مشاريع متوقفة من تراث الإمام الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

لقد شكل غياب الامام الشهيد الصدر عن الساحة السياسية والفكرية والحوزوية خللاً في مسير التكامل والنضج الذي بلغته الساحة الإسلامية عموماً والعراقية بصورة خاصة، بوجوده وعطائه ودفعه لتيار التجديد والعصرنة الذي شهدته الأوساط الإسلامية منذ الستينات، والذي تصاعد وبلغ الذروة في نهاية السبعينات وتوج بانتصار الثورة الاسلامية ودخول الاطروحة الإسلامية ميدان التطبيق العملي في الحكم وادارة الدولة بعد غياب دام قروناً متطاولة.
شهدت المرجعية الدينية فترات من النشاط والجمود، ودورات من المد والجزر، فكراً وممارسة، نضجاً ونمواً، تطوراً وتكاملاً. ففي فترات المد والنمو كانت المرجعية تعيش مراحل المشاركة السياسية والعطاء الفكري والارتباط الوثيق بالجماهير المسلمة، وفي مرحلة الانكفاء تنسحب لتعيش داخل دائرة همومها الخاصة من وضع المصنفات الفقهية ورعاية شؤون المدارس الدينية وامور الوكلاء والمقلدين، بعيداً عن الاضواء والصحافة ومواكبة الاحداث وابداء المواقف بصددها.
ولو راجعنا التاريخ المعاصر للمرجعية والذي يمكن تحديد بدايته مع بداية القرن العشرين أو نهايات القرن التاسع عشر اي منذ ثورة التنباك الشهيرة في عام 1890 بقيادة الميرزا محمد حسن الشيرازي، حيث تألقت المرجعية في اقوى مواقفها وبلغت غاية تحملها المسؤولية تجاه الاستعمار الذي اتخذ امتيازات التبغ وغيرها وسيلة للاستغلال والنهب. وكانت السنوات الاولى للقرن العشرين بداية اهتمام الحوزات العلمية بفقهائها ومراجعها وطلابها بالقضايا السياسية ليس على مستوى رد الفعل ومواجهة حدث ما، بل على مستويات التنظير والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية في اهم محاورها وهو الاستبداد والمشروطية وانقسام الاوساط الحوزوية بين مؤيدين للاستبداد ومناوئين له من انصار المشروطية وقيام ثورة الدستور في ايران 1905 وانعكاس نتائجها وآثارها على الساحة العراقية بشكل مباشر. ثم جاءت الحرب العالمية الاولى ونهض العلماء والمراجع ونادوا بالجهاد المسلح لمواجهة الجيوش البريطانية الغازية التي بدأت احتلال العراق بالنزول في الفاو عام 1914، فشاركوا في المعارك دفاعاً عن ارض العراق، فجيّشوا الجيوش ونظموا كتائب المجاهدين ورصوا صفوف المقاتلين من العشائر العراقية، فبذلوا كل ما يستطيعون لصد الاحتلال البريطاني لكن المقادير شاءت ان لا يظفروا بالنصر فتوقفت الاعمال الحربية اثر هزيمة معركة الشعيبة عام 1915.
وبقيت روح المقاومة للاحتلال الانجليزي متأججة بفعل نشاط ومواقف المرجعية الدينية واتباعها، فكانت ثورة النجف عام 1918 ثم ثورة العشرين 1920. ولم يقتصر دور المرجعية على اثارة الحماس نحو الكفاح وتبيين الموقف الشرعي تجاه العدوان وواجب الجماهير تجاهه، بل كان لها دورها المؤثر في الاحداث السياسية التي رسمت ملامح الدولة الجديدة التي عرفت باسم العراق بحدودها القائمة حاليا واعتبارها وحدة سياسية وادارية واحدة واضفاء الطابع القومي والسياسي الجديد. فكانت مواقف المرجعية الدينية في تشكيل الدولة والاستقلال والانتخابات واختيار فيصل ملكاً على العراق والمعاهدة البريطانية ـ العراقية وبقية الاحداث البارزة، مؤثرة في مجمل القضايا السياسية آنذاك.
ثم دخلت المرجعية في مرحلة الانكفاء والانحسار عقب نفي ثلة من العلماء إلى الخارج عقيب ثورة العشرين، واجبارهم فيما بعد على التعهد بعدم التدخل بالشؤون السياسية كشرط لعودتهم إلى النجف الاشرف ومدارسهم وحوزاتهم وجماهيرهم. واستمرت هذه المرحلة من عام 1924 (تاريخ عودة العلماء من منافهم في جزيرة هنجام في الخليج) وحتى ما قبل عام 1958 (نهاية العهد الملكي) ودخول التيار الاسلامي في مرحلة مواجهة فكرية شرسة مع الافكار الشيوعية الالحادية. ومع ان هذه المرحلة الطويلة نسبيا قد شهدت بعض النشاطات والمواقف السياسية المتناثرة مثل رفض المعاهدة البريطانية عام 1932 وتأييد انقلاب بكر صدقي عام 1936 وحركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 ووقوف العشائر مؤيدة للحركة بفتوى من المرجعية، لكن الطابع العام بقي يراوح مكانه في الانكفاء وترك الساحة للافكار القومية والشيوعية والعلمانية.
مرحلة المد الفكري والسياسي:
وامام تيار الالحاد، في بداية الستينات، لم تجد الحوزة العلمية سوى المواجهة والانطلاق بعد فترة الخمول والجمود الفكري والسياسي، فكانت كتابات الامام الشهيد محمد باقر الصدر هي التي حصنت الجماهير المؤمنة من تأثيرات الافكار الالحادية والشبهات التي كانت تثار بوجه الإسلام، حتى اخذ المسلم يعتز باسلامه وفكره وعقيدته، قادراً على مواجهة الخصوم باسلحة فكرية وفلسفية قوية. كما كان لفتوى السيد محسن الحكيم بتحريم الشيوعية واعتبارهم كفراً والحاداً تأثيرها البالغ في وضع مانع كبير بين الجماهير والتيار الالحادي المتنامي، هذا اضافة إلى جهود مئات العلماء والمثقفين الرساليين الذين حملوا على عاتقهم مهمة الهداية والتوجيه والتوعية حتى بانت ثمرة جهودهم في ارساء قواعد الصحوة الإسلامية التي شهدتها السبعينات والثمانينات. فعادت المرجعية للارتباط بجماهيرها وقيادتها والمساهمة الفعالة في النشاطات الفكرية والسياسية والنتاج الفقهي المتجدد.
الانكفاء ثانية:
وبعد غياب الشهيد الصدر عن الساحة العراقية وتأثير ذلك على مجمل التحرك السياسي للمعارضة الإسلامية العراقية لانه ترك فراغاً هائلاً لم يستطع اي شخصية أو تنظيم ان يسدّه، اضافة إلى توقف العطاء الفكري والفقهي العميق الذي يغطي جوانب عديدة وقضايا مستجدة تتطلبها طبيعة العمل السياسي والمواجهة التي تخوضها المعارضة الإسلامية العراقية، وظهور مشاكل ناتجة من تجربة الدولة الإسلامية وعلاقاتها مع الدول والحركات والشعوب المسلمة اضافة إلى مشاكل داخلية في الحكم والدولة.
وجاء غياب الامام الخميني رحمه الله الذي كان القطب الذي تدور حوله الجماهير المؤمنة، والنجم الذي يشع حماساً وايماناً وثورة والتزاماً، وتأثير غياب مرجعيته وقيادته على تضاءل الارتباط بين الجماهير والمرجعيات اللاحقة، ليس في العراق وايران فحسب بل في ارجاء العالم الاسلامي والاقليات المسلمة المتواجدة في بلاد الهجرة، وكان السيد الخوئي آخر المرجعيات العظيمة التي رغم دورها المحدود في النشاط السياسي للتيار الاسلامي الا انها كانت تمثل رمزاً من رموز المرجعية الصامدة، كما انّه كسر تلك العزلة بمشاركته الهامة في انتفاضة شعبان/آذار 1991 في العراق وتعرض لشتى الضغوط النفسية والمعنوية حتى توفاه الله. فجاءت وفاته عام 1992 لتضع الاوساط الإسلامية في دوامة الارتباك والحيرة، والتذبذب في انتخاب المرجع الذي يخلفه، وما يزال الان الامر غير محسوم، كما ان تدخل اطرافا وجهات حكومية وغير حكومية في الترويج لهذا المرجع أو ذاك جعل المؤسسة الشيعية العريقة تعاني من التدخل في امورها الداخلية لاول مرة وخاصة ما يتعلق بانتخاب المرجع الذي بقي وطوال عصور شأن حوزوي خاص يتم وفق تقاليد واعراف محددة لا يمكن تجاوزها أو خرقها.
هذا الوضع يعني العودة لحالات التشرذم والانقسام والسير نحو التجزئة وترسيخ الخلاف الفكري والسياسي إضافة إلى تنحي المرجعيات المرشحة عن العمل السياسي وقيادة الجماهير في المواجه المستمرة مع القوى الكافرة. ولا حاجة لتوضيح ملامح ضعف الارتباط بين الجماهير والمراجع وانكفاءهم عن الساحات الإسلامية متكفين بالدروس الفقهية والرسالة العملية وتعيين الوكلاء وتوسيع دائرة المقلدين.
مرجعية الشهيد الصدر
لقد كانت مرجعية الشهيد الصدر منعطفا كبيرا في مسير المرجعيات الشيعية، ليس من حيث الأداء والممارسة فحسب بل من حيث المضمون والمنهج والتفكير.
فكان لمشاريعه السياسية ونتاجه الفكري والفقهي دوراً هاماً ومؤثراً في صياغة المنهج العصري للاسلاميين في طبيعة تعاملهم مع مختلف القضايا المطروحة على الساحة الإسلامية، وبلورة ركائز العمل الاسلامي السياسي المنظم بشكل لم يسبق له مثيل، ولم يقتصر تأثير الشهيد الصدر على الساحة العراقية بل امتد إلى اغلب الساحات الإسلامية، الشيعية منها أو السنية. ولا يمكن الحديث عن الصحوة الإسلامية والتيار السياسي الاسلامي دون الإشارة إلى دور الشهيد الصدر في تعميق وتجذير وتوجيه ذلك التيار الاصيل وقيادته المباشرة للتحرك السياسي والمواجهة الدامية مع النظام الحاكم في العراق حتى آخر لحظة من حياته واستشهاده دون ان يتنازل أو يتراجع قيد انملة عما آمن به واختطه لنفسه في درب ذات الشوكة.
ان احياء ذكرى الشهيد الصدر والاحتفاء به لا يتم بالقاء الخطابات واقامة الاحتفالات والاشارة إلى تأثيره ودوره في مرحلة زمنية معينة أو الافتخار به كواحد من اساطين الفكر والفلسفة في عالمنا الاسلامي أو الاعتزاز السطحي بما قدمه من فكر وعمل، والاقتصار على تذكره فقط في مناسبة أو ذكرى استشهاده والحزن المؤقت على فقدانه في ظروف حرجه وحاسمة فحسب بل ان احياء ذكرى الشهيد الصدر ـ براينا ـ يجب ان تتخذ عدة جوانب منها:
اولاً: تعميق الخط الفكري والسياسي للشهيد الصدر من خلال الالتزام بافكاره وآرائه واطروحاته، ومناقشتها ودراستها في ندوات ومؤتمرات متخصصة، وتعميم آثارها وايصالها للجماهير المؤمنة بواسطة الشروحات وعرض الافكار الصعبة بأساليب بسيطة ومبتكرة واخراجها بشكل مقبول يستسيغه القارىء مهما كان مستواه الثقافي والدراسي. فللأسف لم نشهد كتاباً واحداً يشرح أو يناقش أو حتى يرد بعض ما جاء في كتابات الشهيد الصدر، بل جرى الاكتفاء بما طرحه الصدر. واعتبرت تلك الكتابات من مفاخر الفكر الاسلامي يشار اليها عند الحديث عن النتاج الفكري الاسلامي المعاصر.
ان هناك ضرورة لمناقشة الآراء والنظريات التي استنبطها الشهيد الصدر وادرجها في كتاباته العديدة، لان التطور والنضج الفكري والفلسفي يستلزم عرضها على الافكار والنظرايت المستجدة وتبيان مدى موافقتها أو مخافتها للنتاج الفكري الحديث. ومن خلال العرض والشرح والمناقشة يبقى فكر الشهيد الصدر حاضراً في الساحات الإسلامية والمنابر الفكرية والندوات والمؤتمرات والمطبوعات السياسية والفكرية والإسلامية، ويتداول آرائه المفكرون في مناقشاتهم ومحاضراتهم والكتّاب في مقالاتهم وكتبهم مسلطين الاضواء على جوانب الابداع والعبقرية والنضج فيها ومؤشرين على جوانب الخلل ان وجدت، ولا يعتبر ذلك طعناً أو تجاوزاً على الآخرين، لان الشهيد الصدر نفسه قد مارس هذا المنهج، فهو لم يكتف بما كتبه الاولون في حقول الفقه والاصول والفلسفة بل اعتبره (معبّرا عن مرحلة قديمة تاريخيا) (دروس في علم الاصول /الحلقة الاولى/ص10). ومع انّه لم يغمط اصحاب (الكتب الاربعة) فضلهم العظيم على الحوزة العلمية ومسيرتها الفكرية، ولم ينس لهم الجميل، الا ان ذلك لم يمنعه من محاولة تطوير الكتب الدراسية وتحسينها بل واستبدالها، مبيّناً المبررات التي دفعته لذلك، منها الفاصل الزمني والتاريخي بين المراحل التي طوتها مسيرة الحوزات العلمية، ومنها الافكار الجديدة وتطور طريقة البحث والمناهج المستحدثة، واستحداث مصطلحات لم تكن تبعاً لما تتكون من مسالك ومبان.
ان تلك الاسباب والدوافع التي دعت الشهيد الصدر لاتخاذ تلك الخطوات العظيمة في تطوير المنهج الفكري وطريقة البحث واثراء الفكر الاسلامي بنتاج فكري وفلسفي متقدم وعصري، هي نفس الاسباب التي يجب ان تدعونا إلى التعامل مع تراثه وكتاباته من حيث التطوير والشرح والنقد والتوضيح مستفيدين من تجربته ونظرته للنتاج الفكري الموجود من حيث الالتزام والامانة والمبدئية والاصالة الإسلامية دون ان يعيق ذلك التطوير والتقيد بالمنهج العلمي واللغة العصرية والاسلوب المبتكر والاطلاع الواسع على نتاجات التيارات الاخرى ودحضها أو الاستلهام منها.
ثانياً: الالتزام والمضي قدماً في المشاريع التي طرحها ووضع لبناتها وركائزها الشهيد الصدر والتي توقفت باستشهاده، فهذه المشاريع التي هي ثمرة فكره وابداعه، خطط لها وبذل جهده في سبيل ديمومتها لما تحمله من آثار ونتائج هامة على العمل السياسي والنشاط الفكري وفي الدائرة الفقهية والحوزوية. هذه المشاريع لا يمكن ان تترك مبتورة طالما هناك من يدعي انّه ملتزم بخط وفكر الشهيدالصدر، وطالما لم تطرح مشاريع بديلة توازيها نضجاً واصالة وتأثيراً.
والحقيقة انّه لم يبق من مشاريعه واعماله التي تبناها سوى التنظيم السياسي الذي اسسه عام 1957 والذي احتل قطب العمل السياسي الاسلامي وانتج طلائع الصحوة الإسلامية في العراق ورواد المواجهة والكفاح من اجل الإسلام. ذلك اوسع تنظيم سياسي اسلامي على الساحة العراقية، وما زالت افكار وتصورات الشهيد الصدر تدرس في حلقاته الداخلية.
واما المشاريع أو الطموحات التي توقفت في مرحلة من المراحل سواء ان قطع بعضها شوطا أو بقي مجرد مشروعها جنينياً ينتظر الرحم التي تحتضنه، ولعل اهم هذه المشاريع هي:
1ـ الفتاوى الواضحة:
تعتبر الفتاوى الواضحة نقلة نوعية في اسلوب ومنهج ومضمون الرسائل العملية التي اعتاد المراجع اصدارها لتوضح فتاواهم والاحكام الشرعية الإسلامية لمقلديهم من العامة. وقد تميزت رسائلهم باللغة الصعبة والمعقدة وكثرة التفريعات وغموض بعض الالفاظ أو قدمها أو ابهام التركيب اللغوي للجمل واستخدام تعابير مضى عليها قرون وانحسرت من الاستعمال اليومي في حياة الناس لكنها ما تزال حاضرة في مضمون الرسائل العملية وثنايا أحكامها وفتاواها.
هذا إضافة إلى افتقادها لبعض الابواب الهامة والتطرق للعديد من المسائل الحيوية لان النمط التاريخي الذي سار عليه المراجع لم يتضمن تلك الابواب أو يتطرق إليها فبقيت مسائل وقضايا كثيرة لم تستوعبها الابواب التقليدية مما اضطر البعض من المراجع إلى ادراج المسائل المستحدثة في نهاية الرسالة العملية كملحق يضم الفتاوى الجديدة التي تتعلق بالمواضيع المستجدة كأعمال البنوك والمضارب وتحويلات العملات والسفر بالطائرة ونقل الاعضاء والتقليح الاصطناعي، وكل ذلك لم يغير من متن الرسالة ومحتواها شيئاً.
اما الشهيدالصدر فاضافة إلى اصداره تعليقه على منهاج الصالحين للسيد الحكيم مراعياً بذلك الاعتبارات الحوزوية والاعراف المرجعية، لكنه لم يكتف بذلك أو يكرر ما فعله المراجع قبله في رسائلهم العملية دون ان يضيف شيئاً جديداً، بل جاء بمنهج جديد واسلوب مبتكر وابواب شاملة، فقد صدّر رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) بديباجة عقائدية في (المرسل والرسول والرسالة) سلط فيها الاضواء على هذه الجوانب العقائدية الهامة ولتصحيح الفكر العقائدي اولاً قبل الخوض في تفاصيل الشريعة واحكامها.
وكتب رسالته العملية بلغة سهلة ومبسطة جعلت فهم الاحكام الشرعية والمفاهيم الإسلامية بمتناول الجميع حتى لدى ذوي التعليم البسيط دون الحاجة إلى الآخرين للشرح والتوضيح. وطبّق منهجاً فريدا في شرح معنى اللفظ ودلالته ثم تطبيقاته من خلال سرده للامثلة العديدة حول الموضوع الواحد ولحالات متعددة تجعل فهم قصد الشارع واضحاً، والتمييز بين الاحكام قابلاً للادراك بيسر. وتجنّب التعابير المعقدة والالفاظ الوعرة وتضييع المعنى المطلوب في سياق الفتاوى المتعددة في الجملة الواحدة كما درج على ذلك فقهاء سابقون ومعاصرون.
فأصبحت الفتاوى الواضحة ترجمة واقعية للاسلام الذي اختاره والمنهج الذي سار عليه اي الوضوح فهي واضحة في كل شيء. وغدت السبيل الايسر لفهم الاحكام الإسلامية مما جعلها في متناول قطاعات واسعة من الجماهير اقبلت عليها نظرا ليسرها وسهولة لغتها وتأثيرها وخاصة بين الشباب والطلاب والجامعيين وذوي التعليم المتوسط من الكسبة والحرفيين والموظفين. فعمّ الفهم الصحيح للشريعة وزاد عدد المقلدين للمرجعية واقبل الناس عليها حتى طبعت طبعات عديدة في سنوات قليلة، فاصبحت مما لا يستغنى عنه خاصة لدى المبتدئين في التدين والالتزام الشرعي حيث فتحت امامهم آفاقاً واسعة من الفهم والادراك للاحكام التي كانت مقتصرة على فئة قليلة من الناس.
وبعد استشهاده، توقف المشروع الذي لم يصدر عنه سوى جزء واحد ما يتعلق بالعبادات وقيل انّه كان قد خطط لاصدار ثلاثة اجزاء اخرى يتطرق فيها لجميع القضايا والاحكام الإسلامية سواء ما يهم الفرد والعلاقات الشخصية أو الاسرة أو ما يهم المجتمع والدولة والحكم والسياسة، وقضايا الاقتصاد وشؤون القضاء والامور الحسبية وغيرها.
وبسبب عدم جواز تقليد الميت ابتداءً كما هو الرأي السائد عند فقهاء الامامية والانتقال إلى الاعلم الحي انحسر المقلدون للشهيد الصدر تدريجياً وتضاءل الاهتمام بالفتاوى الواضحة وعادت الاوساط الإسلامية إلى الرسائل العملية القديمة ذات المنهج التقليدي والتي ما تزال قطاعات كبيرة من الناس تجد صعوبة في فهمها وادراك مقاصد الشريعة واحكامها اضافة إلى الاشكالات التي ذكرناها آنفاً. وقد خلقت هذه الحالة وضعية شاذة وازدواجية في اذهان المثقفين والمؤمنين حيث الانتقال من يسر الاحكام إلى صعوبتها، ومن الاعتياد وتعلم المسائل الشرعية برؤية معينة ومنهج واضح واتجاه آخر بل واحكاما تتفاوت مع ما تعلمته وطبقته، وهذه الحالة ليست فقط مع الفتاوى الواضحة بل مع كل انتقال من تقليد مرجع إلى مرجع آخر لان الاجتهادات متعددة وهناك عدة آراء في قضية معينة واحدة.
ومع الاقبال والاهتمام والتأثير الكبير الذي تركته الفتاوى الواضحة في الاوساط الإسلامية بشكل لم يسبق له مثيل الا ان احدا من الفقهاء والمراجع لم يخط خطوة واحدة في ذلك الاتجاه، وبقيت الرسائل العملية على ما هي عليه رافضة التجديد والتطور وتلبية متطلبات العصر واحتياجات المقلدين. فكأن الفتاوى الواضحة كانت مجرد ومضة نور توهجت في عصر مظلم ثم انطفأت واصبحت مجرد رقم يذكر إلى جانب مؤلفات وتراث الشهيد الصدر الذي تركه، أو انها جاءت لفترة من الزمن ثم يطويها النسيان.
ان هناك حاجة ملحّة للمضي في ذلك المشروع لما يترتب عليه من نتائج ايجابية تخدم الإسلام والالتزام الشرعي بالاحكام الإسلامية والفهم الصحيح للاحكام والمفاهيم الإسلامية بصورة ميسرة وعصرية تواكب التطور العلمي والتقني الذي يشهده العالم يوما بعد آخر. فمن الضروري ان يتقدم المراجع العظام خطوة نحو هذا المشروع العظيم واصدار رسائل عملية مشابهة في المنهج والاسلوب واللغة. ولا باس باصدار رسائل عملية مبسطة وموضحة بالرسوم والالوان لليافعين من اطفال المسلمين كما هو شأن الاديان الاخرى أو اصدار جزء خاص باحكام النساء والفتيات يتطرق لجميع شؤونهن والاحكام الخاصة المعلقة بهن.
وهناك ضرورة ان تلبي الرسائل العملية احتياجات الساحات الإسلامية ومتطلباتها في شتى الميادين الفقهية والسياسية، وان تتضمن فتاوى في المسائل المستحدثة وشمولها وتفهمها لاوضاع الجاليات المسلمة المهاجرة وتطوير الابواب الثابتة واستحداث اخرى جديدة كي تشمل كل ما يتوقعه المسلم من القضايا التي يبتلى بها كل يوم وتجنب المواضيع التي يندر الابتلاء بها في العصر الحالي كالرق واحكام البئر أو استخدام مصطلحات قديمة كالفرسخ والصاع والمد والكر أو اسماء غير متداولة كالكنعت والطمر والطيراني والايلامي (انواع من السمك).
2ـ التفسير الموضوعي للقرآن:
لقد دعا الشهيد الصدر لنهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، أو الاتجاه التوحيدي للتفسير، مبيناً حالة الانغلاق والتكرار التي صاحبت التفسير التجزيئي اي تفسير القرآن الكريم آية آية والتطرق إلى مداليلها ما استطاع المفسر ذلك، حتى يصل الامر في النهاية إلى تراكم مجموعة من مدلولات القرآن الكريم والمعارف القرآنية بصورة مبعثرة ومتناثرة دون وجود ارتباط فيما بينها ودون الوصول إلى نظرية قرآنية بصدد المجال المطروق. اما التفسير الموضوعي فيستهدف تحديد موقف نظري للقرآن الكريم وبالتالي للرسالة الإسلامية من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية.
وقد بيّن الشهيد الصدر الاسس التي يرتكز عليها التفسير الموضوعي مبيناً فائدته والنتائج المتوخاة منه وطريقة التعامل مع التفسير القرآني واهمية ذلك على النتاج الفكري الاسلامي وبقاء القرآن الكريم وقدرته على العطاء المستجد دائماً وقدرته على الابداع. فالقرآن الكريم عطاء لا ينفد بينما التفسير التقليدي ينفد. كما ان التفسير الموضوعي لديه الامكانية للتطور واثراء التجربة البشرية التي تغنيه بدورها.
لقد بقي الاتجاه التفسيري تقليدياً، والتفاسير الموجودة بين ايدينا تفاسير قديمة يعود بعضها إلى عشر قرون (تفسير العياشي في اواخر القرن الهجري الثالث، وتفسير مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي في القرن السادس الهجري) وبعضها اقل قدماً مثل (تفسير البرهان للعلامة المحدث البحراني في القرن الثاني عشر الهجري) و(تفسير الصافي للفيض الكاشاني في القرن الحادي عشر الهجري) مروراً بتفاسير الطوسي والقمي وشبّر. ومن التفاسير المتأخرة تفسير الميزان للسيد العلامة الطباطبائي الذي يعد من افضل التفاسير المعاصرة لكنه نهج نفس المنهج التقليدي كما ان لغته غير سلسلة وتطغى عليه رؤيا فلسفية واضحة رغم انّه تضمن بحوث روائية وعقائدية وتاريخية وعلمية منفصلة.
وقد باشر الشهيد الصدر الاتجاه الموضوعي الذي دعا إليه فابتدأ بحثه القيم لاستكشاف (سنن التاريخ في القرآن الكريم) محاولا تسليط الاضواء على القوانين التي تتحكم في مسيرة التاريخ البشري وحركته وتطوره. فجاء بحثه جديداً في منهجه، عصري في مناقشته للنظريات الاخرى التي تعرضت لحركة التاريخ، مستنبطاً العوامل العديدة التي تتقاسم صناعة الحدث التاريخي. فاعطى المكانة المناسبة لدور الإنسان ودور الدين ودور الله سبحانه وتعالى من خلال القوانين التي وضعها لضبط الايقاع التاريخي. كما بنى الشهيد الصدر تأثير بعض القوانين والظروف الاخرى التي تؤثر في مسيرة التاريخ مثل القوانين الفيزيائية والفسلجية والتي لم ينتبه اليها المؤرخون والمفكرون ممن كتبوا في التاريخ ووضعوا نظريات في نشوء الحضارات واضمحلالها.
وهناك حاجة ماسة اليوم لاستكمال الشوط الذي قطعه الشهيدالصدر ودعا إليه فالفكر الإنساني في تطور مستمر، واساليب الحياة والتقدم العملي والتقني تفرض على البشرية واقعاً جديداً وظروفاً متبادلة، كما ان العلاقات والافكار والنظريات تتعرض للتعديل والتطوير والنقد والابداع يوماً بعد آخر، ولا يمكن البقاء في حالة الجمود والرقابة وتكرار ما كتبه الاولون أو الاكتفاء بما ورد في الكتابات والتفاسير القديمة في تناول قضايا الفكر والمفاهيم الإسلامية فالقرآن يبق المنبع الاصيل الذي تنهل منه الافكار والتصورات مفرداتها والمنار الذي تهتدي به العقول في دياجير الجهالة والظلمات، والقرآن يعني تفسيره ومعانيه ودلالاته وليس ورقة وخطه وتجليده. فاذا كان التفسير لا يفي بمتطلبات العصر وطرح المفاهيم والنظريات الإسلامية في شتى ميادين المعرفة والثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، فيعني ذلك البقاء في حالة الجمود والتأخر والمراوحة في مكان سبقته الاحداث فاصبح من تراث الماضي.
ان الدعوة مفتوحة لكل المفكرين والفقهاء والكتّاب الاسلاميين من اجل المضي في المشروع الذي وضع الشهيد الصدر خطواته الاولى فيه ثم لم يمهله نظام البعث الكافر فذهب للقاء ربه شهيداً محتسباً.
والاطروحة الإسلامية تواجه اليوم تحديات عظيمة بعضها لم يكن في عصر الشهيد الصدر أو من سبقه من المفكرين. هذه التحديات تفترض استجابة من الاسلاميين وطرح بحوث ودراسات عميقة من اجل استكشاف النظريات الإسلامية والقرآنية في مختلف مجالات وشؤون الحياة المتعددة والمتجددة يومياً، والتقاعس عن تحمل هذه المسؤولية يعين افساح المجال للنظريات والافكار الاخرى للتداول، في الوقت الذي يبدو فيه المشروع الاسلامي ناضجاً في طريقه نحو التكامل رغم الفجوات الموجودة في عدد من الجوانب السياسية والفكرية.
والحمد لله فهناك العديد من البحوث والدراسات التي نهجت ذلك المنهج أو الاتجاه الموضوعي للتفسير أو استكشاف نظريات قرآنية ومفاهيم اسلامية نابعة من الاطروحة الإسلامية، وهنا تجدر الاشارة إلى البحوث القيمة والكتابات الابداعية للسيد محمد حسين فضل الله (الحوار في القرآن الكريم، الإسلام ومنطق القوة واسلوب الدعوة في القرآن) وغيرها من نتاجه الفكري الاسلامي الذي يتحفنا به بين حين وآخر.
كما دعا للاتجاه الموضوعي وباشره الشيخ جعفر السبحاني في موسوعته (مفاهيم القرآن) حيث اوضح محاسنه ومبيّنا ما طرأ على التفسير التجزيئي واهتمام كل اهل اختصاص بجانب معين من التفسير كالمشتغلين باللغة والآداب والاعراب والبلاغة إلى الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة والفقهاء، وقد صنف عدة ابحاث قيمة تخدم ذلك المنهج مثل (معالم التوحيد في القرآن الكريم، معالم النبوة في القرآن الكريم، معالم الحكومة الإسلامية). وهناك بعض الدراسات تحمل عناوين اسلامية لمفكرين وكتاب اسلاميين تتضمن تنظيرات ومفاهيم قرآنية تغطي جانباً من الجوانب الفكرية العامة.
3ـ المرجعية الصالحة (الرشيدة):
تحتل المرجعية الدينية مكانة خاصة في التفكير الشيعي باعتباره القطب الذي تلتف حوله الجماهير الشيعية في كل انحاء العالم، ولما تملكه المرجعية من تأثير في شتى المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية.
ولما كان عمل المكلف المسلم (العامي) باطلا دون تقليد للمرجع الديني، ويتحتم عليه الارتباط بالمرجعية كي تنسجم اعماله وطاعاته الدينية مع الاحكام الشرعية الإسلامية المعبّر عنها بفتاوى واحكام المرجع. وقد اصبح الارتباط بالمرجعية جزءاً من التكوين الثقافي والاجتماعي للفرد الشيعي فهو يرنو ببصره اليها في الاحداث السياسية منتظرا رأيها وموقفها، وهو في كل الحوال يراجعها لكل ما يستجد من شؤونه واموره سواء على المستوى الفردي أو الاسري أو على المستوى العام والمعاملات واحكام التجارة، ويدفع اليها سنويا زكاة امواله. فهي الكهف الحصين الذي يلجأ إليه، فتراه يطيع ويستجيب لما تطلبه المرجعية منه دون تباطؤ أو تلكؤ فهي ملاذه ومنارة هداه في الدنيا ولنيل ثواب الآخرة.
وتحتل المرجعية الشيعية مكانة مقدسة في اذهان الاوساط الشيعية لما تعارفوا عليه من اخلاق المرجعية وزهدها وتقواها وصلاحها وعلمها وانها وريثة الائمة الاطهار (ع) والمرجع هو النائب العام للامام الغائب (عج). كما ان استقرار المرجعية الدينية في المدن المقدسة وقرب المراقد والاضرحة المقدسة لائمة اهل البيت الاطهار عليهم السلام يجعلها محط تردد الزائرين من جميع انحاء العالم. وكان لمواقف المرجعية وتبنيها مظلومية الشيعة عبر التاريخ محط احترام وتقدير، فتراثها وماضيها الزاخر بالمواجهة والتحدي والتضحية من اجل الإسلام ورفع الظلم واحقاق الحق، جعلها تحتل هذه المكانة العظيمة.
وبقيت المرجعية الدينية تسير على نمط واحد من الشكل والاداء والمتمثل بوجود عدة مراجع تتبعهم مدارس وحوزات اضافة إلى جهاز من الاتباع والوكلاء المنتشرين في المدن والقصبات. وإذا كان هناك مرجع عام يتزعم الحوزة العلمية فأن ذلك لايعني الغاء دور المراجع الاخرين أو يقلل من نشاطاتهم. فصار كل مرجع يعمل في معزل عن المرجع الآخر، فلكل واحد منهم مدرستهُ وحوزتهُ ومقلدوه وانصاره ووكلاءه وممثلوه يعمل بصورة مستقلة. وتظهر مساوىء هذا الوضع في الاحداث السياسية والمنعطفات الهامة التي تمر بها الاُمّة حيث تبدو الآراء المتباينة واحيانا المتناقضة في الشرخ الذى تتصدع منه وحدة الاُمّة، هذا اضافة إلى استمرار حالة الازدواجية في العمل والمواقع مما يربك الاوساط الجماهيرية بنحو أو بآخر. وعندما يبسط احد المراجع المرموقين مرجعيته ونفوذه العلمي والحوزوي والجماهيري يكون قد وصل إلى مرحلة متقدمة من العمر قد لا تتيح له فرصة استيعاب الساحة وادارة القضايا التي تواجهها. كما ان التغيير المفاجىء في زعامة المرجعية وما يترتب عليه من تغيير في طريقة التعامل مع الوكلاء والمؤسسات المرتبطة به وارباك في الاعمال والمشاريع التابعة له سيجعل الجماهير في حالة اضطراب خاصة إذا كان المرجع الجديد يحمل رؤية ورأياً يتباين كليا مع المرجع السابق واثر ذلك على المواقف تجاه الشؤون العامة والقضايا السياسية والاجتماعية والفكرية.
وقد شخّص الشهيد الصدر هذا الوضع غير الصحيح والاثار المترتبة من البقاء فيه فاقترح مشروع المرجعية الصالحة أو الرشيدة لاعادة هيكلة البناء الاداري للمرجعية الدينية ودعا إلى ضرورة ان تتشكل المرجعية على شكل هيئة أو مؤسسة مرجعية تضم كبار المراجع وتتولى جميع الشؤون التي يتولاها عادة كل مرجع على حدة.
فاقترح انشاء لجان متخصصة في الشؤون المتعددة مثل:
1ـ لجنة تسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلمية.
2ـ لجنة الانتاج العلمي لممارسة البحوث والاشراف على الانتاج الحوزوي والكتابات الإسلامية.
3ـ لجنة شؤون علماء المناطق المرتبطة بالمرجعية.
4ـ لجنة الاتصالات بين المرجعية والمناطق التي لم تتصل بعد.
5ـ لجنة رعاية العمل الاسلامي والقيمومية على المؤسسات الإسلامية.
6ـ اللجنة المالية التي تقوم برعاية الشؤون المالية لهذه المؤسسة.
وقد ادرك الشهيد الصدر بدعوته تلك ان العمل المؤسسي وهو عمل اداري متطور نوعيا يحمل مزايا عديدة لا يتوفر عليها العمل الفردي مهما اوتي من كفاءات وقدرات. منها ان العمل المؤسسي يبقى محتفظا بطابعه ونظامه وكيانه الذي تأسس به ولا يتغير زعيم أو مدير المؤسسة، فهناك دوائر عمل ولجان متخصصة تتابع اعمالها وفق خطط مرسومة ومناهج موضوعة تنسجم مع السياسة العامة للمؤسسة واغراضها واهدافها.
ولعل ما يجعل هناك ضرورة لوجود هذه المؤسسة المرجعية هو طبيعة الاحداث التي تواجه الاُمّة في هذه الظروف الحرجة من تبعثر العمل وتقاطع الآراء وتناقض المواقف، وان حادثة وفاة السيد الخوئي (قدس) قد جعلت الاذهان مشتتة والآراء مختلفة بصدد المرجع المرشح لتسنح هذا المنصب الخطير. وبسبب حالة الخلل هذه تشجعت اطراف وجهات حكومية وغير حكومية في التدخل في هذا الامر الذي بقي ولقرون طويلة بعيدا عن تدخل السلطات والحكومات، وحافظت المرجعية على استقلالها الاداري والمالي وقرارها السياسي وآراءها الاجتهادية والفقهية.
فاصبحت الساحة الإسلامية تعاني الاضطراب والتشويش وفقدان القيادة لتولي زمام الامور قبل ان تفلت من ايديها ولو كانت هناك مؤسسة مرجعية لتم الامر بكل يسر ووضوح واطمئنان واستمرار العمل في ادارة شؤون المسلمين المرتبطة بالمرجية دون خلل أو ارتباك وسد بذلك فراغ القيادة.
ان الحاجة ماسة اليوم لوجود المؤسسة المرجعية، فليس من المعقول ونحن على اعتاب القرن الواحد والعشرين ان نفكر ونتصرف بعقلية واسلوب القرون الوسطى من الانفراد بالرأي والفوضى في العمل وبطئه وتبعثره، بحاجة إلى مرجعية واعية للظروف التي تحيط بها، مدركة المسؤوليات والالتزامات التي عليها واضعة اهدافها نصب عينيها، راسمة خططها لقيادة الساحة الإسلامية ومواجهة التحولات الدولية والسياسية والفكرية بالتخطيط والعمل والمتابعة والادارة، بدلاً من حالة الانكفاء والانصباب على شؤون الحوزات العلمية والمدارس والوكلاء فقط. ان انطفاء مشاعل التجديد والثورة «الشهيد الصدر والامام الخميني» يجب ان لا يؤدي إلى اضمحلال جذوة الصحوة الإسلامية وانحسار التيار الاسلامي الثوري بتأثير ركود الحوزات العلمية وانسحاب المراجع من الميادين الجماهيرية والسياسية إلى اروقة المدارس والمساجد والانكفاء على دوائر الطلاب والمريدين. فهل يعني افتقاد الساحة الإسلامية لامثال اولئك المراجع العظام يعني التخلي عن الاهداف المقدسة التي دعوا اليها ودافعوا عنها؟ وهل يعني ذلك العودة بصورة تدريجية إلى سنوات ما قبل الصحوة؟
فهل هذا الذي نشهده من تراجع التيار الاسلامي السياسي والتخبط الذي تشهده بعض الساحات الإسلامية والانكفاء على التأكد على التربية الاخلاقية في جوانبها الفردية البحتة، هي ملامح الوضع القادم الذي نحن مقبلون عليه في الاعوام القادمة؟ ان مسير الاوضاع الدولية في ظل المعادلات الجديدة ليس في صالح الإسلام والمسلمين والحركة الإسلامية، فاذا اضفنا اليها حالة الركود والانكفار سيعني ان القوى الظالمة والكافرة هي التي ستنفرد بالساحة السياسية وتتزعم لوحدها توجيه الاحداث وصناعة القرارات بما يحقق مصالحها ومخططاتها وهي بالتأكيد في تقاطع مع مصالح واهداف الاُمّة.
وهنا لابد من التأكيد على بعض الملاحظات المتعلقة بالمرجعية وقيادتها للساحات الإسلامية، انطلاقاً من حجم التحديات التي نواجهها وحرصا على اداء ارفع وفعل اقوى ومنهج افضل:
1ـ ان اختيار المرجع مازال محصوراً في نطاق ضيق من الحوزويين والطلاب والوكلاء مع ان الاسلوب يدور ـ فقهياً ـ حول اختيار «الاُمّة» له. هذا الدور الذي لم تمارسه الاُمّة بصورة مباشرة وانما اشبه بتمثيل أو نيابة عنها يقوم به الفقهاء والعلماء الآخرون في ترجيح وترشيح هذا المرجع أو ذلك. كما ان هناك حاجة لبلورة آلية معينة. كفيلة باختيار المرجع بطريقة تفي من جانب بتغطية الشروط العامة من الكفاءة والاعلمية، وتفي من جانب آخر بمنح الاُمّة دورها المفترض القيام به وتأثيرها في دعم ترشيح المراجع.
2ـ ان اختيار المرجع مازال قائما على اسس اكاديمية بحتة تتمثل بشرط «الاعلمية» في الفقه والاصول وينظر إليه من خلال مؤلفاته وحجم طلابه وتأثير مدرسته على الحوزة العلمية، فالاعلمية هي المقياس الرئيسي للتفاضل بين المرشحين للمرجعية، دون الاخذ بنظر الاعتبار الجوانب الاخرى والخصائص النفسية والفكرية والادارية في شخصية المرشح، ومدى حاجة الساحة الإسلامية لقيادة مرجع ذي خصائص معينة كالوعي السياسي والارتباط بالجماهير والكفاءة الادارية والخبرة السياسية والاطلاع الكافي على شؤون بلدانهم. ولما كان موضوع «الاعلمية» موضوعاً بحاجة إلى خبرة كافية وتخصص في شؤون الحوزة والفقه والاصول فمعنى ذلك ان الذي يقرره فعلاً هم طلاب ووكلاء المراجع وكل واحد منهم يعتقد بأعلمية من يتبعه.
3ـ ان المرشحين من المراجع لا يعرفهم سوى قلة ممن هم قريبون من الاوساط الحوزوية من طلاب وعلماء واتباع ومقلدين. اما اوساط الاُمّة وجماهيرها فلا تعرف عنهم شيئاً قبل وفاة المرجع المتصدي لزعامة الحوزة العلمية. وذلك ما بدا واضحاً بعد وفاة السيد الخوئي «قدس»، اذ كان اغلب الناس ممن لم يسمع لهم أو يعرفهم وكأنهم خرجوامن اروقة الحوزة العلمية ومحاريب المساجد أو قفزوا من عالم المجهول إلى الاوساط الجماهيرية تحت الاضواء الكاشفة، مما جعل التردد والارتباط هما الانطباع الاول لدى الناس لا يعرفون من يقلدون ويتبعون، فهذا هو حال المرشح للمرجعية ذلك المنصب الهام، فكيف يراد له ان يقود امة ويتزعم كفاحها ويحقق طموحاتها وهي لم تعرفه إلاّ منذ بضعة اشهر فقط، ولا تعرف شيئاً عن ماضيه السياسي وأفكاره وآرائه السياسية وكفاءاته الادارية وخبرته في شؤون الساحة الإسلامية وخلفيته ومواكبته للاحداث ومدى اطلاعه على شؤون المنطقة سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، فكأنه مرشح لملىء وضيفة أو منصب تشريفي وليس قيادة مسيرة امة وزعامة جهادها.
4ـ ان انكفاء المرجعية عن الساحات السياسية والفكرية جعلها تهتم فقط بالدراسات والابحاث الفقهية والاصولية المتخصصة. ونظرة واحدة إلى النتاج الفكري للمراجع يثبت ذلك التوجه نحو القضايا الاكاديمية التخصصية. هذا الانكفاء يتعمق اكثر في غياب المراجع المرشحين عن الساحة السياسية فلم يصدر احدهم بياناً أو تصريحاً بصدد قضية أو حدث يهم الساحة الإسلامية أو الساحة الدولية، فلم تسمع بأحدهم قد اصدر بياناً بصدد ما يجري في البوسنة والهرسك أو الصومال أو طاجيكستان وجنوب لبنان واهوار العراق وافغانستان.
5ـ ضرورة ترسيخ الشعور بين الحوزات العلمية بالتجارب مع متطلبات الساحات الإسلامية واحتياجات المجتمعات المسلمة، سواء منها الفكرية التي يمكن معالجتها بالتصدي لاصدار الدراسات والبحوث والمقالات والكتب التي تعالج المشاكل الفكرية والسياسية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية وبقية جوانب الفكر والثقافة التي تحتاج مجتمعاتنا الإسلامية إلى تغطيتها. اما المتطلبات السياسية فيمكن سدها من خلال التواجد الدائم في الساحات الإسلامية والسياسية واعطاء المواقف والتصريحات المتعلقة بالاحداث السياسية والقضايا التي تواجهها الاُمّة الإسلامية يومياً. وكذلك من خلال توجيه وارشاد العمل السياسي والتنظيمي ورعاية ودعم الحركات والجمعيات والمنظمات الإسلامية، والحضور الفعّال والمشاركة في الندوات والمؤتمرات الفكرية والسياسية كي تكون المرجعية حاضرة في أوساط الناس في كل وقت ومكان.
6ـ ضرورة انسجام المرجعية ومتابعة الاوضاع الدولية والسياسية والظروف المعاصرة والتطور العلمي والمفردات الحضارية بشكل عصري وواعي خاصة وان الاطروحة الإسلامية التي تتزعم المرجعية قيادتها وتنادي بها كمشروع سياسي في الحكم والدولة بحاجة لان تكون متكيفة ومنسجمة مع التغيرات السياسية والاقتصادية الدولية، والانفتاح على التجارب الإنسانيّة في شتى الميادين.
7ـ الارتباط الوثيق بالجماهير المسلمة في جميع البلدان، والاتصال بها وتفقد شؤونها من خلال المتابعة والرعاية والقيام بزيارات تفقدية لهذه الجماهير في الدول التي تعيش فيها للتعرف عن كثير على مشاكلها وهمومها وطموحاتها والمساهمة في حل ما تواجهه من صعوبات ومعوقات.
فللاسف لم نر مرجعاً يقوم بزيارة دولة اخرى للالتقاء بجماهيره ومقلديه والمسلمين عموماً أو زيارات الاقليات المسلمة من مهاجرين ومغتربين في الدول الغربية وبقية انحاء العالم. هذه الزيارات التي من شأنها تقوية العلاقة بين الجماهير والمرجع وتقوية ثقتهم بأنفسهم واسلامهم، والاهتمام بمؤسساتهم وجمعياتهم ومدارسهم للحفاظ على الثقافة الإسلامية الاصيلة وتحصينهم من مظاهر الانحراف والانحلال الاخلاقي والثقافي. وعليه يجب ترك حالة النمطية التقليدية في علاقات المرجع مع جماهير الاُمّة والتي يكون فيها الوكلاء في المدن والحاشية في مكتبه هم ابوابه لمخاطبة الناس والتعرف على ما يدور في البلاد، بل يجب ان يلتقيهم، يزورهم في أماكنهم لا ان يبقى حبيس الحوزة والمدرسة في مدينة مقدسة. اما المنابر فلم تشهد مرجعاً يرتقيها لالقاء محاضرة سياسية أو اخلاقية أو دينية أو عقائدية بل يتركون ذلك للخطباء وغيرهم، مع ان رؤية وسماع المرجع من قبل الجماهير تبعث فيهم الثقة والاطمئنان والفهم السليم والشعور بقيمته ودوره وزعامته…

جعفر عبد الرزاق
المرجعية بين المد والجزر