان كفرد (الرأسمالية) او تحرير الانسان كمجتمع (الاشتراكية). وهذه الرؤية ـ على العموم ـ لا تفتح التقدم على ابعاد روحية بل تطرح مشكلة التقدم طرحاً ناقصاً لأنها لم تعالج حركة التاريخ ومعناه الا من جانب واحد هو الجانب المادي او الجانب الفردي على حساب الجانب الاجتماعي او العكس.

في حين الرؤية الاسلامية الى التقدم التي صاغها الصدر هي رؤية شمولية تنظر الى الحياة الانسانية في كل جوانبها المادية والروحية الفردية والاجتماعية.

ان فكرة النظرة المستقبلية وما يلازمها من حالات مثالية تتمثل في فكرد الخلاص، هي فكرة تستمد مصدرها من الديانات السماوية (اليهودية والمسيحية والاسلام). مع العلم بأن الاسلام اكمل الديانات السابقة عليه وتجاوزها منحيث انه الديانة الخاتمة والكونية. فكرة الخلاص نجدها بصورة مختلفة في فلسفات التاريخ المؤسسة على النظرة المادية الى الكون مثل الماركسية. فماركس قد تنبأ بتحرر البشرية من كل انواع الاستلاب. لكن هذا الخلاص ليس مصدره متعالياً على التاريخ. فماركس اسس التحرر من الاستلاب والوصول الى المجتمع المثالي، اسس كل ذلك على قوانين التاريخ.

اما التقدم عند هيجل فهو عبارة عن حركة جدلية نحو المجهول على اعتبار الذين يصنعون التاريخ لا يعرفون اتجاهه، بل لا يعرفون انهم يساهمون في صنع التاريخ. وهذا عكس الرؤية الاسلامية التي يطرحها الصدر حيث يرى ان المسلمين يستوعبون حركة التاريخ بفضل معالم هذه الحركة: انتصار الحق على الباطل، وعد الله بنصر المؤمنين، ظهور الامام المهدي وتشييد الدولة الاسلامية الكونية.

وهذا لا يعني ان معنى التاريخ لا يظهر الا في نهاية التاريخ. فلكل جيل قيمته في ذاته وله دوذه في حركة التاريخ لأن فكرة الجزاء تعم كل الاجيال وليست خاصة بجيل معين[101]. فالرؤية الاسلامية الى التاريخ تختلف عن نظريات التقدم في الغرب التي ترى في الاجيال السابقة مجرد وسيلة للوصول الى الاجيال اللاحقة اجيال الحداثة والتقدم.

لقد انتقد الصدر الفلسفة نقداً جذرياً، لذلك رفض فلسفات التاريخ الغربية والفكر السياسي المرتبط بها. وهي فلسفات تعتبر ان للواقع وللمعقول هوية واحدة وأن هذه الهوية هي اعلى ما وصلت اليه العقلانية. خاصة عند هيجل الذي يرى ان كل واقعي معقول وكل معقول واقعي. فهره الفلسفة تبرر منطق الدولة باسم منطق التاريخ. وتنتهي ـ تبعاً لذلك ـ الى تبرير الامر الواقع. في حين ان الصدر لا يبرر الدولة باسم التاريخ بل يبرر الدولة باسم الشرع وباسم التاريخ الذي يتحرك في الخط الرسالي.

وقد تناول الصدر مشكلة مراحل حركة التاريخ بالتحليل، حيث يرى ان البشرية مرت بمرحلة اولية تسمى مرحلة الحضانة (آدم وحواء ونزولهما الى الأرض)، ثم مرحلة الفطرة الو الواحدة (عدم وجود الاختلاف بين الناس حيث كانت الحياة بسيطة وتضارب المصالح بين الفرد والمجتمع وبين المجتمعات بعضها بعضاً. ويذهب الصدر عكس ما ذهب اليه ماركس، عندما رأى هذا الاخير ان الاساس المادي في حياة الانسان (تطور وسائل الانتاج) هو المحرك للتاريخ وهو الذي يؤثر في الطبيعة البشرية. فالصدر يرى بأن الطبيعة البشرية المتمثلة في الامكانيات الفكرية والقيمية هي التي اثرت في تطور وسائل الانتاج.

ويرى الصدر ان حركة التاريخ تخضع لعلاقات ثلاث هي علاقة الانسان بالانسان وبالطبيعة وعلاقة الانسان بالله. وهذه العلاقات تعتبر كلها من سنن الله في الكون. ان علاقة الانسان بالله هي التي تجعله كائناً مندمجاً في الطبيعة وفي المجتمع ومتعالياً عليهما في نفس الوقت بصفته خليفة لله في الآرض. لذلك يرى الصدران الانسان هو العنصر الرئيسي في حركة التاريخ، وان التاريخ يستمد معناه من علاقة الانسان بالله وهي علاقة تنتج عنها عقلانية صارمة: اله واحد، بشرية واحدة، ومصير واحد: اتجاه التاريخ نحو غاية ألاهية. لكن الصدر لا يهمل دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في حركة التاريخ. فهذه العوامل اساسية وضرورية لاحداث التغيير ولكنها ليست كافية. فالانسان لا يستطيع تغيير اوضاعه اذا كان لا يستطيع ان يتعالى على هذه الاوضاع. اي اذا كان خاضعاً لحتمية مطلقة. فالانسان خليفة لله في الأرض. اي له القدرة على تجاوز العوائق بما يملك من جوانب روحية وعقلية تجعله يتطلع الى ما يجب ان يكون، الى «المثل الأعلى» كباعث رئيسي لحركة التاريخ. ان التطلع الى المثل الأعلى حالة طبيعية في الانسان الى جانب كونه بعداً عقائدياً حيث ان التطلع الى غير الله شرك ومتناقض مع الفطرة كما يرى الصدر. لكن هناك مثل «عليا» مختلفة. هناك مثل«عليا» مزيفة تشكل عائقاً امام حركة التاريخ لأن اطلاقيتها مزيفة. وهناك المثل الأعلى الحقيقي (الله تعالى) الذي يفتح امام التاريخ حركة لا نهاية لها.

ويرى الصدر ان علاقة الانسان بالمثل الأعلى تكون واعية اوغير واعية. فاذا كانت واعية فانها تكون علاقة تعبدية. اي علاقة مبنية على تحرك مسؤول نحو الله[102]. واذا كانت هذه العلاقة غبر واعية فانها تنتج تحركاً غير مسؤول. فالحركة المبنية على الوعي والمسؤولية تجعل حركة التاريخ هي عملية تشريعية لاحداث التغيير الذي يقود الى النهضة والى تقدم لا نهاية له.

غير ان حركة التاريخ نحو المثل الأعلى ليست حركة خطية اي ليست تقدماً خطياً، بل هذه الحركة هي، في نظر الصدر، حركة لولبية صاعدة نحو الله. هناك تقدم خطي اذا نظرنا الى تاريخ البشرية ككل. ولكن خطية هذا التقدم ليست متواصلة. فحركة التاريخ تتعرض للصعود والبهوط لأن هناك انحرافات نتيجة لاتباع البشرية (مثلا) مزيفة تشكل عائقاً امام حركة التاريخ. وهنا يأتي الامداد الغيبي عن طريق الرسالات السماوية التي تهدي البشرية وتوجهها نحو المثل الأعلى الحقيقي. الرسالة الخاتمة (الاسلام) اتت لتكمل كل الرسالات السابقة ولتوجه البشرية من جديد، نحو المثل الأعلى. لكن كمال الرسالة الخاتمة وشموليتها لم يمنع من وقوع انحرافات بعد عصر الرسول(ص). فحركة الأمة الاسلامية عبر التاريخ تعرضت، وما تزال، الى صور مختلفة من الابتعاد والانحراف عن الخط الرسالي لذلك سترتبط الرسالة اللاسلامية مع التاريخ ارتباطاً مبنياً على العصمة مع ظهور الامام المهدي (ع) لتتجه البشرية اتجاهاً رسالياً نحو المثل الأعلى.

ومن هنا يرى الصدر ان فكرة التغيير (تغيير الاوضاع الفاسدة المبنية على الظلم) ذات اتجاهين: اتجاه يسعى اليتغيير الجانب المادي الملازم للانظمة المستبدة، واتجاه يسعى الى تحقيق صفات الله في الحياة الانسانية ـ تحقيقاً نسبياً طبعاً ـ كالعدل والمساواة والعلم والقدرة. ان هذا الاتجاه الاخير ذو مصدر الهي يحمل متطلبات التغيير وقيمه من موقع متعالي على التاريخ. لذلك فهذا الاتجاه وحده هو القادر على جعل حركة التاريخ تتجه نحو المثل الأعلى الحقيقي. ومنهج التغيير في هذا الاتجاه لا يعتمد على ازالة التناقضات الاجتماعية بل يتجه اليعمق هذه التناقضات في ذات الانسان. فهو يحاول ازالة التناقض الداخلي للانسان. فعملية تغيير التاريخ تبدأ من الذات لتنتهي الى المجتمع لازالة كل انواع الاستغلال والاستلاب[103].

وهذه نقطة اختلاف مع الفكر الغربي كما يتجلى عند فوكوياما في هذه الأيام. فهذا الاخير يبني حركة التاريخ على الرغبة في الاعتراف او التيموس (الفكرة اخذها فوكوياما فمن فلسفة كل من افلاطون وهيجل ثم طورها). فالرغبة في الاعتراف هي التي تجعل الافراد يقومون بالأعمال التي لا يستفيدون منها بصورة فردية ومباشرة. ان الرغبة في الاعتراف تتخذ معنى آخر في نظر الصدر عندما تربط بمعنى الكون والحياة. انَّ معنى الوجود هو الذي يبرر تضحية الفرد في سبيل المجتمع (من الجهاد الأكبر الى الجهاد الأصغر). فالتناقض بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية يزول عن طريق ايمان الانسان بأن حياته لا تنتهي بالموت الجسدي. فهناك الجزاء الآخروي. وهكذا يكشف الصدر عن البعد التغييري والثوري للبعث. ففكرة البعث وما يرتبط بها من مفاهيم وقيم كالجهاد والعمل الصالح وتقوى الله تتجاوز بصورة جذرية الاطار النفعي الضيق لفكرة التيموس (الرغبة في الاعتراف).

لذلك فتغيير العالم فكرة ملازمة لفهم العالم في نظر الصدر. يقول غالب حسن: «.. فهو (اي الصدر) قد تجاوز (هيجل) باتجاه (ماركس)، واستوعب (ماركس) باتجاه (هيجل). ولكن لا على اساس الجمع التلفيقي المفتعل، وانما برؤية شاملة نابعة من ذكائه المفرط ومنغمسة بحرارة ايمانه..»»[104].

ان كل فلسفات التاريخ تتشكل انطلاقاً من خلفية: هي معنى التاريخ. هذه الخلفية هي في الحقيقة نوع من البرهان بالمستقبل على اعتبار ان معنى التاريخ يتحدد في اكثر جوانبه بالغية التي يسعى نحوها التاريخ. وقد كان هذا البرهان بالمستقبل، وما يزال، وسيلة لتبرير الاستبداد وقهر الشعوب.

فالاستعمار برّر باسم تحضير الشعوب، والأنظمة الدكتاتورية في البلدان الاشتراكية بررت باسم زوال الطبقات في المستقبل.

لا شك ان الفكر الاسلامي يعتمد في تنظيره لفلسفة التاريخ على فكرة المستقبل وفكرة البرهان بالمستقبل. كوعد الله بنصر المؤمنين، وظهور الامام المهدي وانتصار الحق على الباطل. لكن البرهان بالمستقبل كما يطرحه الفكر الاسلامي على العموم وكما يطرحه الصدر على الخصوص ـ بالاضافة الى ان هذا الطرح ليس مجرد ظاهرة تاريخية على غرار فلسفات التاريخ في الغرب التي تتصور المستقبل حسب المرحلة التاريخية وظروفها، اي بالاضافة الى المبررات المعرفية التي يستمدها الطرح الاسلامي لدى الصدر من علاقة التاريخ بالغيب او بالتعالي، فان البرهان بالمستقبل في رؤية الصدر الى التاريخ للا يطرح مشكلة مصير الاجيال. ونعني بهذه الفكرة (كما اشرنا فيما سبق) ان كل فلسفات التاريخ الوضعية تعتبر الاجيال السابقة بالنسبة لغاية التاريخ او نهايته، مجرد وسائل يستخدمها التاريخ لبلوغ غايته. في حين ان الرؤية الاسلامية كما تتجلى عند الصدر تربط كل الاجيال وكل الافراد بالعمل الصالح وبالجزاء الأخروي. وهكذا فالاجيال ليست مجرد وسائل لتحقيق هدف التاريخ في المستقبل: بل لكل جيل غايته في ذاته جماعة وفرداً، كما ان كل جيل يساهم في حركة التاريخ[105].

لقد طرحت فلسفات التاريخ الغربية وحدة الانسانية كموضوع للدراسة التاريخية وتبعاً لذلك، وحدة التاريخ البشري وكونيته. ومعنى هذا ان حركة التاريخ تتبع اتجاهاً واحداً. فالمسألة مسألة سرعة او بطء هذه الحركة من مجتمع الى مجتمع اخر. لقد انتقد الصدر هذه الكونية كما يطرحها فلاسفة التاريخ في الغرب وذلك من خلال نقده للانظمة السائدة في الغرب (النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي) وطرحه للبديل اسلامي في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والحضاري على العموم. وهو بديل يرفض النظامين الاشتراكي والرأسمالي معاً. وهو رفض مبني على رؤية الى التاريخ تختلف عن الرؤية الغربية[106]. وكل هذا يدل على ان الصدر قد كسّر ثنائية القديم والجديد التي تتضمنها الرؤية الغربية الى التاريخ خاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهي ثنائية تتحدد بالرجوع الى تاريخ الغرب بعاداته وقيمه وخصوصيته على العموم لتجعله تاريخاً كونياً يجب على كل الشعوب ان تندمج في مساره وتتبع اتجاهه مرحلة بعد مرحلة.

لقد طرح الصدر مشكلة التحقيب طرحاً جديداً ادى الى اعادة النظر من الناحية الفلسفية في اشكالية التنمية والتقدم في العالم الاسلامي.

ان التخلف، في نظر الصدر، لا يمثل مرحلة تاريخية سابقة على التنمية بل يرجع التخلف الى منطق استعماري للعلاقة بين البلدان المتخلفة والبلدان المتقدمة. وهكذا فتحقيب الفلسفة الغربية للتاريخ ليس تحقيباً كونياً لأنه مجرد انعكاس لتاريخ الغرب على العموم، اي لفلسفة التاريخ كظاهرة تاريخية ولتاريخ الغرب كتاريخ منقطع عن الغيب[107]. في حين ان التحقيب  في الرؤية الاسلامية الى التاريخ ينطلق من مرجعية تشكل محور التاريخ: الرسالة الاسلامية الخاتمة والكونية وما ينتج عنها من خط رسالي (الامامة). والخط المضاد له: الخط المنحرف (الملك).

فكل حقب التاريخ ومراحله تتحدد، عند الصدر، في سياق الخط الرسالي والخط المنحرف. لذلك فهناك معالم الخط الرسالي: صفين، كربلاء، الغيبة، الثورة الاسلامية في ايران، الظهور (ظهور الامام المهدي (ع) وعودة الأمة الاسلامية الى الريادة عن طريق الدولة الاسلامية الكونية. وهناك معالم الخط المنحرف: الملك، الدولة القومية، التخلف، التبعية للغرب[108].

هكذا جعل الصدر مفهوم التقدم كما يطرحه الفكر الغربي مفهوماً نسبياً. فالصدر قد نسف عن طريق هذا التحليل النقدي، كونية مفهوم التقدم كما تطرحه فلسفات التاريخ في الغرب.

اراد الصدر ان يطرح تصوراً جديداً للتقدم يرتبط بمعنى الوجود اي برؤية كلية تربط المادي بالروحي. وذلك ليتجاوز عن طريق هذا الطرح ازمة الفكر الغربي. وهي ازمة وصلت الى حد الشك في حقيقة التقدم نتيجة لغياب معنى الوجود. وهو غياب ادى الى العدمية والعبث (كمقولات فلسفية) وما ينتج عنهما من نظرة مأساوية وعبثية لحركة التاريخ.

فالصدر اعاد صياغة مفهوم التقدم بصورة جذرية وأعاد صياغة نتائج هذا المفهوم وأبعاده كالتنمية والحداثة والقمية والكونية ومعنى التاريخ، من موقع نقدي وفي افق طرح البديل الحضاري الاسلامي.

فالصدر عندما يحلل مفهوم التقدم لا يربطه بالوسائل فقط، بل يربط التقدم بالغاية التي تتجه نحوها حركة التاريخ. فهو يرى انه لا يمكن الحديث عن التقدم دون طرح مشكلة الغاية او معنى التاريخ. لذلك طرح الصدر مشكلة التنمية في اطار يتجاوز مجرد التحولات الاقتصادية والاجتماعية: طرح مشكلة التنمية كنهضة حضارية تعيد الأمة الاسلامية الى مسرح التاريخ.

لقد ظهر مفهوم التنمية بعد الحرب العالمية الثانية كنمط تكنولوجي واقتصادي للتقدم. فالاقتصاد في هذه الرؤية للتنمية هو العامل الضروري والكافي للتقدم.

لقد كذّب الواقع هذه الرؤية حيث ادت هذه الاخيرة ـ عندما طبّقت ـ الى ازمة مفهوم التقدم التي هي ازمة النظرة المستقبلية التي تعتمد على التكنولوجيا والاقتصادى كعوامل رئيسية وكافية لحركة التاريخ. ان ازمة التقدم ليست خاصة بالبلدان المتقدمة بل تشمل كذلك وبصورة مأساوية، البلدان المتخلفة. فهذه الاخيرة اعتمدت على انماط تنموية جاهرة (النمط الاشتراكي والنمط الرأسمالي) انتهت بها الى الفشل والى التبعية.

اما في البلدان المتقدمة فقد شملت هذه الازمة البلدان الاششتراكية حيث زال هذا النظام. كما انها شملت البلدان الرأسمالية التي لم تعد تؤمن بحتمية تاريخية تدفع بالبشرية نحو مستقبل زاهر[109].

وهنا تظهر اهمية طرح الصدر للنموذج الحضاري الاسلامي البديل من خلال تحليله (اي الصدر) لمفهوم التنمية وعلاقته بالتقدم وبمعنى التاريخ. فالصدر لم ينف العامل المادي في عملية التنمية ولكن ربطه بالجانب الروحي فأصبحت العملية التنموية جهاداً لتحقيق خلافة الانسان لله في الأرض من خلال التطلع الى المثل الأعلى[110].

فمن هذا المنظور قد انتقد الصدر كلا من النظامين الاشتراكي والرأسمالي كنموذجين للتنمية. فهو يرى بانهما لا يصلحان في العالم الاسلامي كطريقة للخروج من التخلف. اعتمد الصدر في تحليله ونقده لنموذج التنمية والتقدم الغربي على الحقل النظري الذي انتج الفكر الغربي. وهو حقل له خصوصيته (عوامل تاريخية واجتماعية ونفسية وثقافية) لذلك لا يمكن تعميمه على كل الشعوب[111]. هذا بقطع النظر عن اعتماد النموذج الغربي للتقدم على رؤية مادية للكون والانسان

ان نقد الصدر لنموذج التنمية الغربي وطرح البديل الاسلامي هو، في الحقيقة، رفض للرؤية الخطية الى التقدم. وهي رؤية قسمت شعوب العالم الى قسمين، شعوب متقدمة (الغرب) وشعوب متأخرة يجب ان تتبع نفس المسار التاريخي الغربي للتقدم.

وهكذا اعاد الصدر صياغة مفهوم التقدم بصورة جذرية، موضحاً بأن البديل الاسلامي لمعنى التاريخ وللتقدم المرتبط به ليس بديلا لأنه موحى في مصدره وشكله العام وأهدافه، بل هو كذلك ظاهرة تاريخية كذلك ستفرضها حركة التاريخ كمخرج وحل لازمة الحضارة وأ زمة الانسان في الغرب. وهكذا يتجلى مما تقدم ان نقد الرؤية للتقدم لا يعنى اتخاذ موقف مضاد للكونية والحركة التاريح، واللجوء الى الاساطير واللامعقول او الظلامية على حد تعبير المحدثين في العالم الاسلامي. فالصدر انتقد العقلانية التي ترتكز عليها فلسفة التاريخ في الغرب انطلاقاً من عقلانية تستمد جوهرها من الاسلام. وهي عقلانية مفتوحة للتطور ولحركة التاريخ بسبب انفتاحها على الغيب اي على المطلق. ان نقد الرؤية الغربية الى التقدم لا يعني اذاً نفي التقدم. فالصدر يؤكد على مفهوم التقدم كعنصر جوهري لمعنى التاريخ. فالتقدم في نظر الصدر ليس قانوناً للصيرورة او سنة من سُنن الله فحسب بل هو عبادة لانه يعبر عن علاقة الانسان بالمثل الأعلى (الله).

8ـ نهاية التاريخ:

لذلك جاء طرح الصدر لفلسفة التاريخ كطرح نقدي لهيجل وماركس ـ وبصورة مسبقة ـ لمقولة نهاية التاريخ عند فرانسيس فوكوياما. لقد اثار كتاب فوكوياما حول نهاية التاريخ جملة من المسائل التي تحتاج الى نقاش واسع من قبل المفكرين المسلمين ومفكري البلدان المتخلفة على العموم لما لها من علاقة بمصير البشرية كلها.

فالمسألة التي اثارها فوكوياما تحتاج الى تحليل عميق مبني على الاستيعاب والنقد والرفض المبني على النقد لا على ردود الفعل الانفعالية[112].

نشر فوكوياما مقاله بعنوان: نهاية التاريخ (نهاية الانسان؟) بمجلة (National lnterest) سنة 1989. ثم كتاب نهاية التاريخ سنة 1992. خلاصة هذا الكتاب توجد في مقدمته حيث يرى فوكوياما بان نهاية التاريخ لا تعني نهايد الحوادث بل تعني نهاية الصراعات الايديولوجية لأن الديمقراطية الليبرالية اصبحت تمثل منتهى تطور الايديولوجيات والأنظمة السياسية. فهي معنى التاريخ[113].

لا شك ان المقارنة بين الصدر وفوكوياما تبدو غريبة لكون الصدر استشهد في سنة 1980 وفوكوياما كتب حول نهاية التاريخ ابتداءاً من سنة 1989. لكن فكر الصدر ليس فكراً ظرفياً بل فكر يستوعب التاريخ لأنه يعتمد على مرجعية خارج التاريخ كما اشرنا في الفصل الاول من هذا البحث. لذلك تجاوزت التصورات المستقبلية عند الصدر مجرد التوقع المبني على الفرضيات التي تحتمل الصواب والخطأ الى الانتظار انطلاقاً من احكام شرعية ومبادىء ومفاهيم استكشافية مصدرها القرآن الكريم والسنة الشريفة.

ان مقولة نهاية التاريخ كما يطرحها فوكوياما هي محاولة لاعادة صياغة حضارية جديدة للمشروع الاستعماري الغربي القائم على الاستقطاب الاحادي بعد سقوط المعسكر الاشتراكي. وهذا يعني ان تصورات الغرب وصلت عن طريق كتاب فوكويا الى اعلى درجة من الطغيان، الى درجة ان وجود الثقافات الاخرى يصبح مجرد وجود عرضي. ففوكوياما لا يترك اي مبرر لوجود الحضارة الاسلامية. فهو، على غرار اكثر المفكرين الغربيين، لم يتحرر من رواسب الفكر الكنسي الوسطي الذي كان عائقاً امام التقدم العلمي. فوكوياما بقي سجيناً لمقولة التناقض بين الدين والعلم، والدين وتقدم الحضارات. مع ان الموقف العلمي يقتضي، منهجياً، عدم التسرع في التعميم وربط العلاقة بين الدين والعلم من خلال مبدأ الحقل النظري كأداة ابستمولوجية يتم، انطلاقاً منها، كل تحليل جدير بالبحث العلمي.

هذا الموقف العلمي (والاخلاقي معاً) نجده عند الصدر. فهو في تحليله لعلاقة الفكر الاسلامي بالفكر الغربي رفع هذا التحليل الى مستوى الاشكالية الفلسفية المعتمدة على مفاهيم كأدوات للبحث. وهي مفاهيم تعتمد على الحقل النظري من حضارة الى اخرى. وذلك قدّم الصدر اطروحة «انسان العالم الاسلامي» مقابل «الانسان الاوروبي» او «تجربة الانسان الاوروبي»[114]. لا من موقع الكراهية او النوايا المسبقة كما يتجلى في بعض جوانب كتاب فوكوياما، بل من مواقع اختلاف الظروف الاجتماعية والتاريخية والقيمية من مجتمع الى اخر. وهذا بقطع النظر عن كونية الاسلام.

يمكن، بالاعتماد على كتابات الصدر، نقد اطروحات فوكوياما. وكتابات الصدر لا تقف عند حدود النقد فحسب بل تتجاوزه لتقدم تصوراً جديداً للعلاقة بين الشعوب والحضارات. وهي علاقة مبنية على «التعارف» بدلا من الاقصاء والتمركز على الذات والنظر الى الشعوب الاخرى من موقع العقلانية الاستعلائية. اذا كانت مقولة نهاية التاريخ عند فوكوياما تدل على ركود حركة التاريخ وتوقفها داخل علاقة الانتاج والاستهلاك نظراً الى عدم وجود نموزج بديل عن الديمقراطية الليبرالية (في نظر فوكوياما) القائمة على الملكية الخاصة والسوق الحرة. فان الأمر على العكس تماماً عند الصدر. فنهاية التاريخ تدل عنده على نهاية تاريخ النموذج الحضاري المنقطع عن الله ودخول النموذج الحضاري المرتبط بالله الى التاريخ. وهنا تزداد حركة التاريخ قوة على اعتبار ان النسبي ارتبط بالمطلق. اي ربط التاريخ بالغيب (التعالي او المثل الأعلى).

فنهاية التاريخ تعني اذاً عند الصدر، عودة سلطة الوحي التي ستشكل من جديد حضارة الوحي مقابل حضارة الوضعية. وهذه العودة ستقلب كل المعادلات خاصة معادلة القوة والضعف والعلاقة بين المستضعفين والمستكبرين. حيث ان نصر الله للمستضعفين هو في الحقيقة طرح لاشكالية العلاقفة بين التاريخ والتعالي وبين الرؤية التاريخية المبنية على التاريخانية.

فنهاية التاريخ تعبر عن نهاية الدولة الوضعية وأسسها المعرفية التي ترتكز عليهاونهاية ابعادها السياسية والاجتماعية والحضارية.

ان هذه المقولة (نهاية التاريخ) تعبر عن ازمة الفكر الغربي. ازمة لم يسبق لها مثيل. ويرى الصدر ان هذه الأزمة لا يمكن ان تجد حلولها في الفكر الغربي لأن هذا الاخير قد استنقذ طاقاته. ان الحل يكمن في الموقف الذي يسعى الى تغيير معالم الحياة الحضارية الراهنة تغييراً جذرياً عن طريق اعادة النظر في الأطر المعرفية التي ترتكز عليها الحضارة الغربية. وهذا سيؤدي بدوره الى اعادة النظر في بنية النظام الدولي وفي علاقة البلدان المتخلفة مع البلدان الغنية. ويرى الصدر ان هذه الانتقادات العميقة والجذرية للفكر الغربي لا توجد الا في النوذج الحضاري الاسلامي البديلب.

وهكذا فان مقولة نهاية التاريخ ذات انعكاسات مباشرة على الرؤية الاسلامية. فهي مثلا تصطدم بمفهوم الأمة. الامة الالسامية مبنية على التعارف اي على تفاعل الثقافات لا على الاقصاء. وهذا ينعكس سياسياً واقتصادياً وحضارياً على العلاقات الدولية. هذه الاخيرة مبنية ـ في نظر الاسلام ـ على قيم ثابتة لا على المصالح الثابتة كما هو الامر بالنسبة للغرب الذي يدعم تفوقه على الشعوب واستغلالها، يدعمن هعذا التفوق فلسفياً عن طريق مقولة نهاية التاريخ.

انه من الصعب ضبط عقلانية الفكر الغربي معرفياً لأنها عقلانية نفعية استعلائية لا تخضع لثوابت معرفية وقيمية، بل هذه الاخيرة (المعرفة والقيم) هي التي تخضع لمتطلبات المنفعة اي متطلبات ثقافة الاستهلاك المبنية على العقل الاداتي البرجماتي[115]. لكن حركة التاريخ لا تجعل الباطل حقاً والحق باطلا. خاصة بالنسبة للرؤية الاسلامية الى التاريخ حيث ان هذا الاخير لا يكفي نفسه بنفسه ولا يمثل الحقيقة المطلقة.

ان الغرب قبل سقوط المعسكر الاشتراكي كان يفرض نفسه كنهاية للتاريخ لأن هناك اسساً وقيماً مشتركة للفكر الغربى رغم انقسامه الى نظام رأسمالي ونظام اشتراكي. فمقولة نهاية التاريخ ليسات جديدة. وهذا ما كان يراه الصدر من خلال نقده للنظامين معاً الاشتراكي والرأسمالي.

ان ما هو جديد الآن هو ان هذه المقولة انتقلت من تدعيم الاستقطاب المزدوج الى الاستقطاب الاحادي بعد سقوط المعسكر الاشتراكي.

عندما نحلل الفكر السياسي لدى الصدر يتجلى لنا بأن الشعوب الاسلامية تبحث عن ذاتها من خلال نفي كل القيم السياسية المرتبطة بتاريخ الأمة المزيف. اي المرتبط بالسلطان القاهر والمستبد العادل من جهة ومن خلال رفض العلمانية باطروحها القائمة على فصل الدين عن السياسة.

ان المرحلة التاريخية التي نعيشها تدعم هذه الفكرة وتبين بأن الديمقراطية الليبرالية ليست حقيقة تاريخية يجب على كل شعوب العالم ان تتبناها، بقدر ما هي وسيلة لتعبر الشعوب الاسلامية عن عودتها الى ذاتها اي الى النموذج الحضاري الاسلامي.

فالشعوب الاسلامية تتطلع الى تجسيد مبدأ الاسلام دين ودولة. وهو المبدأ الذي بفضله يكتشف المسلمون الروابط بين الواقع المعاش وعالم الغيب. اي الروابط بين الواقع والمثل الأعلى.

هذا المبدأ (دين ودولة) هو وحده القادر على مجابهة مقولة نهاية التاريخ. اي مجابهة القطبية الاحادية وطرح البديل الحضاري الاسلامي فالنموذج الحضاري الاسلامي يمثل ـ في جوهره ـ حقيقة فوق تصور البشر لأنها حقيقة تتعالى على التاريخ وترتبط به في نفس الوقت. لذلك تبقى الصيرورة التاريخية مستمرة بحكم علاقة الواقع بالمثل الأعلى اي علاقة عالم الشهادة بعالم الغيب.

ان هذا الاطار الشرعي والمعرفي لا يجعل الفكر الاسلامي يستوعب ايجابيات الديمقراطية فحسب، بل يتجاوز الديمقراطية بمفهومها الغربي ليعطيها بعداً روحياً بتأسيسها على قيم ومبادئ الهية وتوجيهها الى اهداف الهية. هذه المعاني كلها يتضمنها مفهوم خلافة الانسان وخلافة الامة وشهادتها. لذلك يستحيل ـ انطلاقاً من هذه الرؤية ـ القول بوجود نهاية للتاريخ بالمعنى الذي يطرحه الفكر الغربي من هيجل الى فوكوياما. اي نهاية التاريخ باستنفاد النموذج الحضاري كل طاقاته. فالصدر عندما يتكلم عن ظهور الامام المهدي (ع) لا يضع نهاية للتاريخ بل على العكس ان «الظهور» هو الذي يحقق علاقة النموذج الحضاري الاسلامي بالمثل الأعلى ويدفع بالصيرورة التاريخية نحو الأهداف اللانهائية[116].

ومعنى هذا ان النظام الديمقراطي الليبرالي منظوراً اليه من زاوية نهاية التاريخ ـ كما يطرحها فوكوياما ـ تبقى فعاليته محصورة في الانتاج والاستهلاك. لذلك، وهذا ما يؤكده فوكوياما نفسه، يصبح الانسان الغربي هو الانسان الاخير. اما بالنسبة للصدر فالانسان يمارس، كخليفة لله في الارض، مسؤوليته في حياة يتكامل فيها الجانب المادي مع الجانب الروحي. وهذا ما يجعله منفتحاً على صيرورة لا نهاية لها.

ان فوكوياما بدلا من جعل سقوط الماركسية محطة للتقييم والمراجعة، فبدلا من ذلك استجاب استجابة ظرفية وتمجيدية. فنهاية التاريخ من هذا المنظور تعتبر نهاية للعقلانية الوضعية.

ان التمركز الثقافي على الذات الذي مارسه الغرب شكّل الخلفية الفكرية التي انتجب نهايات التاريخ (أ.كونت، هيجل، ماركس، فوكوياما). ان الرؤية الاسلامية الى التاريخ لا تنزع الى نهاية التاريخ بهذا المفهوم المغلق الذي يصل بالانسانية الى اعلى درجة من درجات الاستلاب. فنظرية المعرفة التي تعتمد عليها فلسفة التاريخ الاسلامية (وهي نظرية ترفض التاريخانية وتتشكل خارج الرؤية المادية الى الكون والانسان والتاريخ) هي نظرية لمعرفة تتجه الى تأسيس المجتمع الكوني (الأمة الاسلامية) المتناقض جذرياً مع الاستقطاب الحضاري المبني على الانغلاق على الذات ونفي الآخر. فلسفة التاريخ المؤسسة على هذه النظرية للمعرفة تلغي الثنائية الحضارية شرق ـ غرب وتركز على التفاعل بين الحضارات والاعراق لتأسيس مجتمع الوحدة الحضارية الكونية: الأمة.

هذه الرؤية تختلف عن الرؤية الغربية كما تتجلى في فلسفة التاريخ عند كل من هيجل وماركس وفوكوياما. فكل هؤلاء الفلاسفة الغوا الحضارات الاخرى. وحتى لو لم يلغها بعضهم فانهم جعلوها كحضارات محلية او حضارات دنيا بالقياس الى الحضارة النموذجية التي يتجه التاريخ الى تحقيقها وهي الحضارة الغربية. غير ان منتهى الصيرورة المتمثل في الحضارة الغربية ليس من قبيل منتهى الصيرورة المتمثل في الامة الاسلامية. كونية الحضارة الغربية مبنية على رفض الحضارات الاخرى وعلى التمركز على الذات. في حين ان الامة الاسلامية التي تمثل الرسالة الخاتمة هي مجتمع مفتوح وفي تحقق مستمر. اي مجتمع مبني على «التعارف» والتفاعل مع الشعوب والحضارات. هذا من جهة، ومن جهة اخرى اذا كانت المراحل السابقة لظهور الحضارة الغربية (حضارة نهاية التاريخ) كمجرد مراحل قد انتهت ادوارها لأن دورها الوحيد ان تكون في الطريق المؤدي الى النموذج النهائي (نهاية التاريخ). فان الأمر ليس كذلك عندما يطرح مفهوم الأمة في علاقته بحركة التاريخ. ويربط الصدر، في هذا السياق، الأمة بالرسالات. والرسالات ليست مرحلية بهذا المعنى في نظر الصدر. فالرسالة تختلف عن الدورة الحضارية. فهذه الاخيرة هي نتيجة لتفاعل عوامل اجتماعية وتاريخية. وقد تتضمن بعداً الهياً اذا ساهم دين سماوي في ظهورها. وعلى العموم الدورة الحضارية مصدرها بشري في حين ان الرسالات مصدرها الهي. مع العلم ان الرسالة لما تتمفصل مع التاريخ تخضع، بدورها وفي بعض جوانبها، للمؤثرات الاجتماعية والتاريخية[117]. غير ان تعدد الرسالات وتعاقبها يسعى ـ لحكمة الهية ـ الى غاية حضارية منفتحة على عالم الغيب. لذلك فالرسالات هي المنهج الالهي الذي عن طريقه يجسد الانسان خلافته لله في الارض. في حين ان الحضارات قد تجسد الخلافة وقد تنحرف عن الخط الالهي عندما لا تعتمد على رسالة سماوية او عندما تحرّف هذه الرسالة كما وقع للرسالات السابقة على الاسلام. وهنا يبرز مفهوم «ختم النبوة» الملازم لكونية الاسلام «الدين الحق». فالرسالات مراحل لتطور حركة البشرية عبر التاريخ. غير ان التطور يجب النظر اليه من خلال علاقة التاريخ بالتعالي (والرسالة نفسها هي الدليل الشرعي والتاريخي على هذه العلاقة».

وهنا يبرز مفهوم «ختم النبوة». هذا المفهوم لا يعني ان الرسالة نفدت امكانياتها. بل على العكس فان الرسالة الخاتمة تستقطب كل الرسالات السابقة وتتجاوزها. فالنهاية هنا لا تعني ان «النموذج» استنفد كل طاقاته وامكانياته، بل العكس هو الصحيح. فالمفاهيم والقيم التي يستخرجها المسلمون من القرآن والسنة لا نهاية لها بحكم الهية مصدرها. فهي مثل اعلى بالنسبة الى حركة التاريخ[118]. اضافة الى ما سبق فان الرسالة الاسلامية تتميز «بالحفظ الالهي»: (نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) (الحجر، 9) فلا يصيب القرآن ما اصاب الكتب المنزلة الاخرى من تحريف. الختم والحفظ متلازمان لان الرسالة لا يمكن اعتبارها اخر رسالة اذا كان مصيرها التحريف، فعندئذ تقتضي العناية الالهية نزول رسالة اخرى.

لقد عالج الصدر مشكلة كونية الاسلام من منظور شرعي وفلسفي. هو يرى ان الرسالة لا تتعالى على العوامل الاجتماعية والتاريخية. فالرسالة تخضع ـ رغم تعاليها ومصدرها الالهي المباشر ـ الى سنن الله في الكون. لذلك ظهر الخط المنحرف بعد عصر الرسول (ص). ويأتي دور الامامة ليحافظ على كونية الرسالة اي يحافظ على الخط الرسالي. وهو ذلك الخط الذي يمثل علاقة الرسالة بالتاريخ من موقع متطلبات الرسالة (التاريخ والتعالي) لا من موقع متطلبات الواقع او حركة التاريخ. لان القيم ليس مصدرها الواقع او التاريخ نقصد هنا القيم الاخلاقية على العموم. اما اذا انتقلنا الى علاقة الاسلام بالتاريخ فان تعالي الدين على التاريخ اقوى من مجرد القيم الاخلاقية. لذلك لا يمكن القول من المنظور الاسلامي الى التاريخ بان كل واقعي معقول وكل معقول واقعي.

وهكذا، فاذاكانت نهاية التاريخ عند فوكوياما تؤدي بالبشرية الى الارتخاء والملل[119] فانها عند الصدر تعبىء الانسان وتدفعه الى الجهاد (التطلع، الى المثل الأعلى) والاجتهاد 0منطقة الفراغ) لتجسيد المشروع الحضاري الاسلامي.

فنهاية التاريخ من هذا المنظور ليست نقطة موجودة في المستقبل يتحرك التاريخ نحوها بصورة آلية. فنهاية التاريخ تتحقق عن طريق خلافة الانسان. وهي (اي نهاية التاريخ) ليست منتجة للانسان الاخير، كما يرى فوكوياما، بل هي منتجة للانسان العالم الاسلامي الذي يربط الارض بالسماء، وعالم الشهادة بعالم الغيب. ان انتظار المستقبل الموعود هو تطلع وتوتر وجهاد ومعاناة تاريخية.

ان نهاية التاريخ التي تؤثر في التاريخ ولكنها ما زالت لم تصبح بعد تاريخية (اي لم تتحقق) تعتمد على مرجعية تتمثل في حادثتين ذات مصدر الهي: النبوة والامامة. اي عصر الرسول (ص) الذي هيأ المجتمع الاسلامي الصغير ليصبح مجتمعاً كونياً، ثم الامامة وما انتهت اليه من غيبة صغرى وكبرى. فنهاية التاريخ في الرؤية الاسلامية ترتكز اذاً على حوادث قد وقعت في التاريخ. وهذا هو الفرق الجوهري من بين الفروق الاخرى بين نهاية التاريخ في الرؤية الاسلامية وفي الرؤية الوضعية. فنهاية التاريخ في الرؤية الوضعية لا تعتمد الا على تخمينات ميتافيزيقية مثل نظرية هيجل الذي أوّل حوادث التاريخ تأويلات مزيفة او على دراسة تطرح نفسها على انها دراسة علمية ولكنها لم تصل الى هذا المستوى وبقيت مجرد منظومة فكرية مجردة او نظرية مبنية على افكار قبلية مثل نظرية ماركس واخيراً، نظرية فوكوياما. اما نهاية التاريخ في المنظور الاسلامي الذي حلله الصدر فهي، في جزء كبير منها ورغم مصدرها الالهي، ظاهرة تاريخية قد وقعت بالفعل. لذلك يتخذ «الانتظار» شكلا آخراً لدى المسلمين فهم ـ خلافاً للشعوب الاخرى المرتبطة بنهاية التاريخ ذات المصدر الوضعي ـ لا ينتظرون حالة مجهولة كلياً وغريبة عن تجربتهم التاريخية. فنهاية التاريخ لا توجد خارج التاريخ رغم مصدرها الالهي.

يرى هيجل ثم فوكوياما من بعده بان الثورة الفرنسية قد انهت التاريخ وأكملته. لقد اراد هيجل ان يحلل التاريخ الحي كما هو في الواقع اليومي. فالمسألة بالنسبة لهيجل ليست مسألة تحديد مفهوم التاريخ فحسب عن طريق صياغة مفاهيم مثل الذات والموضوع وروح العصر. بل المهم هو تصور ممارسة تاريخية. اي القيام بعملية تحليلية ومفاهيمية للتاريخ وهو يتكون في الواقع الحي (كما وقع في عصر هيجل: الثورة الفرنسية، نابليون). ويرى هيجل بان الثورة الفرنسية ونابليون قد وصلا الى مستوى هذه الممارسة التاريخية.

لقد نشأ نابليون في التاريخ الذي انشأته الثورة الفرنسية وأنهى هذا التاريخ في نفس الوقت. وفوكوياما قد صاغ، هو الآخر، رؤيته الى التاريخ ومقولة نهاية التاريخ انطلاقاً من حوادث تاريخية، خاصة سقوط المعسكر الاشتراكي.

اذا جاز لنا نقوم بمقارنة، في هذا الميدان، (اي العلاقة بين فيلسوف التاريخ والتاريخ كما يتكون يومياً) بين هيجل ـ وخاصة فوكوياما من جهة، والصدر من جهة اخرى، يمكننا القول بان الصدر لم يكن مفكراً حالماً او مثالياً بالمعنى المجرد والمتطرف للمثالية. فقد ربط الصدر المفاهيم بالتاريخ وبالممارسة: ممارسة التاريخ يومياً وصاغ المفاهيم من الواقع ومن التاريخ، فقد حلل الصدر الحركات الاسلامية في نشوئها ونموها وهو يشاهد ذلك النشوء وذلك النمو. ونظّر الاقتصاد الاسلامي بربط المفاهيم بالنص المقدس وبالواقع والتاريخ. وحلل مفهوم خلافة الانسان من منظور حركة التاريخ وصيرورته، ومن منظور حركة الامة عبر التاريخ وآفاق تطورها في المستقبل. كما انه صاغ الرؤية الفقهية والفلسفية لدستور الجمهورية الاسلامية في ايران وهي في نشوئها.

اضافة الى ما سبق فان تحليل الصدر لعلاقة الحضارة الغربية بالعالم الاسلامي يدحض موقف كل من هيجل وفوكوياما فيما يخص نموذجية الثورة الفرنسية وانسانيتها. فالعلاقة بين الحضارة الغربية والعالم الاسلامي هي علاقة صراع واستغلال في نظر الصدر. ومن هنا فالثورة الفرنسية لم تنتج الدولة الكونية المحررة للشعوب بل انتجت الدولة المستعمرة للشعوب باسم التحضير.

غير ان الفرق فرق جذري بين الصدر وبين كل من هيجل وفوكوياما لأن اكبر مشكلة تطرح في هذا السياق هي مشكلة ابستمولوجية: كيف ينهي كل من هيجل وفوكوياما التاريخ وهما يعيشان في تاريخ (فنظريتهما حول التاريخ هي، في جوهرها ظاهرة تاريخية؟

فهناك اذاً تناقض، لأن فلاسفة التاريخ في الغرب يصوغون فكرة نهاية التاريخ انطلاقاً من خلفية معرفية وفلسفية: انهم يعتبرون ان فلسفتهم تلخص وتتجاوز ـ في نفس الوقت ـ كل الفلسفات السابقة. وبعبارة اخرى ففلسفتهم تطرح على انها الحقيقة النهائية والمطلقة. مع ان هذه الصفات لا يمكن ان تتمتع بها الفلسفة. بل هي صفات متناقضة مع الفلسفة على اعتبار ان هذه الاخيرة تعتمد على النقد والتساؤل اللذان يحرران المفكر من الذاتية والاحكام النهائية. وهكذا فان فلسفات نهاية التاريخ هي فلسفات تقضي على نفسها بنفسها من الناحية الابستمولوجية.

والعجيب في الامر ان يعتبر كل من هيجل وماركس وفوكوياما نفسه النتاج النهائي للتاريخ. وان الفلسفة قد وصلت لدى كل فيلسوف من هؤلاء الفلاسفة الى مستوى المعرفة المطلقة والنهائية!

وهنا يتجلى لنا بوضوح عطاة الصدر في هذا الميدان حيث يرى بان فكرة الكمال خاصة بالدين لا بالفلسفة. وهذا الكمال ليس معطى في نظر الصدر، بل هناك منهج يسمح للمسلمين باكتشافه عبر التاريخ. هذا المنهج هو منطقة الفراغ.

واذا كانت الفلسفة الغربية كما تتجلى عند كل من هيجل وفوكوياما ترى بأن الواقع يصل ـ بفضل الفلسفة ـ الى مستوى المعقول، وان المعقول يتجسد في الواقع فالعقلانية ـ اي الفلسفة ـ تتماشى مع الواقع (اي الدولة على اعتبار ان النسق الفلسفي والنسق السياسي ليس الا حقيقة واحدة). وهكذا تصل الفلسفة الى منتهاها ويصل التاريخ الى منتهاه[120].

اما الرؤية الاسلامية التي صاغها الصدر فانها تختلف جذرياً عن الفلسفة الغربية في هذا المجال. حيث يرى الصدر بان الشريعة المطلقة هي التي تتمفصل مع التاريخ النسبي. فلا يمكن القول من هذا المنظور، بنهاية للتاريخ على الطريقة الغربية (هيجل، ماركس، فوكوياما)[121].

وهكذا يتبين لنا ان النسق الذي تعتمد عليه فكرد نهاية التاريخ عند كل من هيجل وماركس وفوكوياما هو نسق قاتل للتاريخ عكس الرؤية الاسلامية التي تربط منهجياً بين الدين المطلق وحركة التاريخ عن طريق منقطة الفراغ التي تتضمن، على الصعيد المعرفي، القدرة على الانتفاح على مستجدات واستيعاب الصيرورة التاريخية استيعاباً اسلامياً (اي حسب متطلبات الاسلام).

ان الغريب في فلسفات نهاية التاريخ الغربية انها تجعل نهاية للتاريخ بعد ان حددت وبينت تاريخية الحياة الانسانية. وفي هذا السياق يتجلى لنا كذلك عطاء الصدر حيث انه يرى ان الانسان النسبي لا يستطيع ان يتصور الا مثلا وأهدافاً نسبية. فالدين وحده هو الذي يقدم للانسان الحل وينقده من النسبية القاتلة لحركة التاريخ. وذلك عن طريق المثل الأعلى الحقيقي كهدف لحركة التاريخ. المثل الأعلى حقيقي هنا لأن مصدره ليس الانان النسبي بل مصدره الوحي. هو موحى.

لذلك يمكن القول من خلال هذه الافكار السابقة ان فكرة نهاية التاريخ كما تطرحها الفلسفة الغربية هي النتيجة الحتمية للمرجعية المعرفية التي تعتمد عليها هذه الفلسفة. فاذا لم ينته التارخى ـ من منظور الفلسفة الغربية ـ يصبح حركة لا نهاية لها لانها حركة تتجه نحو ما يجب ان يكون اي نحو مثل اعلى مطلق. وهذا ما لا يمكن حتى ان تتصوره فلسفات التاريخ الغربية لان المطلق الذي تتصوره هذه الفلسفات هو مطلق مزيف انتجه العقل البشري بكل نسبيته واجتماعيته وتاريخيته. لذلك فهو مثل اعلى «تكراري» في نظر الصدر[122].

وهكذا قد حلل الصدر التاريخ خارج مسلمات وبديهيات الفكر الغربي (كفصل الدين عن السياسة التاريخ عن الغيب.. الخ) لذلك احدث الصدر قطيعة ابستمولوجية[123] مع كل اطروحات فلسفة التاريخ في الفكر الغربى، خاصة اطروحات هيجل وماركس وحتى اطروحات فوكوياما التي ظهرت بعد عشر سنوات من استشهاد الصدر (قدس الله روحه).

لذلك نظر الصدر الى نهاية التاريخ بمفهومها الغربي على انها نهاية لتاريخ واقعي. لكن الصدر يرى ان هناك تاريخاً آخراً هو التاريخ الحقيقي الذي بدأ في عصر الرسول (ص) وسيبدأ من جديد مع سيادة النموذج الحضاري الاسلامي لان ليس كل واقعي شرعياً. فهناك التاريخ الواقعي ولكنه غير شرعي. وقد بدأ هذا التاريخ الاخير منذ معركة صفين (في تاريخ الأمة الاسلامية وهو تاريخ له انعكاسات كونية نتيجة لكونية الاسلام) وهو مستمر الى يومنا هذا. كما ان التاريخ المعاصر هو تاريخ غربي مهيمين اي هو تاريخ واقعي ولكنه غير شرعي من المنظور الاسلامي الذي طرحه الصدر.

وهكذا يمكن ان تستنتج من كتابات الصدر لن لفكرة نهاية التاريخ معنيين: المعنى الاول: نهاية التاريخ بصورة نهائية بحيث لا يمكن تصور نموذج حضاري آخر غير النموذج الغربي (هيجل، ماركس، فوكوياما). المعنى الثانى: نهاية التاريخ مرتبطة بتتابع الاجيال او الحقب التاريخية. وهو تتابع يتجه نحو غاية ليست من صنع الانسان وتصوره لأن مصدرها الهي. فالنهاية هنا هي نهاية لنموذج حضاري معين (هو النموذج الحضاري الغربي هنا) وفتح المجال لظهور مرحلة تاريخية اخرى تحدث قطيعة جذرية مع المراحل السابقة من حيث الرؤية الى الانسان والمجتمع والحياة. وهي رؤية يتأسس عليها مشروع حضاري كوني، كونية حقيقية لانها مستمدة من مصدر خارج عن التاريخ.. من الاسلام الدين الحق.

فنقد الصدر للنموذج الحضاري الغربي هو نقد جذري تم من خلال ادوات فكرية وقيمية من خارج هذا الفكر. وهذا يختلف تماماً مع الفكر المحدث في العالم الاسلامي (ويختلف كذلك مع بعض اتجاهات الفكر الاسلامي التي لم تتحرر من اشكالية الفكر الغربي) وهو فكر يتخاصم اصحابه على مذاهب اقتصادية وسياسية وينطلقون من تأويلات ومذاهب لا علاقة لها بالاسلام ولا بواقع الامة كما يرى الصدر[124].

فالأزمة الحالية التي تتخبط فيها البلاد الاسلامية ليست ـ في نظر الصدر ـ ازمة تكنولوجيا او سوء تطبيق للافكار المستوردة (الرأسمالية والاشتراكية). لأن النموذج الغربي نفسه في ازمة قاتلة فلا يمكن ان يكون نموذجاً كونياً اي نهاية للتاريخ. فليس هناك نهاية للتاريخ بل نهاية لمرحلة تاريخية معينة هي مرحلة الحضارة الغربية. فالنموذج الحضاري الغربي المنقطع عن الغيب ذاب في التاريخ اي ذاب في المثل الاعلى التكراري حسب تعبير الصدر، وأصبح مجرد مبرر للواقع ولحركة التاريخ بكل سلبياتها وايجابياتها.

فالأزمة اذاً في نظر الصدر هي ازمة العلاقة بين النموذج والانسان: التناقض بين نماذج التقدم وذهنية انسان العالم الاسلامي. هذا من المنظور السوسيولوجي وبقطع النظر عن كونية الاسلام. ان التخطيط وتوقع صيرورة التاريخ يجب ان يتما انطلاقاً من الحقل النظري للعالم الاسلامي.

ان نماذج التنمية والتقدم ذات المصدر الغربي التي اعتمد عليها المحدثون في العالم الاسلامي جعلت ادنى درجة من التوقع غائبة. ويرجع سبب ذلك، في نظر الصدر، الى التناقض بين نماذج التقدم وواقع الأمة. اي التناقض بين الادوات الفكرية للتحليل والواقع (الامة الاسلامية)[125]. لذلك فالنموذج الحضاري الذي يتكلم عنه فوكوياما ليس نموذجاً كونياً. والدولة التي يتكلم عنها بليست دولة متجانسة وكونية[126].

وهكذا فان مجرد اللجوء الى مفهومين (خلافة الانسان والمثل الاعلى) في فلسفة الصدر، ان مجرد اللجوء الى هذين المفهومين من موقع التحليل الفلسفي، ينسف الفلسفة الغربية من الاساس. فمفهومها الخلافة والمثل الاعلى يجعلان الانسان في موقع المؤثر في حركة التاريخ والمؤثر في المادة في جانبيها الاقتصادي والطبيعي. فالاسلام يفجر الطاقات الكامنة في الانسان ويغير العالم حتى ولو لم يطبّق الا بصورة جزئية (مثلا حرب الجزائر ضد الاستعمار وكل الثورات التحريرية في العالم الاسلامي[127].

لا شك ان فوكوياما عندما يطرح الديمقراطية الليبرالية كشكل نهائي لحركة التاريخ وكشكل اكثر عقلانية للحكم، يطرح كذلك امكانية تقديم البديل الاسلامي عن الليبرالية. ولكن فوكوياما لا يطرح هذا البديل الا لينفيه بسرعة. ففوكوياما يصف البديل الاسلامي بالدولة الثيوقراطية. كما يرى بأن البديل الاسلامي لا يمكن ان ينتشر خارج محيطه الثقافي ولذلك «فخطرة محدود»[128].

ويتجلى هنا بوضوح تسرّع فوكوياما في تحليله للبديل الاسلامي وتسرعه من جراء وصف نظام الحكم في الاسلام بانه نظام ثيوقراطي دون ان يضبط هذا المفهوم. اضافة الى ذلك فان فوكوياما يسوّى، او يجعل في مرتبة واحدة، الاسلام والنازية والشيوعية في النزعة التوسعية او مشروع الفتح العالمي. ويصل فوكوياما الى نتيجة: لا مساومة مع الاسلام لأنه مشروع يريد تدمير الحضارة الغربية.

فالليبرالية قد هزمت كلا من النازية والشيوعية ولم يبق امامها الا الاسلام[129]. وهنا كذلك تأتي فلسفة الصدر لتدحض موقف فوكوياما من الاساس وذلك من خلال مفهومين (اضافة الى مفهومين خلافة الانسان والمثل الاعلى): مفهوم خلافة الامة وهي خلافة تتناقض جذرياً مع الثيوقراطية. ومفهوم الأمة الشاهدة وما تتضمنه منقوة استيعابية للحضارات والقدرة على التحكم في مسار حركة التاريخ.

أما مسألة عقلانية الديمقراطية الليبرالية من حيث هي الشكل الاكثر عقلانية للحكم فهي مسألة فيها نظر. ان العقلانية تكون قوية كلما كانت نسبية. فالنسبية هي التي تجعل العقلانية عقلانية مفتوحة وقابلة للتطور، كما تجعلها عقلانية علمية. اذا انطلقنا من هذا المعيار ـ وهو معيار يحظى باتفاق كل المفكرين لانه معيار علمي ـ فان العقلانية في الرؤية الاسلامية التي يطرحها الصدر على الصعيدين المعرفي والسياسي هي اكثر نسبية بكثير من العقلانية في منظورها الغربي ـ خاصة كما تتجلى عند فوكوياما. فربط العقل بالغيب يجعل العقلانية تتحرك في خط لا نهاية له. ولا يمكن لعقلانية من هذا النوع ان تنتهي الى ما انتهت اليه الفلسفة الغربية من وضع نهاية لتطور الفكر في مذهب فلسفي كما فعل كل من هيجل وماركس وفوكوياما. بل على العكس نلاحظ لدى فوكوياما موقفاً يغلق كل امكانية للبحث خارج الرؤية الغربية الى التاريخ. وهكذا ينقلنا فوكوياما من اطلاقية الفكر اللاهوتي في القرون الوسطى الى اطلاقية الفكر الوضعي في آخر القرن العشرين.

ان نقطة الضعف في تحليل فوكوياما للاسلام وللحضارة الاسلامية تكمن في تسرعه في الاستنتاج وفي عدم تريثه في ضبط مواقفه وضبط المفاهيم والمصطلحات. وهذا ما ادى به الى درجة عدم التمييز بين الاسلام وكل من النازية والشيوعية. ففوكوياما بقي سجيناً للافكار التشهيرية حول الاسلام. اي بقي سجيناً للمعرفة العامية في الغرب تجاه الاسلام والمسلمين.

ويكفي ان نقول بأن الصراع بين الاسلام والحضارة الغربية ـ في نظر المفكرين المسلمين ومن خلال كتابات الصدر حول هذا الموضوع ـ ان هذا الصراع ليس صراعاً تدميرياً على غرار النازية والشيوعية. مع العلم بأن النازية والشيوعية تعتبران من صلب وهوية الفكر الغربي والحضارة الغربية، هذا من جهة. اخرى فان الامة الاسلامية من حيث هي امة شاهدة وكونية لا تنفي عطاء الحضارات. وصراعها مع الحضارة الغربية ليس صراعاً لنفي الآخر بل لاستيعابه في اطار مبدأ «التعارف» والتكامل في افق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كقيم الهية توجه البشرية الى المثل الأعلى الحقيقي.واذا نظرنا الى موقف فوكوياما من البديل الاسلامي من خلال فكر الصدر، يمكننا القول بان انهيار الشيوعية ـ وهو انهيار توقعه الصدر وتوقعه كل المفكرين المسلمين لما كانت الشيوعية في اوجها ـ يمكننا القول بان انهيار الشيوعية لا يعني عند الصدر ان الديمقراطية الليبرالية هي منتهى تطور الايديولوجيا. لأن الديمقراطية الليبرالية تنتمي، شأنها شأن الشيوعية، الى الرؤية الغربية الى الكون والانسان[130]. ومن هنا فان انهيار الشيوعية يعني ـ في افق نظرية الصدر ـ انهيار النموذج الحضاري الغربي كله من حيث هو نموذج وضعي منفصل عن الله.

فالمسألة اذاً ليست مسألة نهاية التاريخ بل نهاية تاريخ معين: التاريخ المؤسس على النموذج الحضاري الغربي، وبداية فصل جديد من فصول التاريخ المؤسس على النموذج الحضاري الغربي، وبداية فصل جديد من فصول التاريخ المتمثل في مرحلة دخول النموذج الحضاري الاسلامي في مسرح التاريخ لقيادة البشرية. اي دخول نظرية المعرفة المبنية على العلاقة بين العقل والواقع والوحي لتأطير النموذج الحضاري الاسلامي لقيادة التاريخ وتوجيه نحو المثل الأعلى.

وهكذا ففكرة نهاية التاريخ توجد في كتابات الصدر لكن بمعنى اخر ـ كما اشرنا فيما سبق ـ غير المعنى الذي تطرحه فلسفات التاريخ الغربية. نهاية التاريخ عند الصدر تعني نهاية الدورة الحضارية الغربية. وهي نهاية ملازمة لمحدودية النسق المعرفي الوضعي الذي استنفد طاقاته. ونيجة لذلك فان الانظمة السياسية المؤسسة على الوضعية قد وصلت الى نقطة النهاية. ويكمن البديل في المشروع الحضاري المرتبط بالتعالي اي بالغيب.

فالتاريخ لم ينته اذاً بالنسبة للعالم الاسلامي لانه لم يدخل في التاريخ بعد. فالامة الاسلامية قد ادخلت في تاريخ عبر تاريخها منذ القرن التاسع عشر عصر ما يسمي بعصر النهضة. ادخلت في تاريخ الغرب. فنهاية التاريخ ليست صحيحة معرفياً وفلسفياً. فأطروحة نهاية التاريخ، بل وأطروحة معنى التاريخ من هيجل الى فوكوياما ليست الا اطروحة ظرفية يجابه بها الفكر الغربي الامة الاسلامية كمرجعية حضارية ذات تاريخ كبير يخشاه الغرب. فالحضارة الغربية ترعف ـ وخاصة في هذه السنوات الاخيرة بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران ـ بان الحضارة الوحيدة التي تجابهها هي الحضارة الاسلامية.

واخيراً فان الشهيد السيد محمد باقر الصدر لم يكتف بتنظير الرؤية الاسلامية الى التاريخ بل عاش هذه الرؤية وتحرر من ثقل الواقع الفاسد ومن حركة التاريخ المفروضة من طرف السلطة في العراق ومن طرف الفكر الغربي وقدّم البديل الاسلامي، نظرياً بكتاباته، وعملياً، باستشهاده رحمه الله.

د. محمد عبد اللاوي

* مدخل

*الرؤية الاسلامية الى التاريخ

*منطقة الفراغ

* معنى التاريخ

* الدين والتاريخ

* التاريخانية والتعالي

* خلافة الانسان

* الخلافة والدولة

* الامة

* النبوة والامامة

* الانتظار

* التقدم

* نهاية التاريخ

د. محمد عبد اللاوي

* من مواليد المحمدية ـ الجزائرى 1939.

* خريج جامعة الجزائر والمدرسة العليا للاساتذة.

* خريج جامعة السوربون.

* دكتوراه درجة ثالثة، ودكتوراه دولة في الفلسفة.

* استاذ محاضر في جامعة وهران.

* شارك في مؤتمرات بالجزائر ـ السودان ـ ايطاليا وبريطانيا.

*رئيس وحدة البحث والمجلس العلمي بمعهد الفلسفة.

* نشرت له عدة بحوث ودراسات في المجلات العربية والاجنبية.

[1] الاتجاه الاسلامي موقفه من القرآن والسنة الشريفة موقف تعبّدي. هذا الاتجاه ينظر الى الاسلام كدين ودولة. اما الاتجاه المحدث فينقسم الى تيارين ـ التيار الاول يؤمن بالاسلام كدين سماوي ولكنه يفصل بين الدين والسياسة على الطريقة الغربية. وتيار آخر ينظر الى الاسلام مجرد ظاهرة تاريخية واجتماعية.

[2] حدّد الصدر مفهوم المذهب ومفهوم النظرية في كتابه اقتصادنا. دار الفكر بيروت ـ 1974 المقدمة وكذلك ص 341 الى ص 347.

[3] الانظمة السياسية في العالم الاسلامي حاولت تغطية الاشتراكية وكذلك الرأسمالية بالاسلام من موقع التلفيق لا الاجتهاد ـ مقدمة اقتصادنا للسيد محمد باقر الصدر.

[4] مفهوم الحقل النظري هذه العبارة لم يستخدمها الصدر ولكن استخدم معناها.

[5] نفس المفهوم.

[6] الابستمولوجيا. معناها الدراسة العلمية لظهور النظريات العلمية والاجتماعية وعلى العموم فالدراسة الابستمولوجية تأتي نتيجة لدراسة تجمع بين نظرية المعرفة، تاريخ العلوم، المنهج، فلسفة العلوم وعلم اجتماع المعرفة.

[7] لتحليل هذه الفكرة انظر مجلة رسالة الاسلام باللغة الفرنسية مقالا لعمر ابو سلمان تحت عنوان: المعرفة والمجتمع. Le Message de I Islam

نشر وزارة الثقافة والارشاد ـ الجمهورية الاسلامية، طهران.

[8] للاطلاع على الجانب الفلسفي انظر: السيد محمد باقر الصدر ـ المعالم الجديدة للاصول. دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1981.

[9] حلل الصدر التاريخ كموضوع ـ في كتابه التفسير الموضوعي. دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت ـ 1981.

[10] فكرة المستبد العادل تدل على خضوع الفقهاء والمفكرين المسلمين للامر الواقع. وقد استخدم الشيخ محمد عبده هذه الفكرة التي تجمع بين المتناقضين: الاستبداد والعدل.

[11] لم يعتمد الصدر في دراسته للتاريخ على الطريقة السردية بل حلل التاريخ عن طريق ادوات علم الاجتماع.

[12] وهذا يعني ان نظرية المعرفة لها خصوصيتها في الرؤية الاسلامية.

[13] يطرح ماركس نظريته على انها عملية بينما هي ـ في كثير من جوانبها ـ تبرير لافكار ماركس المسبقة ـ فماركس تصور مجتمعا بدون طبقات ثم نظر الى تاريخ البشرية وحلله انطلاقا من هذا التصور القبلي لحركة التاريخ.

[14] قانون الاحوال الثلاث ليس قانونا علميا لان الاحوال (الحالة اللاهوتية والحالة الميتافيزيقية والحالة الوضعية) متداخلة، توجد في عصر واحد وتوجد احيانا لدى شخص واحد مثلا باستو (pasteur) كان مسيحيا يتبنى افكارا لاهوتية وميتافيزيقية وهو عالم في نفس الوقت. وتجدر الاشارة الى أن أجوست كونت قد رجع الى الدين (دين من صنع البشر أي من صنعه هو) في آخر حياته لما توفيت خطيبته. وهذا دليل على التناقض بين الانسان ككائن نسبي يعتبر احكامه احكاما مطلقة.

[15] تجدر الاشارة الى ان هناك فرقا كبيرا بين موقف الصدر وموقف الفكر الغربي في هذا المجال. فالمواقف القبلية في نظرية المعرفة التي تعتمد عليها فلسفة التاريخ في الغرب هي مواقف ذاتية. ولذلك تشكل عائقا ابستمولوجيا امام البحث العملي. في حين ان الامر ليس كذلك في الرؤية الاسلامية الى المعرفة حيث ان المواقف القبلية هنا ليست افكارا مسبقة نابعة من ذاتية الباحث بل هي ادوات استكشافية مصدرها الاسلام. فهي تساعد الباحث على الوصول الى الهدف وترسم له الاطار العام لبحثه او معالم مسار هذا البحث. من الادوات الاستكشافية مثلا: انتصار الحق على الباطل، التكامل والتوازن في علاقة الفرد بالمجتمع.. الخ. فالادوات الاستكشافية تعمم الفكر الاسلامي من الوقوع في بعض الاخطاء خاصة الاخطاء المناقضة لهوية هذا الفكر ولمصدره الالاهي.

[16] ومن هنا لا يمكن حجز الاساس المعرفي للرؤية الاسلامية الى التاريخ داخل مذهب من مذاهب المعرفة في الفكر الغربي. وذلك لما يتميز به هذا الاساس من الشمول.

[17] ان الصدر لم يكتشف المذهب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من الاحكام الشرعية مباشرة بل اكتشف المذهب باللجوء الى «ما وراء الاحكام». انظر اقتصادنا (عملية اكتشاف المذهب) ص 349 الى 390.

كما ان الصدر لم يحدد رؤيته الفلسفية الى التاريخ عن طريق التفسير التجزيئي بل عن طريق التفسير الموضوعي اي عن طريق قراءة حركية للقرآن الكريم. انظر: التفسير الموضوعي.

[18] التعالي (Transcendance): هذا المفهوم يختلف عن المحايثة (Immanence) (الله محايث للعالم اي مستغرق فيه) فالتعالي معناه ان الله متعالي على الكون، فهو الخالق والكون مخلوق. التعالي مرادف للغيب. اما في المجال الانساني فالتعالي معناه ان الانسان ليس سجينا للحظة الراهنة بل يتعالى عليها ليتصور الاهداف في المستقبل. فلا يمكن اذن قيام معرفة ـ ولو بسيطة وعامية ـ بدون تعالي. وهذا ما جعل ماركس يرى بأن الفرق بين النحلة التي تصنع خلايا دقيقة وعجينة والمهندس، هو ان هذا الاخير يبني البيت في فكره (اي يتصوره) قبل ان يبنيه في الواقع.

لكن هذا التعالي بالمفهوم الماركسي هو تعالي محدود ولا يتماشى مع النظرة المادية الى الكون. فالتعالي يقتضي حتما وجود الله.

ان الطرح الغربي للتعالي والمحايثة فيما يخص العلاقة بين الله والتاريخ هو طرح سطحي لانه يضع هذين المفهومين في اشكالية ضيقة: تعالي الله يعني انفصاله عن التاريخ، ومحايثته تعني ذوبانه في التاريخ على الطريقة الهيجلية.

وليس الامر كذلك في الرءية الاسلامية حيث ان علاقة الله بالتاريخ وبالكون على العموم، هي علاقة الخالق بالمخلوق، والمعبود بالعبد. فالعلاقة هنا ليست محايثة بالمعنى الفلسفي الغربي للكلمة وليست تعاليا بالمعنى الغربي كذلك. فالعلاقة تعبر عن لطف الله ورحمته.

[19] التقوى في هذا السياق عبادة (قيمة تعبدية) ومفهوم ابستمولوجي لان التقوى تدفع بالباحث ـ كالزام داخلي ذي مصدر الآهي ـ الى الموضوعية اكثر فاكثر. فالتقوى تتناقض اذن مع الذاتية. لذدلك لما يصبح الفقيه مثلا غير تقي يتحول الى فقيه للسلطان (فقهاء السلطة). وهكذا فالتقوى اعلى درجة من الموضوعية نظرا لمصدرها الديني.

[20] التاريخانية او النزعة التاريخية (Historicisme) اي التاريخ كمبدأ وحيد للتفسير، تفسير كل الظواهر المرتبطة بالانسان (حي الديانات) عن طريق شروطها التاريخية. فالتاريخ يكفي نفسه بنفسه ولا علاقة له بأي مبدأ آخر للتفسير لان التاريخانية تنفي كل المبادىء الاخرى كالغيب والوحي والرسالات.. الخ مثلا فلسفة التاريخ عند هيجل والمادية التاريخية والماد ية الجدلية عند ماركس.

فالتاريخانية ليست مجرد منهج بل هي مذهب يرى بأن كل حقيقة مهما كانت النتيجة للشروط التاريخية.

وتجدر الاشارة الى ان التاريخانية شيء والاعتماد على التاريخ في تفسير بعض الظواهر الاقتصادية والسياسية شيء آخر. فاذا كانت التاريخانية تنفي كل مبدأ للتفسير خارج التاريخ فان الدراسة التاريخية (التاريخية اي الاعتماد على التاريخ) لا تنفي هذا المبدأ. فالصدر مثلا اعتمد على التاريخية في كل كتاباته حتى في اصول الفقه وكتاباته حول النبوة والامامة. وهكذا فالتاريخية دراسة علمية فهي لا تنفي الغيب.

التاريخية كالنزعة الاجتماعية (الاجتماعوية) (Sociolgime) اي تفسير كل الظواهر والحقائق بالاعتماد على التفاعلات الاجتماعية اي الشروط الاجتماعية. فالنزعة الاجتماعية تنفي الغيب وترى بأن علم الاجتماع يكفي نفسه بنفسه.

اما الدراسة الاجتماعية فهي شيء آخر. فالدراسة الاجتماعية او السوسيولوجية: اي الاعتماد على علم الاجتماع) ليست مذهب كالنزعة الاجتماعية بل هي منهج. وقد اعتمد الصدر في كل كتاباته على الدراسة الاجتماعية ورفض من الاساس كلا من التاريخانية والنزعة الاجتماعية. فهو يرى ان هذين المذهين يقضيان على نفسهما بنفسهما.

[21] يجب التحفظ عند استخدام مفهوم الروحانية. هذا المفهوم ليس مفهوما سائبا في الرؤية الاسلامية لان الروحانية هنا مصدرها الوحي وهي مرتبطة بالله تعالى. في حين ان الروحانية في الغرب قد تعني مجرد حالة عاطفية كتلك التي يشعر بها الفرد اثناء المتعة الغنية. الروحانية في الرؤية الاسلامية ليست مريحة بقدر ما هي معبئة وجهادية.

[22] الآلهة الكاذبة هى المثل العليا المزيفة سواء كانت اصناما او مفاهيم ونماذج ونظريات حول التاريخ ومصير البشرية ـ انظر التفسير الموضوعي ص 158 ـ 160.

[23] التفسير الموضوعي (السنن التاريخية) ص 39 وما بعدها.

[24] السيد محمد باقر الصدر: بحث حول الامام المهدي (ع) ـ نشر اهل البيت، باريس 1983

(البحث وجيز ومن الضروري الاطلاع عليه كله) وانظر كذلك الى: المرسل، الرسول، الرسالة.

(حيث يحلل الصدر النبوة ويبين ارتباطها بالعوامل الاجتماعية والتاريخية. باستثناء مصدر النبوة فانه الآهي. فالصدر يدرس النبوة والامامة من موقع الدراسة السوسيولوجية والتاريخية لا من موقع النزعة الاجتماعية والتاريخانية، اهل البيت، باريس، 1983، ص 78 ـ 79

[25] ميز الصدر ربط الحوادث التاريخية بالغيب من المنظور الشرعي والعلمي وربط الحوادث التاريخية بالغيب من منظور الغيبية بمعناها المتبذل (اي التفكير اللاهوتي كما ظهور فيى القرون الوسطى في الغرب) انظر: التفسير الموضوعي ص 78 ـ 79. وانظر كذلك، د. علي (مقال): مصادر اتهام المؤمنين بالغيبية المبتذلة والرد عليها) مجلة الوحدة الاسلامية 2 آذار 1990 عدد 169، تصدر عن المكتب الاعلى لتجمع العلماء المسلمين، بيروت ص 59 وما بعد. وانظر كذلك: السيد محمد حسين حسين فضل الله: مع الحكمة في خط الاسلام. مؤسسة الوفاء ـ بيروت ـ 1985، ص 9 ـ 10.

[26] انظر: التفسير الموضوعي ـ ص 146 ـ 155.

[27] فلسفة التاريخ المنفصلة عن الغيب (او التعالي) هي مجرد ظاهرة تاريخية انتجتها شروط اجتماعية وتاريخية مرحلية. في حين ان مذاهب فلسفة التاريخ تطرح نفسها كحقيقة نهائية. اقتصادنا ـ ص 73 ـ 121.

[28] استخرج الصدر من هذه الآية منهجا ونظرية للمعرفة تختلف عن نظرية المعرفة في الفكر الغربي ـ التفسير الموضوعي، ص 65 ـ 66 وص 105.

[29] هناك اختلاف جذري بين الغيب والغيبية بمعناها المبتذل، وهي غيبتة تؤدي الى التفكير اللاهوتي كما رأينا فيما سبق.

[30] التاريخ السوسيولوجي اي التاريخ الذي يعتمد على علم الاجتماع (ادوات علم الاجتماع) في تحليل وتفسير الحوادث التاريخية. وهو عكس التاريخ السردي الذي لا يفسر الحوادث بل يعتمد على مجرد الحكاية والسرد.

[31] التاريخانية ـ انظر التعليق رقم 20.

[32] ارتباط الانسان بالمثل الاعلى الحقيقي (الله) يجعل من حركة التاريخ حركة تعبدية التفسير الموضوعي. ص 181 ـ 184.

[33] عبد الحق مصطفى: الامام الشهيد محمد باقر الصدر: نموذج قراءة في مشروعه التأسيسي ـ مجلة الفكر الجديد) نشر دار الاسلام لندن 1933 عدد 6، ص117.

[34] السيد محمد مصطفى: الامام الشهيد محمد باقر الصدر: دور اهل البيت، نشر اهل البيت، باريس 1983 ص 22.

[35] وهكذا فالتاريخ والتعالي علاقتهما مسألة شرعية تعبدية ومعرفية في نفس الوقت.

[36] اتحفظ كثيرا في استخدام عبارة «العصمة» بالنسبة للفكر الاسلامي. العصمة هنا معناها عام وليس المقصود منها عصمة الائمة التيى هي عصمة خاصة بل المقصود هنا الفكر الاسلامي على العموم شريطة ان تكون علاقته مع القرآن الكريم والسنة الشريفة علاقة تعبدية. فالفكر الاسلامي معصوم من الاخطاء التيى تقع فيها الايديولوجيات والفلسفات الوضعية. والتاريخ خير دليا على ذلك. فالماركسية في اوروبا الغربية (الاحزاب الشيوعية) قد تخلت عن مقولتي صراع الطبقات ودكتاتورية البروليتاريا. مع العلم ان المقولتين اساسيتان في المذهب الماركيسي. كما ان كثيرا من النظريات او بعض جوانبها قد بين التاريخ خطأها (في المذهب الرأسمالي) كالنظرية العراقية وغيرها. وهكذا فالفكر الاسلامي المؤطر بالقيم والمفاهيم القرآنية معصوم من هذه الاخطاء. وحتى عصمة الائمة (ع) قد حللها الصدر تحليلا سوسيولوجيا ونفسيا وتاريخيا انطلاقا من مصدرها الغيبي. انظر: بحث حول الامام المهدي.

[37] الامامة وتجاوزها للنزعة القبلية. (الائمة كانت نظرتهم الى الاسلام والى الامة نظرة كونية). فالامامة ربطت ـ في ممارستها ورؤيتها ـ التاريخ بالتعالي. فهي ليست مستغرقة في التاريخ بالمعنى التاريخي للكلمة. انظر: السيد محمد باقر الصدر: بحث حول الولاية ـ دار التوحيد، الكويت 1977.

[38] Hegel: Science De La Logique Edition GlocknerStuttqart 1936 Vol.4 p51.

[39] فكرة الرجوع الى الاصل فكرة رئيسية في الرؤية الالامية الى التاريخ وفي الفكر الاسلامي على العموم. ان موقف المسلمين من الماضي هو الذي يحدد مواقفهم تجاه قضايا الامة في عصرنا. مثلا الموقف الذي لا يميز ـ في رجوعه الى الاصل ـ بين الامام علي (ع) ومعاوية، بين الامام الحسين (ع) ويزيد بن معاوية لا يمكن ان يحرك الامة نحو التحرر من التبعية الثقافية والسياسية والاقتصادية. في حين ان الموقف الذي يميز تمييزا واضحا ودقيقا بين خط الامامة (الخط الرسالي) والملك (الخط المنحرف) هو الذي يمكنه ان يعبيء الامة لعملية النهضة الكبرى ويدفع بها الى التحرك نحو المثل الاعلى الحقيقي.

وقد ضبط الصدر مفهوم الرجوع الى الاصل. ووصلت هذه الفكرة في دراساته الى مستوى المفهوم الفلسفي. وهذا ما يتجلى بوضوح في اكثر كتاباته، خاصة: بحث حول الولاية، دور اهل البيت، المعالم الجديدة للاصول.

[40] اقتصادنا ـ ص 362 ـ 364 ـ وص 638 ـ 643.

انظر كذلك: السيد محمد حسين فضل الله: مجلة الوحدة الاسلامية: الحركة الاسلامية حركة فكرية كغيرها من الحالات.. فلتجرب حظها. نشر المكتب الاعلامي لتجمع المسلمين ـ بيروت عدد 146 ايلول ـ 1989 ص 22.

[41] التفسير الموضوعي ـ وكذلك اقتصادنا (عملية اكتشاف المذهب) ص 349 ـ 390.

[42] مجلة رسالة الجهاد. نشر دار الجماهرية ـ مصراته) ليبا. عدد 89 يونيو 1990. ص 32.

[43] التفسير الموضوعي. ص 181.

[44] السيد محمد باقر الصدر) منابع القدرة في الدولة الاسلامية ـ وزارة الارشاد، الجمهورية الاسلامية، ايران. بدون تاريخ، ص 178 ـ 180. (سلسلة الاسلام يقود الحياة).

[45] مع العلم بأن الشارع قد وضع منهجا (منطقة الفراغ) يعتمد عليه الفكر الاسلامي نظريا وعمليا.

[46] وهذا من المفارقات، حيث ان الامة الاسلامية موجودة رغم الصدمات التي تتلقاها ورغم عدم وجود الدولة الاسلامية (دولة الامة) ورغم تفتت العالم الاسلامي الى دول قومية وقطرية وجهوية.

[47] اقتصادنا، المقدمة.

[48] نفس المصدر السابق.

[49] منابع القدرة في الدولة الاسلامية. خاصة فصل: اخلاقية التركيب العقائدي وتحرير الانسان من الانشداد الى الدنيا. ص 180 ـ 190.

[50] السيد محمد باقر الصدر: خلافة الانسان وشهادة الانبياء. دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت 1979 وكذلك بحث حول الامام المهدي.

[51] التفسيرالموضوعي: ص 146 ـ 155.

[52] اقتصادنا: ص 65 67 وص 73 ـ 75.

[53] السيد محمد باقر الصدر: التجديد والتغيير في النبوة. مؤسسة اهل البيت في الزينبية. بدون تاريخ، بدون مكان. انظر كذلك: بحث حول الولاية وكذلك: بحث حول الامام المهدي.

[54] ريمون آرون. مدخل الى فلسفة التاريخ (باللغة الفرنسية) Raymon Aron: International laal phiosophie de lihistorie. EditionGallimar-paris 1938 pl30.

[55] انتقد الصدر الثيوقراطية نقدا جذريا. وصاغ انطلاقا من القرآن الكريم والسنة الشريفة مفهوما سياسيا جديدا في الفكر الاسلامي «خلافة الامة». انظر خلافة الانسان وشهادة الانبياء.

[56]

[57]

[58] اقتصادنا (مفهوم او مبدأ الملكية المزدوجة) ص 257.

[59] اقتصادنا: ص 65 ـ 67 وص 73 ـ 121.

[60] Irving Kristol: A propos de la fin de I historie-In Commentarie Aytomne 1989 No. 49 p681

[61] السيد محمد باقر الصدر: بحوث اسلامية ـ دار الزهراء، بيروت 1983 ص 164 ـ 167.

[62] عبد الله العروي ـ الايديولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1980 ص 125.

[63] Raymon Aron: Les dimension de la conscience historique-Edition Litrairie plan- Paris 1966 P115

[64] التفسير الموضوعي: ص 228 ـ 230. التفسير الموضوعي: ص 228 ـ 230.

[65] بحوث اسلامية: ص 53 ـ 54 وكذلك: خلافة الانسان وشهادة الانبياء. بحوث اسلامية: ص 53 ـ 54 وكذلك: خلافة الانسان وشهادة الانبياء.

[66] التفسير الموضوعي: ص 105.

[67] نكرر الاشارة الى ان ماركس يقوم بنوع من التعالي عندما يرى بأن الفرق بين النحلة والمهندس ان هذا الاخير يبني البيت في فكرة قبل ان يبنيه في الواقع. لكن هذا التعالي مزيف. فالتعالي ملازم للروحانية المرتبطة بوجود الله.

[68] خلافة الانسان وشهادة الانبياء: ص 10.

[69] التجديد والتغيير في النبوة، وكذلك: اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف، ص 41.

[70] خلافة الانسان وشهادة الانبياء. ص 16.

[71] نفس المصدر السابق ص 19.

[72] منابع القدرة في الدولة الاسلامية ص 4.

[73] السيد محمد باقر الصدر، الاسلام يقول الحياة، ص 175.

[74] نفس المصدر السابق ص 158.

[75] نفس المصدر السابق (لمحة تمهيدية عن دستور الجمهورية الاسلامية) ص 3 ـ 19.

[76] نفس المصدر السابق ص 3 ـ 7.

[77] نفس المصدر السابق ص 9.

[78] التفسير الموضوعي ص 123.

[79] منابع القدرة في الدولة الاسلامية ص 177 ـ 179.

[80] الاسلام يقود الحياة ص 185 وما بعدها.

[81] نفس المصدر السابق ص 193 ـ 194.

[82] اقتصادنا. المقدمة.

[83] نفس المصدر السابق.

[84] مالك بن نبي(باللغة الفرنسية).Vocation de I Islam-Edition de Seuil-Paris 1954

[85] عالج فكرة الامة الاسلامية وصيرورتها: رضوان السيد. الامة والجماعة والسلطة ـ دار اقرأ. بيروت 1984. وخاصة: علي شريعتي ـ الامة والامامة.

[86] بحوث اسلامية ص 36) 39 و ص 47 ـ 49.

[87] السيد محمد باقر الصدر: المرسل والرسول والرسالة (حيث يحلل الصدر النبوة ويبين ارتباطها بالعوامل الاجتماعية والتاريخية. باستثناء مصدر النبوة فانه الآهي). فالصدر يدرس النبوة من خلال الدراسة السوسيولوجية لا من موقع النزعة الاجتماعية. كما انه يدرس النبوة من خلال التاريخية (اي من خلال التاريخ: ربط النبوة بالعوامل التاريخية) لكن لا يدرس النبوة من خلال التاريخانية التي يزعم اصحابها انها تفسير كل شيء وانها تكفي نفسها بنفسها. انظر المرسل والرسول والرسالة ص 78 ـ 79.

[88] التفسير الموضوعي (في الفصل الاول) حيث يميز الصدر بين التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي او التوحيدي.

[89] عالج الصدر العلاقة بين الامامة والرسالة في: بحث حول الولاية، بحث حول الامام المهدي (ع)، المرسل والرسول والرسالة، خلافة الانسان وشهادة الانبياء.

[90] دور الائمة. مصدر سابق.

[91] انظر: بحث حول الولاية. وكذلك: بحث حول الامام المهدي (ع) حيث يحاول الصدر ان يفسر عصمة الائمة (الائمة المعصومون الاثنى عشر) بقربهم الزماني من الرسول 0ص). هذا التفسير النفسي والاجتماعي والتاريخي للعصمة تم في اطار مصدرها الغيبي. ويفسر الصدر الصدر عصمة الامام المهدي (ع) بالاعتماد على مصدرها الغيبي وبالاعتماد كذلك على التفسير التاريخي: الغيبة الكبرى تجعل الامام المهدي (ع) يستوعب حركة التاريخ وظهور حركة وانحطاطها من موقع علاقة التاريخ بالتعالي.

[92] انظر: استجواب اجوبة مجلة العالم مع آية الله جوادي آملي (حامل رسالة الامام الخميني الى غورباتشوف حيث ان الامام الخميني خاطب غورباتشوف من موقع علاقة التاريخ بالغيب.

مجلة العالم، لندن اكتوبر 1990 عدد 347، ص 31.

[93] مع العلم بأن الدول القومية في العالم الاسلامي تسير هي الأخرى في خط الانحراف.

[94] المهدوية الوضعية هي الرؤى المستقبلية لفلسفات التاريخ الوضعية.

[95] بحث حول الامام المهدي (ع).

[96] نفس المصدر.

[97] نفس المصدر.

[98] لقد تناول مالك بن نبي فكرة المستقبل (مستقبل الامة) من المنظور الاسلامي وحللها تحليلا فلسفيا انطلاقا من الآية الكريمة: (هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (الصف آية 8). انظر: مالك بن نبي: المسلم في الثلث الاخير من القرن العشرين. جامعة دمشق 1970.

[99] التفسير الموضوعي.

[100] التفسير الموضوعي ص 65 ـ 66 و ص 105.

[101] بحوث اسلامية (فصل: العمل الصالح في الاسلام) ص 31 الى 42.

[102] وهكذا تبرز علاقة فلسفة التاريخ بالعبادد عند الصدر. انظر: التفسير الموضوعي ص 181 ـ 184.

[103] بحوث اسلامية ص 47 ـ 54.

[104] غالب حسن ـ من مقال: الامام الشهيد محمد باقر الصدر، ما قبل الخطاب، مجلة الفكر الجديد. نشر دار الاسلام، لندن، يوليو 1993 عدد 6 ص 157.

[105] التفسير الموضوعي، ص 94 ـ 100.

[106] بحوث اسلامية، ص 160 ـ 175.

[107] اقتصادنا. ص 65 ـ 67.

[108] عالج الصدر مشكلة الحقب التاريخية، لا كموضوع مستقبل بل كخليفة فلسفية ومعرفية لكل كتاباته تقريبا. وفكرة التحقيب او تقسيم التاريخ الى عصور تتميز عند الصدر بنوعيتها. فهي تتضمن اعادة النظر في التاريخ، التاريخ البشري كله بصورة تتجاوز الرؤية الغربية التي تقسم التاريخ انطلاقا من المركزية الغربية: العصر القديم، الوسيط والحديث. فالصدر له تقسيم آخر للتاريخ يجسد فيه ظهور الاسلام النقطة المركزية لانه الدين الخاتم الذي يستوعب كل الرسالات السابقة ويتمتع نتيجة لذلك بالكونية التي تسمح له بمجابهة الشرك المسلح بالفلسفة والتكنولوجيا وقيادة البشرية نحو المثل الاعلى الحقيقي. ومن هنا يصبح التحقيب يرتكز على مفهومي الخط الرسالي والخط المنحرف.

ونتيجة لذلك لا يقسم التاريخ انطلاقا من تاريخ المسلمين الواقعي والمحدود (العصر الاموي والعصر العباسي مثلا..) بل انطلاقا من التاريخ الحقيقي المتمحور حول التوحيد.

لقد عالج مشكلة التحقيب د. كليم صديقي في كتابه: التوحيد والتفسيح. المعهد الاسلامي، لندن 1984. وكذلك علي شريعتي في كتابه: العودة الى الذات، الزهراء للاعلام العربي، القاهرة 1986.

[109] December 1992 Paris p2  (Le Courier de I Unesco)Edgar Morin: Une Crise du futur

[110] اقتصادنا (المقدمة) وكذلك التفسير الموضوعي ص 146 ـ 155.

[111] اقتصادنا (المقدمة).

[112] اعتمدت في هذا البحث على الترجمة الفرنسية لكتاب نهاية التاريخ والانسان الاخير الذي الفه فرانسيس فوكوياما.

[113] الانسان: هيجل في طريقه الى واشنطن، مجلة الاجتهاد، نشر دار الاجتهاد، بيروت، ربيع صيف 1993م، عدد 15، 16 ص 83.

[114] اقتصادنا (انسان العالم الاسلامي ـ الانسان الاوروبي) (المقدمة).

[115] العقل الذي يستخدمه فوكوياما هو مجرد عقل نفعي ليس العقل الذي يتمتع بامكانية التعالي.

[116] بحث حول الامام المهدي (ع) وكذلك خلافة الانسان وشهادة الانبياء.

[117] مصدر سابق.

[118] مصدر سابق.

[119] فوكوياما ـ نهاية التاريخ والانسان الاخير (بالغلة الفرنسية، انظر: التعليق رقم 115) ص 323 ـ 330. يمكن نقد هذه الافكار التي طرحها فوكوياما. يمكن نقدها بصورد جذرية من خلال كتب الصدر خاصة: مفهوم «المثل الاعلى للانسان الاوروبي المنتصر» انظر التفسير الموضوعي ص 162 ـ 165

[120] فوكوياما. نفس المصدر اعلاه ص 11 ـ 24.

[121] بحوث اسلامية ص 179 ـ 180 وكذلك منابع القدرة في الدولة الاسلامية.

[122] يمكن كذلك نقد مفهوم «الانسان الاخير» (نهاية التاريخ والانسان الاخير) عن طريق مفهوم «المثل الاعلى التكراري» الذي صاغه الصدر في كتابه التفسير الموضوعي ص 170 ـ 177.

[123] القطيعة الابستمولوجية هنا لها معنى خاص. لذلك فالفكر الاسلامي في حاجة ماسة الى صياغة ابستمولوجيا خاصة به، قد تلتقي مع الابستمولوجيا بمفهومهاالغربي في بعض الجوانب وتختلف في جوانب اخرى. فالقطيعة التي احدثها الصدر تتميز بالطرح الجديد للموضوع. لكن القطيعة التي احدثها الصدر تتميز بالطرح الجديد للموضوع بصورة جذرية الى درجة ان القطيعة هنا هي كتلك التي وقعت بين الفكر العلمي والفكر الخرافي من حيث شدتها وعمقها.

[124] اقتصادنا (المقدمة)، وكذلك: منابع القدرة في الدولة الاسلامية.

[125] اقتصادنا (المقدمة).

[126] منابع القدرة في الدولة الاسلامية.

[127] لم اذكر الثورة الاسلامية في ايران على اعتبار ان هذه الثورة المباركة اعتمدت على فكر اسلامي عميق الى درجة كبيرة وعلى مرجعية الفقهاء وخاصة الامام الخميني (قدس الله روحه(في حين ان الثورات الاخرى في العالم الاسلامي رغم اعتمادها على القيم الاسلامية، لم تعتمد على الرصيد الفكري المنظم والعميق الذي اعتمدت عليه الثورة الاسلامية في ايران اضافة الى ذلك فان الدولة في ايران هي استمرار للثورة الاسلامية، بينما وقعت قطيعة بين الدولة والثورة في البلدان الاسلامية الاخرى اذ بمجرد الحصول على الاستقلال استولى العلمانيون على الدولة.

[128] جوزيف سماحة، مقال على شكل حوار مع فوكوياما ـ عنوانه: نهاية التاريخ وردود الفعل ـ مجلة الاجتهاد، (ن ـ م) ص 302 ـ 303.

[129] نفس المصدر السابق.

[130] انتقد الصدر كلا من النظام الاشتراكي والرأسمالي ـ بحوث اسلامية، ص 160 ـ 165.