تأملات في كتاب «الأسس المنطقية للإستقراء»

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

هذه بعض التأملات والاثارات التي أشير اليها فيما يرتبط بكتاب (الأسس المنطقية للإستقراء) لاستاذنا الشهيد الصدر (والذي لعلّه يعد أضخم مجهود فكري على مستوى نظرية المعرفة في التأريخ الاسلامي).

ماهو كتاب الأسس المنطقية؟

ذكر السيد الشهيد في (بحوث في علم الاصول) ان (كتاب الأسس المنطقية) “انما كُتِبَ لملئ فراغ عاشه الفكر البشري لمدة الفي سنة” هذه بعض تعبيراته كما سأقرأها من بعد ذلك. فهو رحمه اللّه كان يعتقد بأن هناك فراغاً في نظرية المعرفة هذا الفراغ لم يُملأ من كل الفلاسفة والمناطقة الذين جاءوا من زمن ارسطو الى يومنا هذا.

والمعروف بأن عملية الاستدلال ـ كما هي المتعارفة في المنطق الارسطي ـ تسير من الكل الى الجزء ومن العام الى الخاص.

وبعبارة اخرى يقولون بأن النتيجة التي ننتهي اليها في عملية الاستدلال القياسي دائماً هي أصغر من المقدمات أو على الاقل تكون مساوية للمقدمات، وعلى هذا الاساس فلو كانت مقدمات الاستدلال من حيثُ المادةُ والصورةُ معاً ـ بنحو القضية الشرطية ـ تامة فلابد ان تكون النتيجة صحيحة وإلا يلزم اجتماع النقيضين. اذن فالدليل على انتاجية الشكل الأول، اذا تمت الصيغة المادية للشكل الأول، هو البداهة من دون حاجة الى دليل، نعم الاشكال الثلاثة المتبقية ترجع الى الشكل الأول.

ثم ان اجتماع النقيضين في المادة محال، ومن البديهيات الأولية في الصورة ايضاً عندنا صورة بديهية وهي الشكل الأول، والاشكال الاخرى الباقية الثلاثه بضروبها المختلفة هذه كلها نظرية لابد أن نرجعها الى الشكل الأول، وإلا فلن تكون منتجة.

على كل، في الشكل الأول النتيجة دائماً تكون مستبطنة في المقدمات، فلو كانت المقدمات صحيحة والنتيجة غير صحيحة لكان معنى هذا اجتماع النقيضين، واجتماع النقيضين محال. وعلى هذا الاساس فدليل صحة انتاجية الشكل الأول هو مبدأ عدم التناقض، ومن الواضح ان الفكر الانساني قائم، بل الوجود قائم على مسألة عدم التناقض. هذا في مسأله الاستدلال القياسي التي كان السير فيها من الكل الى الجزء، والجزء مستبطن في هذه المقدمات كالمثال الذي يضربه السيد الشهيد (رحمة اللّه تعالى عليه) يقول بأنه زيد انسان وكل أنسان يموت اذن لابد أن يكون (زيد يموت). ولو لم تكن النتيجة صحيحة (زيد يموت ايضاً) للزم اجتماع النقيضين. لأنه مع انه انسان يلزم ان لايكون انساناً، ومن المحال ان يكون انساناً وأن لايكون انساناً، وعلى هذا فالمنطق الارسطي لم تكن تواجهه مشكلة في الوصول الى النتائج من هذه المقدمات، أي أن المنطق الأرسطي عندما كان يعتقد بأن النتيجة تفيد اليقين كان هذا مبنياً على اساس عدم التناقض فليس هناك مشكلة انما المشكلة كل المشكلة في الإستقراء الناقص، حيث نرى ان الانسان يستقرئ عشرة حالات، عشرين حالة على مريض أو مرضى معينين فيصل الى أن هذا الدواء يشفي هذا المرض الخاص، ثم يعطي قانوناً عاماً يقول (كل من استعمل هذا الدواء لهذا المرض يشفى).

مثال آخر يضربه الاستاذ الشهيد: وهو انه نُجرِّب الحرارة على الحديد، فنلاحظ ان الحديد يتمدد بالحرارة، فنعطي قانوناً عاماً يقول (كل قطعه حديد اذا احميت بحرارة معينة فانها تتمدد فالحديد يتمدد بالحرارة).

والآن لننظر الى المقدمات نلاحظ ان المقدمات أو الحالات المستقرأة والمجربة لاتتجاوز الاّ عدداً محدوداً ولم تتناول كل الحالات، وبعبارة اخرى هي حالات جزئية، ولكن النتيجة التي تُستخلص نتيجة كلية، وهذا معناه السير من الخاص الى العام. هنا لو فرض أن المقدمات صحيحة والنتيجة باطلة، لايلزم منه اي اشكال، اذ غاية مايمكن ان يقال هو أنه قد تكون الحالات المستقرأة والمجربة دلت على أن الحديد يتمدد بالحرارة ـ في حدود هذه الحالات ـ ولكن القانون الكلي ليس صحيحاً باعتبار انه هذه الحالات المستقرأة لعلها تتمدد بالحرارة ولكن الحديد الذي في قمر آخر أو في كرة أخرى لايتمدد بالحرارة، فلا يلزم عندنا اشكال في مسألة عدم التناقض أو مبدأ عدم التناقض.

ومن هنا فمشكلة الإستقراء لايوجد لها ضمان علمي بالصحة. يعني أن النتيجة الكلية التي تؤخذ من مقدمات جزئية لايوجد اي ضمان منطقي وعقلي لصحتها.

من هنا نجد ان الفكر البشري منذ ارسطو والى يومنا هذا، قبل محاولة السيد الشهيد، كان يحاول ارجاع القضايا المجربة والقضايا المستقرأة، الى قياس خفي غير ملتفت اليه، (لأنَّه مالم نرجعه الى قياس فانه لاضمان لصحة النتيجة المأخوذه. فلهذا نجد الشيخ الرئيس، وغيره يصرحون بأن القضية التجريبية انما تعطي نتيجة يقينية اذا كانت تستبطن قياساً خفياً، فإن لم تستبطن القياس الخفي فان النتيجة (غير مضمونة اليقينية) لا دليل على صحتها، من هنا نجد المنطق الارسطي قد آمن بهذه القضية الكلية وهي أنه اذا جربنا عشر حالات من إحماء الحديد بالحرارة ووجدنا ان هذه الحالات العشر من الحديد تتمدد بالحرارة فاننا نجعل هذه الصغرى عندنا كبرى، وهي أن الصدفة لاتتكرر دائمياً ولا أكثرياً، اذن لابد أن توجد علاقه سببية بين هذه المقدمات وهذه النتائج. (كلما وجد السبب وجد المسبَّب). نلاحظ ان المنطق الأرسطي قد ارجع القضية المستقرأة ونتيجة القضية المستقرأة الى قياسي، وهذا القياسي يستبطن كبرى، هذه الكبرى يفترض المنطق الأرسطي انها قضية مسلَّمة عقلياً ومن الاوليات، ومن هنا نقرأ في القضايا اليقينية في المنطق الأرسطي أن إحدى القضايا اليقينية القضايا التجريبية.

وفي القضايا المتواترة نأخذ مثالين كي يتضح الموضوع، فلو أخبرنا الف شخص بأن هناك رسالة سماوية وان هناك شخصاً جاء باسم الرسول الأعظم ((صلى الله عليه وآله)) فاننا نصدِّق. فنحن لايوجد عندنا دليل على اثبات الرسالة والرسول سوى التواتر، والا فلا يوجد دليلٌ آخر من القضايا الحسية أو المشاهدة، فما الدليل على صحة التواتر وعلى حجيته؟

حجية القضية المتواترة يصورها المنطق الأرسطي ويقول أنه اذا أخبرك الف شخص بأن القضية الفلانية حدثت فصدِّق، لأن هذه صغرى كبراها كلَّما اجتمع هذا العدد امتنع تواطؤهم على الكذب، إذن هم صادقون فيما اخبروا، اذن هذه القضية التي أُخبِر عنها هي صادقة ومطابقة للواقع.

فالمنطق الارسطي ايضاً يعتقد بأن القضية المتواترة انما تفيد الحقانية وتفيد الصحة والمطابقة للواقع اذا كانت تُبتنى على هذه الكبرى المنطقية، وهي أنه كلما اجتمع هذا العدد من الاخبارات امتنع تواطؤهم على الكذب. والمنطق الأرسطي يعتبر هذه من البديهيات الاولية التي يدركها العقل الانساني كما يدرك أن الكل اعظم من الجزء وان اجتماع النقيضين محال.

اما علة ذكر هذين المثالين فلأن المثال الأول مرتبط بكل العلوم الطبيعية، يعني اننا عندما نرجع الى كل العلوم والتي تتخذ المنهج الحسي والتجريبي طريقاً للوصول الى المعارف والى اليقين نجد أنها تعتمد على هذه الكبرى التجريبية، (ذكرنا مثال التواتر لأن كثيراً من القضايا لم نشاهدها ولكن نؤمن بوجودها على اساس قانون التواتر). فهذه القضايا لو غضضنا النظر عنها لما ثبت عندنا كثيرٌ مما نعتقد، لا يثبت عندنا أصل الرسالة، وأصل وجود النبي، وأصل وجود القرآن، وصحة القرآن وأن هذا الذي بأيدينا هو الذي نزل على قلبه ((صلى الله عليه وآله)) الا بقانون التواتر، بحجية التواتر. ومن هنا نجد ان السيد الشهيد (رحمة اللّه تعالى عليه) عندما وضع يده على هذه المشكلة لم يكن اعتباطاً لانه اذا نوقش الاساس المنطقي للقضية المتواترة وللقضية التجريبية فهذا معناه انه لايبقى عندنا حجر على حجر، اذن ماهو الاساس المنطقي لهذه القضية؟

السيد الشهيد (رحمة اللّه تعالى عليه) استعرض كل المعالجات والنظريات التي ذكرها الفلاسفة القدماء والجدد والمعاصرون، في التأريخ الاسلامي وقبل التأريخ الاسلامي، لمعالجة هذه الثغرة الموجودة بين المقدمات وبين النتائج. يعني كيف استطعنا ان نتجاوز من مقدمات جزئية لنصل الى نتيجة كلية؟ ماهو الطريق الذي يسمح لنا منطقياً ان نتجاوز هذه المقدمات القليلة حتى نصل الى نتيجة كلية؟

السيد الشهيد ((رضي الله عنه)) في كتاب الأسس في المقدمة ص 8 يقول “ونحن في هذا الكتاب اذ نحاول اعادة بناء نظرية المعرفه على اساس معين ودراسة نقاطها الاساسية في ضوء يختلف عما تقدم في كتاب فلسفتنا”، باعتبار أن كتاب فلسفتنا اعتمد المنطق الأرسطي نفسه لاثبات صحة القضية التجريبية والقضية المتواترة ” نتخذ من دراسة الدليل الإستقرائي ومعالجة تلك الثغره ” يعني ثغرة العبور من الجزئي الى الكلي، من الجزئيات الى الكليات ” اساساً لمحاولتنا هذه ” اذن يتضح لنا بأن السيد الشهيد (رضي الله عنه) في هذه المحاولة يريد أن يملأ فراغاً وأي فراغ بكتاب الأسس المنطقية! فلهذا عبرتُ عن الكتاب بأنه (لعله اضخم مجهود) للسيد الشهيد (رضي الله عنه) يفوق كل الابعاد الاخرى التي تُكلم فيها، باعتبار انها مشكلة مرتبطة باساس الدين قبل ان تكون مرتبطة بالبناء الفوقي للدين، مرتبطه باساس الدين وحجية الدين.

هذه المحاولات يستعرضها الشهيد (رضي الله عنه) الواحدة تلو الاخرى وجميعاً يناقشها من الفلاسفة السابقين، يعني من ارسطو قبل 2500 سنة، الى يومنا هذا، الى آخر المحاولات الموجودة في الفلسفة الغربية، لردم هذه الثغرة بين المقدمات وبين النتائج. وفي نهاية المطاف يصل الى نتيجة.

ان المقدمات التي يستعين بها ابحاثٌ مفصلة، ولست بصدد الدخول في هذه الابحاث التفصيلية للمحاولة، ولكن المهم عندي ان السيد الشهيد (رضي الله عنه)، كما يعتقد هو، استطاع أن يردم هذه الثغرة بلا حاجة الى القياس الخفي الذي يفترضه المنطق الأرسطي، لأن ذلك القياس الخفي الذي افترضه المنطق الارسطي للوصول الى نتائج القضية المتواترة والمستقرأة أو التجريبية نوقش من قبل كثير من الفلاسفة الغربيين، فلهذا حاول ان يوجد طريقاً جديداً وهذا الطريق كان صعباً ووعراً جداً.

قال “عندما انتهيت من هذه المحاولة احتملت ان الفلسفة الغربية والمنطق الغربي وصل الى النتائج التي قد وصلت اليها نفسها، فطلبت من بعض الاخوة انْ يذكروا لي افضل كتاب يتعرض لكل مباني نظرية المعرفة المعاصرة في الفلسفة الغربية فقالوا لي كتاب (المعرفة الانسانية لبرتراند رسل). سألت عن الكتاب فقالوا الكتاب غير مترجم فطلبت من بعض أصدقائنا في بغداد المتخصصين أن يترجموا الكتاب حتى يمكن الوقوف على آخر النظريات الغربية في نظرية المعرفة”.

ولهذا نجد أن اكثر المطالب التي ينقلها في الكتاب هي من (نظرية المعرفة لرسل)، واضاف قائلاً: “وعندما راجعت الكتاب والنظريات الغربية لم أجد اي اشارة للنتائج التي انتهيت اليها” السيد الشهيد افترض مجموعة مصادرات، بعضها مصادرات مرتبطة بالمنطق الأرسطي وبعضها مصادرات مرتبطة بنظريات الاحتمال لعلها تصل الى عشرة أو اثنتي عشرة مصادرة، هذه مصادرات يفترضها للدخول الى البحث. المهم ان السيد الشهيد انتهى الى نتيجة وهي “اننا نستطيع ان نصل من مقدمات جزئية الى نتيجة كلية ويحصل لنا يقين بهذه النتيجة الكلية من هذه المقدمات الجزئية بلا مرور على ذلك القياسي الخفي الذي استبطنه المنطق الأرسطي ودام عليه الفكر البشري لمدة الفي سنة”.

فلهذا تجده (رحمة اللّه تعالى عليه) في تقريرات السيد الهاشمي الجزء الرابع ص 130 يقول ” فان هذا البحث كان منشأً لانتقالنا الى نظرية جديدة للمعرفة البشرية استطاعت أن تملأ فراغاً في نظرية المعرفة البشرية، لم يستطع الفكر الفلسفي ان يملأه خلال الفي سنة ” هذا هو مدى الاستاذ الشهيد (رضي الله عنه).

وهو عندما يقولها على يقين من أنه كان عنده الاستعداد لأن يقف ويدافع عن كلمته هذه.

والواقع أن السيد الشهيد (رضي الله عنه) مظلوم في أوساطنا الى يومنا هذا، إننا الى الآن لم نقف على حقيقة الاستاذ الشهيد (رضي الله عنه)، نتصور أن السيد الشهيد قد قدَّم لنا بعض الكلمات في الفقه وفي الأصول، لا، ليس السيد الشهيد قد أبدع في هذا فقط. أذكر الكلمات التي صدرت عن بعض الاشخاص الذين لم يروا السيد الشهيد ولاعلاقة لهم به، ولكن قرأوا بعض فكره فمثلاً احد المفكرين المعاصرين يقول عن السيد الشهيد (رضي الله عنه) “المحاولة التي بذلها السيد الشهيد في الأسس المنطقية هي اول محاولة من فقيه مسلم على مستوى الفكر الانساني الرئيس” من هنا يتضح دور نظرية المعرفة، والمنهج في عملية الاستدلال، والتي تقوم عليها كل العلوم الطبيعية، وانما يقوم عليها اساس الدين، لان الدين قائم على اساس حجية التواتر، وحجية التواتر تستمد اساسها المنطقي اما من المنهج الارسطي في عملية الاستدلال، واما من المنهج الاحتمالي في عملية الاستدلال، فلهذا اذا اردنا ان نقف على مستوى الاجتهاد (على مستوى النظرية لاعلى مستوى التقليد) وأردنا ان نعرف الدليل على حجية التواتر لابد أن نقف على المنطق الأرسطي والاشكالات السبعة التي وجهها السيد الشهيد في اول الأسس الى المنطق الأرسطي. نعم أثار السيد الشهيد سبع اشكالات على المنطق الأرسطي في هذا المجال.

إذن لابد ان نتعرف على أبعاد هذه المحاولة. وقد ذكر السيد الشهيد أن هناك مرحلتين، المرحلة الاولى هي مرحلة تقوية الاحتمال من خلال زيادة الاحتمال، وكلما ازدادت التجربة عند الانسان قويَ احتمال ان هذه النتيجة مرتبطة بهذه المقدمات.

هذه المرحلة الاولى التي يعبر عنها (بالمرحلة الذاتية)، ثم ينتقل الى المرحلة الثانية وهي (مرحلة الوصول الى اليقين الموضوعي)، ويحتاج فيها الى بيان المصادرة. ويمكن مراجعة هذه المطالب في الأسس المنطقية نفسها في صفحه 366 حيثُ يبين المصادرة وشروط المصادرة، المصادرة التي يفترضها هي اساس الانتقال من الحالة الذاتية للنتيجة الى الحالة الموضوعية. ثم يفسر اليقين الذي يريده. هذا اليقين ليس اليقين الرياضي أو المنطقي، وليس اليقين الذاتي، وانما هو اليقين الموضوعي فيدخل في تفصيل بيان اقسام اليقين من الذاتي والموضوعي أو الرياضي أو المنطقي وهذا يحتاج الى دراسة مفصلة لايسعها المقام الآن.

النتائج التي انتهى اليها السيد الشهيد(رضي الله عنه)نتيجتان اساسيتان:

النتيجة الاولى التي انتهى اليها الاستاذ الشهيد من كتاب الأسس انه استطاع ان يكتشف الاساس المنطقي للايمان بالشهادة وللايمان بالغيب.

نحن نعلم أنه في الفلسفة المعاصرة اخذ العلم اتجاهاً يُعنى بالتجربة (الاتجاه المادي)، واخذ الايمان بما وراء المادة، والايمان بعالم الغيب، عالم الغيب والشهادة على حد تعبير القرآن.

وتصور الفكر الغربي أن عالم الغيب، عالم الايمان باللّه عالمٌ منعزل عن عالم الشهادة وعن عالم المادة، فلهذا قال نحن نؤمن باللّه ولكن لاعلاقة له بعالم المادة، هذه القوانين التي تحكم عالم المادة هي بمعزل عن اللّه سبحانه وتعالى أو هذه هي النظرية التي تبحث في الفلسفة بأن هذا العالم يحتاج اليه حدوثاً لابقاءاً. وقد طرح هذه النظرية السيد الشهيد (رضي الله عنه) في كتاب الأسس المنطقية واستطاع ان يثبت أن الاساس المشترك ـ الاساس الذي يوجد للعلوم الطبيعية والتي على اساسها تنتهي الى نتائج يقينية ويفتخر بها الغرب ـ (الأساس للعلوم الطبيعية) هو الاساس نفسه الذي يوصل الى اللّه سبحانه وتعالى، وحينئذ فإِما ان نؤمن بعالم الشهادة والغيب معاً، واما ان ننكرهما معاً. أما الايمان باحدهما دون الآخر فهو تناقض منطقي وهذه نتيجة اساسية في نظرية المعرفة.

التناقض المنطقي هنا يعني اننا لايمكن لنا أن نؤمن بصحة نتائج العلوم الطبيعية كما يؤمن الغرب، ومن جهة اخرى ننكر وجود عالم الغيب وعالم ماوراء المادة لانهما قائمان على اساس منطقي واحد، فأما أن نقبلهما معاً واما ان نرفضهما معاً. أما ما فعله الغرب وهو انه يقبل نتائج العلوم الطبيعية وأنكر الايمان بوجود اللّه والايمان بما وراء المادة، فهذا تناقض منطقي. ولهذا تجد ان السيد الشهيد في تعريفه لعنوان الكتاب يقول “دراسة جديدة للإستقراء تستهدف اكتشاف الاساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللايمان باللّه” وهذه تعد فتحاً في الفكر البشري لانه، بحسب اعتقادنا، ان الايمان لاينفك عن العلم، وان العلم لاينفك عن الايمان. السيد الشهيد (رضي الله عنه) في آخر هذا الكتاب وفي صفحة 507 يقول “وهذه الحقيقه هي ان الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على اثبات الصانع المدبر لهذا العالم عن طريق مايتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير”. “فالانسان، اي انسان، يقف بين أمرين فهو اما ان يرفض الاستدلال العلمي ككل، فكما لايقبل الايمان باللّه لابد أن لايقبل نتائج العلوم الطبيعية ايضاً في كل المجالات، سواء المرتبطة منها بالفلك أو المرتبطة بالفيزياء او المرتبطة بالكيمياء أو المرتبطة بالعلوم التجريبية الاخرى كلها، وإِما أن يقبل الاستدلال العلمي ويعطي للاستدلال الإستقرائي على اثبات الصانع نفس النتيجة التي يمنحها للاستدلال العلمي”.

“وهكذا نبرهن على أن العلم والايمان مرتبطان في اساسهما المنطقي، ولايمكن من وجهة النظر المنطقية للإستقراء الفصل بينهما، هذا محال لأنه يستبطن تناقضاً منطقياً”.

هذه هي محاولة السيد الشهيد (رضي الله عنه) أو النتيجة الاولى الاساسية التي أخذها السيد الشهيد من هذه المحاولة.

المنطق الأرسطي كان يعتقد أن القضية المتواترة قضية قبلية أي أنها قضية أولية غير مستدلة. السيد الشهيد (رضي الله عنه) يقول: لا، ليست قضية قبلية وليست قضية أولية وانما قضية بعدية ومستدلة أيضاً ودليلها الإستقراء.

المنطق الأرسطي كان يعتقد أن النتائج التي نصل اليها في العلوم الطبيعية لابد أن تكون ايضاً سيراً من الكلي الى الجزئي، السيد الشهيد انكر ذلك قال ليس كذلك وانما النتائج التي ننتهي اليها في العلوم الطبيعيه انما هي سير من الجزئي الى الكلي.

اذن السيد الشهيد (رضي الله عنه) لم ينسف الاساس المنطقي لارسطو، لان المنطق الأرسطي قائم على مبدأ عدم التناقض، ومحال أن ينسف هذا الاساس، وانما السيد الشهيد (رضي الله عنه) اضاف شيئاً لم يكن المنطق الأرسطي استطاع الوصول اليه، وبعبارة اخرى: المنطق الارسطي كان يرى ان كل النتائج التي ننتهي اليها في الاستدلالات العقلية وفي الاستدلالات المرتبطة بالعلوم الطبيعية لها طريق واحد، منهج واحد، وهو السير من الكلي الى الجزئي. السيد الشهيد قال لابل يوجد طريقان، احدهما هو السير من الكلي الى الجزئي، وهذا تام وصحيح ولكن في دائرة ضيقة أو واسعة، المهم انه في دائره معينة، وهناك دائره لعلها هي الدائرة الاوسع وهي أن الفكر البشري يستعين بمنطق الإستقراء للوصول الى النتائج. ولم يثبت عندنا بأي دليل عقلي أن طريقة الاستدلال منحصرة في طريق واحد، فكل الذي يستطيع ان يقوله لنا المنطق الارسطي أن الاستدلال القياسي هو موصل الى نتيجة، اما انه وحده هو الموصل الى نتيجة فهذا يحتاج الى دليل، ولا دليل عليه.

والسيد الشهيد (رضي الله عنه) ذكر طريقاً آخر ومنهجاً آخر. فهو قد أضاف الى منطق ارسطو ولم ينسف منطق ارسطو.

ان السيد الشهيد لم يكن بصدد نسف الاساس المنطقي لمنطق ارسطو وانما كان بصدد اضافة شيء لم يستطع الفكر البشري ان يملأه وهذه عبارته في مباحث الاصول للسيد الحائري الجزء الأول صفحه 546 ” قسموا العقل النظري الى بديهي أولي وبرهاني ثانوي ونحن اضفنا اليهما الادراك بحساب الاحتمالات: نلاحظ جيداً أن السيد الشهيد قد قال (أضفنا) ولم يقل أن (ماقالوه خطأ)، وانما اقتطعنا جزءً كان المنطق الارسطي يعدُّه على الاساس القياسي، ونحن قلنا لا، هذا لايمكن تفسيره على أساس قياسي، لابد أن يفسر على اساس استقرائي، والإستقراء له قوانينه وله مصادراته وله قواعده كالمنطق الأرسطي. اننا عندما نقول بأن القضية المتواترة قضية أولية فهذا يعني مصادرة لابد من قبولها، واذا لم نقبلها لايوجد هناك دليل لاثباتها.

لو جاء شخص وقال أنا لا أقبل أن (اجتماع النقيضين محال)، فاننا لايمكن ان نقيم له دليلاً على أن اجتماع النقيضين محال، فالقضية قضية أولية غير قابلة للاستدلال لاإثباتاً ولانفياً ولاتشكيكاً، قضية أولية قضية بديهية، كذلك منطق الاحتمال له مصادراته وله قواعده التي يستند اليها.

النقطة الاساسية الاولى التي انتهى إليها السيد الشهيد (رضي الله عنه) في كتاب (الأسس المنطقية للإستقراء) هو اكتشاف الاساس المنطقي. اما تعبير عالم الغيب فله مغزاه. القرآن صريح في ذلك حيث عبر (عالم الغيب والشهادة) اذن يوجد عندنا غيب (هو الغيب النسبي لا الغيب المطلق) باعتبار انه غيب لنا والا فهو بالنسبة الى اللّه سبحانه وتعالى ليس بغيب انما هو حضور وشهود مطلق.

حاول السيد الشهيد في كتاب الأسس المنطقية ان يكتشف الاساس المنطقي للايمان بالعلوم الطبيعية وللايمان بالغيب، وتوصل إلى أنه لايمكن الفصل بينهما منطقياً كما في نتائج الشكل الاول ومقدمات الشكل الاول فإن من يؤمن بالشكل الاول مادةً وصورة لابد أن يؤمن بالنتيجة، وإلاّ يستبطنْ ذلك تناقضاً منطقياً. وماقيل عن الترابط بين الايمان بالعلوم الطبيعية والايمان بالغيب، يقال عن اليقين.

هذا اليقين هو اليقين الرياضي، فاليقين باستحالة اجتماع النقيضين فيها عقد ايجابي وعقد سلبي، عقدها الايجابي استحالة اجتماع النقيضين، وعقدها السلبي انه يستحيل ان لايكون كذلك، يعني ليس فقط اثبات المحمول للموضوع بل واستحالة انفكاك المحمول عن الموضوع.

والنتيجة التي انتهى اليها السيد الشهيد (رضي الله عنه) لبيان الاساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللايمان باللّه أو للايمان بالغيب ايضاً على مستوى هذا اليقين، أي اليقين الرياضي، أي اليقين المنطقي لا اليقين الذاتي أو الموضوعي بحسب بيانات الكتاب نفسه.

هذه النتيجة، نتيجة منطقية، نتيجة رياضية غير قابلة لأن تتغير، بخلاف اليقين الذاتي واليقين الموضوعي، فأن اليقين الذاتي أو الموضوعي يستبطن فقط ثبوت المحمول للموضوع فقط، اما استحالة انفكاك المحمول عن الموضوع فلا يوجد فيه خلاف.

هذه النتيجة التي انتهى اليها السيد الشهيد (رضي الله عنه) في الأسس هي “قضية برهانية” أي مبرهنة ولايسميها نتيجة استقرائية، وهذا هو البرهان المنطقي، وهو انه لابد أن يكون المحمول ثابتاً للموضوع ويستحيل ان لايكون كذلك. فجملة (أنت جالسٌ) ليس فيها استحالة النقيض لأنه يحتمل أن تقوم فتكون قائماً لاجالساً. في القضية، في اليقين الذاتي أو الموضوعي لاتوجد استحالة الطرف الآخر أي العقد السلبي، اما القضايا المنطقيه عموماً فهي مركبة، فلهذا تسمى (يقيناً مركباً) لأنه اثبات المحمول للموضوع واستحالة انفكاك المحمول عن الموضوع.

النتيجة الثانية وهي النتيجة المرتبطة بالاديان السماوية في قبال المنهج المادي، والتي انتهى اليها السيد الشهيد (رضي الله عنه) (مايذكره مفصلاً في ص 441 من الكتاب) هي اثبات الصانع بالدليل الإستقرائي، وهذا ايضاً مايشير اليه في أول الفتاوى الواضحه عندما يدخل الى بحث الايمان باللّه حيثُ يؤكد وجود طريقين، الطريق العلمي أو الدليل العلمي والطريق الفلسفي أو الدليل الفلسفي.

حاول السيد الشهيد أن يسلك هذا الطريق للايمان باللّه سبحانه وتعالى لان جملة من الفلاسفة الغربيين ومنهم صاحب كتاب (المعرفة الانسانية رسل) يقولون بانه لايوجد دليل علمي يثبت وجود اللّه (سبحانه وتعالى)، نعم يوجد عند الفلاسفة دليل فلسفي قائم على تحليلات فلسفية من الامكان والوجوب والحدوث والتغير والحركة، ولكن هذه كلها أدلة فلسفية لا علاقه لها بالدليل العلمي. ومن اراد توضيح المراد يسعه الرجوع الى تعبيرات السيد الشهيد (رضي الله عنه) في تعريف الدليل العلمي وتعريف الدليل الفلسفي.

السيد الشهيد (رضي الله عنه) يعرف الدليل العلمي بهذا التعريف: “هو كل دليل يعتمد على الحس والتجربة” ومنهج الدليل الإستقرائي القائم على حساب الاحتمال يعتمد على الحس بالتجربة أيضاً فهو دليل علمي.

اذن مقدماته من الحس والتجربة، وطريقة الاستدلال مأخوذه من منطق الاحتمال، فمنهج الاستدلال استقرائي لاقياسي وهذا دليل علمي.

جملة من فلاسفة الغرب كانت مشكلتهم هنا وهي انه لايوجد عندهم دليل علمي لاثبات وجود اللّه، يعني انهم ليست لديهم مقدمات حسية وتجربية وطريقة استدلال استقرائية.

والسيد الشهيد (رضي الله عنه) بعد ان انتهى من بيان نظريته في الاحتمال عرج على مسأله اثبات الصانع، قال “اذا انتهينا من هذه المقدمات الآن نقول لكم انه يوجد عندنا دليل علمي لاثبات وجود اللّه بغض النظر عن كل المقدمات الفلسفية (الا بعض المصادرات التي يحتاجها اي استدلال كمصادرة اجتماع النقيضين محال (مبدأ عدم التناقض) هذه من المصادرات التي لايمكن ان يناقش فيها احد، وجملة من الأصول الموضوعية المرتبطة بنظرية الاحتمال)” وقد عاش السيد الشهيد سنتين كاملتين مع هذه المشكلة وهي مشكلة (وجود دليل علمي لاثبات وجود اللّه).

رسل وجملة من فلاسفة المعرفة الانسانية يقولون لا دليل علميا على اثبات الخالق، ليس هناك الا برهان الامكان والوجوب مع الاستعانة ببرهان الحركة مع مافي تلك البراهين من المشاكل المعقدة الفلسفية والعقلية.

يصرح السيد الشهيد في مقدمة الفتاوى الواضحة بانه عند القول بوجود دليل علمي لاثبات وجود اللّه، لايعني انه يرفض الادلة الفلسفية، الادلة الفلسفية في محلها لمن يقبلها، ولكن من ينكر الادلة الفلسفية او يناقش في الاصول الموضوعية للمفاهيم الفلسفية يمكن ان نقيم له دليلاً علمياً لاثبات وجود اللّه سبحانه وتعالى.

ولهذا نجده (قدس سره الشريف) في آخر الأسس المنطقية يقول: وهذا الارتباط المنطقي بين مناهج الاستدلال العلمي والمنهج الذي يعتمده الاستدلال على اثبات الصانع بمظاهر الحكمة قد يكون هو السبب الذي أدى بالقرآن الكريم الى التركيز على هذا الاستدلال من بين انواع الاستدلال الاخرى على اثبات الصانع، فاننا عندما نأتي الى القرآن الكريم نجد أن القرآن يركز على هذا النحو من الاستدلال وهو الاستدلال بمظاهر القصد والحكمة والتدبير، فلماذا كان تركيز الآيات على هذه النقطة؟ يقول السيد الشهيد لأن القرآن يعلم أن العلم سيتطور ويصل الى هذه النتائج فلهذا حاول ان يستند الى نفس المنهج الذي سيكون هو الاساس المنطقي للعلوم الطبيعية، هذه ناحية.

الناحية الاخرى التي هي اريد ان اشير اليها بنحو بعض الاثارات هنا لابنحو النقد أو بنحو المناقشة، السيد الشهيد (رضي الله عنه) في مقدمة (الفتاوى الواضحة) يجعل الدليل العلمي في قبال وفي عرض الدليل الفلسفي يعني يقول صريحاً أنه عندنا طريقان لاثبات وجود اللّه سبحانه وتعالى لاثبات الصانع الحكيم.

الطريق الأول هو الدليل العلمي.

الطريق الثاني هو الدليل الفلسفي.

وهذا معناه ان الدليل العلمي أو الطريق العلمي يمكن ان يغني عن الطريق الفلسفي، هذا الطريق موجود وذاك الطريق موجود. ولعل هذا صار سبباً لأن يقول بعضٌ بأنه مع تمامية دليل الإستقراء والاصول الموضوعية للإستقراء لاحاجة للادلة الفلسفية لأن البحث الفلسفي يقع في عرض الدليل الإستقرائي والدليل العلمي، فاذا كان الدليل العلمي قائماً على اثبات وجود اللّه سبحانه وتعالى فهو كاف.

نعم من يبحث عن تكثير الطرق فليبحث البحث الفلسفي ولكن نحن في غنى عن الطريق الفلسفي ولاحاجة الى الدليل الفلسفي فقط.

انا اريد ان اقف عند هذه المقولة والتي قد تظهر من بعض عبائر السيد الشهيد، الاستاذ الشهيد يريد أن يقول هذا المعنى لأنه كما قلت في أول الفتاوى وفي آخر الأسس يقول بأن هذا في عرض ذاك لنرى ان هذه تامة أوْ لا، في ذهني توجد اثارتان أو ملاحظتان: ـ

الملاحظه الاولى التي يمكن ان نشير اليها في هذه العجالة أيُثبتُ الدليل العلمي لنا اللّه سبحانه وتعالى الصانع بالمعنى الذي يشير اليه القرآن الكريم أم لايثبت؟

هناك بحث بين الفلاسفة والعرفاء والمتكلمين بأن عالم الوجود ثنائي او ثلاثي أو رباعي أو خماسي، المراد من هذه الالفاظ، اننا لنا خالق، وهذا مما لا اشكال فيه بناء على الدليل العلمي والدليل الفلسفي، ولكن هناك مخلوق هذا المخلوق هو عالم المادة، فهل توجد هناك نشآت وعوالم ممكنة ومخلوقة ولكنها غير مادية؟

هنا توجد نظريات متعددة: ـ

النظرية الاولى: وهي نظرية المشهور من متكلمي العامة، قالوا إن اللّه سبحانه وتعالى هو الخالق والمادة (وهي عالم الشهادة) هي المخلوق ولاتوجد واسطة اخرى بينهما يعني لاتوجد عندنا موجودات غير مادية، نعم، توجد عندنا موجودات مادية ولكن بعضها كثيفة وبعضها لطيفة غير قابلة للرؤية بالعين المجردة كالجن.

الجن موجود مادي فلهذا كان مكلفاً ولكنه غير مرئي بالعين، فأذن لايوجد عندنا في عالم الوجود الا اللّه وعالم المادة (بقسميه الكثيف واللطيف).

النظرية الثانية: وهي نظرية المشائين تقول بأنه يوجد عندنا عالمان في عالم الامكان لا عالم واحد عالم المادة وعالم المجردات، وبتعبيرهم (عالم العقل) وهي موجودات مجردة عن المادة وعن آثار المادة وعن لواحق المادة، عندما نقول (مادة واثار المادة) نعني الزمان والمكان والحجم والطول والعرض والعمق، أما الموجودات المجردة فهي حلقة وسطية بين الخالق سبحانه وتعالى وبين عالم المادة.

ويحاولون تطبيقها على تلك الآيات التي عبرت بالمدبِّرات أمراً. يقولون هناك حلقة اخرى هي التي تعمل بإذن اللّه وبتسخير منه سبحانه وتعالى لتدبير هذا العالم وآخر هذه العقول (بتعبيرهم) هو العقل الفعال الذي يدبر عالم المادة بإذن اللّه سبحانه وتعالى.

النظرية الثالثة: وهي نظرية المدرسة الاشراقية، والتي ثبتتها مدرسة الحكمة المثالية أيضاً وهي ان عوالم الامكان ثلاثية لاثنائية، عالم المادة، وعالم آخر عندنا نسميه عالم المثال المنفصل، وعالم العقل، معتبرين أن هناك حلقة وسطية بين عالم العقل وعالم المادة وهي التي اسموها (عالم المثال المنفصل)، أما خصائصها فلسنا بصددها أو في النتيجة ان عالم المادة غير عالم العقل وعالم المثال المنفصل تلك مجردات وهذه مادية.

النظرية الرابعة: للعرفاء وللمتصوفة، يقولون بأن عالم الامكان عالم رباعي بالاضافة الى عالم العقل والمثال والمادة هناك نشأة محيطة بهذه العوالم الثلاثة وهي نشأة الانسان الكامل، يعتقدون بأن النبي الأعظم ((صلى الله عليه وآله)) وأئمة أهل البيت ((عليهم السلام)) مظاهر الانسان والوجود الكامل من هذا الكون، وهذا الوجود هو محيط بهذه النشآت الثلاث، يعني أنه محيط بالعقل والمثال والماده “جعل قلوبنا أوعية لإرادته” كما عن الحجة (عليه افضل الصلاة والسلام).

فأذن كُلُّ ما يجري في هذا الكون يجري عن هذا الطريق، عن هذا المجرى، عن هذا الفيض، أو هذه الواسطة مابين السماء والارض والتي تأتي في تعبيراتهم انها برزخ البرازخ لأنها البرزخ بين الخالق والمخلوق بكل عوالمه، هذه نظريات أربع في ما يرتبط بعالم الامكان.

اذا اتضحت هذه المقدمه نأتي الى الدليل العلمي للاستاذ الشهيد (رضي الله عنه) الدليل العلمي الحد الاوسط له انه هنا يوجد عندنا في عالم المادة (علم)، وهنا توجد عندنا قدرة وحكمة وتدبير، اذن لابد أن يكون الموجد لهذا العالم، بحسب نظرية الاحتمال، عالماً قادراً حكيماً مدبراً، هذه صفات الخالق.

ولكي يثبت لنا ان الذي اوجد هذا العالم هو اللّه لابد ان نؤمن بالنظرية الاولى وهي نظرية متكلمي العامة، أي انه لايوجد وراء عالم المادة الا اللّه، فهذا العالم يستند الى خالق، ولايوجد عندنا وراء هذا العالم الا اللّه سبحانه وتعالى.

لو فرضنا أن عالم الامكان منحصر بعالم المادة كان وراء عالم المادة اللّه سبحانه وتعالى اما بناءاً على من يعتقد بنظرية المشائين او يعتقد بنظرية الاشراقيين والحكمة المتعالية أو يعتقد بنظرية العرفاء وهذه نظريات مطروحة مع أدلتها التفصيلية في محلها، فهذا البرهان لايقول لنا أن الموجد لهذا العالم هو اللّه لعلة وجود ممكن وسطي ينتهي الى الواجب سبحانه وتعالى ولكنه بعد إبطال الدور والتسلسل.

وهذا معناه ان الدليل العلمي (ان آمنا بنظرية المتكلمين) يثبت لنا ان هذا الخالق هو اللّه بلا احتياج الى ابطال الدور والتسلسل.

اما اذا آمنا بأن عالم الامكان ليس احادياً وانما هو ثنائي او ثلاثي أو رباعي فإن الدليل العلمي، لكي يثبت وجود اللّه سبحانه وتعالى، لايمكن ان يستغني عن الدليل الفلسفي لانه في حلقة من حلقاته يحتاج الى إبطال الدور والتسلسل، وابطال الدور والتسلسل لايتم من خلال نظرية الاحتمال، بل عن طريق عقلي آخر، وهذا معناه أن الدليل الفلسفي سيكون متمماً للدليل العلمي، وأن الدليل العلمي سيكون مقدمة للدليل الفلسفي، ومالم يتم الدليل الفلسفي في محله فإن هذا الدليل العلمي ـ على حد تعبير جملة من المحققين منهم العلامة المطهري (رحمة اللّه تعالى عليه) في الجزء الخامس من أصول الفلسفة ـ اقصى مايثبت وجود عالم مجرد وراء عالم المادة وهذا يعني كفاية نظرية الاحتمال لابطال مدعى المادي أن العالم منحصر في عالم المادة، أما هذا المجرد (هو واجب أو ممكن) فدليل الاحتمال ونظرية الاحتمال لاتثبته، لأنه لامجال للدليل الإستقرائي والاحتمالي هنا.

هذه هي الملاحظة الاولى التي تحتاج الى تأمل اذا تمت هذه الملاحظه فهذا معناه ان الدليل العلمي لايقع في عرض الدليل الفلسفي وانما الدليل العلمي يكون مقدمة للدليل الفلسفي.

ولو سلمنا جدلاً مع الاستاذ الشهيد (رضي الله عنه)، لو سلمنا مع المبنى الكلامي وافترضنا أن السيد الشهيد صار هنا كالمحقق الطوسي في شرح التجريد وقال أن ادلة العقل مدخولة، الادلة التي تثبت وجود العقل حلقةً وسيطةً بين اللّه وبين عالم الامكان دليلٌ غير تام، المحقق الطوسي هنا كلامي، غير أنه له رسالة في نقد المحصل يثبت وجود العقل، ولكنه هنا يريد ان يتنزل مع المتكلمين، أنه لايوجد وراء عالم المادة الا اللّه لنرى هل الدليل العلمي ايضاً يستغني عن الدليل الفلسفي اولا؟ علماً أننا في الملاحظة الاولى قد قلنا انه يستغني اما هنا فنريد أن نترقى فنقول “لا”.

حتى لو قلنا بأن هذا العالم (عالم الوجود) ثنائي وأن (عالم الامكان) أحادي ايضاً لايمكن الاستغناء عن الدليل الفلسفي لأننا نريد ان نصل من العلم والقدرة والحكمة والتدبير هنا الى ان الخالق عالم مدبر حكيم الى آخر الصفات الكمالية التي تُذكر للّه سبحانه وتعالى، ولكن يأتي هذا السؤال وهو ان هذه الصفات التي نجدها في عالمنا هل هي متناهية أو لامتناهية؟

من الواضح انها متناهية لايستطيع، ان يقول أحدٌ انها غير متناهية. فاذا كانت متناهية فلا يمكنها أن تقول لنا أن العلم هناك لامتناهي. نقول فهل هناك علم افضل من هذا العلم؟ فإن لا، فهل ذاك العلم متناه أو لامتناهي؟

بدليل الإستقراء والدليل العلمي لانجد اشارة الى هذه النقطة. إذ لايوجد دليل يقول اننا من العلم هنا نصل الى العلم هناك، من القدرة هنا نصل الى القدرة هناك.

وبتعبير الفلاسفة ان القدرة والعلم هناك بنحو أعلى واشرف. لأن الوجود هناك وجود غني والوجود هنا وجود فقير (ياأيها الناسُ انتم الفقراءُ الى اللّهِ واللّهُ هو الغنيُّ الحميد) هناك فقر وهنا غنى ولكنه هل هو متناه أو لامتناهي؟

عندما نأتي الى القرآن الكريم نجد ان القرآن الكريم يثبت هذه الحقائق (أينما تولُّوا فَثَمَّ وجهُ اللّه) هذه حقيقة قرآنية هل نستطيع ان تثبت هذه الحقيقة اولا بنظرية الاحتمال؟

القرآن يقول (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) فهل يستطيع الاحتمال ان يثبت هذه الحقيقة؟

(وهو معكم أَينما كنتم) (وإنْ من شيء إلا عندَنا خزائِنُه ومانُنَزِّله إلا بقدر معلوم) البرهان أو الدليل الإستقرائي يقول لنا ان الخالق واحد لأن التدبير واحد، تدبير الصنع ووحدة الصنع تكشف لنا عن وحدة الصانع بقانون المسانخة، ولكن هذه الوحدة وحدة عددية او وحدة لاعددية؟ في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) نقرأ (واحد لا كالعدد).

تعالوا الى علم الحق سبحانه وتعالى، روايتان عن الامام الرضا (عليه السلام)، الرواية الاولى قال شخص أمام الامام الرضا (عليه السلام) الحمد للّه منتهى علمه، قال “لاتقل هكذا، قل الحمد للّه منتهى رضاه لأن علمه لايتناهى وانت تقول منتهى علمه” وهذا يعني ان علمه متناه محدود مع ان علمه لايتناهى، نعم قل منتهى رضاه وهذا يعني أن الرضا متناه. لو لم يكن يتناهى لما كان في قباله غضب، لو كان الرضا لامتناهياً لامعنى للغضب.

روايه اخرى عن الامام (عليه السلام) في البحار في (علم الحق) “يعلم ماكان وماهو كائن وماسيكون الى قيام الساعة لايعزب عن علمه مثقال ذرة” ولكن يضيف قسماً رابعاً يقول “ويعلم الممتنع لو وجد كيف يوجد” عجيب هذا العلم الممتنع لايمكن ان يوجد لذا نرى الامام يقول (لو وجد) وفرض المحال ليس بمحال، يقول لو وجد الممتنع فاللّه يعلم كيف يوجد، ثم يستدل الامام بقول ( ولو رُدُّوا لَعادوا لمانُهُوا عنه ). الامام (عليه السلام) يريد أن يقول إن الاعادة الى هذه النشأة من مصاديق المحال، لأنه يضربها مثالاً للممتنع بالذات. نظرية الاحتمال هذه هل تستطيع ان تثبت لنا هذا السنخ من العلوم أولا؟ نعم نظرية الاحتمال تثبت لنا هذه وهي أننا من العلم هنا نصل الى العلم هناك.

أما أن هذا العلم هو علم على نحو بسيط أو بشكل آخر فهذا مالايشير اليه. هل هذا العلم عين الذات أو زائد عن الذات (هذا لايشير) فلا علاقة له بذلك.

فلننظر الى رواية الامام الصادق (عليه السلام) عن هشام بن سالم، دخل هشام بن سالم على الامام الصادق (عليه السلام) قال الامام (عليه السلام) “اتنعت ربك؟ قال: نعم. قال: ماذا تقول؟ قال: اقول هو السميع البصير. قال: ياهشام هذه صفة يشترك فيها مع المخلوقين” ، حار هشام في الجواب قال سيدي انعته لي، قال: “هو علم كله لاجهل فيه، هو نور كله لاظلمة فيه، هو قدرة كله لاعجز فيها” يقول هشام بن سالم وخرجت من عنده وانا اعلم الناس بالتوحيد.

هذه النقاط وهي: أن العلم زائد على الذات (أو) عين الذات، انه على نحو التفصيل (او) على نحو الاجمال إنه…. إنه…. يعلم بالممتنع أو لايعلم بالممتنع، وعشرات المسائل المرتبطة بالعلم الربوبي هذه (بعدُ) كلها لاعلاقة لمنطق الاحتمال بها، منطق الاحتمال يصل الى هذه النتيجة وهي أنه من العلم هنا نصل الى الخالق العالم، هنا يأتي دور الفلسفة، هنا يأتي دور العقل ليتمم طريق الدليل العلمي (اضافة على) نقاط اخرى لايسع لنا الوقت لبيانها.

السيد كمال الحيدري