دراسة نقدية للمادية التاريخية: قراءة في فكر الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

بسم الله الرحمن الرحيم

مدرس أقدم بجامعة غرب انكلترا

6 August. 1999

بحث مقدم لمؤتمر الشهيد الصدر في نيسان 2000 ـ إيران

تتتاول هذه الدراسة الجوانب المختلفة للمادية التاريخية باعتبارها الأساس الفكري والفلسفي للمذهب الماركسي وتحاول تقديمها وتقييمها تقييماً منصفاً مستوحا من فكر الشهيد الصدر.

دراسة نقدية للمادية التاريخية: قراءة في فكر الشهيد الصدر

أولا: المقدمة

داهم الفكر المادي باشكاله المختلفة العالم الإسلامي واشتدت الحاجة إلى تحصين المجتمعات الإسلامية من هذا الغزو الفكري. فتصدى الشهيد الصدر لهذه المهمة وأنجزها ببراعة فائقة تستحق الفخر والاعتزاز. ومن أهم الأفكار المادية التي تصدى لها هي «المادية التاريخية» باعتبارها الأساس الفكري لمنطلقات المذهب الماركسي. وكشف بالدليل العقلي عيوبها وضعفها كنظرية علمية لتفسير حوادث التاريخ المختلفة. وكشفت الحوادث المتلاحقة (بعد رحيل الشهيد) صدق تنبؤه وتشخيصه. وعلى الرغم من فشل التجربة الاشتراكية وانهيار معسكرها، ما زالت المادية التاريخية مادة تدرس بالجامعات والمعاهد الأكاديمية، كما استمر أصحاب المذهب الماركسي يعتمدونها في إعادة بناء النظام الاشتراكي ولهذا تبقى دراسة الشهيد الصدر للمادية التاريخية حاجة علمية قائمة.

ان الدراسة التقييمية للماركسية التي قدمها الشهيد فريدة في تفصيلها ودقتها، وتجلت لي قيمة هذه الدراسة عندما درست في جامعة ما نتشستر ـ ببريطانيا عام 1987 موضوع المادية التاريخية على يد استاذ متخصص له مؤلفات بالمادة. وعند المقارنة بين ما كتب استاذي وبين ما قدمه الشهيد، أجد نفسي اكثر إعجاباً وفخراً بما طرحه الشهيد في دراسته العابرة للماركسية. فالشهيد لم يسع إلى ان يكون متخصصاً بالماركسية، ولم تكن آنذاك الكتب والمقالات متيسرة كما هو الحال لاستاذ في جامعة عريقة كجامعة ما نتشستر.

ثانيا: المادية التاريخية

تمثل المادية التاريخية الجانب الفلسفي للمذهب الاشتراكي، وتهدف إلى كشف القوانين او العوامل التي تحدد مسيرة التاريخ وحوادثه المتعاقبة. تعتمد المادية التاريخية في تحليلاتها على «القوانين الديالكتيكية» وذلك بتفسير كل تطور اجتماعي بالتناقض الذي يبرز في صميم الحياة الاجتماعية. فالمادية التاريخية ترى ان العامل الحاسم في تطور الحياة الاجتماعية هو العامل الاقتصادي وحده. وبهذا تشترك المادية التاريخية مع بقية النظريات التي عاصرتها أو سبقتها في تفسير الظاهرة الاجتماعية بالدافع الجنسي، أو عامل الصراع من اجل البقاء، أو العامل الجغرافي. وصف انجلز (الرجل الثاني في الماركسية) ان ماركس كشف عن القانون الاجتماعي الذي يحكم تطور العلاقات الاجتماعية، كما كشف دارون من قبله عن القانون الطبيعي الذي يفسر التطور والارتقاء في العالم الحيواني.

فالماركسية تؤمن بان لكل أسلوب إنتاجي علاقات إنتاجية محددة متناسبة معه. وان تطور وسائل الإنتاج يخلق حالة صراع وتناقض بين قوى الإنتاج الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة. وينتهي هذا الصراع دوماً لصالح قوى الإنتاج الجديدة، عندما تنهار علاقات الإنتاج القديمة وتستبدل بعلاقات جديدة متناسبة مع قوى الإنتاج الحديثة. ولا يقتصر تأثير قوى الإنتاج على علاقات الإنتاج فقط، بل يتجاوز تأثيرها إلى تطور الفكر الفلسفي والعلمي واللغة والقانون والسياسة. وعلى أساس ما تقدم، قامت الماركسية بتفسير التاريخ الإنساني على الشكل التالي:

كانت الحياة الاجتماعية في بداية أمرها تعتمد على الصيد، حيث كانت الجماعات البشرية تشترك بالصيد وتتقاسم مكاسب الصيد سوية. وعندما تطورت وسيلة الإنتاج بتعلم الانسان الزراعة، اصبح الانسان يشبع حاجته بوقت وجهد اقل، غير ان هذه الظاهرة شجعت الانسان إلى سعي لخلق تراكم في الإنتاج الزراعي. وأدت هذه الظاهرة إلى سعي الانسان القوي إلى استعباد الضعيف، فنشأ المجتمع العبودي كنتيجة لذلك. وبسبب الطبيعة الاستغلالية للنظام العبودي تحول معظم افراد المجتمع إلى عبيد، كما أدت قسوة النظام إلى هلاك نسبة كبيرة من القوى المنتجة. بهذا أصبحت علاقات الإنتاج العبودية عقبة أمام تطور قوى الإنتاج، الأمر الذي تطلب تغييراً في علاقات الإنتاج لترتقي إلى العلاقات الاقطاعية. مع تطور النظام الاقطاعي، نمت الرأسمالية التجارية، التي أدت إلى توسيع المراعي لاغراض إنتاج الصوف على حساب الأراضي الزراعية. كان جراء هذه العملية ان أدت بالآلاف من الفلاحين للعطالة. وقد شجعت هذه الظاهرة إلى ظهور أسلوب إنتاجي جديد يقوم فيه أصحاب الرساميل التجارية بامتلاك أدوات الإنتاج وتجريد الحرفيين منها وجعلهم عمالاً اجراء. وبظهور هذا الأسلوب الإنتاجي نشأ مجتمع جديد يدعى بالرأسمالية، وبسبب الطبيعة الاستغلالية أيضا لهذا النظام في اغتصاب حقوق العامل واعتبارها «ربحاً»، وبسبب تناقض قانون معدل الربح، يشتد الصراع بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية وانتهى الصراع لصالح الطبقة العاملة. وبانتصار الطبقة العاملة تأسس النظام الاشتراكي الذي يتميز: بمحو الطبقية وخلق المجتمع اللاطبقي، واستلام البر وليتاريا للادارة السياسية، وتأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج الرأسمالية، وقيام التوزيع على قاعدة «من كل حسب طاقته، لكل حسب عمله» تعتبر هذه المرحلة مرحلة مؤقتة، سرعان ما تستبدل بمرحلة أرقى وأسمى هي المرحلة الشيوعية التي تتميز: بمحو الملكية الخاصة بكل صورها، ومحو السلطة السياسية وتحرير المجتمع من الحكومة بصورة نهائية، وقيام التوزيع «من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته».

ثالثا: المبررات الماركسية على صحة المادية التاريخية:

تقدم الماركسية المبررات التالية على صدق وصحة نظريتها:

  1. الدليل الفلسفي:

ويتلخص بان التطور الاقتصادي هو مصدر التطور الاجتماعي. فجميع ألوان التطور الاجتماعي تعتمد بشكل رئيسي على تطور وسائل الإنتاج. وان مصدر تطور وسائل الإنتاج هي التجربة وما يرتبط بها من تفكير تأملي. فالتجربة هي الممول الوحيد للمعرفة الإنسانية وعليه ترفض الماركسية التطور الاجتماعي وتأثيره المباشر على العامل الاقتصادي، كما ترفض الماركسية ان يكون مصدر المعرفة الإنسانية خارج ميدان حقل التجربة. لكن هذا الزعم لايفسر لنا كيف يستطيع الفكر الإنساني التمييز بين الحالتين التاليتين: حالة تصادم الشمس بالقمر وحالة اجتماع الليل والنهار في مكان وزمان واحد. لاشك ان الحالة الأولى تتصف بالإمكان بينما الحالة الثانية تتصف بالاستحالة. والسؤال كيف يستطيع الإنسان التمييز بين الحالتين اذا كانت التجربة وحدها مصدراً للمعرفة. فكلا الحالتين غير حادثة وغير مجربة ومع ذلك يستطيع ان يقطع الإنسان باليقين بالاستحالة للثانية وبالإمكان للأولى. وقد تصدى الشهيد لهذه المسألة في كل من فلسفتنا واقتصادنا.

  1. الدليل السايكولوجي:

ويتلخص هذا الدليل بالتأكيد بأن نشوء الفكر في الحياة الإنسانية هو نتاجاً لظواهر اجتماعية معينة، وان هذه الظواهر هي وليدة العامل الاقتصادي. وتستنتج المادية التاريخية أسبقية وجود اللغة على وجود الفكر. وتحدى الصدر هذا الاستنتاج بالقول بأن اللغة هي تعبير عن حاجة الإنسان للإعراب عن أحاسيسه بشكل فعال، ومنذ ان دخل الإنسان في عمليات اجتماعية مشتركة لتغيير الواقع اصبح بحاجة إلى لغة، لأن الإشارات الحسية هي تعبير عن الواقع المحسوس، ولاتستطيع الإشارات وحدها ان تفي بغرض التعبير عن فكرة تغيرية جديدة أو التفكير المجرد ولا عن الروابط الخاصة بين الأشياء المحسوسة التي يراد تعديلها او تغييرها. لهذا فاللغة استجابة لحاجة الإنسان للتعبير عن فكره.

  1. الدليل العلمي:

ترى الماركسية إنها اعتمدت الطريقة العلمية في إثبات وتعليل العلاقات الاجتماعية. وبرهن الشهيد الصدر صعوبة ادعاء العلمية في البحوث المتعلقة بالتاريخ، لأنها متعلقة بحوادث يمكن ان تفسر بعوامل مختلفة. ان ادعاء الماركسية بان العامل الاقتصادي (وحده) وراء نشوء الدولة في المجتمعات المختلفة وفي كل الازمان امر يدعو إلى التمعن واعادة النظر. نعم قد يصح استخدام العامل الاقتصادي في تفسير نشوء فترة تاريخية، ولكن ربما هناك عوامل اخرى ساعدت العامل الاقتصادي بالتأثير على نشوء الدولة. كما ان هناك العديد من العوامل التي تستطيع لوحدها تفسير وجود الدولة. ان الماركسية تستطيع الادعاء بانها اتبعت الطريقة العلمية في تفسير التاريخ، اذا استطاعت تجريد تأثير العامل الاقتصادي عن بقية العوامل الاخرى. ان الماركسية تستطيع مثلا ان تدعي العلمية عند إثبات بطلان تأثير العوامل الاخرى المتداخلة مع العامل الاقتصادي في نشوء ظاهرة الدولة.

رابعا: تقييم المادية التاريخية

شخص الشهيد الصدر جملة من نقاط الضعف في النظرية الماركسية، إليك بعضها:

  1. ان تأكيد الماركسية على ان الفكر والنظام الاجتماعي هما انعكاسان للحالة الاقتصادية، يدلل على ان الماركسية ليست فكرة علمية مطلقة بل هي مرتبطة في صحتها وصدقها بمرحلة التطور الاقتصادي السائدة في ذلك الوقت. بمعنى إنها لاتصلح لتفسير التحولات الاجتماعية في كل العصور.
  2. ان إصرار الماركسية على ان التطور الاجتماعي يحصل نتيجة للصراع الطبقي يتنافى مع ادعائها بأن الحالة التي يصلها المجتمع في المرحلة الشيوعية ينعدم فيها الصراع الطبقي. فياترى هل يتطور المجتمع الشيوعي دون صراع طبقي، او ينعدم التطور الاقتصادي والاجتماعي.
  3. ان زعم الماركسية بان وجود الدين والفكر والفلسفة يرتبط بالتطور الاقتصادي، يوقع الماركسية بحرج كبير. فالماركسية تصر بأن بساطة الإنتاج الاقتصادي تستدعي فكرا دينيا قبليا (يتناسب مع درجة تطور المجتمع)، وان توسع وتطور الإنتاج الاقتصادي يخلق فكراً دينياً يمتد دوره إلى مستوى عدة قرى، وعند بلوغ التطور الاقتصادي مرحلة أرقى ينمو فكر ديني على مستوى دول أو إمبراطورية (كما هو الحال بالنسبة إلى الدين المسيحي والإسلامي). وتساءل الصدر بالقول: لاادري ما هو التطور الاقتصادي في قوى الإنتاج زمن البعثة النبوية الذي تطلب ديناً عالمياً كالإسلام، ولا ادري كيف تستطيع الماركسية تفسير تعاليم وعلاقات الإسلام في حماية القوى المنتجة الجديدة. ان الحوادث التاريخية تؤكد بشكل قاطع بأن المجتمع العربي لميشهد تطوراً اقتصادياً مميزاً يستدعي هذا التطور في الفكر الإسلامي. ولم تكن تعاليم الإسلام وسيلة للاستغلال الاجتماعي ولا للركود الاقتصادي ولا لتكريس الطبقية الاجتماعية. فحارب الفكر الإسلامي كل صور الهدر الاقتصادي من اكتناز ومن بذخ. وأصبح الفكر الإسلامي ـ كما تحدثنا حوادث الماضي والحاضر ـ المادة الثقافية والروحية التي تفجر الطاقات المبدعة وتؤجج روح التغيير الاجتماعي ومحاربة كل صور الاستغلال. وتكفي هذه المشاهد الصارخة على دحض الادعاء الماركسي بان «الدين أفيون الشعوب».
  4. ان ادعاء الماركسية بأن العامل الاقتصادي وراء ظهور الطبقات الاجتماعية يتجاهل تأثير عوامل اخرى «كالتمييز العنصري» في تشكيل طبقة مقابل طبقة، كما هو الحال في جنوب أفريقياً وفي دول اخرى. ان العامل الاقتصادي لايكفي لتفسير الكثير من الظواهر الاجتماعية، فالحرب العراقية الايرانية (مثلا) لايمكن النظر إليها من خلال الأسباب الاقتصادية، كما لايمكن الادعاء بان الحروب بين الحكومة العراقية والشعب الكردي هي حروب ذات نزعة اقتصادية بحتة.
  5. ان تأكيد الأحزاب السياسية الماركسية على دور التنظيم الحزبي في إحداث التطورات الاجتماعية يتنافى مع تأكيدها على العامل الاقتصادي، وما هو إلا تأكيد على دور الفكر والثقافة في احداث التحولات الاجتماعية.
  6. التحولات الاجتماعية والثورات الاشتراكية في كل من الصين وروسيا (على سبيل المثال) لم تكن وفق تعاليم المادية التاريخية. فالصين كانت دولة متخلفة اقتصاديا (إقطاعية زراعية) اكثر مما لو كانت دولة صناعية (كبريطانيا). وفقا للمادية التاريخية كان المتوقع لدولة مثل الصين ان تتحول إلى دولة رأسمالية ودولة كبريطانيا ان تتحول إلى مجتمع اشتراكي!
  7. الأحداث التي عاشتها جيكوسلوفاكيا في السبعينات، وبولندا في الثمانينات تؤكد عدم حتمية قوانين المادية التاريخية في التطور التقدمي. حيث سعت شعوب هاتين الدولتين إلى نبذ الماركسية وارتداء نظم اقرب إلى سمات الرأسمالية. وفي السنوات الأخيرة باتت تلك التحولات حقيقة حيث انهار المعسكر الاشتراكي برمته. كما جاءت التحولات الإسلامية بصدمة أذهلت رواد الفكر الماركسي.

ان مساهمة الشهيد الصدر في كشف عيوب الماركسية كانت بمثابة الانذار المبكر لابناء الامة الإسلامية بشكل خاص ولابناء الامم الاخرى بشكل عام، لخطر الانزلاق وراء الماركسية. ولم تقتصر إشارات الشهيد للماركسية فحسب بل تناولت الرأسمالية هي الاخرى، وكشف عيوبها ونواقصها كبديل للنمو والارتقاء، وعرج إلى البديل الإسلامي وقدمه بصورة تستحق الإعجاب والتقدير.

المصادر

محمدباقر الصدر، اقتصادنا، الطبعة السادسة عشر، دارالتعارف، بيروت ـ لبنان.

محمدباقر الصدر، فلسفتنا، الطبعة الرابعة عشر، دارالتعارف، بيروت ـ لبنان.