حول فلسفتنا

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

«عهدي بهذا الكتاب القيّم وبكاتبه المفضال يعود إلى أيّام نشر فيها فصولاً منه في جريدة الحريّة. وقد اطّلعتُ على أسلوبٍ في البحث جديد، فيه من الدقّة والشمول والإحاظة والرزانة ما فيه، وفيه من صدق النظرة وعمق الفكرة ما لم يألفه الناس في مثل هذه الموضوعات التي تمسُّ صميم المشاعر وتختلط بالعواطف، فوق أنّها موضوعات فلسفيّة عميقة يشتغل بها نقضاً وإبراماً العقل الهادئ المتّزن الواعي الرزين. ثمّ أهدى إلىّ هذا البحث كتاباً اتّسع به المجال ورحب للبحث في أسس فلسفة الإسلام وفي نظرتها الشاملة إلى الكون.

ويعنى هذا الكتاب بموضوعين رئيسيّين: الأوّل أساس الثاني، وقاعدة له عليها يقام البناء وإليها يسند. تلك هي نظريّة المعرفة كيف تتأسّس ومن أيّ المصادر تستمدّ، أتستمدّ من المادّة ليس غير؟ أم تكون أداتها التجربة المحسوسة فحسب؟ أم أنّ للمعرفة أساساً آخر هو العقل وموازينه ومقاييسه؟ وقد استفاض البحث في الآراء المختلفة والمذاهب المتعدّد وعرضها عرضاً موضوعيّاً أميناً أمانة يطمئنُّ بها القارئ مهما كان مذهبه وأيّاً كانت طريقته. وعرض بخاصّة الهلاف الذي يقوم بين النظرة الماديّة والنظرة العقليّة ووازن بينهما. ونقد المذهب التجريبي الذي لا يؤمن إلاّ بالتجربة المحسوسة، وأثبت بالبراهين أنّ هذا المذهب لا يمكن أن يقوم دون استخدام مقاييس العقل واستدلالاته ووسائله في استخراج النتائج من المقدّمات.

ولقد خرج المؤلّف من ذلك بأنّ النظريّة العقليّة هي طريق المعرفة الذي لا غناء عنه ولا سبيل إلى النكوص عنه. ولعلّ من أروع ما في هذه المسألة ما التفت إليه المؤلّف الفاضل في نقده للمذهب التجريبي الذي لا يؤمن بغير التجربة المحسوسة، فقد لاحظ بحق أنّ التجربة لا بدّ أن تستخلص منها النتائج بطريقة عقليّة، ولا بدّ قبل أن تجري التجربة من أساس عقلي يفترض افتراضاً ثمّ تقام له أو عليه حجّة التجربة.

وحقّاً، إنّه لا سبيل إلى التجربة مجرّدةً من أساس عقلي يقوم قبل إجرائها فتثبته أو تنفيه، ولا بدّ أن تستخلص النتيجة من التجربة بالطريقة العقليّة التي تستوي في قبولها والموافقة عليها أفهام الأسوياء من بني الإنسان. ولا يعقل أحدٌ أنّ التجربة الإنسانيّة ـ وهي مصدرٌ من مصادر المعرفة ـ يمكن أن تقوم مجرّدة من سند عقليٍّ به يقاس الصحيح ويعرف الصواب وتستخرج النتائج، وإلاّ كان ذلك تجربة مثل تجربة الحيوان لا تنتج معرفة ولا تنشئ فكراً، وإنّما تنشأ عنها خبرة محدودة بحدود ما يُعرف عند النفسانيّين بالاقتران أو أسلوب المحاولة والخطأ.

وعن النظرة العقليّة في المعرفة تتفرّع حقيقة مهمّة هي أنّ الحسَّ ليس إلاّ تصوّراً، وإذن فليس هو سبيل الإدراك الذي لا بدّ فيه من إعمال العقل الذي يقيس ويستنتج ثمّ يحكم. وهذا يؤدّي إلى نظريّة العليّة التي يستلزم تدرّج العلل المتصاعدة فيها أن تكون علّة أولى، وههذ العلّة الأولى هي واجب الوجود.

ثمّ يفيض المؤلّف الفاضل في الموازنة بين النظريّتين الماديّة والعقليّة في شتّى المسائل التيهي مدار البحث في الفلسفة على وجه العموم.

وهو يستقصي موضوعات الفلسفة الماديّة سواء منها التجريبيّة أو الديالكتيكيّة ويستوفي أقوال الفلاسفة من مظانّها، استقصاءً واستيعاباً ينبئ بالجهد الدائب الذي بذله والعمل الضخم الذي تصدّى له.

وأسلوب الكتاب هو أسلوب الفلسفة الذي لا يندى ولا [يعرق] إلاّ قليلاً، وليس للمؤلّف الفاضل مندوحة من سلوك هذا السبيل، وإن وجد القارئ فيه شيئاً من مشقّة، ولكنّها مشقّة الجهد المثمر على كلّ حال أشبه بالبارد العذب بعد الجهد والظمأ. وهو خليقٌ أن يروّض القرّاء ـ ومعذرة من هذه العبارة ـ أن يقرأوا القراءة العميقة التي يلزمها التأمّل والتفكّر والتدبّر وحضور الذهن.

ولعلّ من الإنصاف أن أقرّر هنا أنّ متابعة المؤلّف العلاّمة في استعراض مادّة الكتاب أمرٌ بعيدٌ عن اليسر، بل هو محتاجٌ إلى يقظة وتنبّه لا يفلت منهما جزء ولا تفوتهما شاردة.

وأشهد أنّ ما في هذا الكتاب من إصابة في نقد الفلسفات المختلفة وإحاطة بها وتوجيه لجوهر الفكرة وتعمّق لجوهر فلسفة الإسلام، أمور وفّقفيها كلّ التوفيق، وهو ثقافة فلسفيّة دقيقة وعميقة يستمدُّ منها المتخصّص إحاطةً شاملةً تجمع الأسباه والنظائر وتعكس صور التناقض والتهافت والاختلاف في شتّى الآراء والأفكار، وينتفع بها غير المتخصّص في تثقيف عقله بألوان من الفلسفة جمعت في تناسق ونظام وعرضت عرضاً موضوعيّاً أميناً.

وأشهد أنّ فلسفة الإسلام وعقيدته لم تشهد في عصرها الحاضر من أحسن جلائها، وجلا نورها على هذا الوجه الأمين الرزين الدقيق، الذي لم تفعل فيه العاطفة ولم يؤثّر فيه الشعور والانفعال الذاتي. ولعلّ المؤلّف الفاضل ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة[1] في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، أوّلهما حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي وثانيهما ابن رشد والثالث هو الدكتور الفيلسوف المسلم المعاصر الدكتور محمّد إقبال، على اختلاف في الطرائق وتفاوت في المسالك، ولكلٍّ وجهة.

وإنّي لأرجو أن ينال هذا الكتاب القيّم العناية التي تليق به وبموضوعه في البيئات العلميّة ولا سيما المؤسّسات الجامعيّة في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي، وآمل أن يقبل عليه من ينشد الحقيقة الواضحة الجليّة، إنّه سيجد فيه أمانة العلم وإصابة الفكر وعدل الحكم، وكفى بذلك فضلاً كبيراً»[2].

عبد الستار الجواري

[1] هكذا في المصدر، وفيها خلل غير خاف لأنّ السيّد الشهيد! سيكون بلحاظ ما ذكره رابع أربعة.

[2] مجلّة (رسالة الإسلام)، السنة الثانية، العدد 3 ـ 4: 90 ـ 93.