الجهاد السياسي للإمام الشهيد السيّد الصدر

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

ليس هذا الكتاب ترجمة حياة، إنّه الجهاد السياسي فقط:

على أنه في هذا المجال نفسه ترك عدّة فراغات كان عليه أن يملاها.

فالكتاب مثلاً لم يدرس بشكل مستوعب، ولا مختصر سياسة البعث الحاكم في المنقطة، وأهدافه التي يطمح إليها.

ولم يكن عرضه للساحة العراقية من الناحية الدينية عرضاً كافياً مستوعباً، سواء ما قبل حكومة البعث أو ما بعدها.

كما أنه اكتفى بالإشارة السريعة إلى الوضع الحوزوي الذي عاصره السيّد الشهيد.

بينما يتأثر تقييمنا للمواقف السياسية التي اتخذها السيّد الشهيد بمدى وضوح هذه الجوانب لدينا.

إذن ففي هذا الكتاب عدّد نقاط فراغ.

وقد يكون عذري أن هذا الكتاب كان استجابة لطلب تقدّمت به حركة جماعة العلماء المجاهدين في العراق أن أكتب موجزاً عن الجهاد السياسي للسيد الشهيد.

وكان الموجز هذا الكتاب الذي بين يديك.

وأنّا ما زلت اعتقد بأنه موجز، لأني حاولت فيه أن اختصر، وأن أحذف وأن أترك نقاط فراغ كثيرة. بسبب بعض الظروف الصعبة التي تعيشها الساحة العراقية.

على أن المدّة التي حددت لي، لم تكن كافية، فإن مدة أسبوعين لا تكفي لإصدار كتابين عن الفكر السياسي، والجهاد السياسي للسيّد الشهيد العظيم.

إلاّ أن حرارة دمه أعطتني زخماً استطعت منه بتوفيق الله أن أنجز هذه المادة التي تقرأها.

ولا أدري ما إذا كنت سأوفق للعودة إلى هذا الكتاب وتناول مادته بشكل مفصل، ومملوء، أم لا.

أسأل الله بحق الشهيد الذي كتبت جهاده أن يوفقني لأداء بعض حقّه علي.

المؤلّف

الجهاد السياسي

الجهاد السياسي بمفهومنا أوسع من المواجهة السياسية. إن كلّ عمل له أبعاد سياسية عاجلة أو مستقبلية، سواء أتخذ شكل المواجهة الصريحة، أو غير الصريحة، أو لم يتخذ شكل المواجهة، يعتبر جهاداً سياسياً.

ونحن هنا إذ نتحدث عن الجهاد السياسي للسيد الشهيد فإنا لا نخص حديثنا بالمواجهة السياسية، فقط وإنّما نستعرض كلّ نشاطاته ذات الأبعاد السياسية، والهادفة ـ ولو على المدى البعيد ـ إلى أحداث وتغييرات في الساحة السياسية.

وفي هذا الضوء نستطيع أن ندرس النشاط السياسي للسيّد الشهيد في مرحلتين:

1ـ مرحلة (المدّ الإسلامي).

2ـ مرحلة المواجهة السياسية.

أطراف المواجهة

ومن الخطأ أن نفهم المواجهة على اعتبار أنها النشاط السياسي في مواجهة النظام الحاكم.

إن المواجهة السياسية التي أنفق الشهيد العظيم عمره فيها كانت أوسع من دائرة النظام الحاكم. أنها مواجهة:

أوّلاً: ضد الركود والتخلف الإسلامي، والذي يتصاعد ويتفاقم فيتحول إلى مد إسلامي، كما حدث في فترة المد الشيوعي، والمدّ القومي الناصري.

وثانياً: وتبعاً لذلك يتحدد الموقف من النظام الحاكم، فبمقدار ما يقترب من المد اللا إسلامي، و بمقدار ما يسير في طريق دعم التخلف، واللا وعي الإسلامي، يقترب النشاط السياسي الإسلامي نحو المواجهة معه، والوقوف ضده.

إذن فالمواجهة ليست مع النظام، بل هي مع الوجود اللا إسلامي في المنطقة، والذي قد يدعمه النظام الحاكم أو يتبناه فتتحول المواجهة ـ إليه مباشرة.

وإذا كانت الفترة الواقعة ما بين 1968 ـ 1980م، أي فترة نظام البعث، هي الفترة التي حملت أبرز نشاطات السيّد الشهيد، ولعلها ليست أبرز نشاطاته السياسية وبالتأكيد لم تكن أبرز نشاطاته، وإنّما في آخر حلقة في سلسلة الجهاد السياسي، والقريبة من وقتنا، وبالتالي فهي القريبة إلى ذكرياتنا، من أجل ذلك فإننا حين نتحدث عن المواجهة، فمن المعقول أن يفهم من مصطلحنا المواجهة مع النظام الحاكم، ونحن لا نضيق بهذا الفهم ذرعاً، وسنبقى اصطلاح المواجهة على هذا المعنى المفهوم، المواجهة مع النظام الحاكم، رغم أن نشاط السيّد الشهيد كلّه كان مواجهة وبشكل عنيف مع الوجودات اللا إسلامية بكل قطاعاتها، وأشكالها.

شروط المواجهة

ليس التحرك القيادي مفصولاً عن تحرك الجماهير، ورغم أن القائد هو الذي يسعى لخلق التيار الجماهيري ويهيئ للتحرك العام، إلاّ أن الوسط الجماهيري ما لم يبلغ هذا المستوى فإن القائد لن يستطيع أن يتحرك تحركاً قيادياً ناجحاً.

ومن هنا فإن الاعداد للمواجهة هو الخطوة الاُولى للتحرك السياسي.

وقد رأى السيّد الشهيد أن الاُمّة من أجل أن تصبح قادرة على التحرك الشامل، وعلى الانتفاض بنفسها ضد تخلفها كما ضد طغاتها، يجب أن تتوفر فيها شروطاً ثلاثة أطلق عليها السيّد الشهيد شروط النهضة.

هذا الموضوع ننقله بعبارة الشهيد نفسه، قال:

(إن الشرط الأساسي لنهضة الاُمّة ـ أي أمّة كانت ـ أن يتوفر لديها المبدأ الصالح الذي يحدد لها أهدافها وغاياتها ويضع لها مثلها العليا…

ونحن نعني بتوفر المبدأ الصالح في الاُمّة وجود المبدأ الصحيح أوّلاً، وفهم الاُمّة له ثانياً، وإيمانها به ثالثاً.

فإذا استجمعت الاُمّة هذه العناصر الثلاثة فكان لديها مبدأ صحيح تفهمه، وتؤمن به، أصبح بإمكانها أن تحقّق لنفسها نهضة حقيقية، وأن توجد التغيير الشامل الكامل في حياتها على أساس ذلك     المبدأ..)[1].

واقع الاُمّة

إن طريقة التحرك السياسي ومداه تتأثر إلى حد كبير بالواقع السياسي الذي تعيشه الاُمة، وفي ضوء هذا الواقع، ظروفه وملابساته، يستطيع الرجل السياسي أن يرسم خطوط نشاطه، وطريقة تحركه.

فلننظر كيف كان الواقع السياسي للاُمّة كما عاصره السيّد الشهيد؟

وما هي إمكانيات التحرك؟ ثمّ ما هي الاُمور التي يتطلبها التحرك؟

لندع السيّد الشهيد يتحدّث، فيقول:

(أمتنا الإسلامية الكريمة لا تفقد في الحقيقة من عناصر الشرط الأساسي لنهضتها البناءة إلاّ واحداً منها. فالمبدأ موجود لديها متمثل في دينها الإسلامي العظيم… والاُمّة الإسلامية كلها مجمعة على الإيمان بهذا المبدأ أو تقديسه دينا وعقيدة. غير أن هذا الإيمان ضعيف في الغالب ومحدود لدى كثير من الأشخاص وأكبر سبب في ذلك عدم امتلاك الاُمّة بصورة عامّة لغالبية العنصر الثالث وهو فهم المبدأ)[2].

كان هذا واقع الاُمّة الذي يتحدث عنه شهيدنا العظيم في الخمسينات 1950م ـ 1960م، نعتبر هذه الفترة هي بدايات التحرك السياسي لسيدنا الشهيد.

مشكلة عدم (فهم المبدأ) هي مشكلة الاُمّة إذن كما حددها الشهيد. وتنعكس هذه المشكلة على المجال السياسي فينتج (عدم الوعي السياسي) للظروف المعاصرة وتنعكس على المجال الديني فينتج (عدم الوعي الديني)، كما تنعكس المشكلة نفسها على القيادات الإسلامية، وعلى الرجال الطلائعيين الذين هم رجال الدين ـ فينتج (فقدان القيادة الواعية الرشيدة) و(فقدان الطليعة الواعية والرشيدة أيضاً). مشكلة الاُمّة هي مشكلة واحدة لكنها تنسحب على كلّ هذه الميادين.

نقطة البداية

ما هي إذن نقطة البداية في العمل؟

وما هي إذن طريق الحل لمشكلة الاُمّة؟

وحينما نتحدث عن الاُمّة فإنما نتحدث عن الشعب، والقيادة، والطليعة، كلهم جميعاً كانت المشكلة ماثلة فيهم كما سنرى.

كتب الصدر يقول:

(مسألة الاُمّة اليوم أن تقبل على تفهم إسلامها، ووعي حقائقه، واستجلاء كنوزه الخالدة، ليملء الإسلام كيان الاُمّة، وأفكارها، ويكون محركاً حقيقياً لها، وقائداً أميناً إلى نهضة حقيقية شاملة…).

ويتحدث في موضع آخر فيرى أن واقع الاُمّة المعاش لا يهيئها لأداء رسالتها العظيمة، والنهوض بنفسها أمام ركام من الضغوط والعداءات والمصالح الاستعمارية.

(لأن القائم بأداء رسالة يجب أن يحياها…

أمّا مسلموا اليوم فإن الدعوات الضالة المضلة قد استعبدت عقولهم وأرواحهم، وصرفتهم عن الإسلام إلى نهج في الحياة لا يلتقي مع الإسلام على صعيد، وتحول الإسلام في أنفسهم إلى شعور فردي مقطوع الصلة بالحياة…

ثمّ يحدد نقطة البداية للخروج من هذا المأزق فيقول:

(أن عليهم ـ المسلمين ـ لكي يكونوا خير اُمّة أخرجت للناس حقّاً أن يحققوا رسالة الإسلام في أنفسهم في واقع حياتهم وسلوكهم)[3].

لقد وضع السيّد الشهيد في البداية نهج حركته، كما تحرك عليه عملياً، لقد صب نشاطه الديني والسياسي في الميادين الأربعة. في ميدان الاُمّة من أجل توعيتها السياسية بواقعها المؤلم التعيس، وفي ميدان الاُمّة أيضاً من أجل توعيتها دينياً، وتبصيرها، بطريق الخلاص.

كما صب نشاطه في مجال القيادات الدينية الماثلة يومذاك من أجل تطويرها، وتنشيطها، ودفعها نحو قدر أكبر في التحرك. وفي مجال الحوزة العلمية من أجل خلق وتربية طليعة قيادية توجيهية جديدة، تحمل للاُمّة رسالتها، وتوقض فيها ضميرها.

التيارات الموجودة في الاُمّة

لقد تحدث الشهيد العظيم عن نقاط القوة في الاُمّة المسلمة، وكان أبرز تلك النقاط وحدة تركيبها الديني، فهي أمّة تتوحد في دينها، ومشاعرها، وأهدافها، وأخلاقها.

إلاّ أن الاُمّة المسلمة لم تتخلص من بذور غريبة عليها خلقت فيها أكثر من تيار غير إسلامي.

في العراق كان هناك تياران غريبان عن الإسلام، وعن محتوى الاُمّة الروحي، إلاّ أنهما نفذا إليها من خلال نشاطات مكثفة تمدها الأيادي الاُمّة.

كان هناك تياران يهددان مصير الاُمّة:

التيار الشيوعي، وما سمي في وقته بـ (المد الأحمر)، والتيار القومي الناصري نسبة إلى جمال عبد الناصر حاكم مصر يومذاك.

كان الاتحاد السوفياتي يمد (التيار الشيوعي الملحد). وكانت مصر عبد الناصر تمد (التيار القومي الناصري). والاُمّة يومذاك لم تكن تملك حصانة ضد هذين التيارين، رغم مخالفتهما للإسلام، لأن الاُمّة لم تكن واعية لإسلامها.

كما أن حكومة (عبد الكريم قاسم) في العراق يومئذ سمحت لهذين التيارين إلى حد كبير بالتحرك المفتوح، ضمن سياسة (توازن القوى). ولم تسقط الاُمّة المسلمة فريسة هذين التيارين، إلاّ أنهما استطاعا أحداث شرخ كبير في جسم الاُمّة، وتفتيت وحدتها، والعمل على مزيد من تناسيها وابتعادها عن رسالتها الإلهية الخالدة.

ضرورة المد الإسلامي

كانت الاُمّة ـ إذن ـ تفتقر إلى مد إسلامي جديد، تستطيع أن ترتفع به من وديان الركود والتخلف، كما تستطيع أن تتدرع به أمام التياران الضالة المحرفة.

وفي هذه المرحلة كانت هذه هي المهمة التي نهض باعباءها شهيدنا العظيم، وكان يمتد بهذه المهمة بمقدار ما امتدت به في الميادين السابقة التي أشرنا إليها.

مرحلة المد الإسلامي:

* الانطلاقه الاُولى

* تطوير القيادات

* الفكرة أوّلاً

* مضادات المد الإسلامي

* الصدر رائد حركة جديدة

* أيام حكومة البعث

الفصل الأوّل: الإنطلاقة الاُولى

كانت حركة جماعة العلماء هي الانطلاقة الاُولى في المد الإسلامي. والمعروف عن هذه الحركة أنها تأسست بعد انقلاب الرابع عشر من تموز لسنة 1958م.

وفي هذه الفترة بالذات كانت التيارات اللا إسلامية تمتد في جسم الاُمّة، وتحرف مسيرتها نحو التحرر الكامل من المستعمر الكافر. إن (جماعة العلماء) في النجف الأشرف أدركت مسؤوليتها، في تحصين الاُمّة المسلمة عن هذه التيارات الضالة، ورفع مستوى الوعي الديني في الاُمّة إلى الحد الذي تستطيع به أن تمارس تجربتها الإسلامية، بعد أن تحررت وطردت من بلادها الغزو الاستعماري الإنكليزي.

ليس من مقصدنا الوقوف طويلاً عند هذه الحركة، أهدافها، مؤسسوها، نشاطاتها، شروط العضوية فيها، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذه الجماعة، إنّها نهدف من خلال هذا العرض التعرف على أدوار السيّد الشهيد، ونشاطاته فيها.

الشهيد الصدر محور الحركة

سوف نتحدث بشكل سريع عن تحرك جماعة العلماء، وماذا حققت هذه الجماعة، إلاّ أننا في البداية نريد التعرف على موقع الشهيد منها.

(بالرغم من أن الشهيد الصدر لم يكن عضوا رسميا في الحركة؛ لأنه كان صغير السن بالنسبة إلى هذه الطبقة ـ طبقة العلماء المشتركين في الجماعة ـ وكان أخوة المرحوم آية الله السيّد إسماعيل الصدر أصغر الأعضاء في هذه الحركة، وكان الشهيد الصدر لا يتجاوز حينذاك السادسة والعشرين).

بالرغم من كلّ ذلك فإن الشهيد العظيم السيّد الصدر (كان يكتب جميع منشورات ومقالات جماعة العلماء ومعظم المقالات التي كتبت بعنوان رسالتنا…).

(كما أنّه كان يمثل عنصراً مهما في التحريك والتوجيه عن طريق إيمان خاله آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين به، ومعرفته بعلمه وفضله وذكائه وثقافته الإسلامية والعامة، وحسن تقييمه للأشياء)[4].

أليس معنى ذلك أن الشهيد الصدر كان هو محور الحركة كلها؟

وسوف تكون هذه الحقيقة آكد حينما نعرف أن السيّد الشهيد كان هو صاحب الفكرة، فكرة جماعة العلماء.

وإذا كان سماحة المرحوم الشيخ آل ياسين هو أبرز وأوجه عنصر في جماعة العلماء، وكنا نعرف مدى علاقة السيّد الشهيد به، إلى حد كانت آراؤه، ومقترحاته، وكلماته، غير مردودة، سندرك عمق تأثير السيّد الشهيد، ودوره في هذه الجماعة.

كانت اللجنة المشرفة لهذه الحركة عبارة عن ثلاثة أشخاص:

الأوّل: والذي كان أوجههم وأكبرهم سنا، أوجههم من حيث المقام الاجتماعي… هو المرحوم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين.

الثاني: ومعه كان أيضاً في اللجنة المشرفة المرحوم آية الله الشيخ حسين الهمداني.

والثالث: المرحوم آية الله الشيخ خضر الدجيلي[5].

الحركة ماذا حققت؟

من دون شك فإن الحركة أحدثت مدا إسلامياً في المنطقة. وكان هذا المد هو الصدمة التي أوقفت ـ إلى حد كبير ـ التيار الشيوعي الملحد، والتيار القومي المنحرف، وسائر الخطوط الصغيرة الاُخرى، عند حدودها.

وأكثر من ذلك فإن هذا المد استطاع أن يؤثر على سياسات الحكم القائم في العراق بشكل وآخر.

ونستطيع أن ندرك بوضوح عمق الأثر الاجتماعي والديني والسياسي لهذه الحركة، من خلال مواقف السلطة الحاكمة، ومواقف التيارات اللا إسلامية منها.

يكتب سماحة السيّد محمّد باقر الحكيم في مذكراته:

(أصبحت أجهزة الحكم في ذلك الوقت أيضاً تعارض جماعة العلماء وتشكل صعوبة رئيسية بالنسبة إلى جماعة العلماء، وقد وقعت مجموعة من الحوادث في العراق في مقاومة هذا العمل، ومن جملة هذه الحوادث التجاوز على بعض هؤلاء العلماء ومن جملتها اعتقال بعضهم الآخر).

(ثمّ لما تفاقم وجود التيار الماركسي.. اضطرت جماعة العلماء أن تنقطع عن طبع منشوراتها وأصداراتها، وبعد ذلك تم اعتقال مجموعة من الأشخاص اللذين كان يفترض أنهم يتعاونون مع جماعة العلماء..).

وأضاف في موضع آخر من مذكراته:

(إن البعثيين في العراق تنبهوا إلى خطورة التيار الإسلامي على وجودهم .. ولذا فقد شنوا حملة واسعة على مجلة الأضواء سنة 1960 في النجف الأشرف… وكان مركز هذه الحملة هو السيّد الشهيد الصدر، ومجموعة من العلماء، من جملتهم المتحدث).

أنّنا من خلال هذا التحرك المضاد ندرك الدور الرائد الذي قامت به الحركة. ونحن إذ نتحدث هنا عن نشاط الحركة فإنّما نتحدث إلى حد كبير عن نشاط السيّد الشهيد. فقد كانت كلّ النشرات، والبيانات الصادرة من جماعة العلماء بقلم السيّد الشهيد.

وكانت (رسالتنا) ـ وهي الكلمة التي تتصدر مجلة (الأضواء) التي تصدرها جماعة العلماء ـ كانت هذه الكلمة بقلم السيّد الشهيد، وهي على الإطلاق أفضل وأثرى موضوع حملته المجلة بالرغم من أن هذه الكلمة كانت تصدر باسم جماعة العلماء أيضاً.

كما كان المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين هو العضو المشرف على الجماعة، وكانت علاقة السيّد الشهيد به سمح له بالتأثير على الجماعة، وتوجيهها، من خلاله.

ملء الفراغ الفكري

وكما عمل السيّد الشهيد ضمن جماعة العلماء، فقد عمل مستقلاً لملء الفراغ الفكري. كانت الساحة الإسلامية ـ عموماً وفي العراق خاصّة ـ تشهد فراغاً فكرياً، الأمر الذي ساعد في سرعة امتداد التيارات اللا إسلامية.

وكانت كلّ المحاولات الاستعمارية تهدف إلى صهر الاُمّة في قلوب جديدة غير إسلامية، وتغيير حضارتها، واستبدال أخلاقيتها، كطريق للسيطرة عليها. ولم يكن قليلاً تأثير تلك المحاولات، فلقد تركت فجوة كبيرة بين الاُمّة وبين عقيدتها وإسلامها. هذه الفجوة هي التي تحمل السيّد الشهيد ومعه آخرون مسؤولية ملئها.

وفي هذا السبيل فقد كتب السيّد الشهيد أبرز مؤلّفاته الفكرية في هذه الفترة بالذات، وهي كتاب (فلسفتنا) وكتاب (اقتصادنا). ولقد كان لهذين الكتابين عطاءاً فكرياً وعطاءاً نفسياً معنوياً.

فمن ناحية فكرية استطاع هذان الكتابان أن يضعا بيد المثقف المسلم أداة الدفاع عن إسلامه المهدد، واستطاعا أن يقهرا الأفكار الملحدة واللا إسلامية التي غزت عقول المسلمين ومن الناحية النفسية المعنوية، فقد كانت الاُمّة تعيش حالة كبيرة من الانهيار المعنوي، وفقدان الثقة بحضارتها وإسلامها، الأمر الذي وضعها لقمة سائغة للأفكار الضالة.

أمّا كتابا (فلسفتنا) و (اقتصادنا) فقد أعاد للاُمّة المسلمة، وللشباب المسلم المستهدف من التيارات الغربية والشرقية، أعادت له ثقته بإسلامه العظيم، وجعلته مره اُخرى مطمئناً بأن إسلامه وعقيدته لا تقهر.

لنستمع إلى السيّد الشهيد وهو يتحدث في مطلع كتاب فلسفتنا:

(وفدت .. إلى أراضي الإسلام السلبية أمواج اُخرى من تيارات الفكر الغربي، ومفاهيمه، الحضارية، لتنافس المفاهيم التي سبقتها إلى الميدان، وقام الصراع بين تلك المفاهيم الواردة، على حساب الاُمّة، وكيانها الفكري والسياسي الخاصّ.

وكان لابدّ للإسلام أن يقول كلمته، في معترك هذا الصراع المرير، وكان لابدّ أن تكون الكلمة قوية عميقة، صريحة واضحة، كاملة شاملة، للكون، والحياة والإنسان، والمجتمع، والدولة، والنظام ليتاح للاُمّة أن تعلن كلمة الله في المعترك…

وليس هذا الكتاب إلاّ جزءاً من تلك الكلمة… وتتلوه الأجزاء الاُخرى، التي يستكمل فيها الإسلام علاجه الرائع، لمختلف مشاكل الكون والحياة).

أن من يعرف هذين الكتابين يعرف القيمة العلمية لهما.

وإن من شهد الساحة العراقية يعرف ما هو مدى تأثير هذين الكتابين في خلق التيار الإسلامي الأصيل، وصد التيارات الاُخرى. والقارئ يعرف أن عطاء هذين الكتابين لم يقف عند حدود الساحة العراقية، لقد شمل الاُمّة الإسلامية كلها، فكانا منعطفاً جديداً في حياة الاُمّة الفكرية والحضارية.

وإذا كان الحديث عن الساحة العراقية بالخصوص فمن الحقّ أن نقول أن التيار الإسلامي في العراق مدين لهذين الكتابين.

ففي وسط زحام الأوهام والشكوك والتضليلات، وفي عنف الصراع بين النظريات والأفكار التي تريد غزو الاُمّة المسلمة، كان كتاب فلسفتنا ثمّ كتاب اقتصادنا هما الملجأ والمفزع. وفوراً فقد أصبحا من الكتب الدراسية في أكثر من مجال. وفوراً كانت أنظار المسلمين تمتد إلى هذين الكتابين، وتعلق عليهما الأمل!

ثمّ قدم الشهيد العظيم كتاب (المدرسة الإسلامية) بجزئيه، الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية، وماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي، كما جمعت مقالاته في مجلة الأضواء وصدرت تحت عنوان (رسالتنا)، وكان لهذه الكتب الثلاثة الصغيرة فعلها في أوساط الشباب المثقف، الذين يعسر عليهم فهم كتاب فلسفتنا واقتصادنا.

وبعد إغلاق مجلة الأضواء ضلت هذه الكتب الإسلامية هي الرافد الفكري والمعنوي للاُمّة المسلمة التي تواجه أشد معركة فكرية وحضارية وسياسية.

ويتحدث السيّد الشهيد نفسه عن يقظة الاُمّة التي أعقبت هذا المد الفكري الإسلامي، فيقول:

(يسرني أن أقدم للطبعة الثانية لكتاب اقتصدنا وقد ازددت إيماناً واقتناعاً بأن الاُمّة قد بدأت فعلاً تنفتح على رسالتها الحقيقية التي يمثلها الإسلام…)[6].

والمد الفكري للسيد الشهيد لم يخص الوجود المثقف في الاُمّة، وإنما تناول المستويات القيادية، والعلمائية. وبهذا الصدد نقتطع ما سجلته لنا مذكرات سماحة السيّد محمّد باقر الحكيم عن جماعة العلماء، يقول:

(وأتذكر أن السيّد الشهيد الصدر كتب رسالة خطية في الاستدلال على مشروعية الحكومة ـ الإسلامية ـ وقد كنت أخذت هذه الرسالة وعرضتها على بعض المجتهدين المعروفين حينذاك من أجل تأكيد هذه الفكرة وتطويرها…

وقد كان يعتبر أن هذا التفكير قفزة في الفكر الفقهي حينذاك بعد أن انحسر الإسلام عن الحياة الاجتماعية وأصبحت هذه الفكرة غريبة، بدرجة أن الفقيه الكبير الشيخ ميرزا حسين النائيني وأصحابه اهتموا بجمع رسالته ـ جمعها من السوق لئلا تنشر ـ التي كتبها … لتأكيد مشروعية الحكومة الإسلامية ـ وكانت الرسالة قد نشرت باسم (المشروطة). وكان نشرها في مجلة العرفان اللبنانية يعتبر عملاً عدائياً له).

في تلك الفترة بالذات، كان الإمداد الفكري للسيّد الشهيد يمثل الفضلاء والعلماء من رجال الدين.

ويجب أن نتذكر بأن السيّد الشهيد في تلك الفترة كان صغير السن، إلى حد لم يشرك في جماعة العلماء كما تقدّم.

(وفي نفس تلك الفترة أيضاً كانت مجموعة من طلائع الحركة الإسلامية وأبناء جماعة العلماء قد وضعوا دستوراً إسلامياً، وكان الواضع له بالأساس السيّد الشهيد الصدر، ثمّ جرت مداولات مع بعض العناصر من أبناء السنة لمناقشة ورقة الدستور والاتفاق عليه…).

الفصل الثاني تطوير القيادة الإسلامية

الاُمّة التي تفقد قيادتها فإنما تفقد وجودها:

ولقد أسلفنا القول بأن مشكلة الاُمّة لم تخص القواعد الشعبية، فقد شملت حتّى القيادات الدينية المتمثلة بالمراجع العظام من الفقهاء.

ومن دون شك فإن (المرجعية) هي أفضل أطروحة عرفها التاريخ لقيادة  الشعوب، فالمرجع يرتبط بالاُمّة ارتباطاً وثيقاً يفرضه الشرع، كما ترتبط به الاُمّة بنفس الدرجة من الوثاقة بفرض الشرع أيضاً، والرابطة هنا هي رابطة (التقليد) للمرجع من ناحية ورابطة مسؤولية المرجع عن الاُمّة، ونيابته عن الإمام المعصوم ـ عليه السلام ـ في إدارة شؤونها من ناحية ثانية.

وليست هذه الرابطة رابطة شرعية جامدة، أنّها تنتقل إلى عواطف الجماهير ومشاعرهم، وتحكم العلاقة الأبوية بين المرجع وبينهم.

كما أن الجماهير التي تؤمن بالإسلام وبالتشيع خصوصاً في العراق ـ لا تجد بداً من الارتباط بقيادتها الدينية في ضوء الرابطة (التقليد) التي فرضها الشارع.

وحينما قلنا إنّها رابطة أبوية، تحكم العلاقة الشرعية الإسلامية في توطيد هذه العلاقة.

أننا نغفل عن الروايات الصحيحة التي يعرفها الشعب المؤمن من أمثال (النظر إلى وجه العالم عبادة) وهكذا فإن المرجع يفترض له شرعاً، وفي فهم الناس أيضاً مقام الأبوة الحنونة، ومقام القيادة الهادية والموجهة.

لقد أدرك السيّد الشهيد أن التحرك في وسط الاُمّة يجب أن يتم عن هذا الطريق، طريق المرجعية، وأن نهضة الاُمّة المطلوبة لا يمكن أن تستكمل شروطها إذا كانت فاقدة لقيادات دينية شجاعة وواعية.

ومنذ أمد طويل افتقدت الساحة العراقية ـ والكلام عن العراق بالطبع ـ هذا الطرز من المراجع! وكنتيجة لهذا الفقدان فأن أواصر العلاقة بين الشعب وبين القيادة الدينية بدأت بخط التنازل.

وفي ذات الوقت كانت محاولات مكثفة من أجل تكسير وتذليل هذه العلاقة بين الاُمّة وبين مراجع الدين، والتقليل من المقام الاجتماعي والديني لعلماء الدين، ومحاولة الفصل في النهاية بين الاُمّة وبينهم.

واشتركت في هذه المحاولات التيارات اللا إسلامية كلها، كما اشتركت في ذلك الحكومات القائمة على رأس السلطة، بكل أجهزتها ووسائلها الإعلامية والتربوية والتثقيفية!

ولسنا نريد أن نستعرض المسألة تاريخياً، أن ما يهمنا فعلاً ما يرتبط بالشهيد الصدر! أدرك الشهيد الصدر هذه الحقيقة، كما أدرك من قبل الدور الكبير الذي يناط بالمرجعية، والذي تستطيع المرجعية الدينية حقّاً أن تؤديه حينما تكون هي بمستوى موقعها!

كنا نتحدث عن الخمسينات 1950م ـ 1960م، وفي حينما المرجعية الدينية في العراق متمثلة بالمرحوم آية الله العظمى السيّد الحكيم، امتدت مرجعيته إلى آخر الستينات وكان السيّد الحكيم يتمتع بمرجعية نافذة إلى حد كبير في أوساط الجماهير مما يساهم في عملية التوجيه والقيادة.

ولم يكن الشهيد الصدر يومها مرجعاً، ولا مقلداً بارزا في الأوساط، نعم كان يبدو عليه أنه المرجع في المستقبل! وكانت هذه المقولة تتناقل بين معاصريه.

إذن كان أمامه طريقان للتحرك:

الطريق الأوّل: التحرك المنفرد، كما مارسه في كتاب فلسفتنا واقتصادنا وغيرها، من أجل تعبئة الاُمّة فكرياً، ومد وتغذية التيار الإسلامي الفتي يومذاك.

الطريق الثاني: التحرك من خلال علماء الدين، ومن خلال المرجعية، وهذا ما لاحظناه بوضوح في (جماعة العلماء).

والآن لننظر كيف كانت علاقته بالسيد الحكيم، وما هو حجم التأثير الذي فازت به نشاطات السيّد الشهيد من خلال هذه العلاقة.

يتحدث السيّد محمّد باقر الحكيم عن هذا الموضوع بالذات فيقول:

… (والشهيد الصدر ما كان يعتبر من طلاب السيّد الحكيم، ولا من المرتبطين به مرجعياً، لكن كان يتعاون مع السيّد الحكيم من خلال هذا الموقع، أي موقع تبني الفكر الإسلامي والخط الإسلامي.

كان يتعاون أكثر مما يتعاون أقرب الناس إلى السيّد الحكيم، ومن جماعة السيّد الحكيم.

كانت هناك أعمال بطولية للشهيد السيّد الصدر تعرض فيها للموت في سبيل هذا الخط).

وبمقدار ما كانت مرجعية الاُمّة، الحكيم ـ رحمه الله ـ تمتد وتؤثر في عمق الاُمّة، كان السيّد الشهيد يمتد في آثاره، وعطاءه عن هذا الطريق.

إلى درجة أن الشباب الذين يشعرون بالانتماء للسيد الحكيم يعني العلاقة به، يشعرون في ذات الوقت بعلاقة بالشهيد السيّد الصدر، كما تنقله لنا مذكرات الحجّة السيّد محمّد باقر الحكيم.

وقد تصور لنا بعض المسائل الجزئية الطريقة التي كان يتصرف بها السيّد الشهيد، ويحاول من خلالها الإفادة بتوجيهاته، وإيصال مقترحاته إلى حين العمل. في قضية قد تكون بسيطة، وهي حقّاً بسيطة، إلاّ أنّها معبرة يشرح لنا الشهيد نفسه كيف استطاع تقديم النصح، وبالتالي كسب النتيجة.

وتلك القضية هي قضية استقرار أحد العلماء الفضلاء بوصفه مبلغاً ووكيلاً عن السيّد الحكيم في منطقة (الكوت)، وكان السيّد الشهيد لا يرى في ذلك صلاحاً من حيث أن التحرك الإسلامي يومذاك في النجف الأشرف كان أحوج إلى هذا الشخص.

يكتب رسالة إلى هذا الشخص يقول فيها:

(وقد نجحت هنا بصورة غير مباشرة بتعبئة ذهن السيّد الأعظم دام ظله ـ يقصد السيّد الحكيم ـ بضرورة عدم بقائك في الكوت كعالم دائمي، إذ دفعت أولا الحاج ـ حذفنا أسمه ـ للتكلم معه مفصلاً كممثل لطبقة من الأصدقاء الذين يلتفون حول المرجعية، ثمّ اتفقت مع السيّد أبي نوري في أن يتحدث، وقد تحدث وأجاد، وإلى صف هذا وذاك تحدث السيّد الأخ أيضاً، وقد صرح السيّد بأنه لا ينوي إطلاقاً بل لا يرضى باستمرار مكثك كعالم دائمي في الكوت) من مراسلاته رحمه الله تعالى.

لقد كانت الوسائط، والطرق غير المباشرة، هي منهجه في الأغلب ـ للتأثير، وتقديم النصح، سيما إذا كنا نتحدث عن نشاطه مع مرجعية السيّد الحكيم، ورغم أن علاقته بالسيد الحكيم رحمه الله لم تكن ضعيفة إلاّ أنه لم يكن صحيحاً أن تسمع الآراء دوماً من طرف واحد، أن التأثير الأفضل هو الذي تؤدي إليه طرق أكثر، والرأي الرابح هو المدعم بأكثر من صوت ـ وهكذا كان السيّد الشهيد يستفيد من علاقاته الخاصّة مع أطراف المرجعية، والمقربين إليها، ليضعها في خدمة القضية الإسلامية.

ونحن نتذكر أن علاقة أخوية كانت تجمع بين السيّد الشهيد والسيّد محمّد باقر الحكيم، وعن هذه العلاقة كانت تصل إلى مسامع السيّد الحكيم رحمه الله اقتراحات، وتصورات متعلقة بمختلف الشؤون الإسلامية.

نذكر من ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما وجدناه في مراسلة بين السيّد الشهيد والسيد محمّد باقر الحكيم، يتحدث فيها عن مجلة الأضواء الصادرة عن جماعة العلماء سنة 1960م فيقول:

(إن هذه الأداة التي تغزو في هذا النطاق ـ الواسع ـ ناهيك عن أثرها في داخل العراق لجديرة بالاهتمام مهما كانت ضعيفة الآن. فليقال لمقام سيدنا ـ السيّد الحكيم ـ دام ظله، افترضوا أن كتاباً إسلامياً يطبع على نفقتكم في كلّ سنة، وأن فائدة الأضواء أكثر من الكتب بكثير، وليقال له:

أن نور الأضواء نفذ حتّى إلى القرى التي استطاعت أن تصل إليها في لبنان)

من مراسلاته رحمه الله

لقد كان السيّد الشهيد يعرف للمرجعية مسؤولية عالمية، وإذن فلابدّ أن يكون لها موقع عالمي أيضاً، يتجاوز الحدود الإقليمية، والوطنية! وموقعها هذا.

تذكرنا بعض مساعيه ـ أو بالحقيقة ما وجدناه في بعض مراسلاته القليلة لدينا ـ بما قدمه في هذا

المجال أيام مرجعية السيّد الحكيم رحمه الله، وهو فيما سنعرضه من أمثله لم يقدم، وإنّما كان يدرك مسؤوليته ومهمته، ويحاول أن يقدم في حدود ما تسمح به طاقة البشر من مثله، وفي ظروفه.

يتحدث في رسالة كتبها ـ وقد كان مسافراً إلى لبنان ـ إلى بعض أصدقاءه يقول:

(اكتب إليكم هذه السطور، وقد شعرت بالرغم من الآلام التي لا تطاق بشيء من الارتياح نتيجة لإيصال بيان سيدنا الأعظم السيّد الحكيم ـ عن حريق المسجد الأقصى.

وقد كنت أفكر في إرسال رسول لهذا الغرض).

فهو يفكر في إرسال رسول من أجل ربط المرجعية بالعالم، كما ربط العالم بالمرجعية.

وفي رسالة اُخرى كتبها من لبنان أيضاً، يتحدث فيها عن وضع الشيعة في سوريا، فيقول:

(… وسمعنا هناك… ما يفتت الأكباد من وضع الشيعة في الشام بسبب تصرفات حذفنا اسمه ـ، نكسة الكيان الشيعي هناك وتفتته وتشتت كلمة الطائفة، وبالتالي نكسة كيان سيدنا دام ظله ـ السيّد الحكيم ـ هناك بسبب ألوان من التصرف التي أجد من الوظيفة الشرعية لزوم التحقيق بشأنها وإيصال خبرها إلى السيّد الحكيم ـ لئلا يضيع الكيان الشيعي بعد جهود مئات السنين في الحفاظ عليه ورص صفوفه.

وقد طلبت من ـ حذفنا اسمه ـ أن يكتب للسيد يحدثه بذلك، … وظهر لي أنه ينوي الكتابة…).

وإننا أمام هذه الملاحظات على صغرها ندرك مدى اهتمام السيّد الشهيد بتطوير القيادة الإسلامية، الماثلة في المرجعية، ومن دون شك فإن محاولاته، ونشاطاته، في هذا السبيل كانت تحظى بقدر كبير جداً من النجاح.

والآن وقد دخلنا ـ ولعله من دون قصد سابق ـ في شرح نشاطات السيّد الشهيد أيام مرجعية السيّد الحكيم فإنا نذكر بموضوعين هامين:

الموضوع الأوّل

نشاط الشهيد يوم ساءت العلاقة بين السيّد الحكيم وبين حكومة البعث. ففي سنة 1969م قرر السيّد الحكيم ـ رحمه الله ـ إصدار بيان يهدد فيه حكومة البعث بعد تجاوزاتها، ومواقفها الخيانية اللا إسلامية، يهددها بالإعلان عن موقف المرجعية للشعب المسلم، وبداية المواجهة الصريحة بين المرجعية بكل ثقلها ووجودها الشعبي، وبين حكومة البعث، الهزيلة يومذاك، والتي لا تملك من الرصيد الشعبي شيئاً.

وقد عقد أضخم اجتماع جماهيري، ولأوّل مرة في تاريخ المرجعية، في الصحن الحيدري الشريف، وكانت الدعوة باسم السيّد الحكيم، والبيان صادر باسمه أيضاً.

ويمكن القول أن الدعوة إلى هذا التجمع الحاشد، ثمّ إعلان بيان المرجعية الذي يخاطب حكومة البعث مباشرة، ويندد بالجرائم التي ارتكبتها، ثمّ يهدد باتخاذ موقف حاسم من قبل المرجعية التي يدين لها الشعب العراقي بالولاء، يمكن القول أن هذه البادرة كانت بداية المواجهة الحقيقية والمباشرة بين المرجعية وبين السلطة الحاكمة في بغداد، ولئن لم نقبل أن تكون هذه هي البداية فلتكن هي الإرهاصات الاُولى للمواجهة.

وهنا نذكر بأن السيّد الشهيد كان له دور فعال وأساسي في طبخ الفكرة، والسعي لإقناع السيّد الحكيم ـ رحمه الله ـ بها. كما أن البيان الذي قرأ فيها كان بقلم السيّد الشهيد نفسه.

وقد لا نعطي لهذه الفقرة الصغيرة حجماً، ولا أهمية، لكن يجب أن يكون معلوماً أن مثل هذا العمل يعتبر في حسابات المرجعية عملاً ضخماً للغاية.

بيان يكتب باسم المرجعية ويعلن للناس باسمها أيضاً والذي يقرأه على الناس هو ابن المرجع العام، ويقرأ البيان في أضخم حشد جماهيري، في الوقت الذي يمثل البيان أوّل إنذار، وأشد إنذار لحكومة البعث الطاغية.

إن مثل هذا العمل يدلل على عمق الأثر الذين كان يملكه السيّد الشهيد في مرجعية السيّد الحكيم، كما يدلل على مدى التلاحم بين مرجعية السيّد الحكيم وبين السيّد الشهيد إلى الحد الذي يكون بيان السيّد الشهيد هو بيان المرجعية نفسها، ولا يستبدل بغيره.

الموضوع الثاني

بعد أن تأزمت العلاقة بين حكومة بغداد وبين السيّد الحكيم، وتفاقمت المواجهة، وخصوصاً بعد أن وجهت حكومة بغداد ضربة قاسية للسيد الحكيم حين نسبت إلى نجله سماحة الحجّة السيّد محمّد مهدي الحكيم تهمة الارتباط والتعاون مع بعض العناصر المشبوهة. وذلك بعد أن قدم الحجّة السيّد مهدي الحكيم مذكرة احتجاجية باسم علماء بغداد يحتج بها على مجمل الأعمال الإجرامية التي تقوم بها حكومة البعث في العراق.

هنا رأى السيّد الشهيد أن المرجعية أصبحت مهددة، وأن حكومة البعث تستهدف تحطيم هذا الكيان، وهو يدرك جيداً أن المسألة ليست مسألة أشخاص بمقدار ما هي مسألة إسلام.

إن الكيان الشيعي والإسلامي في العراق أصبح تحت رحمة أيادي البعث الكافر، وما تزال المسألة في البداية فأن تداركها ممكن، أمّا إذا تفاقمت فإن فرصة التدارك سوف تفوت ولن ترجع

أصر السيّد الشهيد على السفر إلى لبنان، ليباشر من هناك الحملة الإعلامية المضادة لحكم البعث، والتي تندد بجرائمه في محاولة لمواجهة تحرك المرجعية الدينية ضد حكومة البعث وضمن سلسلة من الاتهامات الكاذبة، والمزورة ضد كلّ قوى المعارضة في الساحة العراقية بمختلف اتجاهاتها تجاه المرجعية.

نترك القارئ مع نص الرسالة التي كتبها السيّد الشهيد ـ وهو في لبنان ـ لأحد أصدقاءه، حول الموضوع.

أكتب إليكم هذه السطور بعد أسبوعين كاملين من دخول لبنان، وأود أن أعطيك صورة عن الموقف في حدود رؤيتي له، وأشعر بأن وجود صورة لك عن الموقف شيء مفيد على خط العمل.

لا أدري كيف أصنف الحديث:

أتصور أني أبدأ بما تم من عمل ثمّ أتحدث لك عن الموقف بشكل عام ثمّ عن المشاكل والمكاسب.

أمّا ما تم عمل فهو كما يلي:

أوّلاً: خطاب استنكار وقع عليه حوالي أربعين عالماً.

ثانياً: ملصقة جدارية ألصقت في كثير من المواضع في بيروت تطالب بإنقاذ النجف.

ثالثاً: برقيات طيرها أبو صدرى ـ السيّد موسى الصدر ـ إلى جميع رؤوساء وملوك الدول العربية والإسلامية باسم المجلس الشيعي الأعلى يشرح فيها لهم المأساة، ويستنجد بهم، وقد جاءه الجواب حتّى الآن من جمال عبد الناصر، وفيصل، والارياني الرئيس اليماني….

وقد أرسل أبو صدرى برقية إلى الشيخ محمّد الشريعة، وتلقى منه رسالة وبرقية ويقول في الرسالة أن الشعب الباكستاني، رئيساً وعلماء شيعة وسنة كلهم هزتهم المأساة التي اعتبرها الجميع ضربة للإسلام… كما ينقل ان المودودي وجملة من السياسيين السنة قاموا باستنكار الموضوع وأعلنوا تأييدهم المطلق للنجف….).

ثمّ يتحدث السيّد عن الموقف بشكل عام، ويعقبه بالحديث عن المشاكل والمكاسب فيقول:

(الشارع الشيعي في بيروت مكهرب بالقضية وكذلك الإنسان الشيعي في لبنان بشكل عام، بالرغم من نشاطات البعثيين… والسفارة العراقية في بياناتها المتعاقبة حول الموضوع تكشف عن شعورها بعمق المشكلة وعن اضطرارها إلى شيء من المداورة واصطناع أساليب المجاملة).

يتحدث عن تخطيطه في العمل فيقول:

(هناك اُمور

أوّلاً: منذ البداية كنت أشعر أن عقد مؤتمر صحفي يحضره جماعة من الطلاب اللبنانيين النازحين ويتحدثون عن مرجعية السيّد ـ وتسلسل الأحداث بالأرقام شيء مهم جداً، ولكن المؤلم أن كلّ هؤلاء الذين تقاطروا وكان من المأمول أن يقوموا بشيء امتنعوا من ذلك..

ثانياً:  كنت أحس بأن توسيع نطاق العمل الدعائي للقضية بتركيز مقام السيّد وإبراز خيوط المأساة، وتحريك الضمير الشيعي إلى أبعد حد أمر ممكن جداً، وقد كنت أصر على الأخوان أن يواصلا العمل الذي بدأوه بالملصقة الجدارية، والتي كانت هي المحرك الحقيقي للجماهير، وأن يهيئوا لجنة شعبية تكون قوّة عاملة وتنفيذية لتوسيع نطاق العمل الدعائي، ولكن الجماعة لم يستجيبوا.. وهكذا شعرت أن من الضروري العمل المستقل، واتفقت على ذلك مع السيّد ـ حذفنا اسمه ـ وكان توسيع نطاق العمل الدعائي يتم في نظري على حقلين، أحدهما الشارع باللافتات والملصقات وصور السيّد ونحو ذلك. والآخر الصحف بتركيز الاتفاق مع عدّة معلقين لإلزام قضية النجف في تعليقاتهم…).

ثمّ يشرح السيّد الشهيد كيف مضى في العمل على هذين الحقلين إلى آخر الرسالة.

ولم يكن السيّد الشهيد وهو يؤدي هذه الأدوار الضخمة في مواجهة حكومة البعث مصمماً على البقاء في لبنان، كان تصميمه على العودة المؤكدة. وهذا ما دعى السيّد الحكيم ـ رحمه الله ـ إلى القول بأن عودة السيّد الصدر إلى العراق تعني تعرضه لخطر الموت، ولذا فإنه قد لا يكون من المصلحة أن يعود بسبب ما يعرف من واقع نشاطه الكبير من أجل القضية.

إلاّ أن السيّد الشهيد كان يرى ضرورة عودته لمواصلة العمل في العراق، ويحدث هو شخصياً بأنه لدى رجوعه من لبنان عن طريق الخطوط الجوية، سلّم ـ وهو في الطائرة، وقبل الوصول إلى بغداد ـ ما لديه من أموال إلى أحد مرافقيه فقد كان يتوقع القاء القبض عليه فور هبوط الطائرة في بغداد، ولكن ذلك لم يحدث.

وتنقل إلينا مذكرات جماعة العلماء أن السيّد الشهيد قال ـ عقيب المواجهة بين حكومة البعث والسيد الحكيم.

(أنّه لا ينبغي علينا أن نسكت في هذا الموضوع، وقال نحن مشتركون جميعاً في المسؤولية.

يجب علينا أن نصدر بياناً، ونوقع عليه جميعاً، ونشجب به هذا الوضع الحكومي، ونقدمه إلى الحكومة).

أعتقد أن نقل هذه الأحداث لا يحتاج إلى تعليق للتعريف بمستوى نشاط السيّد الشهيد السياسي في تلك الفترة الحاشدة بالأحداث.

أمّا في مجال الحوزة فلعل أبرز نشاط للسيد الحكيم ـ رحمه الله ـ كان، هو (الدورة) التي تعني مدرسة علمية تنظم فيها الدراسات الحوزوية الدينية على شكل سنوات دراسية، ويلتزم فيها الطلاب من قبل أساتذة أكفاء يشرفون على وضعهم العلمي والتربوي.

ولم يكن هذا المشروع قليل الأهمية في وسط كانت الفوضى الدراسية، وحالة الاضطراب واللانظام وضياع الجهود، هي الحالة السائدة في الحوزة العلمية.

لقد استطاعت (الدورة) أن تنجز الكثير في مجال تنمية القابليات العلمية للطلبة، وفي مجال جذب الشباب المثقف إلى مجال الدراسات العلمية الدينية.

كانت أيادي السيّد الشهيد ـ رحمه الله ـ وراء هذا المشروع وفيما عدا أن هذا المشروع بالأصل كان من مقترحاته، فإن الأستاذة الذين مارسوا التدريس فيها ـ الدورة ـ كلهم أو معظمهم، والعناصر الناجحة فيهم، كانوا من تلامذة السيّد الشهيد.

كما كان كتاب (فلسفتنا) و (اقتصادنا) هي الكتابين الدراسيين في مجال الفلسفة والاقتصاد الإسلامي. وحين لوحظ بعد وفاة السيّد الحكيم، أن أيادي السيّد الصدر هي التي تسيّر هذا المشروع وتوجهه: أغلقت نتيجة بعض الحساسيات والصراعات الحوزوية.

ولم ننس بعد دور جماعة العلماء ونشاطاتها، التي كانت تعمل بالطبع تحت ظل مرجعية السيّد الحكيم ـ وقد أسلفنا الحديث عن حجم نشاط السيّد الشهيد فيها، ومدى إسهامه في إنجازاتها.

وإذا تساءلنا عن مدى تقييم مرجعية السيّد الحكيم للسيد الشهيد فإنه يكفينا أن نذكر هذا الموضوع: لدى سفرة السيّد الحكيم إلى لندن للعلاج كان يقترح اصطحاب السيّد الشهيد معه، وكان يرمي من وراء هذا الاقتراح إلى بعد إسلامي عظيم، هو دراسة وضع المسلمين في المنطقة، والتخطيط للعمل الإسلامي هناك، ثمّ التخطيط للعمل الإسلامي في المنطقة الأوربية عموماً.

ولو نسترجع بذاكرتنا المستوى الواطئ الذي كانت تعيشه الحوزة العلمية في طريقة تفكيرها، كما في حجم همومها، وأبعاد حركتها، لعرفنا ما يحمله التفكير في العمل الإسلامي في المنطقة الأوربية من عظمة، ثمّ ما يحمله اقتراح اصطحاب السيّد الشهيد للمنطقة من معنى كبير يتعلق بشخص الشهيد ـ رحمه الله .

هذه رؤوس نقاط حول الموضوع، وإننا إذ نسطرها هنا لا نغفل عن الصراعات الحوزوية، والحساسيات وأعمال النفاق التي كانت تواجه وتعرقل نشاطات السيّد الشهيد.

ومتى عرفنا حجم تلك الصراعات والمضايقات، وأعمال النفاق أيضاً، وعرفنا مدى عمقها وخطورتها، فإننا سنعرف مدى الصعوبة التي عاناها السيّد الشهيد، ثمّ ضخامة الإنجازات التي حققها نسبة إلى تلك الملابسات والتعقيدات الحوزوية.

الفصل الثالث الفكرة أوّلاً

دائماً أو هذا هو المفروض تكون الأفكار هي البداية. وليس من مقصودنا هنا أن نستعرض أفكار السيّد الشهيد السياسية والاجتماعية وإنّما نهدف إلى عرض صورة عن أفكاره، وهمومه، وتطلعاته، وهو ما يزال في المراحل الاُولى من نشاطه.

وفي الوقت الذي كان تفكيره على مختلف الأصعدة، والحوزة والقيادة، فإن تفكيره في الجميع كان تغييرياً، لأنّه كان يجد في كلّ تلك المجالات تخلفاً كبيراً عما تتطلبه الساحة.

ولم يضق صدره الوسيع عن حمل كلّ الهموم، سواء هموم المنطقة أو هموم الإسلام والمسلمين في كلّ العالم.

كيف كان يفكر على صعيد الاُمّة؟ وكيف كان يفكر على صعيد مدرسة النجف (الحوزة)؟

ليس المهم فقط هو تعبئة الاُمّة فكرياً، وإسلامياً، فإلى جنب ذلك في الأهمية إثارة المشاعر والعواطف الإسلامية، وإلى جنب ذلك أيضاً تحسيس الاُمّة بواقعها الإسلامي، والسياسي، وتعريفها بموقعها القديم والحاضر، وما ينبغي أن تحتله من موقع.

إذن تعبئة الاُمّة فكرياً، وعاطفياً، وسياسياً هو ضرورة مرحلة ما قبل المواجهة، مرحلة الأعداد للمواجهة.

وإذا كان السيّد الشهيد قدم الكثير في المجال الفكري، فإنّه لم ينس الدور الفعال الذي تلعبه العواطف الموجودة في الاُمّة، لقد تحدث عن هذا الموضوع في مقالات رسالتنا، فقال:

(السياسة العامّة للدعوة الإسلامية تجاه العواطف الموجودة في الأمّة هي استثمار ما كان منها إسلامياً لحساب الرسالة، وللدفاع بها إلى الإمام في معركتها مع الكفر القائمة في كلّ مكان.

والتعالي بالاُمّة عن العواطف المنخفضة وكنس ما يوجد لديها من عواطف ذات طابع فكري معارض للإسلام، وتبديلها بعواطف صحيحة تدور في فلك الرسالة الإسلامية)[7].

وبوحي هذه السياسية كان السيّد الشهيد يرسم نشاطه السياسي. ونستطيع أن نذكر كشاهد على هذه النقطة بالذات الاقتراح الذي قدمه السيّد الشهيد، وتحمل مسؤولية تبنيه وتنفيذه، وهو اقتراح مرتبط بالمواكب الحسينية.

فقد كان يفكر السيّد الشهيد في ضرورة الاستفادة من هذه الفرصة الضخمة، والتواجد الجماهيري، والتصاعد العاطفي، والولاء الديني الذي تكتنفه المواكب الحسينية في أيام أربعين الحسين ـ عليه السلام ـ خصوصاً وغيرها على العموم.

كان اقتراح السيّد الشهيد ـ وقد كان ذلك أيام حكومة عبد الكريم قاسم (1958م ـ 1963م) ـ بتوجه مجموعة من رجال الدين، وطلاب العلوم الدينية، إلى هذه المواكب، وإلقاء البيانات عليها، كبداية تدريجية لاحتضان هذه المواكب، وبالتالي احتضان الجماهير. وقد باشر هو شخصياً بكتابة أربعة من البيانات بخط يده.

كما أن التعريف بالواقع السياسي هو الشطر الآخر من مهمة السيّد الشهيد في الحدود المتاحة له.

ففي وقت كانت الاُمّة تغرق في سبات سياسي، كان السيّد الشهيد يذكرها ويوقظها حول واقعها المرير. ومنذ البداية وفي فترة الستينات ـ التي هي بداية نشاط الشهيد ـ كان يحمل هذه الرسالة إلى شعبه وأمّته.

لقد تحدث لهم مرة عن فلسطين قائلاً:

(… واليوم، وهذه حالة المسلمين في تفرقهم وتشتتهم، وتوزع عقولهم، وقلوبهم، تقوم في قلب العالم الإسلامي، في فلسطين، جماعات من الناس لا يجمع بينها وطن، ولا لغة، ولا ثقافة، ولا عادات، ولا تقاليد..

شراذم تجمعت من قارات الدنيا كلها، تريد أن تبني لنفسها وجوداً مستقلاً…

هؤلاء هم اليهود، وهم ماضون في تجربتهم هذه مصرون عليها… هذه التجربة تضع المسلمين وجهاً لوجه أمّام قضية وجودهم كمسلمين، ومصيرهم كمسلمين…)[8].

كانت أعماله تهدف إلى ربط المسلمين بعضهم ببعض، وأشعارهم بوحدة وجودهم، ووحدة مصيرهم لقد تحدث لهم في مناسبة اُخرى عن موقف حكومة إيران السابقة ـ حكومة الشاه ـ من فلسطين، أثر اعتراف الشاه بدولة إسرائيل.

أن تعريف الاُمّة بواقعها السياسي هو جزء من مهمة تعبئة الاُمّة التي كان يهدف إليها السيّد الشهيد وفي أبحاث تأتي إن شاء الله سنشرح كيف عمل السيّد الشهيد على تعبئة الاُمّة، وما هي نشاطاته في هذا المجال.

2ـ تربية الطليعة

الحوزة التي يفترض أن تكون مركز الإشعاع للعالم الإسلامي، كله، لم تكن هذه الحوزة مستجمعة لشرائط الكمال، بل لم تكن بالشكل الذي ينبغي أن تكون.

وقد عاصر السيّد الشهيد هذا الواقع المؤلم في الحوزة العلمية، وكان يمتعض ألماً، ويتحرق هماً للمأساة التي تعيشها الحوزة حقّاً يمكن أن نسميها (مأساة)!

لم تكن الحوزة بمستوى أهدافها، وموقعها، لأنها لم تكن تعرف ما هي أهدافها وما هو موقعها.

ولم يكن الجانب العلمي فيها وحده هو الضعيف، لقد كان الجانب الأدبي فيها والأخلاقي أضعف.

فأخلاقية الرجل الرسالي المبدئي هابطة فيها إلى درجة لصفر، فيما إذا استثنينا قطاعات قليلة، أو قل أفراد قلائل.

كما أن أخلاقية الرجل المسؤول والموجه مفقودة هي الاُخرى، اللهم ما عدا بعض القطاعات أو قل بعض الأفراد أن شئت.

التخلف في وعي القضية الإسلامية، والتخلف في فهم أبعاد الرسالة الإسلامية هو الواقع الذي كانت تعيشه الحوزة العلمية!

ويجب أن ندرك بأن هذا الواقع المأساوي ينعكس بنتائجه لعرقلة نشاط كلّ العاملين، والواعين، ويحاول أن يخلق أمامهم السدود والموانع.

وكثيرون ـ لعله ـ هم الذين حملوا هم الإصلاح، إلاّ إنهم لم يكونوا قادرين على تجاوز تلك السدود والموانع التي صنعت لهم.

ومن عاش أوضاع الحوزة العلمية يدرك كم هي قاسية تلك المواجهات التي يصطدم بها من يحاول الإصلاح حقّاً!

وهنا كان السيّد الشهيد، لقد كان حجّم المأساة واضحاً لديه، وإذا كان يفكر جاداً في النهوض بالاُمّة المسلمة فيجب أن يفكر بنفس الجد في إصلاح (الحوزة) والنهوض بها، لأنها الطريق إلى نهضة الاُمّة لا غير!

ومنذ الأيام الاُولى لنشاطات السيّد الشهيد كان يدرك مسؤوليته في التصحيح ـ ما أمكن ـ من هذا الواقع الحوزوي. وطبعاً فإن أكثر من حجر سيوضع في طريقه وقد وضع، لكنه كان وطيد العزم بتجاوزه، والقدرة على اقتحامه.

في رسالة للسيد الشهيد كتبها لأحد أصدقاءه وتلامذته سنة 1380هـ، يعطينا لمحة عن هذا الواقع، كما يعطينا صورة مصغرة عن صنوف المعارضات التي واجهته منذ البداية وإلى النهاية.

في تلك الرسالة يتحدث عن مجلة (الأضواء) التي كان يمثل في الواقع روحها الحي فيقول:
(أمّا واقع الأضواء هنا فهو واقع المجلة المجاهدة في سبيل الله غير أن حملة هائلة على ما أسمع شنها جملة من الطلبة ومن يسمّى بأهل العلم، أو يحسب عليهم.. وهي حملة مخيفة، وقد أدت على ما قيل إلى تشويه سمعة الأضواء في نظر بعض أكابر الحوزة حتّى كان جملة ممن يسميهم المجتمع الآخوندي (مقدّسين) أو وجهاء لا يتورعون عن إلصاق أشنع التهم بالأضواء وكلّ من يكتب فيها.

ولا أدري ما هو مصير هذه الحملة؟ بل بالأحرى ما هو مصير هذه الحوزة التي تعيش على هذا الوضع… والواقع أن وضع الحوزة أصبح في أعلى درجات السوء، بحيث إن الإنسان يخشى من محاسبته على التنفس، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله).

تحت وطأة هذه الضغوط، وثقل هذا الركام المستبد في اخلاقيته، وطريقة تفكيره، كان يجد السيّد الشهيد ضرورة التحرك، التحرك من أجل الإصلاح، من أجل تربية جيل جديد من علماء الدين يعرف موقعه من العالم كما يعرف مسؤوليته، ويحاول البلوغ إلى مستوى أدائها.

ولم يكن هذا الأمر ضرورياً من أجل الاُمّة وحدها، لقد كان ضرورياً ـ كما لاحظ السيّد الشهيد ـ من أجل المرجعية أيضاً.

فالمرجعية الواعية لا تستطيع أن تعمل، وأن تنجح في عملها، إلاّ من خلال طليعة واعية، فنحن بمقدار ما نحرص على التصعيد في درجة وعي القيادة، بنفس الدرجة يجب أن نحرص على تصعيد الوعي لدى الطليعة.

هكذا تحدث الشهيد العظيم، والمصلح العظيم:

(أمّا فكرة العمل المسبق على قيام المرجعية الصالحة فهي تعني أن بداية نشوء مرجعية صالحة تحمل الأهداف الأنفة الذكر تتطلب وجود قاعدة قد آمنت بشكل وآخر بهذه الأهداف في داخل الحوزة، وفي الاُمّة، وأعدادها فكرياً وروحياً للمساهمة في خدمة الإسلام وبناء المرجعية الصالحة.

إذ ما لم توجد قاعدة من هذا القبيل تشارك المرجع الصالح أفكاره وتصوراته وتنظر إلى الاُمور من خلال معطيات تربية ذلك الإنسان الصالح لها يصبح وجود المرجع الصالح وحده غير كاف لإيجاد المرجعية الصالحة حقّاً وتحقيق أهدافها في النطاق الواسع.

وبهذا كان لزاماً على من يفكر في قيادة تطوير المرجعية إلى مرجعية صالحة أن يمارس هذا العمل المسبق بدرجة ما، وعدم ممارسته هو الذي جعل عدداً من العلماء الصالحين بالرغم من صلاحهم يشعرون عند تسلم المرجعية بالعجز الكامل عن التغيير لأنهم لم يمارسوا هذا العمل المسبق، ولم يحددوا مسبقاً الأهداف الرشيدة للمرجعية والقاعدة التي تؤمن بتلك الأهداف)[9].

وحينما كان السيّد الشهيد يفكر في مد التيار الإسلامي وتوسعته، لم يكن ينسى في نفس الوقت تطوير وتنمية الخط الواعي في الحوزة، كما أنه حين كان يهتم بهذا الجانب لم يكن ينسى المصالح الإسلامية وامتدادتها في جسم الاُمّة.

ويشير الشهيد إلى أنّ هناك علاقة تبادلية بين الأمتدادين، فامتداد الوجود الحوزوي الواعي في جسم الاُمّة، هو امتداد وتثبيت له في جسم الحوزة.

السيّد الشهيد يسجل هذه الملاحظة، في مراسلة حول ذهاب أحد أصدقاءه وتلامذته مبلغاً في مدينة (الكوت) في العراق.

يقول فيها:

(وإني في نفس الوقت الذي أغرق أحياناً في مشاعر الوحشة، أحس من ناحية اُخرى بأمل كبير، وهو أمل افتتاح الوجود الواعي في الحوزة للكوت. فإن الوجود الواعي في الحوزة كلما أتسع نطاق اتصاله، وآفاق علاقاته، أزداد تركزاً في نفس الحوزة وتضاعفت قدرته على أداء رسالته الكبرى للحوزة وللاُمّة عموماً.

وأريد بهذا أن أقول: أن محاولة افتتاح منطقة جديدة كالكوت روحياً ودينياً من قبل أحد أفراد الوجود الواعي في الحوزة لا يعتبر مكسباً إسلامياً بلحاظ الكوت فحسب، بل يعتبر مكسباً للوجود الواعي بلحاظ النجف والحوزة أيضاً، إذ يزداد هذا الوجود الواعي هيبة ورصيداً في داخل الحوزة بسبب هذه الإمتدادات الأفقية لكن بشرط أن لا يعوق هذا الامتداد الأفقي عن الامتداد في الخط الأمامي الذي يسير عليه الوجود الواعي في داخل الحوزة.

فالامتداد الأفقي مكسب كبير للنواة الواعية في داخل الحوزة، لكن على أن لا تكون على حساب الامتداد في الخط الأمامي بل إلى جانبه).

الفصل الرابع مضادات المد الإسلامي

في المعادلة السياسية يجب أن نحسب حجم المضادات، كما نحسب فواعل المد الإسلامي، فمن أجل تقييم مدى النجاح الذي أحرزه المد الإسلامي لابدّ أن نضع بالحسبان ما هي المضادات التي كانت تصد أو تحاول أن تصد هذا المد.

باختصار نذكر الوضع ما قبل حكومة البعث سنة 1968م، كانت كلّ الأحزاب التي لا ترتبط بالإسلام تقف مضادة للمد الإسلامي، وتشعر أن وجودها مهدد بالخطر، وأن نمو الشعور الإسلامي الأصيل في المنطقة إنّما هو على حساب وجودّاتها.

كان هناك الشيوعيون، والقوميون، والبعثيون. وهؤلاء جميعاً كان النشاط الديني في المنطقة صدمة عنيفة أمامهم، ولذا فان وقوفهم جميعاً أمام المد الديني لا يعتبر أمراً غريباً.

ونحن نعرف أن حكومة عبد الكريم قاسم قد أعطتهم فرصة التحرك للوقوف بوجه التيار الديني.

أمّا حكومة قاسم المرتبطة بالاستعمار فإنها لم تجد مصلحتها السماح للمد الإسلامي بالنمو والتفاقم، وهي تعلم مدى قدرة هذا التيار على الاستقطاب الجماهيري، سيما وأن المرجعية هي التي تحتضنه، ويومذاك كان للمرجعية وجوداً شعبياً عريضاً في الساحة.

لقد كان هذا الوجود الشعبي للمرجعية، وامتدادات الوجود الديني، بكل العواطف والمشاعر التي تملأ وتوحد أبناء المنطقة، كان هذا شوكة في طريق الحكومة، لا تعطيها حرية التحرك.وإذا كانت الحكومة بشكل علني ومباشر لا تستطيع أن تضرب هذا الوجود الديني العريض، فإنها اختارت البديل المناسب لذلك، وهو إعطاء الضوء الأخضر للحركات اللا إسلامية في المنطقة لضرب هذا الوجود.

تحدثنا كيف أغلقت مجلة الأضواء التي كانت تمثل صوت المد الإسلامي، وتحدثنا عن الإعتقالات والمطاردات التي جرت في هذا السبيل، وهنا نسجل حادثة تاريخية طريفة ومعبرة عن حجم العمل المضاد الذي شنته التيارات اللا إسلامية بمساعدة الحكومة ضد الوجود الإسلامي في المنطقة. هذه الحادثة ننقلها من مذكرات جماعة العلماء التي كتبها سماحة حجّة السيّد محمّد باقر الحكيم،

(بالمناسبة أتذكر حادثة طريفة وتاريخية هي أن مجموعة من طلائع الحركة الإسلامية وأبناء جماعة العلماء كانوا قد وضعوا دستوراً إسلامياً…

وتم الاجتماع في سرداب غرفة من غرف مدرسة القوام حيث أن كلّ غرفة تختص بسرداب بها يتم النزول إليه من داخل الغرفة وكانت النجف حينذاك تعيش جواً إرهابياً من قبل العناصر الشيوعية التي وضعت على رأس كلّ زقاق رقيباً من أفرادها، وبينما كانت المناقشات حامية إذا بأحد العناصر يطل علينا من أعلى الدرج، وبادر صاحب الغرفة إلى الصعود إلى أعلى السطح للإطلاع على مجريات الاُمور، فإذا به يشاهد مجموعة من عناصر الشيوعيين يجمعون الناس بدعوى وجود مؤامرة على النظام الجديد في هذا السرداب، ومن ثمّ كانوا يحاولون الهجوم على الاجتماع إلاّ أنه تدخل بعض الشخصيات ـ لإنقاذ الموقف وبادرنا لفض الاجتماع، وقد كان ذلك في أوائل سنة 1959م)[10].

ولنترك هذه الفترة إلى فترة حكومة البعث سنة 1968م وما بعدها، وهي الفترة التي برز فيها بشكل أكبر وأوضح وأشرس العمل المضاد للمد الإسلامي، بينما دخلت المرجعية في أوائل هذه الفترة مرحلة جديدة، بعد وفاة السيّد الحكيم رحمه الله.

طبيعي أنا لا نريد أن نستوعب تاريخ هذه المرحلة، ونشرح بالتفصيل مواقف حزب البعث تجاه المد الإسلامي، إنّما نريد ـ حسب الفرصة القصيرة التي تفرغنا فيها لكتابة هذين الكتابين (الفكر السياسي) و (الجهاد السياسي) للسيد الشهيد، وحسب ما نريده في منهج هذا الكتاب من التركيز على الجهاد السياسي للسيد الشهيد تاركين ما عداه إلى مجاله ـ نريد في هذا الضوء إعطاء لمحة سريعة عن العمل المضاد الذي مارسه البعثيون ضد المد الإسلامي، والتيار الديني في المنطقة

قد نستطيع أن نوجز نشاط البعثيين المضاد ضمن النقاط التالية:

1ـ مضايقة الكتب الإسلامية، المنع من الاستيراد، والمنع من الطباعة، ومصادرة ما يوجد منها بالفعل، كمثل على هذا نخص بالذكر كتاب (رسالتنا) و (فلسفتنا) وسائر كتب التيار الإسلامي في المنطقة، إلى حد لم تبق للتيار الإسلامي آية مجلة أو نشرة، بعد أن أغلقت مجلة (رسالة الإسلام) وهي المجلة الوحيدة التي استمرت إلى حين إغلاقها.

2ـ مطاردة التحرك الديني، ورجاله، باصطناع مختلف التهم لتضليل الرأي العام بل والوقوف أمام الشعائر الدينية التي كانت تلهب الحماس الديني للجماهير.

3ـ امتدادات حزب البعث وتغلغله، في محاولة لاستقطاب الساحة، وطرد الوجود الديني فيها.

وكل أجهزة الدولة، وإمكانيات الدولة، في خدمة هذا الامتداد على حساب الوجود الديني.

4ـ فصل الاُمّة عن حضارة الإسلام، بتعميم الفكر اللا ديني الذي يلبس ثوب القومية العربية، أو الاشتراكية، أو غيرها.

5ـ إشاعة الفساد الأخلاقي في المنطقة، وتشجيع عمليات التحلل في وسط الاُمّة المسلمة.

6ـ تعميم حالة الخوف والإرهاب، واحكام القبضة على الحكم، وعلى الشعب، وخنق كلّ الأصوات، بل كلّ النوايا المعارضة.

7ـ تأكيد الفصل بين الدين والسياسة بقصد عزل المتدينين عن الساحة، وإعطاء المشروعية لضربهم بحجج مختلفة.

8ـ محاربة الحوزة العلمية، والمرجعية الدينية في النجف الأشرف، وعلى هذا الصعيد تأتي عمليات التسفير، وعمليات إلصاق التهم الكاذبة وعملية الاستفادة من بعض المتعاونين مع السلطة ممن يحسبون على الحوزة.

9ـ كما يجب أن نذكر هنا ربط الشعب كله بقنوات تنتهي إلى الحزب، هذه القنوات التي تمثلها الاتحادات الطلابية، والنقابات العمالية، والنقابات في مختلف الفروع والمهن، ومعلوم أن الاشتراك النقابي إلزامي، كما أن الانتماء لحزب البعث شبه إلزامي بالنسبة للمشتركين!

وإلى حد كبير نجحت سياسة السلطة الحاكمة في هذه النقاط، فالمرجعية فقدت رصيدها الشعبي العريض وعلماء الدين فقدوا ـ إلى حد ما ـ وجودهم واحترامهم في عين الشعب، بل وفقدوا أيضاً القدرة على التحرك الحر. والوعي الإسلامي فقد الشرايين والأوردة التي تمده بعد أن شن البعثيون حملة مضايقات شديدة على الكتب، والمجلات، والنشرات الإسلامية.

والافلات من قبضة قانون البعث، وإرادة البعث! أصبح عسيراً بعد أن ارتبطت مصائر الناس ومكاسبهم بالنقابات وقنوات هذا الحزب.

وجو الإرهاب، والخوف الذي يتبعه فقدان الأمل، وفقدان الثقة بالنفس، والثقة بالخط الإسلامي في قدرته على المقاومة، هذا أيضاً شاع في أوساط الشعب العراقي عموماً، بعد أن أرتهم السلطة من القسوة والشراسة، والأخذ بالظنة والتهمة ما يسلب الأمن من صدور الآمنين!

والحوزة العلمية هبطت في إمكانياتها، ومستوياتها بعد عمليات التسفير، وعمليات التشريد التي شملت قسماً مهما من العراقيين أنفسهم.

وأبواب التحرك الجماهيري أصبحت ضيقة إلى ما يشه الإغلاق، بعد أن طاردت الحكومة كلّ الشعائر الدينية!

وجرثومة الفساد أصبحت سرطانا ساريا في المجتمع، بعد أن كان الراديو، والتلفزيون، وكل سبل الدعاية والإعلام، وكلّ إمكانيات وزارة الشباب، زائداً على سبل اُخرى كثيرة تستغل لإشاعة الفساد في المنطقة.

وحينما نريد أن نقوم بعملية مقارنة بين هذا الواقع كما فرضه البعثيون وبين واقع الشعب ومستواه وسبل نشاطه قبل حكم البعث، فإننّا نسمح بالقول أن حكومة البعث استطاعت أن تغير تماماً وضع الشعب في المنطقة، تغيره إلى حالة الإهمال الديني أن لم نقل العداء للدين! بعد أن كان هذا الشعب شعباً أقل ما نقول فيه أنّه يحمل رواسب وبذور دينية جيدة.

الفصل الخامس: الصدر رائد حركة جديدة

قبل أن يأتوا إلى الحكم سنة 68 كان عدائهم للسيّد الشهيد قائماً.

إنّهم يعرفونه في الستينات، أيام جماعة العلماء، والأضواء، ورسالتنا، ويومها كان البعثيون قد حملوا عليه لأنهم وجدوا فيه الرجل الصلب الذي تتكسر أمامه كلّ جهودهم. وحين نقلتهم المخابرات البريطانية إلى عرش الحكم سنة 1968م لم ينسوا له تلك الأيام، ولم يغفلوا عن الأيام الجديدة التي تنتظرهم!

إلاّ أن شخصية هذا الرائد الجديد بدأت منذ أواخر الستينات تمتد وتتجذر في المجتمع، وتدريجياً كان نفوذه يتصاعد، ويتعمق في وسط الجمهور المسلم. كانت كتاباته تكتسح، وتتقدم، وهي إذ تكسب العقول فإنما تكسب القلوب معها إلى الفكر العظيم، والمفكر العظيم فكره، وشخصيته، امتدت حيث امتدت يد النشر والتوزيع، وحيث امتدت به حدوده التي يتنقل فيها. وشخصيته ووجوده كان يتعمق على مستوي الحوزة في النجف الأشرف كما يتعمق في سطح الاُمّة الأشرف كما يتعمق في سطح الاُمّة.

ولم يكن السيّد الشهيد مرجعاً حين جاء البعثيون إلى الحكم سنة 1968م، إلاّ أنه كان من أوائل البارزين في الحوزة، ومن أشهر المفكرين في الاُمّة.

لم يكن بروزه بوصفه فقيهاً، أو أستاذاً، أو مفكراً، لقد كان بروزه يقترن بالخطر، كان عنصراً بارزاً في خطورته أمام كلّ النوايات التي تستهدف الوجود الإسلامي في المنطقة، وتريد تحطيمه.

ومنذ مجيء البعثيين إلى الحكم، وهم يومذاك لا يملكون أي رصيد في الاُمّة، كان السيّد الشهيد يتحرك باسمه الشخصي في كتاباته ومؤلفاته، وباسم جماعة العلماء، كما يتحرك ويصب وجوده في مرجعية السيّد الحكيم.

لكنه كان معروفاً في الأجواء الحوزوية بأنّه رجل المستقبل، وأنّه يحمل كلّ خصائص الرجل الرائد الجديد. والبعثيون لم تسمح لهم مشاغلهم ومشاكلهم، الداخلية في السنوات الاُولى، بالوصول إلى شخصية السيّد الصدر، رغم أنّه كان دائب الحركة فيها.

وكان أوّل اعتقال له في سنة 1972م، وإلى هذه السنة كان السيّد الشهيد قد نفذ في وجوده الاجتماعي والحوزوي إلى درجة كبيرة، الأمر الذي كان يحسب له حكام بغداد ألف حساب من حيث أنهم في السنين الاُولى من حكمهم كانوا يحرصون على حفظ الظاهر الإسلامي بالنسبة لحكمهم، كما كانوا يطمحون إلى كسب رد المرجعية في النجف المتمثلة بالسيّد الخوئي، واعتقال السيّد الشهيد من دون شك سيخلق لهم بعض المصاعب أمام هذه الطموحات.

وفي سنة 1974م كانت حملت اعتقالات واسعة شملت معظم تلامذة السيّد الشهيد، وقد كانوا يستهدفون بهذه الحملة تحقيق أمرين.

الأوّل: تحجيم نشاط السيّد الشهيد، وتوجيه طعنة قوية له.

الثاني: خنق المد الإسلامي في جسم الاُمّة، سواء بشكله المنظم أو بشكله غير المنظم.

وطبيعي أن يكون السيّد الشهيد هو المركز الذي تجمعت حوله العناصر الواعية والنشطة من طلبة العلوم الدينية، ولذا فإن الحملة تنصب عليه بالذات سواء مباشرة أو غير مباشرة.

ولأوّل مرة في تاريخ الحوزة العلمية في النجف يحكم على بعض أفرادها بالإعدام، فقد حكم البعثيون على ثلاثة من علماء الدين، والملتصقين بالسيّد الشهيد بالإعدام، واستشهدوا بالفعل. وهم العلاّمة الحجّة الشيخ عارف البصري، والعلاّمة الحجّة السيّد عماد الدين التبريزي، والعلاّمة الحجّة السيّد

عز الدين القبانجي… رحمهم الله.

ويجب أن نشير إلى أن هذه الاعتقالات لم تكن على صعيد الحوزة فقط، لقد كانت على صعيد الاُمّة أيضاً، والمثقفين من أبناءها، في مطاردة للتحرك الديني، والتيار الإسلامي المتصاعد في الساحة.

وكان الاعتقال الثاني للسيد الشهيد سنة 1977م بعد التظاهرات الشعبية التي عمت المسيرة ما بين النجف وكربلا بمناسبة أربعين الإمام الحسين عليه السلام. ولملاحظة مجموعة اعتبارات أهمها نفوذ السيّد الشهيد شعبياً وحوزوياً، فقد فك اعتقاله فوراً.

وما بين الفترة كلّها كانت المضايقات على السيّد الشهيد غير منقطعة، كما كانت الرقابة على زائريه والمرتبطين به دائمة أيضاً. كانت حكومة بغداد تدرك أنه ما دام السيّد الصدر موجوداً فإنّها لا يمكن أن ترتاح إلى نوم، وأن تمتلك حريتها في التصرف، كما أنه ما دام السيّد الصدر موجوداً فإن المدّ الإسلامي موجود، إضافة إلى تخوفات المستقبل وقد يكون قريباً!.

خط الشهيد الصدر

في كتاب (الفكر السياسي للسيد الصدر) ربما كان الحديث مفصلاً ـ إلى حد ما ـ عن إيمان السيّد الشهيد بقيمومة المرجعية، وتبنيه لهذا الخط.

والمسألة في رأي السيّد الشهيد ذات بعدين:

بعد سياسي، وبعد شرعي

فمن الناحية الشرعية يرى السيّد الشهيد أن المرجع هو القيم على شؤون الاُمّة المسلمة، ومن له صلاحية الأشراف والتوجيه والولاية العامّة[11].

ومن الناحية السياسية يرى السيّد الشهيد أن أطروحة المرجعية هي أفضل أطروحة تجمع:

1ـ التفاف الجماهير وانقيادهم.

2ـ ضمان أكبر لعدم انحراف القيادة.

3ـ ضمان أكبر أيضاً لاستمرارية الوجود الإسلامي، حيث أن المرجعية ظاهرة أصيلة في الإسلام الشيعي، لا يمكن اقتلاع جذورها بسهولة.

وفي ضوء خط المرجعية فإن العمل الإسلامي والسياسي سيكون ضمن خطوتين:

الخطوة الاُوّلى: النفوذ إلى الجماهير من خلال تعاطفهم مع المرجعية، هذا التعاطف المفروض أنّه قائم ومتواجد، ما دام معنى المرجعية رجوع الشعب، أو قطاعات كبيرة من الشعب لهذا الفقيه، ثمّ يتعمق تعاطف الجماهير مع المرجعية كلّما تعمقت هي في احتواء مواصفات المرجع الصالح، والقائد الرشيد.

ويمارس المرجع هذا النفوذ من خلال وكلائه، وعلماء المناطق الموزعين والمتواجدين في أوساط الشعب، والذين يمثل كل واحد منهم مرجعاً صغيراً في منقطته، تابعاً للمرجع العام في المركز الديني، والذي يعينهم المرجع العام حسب اختياره وتقييمه لكفاءاتهم.

الخطوة الثانية: من خلال الحركات والتنظيمات الإسلامية المتواجدة في الساحة، أو التي ينبغي أن تتواجد ن لم تكن موجودة بالفعل.

فالمرجع هو الأب، والموجه لامثال هذه الحركات، ومنه تستمد شرعيتها، كما تستمد طريقة عملها وتوجهها. والسيد الشهيد مارس كلتا الخطوتين أيام مرجعيته الرشيدة، وساهم فيها ـ بحدود الإمكان ـ قبل أيام مرجعيته.

أطروحة المرجعية الموضوعية

بعمق نظر السيّد الشهيد إلى قضية (المرجعية)، فكانت قضية استأثرت همه واهتمامه كان مدركاً بوعي أن موقع المرجعية موقعاً مسؤولاً وقيادياً، وبالتالي فهو يتحمل القسط الأكبر من مسؤولية أداء الرسالة، ومسؤولية النهوض بالاُمّة.

لقد لخص السيّد الشهيد أهداف المرجعية الصالحة في خمس نقاط:

(1ـ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كلّ فرد منهم تربية دينية تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصي.

2ـ إيجاد تيار فكري واسع في الاُمّة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية…

3ـ إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الإسلامي، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية…

4ـ القيمومة على العمل الإسلامي والأشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم…

5ـ إعطاء مراكز العالمية من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية للاُمّة بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها واحتضان العاملين في سبيل الإسلام).

وكان السيّد الشهيد قد لاحظ أنه.

(بالرغم من انتساب كلّ علماء الشيعة تقريباً إلى المرجع في الواقع المعاش، يلاحظ بوضوح أنه في أكثر الأحيان انتساب نظري، وشكلي، لا يخلق المحور المطلوب).

ومن أجل تلافي هذه الظاهرة، ومن أجل أن تبلغ المرجعية مستوى مسؤوليتها وقيادتها للاُمّة، فقد قدم السيّد الشهيد أطروحة علمية لتطوير أسلوب المرجعية، وواقعها العملي[12] ضمنها حديثاً عن أهداف المرجعية ـ في النص الذي نقلناه ـ وعن الطريق إلى تطويرها.

وفي هذه الأطروحة رأى أن المرجعية ليست من الصحيح أن تكون فردية، في عملها وارتجالية، في مواقفها، وإنّما يجب أن تعتمد على أساس علمي موضوعي. ومن أجل ذلك يكون ـ من مسؤولية المرجعية.

أوّلاً: إيجاد جهاز علمي تخطيطي وتنفيذي للمرجعية يقوم على أساس الكفاية والتخصص وتقسيم العمل…

ورسم السيّد الشهيد لذلك عدّة لجان:

1ـ لجنة لتسيير الوضع الدراسي  في الحوزة العلمية..

2ـ لجنة للإنتاج العلمي…

3ـ لجنة مسؤولة عن شؤون علماء المناطق…

4ـ لجنة الاتصالات…

5ـ لجنة رعاية العمل الإسلامي..

6ـ اللجنة المالية…

ثانياً: إيجاد امتداد حقيقي أفقي للمرجعية منها محوراً قوياً…

ثالثاً: إيجاد امتداد زمني للمرجعية الصالحة لا تتسع له حياة الفرد[13].

وقد سجل الشهيد في أطروحته قوله:

(ولئن كان في أسلوب الممارسة الفردية للعمل المرجعي بعض المزايا كسرعة التحرك، وضمان درجة أكبر من الضبط والحفظ، وعدم تسرب عناصر غير واعية إلى مستوى التخطيط للعمل المرجعي، فإن مزايا الأسلوب الآخر أكبر وأهم.

ونحن نطلق على المرجعية ذات الأسلوب الفردي في الممارسة أسم المرجعية الذاتية، وعلى المرجعية ذات الأسلوب المشترك والموضوعي في الممارسة اسم المرجعية الموضوعية…).

رسالة الدم

ولم تكن مدرسة الشهيد فكرية خالصة، ورغم أنّه بلغ في هذه المدرسة قمتها، ومضى في العطاء الفكري إلى أقصاه، إلاّ أنّه كان يؤمن إلى جانب ذلك بـ (رسالة الدم). لقد أدرك الشهيد أن القلم وحده لا يحقّق يقظة الاُمّة.

ولا يحدث الهزة في الضمائر الضعيفة إذا انقطع عنها مداد الدم. في (محاضرات عن أهل البيت) ـ عليهم السلام ـ التي كان يلقيها الشهيد على تلاميذ سجل هذه الحقيقة، لقد درس ثورة الحسين ـ عليه السلام ـ وأعطى فيها تقييمه لرسالة الدم، فالحسين ـ عليه السلام ـ كان يعلم بالتأكيد أنّه مقتول، وأنّه إذ يقصد كربلاء فإنّما يقصد القتل! إلاّ أنه كان ماضي العزم على أن يستقبل الموت الأحمر! لأن هذا الموت هو السبيل إلى الحياة.

لقد كان الحسين ـ عليه السلام ـ يريد إيقاظ الاُمّة من سباتها وغفوتها، كان يريد عودة الشعور الرسالي إليها، بينما كانت الأيام تأتي على ضمير الاُمّة، الدم هو الطريق إلى اليقظة!

وفي هذا الصدد يقارن السيّد الشهيد بين أمته المعاصرة وبين اُمّة الحسين، ويجد وجوهاً كبيرة للشبه، الشبه في الإغفاءة عن صوت الحقّ، في الركود والركون إلى مطاعم ومطامع الحياة، في الانهزام، واخلاقية الهزيمة ولكن أين لنا في هذه المرحلة مثل الحسين في اُمّته؟

هكذا تساءل الشهيد، بعد أن قال: إن يقظة هذه الاُمّة تحتاج إلى دم مثل دم الحسين عليه السلام.

ويومذاك لم يخطر على بال أحد أنه سيكون هو صاحب ذلك الدم!

الفصل السادس أيام حكومة البعث

قبل الحديث عن استراتيجية العمل يجب أن نتحدث:

أوّلاً: عن طبيعة المرحلة.

وثانياً: عن مهمات المرحلة، وأهداف العمل الإسلامي فيها.

طبيعة المرحلة

أمّا عن طبيعة المرحلة فالحديث السابق عن مضادات المد الإسلامي أعطانا صورة ولو إجمالية عنها. فالحريات مصادرة على الإطلاق، وأينما تذهب فهناك مضايقات يصطدم بها من لم ينتم إلى حزب البعث. وحالة الخوف مسيطرة على عموم الناس، دع عنك المتأثرين بالتيار الإسلامي.

وإمكانيات التحرك مفقودة في وسط الجماهير؛ لأنّ كلّ شيء أصبح مراقباً، كما أن كلّ شخص تملاءه حالة الشعور بأنه مراقب ومطارد!

والمرجعية بعد السيّد الحكيم، والتي تمثلت بالسيد الخوئي مرجعية ضعيفة في وجودها الشعبي، كما هي ضعيفة في إمكانياتها الذاتية. والحوزة العلمية لم تزل ضعيفة للغاية في حقل الطلبة العراقيين، سيما إذا لاحظنا متابعة السلطة للعاملين فيها.

والسيّد الشهيد في هذه الفترة بالذات في طريقه نحو المرجعية وليس صاحب وجود مرجعي بالفعل، ومعنى هذا أنّه ما تزال إمكانياته المادية، وإمكانياته على صعيد الحوزة والاُمّة إمكانيات قليلة نسبة إلى المهام المطلوبة منه. هذا عن طبيعة المرحلة.

مهمات المرحلة:

وأمّا عن مهمات المرحلة، فإنّها تتحدد في ضوء الوضع السابق، ما هو الدور الذي يستطيع أن يمارسه السيّد الشهيد، أو المرجعية عموماً بعد وفاة السيّد الحكيم، الذي لم يمتد به العمر أكثر من سنتين بعد حكم البعث، فقد توفى سنة 1970م، بينما تسلم البعث سلطة العراق سنة 1968م.

هل بالإمكان الثورة على حكومة البعث؟

لقد كان من السذاجة ـ وحقّاً من السذاجة ـ الاسترسال مع هذا التفكير. فشروط الثورة كلّها مفقودة!

الاُمّة بعد لم تع رسالتها، كما أنها بعد لم تمتلك أو بالأحرى فقدت ما كانت تملكه من جرأة وشجاعة في المواجهة.

ووجه السلطة الحاكمة في بغداد لم يكن مشبوهاً لدى الناس بارتباطاته الأجنبية، أو بمحاربته للدين، فسياسة التضليل التي اتبعها حكام بغداد استطاعت إلى حد كبير خداع الرأي العام، وإعطاءه عن حزب البعث صورة الحزب التقدمي الوطني، ثمّ هو يؤمن بالإسلام، ويؤمن بثورة الحسين وهو امتداد لها!!!

كما أن المرجعية في النجف لا تملك أصابع الحركة في جسم الاُمّة، وربّما يتعاطف معها الرأي العام، إلاّ أنّه تعاطف على مستوى المودة السطحية فقط، لا على مستوى القناعة بها، ولا على مستوى الاستجابة لها  في مجالات العمل.

المرجعية ليس لها (وكلاء) مبثوثون في مناطق العراق إلاّ قليلاً، وأن كانوا فليسوا جديرين (من ناحية العدّد أو من ناحية الكفاءة) بأن تناط بهم مهمة التوعية الإسلامية فضلاً عن التحرك الإسلامي الثوري والمضاد للسلطة كما أن الوعي السياسي منخفض في الاُمّة إلى درجة التصديق بكل ما تقوله الشائعات، ومعامل الشائعات.

وكلّ ما تنسجه معامل السلطة يمكن تمريره على الرأي العام ببساطة بالغة. والأهم من كلّ هذا أن المرجعية ـ المتمثلة يومذاك بالسيّد الخوئي ـ كانت قاصرة في وعيها السياسي والرسالي عن تحمل مثل هذه المهام، بل عن تحمل ما هو الأقل منها.

كما أن الأشخاص الملتفين حولها تشيع فيهم ظاهرة المصلحية، وظاهرة القصور الديني والسياسي معاً.

نعم كان التفكير في السؤال الثاني معقولاً:

هل بالإمكان المواجهة مع السلطة، وتحديها في المواقف؟

في تقدير السيّد الشهيد أنه لم تكن هناك محاذير حقيقية الحكومة، ومواجهتها، سيما إذا لاحظنا فقدان الرصيد الشعبي للحكومة بعد أزمة العلاقات بينها وبين السيّد الحكيم، وسيما إذا لاحظنا أيضاً  حالة ـ من الشعور بأن خط المرجعية الدينية غير راض عن حكومة البعث.

وكان هذا الشعور موجوداً لدى الناس عميقاً.

وإذا تركنا هذا فإن مجرد السكوت والتهرب من المواجهة البسيطة في الوقت الذي لا يقدم للمد الإسلامي شيئاً، فإنه يسمح في تسلل الحكومة إلى عواطف الجماهير وتحريفها ما دامت المرجعية ساكتة، وطبيعي أن هذا السكوت يفسر من قبل الحكومة ومن قبل الرأي العام الساذج بالرضى.

العمل على خطين

ما هو موقف السيّد الشهيد إذن؟

لقد عمل السيّد الشهيد في هذه الفترة على خطين.

الخط الأوّل: تصحيح المرجعية القائمة.

حينما تكون المرجعية القائمة يومذاك ـ والمتمثلة بالسيّد الخوئي ـ بمستوى موقعها، ومسؤوليتها، فإنّها قادرة على تحقيق الشيء الكثير، هكذا كان في رأي السيّد الشهيد.

ومن هنا فقد رأى ضرورة العمل على توجيهها، وتقديم النص لها، وتصحيح مواقفها، وتسيير حركتها، في مواجهة الأحداث، والتوجيه لهذه المرجعية كان مرة يتخذ صورة النصح، والإرشاد، واُخرى صورة الضغط عليها بشكل وآخر للتعديل من مواقفها، أو اتخاذ مواقف لازمة. وكان السيّد الشهيد يباشر بنفسه النصح والتوجيه والضغط في وقت كان يدعو غيره أيضاً لممارسة مثل ذلك.

إلاّ أن معظم محاولات السيّد الشهيد كانت تبوء بالفشل، ولا تجد إذناً صاغية من هذه المرجعية!!

ومع ذلك فقد استطاع التأثير ولو في مصادفات قليلة جداً نذكر من محاولاته:

1ـ مشروع لجنة التبليغ: حيث أقترح على السيّد الخوئي عقد لجنة تهتم بشؤون التبليغ والمبلغين، وتكون خاضعة لأشراف السيّد الشهيد نفسه.

وفي السنين الاُولى لمرجعية السيّد الخوئي ـ وحيث كان هذا الاقتراح مقبولاً شهدت مدن العراق حملة تبليغ ديني واسعة، لعل تأريخ العراق لم يشهد لها حالة سابقة.

2ـ في حالة التسفير الشرسة التي شنتها حكومة البعث، واستهدفت بها رجال الدين، والحوزة العلمية، كان للسيد الشهيد موقف رائع نسبة إلى أثره.

يومها كان السيّد الخوئي في المستشفى قبل سفره إلى لندن للعلاج وكانت أوضاع الحوزة ـ وهم يواجهون حملة التسفير المطلق ـ من الفوضى والاضطراب والحيرة إلى حد كبير.

لا يملك أحد أكثر من تحديد موقفه شخصياً، بل هو لا يدري كيف يحدد موقفه الشخصي؟ وما هي المصلحة الدينية؟ وسلطات البعث تطاردهم في الشوارع، والمساجد والمنازل.

وبالفعل فقد هاجرت أعداد كبيرة جداً من النجف إلى إيران أثر هذه العملية، ونتيجة لعدم الوضوح في الموقف. ولم يتدارك أحد الموقف سوى السيّد الشهيد نفسه!

لقد زار السيّد الخوئي في المستشفى، وشرح له الحال بالتفصيل، كما شرح له مخاطر هذا العمل على الحوزة الدينية في النجف، وعلى الوضع الإسلامي في العراق عموماً.

واستطاع أن يقنع السيّد الخوئي، بعد أن هاجرت أعداد كبيرة ـ بأن يحكم بعدم السفر خارج العراق.

وفوراً تناقل تلاميذ السيّد الشهيد هذا الحكم، وبدأوا بنقله إلى مختلف رجال الحوزة العلمية، إلى حد قصدوا فيه منازل الطلبة أنفسهم وبلغوهم بحكم السيّد الخوئي.

وفسخ المئات عزمهم على السفر بعد أن سمعوا هذا الحديث، وأصبح الموقف معلوماً، ومقتضى المصلحة الإسلامية محدداً.

ويمكن القول أن هذه الخطوة من السيّد الشهيد استطاعت أن تؤخر عمل البعثيين سنوات عديدة، من حيث أن محاولتهم في تصفية الوجود الديني في النجف باءت بالفشل.

ولهذا اضطروا لممارسة نفس هذا العمل ـ التسفير ـ بعد أكثر من خمس سنوات من تاريخ التسفير الأوّل.

فقد كان التسفير الأوّل سنة 1970م.

بينما كان التسفير الثاني سنة 1975م.

وقد كان السيّد الشهيد قد اقترح القيام بعمل احتجاجي ضد عملية التسفير التي مست الوجود الديني بالصميم. كان يعتقد أن السكوت، أو المجاملة، أو الانتظار مع هؤلاء البعثيين يفوت فرص كثيرة، في الوقت الذي يعطيهم فرصاً بقدرها.

لابدّ إذن من مواجهتهم منذ البداية، وقطع الطريق عليهم للمرة الثانية.

كان يعتقد أن التضحية في هذا الطريق، وفي هذه المرحلة، ليست بدون ثمن، ولذا فقد كان يفكر هذه المرة أيضاً في الخروج على شكل تظاهرة يتصدرها هو شخصياً، معرضاً نفسه للموت بكل استعداد.

إلاّ أنه كان لا يجد بعده من يقوم بالدور الزينبي الذي يشرح للرأي العام أهداف الحركة، ومدى صوابها، وإذ لم توجد في الساحة زينب، وإذ لم يكن معه من علماء الدين من يواصل الخط بعده، بل يؤمن على الأقل بضرورة هذا التحرك فإن الثمرة سوف لن تجد من يقطفها، وإن الدم سوف يكون بلا ثمن، ومعنى هذا أن الشرط السياسي للحركة بعد لم يتوفر، ولابدّ للسعي من أجل توفيره.

كان هذا نموذجاً من عمله ـ رحمه الله ـ على الخط الأوّل، خط تصحيح المرجعية القائمة.

الخط الثاني: التصدي للمرجعية شخصياً.

وحينما لم يجد السيّد الشهيد في مرجعية السيّد الخوئي كفاءة في حمل هموم الرسالة، والمضي في المد الإسلامي في المنطقة، تصدى هو شخصياً لطرح نفسه كمرجع في الساحة.

ويجب أن ندرك أن المرجعية فيها جانب ذاتي، يتعلق بكفاءات المرجع، ولياقته لتحمل مسؤولية هذا الموقع العظيم، وفيها جانب موضوعي يتعلق بارتباط الاُمّة عملاً بهذا المرجع، ونفوذه في أعماقها، وكافة طبقاتها.

وإذا كان الجانب الأوّل جاهزاً لدى السيّد الشهيد، فإن الجانب الآخر يحتاج إلى سعي طويل ومرير، وسوف يستغرق زمناً لا يتوقع إن يكون قليلاً.

السيّد الشهيد في هذه الفترة التي نؤرخ لها لم يكن مرجعاً رغم أنّه كان من أبرز العناصر في الساحة وأثقلهم فكرياً، واجتماعياً لدى طبقة المثقفين والإسلاميين الواعين، أمّا عامّة الناس في الاُمّة فلم تكن مرتبطة بولاء للسيد الشهيد في هذه الفترة.

ومهما يكن فقد بدأ السيّد الشهيد بالعمل على هذا الخط. بعد أن تبددت آماله في المرجعية القائمة.

استراتيجية العمل

ونرجع الآن لدراسة استراتيجية العمل في هذه الفترة.

رأي الشهيد العظيم، والمفكر الكبير، ضرورة العمل في الحقول التالية:

الأوّل: مواصلة المد الإسلامي في الاُمّة.

الثاني: تبني الخط الواعي في الحوزة.

الثالث: موقف القوى الضاغطة على الحكومة.

أوّلاً: مواصلة المد الإسلامي في الاُمّة:

أهم ما كان يفتقر إليه المد الإسلامي بعد سنة 1970م، أي بعد وفاة السيّد الحكيم ـ رحمه الله ـ تبنى المرجعية له، والدعم المعنوي.

لو كان اليتم وارداً هنا لقلنا أن المد الإسلامي استشعر اليتم في هذه الفترة.

ينابيع النجف الأشرف التي كانت تدعم هذا التيار قد نضبت، تلك هي الحالة بعد سنة 70، أي في الستينات 1970م ـ 1980م وفي هذه المرة كان السيّد الشهيد هو الحل، وليس طارح الحل، كان هو النظرية وليس طارح النظرية.

وتقدّم الشهيد العظيم ليتبنى هذا الخط، الذي منه ابتدأ وإليه انتهى مرّة اُخرى، وكما يقال فإن صاحب الشيء أحق بحمله.

تحمل السيّد الشهيد هذه المهمة الثقيلة ـ مواصلة الخط الإسلامي في الاُمّة ـ في وقت يترصد الحزب الحاكم لكل نشاط إسلامي، ولكل متحرك إسلامي. وعاد المد الإسلامي إلى النشاط مرّة اُخرى، ووجد في شخصية السيّد الشهيد نعم الأب، ونعم المسؤول لحمل هذه المهمة العظيمة.

واختلفت إشكال الدعم التي قدمها السيّد الشهيد لهذا التيار ولكنها لم تختلف بالحقيقة فقد نذر السيّد الشهيد كلّ وجوده لهذه المهمة، واستعد لأن يقتحم في سبيلها كلّ شيء!

إمدادهم مادياً، ومعنوياً، وفكرياً والمساهمة العملية في المشاريع. وكان له في كلّ عمل مشاركة، وفي كلّ حقل بصمة إبهام.

وبدأت تخوفات الحزب الحاكم من هذا الرائد الجديد تزداد، فقد تحدثنا عن اعتقال 1970م، كما تحدثنا عن حملة الاعتقالات الواسعة التي شملت تلاميذه في الحوزة، وشملت أبناء هذا التيار في الاُمّة. وبدأت (ولعلها كانت من قبل) نشرات الحزب تكتب أن أخطر رجل على الحزب هو محمّد باقر الصدر! وهكذا كان!

وبدأت الضغوط، وبدأت المراقبة، وظل الحزب الحكم طوال هذه الفترة يتحين الفرص للفتك بهذا الرائد الجديد. وإذا شئنا الحديث بالأرقام عن نشاط السيّد الشهيد في مجال مواصلة المد الإسلامي أمكن أن نذكر ما يلي:

1ـ نشاطات السيّد الشهيد وجهوده في كلية أُصول الدين في بغداد، وقد كان افتتاحها سنة 1964م.

كان السيّد الشهيد مشاركاً في مشروع تأسيسها وافتتاحها.

ثمّ كان مساهماً بالقسط الأوفر في منهجها وطريقة عملها وشؤونها المهمة، والثقافية بالخصوص.

وفيما عدا ذلك فإن السيّد الشهيد قد كتب مادة (علوم القرآن) للسنة الاُولى ونصف السنة الثانية، وضلت هذه المادة تدرس لمدة الأربع سنوات الاُولى كما كتب مادة (الاقتصاد الإسلامي)، والذي كان يدرس في الكلية أيضاً. كما أن مساهمة السيّد الشهيد في مجلة (رسالة الإسلام) التي تصدرها الكلية، كانت مساهمة فعالة و

2ـ ويمكن أن نذكر على هذا الصعيد نفسه نشاطات السيّد الشهيد في الحقل النسوي عن طريق أخته العلوية الشهيدة والمؤلّفة الإسلامية الكبيرة (بنت الهدى) رحمها الله. والتي باشرت بفتح مدارس نسوية دينية في كلّ من بغداد والنجف، زيادة على علاقاتها الدراسية الخاصّة بالنساء.

3ـ وبنفس الدرجة من الأهمية كان دور الشهيد في مجال الوكلاء والمبلغين سواء في فترة مرجعية السيّد الحكيم أو الفترة التي أعقبتها وإلى فترة مرجعية السيّد الشهيد نفسه، والتي مارس فيها إرسال الوكلاء ـ علماء المناطق ـ والمبلغين من قبله.

4ـ كما يأتي على هذا الصعيد أيضاً دعمه للحركات الإسلامية في العراق. ومختلف النشاطات الدينية، سواء حملت طابعاً سياسياً أم لا، وسواء كانت بشكل تنظيم حركي أم لا. وربما امتاز السيّد الشهيد عن معاصريه من علماء التقليد بهذه الخاصية، خاصية تبني كلّ تحرك إسلامي وتنشيطه وتوجيهه مهما أمكن.

5ـ وفي أيام مرجعيته وما قبل نستطيع أن نسجل الدور الشخصي المباشر للسيد في مجلسه اليومي العام. لقد كانت مجالس العلماء السابقة للسيد الشهيد تشهد عزلة عن الجماهير، بينما كانت تأكيدات الشهيد لا تنقطع على ضرورة الالتحام والارتباط المباشر بالجماهير.

لقد باشر هو شخصياً العمل على فتح العلاقة المباشرة، وتوطيدها بين العلماء وبين أبناء الاُمّة المسلمة. لم يكن مجلسه اليومي ـ في بيته ـ خاصّاً بالعلماء، أو تلامذته، أو عموم طلاب العلوم الدينية، لقد كان مجلساً يحضره الشباب المثقف الذي أهتم السيّد الشهيد بتربيتهم، وكان يعلق عليهم الآمال.

كما كان مجلسه اليومي يحتضن برحابة كلّ الفئات والطبقات من أبناء الاُمّة، في الوقت الذي كان الجانب العلمي، والعطاء الرسالي هو أبرز ظاهرة فيه. وإذا أخذنا بالحساب أن أبناء الشعب العراقي من مختلف المدن، يقصدون النجف الأشرف للتشرف بزيارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فإننا سنعرف ما هو حجم اللقاء المباشر بين السيّد الشهيد وبين الشباب، وغيرهم من أبناء الاُمّة.

ولقد كان بينه موئلاً للشباب المثقف والجامعي الذي يزور النجف الأشرف أيام الجمعة. حتّى أنا نستطيع القول أن تاريخ المرجعية في النجف لم يشهد انفتاحاً على مختلف الأصعدة من الاُمّة وبالخصوص الطبقة المثقفة فيها كما شهدته مرجعية السيّد الشهيد نفسه.

ثانياً: تبني الخط الواعي في الحوزة

لم يكن الخط الواعي في الحوزة أحس حالاً من الخط الواعي، والمد الإسلامي في الأُمّة.

الواعون من رجال الدين في الحوزة قلة للغاية، وهم على قلتهم يعانون من عدم الدعم بكلّ أشكاله، وإذا أضفنا إلى ذلك مطاردة الحزب الحاكم لهم، بعد سنة 1970 أي بعد وفاة السيّد الحكيم، فإن الصورة ستزداد قتامة بالنسبة إلى هذا الوجود الفتي في الحوزة، والمحارب من قبل السلطة كما هو محارب من قبل القطاعات القديمة والمصلحية في الحوزة.

ونضيف إلى كلّ ذلك أن هذا الخط كان بحاجة إلى موجه، لا يسانده في الدعم المادي أو المعنوي فحسب، وإنّما يسانده في تحديد المهام ووضع النهج العالم للعمل. وكان السيّد الشهيد هو الذي فرض على نفسه تبني هذا الخط وتعميقه في الحوزة.

ورغم أن السيّد الشهيد لم يكن من خارج هذا الخط، بل كان من أبناءه، ورغم أنه لم يكن يملك وجوداً آخر منفصلاً” عن وجوده كواحد من أبناء هذا الخط الجديد، إلاّ أنه كان مؤهلاً لأبوة هذا الخط، كما كانت قابلياته الفكرية، وما أحرزه عن طريقها من وجود في الاُمّة في الحوزة، تسمح له، وتتطلب منه أن يكون هو المسؤول الأوّل في دعم هذا الوجود الواعي الصغير!!

والآن ماذا حقق الصدر في هذا المجال؟

قد يكون في البداية طريقة علاقته مع تلامذته أو أصدقاءه، أن فرص اللقاء الكثيرة سواء في أثناء الدرس، أو أثناء المجلس العامّ، أو أثناء مصاحبات ولقاءات خاصة كانت تستثمر في هذا السبيل، سبيل توعية الطلبة، وتحسيسهم بدورهم وموقعهم ومسؤوليتهم، سواء من خلال الحديث والشرح، أو من خلال ضرب المثل، والقدوة الصالحة، في سلوكه، واهتماماته، وأخلاقيته التي تتسرب إلى مجاوريه ومزامليه بفعل الاحتكاك على العموم يمكن أن نقول لم يكن يعرف السيّد الشهيد الجلسات العابثة التي تستهدف قتل الوقت لا شيء!

وإذا كان ـ رحمه الله ـ بحاجة إلى استراحة فإنه لا يجد راحة أفضل له من العطاء والتربية. والذين عاصروه يعرفون حقيقة ما نقول. هذا وإنّه لم يخص بالتوجيه والتوعية تلامذته فقط فقد كان يحاول أن يبلغ في هذا المرام إلى أقصى حد يمكن أن يبلغه.

لنقرأ ـ معاً ـ له هذا النص في أحد مراسلاته، يقول:

(دأبت منذ دخلت لبنان على تكرار مفاهيمنا عن الإسلام التي تبدو هنا غريبة كلّ الغرابة، وتباحثت في تلك المفاهيم مع عدّة من الأشخاص، كالشيخ محمّد جواد مغنية. وكان مقصودي من ذلك بث شيء من الوعي ـ إلى درجة ما ـ في بعض الأذهان.

وإذا وضعنا بعين الاعتبار أن السيّد الشهيد في فترة كتابة هذه الرسالة أو سفره إلى لبنان، لم يكن يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، فإن لنا الحقّ حينئذٍ في أن نقدر كم هو نشاط السيّد في هذا السبيل أيام مرجعيته، وما قاربها.

وفي سنة 1969م ابتدأ السيّد الشهيد بدراسات خارج نطاق الاُصول والفقه وهي المادة المتعارفة في الحوزة. لقد تناول في تلك الدراسات العامّة والمفتوحة لكلّ الحاضرين من الطلبة موضوع (المحنة) محنة الاُمّة ومحنة الأشخاص، وماذا ينبغي أن نتصرف عند المحن.

كما تناول موضوع الحكومات، وطريقة تعاملها مع الإسلام، وفي أية حالة تصبح حكومة غير مشروعة، يجوز أو يجب النهوض ضدها.

كما تناول موضوع الدور الرسالي لأهل البيت عليهم السلام، وما تزال محاضراته في هذا المجال محفوظة ومخطوطة بعنوان (محاضرات في أهل البيت) عليهم السلام، وهي أروع ما كتب عن الدور الرسالي الإسلامي الذي نهض به الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام، بل هي أروع ما كتب في التحليل التاريخي والسياسي لمواقفهم عليهم السلام.

وكان السيّد الشهيد يستهدف في تلك المحاضرات وضع الطلبة، أمام مسؤوليتهم، وإعطاءهم زخماً حرارياً من تاريخ أئمتهم، وأشعارهم بضرورة المضي في نفس هذا الخط، وبنفس الهمة التي مضى بها الأولون.

كما تناول في تلك الدراسات موضوع النبوة، ضرورتها، وتعددها، ومهامها ـ ولم نعلم بالتحديد ما إذا كانت تلك المحاضرات قد استمرت لأكثر من عام، إلاّ اننا نعلم بالتأكيد أن تعطيلها كان بفعل الظروف السياسية الصعبة التي كان يعيشها السيّد الشهيد.

ولدى دراستنا لنشاط السيّد الصدر أيام مرجعية السيّد الحكيم، كنا قد عرضنا إلى مشروع الدورة، وأسلفنا القول أن هذا المشروع كانت أيادي السيّد الشهيد هي المحركة نحوه، ثمّ هي المشرفة عليه بعنوان أو بغير عنوان.

ويجب أن نضيف حقيقة جديدة لم نلفت إليها من قبل، حقيقة اهتمام السيّد الشهيد بالطلبة العراقيين! فإلى وقت قريب عن هذا التاريخ لم تعرف حوزة النجف الأشرف، من الرجال العراقيين في علاقتهم، أو في معرفتهم بشؤون الساحة، أو لا أقل طريقة الكلام الشعبي، لم تشهد حوزة النجف الأشرف إلاّ القليل جداً جداً من هؤلاء، بينما كان المفروض أن تستوعب حوزة النجف الأشرف الساحة الإسلامية كلّها.

وقد كانت هذه الظاهرة من دواعي ضعف الوعي الإسلامي، والإحساس الديني في العراق، كما كانت تعني سطحية وجود الحوزة، بالنسبة لإحساس الشعب العراقي، ولذا وجدنا أنّه كان من السهل فيما بعد لحكام بغداد أن يقوموا بحملة تسفير واسعة النطاق، واستهدفوا فيها بشكل واضح ومرموز رجال الحوزة العلمية، ولم يكن لهذا العمل ردود فعل مناسبة في وسط الشعب العراقي.

كان ضرورياً جداً بناء وجود عراقي في الحوزة العلمية، ليمارس نشاطه الديني في المستقبل القريب، وعلى يديه يمتد التيار الإسلامي في كافة مدن العراق وقراه.

هذه الحقيقة مع ما تفرضه من عمل ومن موقف كانت ماثلة وواضحة أمام ناظري السيّد الشهيد، سيما وأن نوايا حكام بغداد واضحة ومعلومة، فهم يستهدفون الوجود الديني في المنطقة، ويستهدفون بالخصوص مراكزه الحساسة، ونقاط الإشعاع فيه، وحوزة النجف الأشرف هي التي تمثل ذلك ومشروع (الدورة) كان خطوة في هذا السبيل.

فإلى جانب عطاء (الدورة) التربوي والإسلامي للطلبة، وهذا ما يدخل في مهمة التوعية لرجال الدين، إلى جانب ذلك استطاعت الدورة أن تمهد لخلق الطليعة الواعية القادرة على التحرك في الساحة، وذلك لما جلبت إليها من أبناء مختلف المناطق العراقية، بعد أن وجدوا فيها قدرة على احتضانهم، وتربيتهم.

وحينما أغلق هذا المشروع ـ بعد وفاة السيّد الحكيم بمدة ـ نتيجة ظروف وملابسات معينة، حاول السيّد الشهيد، بالتعاضد مع خاله سماحة آية الله المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين، العودة إلى مشروع مماثل يتبناه السيّد الشهيد نفسه في وقت لم يكن السيّد الشهيد قد أصبح مرجعاً في الاُمّة، وإن كان وجوده يتنامى ويتصاعد في أوساط الشعب ـ إلاّ أن اعتقالات سنة 1974 التي شملت معظم أو جميع تلاميذ السيّد الشهيد أخفقت هذه المحاولة.

وخطوة على هذا الطريق طريق بناء الشخصيات الواعية والمسؤولة في الحوزة تأتي عملية إيجاد الدراسات الإسلامية المختلفة في الحوزة، جنباً إلى جنب مع الفقه والاُصول اللذين احتكرا الساحة بالكامل في الأعوام الأخيرة خاصّة من تاريخ النجف.

وقد كان من أسباب تخلف الوعي الديني في النجف، وضيق الأفق الفكري والرسالي والاجتماعي أيضاً، هو إهمال الدراسات الإسلامية الاُخرى غير الفقه والاُصول.

كان لابدّ من العودة إلى درس القرآن، درس الأخلاق، درس العقائد، درس السيرة، مضافاً إلى الفقه والاُصول من أجل تخريج عناصر إسلامية مثقفة، مشبعة بالفكر الإسلامي في كافة مجالاته.

وهكذا فقد شرع السيّد الصدر في ممارسة هذه الانعطافة الجديدة في تاريخ النجف على يد تلاميذه، والمقربين إليه، وكلّ الذين أدركوا عمق المأساة التي تعيشها الحوزة خصوصاً، وتعيشها الساحة العراقية عموماً.

وتحت عيون البعثيين المترصدة للصغيرة والكبيرة من أعمال السيّد الشهيد قامت هذه الدروس، ومازلنا نتذكر الأساتذة الذين شرعوا بها. ومازلنا نتذكر لهم أيضاً شجاعتهم في القيام بتحديين: تحدى السلطة الحاكمة، وتحدي الواقع المتخلف القائم في الحوزة، وربّما نستطيع القول بأن التحدي الأوّل لم يكن أصعب من الثاني، ولا يكلف أكبر مما يكلف الثاني!!

كان هذا عرضاً سريعاً وموجزاً لنشاط السيّد الشهيد أيام حكومة البعث على صعيد الحوزة العلمية.

ثالثاً: دور القوى الضاغطة على الحكومة:

القوى الضاغطة اصطلاح سياسي يقصد به القوى التي تهدف إلى تصحيح وتعديل سياسة الحكومة بالضغط عليها، حسب ما تستطيعه من أشكال الضغط.

إن دور القوى الضاغطة هو الموقف السياسي والإسلامي الذي حدده، الشهيد الصدر لهذه المرحلة. فإذا كانت شروط المواجهة بعد غير متوفرة، سواء على صعيد الاُمّة، أو الحوزة، أو المرجعية، فإن الموقف المناسب إذن هو التزام سياسة قوى الضغط.

المواجهة الثورية ليست هي الموقف لأن شروطها بعد لم تنضج. والانسحاب من الساحة، واتخاذ موقف المتفرج الصامت، ليس هو البديل الصحيح على الإطلاق، إذن فالحل الوحيد المتناسب مع ظروف المرحلة بكلّ جوانبها، هو التزام سياسة القوى الضاغطة كما مضى الشهيد الصدر.

التيار الإسلامي يستمر في الاُمّة ويتحرك، والسيد الشهيد يدعم هذا التيار، ويتحدى عملياً بهذا الدعم سياسة الحزب الحاكم.

والمرجعية تمارس دورها في الاُمّة، وتمتد وتنفذ إلى عمق الجمهور، وتكسب ولاءهم للخط الإسلامي بدل الوقوع في أحضان الأحزاب والاتجاهات اللا إسلامية. ثمّ من هذا المنطلق، ومن هذا الموقع يكون التعامل والحديث مع السلطة الحاكمة.

بمضي السنين، بل بمضي الأيام بدأ وجود الشهيد يتعمق في الاُمّة، وكلما تعمق هذا الوجود تعمقت مخاوف البعث الكافر.

وعشرات المرات كانوا يقتربون إلى هذا الوجود الإسلامي الاجتماعي الذي يمثله ويدعمه السيّد الشهيد، في محاولة لكسب وده، كما في محاولة للتهرب من الاصطدام بسخط الجماهير الموالية لهذا الوجود.

من دون شك فإن أي تحرك يقوم عليه البعثيون، كان قد سبقه حساب مكرر لهذا الوجود الضاغط، ومن دون شك أيضاً فإن عشرات من الاقدامات والمحاولات والمهام أعرض عنها البعثيون بفعل ضغط هذه القوّة الاجتماعية الإسلامية.

ولأكثر من مرة حاول حكام بغداد التخلص من هذا الوجود الماثل كلّه بشخص السيّد الصدر الرائد الجديد للحركة الإسلامية في المنطقة، في سنة 72 وفي سنة 74، وفي سنة 77، كانت محاولات لتصفيته أو الضغط عليه ليتنازل، إلاّ أنها كانت محاولات غير موفقة، وكان يمنعهم من تصفيته وجوده الاجتماعي والحوزوي، بحساب الأسباب الطبيعية، وكانت يد الله فوق أيديهم، وقد شاءت له تلك اليد الإلهية أن يمارس دوراً أكبر في المستقبل القريب!

مرحلة المواجهة السياسية

* حول المرحلة

* خطوات العمل

* البعث في مأزق

* من البيت يقود المعارضة

الفصل الأوّل: حول المرحلة

المرحلة الجديدة

لعل أصعب شيء على المؤرخ أن يضع حداً فاصلاً بين مرحلتين تاريخيتين، ويسجل نهاية الاُولى وبداية الثانية بالتحديد.

ذلك إن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة لا يتم بمجرد قرار يتخذ، إنّما يتبع مجموع الظروف، ومجموع العوامل المباشرة وغير المباشرة التي تسبقه وتهيئ له، وفي هذه الفترة كلّها فإن التاريخ لا يقف، إنّه يتقدم نحو المرحلة الجديد، أمّا في أي ساعة تبدأ هذه المرحلة فذلك ما يعجز المؤرخ؛ لأن عملية الانتقال التاريخي نفسها لا تتم خلال ساعات ولا خلال أيام.

لكن الباحث التاريخي يستطيع ولو بشكل غير دقيق جداً ـ أن يجعل أهم حدث، أو أهم عامل اجتماعي، أو أهم ظاهرة اجتماعية أو سياسية، واقعة أثناء التحول من المرحلة الاُولى إلى الثانية يجعلها هي الحدّ الفاصل بين مرحلتين.

وعلى هذا الأساس سنمضي في اعتبار انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران هي بداية مرحلة المواجهة السياسية في العراق بين الحركة الإسلامية السائرة في خط مرجعية السيّد الشهيد وبين سلطة البعث الكفارة.

ففي الشهر الثاني لسنة 1979م تناقل الملايين من أبناء الشعب العراقي خبر انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وبقيادة الإمام العظيم، الإمام الخميني.

ومنذ هذا الحين سجل التاريخ أن العراق سيدخل مرحلة جديدة حاشدة بالأحداث، وسيشهد أقسى مواجهة بين شعب مسلم مغتصب وبين عصابة حاكمة كافرة تريد التسلط عليه.

ولعلها أقسى مواجهة على طول التاريخ الإسلامي ليس من حيث الشكل فقط ـ وهذا الجانب ليس هو المهم ـ وإنّما من حيث الموقع التاريخ لها، وارتباطها بنهضة التحرك الإسلامي في العالم. فهي مواجهة مصيرية لا تحدد مستقبل العراق وحده، ولا مستقبل منطقة الخليج التي تتدرع بالعراق، وتتحصن بحكومته، بل إنّها تؤثر حتّى على مستقبل الثورة الإسلامية المباركة في إيران التي أراد الاستعمار أن يكون العراق هو الحربة التي تدمي عينها.

معطيات الثورة الإسلامية

والآن ما هي التغيرات المستجدة في العراق بعد الانتصار الإسلامي؟

وكيف سمحت أو دعت هذه المتغيرات إلى دخول مرحلة المواجهة مع حكومة البعث الشرسة؟

عدّة أشياء استجدت، ولم تكن من قبل، يمكن أن نضعها فيما يلي:

أوّلاً: عودة الأمل بحكومة الإسلام

مند المد الإسلامي الأوّل في الستينات، ومنذ التحرر من احتلال الإنكليز، والحكومات التابعة له في المنطقة، كان الأمل بحكومة الإسلام يملأ قلب الكثير من أبناء الشعب، ولا نستطيع أن نقول كلّ الشعب، إلاّ أن مضادات المد الإسلامي ـ التي تقدم عرضها بإيجاز ـ كانت تعمل بإيعاز وتخطيط المخابرات الأجنبية في المنطقة ـ على تفتيت هذا الأمل، بزرع اليأس في نفوس الناس من ناحية، وتأكيد الفصل بين الدين والسياسة، وإيهام الناس بأن ذلك جزء من حقيقة الدين القائم على الصدق والنزاهة، وذلك أمر لا يجتمع مع السياسة القائمة على الصراع والخداع.

وأكبر دور هو الدور الذي لعبته حكومة البعث في ذلك، سواء على مستوى وعي الاُمّة بالإسلام، أو أملها بحكم الإسلام.

وخلال السنوات العشر التي حكمها البعث قبل انتصار الإسلام في إيران، استطاع إلى حد كبير نسف الآمال الموجودة في قلب الشعب المسلم بالإسلام وحكم الإسلام، إلاّ أن الانتصار العظيم الذي حققه شعب وقيادة إيران المسلمة أعاد للناس بشكل مفاجئ وكبير وعيهم بقضية الإسلام، وأملهم بانتصار الإسلام مرّة اُخرى.

ومعنى هذا أن واحداً من أهم شروط التحرك والمواجهة ضد الحكومة المتسلطة قد تحقّق. فقد أسلفنا أن وعي الاُمّة بإسلامها كان مفقوداً إلى حد كبير، كما أنّ الهزيمة النفسية التي سيطرت على الشعب المسلم، وفقدان الأمل بانتصار الإسلام كان يشاطر فقدان الوعي في تخلف الاُمّة.

ثانياً: عودة الثقة بإرادة الشعب

إن حكومة الحديد والدم التي مارسها البعثيون خلال وجودهم في السلطة، وقمع كلّ تحرك مناوئ، بل كلّ إرادة مناوئة، بل وحتى التفكير المناوئ، بأشرس وأبشع وسائل القمع والفتك، كلّ هذا دعى إلى سيطرة  اخلاقية الهزيمة على شعبنا المسلم في العراق.

لقد كان يحلم بانتصار إرادته على المتسلطين، إلاّ أن عشر سنوات من حكم البعثيين بدد ذلك الحلم، واعتقد الشعب حقيقة وليس وهما بأن التفكير في الخلاص من أيدي الظالمين المتسلطين على الحكم عبث في العبث.

هذا من ناحية، ومن الناحية الثانية فقد كانت كلّ ممارسات البعثيين تمرر على وعي الجماهير، باسم الشعب، وباسم الجماهير، وقد دعى ذلك إلى تضليل عقول الناس، وكسب ضمائر الكثير منهم.

فبالرغم من أن حكومة البعث لا ترتبط بالشعب، لا في أساس الحزب، ولا في حكومته، ولا حتّى في مصالحه وأهدافه، إلاّ أن سياسة غسل العقول التي أجاد ممارستها البعثيون استطاعت حقيقة أن تغسل كثيراً من العقول!

وجاء الانتصار العظيم في إيران ليمحو كلّ هذه الأوهام.

فإرادة الشعب يمكن أن تنتصر، بدليل أن قبضات الشعب المسلم في إيران حطمت كلّ الأغلال والسدود وانتصرت!

وانكشف للناس ـ وليس لكلّ الناس، بل للذين ما تزال جذور الدين فيهم رطبة ـ انكشف لهم أنّهم يعيشون في سجن! وإن حكومة البعث لم تحقق لهم شيئاً، بل صادرت منهم الصغير والكبير!

وانكشف لهؤلاء الناس ديكتاتورية البعث، وزيف كلّ الشعارات الحزبية المطروحة، والمفروضة بالقهر!!

كان هذا هو المعطى الثاني للانتصار.

ثالثاً: التوجه إلى المرجعية

ومرّة اُخرى توجه الشعب المسلم إلى المرجعية الدينية بوصفها هي القيادة الجديرة بأن تتحمل المسؤولية، وتنهض بالشعب، ثمّ تطبق حكم الإسلام.

والجهود الطويلة حقاً التي بذلها البعثيون للفصل بين الشعب وبين قيادته الدينية، معظم أو كلّ تلك الجهود تبخرت حينما انتصرت هذه القيادة، متمثلة بالإمام الخميني العظيم ـ على أكبر طاغوت في منطقة الشرق الأوسط وهو الشاه المطرود.

وعاد إلى وعي الناس مرّة اُخرى أن المرجعية سواء في النجف، أو في قم، قادرة على قيادة الجماهير وقادرة على سياسة الحكم، وليس كما خيل إليهم البعثيون وغيرهم.

إذن الثقة بالإسلام، والثقة بإرادة الشعب، والثقة بالقيادة الدينية هي المعطيات الثلاث للانتصار العظيم في إيران، والتي انعكست على الشعب المسلم في العراق.

مشاكل وصعوبات

في أفق السيّد الشهيد كانت تلك المعطيات مرتسمة بوضوح، وكان يتطلع بصبر إلى التغييرات الجديدة على الساحة العراقية.

وكان يرى أن الاُمّة قد اقتربت إلى حد كبير من مرحلة المواجهة، لكنه قال:

إن أمامنا عدّة مشاكل يجب دراستها بإمعان قبل اتخاذ القرار.

ما هي تلك المشاكل، وما هو طريق التغلب عليها؟

كانت مشكلتان تأتيان في رأس القائمة:

المشكلة الاُولى: مشكلة المرجعية:

المرجعية تحتاج فيما تحتاج إلى زمن كما قلنا سابقاً. كي ينفذ الفقيه في وسط الجماهير، ويمتد في قلب الاُمّة، ويكون مرجعاً لها بالفعل يحتاج إلى فترة زمنية ـ قد لا تكون قصيرة ـ مملوءة بالنشاط، والاحتكاك مع الأُمّة، والامتداد من ناحية اُخرى في وسط الحوزة العلمية التي هي الصلة بين جماهير الاُمّة وبين المرجع.

وقد حدثنا أن السيّد الشهيد تصدى لاحتلال هذا الموقع، ومضى فيه شوطاً كبيراً، ويعتبر ما حققه في هذا المجال بالنسبة إلى الفترة الزمنية التي استغرقها شيئاً غير عادي.

إلاّ أن سنة 1979م حينما حلت، وحلت معها التغيرات السريعة، لم يكن السيّد الشهيد هو المرجع الأوّل في المنطقة!

نعم كانت علاقته بالاُمّة، وعلاقة الاُمّة به بمستوى مقام المرجع العام، إلاّ إنّه يأتي من هذه الناحية بالدرجة الثانية، وبعد مرجعية السيّد الخوئي. وهنا سر المشكلة!

فالاُمّة قد وثقت بإسلامها، كما وثقت بإرادتها، ووثقت أيضاً بقيادة المرجعية الدينية، وهي تنتظر منها الآن إشارة التحرك!

ولم تكن مرجعية السيّد الخوئي بمستوى هذه المهمة الضخمة، فهي من ناحية لا تملك وعياً سياسياً كافياً، وهي من ناحية ثانية غير مؤمنة فعلاً ولا بالمستقبل بصحة التحرك نحو حكم إسلامي!

ومعنى هذا إن مرجعية السيّد الصدر ستبقى وحدها في الساحة إذا أرادت التحرك، وليس ذلك فقط بل أن التحرك المنفرد يعطي لسلطة البعث شرعية القضاء عليه وتصفيته مستفيدة في ذلك من سكوت المرجعية الاُخرى، ومضللة الرأي العام بهذه الطريقة كما حدث بالفعل.

ومن ناحية اُخرى فإن الرأي العام سيتساءل، وسوف لا يندفع تماماً حينما يجد أن المرجعية الاُولى، مرجعية السيّد الخوئي غير مؤمنة بصحة التحرك!

كانت هذه هي المشكلة الصعبة، وظلت إلى الأخير هي المشكلة الصعبة أمام التحرك الإسلامي في المنطقة.

وكان السيّد الشهيد يدرك جسامة هذه المشكلة، ويطيل التفكير فيها، ويمتعض ألماً حينما لا يجد لها الحل!!

ولم تنفع كلّ المحاولات لإقناع ودفع مرجعية السيّد الخوئي نحو التحرك، بل ونحو التأييد فقط، بل وعلى الأقل إظهار الرضى والقناعة بصحة التحرك حينما تتبناه مرجعية السيّد الشهيد. ورغم أنّها كانت محاولات متكررة ومكثفة إلاّ أنها باءت بالفشل. وأمام هذه المحنة ظل السيّد الشهيد وحده في خط المرجعية!

ما هو الموقف والاُمّة تنتظر!

ما هو الموقف وفرصة التحرك المواجه قد استجمعت معظم شرائطها ولن تمر فرصة اُخرى مماثلة!؟

وفي هذه الحياة لا ينبغي أن ننتظر عملاً بدون مشاكل، خصوصاً إذا كان بهذه الضخامة.

وهكذا قرر الشهيد العظيم، والرائد الجديد، أن يتقدم، ويدخل في المواجهة، ويتحمل مسؤوليتها، وكان القرار عملاً!!

المشكلة الثانية ـ مشكلة ضعف الجهاز الحركي

شرحنا في فقرة سابقة طريقة تحرك المرجعية، وقلنا أنها تتحرك من خلال نفوذها العميق في الاُمّة، وولاء الجماهير لها، وتعتمد في هذا التحرك على وكلاءها المستقرين في إنحاء البلاد، والذين يمثل كلّ واحد منهم مرجعاً صغيراً في حدود منطقته.

والطريق الثاني لتحركها هو الحركات والتنظيمات الإسلامية الموجودة في الساحة أو التي يجب أن توجد.

وفي هذه المرحلة التي نؤرخ لها كانت المرجعية تجد ضعفاً بالغاً في جهازها الحركي، أمّا التنظيمات الإسلامية فإنّها قد تقلصت إلى حد بعيد، بعد مطاردات متلاحقة ومستمرة، وخصوصاً سنة 1972م، و سنة 1974م، التي أعدمت فيها سلطات البعث مجموعة من أبرز العاملين في الساحة.

إضافة إلى أن أي تحرك إسلامي منظم كان ممنوعاً، ويجب أن يعمل في السر، وفي غاية السر.

وأمّا وكلاء المرجعية، وعلماء المناطق فإنّهم يشكون من ضعف مماثل، وإن كان أقل من الأوّل.

فهم من ناحية العدّد لا يسدون عشر حاجة المنطقة، ومن ناحية الكيف فإن كثيراً منهم تابع لمرجعية السيّد الخوئي، أو يسير على منهجها في السكوت والتقية! كما أن حكومة البعث خلال عمرها في الحكم استطاعت أن تخلق لها وجودات عملية، أو تستفيد من الوجودات القائمة فعلاً والتي لا تؤمن بالتحرك، ولا تملك وعياً إسلامياً، بل ولا روح الورع والتقوى!

ومعلوم أن الوكلاء المبثوثين في مناطق البلاد يمثلون أصابع الحركة بالنسبة للمرجع، وبدونهم يكون قرار التحرك الجماهيري في غير محله المناسب.

وهنا كانت المشكلة الثانية: كيف تتحرك مرجعية السيّد الشهيد وهي لا تمتلك أيادي الحركة؟ وكيف يصل صوت المرجعية للاُمّة إذا لم يتوفر لها هذا الجهاز الناقل والمحرك، أو إذا كان هذا الجهاز ضعيفاً؟

وحسب السيّد الشهيد لهذه المشكلة حسابها، ومع ذلك فقد قرر أن يتحرك! لماذا؟

سوف نرى.

المشكلة الثالثة: مشكلة البديل

لعلها أعقد مشكلة كانت بحسبان السيّد الشهيد، وهكذا كانت أيضاً، رغم أن المشاكل الثلاث متقاربة في التعقيد والصعوبة إلى حد كبير!

كلّ الأسئلة كان يجيب عنها السيّد الشهيد حول تحركه السياسي عدا سؤال واحد كان يمتنع عن الإجابة عليه من هو البديل إذا قدّر الأمر الذي لابدّ أن يكون؟

لم يكن خافياً على أحد أن سياسة البعث لا تعرف المجاملة، وأن المزاج السياسي للحزب الحاكم هو مزاج الفتك، والدم، سيما وأنّهم ـ تبعاً للاستعمار العالمي ـ قد أخذوا من تجربة إيران درساً قاسياً!

وإنّهم يجب أن لا يقعوا في غفلة الشاه المقبور حين تجاهل الإمام الخميني، وسمح له بممارسة نشاطه خارج حدود بلاده، وأخيراً كان ما كان!

كان واضحاً إلاّ لمن لا تتضح لهم حقائق الاُمور إلاّ بعد الوقوع فيها ـ كما كان واضحاً للسيّد الشهيد نفسه أن أي تحرك جديد في الساحة يعرضه شخصياً للتصفية الجسدية من قبل حكومة البعث الدموية.

وكان التفكير طويلاً في البديل الذي يعقب السيّد الشهيد لو حدث ما حدث!

ولما لم يكن هناك بديل، كانت هناك مشكلة!

ضرورة التحرك على طريق المواجهة

بمجموع الحسابات السياسية كان يلاحظ أن التحرك الإسلامي على طريق المواجهة مع السلطة أصبح ضرورة، وليس اختياراً!

فمن ناحية: تصاعد المد الإسلامي في المنطقة بشكل مفاجئ بفعل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وهذه فرصة يجب أن لا تضيع، وليس معلوماً أن هذا سيستمر في التصاعد، أو حتّى سيثبت على هذه الحدود، بل كان مؤكداً أنه سيبدأ في خط تنازلي لو ترك الآن، سيما إذا أخذنا بالحساب الإعلام البعثي الذي يسعى جاهداً للتعتيم على الثورة الإسلامية، بل وتضليل الرأي العام حولها، وهكذا الإعلام العالمي كلّه.

ومن ناحية ثانية فإن انتصار الثورة في إيران كان له ردّ فعل معاكس من نظام البعث الحاكم في العراق، فقد أصبح معلوماً لديهم أن الإبقاء على الوجود الإسلامي في المنطقة، بأي درجة من الدرجات يشكل خطراً على مستقبلهم، وأنّه إذا لم يستأصل من جذوره فإنّه ينمو ويمتد ويتصاعد وقد يطيح بهم كما أطاح بحكم الشاه المقبور.

لقد أدركت السياسية الاستعمارية في المنطقة بأنّها ارتكبت غلطة في إيران يجب أن لا تتكرر، وقد كان الموقع المناسب لتكرر هذه التجربة هو العراق، سيما وأن معطيات الثورة الإسلامية الإيجابية برزت في الساحة العراقية بشكل لم تبرز بمثله في مناطق آخر.

وعلى ضوء هذه الحسابات فإن حكومة البعث أصبحت عازمة على استئصال جذور الوجود الإسلامي في المنطقة، واقتلاعها من الأسس، وهنا أيضاً أدركت بأنها ارتكبت غلطة ـ قد تنال جزاءها ـ حينما عدلت عن محاولتها لتصفية السيّد الصدر سنة 72، 74، 77 بينما كان معلوماً أنّه يمثل مركز الخطر، ولهذا صممت من الآن وقررت أن تستيقظ، ولا تستمر في السبات كما استمر الشاه وهو يظن أن قواته الخاصّة والعامّة قادرة على حماية ملكه، بينما كان الوجود الإسلامي يتحرك بهدوء في أوساط الجماهير!

ولقد قالوا بصراحة (إننّا لا نريد خميني ثان في المنطقة).

ومعنى ذلك في حساب السيّد الشهيد إننّا إذا لم نبدأ بمواجهة البعث، فإنه سيبدأ بمواجهتنا، وحينئذٍ سيفرض علينا موقف الدفاع من ناحية، كما سيكون هو صاحب الخيار في طريقة الصراع، وتحديد وقته.

كلّ هذه أدركها الشهيد الصدر بوضوح، وحولها أيضاً كانت جلسات، ومباحثات، انتهى السيّد الشهيد منها إلى ضرورة التحرك فعلاً وبسرعة على طريق المواجهة.

نعم التحرك على طريق المواجهة. لأنّ أي تحرك مهما كان حجمه يعتبر في عرف النظام الحاكم مواجهة، وسيجر إلى المواجهة حتماً، وهذه أيضاً كانت واضحة في أفق السيّد الشهيد.

وكما قلنا إذن فالمواجهة أصبحت ضرورة وليست اختياراً، فيجب أن نملك زمام المبادرة لكي نملك الموقف.

تجاوز الصعوبات

المشكلة الاُولى لم تجد حلاً، وضلت بدون حل إلى الأخير، كما ضلت هي العقبة الكبرى حتّى بعد استشهاد السيّد الصدر! وما تزال!

فالمرجعية المتمثلة بالسيّد الخوئي غير مقتنعة بأدنى تحرك، ولا مؤمنة به، ولا راضية عنه، وقد شرحنا ما ينعكس عن هذا الموقف من ردود فعل لدى الرأي العام.

ولم تنجح المحاولات التي بذلت من أجل إقناع هذه المرجعية، إلاّ أن شيئاً من ذلك لم يحدث ولا رائحة .

إذن يجب أن تتقدم مرجعية السيّد الشهيد بما لديها من وجود، وما لديها من إمكانيات، وإن كانت قليلة أمام طاغوت البعث وشراسته.

على أن عملاً سريعاً وجاداً ومكثفاً يجب أن يبذل بأقصى السرعة من أجل تعميق وجود هذه المرجعية في أوساط الأُمّة، وهكذا كان كما سنرى إن شاء الله .

وإمّا المشكلة الثانية ـ مشكلة ضعف الجهاز الحركي ـ فإنّها لم تجد أيضاً الحل الكامل الحاسم، نعم كان هناك نصف حل.

فإذاعة الجمهورية الإسلامية في إيران تستطيع أن تسد جزءاً من الثغرة، فهي تستطيع أن توصل للشعب العراقي صوت الإسلام، وتستطيع أن تطلعه على مجريات الأحداث في الساحة العراقية نفسها، وإلى حدّ ما تستطيع أن توصل له صوت مرجعية النجف الأشرف، إضافة إلى أنّها تواصل تصعيد الحماس الإسلامي، وتعميق الأمل بحكومة الإسلام من خلال عرضها لأنباء الجمهورية الإٍسلامية في إيران، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فقد كان بالإمكان خلال فترة وجيزة وسريعة جداً توسيع الجهاز الحركي لمرجعية السيّد الصدر في الاُمّة، وذلك عن طريق إرسال الوكلاء، والمبلغين، الذين يبدأون تحركهم في الاُمة فور وصولهم!

وذلك أمر قد حدث أيضاً، كما سنرى إن شاء الله  تعالى.وأمّا بصدد المشكلة الثالثة ـ مشكلة البديل ـ فالسيد الشهيد كان يعرف دوره، أنّه أشبه ما يكون

بدون الإمام الحسين عليه السلام، في ثورته ضد يزيد، فالأمام الحسين ـ عليه السلام ـ كان يدرك أنه مقتول، ومع ذلك فقد رأى أن ثورته ضرورية؛ لأنّ أخلاقية الهزيمة التي سادت بعد مقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وغلبة معاوية على تحركات الإمام الحسن عليه السلام، تلك الأخلاقية كانت بحاجة إلى تطهير، والدم هو السبيل الوحيد. الدم وحده هو القادر على تحريك ضمير الاُمّة، وتغيير أخلاقيتها.

الشهيد الصدر هكذا كان يدرك عصره، ويحلل مجتمعه، وهكذا أيضاً أدرك أن المرحلة التي يقطعها الشعب العراقي مرحلة تتطلب الدم والشهادة، وإلاّ فإن شعب العراق سيموت! ولئن مات بهذه الطريقة فإن مسؤوليته على قادته الإسلاميين أوّلاً قبل غيرهم.

على أن الشهادة كانت تنتظر عزيزها الجديد، على كلّ حال. وهنا مرة اُخرى نتذكر سياسية يزيد مع الحسين ـ عليه السلام ـ حين قال:

(اقتلوه ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة)، ورأى أبو الشهداء أنّه يجب أن يتقدّم بنفسه للموت قبل أن يقع فيه من غير اختيار هكذا كانت سياسة البعث مع حسين عصره الشهيد الصدر.

لقد افلت منهم أكثر من مرّة، وهم اليوم مصممون على أن لا يفلت مرّة اُخرى، إن إيران أعطتهم درساً قاسياً لن ينسوه!

من السذاجة إذن مع هذا الحال ـ التفكير في الهزيمة، وإذا كان عدوّك حائراً بك، فإن عليك أن تزيده حيرة، وتداهمه وهو في الحيرة، ولا تعطيه فرصه القرار.

وهكذا صنع الحسين ـ عليه السلام ـ وصنع ابن الحسين!

ولكن من هو البديل!

لاحظ الشهيد العظيم أن البديل غير موجود فهل يغير موقفه؟

قد يكون ذلك لولا أن التحرك على طريق المواجهة أصبح ضرورة وليس اختياراً كما شرحنا، وهكذا فقد تقدم الشهيد ليستقبل الشهادة.

وقال الحسين ـ عليه السلام ـ: ((شاء الله أن يراني قتيلاً)) وقال ابن الحسين، حسين عصره (إني عشقت الشهادة) (إني صممت على الشهادة).

وقال أمام حشد حضره المئات من تلاميذه (نحن معودون على العمر القصير. مات أبي وعمره… ومات أخي وعمره 50 سنة والآن قد تجاوزت هذا العمر).

الفصل الثاني خطوات العمل

كلّ نشاطات السيّد الشهيد في هذه المرحلة كانت تسير نحو هدف واحد، هو تصعيد المد الإسلامي على طريق المواجهة مع السلطة الكافرة، المتمثلة بحكومة البعث.

لقد شرحنا أن موجاً جديداً استوعب الجماهير في المنطقة، على مستوى التصاعد المعنوي، وتصاعد الآمال بحكم الإسلام، وعلى مستوى الثقة بإرادة الشعب وضعف الطواغيت أمامها.

كان هذا الموج الجديد يحتاج إلى استثمار ودعم من قبل مرجعية النجف، وإلاّ فإنه سيخفت ويهدأ.

ولهذا فقد كانت خطوات السيّد الشهيد جميعاً هادفة إلى هذه النتيجة، وسائرة في هذا الطريق، طريق تصعيد المد الإسلامي، والوقوف على أبواب المواجهة السياسية القاسية.

وهو في هذا الطريق أيضاً كان هادفاً إلى إيقاف تقدم الحزب الحاكم! فقد كان حزب البعث يستفيد من كلّ السبل، ويستخدم كلّ الوسائل، من أجل ربط الشعب كلّ الشعب! بالحزب الكافر، وإلى هذه الغاية كان يتوصل بالقهر، والإرهاب، كما كان يتوصل بتضييق الطرق المعاشية على غير المنتمين للحزب، إضافة إلى مختلف أساليب الخداع والتضليل!

وأمام هذا التحكم في أفكار الناس، وعقول الناس، ومصادرة حرياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية، وجد السيّد الشهيد أنه يجب عليه في هذه المرحلة، وبعد أن طغى البعث أقصى حدود الطغيان، أن يقف أمام هذا التحكم الحزبي المقيت!

ولئن لم يكن قادراً على اتخاذ هذه الوقفة من قبل، فإنّه اليوم قد أصبح أمام الأمر الواقع، ولا محيص عن صد هذا الهجوم السافر على كرامة الناس، وعلى كرامة الدين من ناحية اُخرى. وهو إذا لم يقف اليوم هذه الوقفة فإنه من حيث يدري أو لا يدري سيبيع الشعب بالكامل إلى كفر البعث، وذلك ما لا يمكن أن يكون!

كما أن توجه الاُمّة إلى المرجعية أمر لا يمكن التفريط به، والسكوت أمام هذا التوجه يعتبر رفضه، والمساهمة في فقدان الثقة من جديد بالمرجعية الدينية، وكلّ هذه المهام السائرة جميعاً في طريق تصعيد المد الإسلامي لم يكن غير السيّد الشهيد قادراً على حمل مسؤوليتها!

على أن المشاكل السابقة فرضت على السيّد الشهيد اتباع سياسة التدرج في تحركه. فهو لم يبدأ بالمواجهة المباشرة مع السلطة الحاكمة، وإنّما بدأ يسير خطوة فخطوة على طريق المواجهة، وكان هذا هو الموقف الطبيعي إزاء تلك المشاكل الصعاب، وخصوصاً مشكلة ضعف الجهاز الحركي الذي تملكه مرجعية السيّد الشهيد، كما كان هذا هو الموقف الطبيعي إزاء سياسة الحزب الحاكم القائمة على البطش السريع، بينما كان عنصر الزمن مهماً جداً لنجاح تحرك السيّد الشهيد، وكان  الحرص عليه ضرورة سياسية.

1ـ عدم الثورة الإسلامية

كانت الثورة الإسلامية في إيران هي المفاعل النووي الذي فجر التيار الإسلامي في العراق، وكانت مساندة هذه الثورة ودعمها ضرورة لإدامة التيار في الساحة العراقية، كما هي ضرورة للساحة الإيرانية.

والشعب العراقي بدأ يتطلع إلى تقييم المرجعية الدينية لهذه الثورة التي ملكت عقله، وعواطفه، ووهبته كلّ شيء!

وتصدى السيّد الشهيد ليبارك للإمام الخميني، والشعب الإيراني المسلم البطل انتصاراته الباهرة ويعلن للشعب العراقي من ناحية أن هذه الثورة هي ثورة الإسلام المظفرة التي يجب أن يسير على طريقها[14].

وكان السيّد الشهيد من قبل قد أبرق رسالة مفتوحة إلى الشعب الإيراني المسلم، يوم كان الإمام الخميني العظيم في باريس[15].

وهي لم تكن رسالة إلى الشعب الإيراني وحده، وإنّما كانت ـ وبالأحرى أن تكون ـ رسالة إلى الشعب العراقي، لتصعيد روحه الثورية، ووعيه السياسي والإسلامي.

وبالفعل فقد وزعت هذه الرسالة سراً ـ بين أبناء الشعب العراقي على شكل (كاسيت) مسجل، وتناقلها الشباب المثقف في الاُمّة الذي كان يعيش أحداث الثورة الإسلامية في إيران ساعة بعد ساعة. وفيما عدا ذلك، ورغم أن الظروف السياسية في العراق أصبحت حرجة للغاية، نتيجة لتخوف حزب البعث في التصاعد الإسلامي في المنطقة، ومن الثورة الإسلامية في إيران من ناحية ثانية، رغم كلّ ذلك فإن السيّد الشهيد تحدى حكومة البعث حين تحدث في مجلس درسه العام عن انتصار ثورة الشعب في إيران، وعن سقوط آخر قلعة من قلاع الطاغوت في المنطقة بيد الشعب المسلم.

ومرّة ثالثة كانت مناسبة استشهاد الأُستاذ الكبير، الفيلسوف الإسلامي الشيخ مرتضى مطهري، الذي كان من أبرز عناصر الحركة في إيران، كانت هذه المناسبة فرصة استفاد منها السيّد الشهيد في توطيد العلاقة الأخوية بين الشعب العراقي المسلم، وشعب وحكومة إيران المسلمة، حيث عقد مجلس الفاتحة على روح الشهيد، في وقت كان البعث الحاكم يترصد التحركات الصغيرة والكبيرة للسيّد الشهيد، وللخط الذي يمثله.

لقد كان واضحاً أن كلّ هذه المواقف مهما تكن صغيرة تعتبر تحدياً لحكومة البعث الساخطة أشد ما يكون السخط على الثورة الإسلامية، وعلى شعب وقيادة إيران العظيمة.

2ـ تحريم الانتماء لحزب البعث

لقد شهد العراق في أيام المرحلة التي نؤرخ لها حملة تبعيث واسعة المدى لم يسلم منها العامل، والطالب، والموظف، والكاسب، وحتّى الأطفال الصغار في مدارسهم.

ولم يعد بالإمكان، ولا من الصحيح، السكوت أمام هذه التجاوزات التي يرتكبها الحزب الحاكم. والمسألة ليست مسألة مصادرة حريات، وانتهاك كرامات، وإنّما محاولة جادة لقلع جذور الدين من أبناء الشعب، فالانتماء إلى حزب البعث هو مصيدة لجر الناس إلى التنكر للدين، والتنصل من مفاهيم ومعتقدات الإسلام.

ومن هنا فإن حملة التبعيث الإجباري، أي فرض الانتماء للحزب على الناس، هي حملة تهدد مستقبل الدين في المنطقة.

ولا يوجد غير السيّد الشهيد من يملك القدرة على النطق بكلمة الحقّ. ووضع السيّد الشهيد نفسه أمام الأمر الواقع. فإمّا التحدي للحكومة، والإعلان عن موقف الإسلام والمرجعية من هذا الحزب، وأمّا تسليم الشعب كلّه إلى مصائد الحزب إذا اختار السكوت والاستسلام. ولم يكن الثاني هو الحل بالطبع.

لقد أعلن السيّد الشهيد عن فتواه بتحريم الانتماء لحزب البعث، لتأكيد حقيقة الانفصال بين هذا الحزب وبين الإسلام الذي يؤمن به الناس.

وعلى صعيد التحدي للحزب الحاكم أيضاً تأتي مسألة الحجاب، فقد أعلنت أو حاولت أن تعلن حكومة البعث بمنع الحجاب الإسلامي لنساء الجامعات وبلغت أصداء هذا الخبر إلى السيّد الشهيد، فأعلن بالمقابل عن تحريم الدخول للجامعة بدون حجاب، وبلّغ المسؤولين في السلطة موقف المرجعية الصريح، كما بلّغ وكلاءه بفتواه لينقلوها إلى الشعب.

3ـ إرسال الوكلاء والمبلغين

كانت مرجعية السيّد الشهيد، بل كانت المرجعية عموماً في النجف الأشرف تحتاج إلى تكثيف الروابط بينها وبين الاُمّة، فأكثر مدن العراق، ولعل كلّ ضواحيها كان يخلو من وكيل يكون بمثابة حلقة وصل بين الاُمّة وبين المرجعية.

وإذا كان الجهاز الحركي للسيّد الشهيد ـ الذي يهمنا بالحديث ـ ضعيفاً كما حدثنا من قبل، من حيث أن مرجعيته ما تزال في أوائل الطريق، فكان من اللازم إذن العمل وبكل سرعة على تقوية هذا الجهاز، سيما وأن السيّد الشهيد يستعد لمواجهة قريبة مع النظام الحاكم.

وهكذا فقد بدأ السيّد الشهيد بما يمكن أن نصطلح عليه بـ (حملة الوكلاء والمبلغين)، حيث أرسل في فترة أشهر قلائل عشرات من تلامذته، وأبناء مدرسته، بعد دراسة قامت بها لجنة من تلامذته حول مناطق العراق، وحول المؤهلين لعملية التبليغ.

كان هذا العمل من السيّد الشهيد محاولة لتعميق وجود المرجعية، وتعميق الوجود الديني في وسط الشعب. وهنا نشير إلى موقف آخر للسيد الشهيد تحدى فيه صريحاً الحزب الحاكم.

فخلال عشر سنوات من حكومة البعث، استطاع الحزب الحاكم أن يزرع بعض العملاء ممن يتسمون باسم رجال الدين في جسم الاُمّة، وهؤلاء بالطبع لم يكونوا يرتبطون بالمرجعية الدينية في النجف، كانوا يرتبطون مباشرة بدوائر الأمن العراقية التابعة للسلطة الكافرة.

وفي هذه المرحلة حل الوقت المناسب لكي يعلن السيّد الشهيد للشعب المسلم حرمة الصلاة وراء أئمّة المساجد إلاّ إذا كانوا يحملون وكالة من المرجعية الدينية في النجف، الأمر الذي كشف هوية كثير من العملاء للشعب.

4ـ القفزة بالخط الواعي في الحوزة

من قبل كان السيّد جاداً في تبني الخط الواعي في الحوزة، إلاّ أن الظروف السياسية المحيطة به، والرقابة الحكومية الدائمة عليه، وعدم استكمال شروط المواجهة مع الحكومة، كانت تدعوه إلى تقليص نشاطه في هذا المجال، والمضي فيه بنحو لا يثير حوله الشبهات!

أمّا وقد عقد العزم على التحرك في طريق المواجهة، كما أنّه أصبحت الحاجة ماسة إلى تنمية هذا الخط تنمية سريعة، بعد حملة الوكلاء والمبلغين الذين تركوا شاغراً كبيراً في النجف، أمّا الآن فلابدّ من تحرك سريع لدعم وتنمية هذا الخط، وجذب أكبر عدّد ممكن من الشباب المثقف للانخراط فيه، وأعدادهم سريعاً ليكونوا، حلقات وصل بين المرجع وبين الاُمّة.

ومن هنا فقد التحق بالحوزة العلمية في النجف مجموعة كبيرة من خيرة أبناء الاُمّة، والطليعة المثقفة فيهم، وكانوا جميعاً بتبني وكفالة السيّد، سواء من الناحية المالية، أو الدراسية، أو السكنية.

والحقيقة أن هذه المرحلة شهدت قفزة في هذا الخط، سيما إذا لاحظنا النوعيات الممتازة التي دخلت الحوزة، وسيما إذا لاحظنا عمر هذه الفترة التي لا تتجاوز عاماً واحداً!

على أن الحاجة الماسة التي كانت تدعو إلى إرسال الوكلاء للتبليغ في مختلف المناطق، وحرص السيّد الشهيد على هذا المهمة، ووضعها في الصدارة دعته إلى المسك بكرتين في يد واحدة. فهؤلاء الطلبة الجدد، رغم أنّهم مبتدئون في دراساتهم الحوزوية، إلاّ أن السيّد الشهيد كان مضطراً لإرسالهم إلى مناطقهم أو مناطق اُخرى لممارسة الوعظ والإرشاد، وربط الناس بالإسلام، وتوطيد علاقتهم بالمرجعية، وتصعيد تعاطفهم الديني.

وعلى هذا فإن هؤلاء الطلبة الجدد، أو عدّداً منهم على الأقل، كان يدرس أيام الدراسة، بينما يذهب للتبليغ أسبوعياً وفي أيام التعطيل. يجب أن نشرح للقارئ أزمة الرجال الواعين التي كانت تعيشها الحوزة العلمية في النجف، ويجب أن نشرح للقارئ أموراً اُخرى مأساوية كانت تتجمع على صدر السيّد الشهيد متعلقة بأوضاع الحوزة، إلاّ أن هذه واحدة من نقاط الفراغ التي تركناها في هذا الكتاب!

5ـ دروس في التاريخ

لم تكن دروساً في التاريخ، تلك التي شرع بها السيّد الشهيد بعد الانتصار العظيم في إيران، وإنّما كانت دروساً في التوعية السياسية، والتي أعطى بها زخماً حرارياً حركياً للاُمّة، ولأبناء الحوزة العلمية على السواء.

من قبل كان السيّد الشهيد قد شرع بدروس في مجالات خارجة عن إطار الفقه والاُصول تهدف إلى التوعية السياسية، والتربية الدينية أيضاً.

ومن قبل شرع مجموعة من تلامذته بإلقاء دروس في التفسير، والعقائد، والتاريخ، والأخلاق، إلاّ أن ضغوطاً سياسية قاهرة هي التي وقفت أمام استمرار تلك الدراسات سواء من السيّد الشهيد نفسه أو من تلامذته.

وفكر السيّد الشهيد من جديد بأن المرحلة تسمح، أو تدعو بالأحرى إلى ممارسة تلك الدروس من أجل النهوض مرّة اُخرى بالوعي الديني الرسالي على مستوى الحوزة وعلى مستوى الاُمّة أيضاً.

على أن تصعيد المد الإسلامي في المنطقة يحتاج إلى مبادرة من السيّد الشهيد نفسه الذي يمثل المرجعية الرشيدة في الاُمّة.

وعلى هذا الأساس فقد قرر الرائد للحركة الإسلامية في العراق الشروع بدروس في التاريخ حسب التحليل القرآني له.

وكما قلنا فانه لم يكن درساً في التاريخ بمقدار ما كان درساً في التوعية والتوجيه. وبقرار من السيّد الشهيد لم يكن الحضور إلاّ من أبناء الحوزة العلمية، إلاّ أن تسجيلات الصوت كانت تنتقل وتتناقل في أروقة جامعة بغداد وغيرها.

6ـ التلاحم مع الاُمّة

في شهر رجب عام 1399 أبرق الإمام الخميني للسيد الشهيد برقية وفور وصول هذه البرقية إلى السيّد الشهيد أبرق إلى الإمام الخميني برقية جوابية. (انظر الملحق رقم 2).

ونقلت إذاعة طهران العربية هاتين البرقيتين، وما أن وصل نبأهما إلى مسامع الشعب العراقي حتّى كانت موجة جديدة من الاستفهام والتساؤل حول الموضوع، تبعها موجة من تصاعد الولاء العاطفي للسيّد الشهيد عبر عنه عشرات الآلاف من أبناء الشعب العراقي، على شكل وفود قدموا لزيارة السيّد الصدر من مختلف مناطق العراق، يعاهدوه على أنهم معه حتّى النفس الأخير، وأنّهم يلتمسون منه البقاء وله عليهم أن لا يخذلوه.

غصت النجف بالوفود، وكان أسبوعاً حاشداً، ومتوتراً لم تشهد النجف له حالة سابقة.

ويجب أن نسجل هنا كلمة للتاريخ، أن معظم تلك الوفود لم تكن مرتجلة، وإنّما كانت مدروسة ومخططة، وعمل تلاميذ السيّد الشهيد وأتباعه وكلّ العاملين في الساحة على أعدادها ودفعها لزيارة السيّد الشهيد.

حقّاً أن أصداء برقية الإمام الخميني، ونبأ تفكير السيّد الشهيد في مغادرة العراق صعّد الحماس العاطفي له، وأثار ضجة في المنطقة، إلاّ أن هذا المد الجديد يحتاج إلى استغلال، وهكذا فكر السيّد الشهيد، فبعد أن نقلت إذاعة طهران برقية الإمام الخميني، وعمت في الناس حالة من التساؤل من ناحية، والانشداد لمرجعية النجف من ناحية اُخرى، بدأ السيّد الشهيد في التخطيط لعملية استغلال هذا الحدث الجديد.

وكان القرار كما يلي:

أن يتحرك وكلاء السيّد الشهيد، ويتحرك العاملون الإسلاميون في الساحة لإثارة الناس، وتصعيد حماسهم وسخطهم على حكومة البعث، وتوثيق ولاءهم وحبهم لمرجعية السيّد الشهيد، ثمّ التوجه إلى النجف الأشرف لتجديد البيعة مع هذه المرجعية، وهكذا كان بالفعل، وأستقبل السيّد الشهيد هذه الجموع الغفيرة القادمة إليه من مختلف المناطق، وأكّد لها بأنّه لن يترك الساحة، ولن يترك شعبه، وأنّه معهم في السراء والضراء، وأنّه سيواصل طريقه الذي سار عليه أجداده الميامين، كما شحذ فيهم الهمم العالية، والعواطف الإسلامية، وأوضح لهم أن هذا الطريق بكل ما يحمل من عناء، ومصاعب، هو طريق العز والكرامة، وهو طريق الإسلام المستقيم، وهو قبل ذلك طريق الأنبياء، وأتباع الأنبياء.

لقد شهد هذا الأسبوع ـ أسبوع الوفود. أروع صورة للتلاحم بين القيادة الدينية، وبين الشعب الذي جدد لها الولاء والبيعة، وكان لقاء الجماهير بالسيّد الشهيد يلهب حماسهم، ويصعد من روحياتهم، ويعطيهم عزماً على المضي في طريق الخلاص من الظالمين تحت لواء السيّد الصدر.

كان هذا التحرك من السيّد الشهيد يهدف إلى أمور الأمر الأوّل:

توثيق العلاقة بينه وبين أبناء الشعب، وتصعيد الود والولاء والتعاطف مع مرجعيته التي تصدت للمواجهة مع الحزب الحاكم.

الأمر الثاني: تصعيد الحماس الإسلامي في المنطقة، وتوطيد الأمل بانتصار الإسلام، وانتصار إرادة الشعب المظلوم.

الأمر الثالث: ممارسة حرب نفسية مع الحزب الحاكم، ففي الوقت الذي كان الحزب الحاكم يخطط لتصفية السيّد الشهيد، واستئصال جذور التحرك الديني في المنطقة، كان ضرورياً إعطاءه صورة مبكرة وسريعة، عن حجم الوجود الديني، عن مدى نفوذ القيادة الدينية في الاُمّة، والعمل على هزيمته النفسية من ناحية، وإرباكه في حساباته من ناحية ثانية.

ومجموع هذه الاُمور الثلاثة قد أُنجزت بنجاح، فاللقاء مع الجماهير القاصدة من أقصى العراق، والمتحملة أعباء الطريق الطويل، والتي هاج فيها الحس بالولاء، والبنوة لقيادة السيّد الشهيد، كان هذا اللقاء عاملاً مهماً في توثيق علاقتهم بالمرجعية، وتقوية الأواصر بينهم، كما كان له دور مهم في تصعيد الحماس الديني الثوري، سيما إذا لاحظنا أن الوفود قدّمت بشعارات فدوية، وحماسية، وتتعالى فيها هتافات الله أكبر، لا إله إلاّ الله!

وأمّا فيما يتعلق بالحزب الحاكم، فقد أذهل أمام هذا المد الجماهيري الذي تحرك لمجرد سماع نبأ عن تفكير السيّد الشهيد بمغادرة العراق، وهو بعد لم يعلم بما إذا كان هذا النبأ صحيحاً أم لا!

واحتارت سلطات الأمن كيف تتصرف أمام هذا المد الجماهيري، وكيف تقف أمام هذا التحرك الشعبي الهائج، واضطرت لأن تتجنب معه أي اصطدام، مخافة تتورط فيما هو أكبر منه.

على أن المسألة لم تقف عند هذا الحد. فالأوضاع متوترة إلى أقصى حد، وسلطات الأمن تعيش حالة من الارتباك والقلق، والمشاعر العامّة ساخطة وناقمة، وهي في تصاعد.

وكان احتمال اعتقال السيّد الشهيد موجوداً في كلّ ساعة، كما كان احتمال الاصطدام العنيف بين جموع الشعب وبين سلطات البعث أقوى من الأوّل.

وأثر هذا التوتر فقد تم الاتفاق السري للغاية بين السيّد الشهيد وبين طلائع الحركة الإسلامية في العراق على الخروج بتظاهرات شعبية فور اعتقال السيّد الشهيد المترقب في كلّ ساعة، بل في كلّ دقيقة.

الفصل الثالث البعث في مأزق

بانتصار الثورة الإسلامية في إيران تبددت معظم الجهود التي بذلها البعثيون خلال الأعوام العشرة من حكمهم، ولدى حديثنا عن معطيات الثورة الإسلامية وانعكاساتها على الشعب العراقي أوضحنا التغيير المفاجئ عمّ أفكار الناس وعواطفهم تجاه حكم الإسلام، وتجاه القيادات الإسلامية المتمثلة بالمرجعية.

ويجب أن نضع في حسابنا أن الشعب العراقي لا يتعاطف مع الشعب الإيراني على أساس علاقات الجوار، أو المصالح المشتركة، بل إضافة إلى وحدة العقيدة الإسلامية التي تجمع الشعبين تحت راية واحدة، إضافة إلى ذلك فإن معظم الشعب العراقي، أي حوالي 70% منهم هم من الشيعة الذي يتعاطفون مع إيران، وحكومة إيران بوحي من وحدة المذهب.

والشعب العراقي يعيش حالة من الانفصالية عن حكومته، فهو  يشعر أنّها حكومة طائفية، تضرب المذهب الذين يؤمن به أكثرية الشعب وهم الشيعة، ورغم أن حكومة البعث عملت على تمييع هذه القضية وإغفال الشعب عنها، إلاّ أن بذورها ضلت موجودة في الأعماق.

وقد كان ما دعى إلى تشديد وتأكيد هذا التعاطف إضافة إلى العوامل السابقة، إن الإمام الخميني قائد الثورة الإسلامية، عاش في أوساط الشعب العراقي. ثمّ هو يمثل المرجعية التي يكن لها الشيعة ولاءهم وتقديرهم.

لقد كانت أزمة البعث بانتصار الإسلام والإمام الخميني في إيران، أزمة عكرت لهم صفو الجو، و هدمت كلّ المعادلات التي رسموها للسيطرة على هذا الشعب الظلوم.

كما شرحنا فإن موجة من الولاء للمرجعية الدينية قد عادت، كما أن تغييرا في وعي الناس السياسي والإسلامي قد طرأ، فآمالهم تجاه انتصار الإسلام، وحكومة الإسلام، وسياسة الإسلام، أصبحت وطيدة بينما حاول الاستعمار في المنطقة، على يد البعث ـ تفتيتها وإزالتها.

كما أن حالة الثقة بالنفس، والثقة بإرادة الشعب قد ملاءت نفوس الناس، إضافة إلى تكشف هوية الحزب الحاكم، وسياسته القمعية فقد أصبح واضحاً إلى حد أن حكم البعث ليس نابعاً من الشعب، ولا محققاً لمصالح الشعب تلك هي الأزمة الجديدة التي تورط بها الحزب الحاكم، ولم يكن قد حسب لها حساب.

وإضافة إلى كلّ ذلك فإن مشكلة العلماء ورجال الدين ما تزال غير محلولة. لقد كان العلماء، ورجال الدين يمثلون أصعب مشكلة أمام حكومة البعث المعادية للدين، وخلال السنوات العشر من حكمهم مارسوا أكثر من محاولة لتصفية وجودهم، وإخلاء الساحة منهم، إلاّ أن عمق وجودهم في المنطقة، وضعف الرصيد الشعبي لحزب البعث من ناحية اُخرى، وقف إلى حد كبير أمام نجاح تلك المحاولات.

وحين انتصرت الثورة في إيران فإن تركيب الشعب في العراق يشبه في بعض النواحي التركيب الاجتماعي في إيران.

فإضافة إلى وحدة الدين، ووحدة المذهب، هناك في إيران علماء دين، وفي العراق كذلك، وهناك في إيران علماء، ومراجع تقليد تدين لهم الاُمّة بالولاء وهكذا في العراق، وهناك في إيران عتبات مقدّسة يرتبط بها الشعب العراقي بالولاء والتقديس وهكذا الشأن في العراق.

ثمّ أنّ المرجعية الدينية المتمثلة بالسيد الصدر بدأت تتحرك، وتعمل على تصعيد هذا التيار الإسلامي الجديد، وتأجيج العواطف والحماس الإسلامي، وشد الناس مرّة اُخرى بقيادتهم الدينية،وإذا كان الناس في العراق مرتبطين بالمرجعية ارتباطاً وثيقاً فإنّهم إذن يطمحون إلى انتصار الإسلام على يديها، وتكرار نفس التجربة التي حدثت في إيران.

كلّ هذه الأمور وضعت حزب البعث في مأزق حرج!!

ردود الفعل

وانعكست حيرة البعث على شكل ردود فعل سريعة، يمكن أن نذكر منها ما يلي:

1ـ التودد للعشائر والعمال والفلاحين:

لم يسلم أبناء العشائر ـ والعراق عشائري في تركيبه الاجتماعي ـ والعمال والفلاحون من تسلل أيادي البعث إلى صفوفهم.

ولم ينس البعثيون منذ وردوا إلى الحكم أن هذه الفئات هي الفئات الشعبية التي تهدد حكمهم، ومن هنا فقد كثفوا فيها حملاتهم الإعلامية، وأساليبهم في الأغراء والتضليل، في محاولة لفصلهم تدريجياً عن عواطفهم الدينية الراسخة، وكسبهم تدريجياً إلى الولاء لحزب البعث، وأفكار هذا الحزب المعادية للدين.

إلاّ أن هذه الفئات ضلت محافظة ـ ولو بدرجة قليلة ـ على عواطفها الدينية، وتعلقها بالعلماء، وتقديسها لرجال الدين من ناحية، وأئمّة المذهب من ناحية اُخرى.

وحين انتصر الإسلام في إيران كان تصاعد العواطف الدينية، والحماس الإسلامي، في هذه الفئات أقوى منه من غيرها.

وأدرك البعث أن شبح الخطر عاد يهدد حكمه، ويعرقل مسيرته، والخطر كامن هنا، وفي هذه الفئات الفقيرة، والمسحوقة في المجتمع، والتي لم تعرف شيئاً من منجزات البعث التي أزعجت حتّى الصبيان في مدارس التعليم.

بدأت سلطة البعث مرّة اُخرى بالتودد لهذه الفئات، وكسب عطفها، وتمرير الخداع الحزبي عليها، وصرفت سلطة البعث في هذه المهمة مبالغاً طائلة، ووضعت في خدمة هذه المهمة كلّ وسائل الإعلام العراقية، وبدأت الصحف، والمجلات، والراديو، والتلفزيون تعرض صوراً مختلفة لمشاريع، وزيارات شعبية، واهتمامات إصلاحية، تنوي سلطة الحزب القيام بها خدمة للفلاحين، والعمال، وأبناء الاهوار، وأبناء العشائر!!

وعادت أخلاقية حاتم الطائي إلى سلطة البعث فجأة، فإذا هم يوزعون آلاف الدنانير، والتلفزيونات الملونة، والسيارات (التويوتا)، على رؤساء العشائر، ووجوه المزارعين والفلاحين، وخدع هؤلاء المساكين بقطعة الحلوى المسمومة، وراح ضحية هذا الخداع حريتهم وكرامتهم ثمّ دماءهم!

2ـ اظهار العواطف الدينية

وبدأت حكومة البعث تظهر عواطفها الدينية، وإخلاصها للإسلام، ورسول الإسلام ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأدرك البعثيون أن العواطف الدينية الهائجة والمتصاعدة من جديد لابدّ من امتصاصها، وجرها إلى شباك الصيد بإظهار التعاطف والتودد معها.

وهكذا أعطت السلطة مجالاً لممارسة الشعائر الدينية، بعد أن كانت قد منعت منها منعاً باتاً وحرمت الشعب من ممارستها، أمّا اليوم فإنّها عادت من جديد ـ ولو بشكل قليل، وتحت الرقابة ـ إلى السماح بها.

ومثل آخر على هذه السياسة دعوة القصر الجمهوري مجموعة من علماء الدين، وعلماء المناطق لتناول طعام الإفطار مع رئيس الجمهورية!!

وظهرت على شاشة التلفزيون مجموعة من العمائم المزيفة العميلة للحزب، وهي تؤدي الصلاة، وتتناول طعام الإفطار، مع نائب رئيس الجمهورية!!

ومثل ثالث على هذه السياسة أن حكومة البعث بدأت تمجد بالإسلام، وقادة الإسلام الأوائل، في الخطب والبيانات.

بينما كانت بالأمس القريبة تتنكر لقادة الإسلام، وتربط الأُمّة المسلمة بالأجداد الأوائل للعروبة!

وعادت إلى مدارس الأطفال كتب حول تفسير آيات القرآن الكريم، وطبيعي أنّها تبقى مهملة، أو تعطى بيد أساتذة بعثيين أعداء للقرآن والإسلام!!

ولم تكن هذه الممارسات ردة فعل لانتصار الثورة الإسلامية في إيران فقط، وإنّما كانت وسيلة تعتيم لتدعم حملات الحزب ضد رجال الدين، وشعائر الدين، وأفكار الدين عموماً.

فباليد التي تحمل الورد يغفل الشعب عن اليد التي تحمل الخنجر!

3ـ بداية التحرك المضاد

بمقدار ما كان المد الإسلامي يتصاعد، كانت مخاوف البعث تتصاعد.

وبمقدار ما كان للسيد الشهيد من دور في تنشيط المد الإسلامي، كانت حملة البعث المضادة تتركز عليه، وعلى نشاطه شخصياً. وحدقت كلّ العيون من جديد حول هذه الشخصية القابعة في النجف!

حينما تبادلت مع الإمام الخميني العظيم رسائل تخص الوضع الإسلامي والسياسي في المنطقة. وبرز السيّد الشهيد مرّة اُخرى بوصفه الرجل الخطر في المنطقة!

وأحس البعثيون بكثير من الندم حينما ضيعوا عليهم أكثر من فرصة لتصفية هذا الرجل!

والآن وحينما بدأ الصدر يتحرك بدأت دوائر الأمن، ورجال البعث، وقادة الحزب، وخبراء القصر الجمهوري، بمعونة كلّ أعداء الإسلام في المنطقة، وبتوجيهات المخابرات الأجنبية، بدأت كلها جميعاً تتحرك بشكل معاكس ومضاد والسيد الشهيد لم يعطهم فرصة التحرك الأسبق، والسيطرة على زمام الأمور، لقد بادر بالتحرك فتحركوا نحو الدوائر التي يتحرك فيها، وكانت تلك نقطة قوة رائعة في تحرك السيّد الشهيد، قد لا يبدو عمقها لمن لا يعرف سياسة البعث من ناحية، ووضع الساحة السياسي والاجتماعي من ناحية اُخرى.

لقد بدأ البعثيون بالتحرك المضاد، كيف ذلك؟

أئمّة مساجد بعثيون

ليست هذه الظاهرة مستجدة، وإنّما بدأت البعثيون بتركيزها. فقد أشرنا من قبل إلى أن الحزب الحاكم خلال عشر سنوات من حكمه استطاع أن يصنع في معامله عملاء ثمّ يضعهم بشكل أئمّة جماعة في المساجد، وخاص في المناطق الفقيرة والأمّية.

إلاّ أن الحزب الحاكم صار أحرص على ترسيخ هذه الظاهرة، بعد تحرك السيّد الشهيد، وتصاعد المد الإسلامي في المنطقة.

لقد وجه السيّد الشهيد ضربة قاسية إلى هذه اللعبة حين أعلن عن فتواه بحرمة الصلاة وراء كلّ من لا يرتبط بمرجعية النجف، والعملاء كانوا يرتبطون بدوائر الأمن لا بالنجف بينما أصبحوا الآن مطالبين من قبل الناس بإبراز ما يشهد لهم بأنهم مبعوثون من قبل النجف، ومرتبطون بمرجعية النجف.

وكان هذا مأزقاً جديداً وقع فيه هؤلاء المدسوسون، كما وقعت فيه الدوائر التي أرسلتهم.

ولقد كانت هنا مسرحية جميلة!

تقدّم عدّد من هؤلاء ومعهم جماعة من الشهود العدول!!

إلى بيوت المراجع في النجف الأشرف يطلبون توكيلهم، والنيابة عنهم في المنطقة.

ولقد شهدنا كيف يدافع الشهود العدول البعثيون! بحرقة أمام مرجع التقليد لإقناعه بأن هذا العالم أو ذاك صاحب فضيلة وعلم وتقوى، ونحن نريده عالماً، وأمام جماعة في مسجدنا!!

وامتد الصراع إلى أكثر من ذلك، ففي الوقت الذي يرسل السيّد الشهيد أحد الوكلاء المبلغين إلى منطقة يجتمع عدّد من صنائع البعث في تلك المنطقة، ويتقدمون ليشهدوا عند مرجعية السيّد الخوئي! بأنهم يرفضون هذا العالم ويريدون ذاك. ولا ننكر أن هذه الخدعة قد انطلت أحياناً.

احصائية جديدة

إن الموجة التي عمت الشعب بانتصار الثورة الإسلامية في إيران تلتها موجة جديدة حين بدأ السيّد الشهيد بحملة الوكلاء والمبلغين، لقد فتح الشعب عينيه من سبات طويل، وأفاق من غفوة خدره فيها البعثيون، ماذا شاهد؟

شاهد ثلة من رجال الدين ليس كما وصفتهم أجهزة الدعاية فهم مثقفون واعون، وهم عاملون نشطون، وهم صلحاء أتقياء، وهم مناضلون شجعان، وليس كما وصفتهم أجهزة البعث وضللت حولهم الرأي العام بإنّهم رجعيون، متخلفون…

وشاهد القيادة الدينية في النجف الأشرف، المتمثلة بالسيّد الصدر، وهي عازمة على تحريك ضمير الأمّة، وإعادة الشعور الديني الحي، والنهوض بالفقراء والمستضعفين، والدفاع عن حقوقهم المهدورة، والاستعداد من أجل ذلك لمواجهة اعتى سلطة!

وكانت هذه المشاهدات جديدة على ناظري الشعب الذي انفصل عن رجال الدين منذ مدة طويلة!

وكان معلوماً لكل أحد أن الشهيد الصدر عازم على تعبئة العراق بهؤلاء المبلغين الواعين، والاستمرار بالمسيرة إلى آخر حدودها. ولم تنم للبعث عين وهم يرقبون هذا التحرك السريع المكثف ما هو رد الفعل؟

لأوّل مرّة يشهد تاريخ العراق كلّه هذه الإحصائية الجديدة التي تتبناها الدولة!

من هم وكلاء السيّد الصدر، وكم هو عدّدهم؟

ومن هم وكلاء السيّد الخوئي، وكم هو عدّدهم؟

ونزل أفراد الأمن وهم يتساءلون، لا من الناس وحدهم وإنّما من العلماء الوكلاء أنفسهم، هل أنت وكيل السيّد الخوئي أو السيّد الصدر؟؟

كان هذا الموقف على حجّم وجود السيّد الشهيد في الاُمّة، وعلى مدى قدرته على الحركة، ومعلوم أن وكلاءه هم أصابع الحركة، وهم وحدهم في الساحة لأن وكلاء السيّد الخوئي غير مؤمنين بهذا التحرك، ولا بمطلق التحرك، إضافة إلى أنهم من مستويات غير قديرة على التوعية، ولا الإدارة.

بدأ البعثيون هذه الإحصائية بعد أن مضى السيّد الشهيد في حملة الوكلاء والمبلغين شوطاً جيداً، استطاع أن يملأ فيه مجموعة من الفراغات في أكثر من منطقة.

وبقي هذا السؤال:

ماذا يجيب علماء المناطق عن سؤال رجال الأمن؟

هل يعلنون عن ولاءهم، وارتباطهم بالسيد الصدر ولا أحد يدري ماذا سيحدث؟ أم يقولون غير الحقيقة فيأمنون غضب البعث وعداءه؟

أجاب السيّد الشهيد: قولوا الحقيقة؟

يجب أن نرهب حكومة البعث في امتدادنا في الاُمّة، وفي هذه المرحلة يجب أشعارهم بأننا أقوياء، كما أننا في هذه المرحلة عازمون على المواجهة فلا داعي للتقية!!

4ـ الانفجار

كلّ شيء كان متوقعاً بعد تصاعد المد الثوري في المنطقة. القيادة الدينية في النجف ـ السيّد الصدر ـ ماضية في نشاطها، ودعمها، وتوجيهها، وتصعيدها للموج الإسلام.

ووكلاء السيّد الشهيد ـ علماء المناطق ـ ماضون في العمل على أوسع وأكثف ما يكون.

وجموع الآلاف تجمعت في طرق وشوارع النجف تجدد العهد والبيعة للسيد الصدر. وأعصاب كلّ الناس في المنطقة أصبحت متحفزة. والانفجار كان متوقعاً في كلّ ساعة.

ليس انفجار الشعب ـ فإنّه في طريقه نحو الانفجار ـ وإنّما انفجار البعث الذي لم يعد يتحمل هذا المد الجديد!

الأسبوع الأوّل (أسبوع الوفود) مضى بسلام، وما دخل الأسبوع الثاني والوفود ما تزال ترد مدينة النجف، حتّى بدأ الانفجار.

في الطرق العامّة المؤدية إلى النجف، وفي نقاط التفتيش الموجودة في مدخل كلّ مدينة، وقفت مجموعة من أجهزة السلطة المسلحين لانزال الوفود القاصدة إلى النجف واعتقالها، أو إرجاعها إلى مناطقها بعد أخذ هويات وخصوصيات المشتركين.

وفي داخل مدينة النجف، وحوالى بيت السيّد الشهيد بدأت مطاردة كلّ القادمين إليه، واستقرت أعداد مكثفة من أفراد الأمن مسلحين وغير مسلحين في المنطقة، لهذه الغاية.

كان ذلك متوقعاً ومنتظراً!

وبعد أيام قامت سلطات البعث بحملة اُخرى، اعتقلت فيها كلّ وكلاء السيّد الشهيد في مدينة الثورة ووصلت أنباء الخبر إلى السيّد الشهيد، وطلبت منه أهالي المدينة البطلة رأيه في الخروج بتظاهرات عامّة يشترك فيها الرجال والنساء، فأعطى رأيه بالإيجاب، قائلاً وإذا اصطدموا معكم فعليكم المواجهة بكلّ أشكالها.

الفصل الرابع ـ من البيت يقود المعارضة

شهد العراق مرحلة جديدة منذ أقدمت سلطات البعث على اعتقال السيّد الشهيد، في اليوم السابع عشر من رجب لسنة 1979هـ.

وأبرز ما في هذه المرحلة ظهور المعارضة المسلحة على الساحة، ومن هنا فإن تسمية هذه المرحلة بـ (مرحلة المعارضة المسلحة) أمر ممكن، ورغم أن المعارضة لم تتحول بالكامل إلى شكل مسلح، إلاّ أن هذا الشكل برز فيها بحيث أصبح الطابع المميز لها عن المراحل السابقة.

ماذا بعد الاعتقال؟

في ساعة مبكرة من صباح يوم الثلاثاء المصادف 17 رجب سنة 1979 كان ما يقارب مئتي شخص من رجال الأمن، وسلطات البعث محيطاً ببيت السيّد الصدر، ودخل عليه مدير أمن النجف (أبو سعد) يطلب منه الحضور في بغداد لمقابلة بعض السياسيين!!

وكانت تلك إشارة إلى الاعتقال، ورفض السيّد الشهيد أن يقوم إلا بوصفه معتقلاً ومقهوراً فعملاء السياسة في بغداد أحقر من أن يتقدم لزيارتهم رجل مثل السيد الشهيد! وكانت مشادة كلامية انتهت باعتقال السيّد الشهيد، وأخذه إلى بغداد فوراً.

وربّما لم يشهد أحد من الناس هذا الحدث، فقد كان في ساعة مبكرة، لم يبارح الناس فيها بيوتهم وهنا كانت زينب عصرها.

وهنا كانت أخت الحسين!

ففي الحرم الحيدري الشريف وقفت هذه العلوية البطلة بالناس، نادبة حظ هذه الاُمّة التعيس، التي يتسلط البعثيون المجرمون على رقابها. ثمّ يعتقلون قادتها، ويسحقون بذلك كرامتها وإرادتها.

في الصباح الباكر اعتقل السيّد الشهيد.

وفي الصباح الباكر لم يبق بيت من بيوت النجف إلاّ ودوّت فيه صرخة العلوية العظيمة أخت الحسين، وبلغتهم النبأ، ولم يمض على هذا الحدث ساعة ونصف حتّى كانت إذاعة طهران تعلم الشعب العراقي، والعالم الإسلامي أجمع.

وذهل الناس أولا ثمّ عادوا إلى الصواب!!

ففي الساعة العاشرة من صباح نفس اليوم شهدت مدينة النجف الأشرف تظاهرة اشترك فيها الرجال وعدّد قلائل من النساء.

لم تكن بالطبع تظاهرة جماهيرية، فالإرهاب مسيطر على الناس، والكلمة الواحدة قد تكلّف العمر!!

على أي حال كانت تظاهرة أثبتت لمخابرات البعث خطأها في الحساب، وتبعها اشتباكات دموية بين جلاوزة البعث والمتظاهرين، انتهت باعتقال المئات ثمّ الآلاف من أبناء هذه المدينة البطلة.

ولم تكن النجف وحدها، فقد شهدت عدّة مدن اُخرى في العراق تظاهرات تطالب بالإفراج عن السيّد الصدر، وتندد بسياسة البعث الغاشم.

ولم يصل نبأ هذه التظاهرات حتّى أدرك البعث أنّهم ارتكبوا غلطة ـ ولعلها كانت مقصودة للتعرف على حجم رد الفعل الشعبي ـ فأفرجوا عن السيّد الشهيد، وبعد ظهر اليوم نفسه أعيد إلى بيته في النجف.

لعلّ كلّ شيء كان باتفاق:

فالتظاهرات لم تكن ارتجالاً، لقد سبق أن اتفق السيّد الشهيد مع بعض أنصار الحركة على هذه الصيغة، ولولا أن سلطات البعث فكت اعتقاله بعد ساعات لكانت تشهد مدن العراق نشرات وبيانات بخط السيّد الصدر نفسه كان قد كتبها لغرض نشرها فور اعتقاله، إلاّ أن الإفراج عنه دعا إلى تأجيلها.

ولم يرجع السيّد إلى بيته إلاّ وهم مصمم على اقتحام المرحلة الجديدة التي استكملت كلّ شروطها!!

وأثر هذا الحدث شهدت مدن العراق اعتقالات واسعة النطاق شملت الآلاف من أبناء الاُمّة، وغصت بهم معتقلات العاصمة بغداد وغيرها من المدن.

كما أن الرقابة على دار السيّد الشهيد، وملاحقة زائريه ضلت قائمة إلى حين منعت عنه السلطات المجرمة كلّ لقاء.

لمدة تسعة شهور ضل السيّد الشهيد محتجزاً في داره، ولدينا حديث طويل عن أحداث ومجريات هذه الفترة، وكيف كان السيّد الشهيد يقود المعارضة وهو في البيت.

أمّا ونحن مضطرون إلى السرعة والإيجاز فإنّنا سوف نشير إلى المهم من تلك الأرقام. ففي الأيام الاُولى لاحتجاز السيّد الشهيد في البيت جاء رسول من الإمام الخميني العظيم عن طريق السفير الإيراني يومذاك السيّد محمود دعائي، يعرض على السيّد الشهيد كلّ الإمكانيات التي يطلبها.

وبعد أيام ليست طويلة جرى اتصال هاتفي بين السيّد الشهيد نفسه وبين أحد الشخصيات الإيرانية يستفسر عن حاله، بتكليف من الإمام الخميني نفسه، وأجاب السيّد الشهيد هاتفياً:

(سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيّد الخميني دام ظله، استمعت إلى برقيتكم التي عبرت عن تفقدكم الأبوي لي، وإني إذ لا يتاح لي الجواب على البرقية لأني مودع في زاوية البيت، ولا يمكن أن أرى أحداً أو يراني أحد لا يسعني إلاّ أن اسأل المولى سبحانه وتعالى أن يديم ظلكم مناراً للإسلام، ويحفظ الدين الحنيف بمرجعيتكم القائدة واسأله تعالى أن يتقبل منا العناء في سبيله، وأن يوفقنا للحفاظ على عقيدة الاُمّة الإسلامية العظيمة وليس لحياة أي إنسان إلاّ بقدر ما يعطي لامته من وجوده وحياته وفكره، وقد أعطيتم للمسلمين من وجودكم، وحياتكم، وفكركم، ما سيضل على مدى التاريخ مثلاً عظيماً لكلّ المجاهدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

لماذا المعارضة المسلحة

جدير أن نقف في البداية عند هذا التساؤل:

لماذا المعارضة المسلحة؟

لقد أصدر السيّد الشهيد فتوى بوجوب العمل المسلح، بالحدود التي تفرضها المرحلة وهو الذي نصطلح عليه فقهياً بالوجوب الكفائي لماذا؟

في حدود ما تسمح به فرصة هذا الكتاب، يجب أن ندرس أوّلاً نقطتين لتتضح لنا الإجابة على هذا السؤال:

النقطة الاُولى: طبيعة الظرف السياسي.

النقطة الثانية: فلسفة الشهادة.

الظرف السياسي

الظرف السياسي في العراق كان يعيش ثلاث ملاحظات:

الاُولى: السياسة القمعية الإرهابية من قبل سلطة البعث، هذه السياسة التي لا تسمح بأي تحرك مضاد، بل وأي تحرك حر لا يخدم مصالح الحزب، وفي ضوء هذه السياسة الإرهابية فإن أي تحرك بسيط يتطلب ثمناً أكبر من حجمه، ودائماً لا يكون هناك تكافؤ بين التضحية وبين المعطى السياسي لها.

إن منشوراً واحداً يجر إلى إعدام عشرات الأشخاص.

وإن همهمة بسيطة بين شخصين في نقد سلطة البعث يجر إلى سجن مؤبد.

وإن التفكير مجرد التفكير ـ في تظاهرة سياسية ضد السلطة، أو بيان بعض المطاليب، يكلّف عمر الإنسان ووجوده.

بل وإنّ الخروج على أوامر السلطة التعسفية، حتّى فيما يتعلق بالشعائر الدينية، يتطلب منك أكبر تضحية كما حدث بالفعل مراراً.

ولقد دعت هذه السياسة إلى سيطرة حالة الإرهاب والخوف على الاُمّة، حتّى لم يعد أحد يملك الجرأة على مخالفة حكومة البعث في أبسط القضايا، اللهم إلاّ أولئك الأبطال!!

كما أن تعميم هذه السياسة، وسيطرة حالة الخوف، أوجب حالة من فقدان الثقة بالقدرة على مقاومة السلطة الدموية العاتية، ورغم أن الثقة بإرادة الشعب، والقدرة على الوقوف بوجه الظالمين قد رجعت ـ إلى حد كبير ـ إلى نفوس الناس، إلاّ أن مخالفات السياسة الدموية كانت كامنة في أعماق النفوس.

هذا من ناحية السلطة الحاكمة، أما الشعب فإنه ما يزال على حالة من عدم النضج السياسي والديني، ورغم أن ثورة إيران أعطته دفعة قوية إلى الأمام، إلاّ أن ذلك لم يكن نضجاً بمقدار ما كان حماساً عاطفياً مؤقتاً.

ومن ناحية ثالث فإن الاُمّة تشكو من قلة الحركيين الإسلاميين الأكفاء، القادرين على إدارة وتنسيق الأُمور، والقفز بالاُمّة إلى حالة الصمود في المواجهة.

إن كلّ هذه الملاحظات كانت بالحسبان ومن أجل التدليل عليها يمكن أن نذكر ما يلي:

إن التظاهرات التي خرجت احتجاجاً على اعتقال السيّد الشهيد لم يشترك فيها إلاّ مئات من الأفراد المؤمنين والثوريين، أمّا الآخرون فقد وقفوا موقف المتفرج! رغم أننا نعلم أن الشعب مؤمن بالمرجعية وساخط على حكومة البعث.

على أن الأصابع التي حركت هذه الجموع القليلة، لم تكن إلاّ وكلاء السيّد الشهيد، أو المتعاطفين الثوريين مع خطه، وحينما عملت الحكومة على مطاردة هؤلاء وتصفيتهم استطاعت أن تقمع التحرك الجماهيري، وهو في المهد.

وأيضاً فإن تظاهر عدّة مئات من الأفراد، سمح لسياسة البعث باعتقال عشرات الآلاف ـ من دون مبالغة ـ وإعدام 87 شخص، كان فيهم مجموعة من رجال الدين، وعلماء المناطق. والحكم على كثيرين منهم بالسجن المؤبد، مع ممارسة أبشع أنواع التعذيب معهم، وحتى بعد صدور الأحكام عليهم، وهذا شيء لم يعرف في دولة اُخرى غير العراق على مر التاريخ.

فلسفة الشهادة

في ضوء هذا الظرف السياسي والاجتماعي، وفي ضوء فهم معمق لوضع الاُمّة ومستوى تحملها، ومدى وعيها، لم تكن حركة السيّد الشهيد هادفة إلى إطاحة النظام الحاكم بالفعل، بمقدار ما هي هادفة إلى تعرية هذا النظام، وإيقاظ ضمير الاُمّة الذي مات أو يوشك أن يموت!!

أكثر من مرّة قال السيّد الشهيد.

(إن الأمّة تحتاج إلى دمي).

(الأمّة لا يوقضها إلاّ دمي).

(الأمّة لا تتحرك إلاّ إذا أعطيناها دماءنا).

ودم السيّد الشهيد لا يمكن أن يكون وحده، أن معه دماء أصحاب الحسين.

في هذه المرحلة، وفي ظل الظروف، فإن الشهادة هي السبيل الوحيد القادر على الانتصار، كما انتصر دم الإمام الحسين على طاغية زمانه يزيد بن معاوية.

والآن إذا استوعبنا هاتين النقطتين نستطيع أن نعرف لماذا المعارضة المسلحة؟

بالحقيقة كانت هناك ثلاثة فروض:

الفرض الأوّل: التحرك الجماهيري لإسقاط نظام الحكم، أو الضغط عليه، ومتى ما عرفنا أن الجماهير لم تكن بمستوى هذا التحرك، وإن الظرف السياسي لم يكن مهيئاً لمثله، عرفنا أن هذا الفرض ساقط من الحساب.

الفرض الثاني: تجنب المواجهة مع حكومة البعث، والابتعاد عن كلّ كلمة، أو خطوة، من شأنها إثارة سخط الحكومة، وتصعيد حساسيتها تجاه المرجعية من ناحية، وتجاه الوجود الإسلامي في المنطقة عموماً إلاّ أن هذا الفرض ساقط من الحساب أيضاً؛ لأنّ إرادة الشعب لا تقنع إلاّ بالتخلي عن كلّ حركة إسلامية، بل ومفهوم إسلامي، لا ينسجم مع سياستها، ومع أفكارها، وهي لا تقنع بذلك أيضاً، ما لم يرضخ كلّ شخص للسير وراء سياستها، ومخططاتها، ويقر على نفسه بالعمالة لها.

نحن نتذكر كيف أن سياسة البعث منعت من ممارسة الشعائر الحسينية التي تعتبر ظاهرة أصلية في هذه الاُمّة العريقة بالتشيع والولاء لأهل البيت عليهم السلام، وحينما حاولت جموع الشعب أن تخرج على إرادة الحكومة قمعتها بكل وسائل القمع، واستخدمت معها ألوان التعذيب في السجون والمعتقلات.

إن التجنب من المواجهة لا يتحقق إلاّ في فرض واحد، هو التجنب عن كلّ مبادئ الإسلام، وإلاّ فإن إقامة الصلاة وحدها يكفي لأن يجعلك عدواً لحزب البعث وحكومة البعث، ثمّ تحسب رجعياً، مضراً بمصالح الاُمّة والوطن.

إذن فالحكومة هي التي تطلب المواجهة دائماً، لأنّها تطلب من الناس التنازل لها بكل ما تريد وهذا أمر لا يمكن أن يكون!

الفرض الثالث: تصعيد التحرك الإسلامي، على طريق المواجهة مع الحكومة، وحينما تتقدّم في طريق هذا التحرك طلائع الشهداء، فإن أرضية المعارضة المسلحة تكون قد جهزت، والاُمّة قد انتقلت ولو في القلائل من أبناءها إلى مستوى الإيمان بالمعارضة المسلحة، والأقدام على ذلك.

وكان هذا الفرض هو المتعين من بين الفروض الثلاثة المتقدّمة.

تصاعد المعارضة

وقفزت حركة المعارضة مرّة واحدة بعد اعتقال السيّد الشهيد، وبعد الحصار المحكم عليه في بيته، ومنع لقاءه بواحد من الناس.

تصاعدت المعارضة سواء في درجة سخط الناس، أو درجة تعاطفهم مع المرجعية، ثمّ انعكاسات ذلك التي كانت تبرز على شكل مناشير توزع ضد حكومة البعث، أو صور للسيّد الشهيد والمطالبة بالإفراج عنه، أو الكتابة على الجدران والتنديد بحكومة البعث، أو القيام بأعمال اغتيالات لرجال البعث وجلاوزة الأمن، أو الهجوم على المقرات الحزبية، أو دوائر الأمن أو ما ماثلها.

وبمقدار ما كانت حركة المعارضة تتصاعد، كانت حالة القمع والإرهاب تتصاعد، كما كانت سلطات الأمن المحيطة ببيت السيّد الشهيد تشدد ضغطها ورقابتها، بل وتحرشاتها بالسيّد الشهيد وهو في منزله.

والحديث عن هذا المقطع طويل لا يسعنا الدخول فيه، إلاّ أننا يجب أن نسجل حقيقة تاريخية، ضلت خافية على سلطات البعث، ورقابة البعث، وأجهزة البعث!!

فإنه رغم أشد الرقابة على بيت السيّد الشهيد، ورغم العشرات من رجال الأمن المحيطين بمنزل السيّد الشهيد، والمستقرين ليلاً ونهاراً في الطرق المؤدية إليه، ورغم أن البيوت التي كانت تحيط بمنزل السيّد الشهيد فرغت من أصحابها تماماً، ووضعت تحت الرقابة المشددة، أو استخدمها رجال الأمن.

ورغم أجهزة التصوير التي نصبت في أعلى بناية مجاورة لبيت السيّد الشهيد للأشراف على سطوح المنازل.

ورغم أجهزة الإنصات ـ استراق الصوت ـ الموضوعة خفية في بيت السيّد الشهيد .

رغم ذلك كله فإن السيّد الشهيد كان يقود المعارضة من البيت!

كان الاتصال به ممكنا وقائماً رغم إرادة البعث!!

وكان الطريق مفتوحاً بينه وبين أحد سواعده الأبطال الذي كان يتصل به يومياً أو في أغلب الأيام، وتتمّ في هذا الاتصال كلّ الأمور التي يجب أن تتم من أجل تصعيد المعارضة.

كان يطلع يوماً بيوم على كلّ مجريات الساحة، وكان يصله النبأ الصغير والكبير حول المؤمنين، وحول الخطوط العامّة وحول مشاكل العمل، وحول مطاردات الحكومة كما كانت تصله كلّ النشرات والبيانات التي توزع في الشوارع تنديداً بسياسة البعث!

ومنه كانت تصدر التوجيهات اللازمة للعاملين على مختلف المستويات.

وإلى حد كبير جداً أحس البعثيون بأن اتصالاً ما يتم بين الصدر وبين الحركة، لكنهم لم يستطيعوا أن يعرفوا شيئاً عن ذلك رغم التشديدات والتحفظات العجيبة! التي اتخذوها.

وضل هذا الاتصال مستمراً إلى الأيام الأخيرة قبل استشهاده رحمه الله.

اتصالات سياسية

وفي فترة الحجز التي دامت تسعة شهور أرسلت حكومة بغداد أكثر من مبعوث سياسي للاتصال بالسيد الشهيد، والتفاوض معه.

كانت تهدف إلى أمرين:

الأمر الأوّل: انتهاء المعارضة بالإفراج عن السيّد الصدر حينما يخضع للشروط!

الأمر الثاني: كسب جديد لحزب البعث وحكومته حينما يحقق لهم السيّد الشهيد مطالبهم.

في اللقاء الأوّل طلبوا من السيّد الشهيد في مقابل الإفراج عنه ما يلي.

1ـ الفتوى بجواز الانتماء لحزب البعث بعد أن كان السيّد الشهيد قد أفتى بتحريمه.

2ـ الفتوى بحرمة الانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية.

3ـ عدم دعم الثورة الإسلامية في إيران، أو عدم تأييدها.

ولم يستجب السيّد الشهيد إلى واحد من هذه المطالب رغم كلّ الضغوط التي مورست معه، ورغم مختلف وسائل الترغيب أيضاً!!!

وفي اللقاء الثاني وبعد مضي أشهر على الحجز، تنازل الحزب الحاكم عن مطالبه الثلاثة الأوّل، على أن تتم مقابلة صحفية مع السيّد الشهيد، تنشر في الصحف والجرائد العراقية، لتعرف الاُمّة أن لا عداء بين الحزب الحاكم وبين السيّد الشهيد، وتخف عندهم حالة التوتر.

ورفض السيّد الشهيد رفضاً قاطعاً، قائلاً إذا رفعتم الحجر فإن الاُمّة ستعرف ما إذا كانت هناك قطيعة بين المرجعية الدينية وبين الحكومة أم لا!

وفي آخر مرّة، وقبل شهر من استشهاده، أرسلت حكومة  بغداد الشيخ عيسى الخاقاني، العميل البعثي والمتعاون مع حكومة الكفر ضد جمهورية إيران الإسلامية، لإقناعه بالتنازل.

كما أنّه في خلال الفترة كلّها كانت عروض مختلفة على السيّد الشهيد، في مقابل أن يتنازل!! إلاّ أنّه ـ وهو يقود الحركة الإسلامية التي دخلت مرحلة المعارضة مع البعث ـ لم يعط إذناً صاغياً لهؤلاء واولئك، واستمر في طريقه نحو الشهادة، لأجل إيقاظ ضمير الاُمّة المخدوعة!

مأساة

كان الصدر وحده، وهكذا كان الحسين ـ عليه السلام ـ من قبل!

وتلك كانت هي المأساة، التي سببت المأساة. فقد بادر السيّد الشهيد إلى دعم الثورة الإسلامية في إيران، وقيادة التيار الإسلامي في العراق، ولم يشترك معه في هذه المبادرة أحد من مراجع التقليد في النجف!

ومضت عليه شهور طويلة وهو حبيس البيت، ولم يخطر على بال أحد مراجع التقليد زيارته، أو تفقد حاله، أو الاتصال به هاتفياً على الأقل!

وكانت هذه العزلة تمنح حكومة البعث مزيداً من الإقدام على الجريمة. وفي أحد الشهور الأخيرة فك عنه الحصار نسبياً، في محاولة للتعرف على حجم ولاء الحوزة العلمية، ومراجع التقليد له، وزاره أثناء هذه الفترة مجموعة من وجوه الحوزة وشخصياتها، وسعى بعض المخلصين بإلحاح، لإقناع السيّد الخوئي بزيارته، والظهور بمظهر تأييده وعدم القطيعة معه، بل كانت محاولات جادة لإقناع الخوئي الاتصال به ولو هاتفياً، إلاّ أن تلك المحاولات لم توفق!! وكانت المأساة، وما يدرينا ماذا يكون الحال لو نجحت تلك المحاولات؟

لكن لأجل أن يكون الصدر حسين عصره يجب أن يبقى وحده!

وهكذا فقد بدأ وحده، وبقى وحده، ومضى إلى الله شهيداً على عصره، وعلى اُمّته، وعلى الذين عاصروه.

القيادة النائبة

لم تستطع حكومة البعث تخفيف حركة المعارضة باعتقال قائدها وموجهها السيّد الصدر، وفي طول المدة التي كان فيها مفصولاً عن أمّته حسب وهم البعثيين لم يكن مفصولاً بالحقيقة، وكانت المعارضة كلّها تستلهم من هذا الرجل القابع في البيت توصيات وتوجيهات، وقدرة على المواصلة. إلاّ أن أمرين أصبحا بحاجة إلى حل سريع.

الأوّل: أنه مهما يكن، وبأي نحو يكون اتصال السيّد الشهيد بالاُمّة وحركة المعارضة، إلاّ أن مضي مدة طويلة على غياب وجه السيّد الشهيد عن أُمته، وعن شعبه، وأبناء مدرسته، وعن طلائع الحركة الإسلامية الذين لم يكونوا جميعاً على علم بأن اتصالاً مستمراً يتم بين السيّد الصدر وبين أحد أبرز تلامذته في النجف، وعن طريقه تتسرب كلّ الأخبار، كما تصدر كلّ التوجيهات، أن هذا الغياب الطويل دعى إلى ظهور حالة من الملل في وسط العاملين خصوصاً، وفي وسط الرأي العام عمومّاً .

على أن هذا التحرك السري من وراء جدران البيت لم يكن هو الآخر كافياً للقيام بكل المهام اللازمة، ولا يتيح فرصة مناسبة للسيّد الشهيد للاتصال المباشر مع الاُمّة، وتصعيد روحها المعنوي.

لقد كان السيّد الشهيد مدعوا للتفكير بجد في هذا الحال.

الثاني: على أن الأيام كلما مضت وتباعدت، وكلما عبر السيّد الشهيد عن صمود أكبر أمام إرادة البعث وضغوطه، وكلما خيب فيهم آخر أمل كانوا يحلمون به، كانت الشهادة تقترب، أو كان السيّد الشهيد يقترب نحوها.

وقد أصبح مؤكداً في المدة الأخيرة أن الشهادة أصبحت منه قاب قوسين أو أدنى، حتّى كانت هناك مناجاة ومناجاة بين هذا السيّد الزكي وبين جنة الشهادة.

مرّة اُخرى كان السيّد الشهيد مدعوا بجد للتفكير في حال الاُمّة، وحال المعارضة.

القيادة فعلاً متمثلة بشخصه، أمّا إذا غاب فماذا؟

إن هذين الأمرين، الملل التدريجي في أوساط الاُمّة، والقواعد المتحركة، وفراغ الساحة من قيادة بديلة تواصل خط السيّد الشهيد إذا هو غاب!، أن هذا الأمرين دعيا عزم السيّد على إيجاد (القيادة النائبة).

وبدأت الاتصالات التي تعبر كلّ حواجز الرقابة المشددة الموضوعة عليه، بدأت اتصالات مع الأشخاص اللائقين والذين ما يزالون في داخل العراق حول الموضوع.

واستمرت هذه الاتصالات مدة، جرت فيها مناقشات، وتبادل آراء، وطرحت فيها عدّة وجهات نظر.

إلاّ أن مشيئة القدر لهذه الاُمّة أن تفقد قائدها، وتضل من دون بديل، فكانت الشهادة أسرع إلى السيّد الشهيد من القيادة النائبة، على أن البديل لا يمكن أن يصنع بقرار.

وهكذا أعطى الشهيد دمه لامته من أجل أن تشق بهذا الدم طريقها المظلم الشائك الطويل. وهكذا أعطى دمه ليؤكد أن كربلاء هي كربلاء!

الملاحق

ملحق رقم 1

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمّد خير خلقه وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين.

وبعد. فأننا في النجف الأشرف إذ نعيش مع الشعب الإيراني بكل قلوبنا ونشاركه آلامه وآماله نؤمن أن تأريخ هذا  الشعب العظيم، أثبت أنه كان ولا يزال شعباً أبياً، شجاعاً وقادراً على التضحية والصمود من أجل القضية التي يؤمن بها ويجد فيها هدفه وكرامته. ونحن إذا لاحظنا مسيرة هذا الشعب النضالية خلال الفترة المنظورة من هذا القرن. وجدنا أنه خاص فيها بكل بطولة وإيمان عدداً من المعارك الباسلة في سبيل الحفاظ على كرامته وتحقيق ما آمن به من طموحات خيرة وأهداف عالية. فمن قضية التبغ التي استطاع فيها هذا الشعب العظيم أن يكسر الطوق الذي أراد حكامه ومخدوموهم المستعمرون أن يطوقوا به وجوده، إلى القضايا المشروطة التي قاوم فيها الشرفاء الأحرار من أبناء هذا البلد الكريم، ألوان التحكم والاستبداد، في وقت كان العالم الإسلامي فيه غارقاً في أشكال مؤلمة من هذا الاستبداد، إلى الممارسات الفعلية لهذا الشعب المكافح التي قدم من خلالها حجماً عظيماً من التضحيات ولا يزال يقدم وهو يزداد يوماً بعد يوم، إيماناً وصموداً وتأكيداً على روحه النضالية.

بين هذه الملاحم النضالية يبدو عمق الشخصية المذهبية للفرد الإيراني المسلم والدور العظيم الذي يؤديه مفهومه الديني وتمسكه العميق بعقيدته ورسالته ومرجعيته في مجالات هذا النضال الشريف. وفي كلّ هذه الملاحم نلاحظ أن الروح الدينية كانت هي المعين الذي لا ينضب للحركة، وأن الشعارات الإسلامية العظيمة كانت هي الشعارات المطروحة على الساحة، وإن المرجعية الرشيدة كانت هي الزعامة التي تلتف حولها جماهير الشعب المؤمنة وتستلهمها في صمودها وجهادها، ولا توجد هوية لشعب أصدق انطباقاً عليه وتجسيداً لمضمونه في الهوية التي يتجلى بها في ساحة الجهاد والبذل والعطاء، ولم يعبر شعب عن حريته النضالية تعبيراً أوضح وأجلى ممّا عبر به الشعب الإيراني المسلم عن هويته الإسلامية في كلّ ما خاضه من معارك شريفة. كانت التعبئة لكلّ واحد منها تتسم باسم الإسلام، وكانت المشاعر والقلوب تتجمع على أساسه، وكانت القوى الروحية والمرجعية الصالحة هي التي تتقدم المسيرة في نضاله الشريف. ولأن كان الشعب الإيراني قد عبر عن هويته النضالية الأصيلة باستمرار فأن نهضته الحية المعاصرة لهي التعبير الأروع عن تلك الهوية النضالية المؤمنة التي عبّر بها الشعب الإيراني عن نفسه ولا يزال، وهي من أعظم ذخائر الإسلام وطاقاته التي يملكها في التأريخ الإسلامي الحديث.

وتشير هذه الهوية النضالية في خلال التجارب الجهادية التي يمارسها ولا يزال يمارسها شعب إيران المسلم إلى عدّد من الحقائق تبدو واضحة كلّ الوضوح، ومن الضروري أن تشكل إطاراً أساسياً ثابتاً لرؤية هذا الشعب لطريقه، ومن تلك الحقائق الثابتة أن الشعب الإيراني كان يحقق نجاحه في نضاله بقدر التحامه مع قيادته الروحية ومرجعيته الدينية الرشيدة، التحاماً كاملاً. واستطاع هكذا أن يحول الشعار التي نادى بها إلى حقيقة. وما من مرة غفل فيها هذا الشعب المجاهد عن هذه الحقيقة أو استغفل بشأنها إلاّ وواجه الضياع والتآمر.

فالمرجعية الدينية الرشيدة والقيادة الروحية هي الحصن الواقي من كثير من ألوان الضياع والانحراف. ومن تلك الحقائق أن القيادات الروحية كانت تقوم بدورها هذا وتنجزه إنجازاً جيداً بقدر ما يسودها من التلاحم والتعاضد والوقوف جنباً إلى جنب. وما من مرة استطاع الشعب الإيراني المسلم أن يحقق نصر إلاّ وكان للتلاحم والتعاضد المذكور، دور كبير في إمكانية تحقيق هذا النصر. ومن تلك الحقائق أيضاً أن المبارزة الشريفة لكي تضمن وصولها إلى هدفها الإسلامي لابدّ أن تتوفر في ظلها نظرة تفصيلية واعية وشاملة لرسالة الإسلام ومفاهيمها وتشريعاتها في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية وبقدر ما تتوافر من أساس فكري ورصيد عقائدي للمبارزة. هذا النظرة التفصيلية التي تميز المعالم الفكرية للهوية النضالية تكتب المبارزة القدرة أكثر فأكثر على ممارسة التغيير وتحقيق أهدافها الإسلامية وحماية شخصيتها العقائدية من تسلل الآخرين.

وهكذا نرى أن المبارزة الشريفة التي تقود الشعب الإيراني المسلم في كفاحه تدعو اليوم أكثر من أي يوم مضى، بعد أن وصلت إلى هذه المرحلة الدقيقة من مسيرتها وأكتسبت ولاء الاُمّة كلّ الاُمّة على الساحة.

أقول أنّها مدعوة اليوم أكثر من أي يوم مضى إلى أن تنظر بعين إلى الحاجات الفعلية لمسيرتها، وتنظر بعين اُخرى إلى حاجاتها المستقبلية وذلك بأن تحدد معالم النظرة التفصيلية من الآن فيما يتصل بأيديولوجيتها ورسالتها الإسلامية الشريفة. وكما أنها مرتبطة في النظرة الاُولى إلى الحاجات الفعلية للمسيرة وتقييمها وتحديد خطواتها بالمرجعية الدينية المجاهدة، كذلك لابدّ أن ترتبط بالنظرة الثانية وفي تحديد معالم أيديولوجية إسلامية كاملة بالمرجعية الدينية الرشيدة التي قادت كفاح هذا الشعب منذ سنين لأن المرجعية هي المصدر الشرعي والطبيعي للتعرف على الإسلام وأحكامه ومفاهيمه. كما ترى أيضاً أن المبارزة الشريفة قد حققت مكسباً كبيراً حينما أفهمت العالم كلّه بخطأ ما كان يتصوره البعض من أن الإسلام لا يبرز للساحة إلاّ كمبارز للماركسية وليس من همه بعد ذلك أن يبارز الطبق الآخر. فأن هذا التصور كان يستغله البعض في سبيل أصباغ طابع التخلف والتبعية على المبارزة الإسلامية، وقد تمزق هذا التصور من خلال المبارزة الشريفة التي برزت على الساحة الإيرانية باسم الإسلام وبقوّة الإسلام وبقيادة المرجعية الدينية الرشيدة لتقاوم كياناً أبعد ما يكون من الماركسية والماركسيين.

وقد أثبت ذلك إن الإسلام له رسالته وأصالته في المبارزة، وأن الإسلام الذي يقاوم الماركسية هو نفسه الإسلام الذي يقاوم كلّ ألوان الظلم والطغيان، وأن على المبارزة الشريفة، وقد آمن الشعب الإيراني العظيم بقيادته الإسلامية، أن تكون على مستوى هذه المرحلة وأن تدرك بعمق ما يواجهها من عداء عظيم لتحقيق أهدافه الكبيرة في عملية التغيير؛ لأن بناء إيران إسلامياً ليس مجرد تغيير في الشكل والأسماء بل هو إضافة إلى ذلك تطهير للمستوى من كلّ الجذور الفاسدة ملأ المضمون ملاءاً جديداً حياً تتدفق فيه القيم والقرآنية والإسلامية في مختلف مجالات الحياة. ولا شكّ في أن البطولة الفريدة التي تحققت بها المبارزة في عملية مكافحة الواقع الفاسد وهدمه، تؤكّد كفاءتها لإدراك هذه المسؤوليات وعمقها الروحي والاجتماعي والتأريخي. ونسأل المولى سبحانه وتعالى أن يرعى التضحيات العظيمة التي يقدمها الشعب الإيراني المجاهد بقيادة علمائه ويجعل من الدماء الطاهرة التي أراقها السفاكون على الساحة شموعاً تضيء بالنور لتخرج إيران من ظلمات الاستبداد والانحراف إلى تطبيق الإسلام الشامل في كلّ مجالات الحياة، وليست القافلة الأخيرة من الضحايا في مدينة مشهد المقدسة إلاّ حلقة جديدة من مجازر الطغاة. تغمد الله الشهداء بعظيم رحمته وألحقهم بشهدائنا السابقين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا والعاقبة للمتقين (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)

محمّد باقر الصدر

ملحق رقم 2

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد محمّد باقر الصدر دامت بركاته.

علمنا أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث أنني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلامية وأنني قلق من هذا الأمر آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتكم.

والسلام عليكم ورحمة الله

روح الله الموسوي الخميني

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيّد روح الله الخميني دام ظله:

تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسّدت أبوتكم ورعايتكم الروحية للنجف الأشرف الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة وأني أستمد من توجيهكم الشريف نفحة روحية كما أشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الأشرف وأود أن أعبر لكم بهذه المناسبة عن تحيات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد على يدكم ضوءاً هادياً للعالم كله وطاقة روحية لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الأمريكي خاصّة ولتحرير العالم من كلّ أشكاله الإجرامية وفي مقدمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدسة فلسطين.

ونسأل المولى سبحانه وتعالى أن يمتعنا بدوام وجودكم الغالي.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الخامس من رجب 1399هـ ـ النجف الأشرف

محمّد باقر الصدر

صدر الدين القبانجي

[1] انظر (رسالتنا) الفصل الأوّل.

[2] انظر (رسالتنا) نفس الفصل.

[3] المصدر السابق فصل ـ رسالتنا وواقع الاُمّة الإسلامية.

[4] اقتطعنا هذا النص من مذكرات كتبها سماحة السيّد محمّد باقر الحكيم عن حركة جماعة العلماء، وما تزال هذه المذكرات مخطوطة. وهذه المذكرات عبارة عن مجموعة أسئلة وجهت إليه حول الموضوع وأعطى فيها أجوبته وملاحظاته.

[5] من مذكرات جماعة العلماء محمّد باقر الحكيم.

[6] اقتصادنا ـ مقدّمة الطبعة الثانية.

[7] رسالتنا ـ فصل (رسالتنا يجب أن تكون قاعدة للعاطفة).

[8] رسالتنا ـ فصل (رسالتنا يجب أن تكون قاعدة للوحدة).

[9] أطروحة المرجعية الصالحة المنشور في مجلة صوت الاُمّة العدد الخامس ـ للسنة الاُولى.

[10] من المذكرات (المخطوطة).

[11] شرحنا في (الفكر السياسي) نحوين للولاية: الولاية الخاصّة والولاية العامّة، الاُولى ثابتة لمطلق الفقيه، والثانية ثابتة لخصوص المرجع.

[12] نشرت هذه الأطروحة بعنوان (أطروحة المرجعية الصالحة) في مجلة صوت الاُمّة التي تصدرها وزارة الإرشاد للجمهورية الإسلامية في إيران، في عددّها الخامس

[13] نقلنا هذه المادة باختصار من الأطروحة، نرجو من القارئ مراجعتها.

[14] انظر نص البرقية في المحلق رقم

[15] انظر نص البرقية في المحلق رقم