نظرية المعرفة بين الشهيدين الصدر والمطهري

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

اخترت لهذا البحث هدفاً رئيساً ضمن مجموعة أهداف مترابطة أحسب أنه فد حققها:

فقد كشف بحثنا عن وجوه الفرق بين الشهيدين بعد أن أوضح نقاط لقائهما، وحجم تفاعلهما، وطبيعة اتجاههما. و أبرز ما استطاع إلى ذلك سبيلاً نقاط الإبداع والابتكار ليديهما، كما أشار إلى مواقع الأصالة والقدرة في العقل الإسلامي على وجه العموم. أنها كل هذا ليس هو الهدف الذي عزمنا على استثماره، رغم إننا ندعي لدراستنا تحقيقه.

بل أردت أن يثبت هذا البحث قضية أساسية، تكون هي ثمرة البحث! وهي: أن إمام البحث في المعرفة البشرية، وفي صياغته نظرية منهجية لها   شوط، بل أشواط أخرى، فقد أسهم الشهيدان في هذا الميدان بجهد عظيم، لابد أن بعاد تظهيره! دون أن

نحسب أنه حريم الميدان ونهايته! بل أمام أبناء مدرسة الشهيدين أشواط…

يتناول بحثنا ـ كما هو عنوانه ـ وجهات نظر الشهيدين (مطهري) و(الصدر) بشأن المعرفة البشرية. نوضح خلاله الأفكار التي خلصا إليها في تحليلهما ونقدهما للمعرفة، ونحدد اتجاه هذه الأفكار، مقارنين بين مضمون الفكرين والاتجاهين، إن تعددا.

لكن العنوان الذي يسير عليه عرف الباحثين في الفلسفة (نظرية المعرفة) أثار لدي فضول البحث والمتابعة، فكان السؤال التالي:

ماذا يراد ب(نظرية المعرفة)؟

هناك من يجيب على استفهامنا بالقول: (الابستمولوجيا) ثمة مجموعة جد متنوعة من المشكلات الفلسفية ليس بينها رباط وثيق تتعلق بأفكار من قبيل المعرفة، والإدراك، والتيقن، والتخمين والوقوع في الخطأ، والتذكر،والتبين، والإثبات، والاستدلال، والتأكيد، والتعزيز والتساؤل، والتأمل والتخيل ورؤية الأحكام، و هلم جرا، وكثيراً ما يسمى هذا الجزء من الفلسفة ب(النظرية المعرفة) أو الابستمولوجيا، وهذه الكلمة الأخيرة مشتقة من الكلمة الاغريقية Episteme * المعرفة أو العلم[1]

وإذا توخينا تمحيص هذا النص بدقة، ولا جانب الصواب في ذلك، إذ أن التمحيص الدقيق هو الشأن المناسب في فهم النص الفلسفي، نلاحظ أن هناك من الفلاسفة من يرى أن جميع هذه الفعاليات الذهنية تمثل تجليات مختلفة لوجود واحد وموحد، هو النفس البشرية، كما أن هناك من مذاهب الفلسفة من يعتبر سائر هذه الفعاليات تجسيداً لقانون واحد وموحد بين هذه الأنشطة العليا لعمل القشرة المخية لدماغ الكائن البشري، وهو القانون الإشاري الثاني.

فكيف أصبحت هذه الأفكار لا ترتبط برباط وثيق؟

يشفع لصاحب الموسوعة المختصرة أن يتبنى رأياً فلسفياً مضمراً لم يكشف النقاب عنه، لكنه لم يكن كذلك، وهو يدون موسوعة يختصر فيها آراء آلاف الفلاسفة عبر تاريخ الفكر البشري المدون ولا يصح أن ينطلق من ذلك، وهو يريد تعريفاً أولياً لنظرية المعرفة، إذ لابد له ـ في هذه الحالة ـ من أن يقدم تعريفاً عاماً ومحايداً.

وقد جاء التعريف بالمثال المحايد، فقد عمدت الموسوعة إلى أمثلة وحالات للمعرفة يمكن أن تدرسها كل مذاهب الفلسفة على اختلاف اتجاهاتها، ولكن أني لشتات الأمثلة ـ التي لم تجد الموسوعة أصره بين مفرداتها ـ من النظر العم والتصور الشامل، الذي يستهدفه التعريف عادة؟ على أن لا يفوتنا أ نشير إلى الخلط بين مصطلح علم النفس الحديث والفلسفة في أمثلة الموسوعة.

أما الدكتور بدوي فيعرفها في موسوعته ـ شارحاً نظرية المعرفة ـ أي: إلى أي مدى يستطيع عقلنا الوصول إلى إدراك حقيقة الكون والطبيعة والإنسان؟ وما هي أدوات المعرفة الصحيحة؟ وما قيمة هذه الأدوات وأدوارها في تحصيل المعرفة البشرية؟. [2]وتعريف الدكتور بدوي تعريف لنظرية المعرفة بأهم مشكلاتها العامة، فهو يقدم لنا نظرية بما هي واقع أبحاث يتداول الفلاسفة مهمة دراستها وتمحيصها. إلا أن دور أدوات المعرفة البشرية يدرس في الإجابة على الاستفهام الثاني: ما هي أدوات المعرفة؟ لا في قيمة هذه الأدوات.

وبغية أ نقيم وجهة نظرنا في هذا المجال على أسس بينة ونتجاوز بها حالة التعليق والهامشية،  علينا أن نحدد بوضوح المراد من مفردتي المصطلح  المعرفة)، النظرية، كما علينا أن نلقي الضوء على السياق التاريخي للمصطلح، وموقعه في أبحاث الفلسفة.

تاريخياً تناول فلاسفة اليونان وفلاسفة الهند المعرفة البشرية كما درسها فلاسفة فارس (الفهلويون) واهتم فلاسفة المسلمين بدراستها اللقاء الضوء الساطع عليها، لكنها أي المعرفة ـ جاءت في طي أبحاث سائر مدارس التراث العالمي ضمن النهج الذي أقاموا على أساسه أبحاثهم.

فلو أخذنا الفلاسفة المسلمين مثالاً في هذا المجال مجد أن أقاموا البحث الفلسفي على أساس موضوعه، الذي يعني لديهم (الوجود أو الموجود بما هو موجود)، فتوزعت أبحاث المعرفة عندهم حسب تناسبها مع موضوع الفلسفة العام، بين العلم الطبيعي والإلهي ومباد يهما التي يمثلها البحث المنطقي. فهناك بحث حول زوايا المعرفة في علم المنطق، كما هناك دراسات معرفية في أبحاث العلم الطبيعي، وأبحاث العلم الإلهي، ومن ثم فعلى الباحث الذي يريد أن يضع (المعرفة) لدى فلاسفة الإسلام ضمن إطار نظري شامل أن يسعى لاستخلاص هذا عبر شتات أبحاث الفلسفة، فيقتنص المفردات من بين طيبات أبحاث المنطق و(نظرية الوجود)، لينتهي عبر ذلك إلى رؤية عامة وشاملة للمعرفة البشرية.

إلا أن الأمر في الفلسفة الأوروبية الحديثة يختلف تماماً عما كان عليه لدى السلف، فقد استحوذت (المعرفة البشرية) على اهتمام مباشر ورئيس لدى حكماء تلك الديار، فقفزت متصدرة أبحاث الفلسفة منذ (ديكارت) وهي موضوع شاخص قائم بذاته.

ولعل اغلب مؤرخي الفلسفة ـ الذين لهم رأي في هذه الصدد ـ يعزون هذه الفقرة إلى النهضة العلمية الحديثة في أوروبا، وما أفرزته هذه النهضة من اهتمام ملح بالعلم والمعرفة وتطويرهما.

وأيا كان الاختلاف حول طبيعة العامل أو العوامل التي رشحت (المعرفة) لأن تتصدر أبحاث الحكمة الغريبة، فقد أضحت (نظرية المعرفة) السؤال الأول الذي تطرحه أغلب مدارس الفلسفة الغريبة الحديثة، بل هو الأخير أيضاً لدى بعض هذه المدارس! وهي تصر على ضرورة أن تكون مشكلة المعرفة منطلقاً جاداً لركوب البحث في مختلف قضايا الحكمة الأساسية. تبرر ذلك بأن تحديد اسلوب المعرفة وأدواتها السليمة، وقيمة هذه الأدوات في الكشف عن الواقع، وتشخيص إمكانات الذهن البشري وحدود فعاليته، تمثل نقطة البدء في أية معرفة أخرى، سواء على مستوى نظرية الوجود، أم الأخلاق، أم السياسة.

ونحن مع الفلسفة الحديثة في تقدم رتبة البحث حول المعرفة في أغلب مشكلاتها عل[ سائر أبحاث الفلسفة الأخرى، سواء اً ذهبنا إلى كونها من مبادئ البحث التصديقية ـ على حد تعبير الأقدمين ـ أم انتهينا إلى أن درسها من صلب مسائل البحث[3].

أما المعني من (المعرفة) فلا يخفي على طلاب هذا الميدان المعرفي ما أثير من ألوانه المختلفة.

غير أن  الذي يهمنا مسكه هو ما يتلائم مع الموقف الطبيعي للكائن البشري بعامة، وهو عبارة عن (الحادث الوجودي) الذي يحصل في داخل الإنسان، والذي يحسه النوع الإنساني دون استثناء. ويتمثل في مجموع ما يكتشفه الإنسان من مفردات ترد الذهن، ومعان تحصل لديه، هو ذلك الوهج الذي يأتي ـ بعد أن لم يكن، متقداً حيناً آخر، يأتي صافياً واضحاً في آن، ويحصل عليه الذهن مشوباً لا يصفو في آن آخر، هو صورة النار التي ترتبط في ذهن الطفل بالإحراق فيمسك عن لمسها حينما يراها، هو عمليات الضرب والقسمة والجمع والطرح الذي يقيم التاجر والإحصائي في ضوئها حساباته، هو التصور الذي يحصل عليه الفسلجي عن طريق أداء الجهاز العصبي، والقوانين التي تحكم هذا الأداء، هو مفهوم المكان والزمان ونظرائهما من المفاهيم والمعاني المجردة التي تحضر في الذهن… هذه الصور والمعاني التي تحدث لدينا وندركها بالوجدان يدور حولها الجدل، وتتعدد عند تفسيرها الاتجاهات.

والبحث حول (المعرفة) يعني بدراسة طبيعة هذه الحوادث التي توجد داخل الكائن البشري، ويتحرى مصدرها، ومدى انسجامها الداخلي، ومقدار تطابقها مع ما تحكيمه من واقع، وما إلى ذلك من أبحاث.

ثم علينا أن نأتي لتحديد المفهوم من (النظرية) ـ Theoryـ: حينما ننعت تفكيراً ما بأنه (نظرية) ونضيفها إليه، فهذا يعني وسم هذا التفكير بطابعين: العموم، والشمول، التفكير النظري يتناول عادة تحديد الأطر العامة لموضوع البحث، لكنه قد يستوعب موضوع البحث، ويشتمل على أبعاده المختلفة، وحينئذ يصح أن نحمل عليه (نظرية)، ونضيف النظرية إليه.

قد تكون هناك وجهة نظر حول (المعرفة البشرية)، أو تقويم للمعرفة في ضوء سياق ما إلا أن وجهة النظر هذه لا ترقى إلى مستوى النظرية ما لم تطف حول السائر زوايا المعرفة، فتطرحها أمام الدرس بأبعادها المتنوعة، ومن ثم تقدم إطاراً عاماً وشاملاً يفسر هذه المقولة (المعرفة).

في هذا الضوء يصح لنا أن نسم بخثنا ما بأنه بحث في (نظرية المعرفة) حينما يتناول (المعرفة) بالدرس مستوعباً كل مشكلاتها، التي تسهم في بناء الرؤية العامة الشاملة للمعرفة الإنسانية، فتناول طرف من مشكلات المعرفة البشرية لايسوغ لنا أن نطلق على هذا التناول بأنه بحث (لنظرية المعرفة).

من هنا كان لنا تحفظ على تعريف الدكتور بدوي لنظرية المعرفة، فهو قد عرفها بمشكلاتها التقليدية الثلاث، وهذه المشكلات لا تستوعب كل الأبحاث التي تسهم في بناء الرؤية الشاملة للمعرفة. فنحن نلاحظ ـ مثلاً ـ أن البحث في (الإدراك البشري) ليس هامشاً على (نظرية المعرفة) بل هو أساس من أسسها يتلون وفقه الاتجاه في تحديد دور العقل المحض في إثراء المعرفة البشرية، من قيام المعرفة على أساس معارف قبلية، أو قيامها على أساس المعطيات البعدية للتجارب البشرية.

كما يفترق الفلاسفة في ضوء تحديد طبيعة المدرك في بحث الإدراك بين موصد لنافذة القلب والوجدان، ساخر بهذا المسلك المعرفي ـ كما هو الحال لدى الفلاسفة الماديين عموماً ـ، وبين فاتح بابي القلب والوجدان أمام العيان، كما نجدها عند العرفاء والصوفية منذ سالف الأيام، ونجدها حديثاً لدى (برجسون) و (باسبرز) و (إقبال).

هناك ثلاثة عناصر، في كل (معرفة بشرية)، العالم، المعلوم، العلم. ودون تحليل كل عنصر من هذه العناصر، وتنويع صوره وأشكاله ودراستها، وبالتالي الوقوف على طبيعته وطبيعة دوره لا يتسني لم شمل (نظرية) بالمعني الصحيح لمعرفة البشرية.

إلى هنا نترك هذا التقديم العام، ‘لى أن نتخذه معياراً نستعين به حينما يدعونا البحث لذلك.

(مطهري)…(الصدر)، هكذا يتسلسلان زمنياً فالأول يكبر الثاني بما يقرب من عقد من السنين، لم ينشئا في بيئة واحدة، ولا في محيطين مطابقين ـ خصوصاً بالنسبة إلى موضوع بحثنا ـ رغم القواسم المشتركة بين (قم) و (النجف).

أما (قم) الضريبة من كهك ـ حيث أن الثانية قرية من قرى المرتفعات الجنوبية الغريبة التي تحيط بمدينة (قم) ـ فهي لم تجف قربها لمعتكف (صدر الدين الشيرازي) بل ظلت تحتضن فكره وتراثه، رغم أنها جامعة فقه، وحوزة لعلوم الشريعة.

فعلوم الشريعة ترتكز على تراث ومصادر تمنح العقل الثقة في أن يعمل ويمارس دوره كمجتهد في عملية الاكتشاف، دون أن يكون له دور المبدع في تحديد الحكم. فالعقل والمنهج فيها ليس حراً، بل يتحدد وفقاً للخط الذي ترسمه والحدود التي تحدها له.

والفلسفة حرية العقل، تطلقه من الأسر ليختار ويجتهد في التحديد، بل واللاتحديد تراثها محايد، لا يحمل الباحث فيها على نهج خاص، ولا يتحدد العقل عندها في العمل على مادة معدة من قبل، بل تتركه ليبدع في رحاب الوجود الفسيح.

والاعتقاد لدينا أن التعارض بين منهج الفلسفة ومنهج علوم الشريعة لا يعني تعارضاً بين الشريعة والفلسفة. فاختلاف المنهج بين حقلين من حقول العلم كالرياضيات والفيزياء، لا يعني تناقضاً أو تعارضاً بين هذين الحقلين، كيف والرياضيات عامل في تطور الفيزياء ونضجها.

لكن من ينكر على الناس حرصها وخوفها على معتقداتها، الذي يصل في بعض الأحيان إلى ما يشبه (الوسواس) فتأخذ بالشك في  كل ما يحتمل أن ينال من عقائدها شيئاً، فتقلع عنه وتقمعه.

أجل فذلك لا يبرر لنا أن ننكر الاعتراف بأن الحظر على العمل الفلسفي في بيئات ما ينشأ جراء ضيق أفق، تمليه أحياناً عوامل خارجية.

وقد توفرت (قم) ـ لأسباب لا يتسع مجالنا لتحليلها وعرضها ـ على تيار جسور، لم يأبه في أعلان عملياً، أن ليس هناك تعارض بين الفلسفة والشريعة. وقد ورث هذا التيار نظريات (صدر الدين الشيرازي) التي نقلت إليه عبر سلسلة من الشراح والمحشين  والمبدعين (وهم – أي المبدعينـ قليل في عددهم وإبداعهم)، تنتهي هذه السلسلة بصاحب التركة (صدر الدين الشيرازي) وتبتدئ منه.

فلم تغلق (قم) على الفلسفة، بل ما فتأت هذه الحوزة الفتية بالحظوة ـ في الجيل الأول من طلابها ـ على أساتذة محترفين للفلسفة، جمع جلهم بين الشريعة والحكمة. فكان (الخميني) فقيه الطائفة ومرجع الإفتاء فيها، استاذاً ماهراً للفلسفة والعرفان، وكان (الطباطبائي) محوراً[4]ومحضناً لطلاب الفلسفة، حيث تخرج عليهما الجيل المعاصر من أساتذة الفلسفية في إيران.

وقصة النجف نستطيع أن نلم بطرف منها من خلال حياة (الطباطبائي) نفسه، فقد تلمذ الطباطبايي في النجف، وتعلم من أساتذتها الفقه والأصول، كما تعلم منهم العرفان والفلسفة، ثم لم يجد حقلاً ولا زاوية في وادي النجف المصحر، لكي يغرس فسائله فيها، فأقفل عائداً إلى بلاده ليجد في قم ملجأ يلوذ به وميدانا ً يصحر بأفكاره فيه فتزدهر حوزته بطلاب الفلسفة، وتينع ثمار غراسه، وكان مطهري ثمرة تتميز عن الثمرات اليانعات في عرس (الطباطبائي).

أما مدينة الصدر (النجف) فهي مهيع جهابذة الفقه وكان لها حتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري دور تأسيسي رئيس في مختلف مراحل تطور الفقه والأصول في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، خصوصاً إذا آمنا بالوصل الجغرافي بين (النجف) و(الكوفة)، حيث تصبح (أم) الأصول الأربعمائة، وموطن خلاصة تجربة مدرسة بغداد، حيث استوطنها الشيخ الطوسي، وهو يحمل تجارب هذه المدرسة.

وتبقى بعد ذلك الراضع الموئل لأمهات المدارس الشيعية في الحلة وكربلاء، والرافد الواهب للحوزات التابعة لها في التأسيس بجبل عامل والحجاز واصفهان وقم.

إلا أن النجف التي عاشها السيد (محمد بقر) لم تحفل بالفلسفة ـ لأسباب لا يسع مجالنا تحليلها ـ بل كان في هذه المدرسة رجال، وفي سر من المحافل العامة غالباً.

ولم يغفل السيد (محمد باقر) في ريعان شبابه حمل كتاب (الأسفار)[5] ليقرأه عن وعي، وهو النابه النابغ الذي يتطلع لمستقبل في أفق المعرفة البشرية. ثم يلتقي أحد مدرسي هذا الكتاب ـ وهو الشيخ صدرا البادكوبي ـ ليمتحن فهمه الأسفار، فيقرأ معه بعض أجزاء الكتاب بطريقة لا هي بالدرس التقليدي، ولا هي بالمباحثة بين الأنداد، بل كانت لوناً آخر من القراءة.

ورغم جفاء (النجف) لما أستقر عليه التفكير الإسلامي على يد الشيرازي من اتجاه وأفكار، إلا أنها بقيت تشترك مع (قم) في استلهام هذا الاتجاه الفلسفي والتأثير به وكان ذلك في بحوثها الأصولية.

علم الأصول الذي يبحث في تحرير القواعد العامة لعملية الاستنباط الفقهي لم ينفك ـ وهو الجهد البشري ـ عن التسلح بالعقل والتفاعل مع معطياته.

فتسرب نتاج العقل في الحكمة إلى علم الأصول، بل حاول اكثر الأصوليين المتأخرين معالجة بعض مشكلات العلم بنظريات (صدر الدين الشيرازي) في أصالة الوجود وتنوع المعقولات البشرية ! وبغض النظر عن طبيعة وجدوى التفاعل الأصولي مع أفكار الشيرازي والفلسفة بعامة، تظل النجف ـ كمناخ عام ـ بعيدة لدرجة واضحة عن تلك الأفكار واتجاهها، ويبقى علم الأصول سعياً عقلياً على مستوى رفيع لتحديد نظرية الفقه ورسم قواعد استنباطه، لا يعني أساساً بالفلسفة وأنما تدخله متحايلة بخفية، وتمتزج مع أبحاثه دون إفصاح عن هويتها.

وقد كان لكل من (الصدر) و(مطهري) دربه واسهام في هذا السعي العقلي، بل كان الأول يعدو فيه ليطرح له سياقاً جديداً، ويلبسه حلة تنتسب إلى إبداعه الذاتي.

ورغم الفجرة التي حدثت بين الجامعة العلمية في النجف وفي قم وبين تطورات الحياة ـ وقد كان وصلت في بعض حالاتها إلى حد القطعية ـ إلا أن موجة المادية الماركسية المنظمة، بما حملته من إلحاد صريح، شكلت تحدياً صارخاً لقيم الجامعتين الدينيتين، فهزت المدينتين بعنف، وتطلع الغيارى من أبناء هاتين الجامعتين لمطالعة المضمون الفكري والفلسفي لهذه الموجة، متفاعلين في ذلك مع ما يعتري حياة الناس من نحول، قارئين بعمق لفلسفة الغرب الحديث.

وكان مطهري والصدر في الطليعة، بما وهبا من قدرات ذهنية خاصة، وبما كان لديهما من روح يقظ مدرك لموقعه ومسئوليته.

لعلنا نتمكن عبر هذا الاستعراض السريع من الوقوف على تفسير الفوارق القائمة بين الشيخ مطهري والسيد الصدر ونحن نزمع على دراسة المعرفة البشرية لدي هذين الشهيدين.

مصدرنا في هذه الدراسة هي ماتركه هذان المفكران من كتابات قدر لها الظهور بالفعل (الرأي المدون)، وهي تتمثل بالنسبة للصدر في كتاب فلسفتنا والأسس المنطقية للاستقراء) كما على الباحث أن يتابع مالا بس دراسات السيد الأصولية من بحوث فلسفية.

أما بالنسبة للشهيد مطهري فمصادرنا هي:

ـ أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، قد جاء في الفارسية تحت عنوان (أصول فلسفة وروش رئاليسم). ونحن نعتمد على النص الفارسي لهذا الكتاب لفقدان الترجمة العربية الكاملة، ولأننا لا نستطيع أن نفهم ما عربته بعض الأقلام من الكتاب. وتحسن الإشارة إلى أن هذا الكتاب عبارة عن (متن) و(تعليقات)على المتن، يمثل المتن محاضرات ألقاها العلامة (الطباطبايي) ـ رحمة اللهـ وجاء الشهيد مطهري فأغنى المتن بتعليقات ضيافة، أخرجت المتن إلى عالم آخر، جاءت أثرى منه مادة، وأوضح أداء اً، وأشمل في استيعاب مدارس الفلسفة الغربية ونقدها.

ـ شرح منظومة السبزواري، وهو مجموعة محاضرات في جامعة طهران ألقاها الشهيد على طلاب الفلسفة، وهو في جزئين، وقد قمت بتعريب الجزء الأول منهما.

الشرح المبسوط للمنظومة فارسي، وهو محاضرات أعمق وأغنى من سابقتها، ألقاها الشهيد مطهري في منزلة على بعض الطلاب، وكان من بين الشرح لحد الآن جزءان على أمل أن تلحقهما أجزاء أخرٍى.

المعرفة فارسي وهو عدة كتب قامت بنشرها عدة دور تحت عنوان واحد (شناخت) ومن الممكن أن تكون محاضرات مختلفة في موضوع المعرفة، ألقاها الشهيد في مناسبات وأماكن مختلفة، وبلغة تختلف باختلاف المناسبات.

طريقتنا:

نولي السبق التاريخي أهمية في اسلوب معالجة موضوع البحث فنتخذ من أصول الفلسفة منطلقاً لعرض آراء الشهيد مطهري ومقارنتها بما جاء في فلسفتنا لنستطيع ـ ضمنياً ـ تحرى واقع الادعاء القائل بأن فلسفتنا استنسخت الكثير من أفكار(أصول الفلسفية) مع اختلاف في اسلوب العرض، آخذين بنظر الاعتبار أن السيد الصدر قد اطلع على الجزئين الأولين من هذا الكتاب، وقد كان رحمة الله متمكناً من فهم النص الفارسي بنفسه أو بالاستعانة بأبناء اللغة ثم ناتي بعد ذلك انتخذ من الأسس المنطقية للاستقراء منطلقاً آخرلتقييم المعرفة البشرية عند الصدر، لنعترف من خلال هذا التقييم على أوجه الخلاف واللقاء مع وجهات نظر الشهيد مطهري.

أشرنا إلى أن بحثنا المقارن يقع في مرحلتين: الأولى: نتناول فيها (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي) مقارنة مع فلسفتنا. حيث نلتقي مع التعليق علة أصول الفلسفة الذي دبجه يراع الشهيد مطهري، وكأنه يصوغ نظراته الأخيرة فغي ميدان المعرفة، إذ لم يطرأ تغيير أساسي على فكر مطهري مع تمادي الأيام، وخلال عشرات الأبحاث الأخرى، التي كتبها فيما بعد، حيث نجده يرجع إلى (أصول الفلسفة) ويستشهد به فأضحي الأم الراضع لكثير من دراساته.

ونلتقي فلسفتنا ربيع أبحاث الشهيد الصدر في ميدان المعرفة، الذي عرضت عليه تغييرات جوهرية، سجلها بشكل أساس صيف دراساته (الأسس المنطقية للاستقراء).

علينا أن نقارن أولاً بين تنويع البحث والمنهجية كل من الشهيدين خلال دراسته مع مقارنة ببلوغرافية تضع بين أيدينا الفهرس العام لمادة الأبحاث فنستعين به على ما يأتي من موازنة.

اعتمدت الأصول الفلسفة في متنها منهجاً خالصاً في تنويع البحث، وهو أمر لا يعنينا هنا، إنما نعني بالاسلوب الذي اقترحه الشهيد مطهري في تعليقاته، والمنهجية التي ارتأها.

يؤكد مطهري في أكثر منت موضع أن الاجابة على مشكلات نظرية المعرفة البشرية تستلهم من خلال ثلاثة أبحاث:

قيمة المعرفة.

مصدر المعرفة.

حدود المعرفة.

بينما اتخذت فلسفتنا اسلوباً آخر في برمجة أبحاثها، فجاءت معالجة مشكلات نظرية المعرفة في فقرتين:

الأولى: مصدر المعرفة.

الثانية قيمة المعرفة.

وقد بحثت (فلسفتنا)موضوع حدود المعرفة في خاتمة الفقرة الأولى، تحت عنوان التجربة والكيان الفلسفي.

على أن (أصول الفلسفة) نفسه يرى أن مسألة (حدود المعرفة تتفرع على أساس الموقف من قضية (مصدر المعرفة).

ولاتفوتنا الإشارة هنا إلى أن التسلسل الذي جاء في أصول الفلسفة ـ فيما أقدر ـ أوفق من تسلسل البحث في فلسفتنا، حيث أن البحث في قيمـة المعرفة وحدود قدرة الذهن البشري على الكشف عن الواقع، هو الذي يتيح لنا دراسة حدود هذا الواقع وهل إنه محدود في في الواقع الحسي العياني أم إنه أشمل منه؟ فإن نتحدث عن المسائل التي نصل بها لاكتشاف الواقع وطبيعة هذه الوسائل يستدعي أن نتعرف أولاً هل هناك للواقع وجود أم لا؟ كما ينبغي إن نحلل في مرحلة متقدمة طبيعة الذهن البشري ونحدد ماهية الإدراك ومن ثم فالبحث في قيمة المعرفة متقدم رتبة على البحث في مصدر المعرفة.

أما بحث الإدراك فلم يأت (أصول) الفلسفية على بيان الدور الذي يلعبه في قضايا المعرفة البشرية، كما جاء في (فلسفتنا) ملحقاً اختتمت به أبحاثها في المعرفة والعالم،.كأنه لا علاقة له بأبحاث المعرفة البشرية !

وبدورنا سوف نتناول لاحقاً تقويم معالجتي الصدر ومطهري لقضية الإدراك البشري، من خلال الملاحق التي سنختتم بها دراسة المرحلة الأولى من المقارنة، فسوف نأتي في هذه الملاحق على القاء نظرة شاملة في التقويم، كما نشير إلى بعض الخصوصيات، التي لم يستوعبها السياق الذي اختاره بحثنا.

نأتي الآن على رسم خريطة البحث في (أصول الفلسفة) وفقاً للميزان الذي حدده لنظرية المعرفة (مشكلاتها الثلاث)، ثم نعطف الحديث بعد ذلك حول فلسفتنا ليتضح لنا هيكل الدراستين في كل مشكلة من مشاكل البحث فنضعهما جنب، ثم نأتي لتقويم المادة المطروحة عبر الهيكل العام.

أولاً: قيمة المعرفة:

نتلمس معالجة المشكلة من مشاكل الأولى (قيمة المعرفة) عبر المقالة الرابعة من (أصول الفلسفية).

شرع المؤلف بتحرير ديباجة بين يدي البحث ابتدأها بتحديد مشكلة البحث وأنها تدور حول محور (حقانية الإدراك البشري) وصحة نعته بأنه حقيقي.

ثم أتي على معالجة النقاط الآتية على التوالي:

ما المعني بالحقيقة؟

هل للحقيقة وجود ما؟

مقياس تمييز الحقيقة عن الخطأ.

هل يمكن اجتماع الحقيقة والخطأ؟

هل الحقيقة دائمة أم مؤقتة؟

هل الحقيقة متطورة؟

ما هي علة كون الحقائق التجريبية غير قطعية؟

هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟

ثم يستعرض تأريخ الموقف الفلسفي ـ بدءاً من اليونان حتى يومه ـ من (قيمة المعرفة) متعرضاً لتحليل ونقد النظريات.

ويختتم الديباجة بجدول يصنف وينسبها إلى أصبحها.

ثم يرد صلب الموضوع، فيتمخض البحث تقريباً لدراسة وتقويم الموقف المادي الديالكتيكي.

أما فلسفتنا، فابتدأ المقدمة في تحديد مشكلة البحث بالنحو المتقدم، ثم أشار إلى الموقف الواقعي للماركسية، وأخذ يتوعدها بنزال يثبت من خلاله خطل ادعائها.

بعد ذلك أخذ باستعراض تأريخ الموقف، وتعرض لتحليل ونقد الموقف الماركسي.

مادة البحث: هناك ثلاث زوايا يمكن أن نتناول مادة البحث من خلالها: عرض وجهات النظر المختلفة…  تقويم النظريات ونقدها…  عرض الموقف الفلسفي الإسلامي.

عرض وجهات النظر المختلفة

امتاز “أصول الفلسفة” باستيعابه لكثير من المدارس الفكر الغربي التي لم يشر لها “فلسفتنا”، و في عرض وجهات نظر “ديكارت” و “باركلي” بشكل مفصل. أما سائر النظريات الأخري فليس هناك اختلاف يذكر بين “فلسفتنا” و “أصول الفلسفة”. بل نجد “فلسفتنا” تحذو حذو “أصول الفلسفة” في إغلب عرضها للفكر الماركسي، و في إطلالها العاجل علي النظريات الأخري، و تركيزها علي الفكر المادي الديالكتيكي.

كما نجد هناك تطابقاٌ بيناٌ بين الشهيدين في مواضيع متعددة، منها تفسير التطور الفلسفي في الغرب و تشبيه عصر النهضة الأروبية بمرحلة اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد.

و امتاز “فلسفتنا ” بالرجوع في تحليل الفكر الماركسي إلي المصادر المعربة لمفكري الماركسي الأساسين.

تقويم النظريات و نقدها:

لما كان الشهيدان عامدين علي مواجهة الفكر الماركسي بشكل أساس نجدهما يمران عاجلاٌ علي نقد و تقويم مدارس الفكر الأخري، حيث نجده تبسيطاٌ و نجد (فلسفتنا) يقع بما وقع (أصول الفلسفة) من تعميم المثالية ـ نراه خاطئاً[6] ـ علي مدارس علم النفس السلوكي، بل تعدي فلسفتنا في تعميمه إلي ” فرويد ” و المادية التاريخية !

أما نقد الفكر الماركسي فالإشكاليات الأساسية التي يسجلها ” فلسفتنا ” تتطابق إلي حد كبير مع ما جاء من اشكالات في ” أصول الفلسفة ” مع اختلاف في العرض.

عرض الموقف الفلسفي الإسلامي:

هناك فارق بين العرض يسجل لصالح ” أصول الفلسفة ” فقد عمد في المقدمة علي رسم مبادئ أساسية يستخدمها كمقياس في معالجة مشكلة البحث و هي عبارة مبادئ المدرسة العقلية في تحليل فكرة ” الحقيقة ” و تحديد “مقياسها ” و تفسير الفارق بين نمو المعرفة و اجتماع الأضداد و النقائص. فجاءت مبادئ الفكر الفلسفي الذي يتبناه متحدية جاهزة قبل المقارنة. بينما خلصت ” فلسفتنا ” إلي نتائجها من خلال المقارنة.

مضافاٌ إلي أن ” أصول الفلسفة ” أشبع البحث في المقدمة و خلال تطبيقها المقارنة في إيضاح مبادئ المدرسة الفلسفية التي يتبناها.

و قد كانت نتائج البحث في كل من الدراستين متقاربة، حيث أكدتا معاٌ علي أن الإدراك البشري يحكي عن واقع، و إن الإدراك يتطابق مع الواقع الموضوعي، و أن الشيء المدرك هو ذاته الأمر الواقعي، مع اختلاف في وجوده، فهو في عالم الإدراك  موجود ذهني، و في عالم الواقع موجود خارجي. إلا أن ” فلسفتنا ” أكدت عبر مواضع من البحث علي إمكانية الاستدلال علي التطابق بين الواقع و الإدراك، و مرد هذا الاستدلال إلي بديهيات العقل، و علي رأسها ” مبدأ العلمية “.

اما ” أصول الفلسفة ” فقد اكدت علي أن موضوعية الإدراك بعامة و مطابقة للعالم الخارجي أمر بديهي لا يتطلب برهاناٌ و دليلاٌ، بل لا يمكن الاستدلال عليه.

ثانياً: مصدر المعرفة:

تركز البحث في مقالة الخامسة من أصول الفلسفة على معالجة هذه المشكلة.

ابتدأ الشهيد مطهري البحث بمقدمة تناول فيها الموقف من مشكلة البحث لدى أفلاطون أر سطو والفلاسفة المسلمين والفلسفة الحديثة… ثم سجل ملاحظات منهجية أمام البحث تناول فيها التمييز بين البحث في المعرفة التصورية، والبحث في المعرفة التصديقية. وحدد خلال هذه الملاحظات بعض القيود الاحترازية بشأن بعض المصطلحات والأفكار الواردة في البحث.

ثم يعرض الشهيد مطهري تبعاً للمتن البرهان العقلي الذي إقامة(صدر المتأهلين) على ضرورة رجوع التصورات المتنوعة في الذهن البشري إلى الاحساسات المتنوعة التي يتلقاها الإنسان من الخارج، وفقاً لقاعدة بساطة النفس البشرية، ويأخذ بعد ذلك في تعميق هذا البرهان على أسس فلسفة (صدر لمتأهلين) أيضاً.

ثم أتي على تحليل جملة من التصورات البشرية، التي يظنها الاتجاه العقلي في تفسير التصورات أموراً فطرية فأثبت رجوعها إلى الحس.

عرض ـبعد ذلك ـ الموفقين الأساسيين من الأحكام والتصديقات، وناقش المدرسة التجريبية. ثم استقل بمناقشة الموقف المادي الجدلي.

أما فلسفتنا فقد قدم مقدمة بين يدي البحث ميز فيها بين البحث في المعرفة التصورية والمعرفة التصديقية، ثم عرض مشكلة البحث في المعرفة التصورية، وعرض مواقف أفلاطون والمدرسة العقلية، والحسية، ونظرية الانتزاع، التي يتبناها الحكماء المسلمون.

بعد ذلك عكف على بيان الموقف من المعرفة التصديقية فعرض وجهة نظر المدرسة العقلية والمدرسة التجريبية وناقش الأخيرة ثم أفرد فقرة لمناقشة التفكير الماركسي.

(ب) مادة البحث:

يحسن بنا أن نجزئ حديثنا حول مادة البحث في فقرتين:

الموقف من المعرفة التصورية

الملاحظ أن أصول الفلسفة أطال الوقوف عند هذه الفقرة، وعرض لأخطاء وهفوات المدرستين الحسية والعقلية، من خلال عرض الموقف الفلسفي الذي تبناه فلاسفة الإسلام، كما أشبع البحث في إيضاح الدليل الفلسفي على ضرورة رجوع المعرفة التصورية إلى الحس، وأطال الوقوف أيضاً على تحليل المفردات التصورية، التي يدعي الاتجاه العقلي فطريتها وسبقها الإحساس والخارج.

ثم وقف على مبدأ العلية، فعطف الحديث بشكل أساس على نقد المذهب الحسي في التصور، موضحاً بذلك دور العقل في انتزاع المفاهيم على أساس المفردات الحسية التي يتلقاها بدءاً من العالم الخارجي.

أما فلسفتنا  فقد أوجز الحديث عن نظرية الانتزاع التي يتبناه الكتاب تبعاً للفلاسفة المسلمين.

واستخدم نفس المنهج في الرد على الاتجاه العقلي: أولاً تحليل التصورات وارجاعها إلى، مشيراً إلى أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الذي استخدمه زعيم الحسية (جون لوك) في الراد على الاتجاه العقلي.

ثانياً: أشار باقتضاب إلى البرهان الذي أقيم في هذا المجال، إلا أنه خلافاً للشهيد مطهري لم يرتض هذا البرهان ـ على فرض التسليم بصحة كدليل للرد على الاتجاه العقلي، طارحاً تفسير آخر للاتجاه العقلي لا يقوى كلا الأسلوبين المتقدمين في الرد عليه.

وبالنسبة للموقف من الاتجاه الحسي فقد تطابق البحث في فلسفتنا مع أصول الفلسفة في تسلسل البحث وأسلوب النقد.

الموقف من المعرفة التصديقية

يتضح للمقارن من خلال قراءة دقيقة وفاحصة أن أصول الفلسفة أشمل من فلسفتنا في معالجة هذا الموضوع وأن أغلب الآراء المطروحة في أصول الفلسفة جاءت مبعثرة في ثنايا حديث مسهب، شتته التعليق الذي اتخذه الشهيد مطهري أسلوباً في كتابته. إلا أن فلسفتنا جاءـ أكثر تنظيماً من سابقتها، رغم إيجازها، ورغم أن الأولى أغنت البحث في مواضع متعددة منها المحاكمة الدقيقة للموقف المادي الجدلي !

إلا أن الذي يهمنا بشكل أساس في هذا المجال هو أن نؤكد التطابق الكامل في رؤية الشهيدين للمعرفة البشرية التصديقية وإن الشهيد الصدر تبنى ما تبناه الشهيد مطهري وسائر فلاسفة المسلمين من موقف في هذا الميدان، حيث يتخلص المذهب العقلي في تفسير المعرفة البشرية في النقاط التالية:

أن المعرفة البشرية تبتدأ من بد يهات أولية تشكل حجر الزاوية في كل معرفة بشرية: مبدأ الهوية الذاتية (استحالة اجتماع النقيضين) مبدأ العلية، مبدأ السنخية بين العلة والمعلول، مبدأ الصدفة لا تكون دائمة…

أن السير الحقيقي للعقل البشري في أحكامه بعامة يبتدأ من الكل وينتهي إلى الجزء.

كل معرفة بشرية لا تعتمد السير المتقدم لا تتوفر على التعميم، ولا تتسم نتائجها بالكلية.

وسوف نجد الشهيد الصدر في المرحلة الثانية ينتفض على هذه الأسس، طارحاً مذهباً جديداً في تفسير المعرفة البشرية !

ثالثاً: حدود المعرفة:

هل الميتافيزيقياً لغو لا طائل وراءه؟

الإجابة على هذا الاستفهام هي المفرق الذي يختلف عنده الاتجاهات في هذه المشكلة.

وقد أجاب كل من أصول الفلسفة وفلسفتنا بالنفي. وقد أقاما نفيهما على أساس نتائج المدرسة العقلية في تفسير المعرفة التصديقية، وأنها غير محدودة بالعالم التجربة والاستقراء، بل تعتمد على مبادئ عقلية أولية !

ولا يختلف الأمر في هذا الموضوع عن سالفة (مصدر المعرفة)، إلا أن الشهيد مطهريـكما أشرنا ـ اعتبر هذه المشكلة أحدى المشكلات الثلاث في موضوع المعرفة البشرية.

فقد فرغا معاً حل هذه المشكلة وقيامها أساساً على موضوع مصدر المعرفة، وتناولا معالجتها في ثنايا الموضوع ذاته.

على أن الشهيد الصدر انتهى إلى أسلوب آخر في معالجة هذه المشكلة ـ وأن لم يشر إليها بالتحديد ـ  في مرحلة الثانية، الأسس المنطقية للاستقراء، سنأتي على الإشارة اليه.

الملحق رقم (1)

الإدراك البشري

عالجت أصول الفلسفة موضوع الإدراك البشري في مقدمة البحث عن المعرفة بينما أتت فلسفتنا على إلحاقه في خاتمة الكتاب بعد معالجة مشكلة العام والوجود.

وأقتصر هنا على الإشارة إلى مسألتين أساسيتين:

1ـ منهج البحث في المعرفة البشرية يقتضي أن يتخذ من دراسة مشكلة الإدراك، التي يعبر عنها  (هنترميد)[7] مشكلة الذهن البشري مقدمة أمام البحث في المعرفة فهي من المبادئ التصديقية لبحث المعرفة كما يعبر السافلون.

ذلك أن تحليل طبيعة الذهن وكنه الإدراك البشري ينوع الموقف من المعرفة، فأياً كان الاتجاه في قيمة المعرفة ومصدرها وحدودها، يبقى بحث الإدراك مقدمة برهانيه يستخدمها الباحثون ـ كما هو ملاحظ للمتابع ـ في الإثبات والتدليل على مايختارونه من رأي.

2ـ إن الشهيد ين مطهري والصدر لم يتناولا بالدراسة نظرية (بافلوف)، التي تمثل الأساس العلمي لماركسية القرن العشرين، فرغم إشارتهما لبافلوف وعلم النفس الفسجلي، إلا إنهما اقتصرا في المعالجة على علم النفس السلوكي، الذي تمثله الفسلجة  الأمريكية في بداية القرن العشرين، بزعامة (واطسن)، دون الالتفات إلى فرق جوهري بين المدرستين، كما أن بعض نقودهما لا يمكن تسجيلها إلا على ما يسميه الماركسيون (المادية المبتذلة).

أن علم النفس الفسلجي الماركسي طرح نظرية أكثر تعقيداً وعمقاً مما طرحاه من تبسيط للاتجاه الفسلجي في تفسير الإدراك البشري.

ولعل هذا التبسيط هو الذي أدى  بالشهيدين ـ خصوصاً الشهيد الصدر ـ إلى تعميم الاتجاه المثالي والنسبي على أبحاث علم النفس الفسلجي، ومن ثم تعميم الموقف على فرويد والمادية التاريخية، كما أشرنا آنفاً.

وتسجيل هذه الملاحظة ـ رغم أن منهجنا في هذا البحث منهج مقارن بين فكر الشهيدين فحسب، يبتعد كثيراً عن تسجيل مالا يرتضيه من أفكار ـ يغفرها لنا الاهتمام الطويل الذي أوليناه في بحث الإدراك. وقد سجلنا كل ملاحظاتنا التفصيلية على فلسفتنا في هذا المجال ضمن بحث شامل عن (الإدراك البشري) اطلع عليه السيد الأستاذ الصهيد الصدر، عام(1978م)، ووافق على البحث وملاحظاته، إلا ملاحظة رفضها، تتعلق بفكر الصدر في المرحلة الثانية، نأتي على الإشارة إليها في حينها.

الملحق رقم(2)

تقويم شامل للمرحلة الأولى من المقارنة

أفادت (فلسفتنا) من (أصول الفلسفة) كثيراً، وكانا معاً صدى للاتجاه الذي تبناه صدر الدين الشيرازي.

إن مراجعة موضوعية لما تقدم من بحث; توضح بجلاء أ، كتاب فلسفتنا تطابق مع أصول الفلسفة في مختلف أبحاث المعرفة البشرية.

لكن الشاب محمد باقر الصدر لم يكن في فلسفتنا متابعاً حريفاً لأصول الفلسفة، فقد كانت له شخصية الباحث المحقق يأخذ عن بصيرة، ويعاف بالدليل، وقد أشرت لبعض مصادق  هذه الظاهرة عبر البحث، كما أن هذا الشاب وقف عند كتابات الشيخ الذي تبعثرت أفكاره الخصبة في حقل التعليقات الذي يشتت الإنتاج بطبيعة، وقفة باحث منهجي جاءت دراسته أكثر انتظاماً، واضح مفاداً.

وقد راعى فلسفتنا المحيط العربي الذي كتب له. فخصوبة (أصول الفلسفة) وشموليتها نشأت جراء عمدها لعرض أفكار مدرسة صدر المتأهلين في المعرفة، حيث الأرضية الواسعة لهذه الأفكار في المحيط المتكلم بالفارسية.

بينما عرضت فلسفتنا هذه الأفكار باقتضاب وتهذيب، لأن الوسط العربي لم يألفها بعد.

ثم من ينكر على الباحثين أن يستفيد بعضهم من البعض الآخر؟

فالفكر مشاع بين أهله، خصوصاً إذا راعي  أهل البحث الأمانة عند النقل، والتوثيق أثناء الإفادة !

وأن للشهيد الصدر فخراً في استيعاب هذه الأفكار وطرحها، وهو يصدر من النجف البيئة التي أشرنا إلى طبيعة موقفها من الشيرازي والفلسفة، لقد كان طبيعياً أن ينبع مطهري هاضماً لأفكار الشيرازي الفلسفية مجتهداً في مدرسته، حيث قم التي أشرنا إلى مناخها، وحيث شيوخ الفلسفة وأقطابها.

ولكن أن يصدر شاب من صحراء النجف فيستوعب هذه النظريات ويطرحها بطريقة تنسجم وتحديات الفكر المعاصر، فهو أمر محال إلا على النابغ المتميز.

آن لنا أن نتناول بالبحث المرحلة الثانية من المقارنة، لنتخذ من الأسس المنطقية للاستقراء منطلقاً نتبين من خلاله أوجه الفرق بين الصدر وبين مطهري والصدر في مرحلته الأولى. حيث نقف على تحول كبير عرض على تفكير الصدر وموقفه من المعرفة البشرية ضمن تحول اشمل ركب الصدر سبيله في المنطق والفلسفية بعامة.

أما بالنسبة للشهيد مطهري فقد بقي وفياً حتى للأفكار التي تبناها في أصول الفلسفية ولم يطرأ تغيير على البنية العامة لنظرية في المعرفة البشرية.

موضوع منطلقنا في هذه المرحلة ينصب أساساً على مشكلة الاستقراء، وأسلوب معالجة الفجوة القائمة بين اليقين، وبين مفاد العملية الاستقرائية، التي لا تفيد أكثر من الظن لقد علج فلاسفة اليونان وحكماء المسلمين ـ الذين سيطروا على التفكير العقلي في الإسلام مشكلة الاستقراء بروح واحدة، كما عالجها حكماء اوربا المحدثون ـ على الأغلب ـ بروح أخرى، ورغم تعدد ألوان المعالجة والمحاولة ظلت نتيجة الدليل الاستقرائي احتمالية لا تتعدي الظن إلى اليقين ورود الصدر هذا الميدان، لقد صدر الشهيد الصدر من هذا الميدان، خالصاً إلى عقم معالجةً الأرسطيين والتجريبيين معاً لمشكلة الاستقراء ثم أعلي نهاية عهده الاحتمالي، مدللاً على يقينية الاستقراء.

لكن موضوع بحثنا ينصب على المعرفة البشرية، ولا يستقل في معالجة الدليل الاستقرائي منطقياً  ورياضياً و فلسفياً 7 من هنا فليس بوسعنا أن نعرض بالتحليل الأسس المنطقية للاستقراء استدلالاً، دون أن نخرج عن خطة بحثنا، ودون أن نستلها موجزين إيجازاً لا يفي بغرض البحث.

وينبغي أن ننوه بأن الموقف المعرفي الجديد الذي طرحه الشهيد الصدر ينصب أساساً على المعرفة في طورها التصديقي، حيث تناول الدليل وليس لهذا الطرح علاقة بالمعرفة التصورية.

يحسن بنا قبل أن نعرض قصة المعرفة البشرية في ضوء (الأسس المنطقية للاستقراء) أن نعيد الكرة على النتائج والأفكار التي انتهت إليها وتبنتها المدرسة العقلية في قضايا المعرفة البشرية، حيث نسجل من خلال هذه الإعادة ما انتهى إليه أصول الفلسفة وفلسفتنا من أسس في هذا المجال.

المعرفة البشرية معرفة واقعية تكشف عن واقع موضوعي بفضل المبادئ الأولية التي يتوفر عليها العقل البشري قبل التجربة وأن هذه المبادئ الأولية اليقينية هي التي تمنح استدلالات العقل البشري اليقين وبذلك تبتدأ المعرفة من الكل (وهو عبارة عن هذه المبادئ الكلية العامة) ودون أن تنتهي المعرفة إلى هذه المبادئ لتستنبط بفضلها نتائجها لا يمكن الوقوف على صحتها والتيقن بها…

وهذه المعارف الأولية تنقسم إلى قسمين رئيسيين: أحدهما ما هو شرط لكل معرفة بشريد وهو مبدأ الهوية الذاتية. والآخر ما هو شرط للحصول على بعض المعارف البشرية، كمبدأ العلية، واستحالة أن يكون الإنفاق دائماً.

قصة المعرفة البشرية في الأسس المنطقية تبتدأ من مشكلة الاستقراء، فهناك فجوة بين المفردات المستقرأة وبين الحكم العام، الذي يؤول إليه الاستقراء.

وقد حاولت مدارس المنطق المختلفة معالجة هذه الفجوة تحت العنوان المتقدم: (مشكلة الاستقراء).

كيف صح الانتقال من المفردات المحدودة ـ في الاستقراء الناقص ـ إلى قاعدة وحكم شامل، بصدق على الواقع المستقرأ، كما يصدق على ما عداه من مفردات لم تستقرأ وهي قائمة، أو أنها ستقوم؟

لقد حدا هذا الإشكال بالمنطق الإرسطي، بل بالمدرسة العقلية في المعرفة بعامة إلى البحث عن قاعدة حل،تعالج في ضوءها المشكلة.

وقد أتت المدرسة العقلية على حل ينسجم مع مبادئها المعرفية ـ التي تقدم استعراضها ـ فأنقذت الدليل الاستقرائي بسلاحها العتيد (المبادئ الأولية).

وقالت: أن الاستقراء المنتج ليس انتقالاً من الجزء إلى الكل، لكي تطرح مشكلة الطفرة الاستقرائية، بل يعود في جوهره إلى قياس منطقي، تتمثل كبراه في القاعدة العقلية الأولية (استحالة أن يكون الاتفاق دائماً)

من هنا بدأ (الأسس المنطقية للاستقراء) صراعه مع المدرسة العقلية، التي تبني الصدر مبادئها كاملة في فلسفتنا.

لاحظ (الأسس المنطقية) أن القائدة التي استشفع بها المنطق الأرسطي في معالجة مشكلة الاستقراء ليست قائدة قبلية، بل هي بدورها قاعدة استقرائية، يصح الركون إليها بعد التجربة، ولا يمكن الاعتماد عليها، دون استقراء وتجربة، ومن ثم لا يصح استخدامها أداة لا ثبات حقانية الدليل الاستقرائي.

وبذلك يطرح الأسس المنطقية بحجرة من البناء الذي شيدته المدرسة العقلية، والذي أسس عليه الشهيد الصدر في فلسفتنا.

وهل يعني هذا أن الشهيد الصدر أضحى تجريبياً برفضه لأساس من أسس المنطق الأرسطي؟

أن المخاض الفكري الذي مر به الشهيد الصدر في عقده الرابع، وفي كتاب الأسس المنطقية لا ذات لا يجيز هذا التعجيل في الاستفهام أو الحكم. فالبناء المعرفي الذي اختاره الشهيد الصدر جديد على المدرسة العقلية، كما هو جديد على التجريبيين وهو أعمق كثيراً من معالجة في الأحكام،ويستدعي صبر الباحثين:بغية أن يتم فهمه واستيعابه!

أن مشكلة الاستقراء لا تنتهي  بالأس تعانه بالمبدأ العقلي المتقدم فحسب، فالمبدأ العقلي المتقدم يعالج صورياً مشكلة الطفرة، فيضع الاستقراء في قالب قياس منطقي مضمون النتائج ـ في ضوء معالجة المنطق الأرسطي ـ،لكن تبقى هناك مشكلتان لابد من تجاوزهما قبل ذلك:

إننا حينما نلاحظ أن الحديد يتمدد كلما سلطنا عليه الحرارة سبب لتمدد الحديد، ولكي ننتقل إلى القاعدة كل حديد يتمدد بالحرارة، علينا أولاً:

أن نثبت أن التمدد كحادث بحاجة إلى علة، وإلا فمن الممكن أن يكون تمدد الحديد حادثاً بلا سبب، ولا علاقة للحرارة بتمدده سوى الاتفاق المطلق.

وعلينا ثانياً: أن نتأكد من استبعاد إمكان تسلط الحرارة على الحديد دون أن يتمدد في بعض الحالات.

ثم تطرح بعد ذلك المشكلة الثالثة وهي: من قال لكم أن اقتران التمدد بتسلط الحرارة على الحديد ليس أمراً إتفاقياً ،لا علاقة له بكون الحرارة سبباً لتمدد الحديد؟

عالج العقلين المشكلتين الأولى والثانية على أساس مبدأ العلية، ثم وضعوا الاستقراء في قالب القياس بمعالجة المشكلة الثالثة، كما أشرنا.

أما المدرسة التجريبية فأزمتها مع المشكلات الثلاث أزمة حادة، إذ أنها رفضت كل معرفة قبل التجربة والاستقراء فأني لها من معالجة مشكلة الاستقراء بعد ذلك؟

لقد أتى التجريبيون على معالجة مشكلة الاستقراء وتنوعت حلولهم، تبعاً لتطور المدرسة التجريبية، وقد جاءت كل هذه المعالجات دون ن تقر بمبدأ العلية في تفسيره العقلي. فالعقليون يرون (العلية) العلاقة بين مفاهيم وفئات وليست علاقة بين مفردات، وهي علاقة الضرورة، ولا يرى التجريبيون (السببية) إلا علاقة مطردة بين الأفراد.

بل تتجه المدرسة العقلية إلى اعتبار (مبدأ العلية) معرفة عقلية أولية سابقة على التجربة والاستقراء.

وقد حاول بعض الفلاسفة العقليين إقامة الدليل على (العلية) بوصفها علاقة الضرورة بين الأشياء.

وعند هذه المحاولة بدأ الشهيد الصدر جولته  الثانية مع المدرسة العقلية، حيث لم يكتم رفضه لدليلي (الأسفار) و(أصول الفلسفة) على فكرة الضرورة التي يتضمنها مبدأ العلية في تفسيره العقلي. مشيراً إلى أن الدليل الاستقرائي ـ في ضوء الأسس والتفسير الذي طرحه له ـ لا يحتاج إلى  أخذ مبدأ العلية مصادرة، لا في تفسيره العقلي، ولا في تفسيره التجريبي، الذي اعتمده جون ستيورات مل.

وأخيراً وقف عند الاتجاه الاحتمالي في معالجة (مشكلة الاستقراء)، الذي أقام معالجته على أساس حساب الاحتمال. مشيراً إلى عجز هذا الاتجاه أيضاً عن الإفادة السلمية من مبادئ الرياضيات، التي سيعتمدها بدوره في معالجة مشكلة الاستقراء.

ثم أتى حساب الاحتمالات. فثبت ما تعارف عليه الباحثون الغربيون من بديهيات لهذا الحساب، مدللاً على عدم وفائها للسير بالدليل الاستقرائي باتجاه التصديق الاحتمالي بنتائجه، مضيفاً بديهيات أخرى تعاضد البديهيات السالفة، لكي يقوم الاستقراء على سوقه.

ثم أمسك حساب الاحتمال ببديهياته التي اكتشفت له. ووفق التفسير الذي طرحه له، ليتخ منه أداة في معالجة (مشكلة الاستقراء).

وقد انتهى إلى أن الدليل الاستقرائي اعتماداً على أساسه الرياضي يمكن أن يبلغ بالحكم العام إلى درجة تصديقية احتمالية عالية.

وحتى هذه المرحلة من البحث دلل (الأسس المنطقية للاستقراء) على أن الدليل الاستقرائي يعتمد بديهيات قبيلة هي:

أ – بديهيات حساب الاحتمال.

بـ الإيمان القبلي بمبدأ استحالة اجتماع النقيضين.

مضافاً إلى ذلك احتمال صحة المبدأ العقلي في تفسير (العلية) وفقدان المسوغ القبلي لرفض ذلك المبدأ.

وأثبت أن مبدأ استحالة التناقض. الذي تعتبره المدرسة العقلية الشرط الأساس لكل معرفة بشرية، شرط ضروري قبلي لكي ينمو العلم بنتيجة الاستقراء والتجربة وإلا فلا إمكان مع الإيمان بإمكان اجتماع النقيضين لأي نمو في حساب احتمالات القضية المستقرأة.

كما أن الموقف السلبي المسبق من التفسير العقلي للسببية يقضي إلى تعطيل الدليل الاستقرائي عن نموه الاحتمالي، وبذلك سجل أول انتصار للمدرسة العقلية وأول دفاع عنها بسلاح المذهب التجريبي نفسه.

كما اثبت أيضاُ أن احتمال مبدأ العلية في تفسيره العقلي ينمو في كل تجربة واستقراء بنفس الدرجة التي تنمو فيها القضية المستقرأة، ومن ثم يمثل أعلى درجات التصديق الاحتمالية، التي تتمتع بها التجارب البشرية المجمع على صحتها.

وبعد أن انتقل في مرحلة لاحقة بالدليل الاستقرائي من مرحلته الاحتمالية إلى مرحلة اليقينـ من خلال دراسة علمية مجهدة ـ أتى على تحليل الموقف من المعرفة البشرية في ضوء ما أسمها ب (المذهب الذاتي) مقابل المذهبين التجريبي والعقلي.

المعرفة البشرية في ضوء المذهب الذاتي

تجدر الإشارة مرة أخرى إلى نعرض النتائج التي آل إليها بحث الأسس المنطقية للاستقراء دون أن نباشر الحديث عن هذا البحث العملي، تاركين المجال أمام من أراد قناعة أو تقويماً لهذه النتائج لكي يعود إلى قراءة كتاب (الأسس المنطقية) عله يتفاهم مع هذه الدراسة، ويطلع على الأساس الذي انطلقت في ضوءه النتائج التي نعرضها، فيقيم قناعة على بينة،أيرفض بدليل!

ما المانع من أن نضع نتائج (الأسس المنطقية) في نفس الإطار الذي رسمه الشهيد مطهري لبحث المعرفة البشرية في مشكلاتها الثلاث، والذي طرحته موسوعة الدكتور بدوي أيضاً، عسى أن يساهم هذا الوضع في انسجام مرحلتي المقارنة في بحثنا القائم.

قيمة المعرفة:

تكشف المعرف البشرية عن الواقع الخارجي، وتتطابق مع هذا الواقع، وهذه ليست النتيجة الجديدة التي أتت بها (الأسس المنطقية للاستقراء)، بل هي عين ما ادعته المدرسة العقلية، وهي نفس الاتجاه الذي تبناه أصول الفلسفة و فلسفتنا كما لا تتعارض مع الموقف المبدئي الذي تتبناه كل الاتجاهات الواقعية في تفسير قيمة المعرفة البشرية،بما فيها المادية الجدلية.

إنما الجديد في الأسس المنطقية هو: انه اكتشف سبيلاً مبتكراً لإثبات موضوعيه المعرفة البشرية، والتدليل على الواقع الخارجي، كما استخدم السبيل ذاته في إثبات التطابق والتماثل بين محتوى المعرفة والواقع.

وكان سبيل الأسس المنطقية  إلى ذلك هو الدليل الاستقرائي ذاته.

وقد عجزت المدارس الواقعية كالماركسية عن إقامة الدليل على واقعيتها، ولم نجد ـ في حدود تتبعناـ في أدبيات الفكر الماركسي إلا محاولة كتبها بعض المفكرين السوفيت على هامش بدائية بعض بحوثهم.

وقد قال الشهيد الصدر عن المشروع الذي طرحه لإثبات موضوعية الواقع والمعرفة أنه أول محاولة في تاريخ الفكر البشري حيث أن مشروعه جديد غاية الجدة، وإلا فأننا وجدنا في فكر صدر المتأهلين ما يدلل على أن الشيرازي استدل على موضوعية المعرفة البشرية، وواقعية المدرك بالدليل الاستقرائي ذاته،  حيث يقول:

فالحواس أو النفس الحساسة بما  هي حساسة ليس لها علم بان للمحسوس وجوداً في الخارج، إنما ذلك مما يعرف بطريق التجربة.

ويقول أيضاً: إذا حملت شيئاً ثقيلاً فإنما تحس بالثقل وتنفعل عن الثقل فقط، وأما أن هذه الكيفية قد حصلت بسبب جسم ثقيل في الخارج فذلك ليس إدراكه بالحس، ولا بالنفس في ذاتها، بل بضرب من التجربة وقد قلنا في دراستنا عن الإدراك: أن بذور المحاولة العملاقة التي دبجها (الأسس المنطقية)، موجودة في كلمات صدر الدين الشيرازي واستشهدنا بالنص المتقدم غير أن السيد الشهيد ـكما أشرنا آنفاً ـ لم يرتض هذا الاستشهاد، واعترض بقوله: أنهم يعنون من التجربة معنى آخر.. وسواء كانت لهذه المحاولة بذور في عمق تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي أم لم تكن لها، فهي محاولة في غاية الابتكار والخطورة، حيث اعتمدت تفسيراً صدرياً للدليل الاستقرائي، وحيث أنها تناولت أخطر قضايا الفكر البشري والمعرفة البشرية.

مصدر المعرفة:

قلما أن الأسس المنطقية للاستقراء لم يتعرض للمعرفة التصورية في عرض دراسته، و يبدو لي أن ما تبناه الشهيد ” الصدر ” في فلسفتنا من موقف إزاء مصدر التصور البشري لم يعرض عليه لا حقاٌ أي تغيير أساسي. إذن ! ينصب البحث هنا علي مصدر المعرفة التصديقية.

يمكن أن نلخص موقف الأسس من هذه المشكلة في النقاط التالية:

إن المعرفة البشرية تبتدأ من معارف قبلية، تسبق التجربة و الاستقراء، و يعتمد ها الاستقراء، و هي عبارة عن بديهيات حساب الاحتمال،  و مبدأ استحالة التناقص. و دون الانطلاق من هذه البدهيات تفقد التجربة و الاستقراء مسوغها علي ارض المعرفة.

إن المعرفة البشرية في سيرها التكاملي لا تتوقف علي ما سوي المصادرتين السابقتين – بدهيات حساب الاحتمال، مبدأ استحالة اجتماع النقيضين – من مبادئ قبلية.

إن جملة من القضايا التي اعتبرها الاتجاه العقلي مبادئ عقلية، هي في واقعها مبادئ و قواعد مستدلة في ضوء الدليل الاستقرائي.

إن كل المبادئ التي اعتبرها الاتجاه العقلي في المعرفة مبادئ أولية قبلية، يمكن إثباتها بالدليل الاستقرائي، سواء كانت قبلية في واقعها أم لم تكن.

أن المعرفة البشرية لا يتحتم أن تسير من الكل إلي الجزء، بل يعتمد نمو المعرفة – في الأعم الأغلب – السير من الجزء إلي الكل، وتكتسب اليقين علي أساس بلوغها أغلي درجات التصديق الاحتمالية، و في ضوء طبيعة تركيب الذهن البشري الاعتيادي.

و من هنا لا يتحتم أن يكون نمو المعرفة قائماٌ علي أساس التلازم الموضوعي بين المعرفة المقدمة و المعرفة النتيجة.

3ـ حدود المعرفة:

في ضوء قياس قدرة المدرسة التجريبية علي تفسير قضايانا المعرفة البشرية المختلفة، و في ضوء تقويمه لمعني القضية فيما أسماه “المنطق الوضعي”، أحكم الأساس الذي انطلقت منه “فلسفتنا” في الاعتراف بجدارة العمل الفلسفي خارج إطار التجربة و المعطيات الحسية، و بذلك أباح عمل الميتافيزيقيا، و احتفظ للفلسفة بكيانها، و لكن علي أساس نفس المنطلقات التي المدرسة العقلية.

غير إن في “الأسس” شيئا جديداٌ، حيث أنها استخدمت الدليل الاستقرائي كوسيلة إثبات في أخطر قضايا الميتافيزيقيا “وجود الله”.ودللت علي أن الدليل الاستقرائي، الذي يمثل المبرر المنطق لكل قضايا العلوم يثبت وجود الله بنفس الطريقة التي يثبت بها تلك القضايا.

وبذلك أعار المدرسة العقلية سلاح خصمها اللدود التجريبيون فتأكد إن المعرفة العلمية ـ بعناها أشمل ـ لا تنحصر في إطار المعطي الحسي، بل تتجاوز هذا الإطار، وتستحق قضايا الميتافيزيقيا الحياة.

ويخيل لي أن يد القدر لو لم تعالج المعلم الشهيد بالقتل لكان منه الجديد في هذا المضمار (حقل نظرية الوجود وأبحاث الميتافيزيقيا في الفلسفة الإسلامية). فقد كان يتحفظ على كثير من آراء السلف، ورغم تحفظه العام تسربت على لسانه الكريم –أسرار تطلقها كلمات موجزة، أصغى لها بعض المقربين من طلابه ـ تنبأ بتحول كبير سيطرأ على أعتاب طرح هذا التحول. ولعل العقل لم يبلغ الرشد الكافي لقبول تلك الأفكار، فقد رب العقل لتلك الأفكار أن تحلق في عالمه، وبقيت نفوس مخلصة تتوق إليها، عسى أن يحدث الله بعد ذلك أمراً.

الوجدان والعرفان

تكرر في أبحاث الشهيد الصدر الأصولية الركون إلى الوجدان بوصفه المبرر أو الشاهد على صحة النظرية التي اختارها. فهو أي (الوجدان) أداة من أدوات المعرفة، التي تضاف إلى البرهان والاستقراء. فماذا أراد بالوجدان؟

الوجدان مصطلح ذو دلالات متعددة ومختلفة، وحينما يقال إن إدراك هذه القضية إدراك وجداني، أو إدراك هذا الموضوع إدراكاً وجدانياً، فيمكن أن يراد أحد المعاني التالية:

الإدراك الحسي المباشر، كإدراك الإنسان لوجود الضوء في الغرفة أو حلاوة الفاكهة التي يتناولها..

الإدراك العقلي المباشر، كإدراك الإنسان  لاستحالة اجتماع النقيضين أو أن الكل أعظم من الجزء، أو كل مبدأ نظري دون مؤونة إقامة برهان على ذلك المبدأ.

الإدراك التجريبي المباشر، ويدخل في إطار هذا اللون من الإدراك كل قاعدة تجريبية يقفز الذهن إدراكها، دون معاناة في إقامة التجربة والاختبارات، إنما يتم إدراكها بلمحة أو لامعة ذهنية.

الإدراك العيان والاتصال المباشر بالحقيقة على طريقة العرفاء  والمتصوفة.

والقاسم المشترك بين هذه الدلالات هو أن المعني المدرك موجود يوضح في الذهن البشري، والذهن واجد له. فأياً من هذه المعاني  قصد الشهيد الصدر؟

نلاحظ أن جل ما استدل عليه السيد الشهيد بالوجدان لا ينتمي إلى القسم الأول والرابع، أي أن موضوع الاستدلال ليس أمراً حسياً وليس مضموناً يدرك بالمكاشفة الصوفية والاتصال العرفاني. بل يعود في الأعم الأغلب إلى اللون الثالث وأحياناً ينتمي إلى صنف المبادئ العقلية التي لا برهان عليها أو التي يمكن تأييدها بالبرهان.

والملاحظ أيضاً أن السيد الشهيد لم يرد في  الغالب بالوجدان الذي اعتمده الإدراك المباشر للحقيقة، أي أن العقل البشري يدركها على حد إدراك المبادئ البديهية، بل كان يريد أن الموضوع الذي يلمسه بالوجدان هو الموضوع الذي ينسجم مع الموقف الطبيعي للمعرفة البشرية، أي أن الإنسان بعد ما يزيل ركام الضباب والملابسات المعرفية سوف يصل إلى وجدان هذا وجدان هذا الموضوع.

على أن أؤكد هنا أن الاستدلال بالوجدان في أبحاث الشهيد الصدر يستدعي دراسة مستأنفة، تستوعب ما طرحه ضمن أبحاث الأصولية، تستقرأ دلالات الوجدان بشكل وثائقي. إنما المهم هنا هو أن الشهيد الصدر لم يعتن بالنهج المعرفي الذي طرحه العرفاء، ولم يؤكد عليه، بينا نجد الشهيد مطهري يؤكد أن الوجدان والقلب بمدلوله لدى العرفاء، طريق آخر من طرق المعرفة البشرية.

عسى أن يكون التوفيق حليفاً لما في عرض الأفكار بشكل يتيح للقارئ الوقوف،دون عناء ـ على وجوه الفرق بين الشهيدين، فنكون قد قارنا حقاً.

على أن كلمتين أبتغي وداع هذا البحث بهما:

أن التحول الذي طرأ على فكر الشهيد الصدر خلال الأسس المنطقية للاستقراء على مستوى المعرفة أو على مستوى البحث المنطقي بعكس أصالة الشرق المسلم، بل يعكس أصالة الجامعة العلمية الإسلامية الحوزة، ففي حيازة هذه الحوزة طاقات هائلة تفجرها القاعدة التيس اعتمدها الإسلام بمعجزاته على مستوى العمل والفكر.

لقد كان منتظراً أن تمارس هذه الجامعة دورها الريادي في توجيه حركة العلم والحياة في العالم الإسلامي، بل في العالم بأسره. حيث لا يحدد العالم فيها إلا اكتشاف الحق وخدمة الحقيقة، فهو لا يصبو إلى وثيقة اعتراف، ولا يطمح في كرسي ومرتب متميزين، لا يتابع ولا يقفو ما ليس له به علم. يقيم أحكامه على بينة، لكي لا يكون من المفترين، وأين هذا الهدي من وباء الحزبية والتسييس الذي تفشي مرضاً عضالاً ـ من خلال ـ المذاهب المغفلة وعلى رأسها الماركسية في الفكر المعاصر؟

وأين هذا الحق الصريح مما  شاب عملية العلم من مادية على مستوى الفكر والهدف من خلال مذاهب الغرب الذراعية! إن هداكم أيها العلماء هو البلسم الذي يتطلع إليه العلم المطروح و  والعالم المهزوز الذي تهدده إنجازات هذا المطروح بالمار، فاعرفوا قدركم وثوروا قدراتكم !!

أن الأسس المنطقية كمحاولة لغزو الدليل الاستقرائي في داره المعاصرة والوقوف على نهاية إنتاج الغرب ليكون بداية بحثنا في الاستقراء هي المنهج الأصيل المسؤول الذي يجب على المفكر المسلم أن يسلكه.

ثم أن التحول الذي تجسد في ” الأسس المنطقية ” الذي أخذ بنظر اعتباره ما تم إنجازه في الغرب،آخذاٌ بما يثبت الدليل صحته – قد اكتسب مناعته وفاعليته و قدرته علي الابتكار اعتماداٌ علي سلاح القدرة في الفكر العقلي الإسلامي. و تستطيع أن تلاحظ هذا في أسلوب المحاكمة و الموازنة، و في المفردات التي استقاها واضحة بينة من البحث في علم أصول الفقه، و في هضمه و تقويمه لقضايا المدرسة العقلية من الداخل…

و ذلك يستدعي بحثاٌ مستقلاٌ، أنوي القيام به، إذا أمهلنا القدر، و امتد زمننا  القصير علي هذه الأرض الحزنة فسحة أخري.

و إذا أردت تقويماٌ عاماٌ واطلالة علي ما أنجزه “الأسس المنطقية” في الجانب المعرفي – موضوع دراستنا ـ فسوف تجد إن “الأسس”، و إن لم يؤسس علي حجرات المدرسة العقلية، إلا أنه كان انتصاراٌ كاسحاٌ لها، كشف بأدوات خصمها “المدرسة التجريبية” حقانية أسسها في الإيمان ببداية قبلية للمعرفة البشرية، و في نمو المعرفة البشرية علي هدي الموقف من السببية في مفهومها العقلي.

كما أعار المدرسة العقلية سلاح خصمها “الدليل التجريبي” لتثبت مفاهيمها العقلية في تقويم قضايا المعرفة البشرية.

لكن مذهب (الأسس) في المعرفة يمثل تعديلاٌ لنظرية المعرفة العقلية ، فقد شك في قبلية كثير من قضايا المعرفة التي حسبها الاتجاه العقلي قضايا أولية ضرورية، بل أثبت بعديتها، و أقام الدليل علي إنها مستنتجة من الدليل الاستقرائي.

كما اختزل حجم البداية التي يتوقف عليها نمو المعرفة البشرية فبعد أن كان الموقف العقلي مصراً علي ضرورة البداية من مجموعة مبادئ ضرورية قبلية، جاء الأسس ليقتصر على ضرورة من بديهية استحالة اجتماع النقيضين ومصادرات الحساب الرياضي للاحتمال.

ثم لم ير القياس الأرسطي الدليل الوحيد الذي يتعين على المعرفة الصبابة أن تسلكه فالعقليون لم يرتضوا الاستقراء دليلاً، لأنه لا يؤدي إلا إلى الظن والاحتمال.

فجاء الأسس مخالفاً للعقليين، ولا كثر التجريبيين، واكتشف القيمة اليقينية للدليل الاستقرائي. ولذا لا يتعين على المعرفة الحق أن تنطلق من الكل إلى الجزء، بل يحق لها أن تبتدأ – في ضوء مذهب الأسس في المعرفة ـ من الجزئيات لتنتهي إلى حكم عام يذعن الذهن البشري بيقينيتي.

أشرت في المقدمة إلى قضية عنوان البحث نظرية المعرفة، حيث لم يستوقفني هذا المصطلح ترفاً، بل لحاجة أحسستها في نفسي وأنا أقبل على بحث، أتوق أن أراه منظماً، يضع كل مشكلة في سياقها وموقعها المناسب.

ولم أجد هذه الحاجة ـ وأنا أريد وداعاً لهذا البحث ـ إلا أكثر شدة وأشد إلحاحاً.

لقد استخدم الشهيد مطهري في أصول الفلسفة مصطلح (نظرية المعرفة) بشكل مؤكد، استخدم الشهيد الصدر المصطلح بشكل عابر في (فلسفتنا). ثم لم يأت على ذكره في (الأسس المنطقية) بل عنون بحثه (المذهب الذاتي في المعرفة البشرية) فهو اتجاه في المعرفة وليس نظرية! ولعل الشهيد الصدر منذ فلسفتنا كان يمضي الملاحظة التي نريد أن نسجلها هنا.

أوضحت المقدمة مشكلة العنوان نظرية المعرفة، ووضعت بين أيدينا مقياساً نستنير به في البحث والتقويم.

فنظرية المعرفة تعني بحثاً شاملاً في تحليل وتفسير وتقويم (العلم والعلم والمعلوم والعلوم).

لقد جاءت دراسة أصول الفلسفة للمعرفة البشرية شاملة مستوعبة، وقفت عند طبيعة العلم وقفه طويلة، فحللت وحاورت واستدلت لتكشف عن طبيعته ونسق علاقته بالمعلوم والعالم. مستفيدة في ذلك من أبحاث فلاسفة الإسلام وعلى وجه الخصوص نظريات (صدر المتأهلين). ولم تتجاوز البحث في العالم بل أفرزت له فصلاً مستقلاً تناولت فيه الذهن البشري، فكشف طبيعة العلاقة ولون السنخية التي تربط المدرك وبالمدرك.

كما ركز البحث في مجالاته المتعددة على المعلوم، مصدره وقيمته، ثم أهتدي في ضوء كل ذلك إلى موقف من مشكلة حدود العلم.

ورغم الشمول والاستيعاب الذي لمسناه ـ بحق ـ في (أصول الفلسفة) إلا أنني كقارئ أحس حاجة أن يعاد تنظيم البحث ! فقد وجدت أمامي مادة  غزيرة تناثر شتاتها بين التعليق ـ الذي اختاره الشهيد مطهري كأسلوب لتدوين أفكاره ـ وبين ما لم يتناوله ـ حتى الغربيون ـ من تنظيم ومنهجه لأبحاث المعرفة البشرية، حتى تخرج نظرية، تستوعب بشمول قضايا المعرفة، ويتسلسل البحث فيها على هدي منطق ومنهج.

فنحن بحاجة ـ مضافاً إلى ما أسلفنا في المقدمة ـ إلى أن نتخذ مقياساً يحدد موقع البحث في قضايا المعرفة  ليعاد تنظيم هذا الموضوع، بالشكل الذي يخدم قضايا العلم ويشارك في إيضاح الرؤية العقائدية السليمة.

وأخيراً: أود أن أشير إلي مشكلة في سائر الدراسات الشرقية التي تناولت الثقافة الغربية بعامة والفلسفة بخاصة. ألا وهي مشكلة المصطلح. ولعل بحثنا يعاني من هذه المشكلة بدرجة من درجات المعاناة، التي ألغت كثيراً من الجهود في هذا المجال.

فالمترجمون لم يتفقوا على قاموس اصطلاحي مشترك، كما أن المفكرين الغربيين لم يتفقوا على لغة واحدة ومصطلح متقارب، ليعبروا عن نظر يأتهم عبره. ومن هنا لف كثيراً من الأبحاث ضباب تفاوتت كثافة باختلاف البحث والباحث.

ومن هنا أيضاً يلزمنا من باب الأمر بالمعروف أن ندعو إلى توحيد المصطلح الذي يستخدمه، ليأتي واضحاً جلياً، يعين طلاب المعرفة على فهم ما يزمعون دراسته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

السيد عمار ابو رغيف

[1] الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل، جلال العشري، عبد الرشيد الصادق. راجعها وأشرف عليها الدكتور زكي نجيب محمود.

[2] موسوعة  الفلسفة، الدكتور عبد الرحمن بدوي، جزء (1)،ص (370).

[3] نترك تفصيل الرأي في هذه المشكلة والقاء الضوء على جوانبها المختلفة الى فرصة اخرى ان شاء الله تعالى.

[4] هو السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان.

[5] (الاسفار العقلية الأربعة) أو (الحكمة المتعالية) أهم وأوسع ما تركه الفيلسوف الاسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي من دراسات فلسفية.

[6] سنشير الى هذا الخطأ في بحث الإدراك.

[7] في كتابة: الفلسفة أنواعها، مشكلاتها.