محمد باقر الصدر وعقدة الحضارة الحديثة
لست هنا في معرض تقييم الآراء الخاصة ولست ادعي أنني ملم بالعلوم الحديثة، غير انه بإمكاني وضع بعض النقاط على الحروف فيما يتعلق ببعض الطروحات التي ما تزال تثير الكثير من الجدل والصخب، خاصة وان مثل تلك الطروحات يراد منها ان تكون مسلمات ثابتة لا يمكن دحضها أبدا.. بالتأكيد ليست هناك أفكار بشرية لا يمكن دحضها إلا اللهم إذا كانت حقائق علمية ثابتة نالت اعتراف جميع علماء ومفكري المعمورة.
أنني حاليا بصدد تناول كتاب وصفه القائم بنشره بأنه أوسع سفر صنف في أبعاد مذهب الاقتصاد الإسلامي المختلفة وهو كتاب “اقتصادنا” لمؤلفه السيد محمد باقر الصدر.. وبعد قراءته وجدت ان هذا الكتاب إنما تم تأليفه لمجرد الحط من الحضارة الأوربية الحديثة ومفكريها وما وصلت أليه ليس إلا، فلم يتصف بالإنصاف اتجاه العلوم والمناهج الأوربية، بل كان مجرد نكران جميل لرموز الحضارة الحديثة ومذاهبها و مفكريها التي لولاها لما استطعنا البقاء أحياء مكرمين بفضل نعم تلك الحضارة وجهودها وليس من لغو الفقهاء المسلمين وصراعاتهم التي لم تزرع فينا سوى العداوة والكراهية للآخر!! وأنني على يقين بأنه لولا الحضارة الأوربية لانقرض الإنسان العربي ولغدونا عبارة عن كائنات متحجرة تثير الشفقة في احسن الأحوال.
بوسعنا ان نقرأ بعض من هذه الطروحات، حيث يقول في مقدمة هذا الكتاب مايلي:
((ان الإنسان الأوربي ينظر الى الارض دائما لا الى السماء، وحتى المسيحية لم تستطع ان تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوربي، بل بدلا عن ان ترفع نظره الى السماء استطاع هو ان يستنزل إله المسيحية من السماء الى الارض ويجسده في كائن ارضي)) ( اقتصادنا، ص 35)-
وأنا بدوري أتساءل لماذا يكون الآله في نظر المسلمين دائما في السماء، لماذا لا يكون ايضا في الارض، والقرآن يقول “الله نور السموات والأرض” ولم يقل السموات فقط. ولا اعلم من أين جاء المؤلف بهذه الفكرة وكيف استنبطها، أعبر دراسة التاريخ الأوربي أم من خلال التاريخ الإسلامي الذي هو عبارة عن تاريخ صراعات دموية من اجل السلطة والجاه.
ولنقتبس هذه السطور لنتأملها ايضا، يقول المؤلف:
((وهذه النظرة الى الارض أتاحت للإنسان الأوربي أن ينشئ قيما للمادة والثروة والتملك تنسجم مع تلك النظرة!!؟))
وفاته ان يقول ان المسلمين تمكنوا وبجدارة من صنع حكومات لهم في السماء فقط وليس على الارض. حكومات تتعالى وتتسامى على كل من على وجه الارض، وبالتالي أصبحت لدينا شعوب عقيمة معلقة بين السماء والأرض.. لا هي في السماء ولا هي في الارض.. ومن هنا ترى الإنسان المسلم بشكل عام والعربي بشكل خاص متناقض مع ذاته يتسم بالازدواجية لا يستقر على شيء واحد ومتعدد الولاءات حسب المصلحة الخاصة لا يلتفت أبدا ولا يعير أي اهتمام الى المصلحة العامة أو ما تسمى مصلحة الجماعة. أي ليست هناك قيم أخلاقية صادقة وليس هناك إبداع ومشاركة مع الحضارة الحديثة في بناء الإنسان العصري الحر والمستقر نفسيا وماديا.
ويقول المؤلف في مكان آخر: ((وقد استطاعت هذه القيم التي ترسخت عبر الزمن في الإنسان الأوربي ان تعبر عن نفسها في مذاهب اللذة والمنفعة التي اكتسحت التفكير الفلسفي الأخلاقي في أوربا لما لها من مغزى على المزاج العام للنفس الأوربية، ولعبت المادة والثروة والتملك دورا كبيرا في تفجير الطاقات المختزنة في كل فرد من الأمة!!))
و لا أعلم أيريد المؤلف بهذا الكلام ذم منظومة القيم الأوربية أم مدحها لأنها لعبت دورا في تفجير طاقات الإنسان الأوربي المختزنة؟..فقد كان الأولى بالمؤلف ان يذم مجموعة القيم التي يؤمن بها الإنسان المسلم والتي لم تستطع طيلة خمس عشر قرن من ان تفجر طاقاته المختزنة.
ويقول ايضا: (( كما ان انقطاع الصلة الحقيقية للإنسان الأوربي بالله تعالى ونظرته الى الارض بدلا عن النظرة الى السماء، انتزع من ذهنه أي فكرة حقيقية عن قيمومة رفيعة من جهة اعلى أو تحديدات تفرض عليه من خارج نطاق ذاته وهيأه ذلك نفسيا وفكريا للإيمان بحقه في الحرية!! وغمره بفيض من الشعور بالاستقلال والفردية)).
أن هذا الشرط غريب لكنه يصب في ذات المنطق الذي اعتاد عليه الفقهاء المسلمون على مر التاريخ.. وكأنه يريد ان يقول بان شرط الحرية والاستقلال والفردية مرهون بانقطاع الصلة بالله!! ولو سلمنا بذلك لكان الأولى ان نتربع نحن المسلمون المعاصرون على سلم الحرية والفردية والاستقلال لان صلتنا بالله انقطعت منذ دهور، وما نشهده في العصور الحالية هو مجرد صراع ارضي على السلطة والاستحواذ وهي أمور أرضية بحتة.. فنحن المسلمون من فقد صلته بالله لأننا لم نتمكن من بناء مجتمع صالح تسوده قيم الحرية والعدالة. فنحن ابعد الناس عن احترام أبناء جلدتنا، فلم نصنع لهم يوما عالما يحلمون به بل نراهم يهربون منه الى عالم الحضارة الأوربية عالم الارض لا السماء، جل أحلامنا ان نهرب الى ذلك العالم وندع عالم السماء لانه مليء بالظلم والقهر والعبودية. لم نبني مستشفيات أو مدارس أو جامعات لائقة، بل حتى بيوت الراحة في بلداننا تعبر عن صورتنا وقيمنا، قيم عالم السماء المزعوم. تراها مليئة بالقذارات وليس فيها مياه. ودعنا من ذلك، ولنتأمل في كيفية معاملة ضحايانا الأبرياء بعد كل هجوم إرهابي، تعودنا ودون خجل ان نحمل المتوفين بالعربات الخشبية، دون حرمة لهذا الكائن الإنساني حتى بعد مماته!! بالله عليكم من إذن فقد صلته بالله؟ الذي ستطاع أن يبني مجتمعا صحيا تسوده قيم العدالة والمساواة وينال كل فرد من أفراده حقوقه أم الذي لم يتمكن حتى من حفظ حياة مواطنيه؟ أم يريد المؤلف ان يقول ان الصلة بالله متجسدة فقط بالصلاة والصوم وعدم شرب الخمر دون مراعاة للحقوق المتمثلة بحفظ كرامة الإنسان بوصفه كائن كرمه الله، وصيانة حقوقه وحرية الفكر والاعتقاد وتوفير ما يحتاجه من ضمانات اجتماعية له ولعائلته.
ويقول ايضا: ((ونتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها، يحس بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب اليها، وانسجام بينه وبينها، بدلا عن فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر الأوربي الحديث.. وقد عزز فكرة الجماعة لدى الإنسان المسلم، الإطار العالمي لرسالة الإسلام.. وهذا يرسخ في نفسه الشعور بالعالمية والارتباط بالجماعة.))
أين تاريخ المسلمين في حفظ مصالح الجماعة؟ انه لم يكن سوى تاريخ غالب ومغلوب، تاريخ الغلبة والقوة والبطش منذ بدايته، ولم نجد فيه شيئا يشير الى الشرعية التي هي عماد بناء أي مجتمع عالمي..ولم نسمع أحدا استشار آخر واخذ برأيه في موضوع يتعلق بالسلطة أو حتى الأمور العامة المهمة في حياة المسلمين رغم وجود آية قرآنية بذلك “وأمرهم شورى بينهم”.. ومع ذلك أتسائل ماذا قدم المسلمون لهذه العالمية المزعومة على مر التاريخ؟ وحكاية ان المسلم يحس بارتباط عميق بالجماعة وانسجام بينه وبينهم كلام أثبتت الساحة العربية والإسلامية عامة والعراقية خاصة بطلانه، خاصة هذه الأيام التي نعيشها حاليا وما نشهده من صراعات بين الجماعة الواحدة حتى وصلت حد الإبادة الجماعية!!
ويضيف: ((فنحن حينما نأخذ بالنظام الإسلامي، سوف نستفيد من هذه الأخلاقية ونستطيع ان نعبأها ضد التخلف، على عكس ما إذا أخذنا بمناهج في الاقتصاد ترتبط نفسيا وتاريخيا بأرضية أخلاقية اخرى..))
وكأن المؤلف يريد أن يقول بأن المسلمين لم يأخذوا بالنظام الإسلامي من قبل!! بل على مر تاريخهم، كانوا يسيرون ضمن منظومة تلك القيم الإسلامية، غير انهم لم يحققوا شيئا يذكر طبقا لمفهوم العالمية المزعومة.. علما ان النسبة الأعظم من المسلمين في صدر الإسلام كانوا من الأميين و البسطاء بل والجهلاء ايضا، فالتخلف صفة رافقت المسلمين منذ البداية، ولم يؤثر فيهم الإسلام كثيرا.. ومهما يكن، كيف يستطيع المسلم العصري التخلي عن المناهج الاقتصادية الأوربية الحديثة؟ ان الحديث عن قدرة الإنسان المسلم عن التخلي عن المناهج الاقتصادية الأوربية الحديثة ليس سوى خرافة اعتاد فقهاء الإسلام على إطلاقها جزافا، لخداع البسطاء وخداع من لا حظ لهم من العلم!! علينا ان نكون صادقين مع أنفسنا، ان الإسلام عبارة عن منظومة قيمية أخلاقية ملتبسة بعض الاحيان وغير مفهومة في أحيان كثيرة ولا تجدي نفعا أمام منظومة القيم العالمية المتجسدة بحقوق الإنسان والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي هو افضل واكثر عدالة للمسلمين من منظومتهم القيمية التي اعتادوها وجربوها خلال تاريخهم.. فلم يكن للمسلمين منهج اقتصادي واضح يستطيع التنافس مع باقي اقتصاديات العالم، لان الدين الإسلامي دين متجسد بمنظومة من القيم الأخلاقية ليس إلا.. وليس فيه علوم أو مناهج أو قيم تصلح لعصرنا الحالي.. أما فكرة البنك اللاربوي التي طرحها المؤلف في كتابه فليست سوى وهم وخرافة لا تصلح لزماننا وليس لها مكان في المناهج الاقتصادية المعاصرة، بل ربما تصلح لإنسان القرون الوسطى أو ما قبله..
طبعا أن المؤلف لم يكن وحده الذي طرح مثل تلك الأفكار التي تزعم تفوقنا على الحضارة الأوربية، بل كافة فقهاء المسلمين يشاطرونه فيما ذهب أليه وهم أعلم الناس بمدى فقرنا الحضاري والعلمي والاجتماعي والاقتصادي أمام الحضارة الغربية..
الحقيقة ان السيد انتقد الصراع الطبقي بقوة، وفاته ان مجرد لبس العمامة السوداء هو احد السمات الرئيسية لهذا التميز الطبقي، حتى لو زعموا ان الرسول كان يلبس تلك العمامة فانهم انما يلبسونها لمجرد التميز على الآخرين لان الرسول كان يلبس العمامة السوداء والبيضاء والخضراء و… وليس هو فقط، بل حتى المشركين في زمانه كانوا يلبسونها كونها اللباس الشائع في تلك الفترة .. وايضا الدليل الطبقي للعمامة السوداء يتجسد في انها أصبحت مقتصرة على السادة كونها ترمز للسيادة والطبقة الحاكمة المنتمين اليها، أما العوام فلهم العمامة البيضاء، وهي دليل التبعية ليس إلا.
احمد كاظم الموسوي
الحوار المتمدن – العدد: 2265 – 2008 / 4 / 28