نظریة الشهید الصدر في حریة اختیار النظام السیاسي للمجتمع الإسلامي

د. السید محمد بحر العلوم

المقدمة

عرفت آیة الله العظمى الشهید السید محمد باقر الصدر في أواخر الخمسینات من القرن الماضي المیلادي، وعملت معه في الحركة الإسلامیة قرابة عقدین من الزمن، وتلمّست فیه جوانب معطاءة قد لا توجد في كثیر من الأشخاص الذین تصدوا حینها للعمل الإسلامي رغم توفر إمكانات التحرك لهم، وقد یكون سبب ذلك أنهم لم یهیئوا أنفسهم للتحرك المنظم في المیدان السیاسي الإسلامي، وإن كانوا في المیدان التربوي العلمي والأخلاقي لهم فیها ید طولی.

ولكن السید الشهید الصدر رحمه الله كان استعداده في میدان التحرك الإسلامي نشطاً وفاعلاً إلى درجة الوضوح على أرض الواقع، بالإضافة إلى الجانب المعرفي الوهّاج ورغم العواصف الهوجاء التي هزت البلاد، وكادت تطوح بالوطن وشعبه، وعلى مختلف قسوتها وشدة عذاباتها، من العهد القاسمي حتى العهد الصدامي ۔ وهو من أبرز ضحایا هذه الفترة المؤلمة ۔ فقد كان رحمه الله قوة شاخصة ملهمة التفّت حولها الجماهیر المؤمنة بقضیتها المقدسة وتحركها الثوري؛ لصد العدوان الفئوي والسلطوي والطائفي المنصبّ علیها جراء الإیمان بعقیدتها، والالتزام بمسیرتها الرائدة، بقیادة علمائها الغیاری، ومرجعیتها الدینیة الرشیدة، والوقوف بصمود وصبر وتضحیة أمام الطغیان الزاحف على الوطن وشعبه ومقدساته وحضارته.

ولست مبالغاً إذا قلت: إن حیاة السید الشهید كلها عطاء معرفي، وثروة فكریة منذ صباه وحتى شهادته، ولكنه العطاء المتمیز الذي أحست به الأمة، وعاشته بیقظة وزهو، ویمكن اختصاره في العقدین الأخیرین من عمره الثرّ الحي.

وعند تفحص ودراسة حركة الشهید الصدر خلال هذین العقدین یمكننا رسم ملامح لمحطتین رئیستین ممیزتین:

المحطة الأولی: تجلى فیها التحرك الناشط نحو بناء كیان حركي إسلامی، بدأ في 1958م وأخذ مجراه ومسیرته حتى كان وجوداً لامعاً في المجتمع العراقي، ومنه امتد إلى خارج الوطن لیصبح حقیقة على أرض الواقع في أكثر من بلاد عربیة وإسلامیة، ولازال یعیش في دنیاه العریضة رغم السواتر القمعیة القاسیة التي تحاول صد نموه وتقدمه.

المحطة الثانیة: التحرك نحو كیان مرجعي دیني بدأ من عام 1971، وتحدیداً بعد وفاة الإمام آیة الله العظمى السید محسن الحكیم، ورغم السلبیات المعوقة والقاسیة جداً لحركة المرجعیة العامة من قبل النظام الحاكم في بغداد، فإنها شقّت طریقها لتمتد إلى خارج العراق، وبسط نفوذها هنا وهناك، ولا زال إلى الیوم من یعتمدها ویسیر على هدى فتاواه الشرعیة.

ولا شك هناك تداخل بین المرحلتین، ولا یمكن الفصل بینهما لشدة التشابك بینهما، غیر أن ملامحهما مختلفة تماماً، كما وأن أسالیب التحرك فیهما كانت مختلفة؛ لما فیهما من الظروف الموضوعیة التي یدركها كل من عاش تحرك الشهید الصدر في المحطتین في أكثر فصولهما.

وحین طلبت مني (رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامیة في الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة) المشاركة في مؤتمرها العالمي للشهید الصدر، بمناسبة الذكرى العشرین لاستشهاده، كنت من أول المؤیدین لهذه الفكرة، والمستعجلین لتحقیقها بأسرع وقت؛ نظراً لقناعتي الشخصیة بأن السید الشهید الصدر من النوابغ الذین یعتز بهم العصر، وإذا كان حكام العراق الطغاة لم یحترموا هذه الشخصیة الفذة ۔ كما هي عادتهم مع الشخصیات العراقیة وغیر العراقیة العلمیة والمعرفیة والوطنیة ۔ فصفّوا من صفوا جسدیاً تخلصاً منهم، وبقوا یتحینون الفرصة للآخرین لینقضوا علیهم تصفیة وحقداً، فلیكن وفاؤنا لهم بقدر ما یستحقونه وأكثر من تجلیل واحترام تجسیداً بالتقدیر والتكریم.

الیوم ونحن نشارك في إحیاء هذا المؤتمر العالمي في ذكرى العشرین لاستشهاده، فهو اعتراف موثق، ووفاء جمیل، وتكریم صادق لشهید عظیم من شهداء الأمة الإسلامیة، اعتراف موثق لما أسداه من فكر وعمل للأمة الإسلامیة نحو عقیدتها تربویاً وأخلاقیاً، ووفاء للفیض الفكري والعطاء العملي نحو تثقیف الأمة، وتوجیهها للتحرك الدؤوب في مضمار العقیدة، والإیمان بتراثها الزاخر بالقیم، وتكریم لتلك الروح المقدسة التي ذبحت على مذبح الحریة في سبیل العلم والأمة والوطن.

وإذ أسهم في بحث متواضع بعنوان (نظریة الشهید الصدر في حریة الاختیار للنظام السیاسي للمجتمع الإسلامي) وأشد اهتمامي لإبراز جانب من أفكاره الأصلیة، والتي تعبر عن حاجة ملحة للأمة في مثل هذا العصر الزاخر بالوثبات الفكریة، والتشوّق الحار للمعرفة والحقیقة، والتطلعات الجهادیة في سبیل العقیدة، والصحوة الإسلامیة الرائعة، أرجو أن أكون موفقاً فیما توخّیت. وهو سبحانه الموفق للصواب.

د. السید محمد بحر العلوم

لندن: 8/1/2001

أمین عام معهد الدراسات العربیة والإسلامیة ۔ لندن

 

أولاً _ مفهوم الحریة عند السید الشهید الصدر

حین نحاول الحدیث عن موضوع ما لابد من تحدید مفهومه أولاً لیكون مدخلاً للبحث، ولیتضح ما یترتب علیه:

الحریة تقابل العبودیة

(الحریة) بمعناها الواسع تقابل (العبودیة) كما أشار إلى ذلك الإمام علي عليه السلام في قوله:

(أیها الناس إن آدم لم یلد عبداً ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار)[1].

وقال عليه السلام أیضاً:

(لا تكونن عبد غیرك فقد جعلك الله سبحانه حراً)[2].

وفي ضوء ما تقدم وصفها الشهید السید محمد باقر الصدر:

بأن الحریة تعبیر أصیل عن كرامة الإنسانیة، وأنها تقدّر بمعیار ذاتي، وتضفي علیها قیمة معنویة وخلقیة أصیلة، بوصفها المظهر الجوهري للكرامة، وتحقیق الذات، الذین لا یعود للحیاة بدونهما أي معنی[3].

الحریة تنقسم إلى طبیعیة واجتماعیة

وفي هذا الاتجاه قسم الشهید الصدر الحریة إلى قسمین، هما:

الحریة الطبیعیة: هي الحریة الممنوحة من قبل الطبیعة نفسها، وهي عنصر جوهري في كیان الإنسان، وظاهرة أساسیة تشترك فیها الكائنات الحیة بدرجات مختلفة، تبعاً لمدى حیویتها. وكان نصیب الإنسان منها أوفر من نصیب أي كائن آخر، وكلما زاد حظ الكائن من الحیاة عظم نصیبه من الحریة الطبیعیة)[4].

ویرى الشهید الصدر أن هذه الحریة الطبیعیة التي یتمتع بها الإنسان، هي التي تعتبر بحق إحدى المقومات الجوهریة للإنسان؛ لأنه تعبیر عن الطاقة الحیویة فیها، فالإنسانیة بدون هذه الحریة لفظ بدون معنی؛ لأنها منحة الله تعالى للإنسان[5].

الحریة الاجتماعیة: وهي التي یكتسبها الفرد من المجتمع، لا من الطبیعة، وتتصل بالوجود الاجتماعي للإنسان، وتدخل ضمن نطاق الدراسات المذهبیة والاجتماعیة.

الحریة الاجتماعیة تنقسم إلى جوهریة وشكلیة

وعند تحلیل مفهوم الحریة الاجتماعیة یرى الشهید الصدر أنها تحتوي على نوعین:

1. الحریة الاجتماعیة الجوهریة: وهي القدرة التي یكسبها الإنسان من المجتمع على القیام بفعل شيء معین، وتعني هذه القدرة أن المجتمع یوفر للفرد كل الوسائل والشروط التي یتطلبها القیام بذلك الفعل.

ویضرب الشهید الصدر مثلاً لذلك یقول: إذا كفل المجتمع أن یملك الإنسان ثمن سلعة معینة ووفر تلك السلعة في السوق، ولم یسمح لأي شخص آخر بالحصول على حق احتكاري في شراء السلعة، عندئذ یكون الفرد حراً في شراء السلعة؛ لأنه یتمتع ذلك الفرد بكل الشروط التي یتوقف علیها شراء تلك السلعة، أما إذا لم یوفر عرض السلعة في السوق أو یمنح لأخر وحده الحق في شرائها فلیس هناك في الواقع حریة جوهریة، أو قدرة حقیقیة على الشراء.

2. الحریة الاجتماعیة الشكلیة: فهي لا تتطلب كل ذلك، بل قد یكون الفعل مستحیلاً بالنسبة إلى الفرد، كشراء السلعة بالنسبة إلى من لا یملك ثمنها، ولكنه بالرغم من ذلك یعتبر حراً اجتماعیاً من الناحیة الشكلیة وإن لم یكن لهذه الحریة الشكلیة أي محتوى حقیقي؛ لأن الحریة الشكلیة في الشراء لا تعني القدرة على الشراء فعلاً[6].

الفرق بین الحریتین: الطبیعیة والاجتماعیة

والفرق بین الحریتین: الطبیعیة والاجتماعیة كبیر، فإن:

الأولى ۔ الحریة الطبیعیة ۔ من صنع الله ومنحته للإنسان، وهي مقوم جوهري للوجود الإنساني.

والثانیة ۔ الحریة الاجتماعیة ۔ قدرة یكتسبها الإنسان من المجتمع على القیام بفعل شيء معین.

وبهذا فالثانیة مسألة اجتماعیة یجب أن تدرس مدى كفاءتها لبناء مجتمع سعید، وانسجامها مع القیم الخُلقیة التي نؤمن بها[7].

ویختلف المعنیان للحریة ۔ الطبیعیة والاجتماعیة، أو حسب المنظور الإسلامي والغربي ۔ في ضوء ما تقدم.

تعریف للشهید الصدر یجمع المعنیین الإسلامي والغربي

ویعرض الشهید الصدر تعریفاً أراد منه المعني العام للحریة. وهو بذلك یجمع بین المعنى الإسلامي والحضارة الغربیة، ومفاده بإیجاز:

(نفي سیطرة الغیر)[8] وهذا التعریف یقصد به المعنى العام للحریة الذي أشار إلیه الإمام علي عليه السلام وهو الذي تلتقي فیه الحضارتان الإسلامیة والغربیة وإن اختلف إطاره وقاعدته الفكریة في كل منهما[9].

مفهوم الحریة تلتقي عندها مشاعر الناس جمیعاً

ویرى الشهید الصدر أن (مفهوم الحریة من تلك المفاهیم التي تلتقي عندها مشاعر الناس جمیعاً، وهذه الصفة العاطفیة التي تربط الإنسان بالحریة لیست ظاهرة حدیثة في تاریخ الإنسانیة، ولا من نتائج الكیانات الحضاریة التي یعیشها الإنسان الرأسمالي والاشتراكي الیوم، وإذا استغلت بعض الحضارات الحدیثة عاطفة الإنسان تجاه الحریة إلى أبعد حدود الاستغلال، فإنما تعبر هذه الصلة العاطفیة عن عاطفة أصیلة في النفس البشریة تنبع من كل ثنایا التاریخ…) [10].

الحریة والإرادة

والحریة هي الإرادة (فالإنسان مجهز ضمن تركیبه العضوي والنفس بالإرادة، وهو لذلك یحب الحریة ویهواها؛ لأنها تعبیر عملي عن امتلاكه لإرادته، وإمكان استخدامها لمصالحه، وكما یسوء الإنسان أن یعطل أي جهاز من أجهزته عن العمل، یسوء بطبیعة الحال أن یشل جهازه الإداري بانتزاع الحریة منه)[11].

خطر الحریة المطلقة على الإنسان

و آمن الإنسان منذ البدء بأن الحریة المطلقة لا یمكن أن توفر للفرد الاعتیادي الذي یعیش ضمن مجتمع مترابط؛ لأن الحریة المطلقة لكل فرد في المجتمع تصطدم بحریات الآخرین، وبالتالي یستقطب التناقض في الجهاز الاجتماعي حتى یتفسخ، ولكي یحتفظ كل فرد بنصیب من حریته بعیداً عن تدخلات الآخرین لابد أن یتنازل عن شيء منها، وینعكس هذا التنازل على الصعید الاجتماعي في القوانین التي تُسن لتنظیم المجتمع لضبط تصرفاته[12].

ولهذا یرى الشهید الصدر أن فكرة الحریة المطلقة لا تعدو الخیال؛ لما فیها من مشاكل قد تعرض حیاة الآخرین في المجتمع الإنساني إلى مخاطر أو على استغلال دكتاتوري ینعكس على سلوك الأفراد أو الجماعات[13].

وفي ضوء ما تقدم یرى الشهید الصدر أن موقف الإسلام من الحریة یرتكز على حقیقتین: الأولى (رفض سیطرة الغیر) والثانیة (تحریر الإنسان من سلطة الآخرین) هذا من جهة. ومن جهة أخرى ضرورة إیمانه الخالص بالعبودة له، ولا یمكن الفصل بین هاتین الحقیقتین في استلهام معنى الحریة[14].

القاعدة الأساسیة للحریة في الإسلام

إن القاعدة الأساسیة للحریة في الإسلام هي التوحید والإیمان بالعبودیة المخلصة لله، الذي تتحطم بین یدیه كل القوى الوثنیة التي هدرت كرامة الإنسان على مر التاریخ، <إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ عِبٰادٌ أَمْثٰالُكُمْ>[15]، والله سبحانه خلق الإنسان حراً، ولكن ضمن حدود وقیم وضوابط تحفظ الفرد والجماعات في مجتمع إنساني كریم.

فالحریة التي ترتبط بقیم الإنسان الإیمانیة التي حددها له خالقه العظیم، وهي التحرر من كل الأصنام والقیود المصطنعة، وبین العبودیة المخلصة لله، هي الحریة الكاملة.

والحریة التي تعطي الفرد أو الجماعات مجالاً واسعاً في ممارسة الحریة قد تخرج عن الطور الأخلاقي، وعن القیم المطلوب توافرها في المجتمع من أجل البناء التربوي للإنسان، وخروجه على المعاییر التربویة مما یؤدي إلى تفسخ الفرد، وتأثیره الفاسد على مجتمعه فهي حریة فاسدة.

فالإنسان الذي یعیش الحضارة الغربیة واجه ثورة تتبنى الفكر المادي، وهي من صنع الإنسان المرتكز على الرصید العاطفي، والتحرر من كل القیود والضوابط الأخلاقیة الروحیة، فكان من الطبیعي أن تذوب كل القواعد الخلقیة والقیم والمثل التي كانت تحدّ من سلوك الإنسان، وتخفف من غلوائه؛ لأن القیم الأخلاقیة مرتبطة بالدین في حیاة الإنسانیة كلها، فإذا فقدت رصیدها الدیني الذي یمدها بالقیمة الحقیقیة، ویربطها بعالم الغیب، وعالم الجزاء أصبحت خواء وضریبة لا مبرر لها[16].

وبناء على هذا الرأي فلنا أن نتسائل كیف نفسر وجود ضعف أخلاقي كبیر عند شرائح من المتدینین، وعلى العكس وجود خلق إنساني وعملي جید جداً عن الكثیر من غیر المتدینین، خذ مثلاً الصدق والصراحة ورعایة الفقراء والبُعد عن الریاء وإتقان العمل؛ لذلك اعتقد أن هذا المفهوم یحتاج إلى نوع من النقاش.

معیار الاختلاف بین الحریة في الإسلام والحضارة الغربیة

ویرى الشهید الصدر:

أن (الإسلام والحضارة الغربیة وإن مارسا معاً عملیة تحریر الإنسان، ولكنهما یختلفان في القاعدة الفكریة التي یقوم علیها هذا التحرر. فالإسلام یقیم تحریر الإنسان على أساس العبودیة لله والإیمان به. والحضارة الغربیة تقیمها على الإیمان بالإنسان وحده، وسیطرته على نفسه لوجود الإنسان. بعد أن شكت في كل القیم والحقائق وراء الأبعاد المادیة)[17].

ومن هنا (فإن مرد فكرة الحریة في الإسلام إلى عقیدة إیمانیة موحدة بالله، ویقین ثابت بسیطرته على الكون، وكلما تأصّل هذا الیقین في نفس المسلم، وتركزت نظرته التوحیدیة إلى الله، تسامت نفسه وتعمق إحساسه بكرامته وحریته، وتصلبت إرادته في وجه الطغیان والغي، واستعباد الآخرین <وَ الَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ>[18].

وعلى العكس من ذلك ففكرة الحریة في الحضارة الغربیة، فإنها كانت ولیدة الشك لا الیقین، ونتیجة القلق والثورة لا الیقین والاستقرار[19].

ولماذا لا تكون هذه الفكرة في الغرب ۔ كما یعرضها الشهید الصدر ۔ راجعة إلى ارتكاز الإیمان في النفس الإنسانیة من جهة، وإلى التجربة العملیة، مضافاً إلى ما ذكره السید قدس الله نفسه الزكیة.

المحتوى الداخلي للإنسان أساس حركة التاریخ

للحریة الاجتماعیة والفكریة دور أساس في المجتمع الإنساني؛ لأنه یتعلق بحركته الذاتیة، ویتبع مدى إمكانیة استیعاب الإنسان لدوره في حركة التاریخ، ویبتني هذا الإمكان على المحتوى الداخلي للإنسان، وهو الأساس لحركة التاریخ، وهذا لا ینفي العوامل الخارجیة الأخرى المؤثرة على حركة الإنسان الذاتیة، فإن دور هذه العوامل یكون بمقدار ما تؤثر على محتواه الداخلي، أي تصوره المستقبلي للأمور وإرادته التحرك نحو هذا التصور.

ویوضح الشهید الصدر ذلك بقوله

إن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاریخ، التي تتمیز عن كل الحركات الأخرى بأنها حركة غائیة لا سببیة فقط، غائیة متطلعة إلى المستقبل. فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاریخیة، والمستقبل معدوم فعلاً، وإنما یحرك من خلال الوجود الذهني، الذي هو الحافز والمحرك لمدار التاریخ.

هذا الوجود الذهني یعبّر بجانب منه عن الفكر، وفي جانب آخر منه عن الإرادة، وبالامتزاج بین الفكر والإرادة تتحقق فاعلیة المستقبل ومحركیته للنشاط التاریخي على الساحة الاجتماعیة[20].

وعلى رغم أهمیة المحتوى الداخلي للإنسان في حركة التاریخ لدى الشهید الصدر فإنه لا ینفي تأثیر العوامل الخارجیة الأخرى في صیاغة المحتوى الداخلي، إضافة لذلك فإن الشهید الصدر یرى بأن هناك محتوى داخلي لإنسان المجتمع، الذي هو أساس في حركة التاریخ على مستوى تغییر المجتمع، وعندما یتحدث عن ظواهر تصیب المجتمعات فإنه لا یقصد الفرد، وإنما المجتمع ككیان عام یكلّ أفراد لبناته المفردة.

أما عند استعراضه لقانون التغییر فإنه یرى أن البناء الاجتماعي العلوي ۔ بكل ما یضم من علاقات وأنظمة وأفكار وتفاصیل ۔ مرتبط بهذه القاعدة یكون تغیره وتطوره تبعاً لها، فإذا تغیر الأساس تغیر البناء العلوي، وإذا بقي الأساس ثابتاً بقي البناء العلوي ثابتاً، مستنداً للآیة الكریمة: <إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ>[21].

وهذه القاعدة القرآنیة لیست مجردة، وإنما مرتبطة بقواعد قرآنیة أخری، مثل قاعدة <إِنَّ الْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهٰا>[22] وقاعدة خوض الصراع لتحقیق النصر: (أَلاٰ إِنَّ نَصْرَ اللّٰهِ قَرِيبٌ)[23] وغیرها، فهذه القواعد تتفاعل بمجملها، ونتاج التفاعل یكون ظاهر المجتمع.

عملیة بناء الإنسان تعتمد الجهاد الأكبر والأصغر

إن الفكر الإسلامي المستمدّ ینبوعه من الكتاب الكریم (یؤمن بأن العملیتین: عملیة صنع الإنسان لمحتواه الداخلي، الفكري والإرادي، وأطلق علیه (الجهاد الأكبر) وعملیة البناء الخارجي وأطلق علیه في حالة توجهه توجهاً صالحاً (الجهاد الأصغر) یجب أن لا ینفكان ولا ینفصلان، ولو حصل خلاف ذلك كان البناء مهزوزاً متداعیاً. وهو حین ربط بین الجهادین: الأصغر والأكبر، على اعتبار أن الجهاد الأصغر إذا فصل عن الجهاد الأكبر فقد محتواه ومضمونه، وقدرته على التغییر الحقیقي على الساحة التاریخیة والاجتماعیة)[24].

وحیث إن الإنسان مفتاح حركة التاریخ، فلولاه لما كانت الحركة، أو لا حركة. فإذن هو الأساس لهذه الحركة التي تمثل الحافز والمحرك لمدار حركة التاریخ.

المثل الأعلى لبناء الإنسان لیس من نتاج الإنسان

وقد تقدم أن التاریخ یتحرك من خلال البناء الداخلي للإنسان، الذي یصنع له غایاته التي تُبنى على أساس المثل الأعلى الذي تنبثق عنه تلك الغایات، فلكل مجتمع مثل أعلی، ولكل مثل أعلى مسار ومسیرة، وهذا المثل الأعلی، هو الله سبحانه وتعالی، هو الذي یحدد في تلك المسیرة معالم الطریق، بواسطة دینه الإسلامي، المنتزع مبادئه من كتاب الله والسنة النبویة <وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخٰاسِرِينَ>[25].

فإن (هذا المثل الأعلى لیس من نتاج الإنسان، ولا إفرازاً ذهنیاً له، بل هو مثل أعلى له واقع عیني، هو موجود مطلق في الخارج، له قدرته المطلقة، وله علمه المطلق، وله عدله المطلق. هذا الموجود العیني یكون مثلاً أعلی؛ لأنه مطلق، لكن الإنسان حینما یرید أن یستلهم من هذا النور، فهو لا یمسك إلا بجزمة منه، إلا أنه یمیز بین ما یمسك به وبین مثله الأعلی، فما هو خارج حدود ذهنه هو المطلق، والمقید ما هو وجود ذهني لدیه)[26].

هذا ما یذهب إلیه الشهید الصدر، ولكننا نرى أن الإنسان لیس المفتاح الوحید، فهناك مفاتیح أخری، وأوضح مثال أن المال یحرك معظم الناس، والعادات والتقالید تحركهم كذلك.. وقد تصل الحالة عند الكثیرین هو انعدام الإرادة، أو أنه منعدم الإرادة، ویظن بنفسه أنه حر الإرادة، وعلى أي حال فالمفهوم یحتاج إلى مناقشة وإیضاح أكثر.

الإنسان في اختیاره النظام السیاسي في المجتمع الإسلامي یعتمد الحریة والمساواة

وإن الإنسان في حالة اختیاره للنظام السیاسي للمجتمع الإسلامي یعتمد على ركنین أساسیین، هما: حریة الاختیار، والإیمان بمساواة أفراد المجتمع في تحمل أعباء الأمانة الإلهیة.

ولا شك أن الحریة والمساواة هما من القضایا الهامة التي تمس صلب الحیاة العامة، الاجتماعیة منها وغیرها، وهي من أهم مكتسبات الحضارة الإنسانیة، وأنه لا تقوم قائمة لمجتمع متحضّر وتقدمي في غیبة أحدهما أو كلیهما[27].

والمجتمع الذي لا یقوم على أساس من الحریة والمساواة لا یعتبر مجتمعاً متحضّراً، ولكن لابد وأن تقید هذه الحریة بقیم المجتمع الإنساني الأصیل الذي هیأه الله سبحانه لعباده؛ لیقوم على أسس من العدالة والمساواة والمحبة.

ومن هنا لم یعد الحدیث عن الحریة في النظم الاجتماعیة التي تمس الأفراد والجماعات ترفاً فكریاً یدور في أوساط الندوات والحوارات، إنما هو موضوع یخص صمیم حیاة الأفراد والجماعات، ویؤثر على تقدمها وتخلفها كما ینعكس على حیویتها أو سلبیتها[28].

حریة الاختیار والإیمان بمساواة أفراد المجتمع توأمان لأصول الإنسانیة

ولزیادة التوضیح یلاحظ الآتي:

أولاً ۔ أن حریة الاختیار مبدأ من أصول الإنسانیة الذي أودعه الله سبحانه عباده في أهم المبادئ، وهو المعتقد الإلهي <لاٰ إِكْرٰاهَ فِي الدِّينِ>[29]، فسّر حریته بوصفه إنساناً قادراً على التمییز بین الصحیح والخطأ، وبین الحق والباطل <إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً> [30] فهو في الدنیا حر الاختیار، وعلى اختیاره یترتب جزاؤه أو عقابه، وهذا ما یحدد الحریة الشخصیة.

وإلى ذلك یشیر الشهید الصدر:

(بأن الإسلام یهتم قبل كل شيء بتحریر السلوك العملي للفرد من عبودیة الشهوات أو عبودیة الأصنام، ویسمح بالتصرف للفرد كما یشاء، على أن لا یخرج عن حدود الله..)[31].

ثانیاً ۔ وأن الإیمان بمساواة أفراد المجتمع في تحمل أعباء الأمانة أمر أساسي في مبدأ الصدق والحقیقة، ولذلك یشیر الشهید الصدر: بأن تحریر الإسلام للإنسان في المجال السیاسي إنما یقوم على أساس الإیمان بمساواة أفراد المجتمع في تحمل أعباء الأمانة الإلهیة، وتضامنهم في تطبیق أحكام الله تعالی، (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعیته).

فالمساواة السیاسیة في الإسلام تتخذ شكلاً یختلف عن شكلها الغربي، فهي مساواة في تحمل الأمانة، ولیست مساواة في الحكم، ومن نتائج هذه المساواة تحریر الإنسان في الحقل السیاسي من سیطرة الآخرین، والقضاء على ألوان الاستغلال السیاسي، وأشكال الحكم الفردي والطبقي.

ولذلك نجد القرآن الكریم شجب حكم فرعون، والمجتمع الذي كان یحكمه؛ لأنه یمثل سیطرة الفرد في الحكم، وسیطرة طبقة على سائر الطبقات، <إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاٰ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهٰا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طٰائِفَةً مِنْهُمْ>[32] فكل تركیب سیاسي یسمح لفرد أو لطبقة باستضعاف الأفراد أو الطبقات الأخرى والتحكم فیها لا یقرّه الإسلام؛ لأنه ینافي المساواة بین أفراد المجتمع في تحمل الأمانة على صعید العبودیة المخلصة لله تعالی[33].

والملاحظ أن السید الشهید فرق بین الأمانة والحكم في حین أن الحكم من مصادیق الأمانة.

الحریة والاختیار للفرد من مبادئ الإسلام

وعلى كل حال فالإسلام منح الفرد حریة الاختیار في حدود المصلحة العامة التي تبني المجتمع الإنساني، على أن تنبثق هذه الحریة الشخصیة من مبادئ الإسلام التي تعترف بتعدد وجهات النظر، وقد تختلف. ولكن لا على أن تسلب حق الآخرین في وجهات النظر، والسیطرة على إرادته، ولكن لا للفرد ولا للجموع أن یستأثر من دون حكم الله، وتوجیه الحیاة الاجتماعیة ووضع منهاجها ودساتیرها.

ثانیاً _ ملامح من تصورات الشهید الصدر عن النظام السیاسي للمجتمع الإسلامي

ومن خلال ما تقدم نستطیع أن نقدم تصورات أساسیة معبرة عن نظرة الشهید الصدر للنظام السیاسي في مجتمع إسلامي، وهي بإیجاز تدور في أطر ثلاثة:

الأول: ما یتعلق بطبیعة الحكم

توفیر حكم صالح شریف یقوم على أساس الإسلام، ومبادئه الفذة.

أن یكون (الولي الفقیه) الجامع لشرائط الإمانة العامة، مشرفاً ورقیباً على الأمة ضماناً لمسیرة الدولة الإسلامیة من الانحراف أو التوجه الخاطئ.

إعطاء الشعب الحریة في ممارسة حقیقیة لإجراء انتخابات حرة لمجلس یمثل الأمة تمثیلاً صادقاً یكون أساساً للحكم.

أن یجري استفتاء شعبي، تجمّد عنه كل الأجهزة القمعیة لإبراز وجهه الحقیقي في اختیار نوعیة الحكم.. [34].

الثاني: المرجعیة الدینیة (الشهید) ضمانة لمسیرة النظام

والمرجعیة الدینیة هي القوة المشرفة والرقیب على الأمة والذي أطلق علیها اسم (الشهید) فهو إما أن یكون:

ألف ۔ معصوماً معیناً من قبل الله تعالى بالصفات والخصائص النبویة والإمامة.

ب ۔ أو معیناً من قبل الأمة بالشخص؛ إذ تقع على الأمة مسؤولیة الاختیار الواعي له، وتكون هذه المرجعیة امتداداً للنبوة والإمامة على هذا الخط[35].

ویرى الشهید الصدر: أن إشراف (مرجع فقیه) تتوفر فیه مؤهلات المرجعیة الدینیة العامة، والمسمى بـ(الولي الفقیه) والممثل لدور (الشهادة) في الدولة الإسلامیة، ضماناً لمسیرة الدولة الإسلامیة من الانحراف أو التوجه الخاطئ.

وتقتصر مسؤولیة الشهید على الآتي:

أن یحافظ المرجع على الشریعة والرسالة، ویرد عنها كید الكائدین والفاسقین.

یكون المرجع في بیان أحكام الإسلام ومفاهیمه، واجتهاده هو المقیاس الموضوعي للأمة من الناحیة الإسلامیة، وتمتد مرجعیته في هذا المجال إلى تحدید الطابع الإسلامي، لا العناصر الثابتة من التشریع في المجتمع الإسلامي فقط. بل للعناصر المتحركة الزمنیة أیضاً باعتباره هو الممثل الأعلى للأیدیولوجیة الإسلامیة.

أن یكون مشرفاً ورقیباً على الأمة، وتفرض هذه الرقابة علیه أن یتدخل لإعادة الأمور إلى نصابها إذا انحرفت عن طریقها الصحیح إسلامیاً، أو تزعزعت المبادئ العامة لخلافة الإنسان على الأرض[36].

أن یكون الممثل والقائد الأعلى للدولة وللجیش. والذي یبتّ في شرعیة القوانین، وملء منطقة الفراغ.

الثالث _ القوة المنفّذة (الخلافة)

والقوة التنفیذیة: والمقصود بها الأمة، أو ما یسمى بـ (خط الخلافة) وهو ما یقابل خط (الشهید) وإن إسناد الحكم إلى الأمة باعتبارها المسؤولة بعد النبي صل الله عليه و آله والمعصومین عليهم السلام، لها الحریة في ممارسة حقها بتحمل المسؤولیة عند انتقال (خط الخلافة) لها:

ألف ۔ لتمارس القیادة السیاسیة والاجتماعیة في الأمة بتطبیق أحكام الله، وعلى أساس الركائز للاستخلاف الرباني.

ب ۔ كما علیها أن تمارس دورها في الإطار التشریعي، استناداً للقاعدتین القرآنیتین التالیتین:

الشوری، استناداً للآیة الكریمة <وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ>[37]. وهذا النص یعطي للأمة صلاحیة ممارسة أمورها عن طریق الشوری، ما لم یرد نص خاص على خلاف ذلك.

ولایة الأمة على نفسها، استناداً للآیة الشریفة <وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..>[38]. وهذا النص یتحدث عن الولایة، وأن كل مؤمن ولي الآخرین.

والمقصود بالولایة هنا تولي أموره بقرینة تفریع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علیه، والنص ظاهر في سریان الولایة بین كل المؤمنین والمؤمنات بصورة متساویة[39].

ویستفید الشهید الصدر من القاعدتین القرآنیتین المتقدمتین مبدأین مهمین، هما:

ألف ۔ الأخذ بمبدأ الشوری.

ب ۔ وبرأي الأكثریة عند الاختلاف[40].

أهم مسؤولیة القوة التنفیذیة

حین تنتخب الأمة مباشرة رئیس السلطة التنفیذیة بعد ترشیحه من قبل المرجعیة الدینیة یتولى الرئیس المنتخب بعد ذلك بنفسه:

تكوین أعضاء حكومته، لغرض ممارسة إدارة شؤون الدولة، بعد إقرارهم من قبل مجلس الأمة، أو مجلس أهل الحل والعقد المنتخب من قبل المرجعیة.

تنفیذ ما یقرره مجلس أهل الحل والعقد من قوانین تقتضیها مسیرة الحكم[41].

إن الشهید الصدر لم یحاول في تحدید مهام سلطة (القوة التنفیذیة) أن یدخل في التفاصیل؛ لأن ذلك یعود لإمكاناتها السلطویة، ومدى ممارستها القیادة السیاسیة والاجتماعیة في المجتمع، والظروف الموضوعیة التي ینشأ فیها النظام السیاسي.

ثالثاً _ الأمة بین مصدر السیادة ومحط (الخلافة)

إن النظریة الإسلامیة كما شرحها الشهید الصدر طرحت شكلاً للحكم یحتوي على النقاط في النظام الدیمقراطي، مع فوارق تزید الشكل موضوعیة، وضماناً لعدم الانحراف:

ألف ۔ فالأمة هي مصدر السیادة في النظام الدیمقراطي، وفي النظام الإسلامي الأمة محط الخلافة ومحط المسؤولیة أمام الله تعالی.

ب ۔ والدستور كله من صنع الإنسان في النظام الدیمقراطي ویمثل ۔ على أفضل تقدیر وفي لحظات مثالیة ۔ تحكم الأكثریة في الأقلیة، بینما تمثل الأجزاء الثابتة من الدستور شریعة الله تعالى وعدالته التي تتضمن موضوعیة الدستور وخبرته.

ج ۔ وكأن التطبیق العملي للحیاة الإسلامیة دائماً یفترض الدولة ممثلة في رئیس یستمد شرعیة تمثیله من الدستور ۔ النص الشرعي ۔ أو من الأمة مباشرة ۔ الانتخاب المباشر ۔ أو منهما معاً[42].

د ۔ والإیجابیة في النظریة الإسلامیة هي أن إسناد الحكم إلى الأمة باعتبارها محط الخلافة، ومحط المسؤولیة أمام الله في النظام الإسلامي.

إن هذا المبدأ یمنع من قیام الحكم الدكتاتوري الاستبدادي، ویشكل ضمانات للحكم الدور الذي یمثله الولي الفقیه في مراقبة الأمة، وتعدیل مسیرتها عند الخطأ والانحراف. وهو أمر سیبقى مطلوباً ما دامت الأمة لا تتمتع بقیادة الإمام المعصوم، أو أنها لم تصل إلى مرحلة العصمة (في رؤیتها النوعیة) وبهذا التصور یمكن الزعم أن الإمام الصدر تنبأ بحصوله في یوم ما في المستقبل[43].

ومن هنا یرفض الإسلام مبدأ الفرض على الآخرین، ما دام شكل الحیاة الاجتماعیة ولونها وقوانینها یمس جمیع أفراد المجتمع مباشرة، فلابد للجمیع أن یشتركوا في عملیة البناء الاجتماعي بالشكل الذي یحلو لهم، ولیس لفرد أن یفرض على آخر ما لا یرتضیه، ویخضعه بالقوة لنظام لا یقبله[44].

الخاتمة

المبادئ العامة للنظریة السیاسیة عند السید الشهید الصدر رحمه الله

مما تقدم نرى أن الشهید الصدر قد وضع تصورات عامة مبدئیة للنظام السیاسي لمجتمع إسلامي معتبراً الأسس الهامة التي لابد من تثبیتها، هي:

1. الإیمان بالله سبحانه هو مصدر السلطات جمیعاً.

2. إیمان الشعب بالإسلام بوصفه الشریعة التي یجب أن تقام على أساسه الحیاة.

3. الإیمان بالمرجعیة الرشیدة بوصفها الزعامة التي تقود الشعب ۔ في أحلك ظروف ۔ للمبارزة حتى یتحطم الطاغوت ویتحقق النصر.

4. شعور الإنسان بكرامته وحقه في الحریة والمساواة والمساهمة في بناء المجتمع[45].

5. رفض الدكتاتوریة والإقرار للأمة بالحریة لاختیار نوعیة الحكم.

6. الإیمان بحق المساواة للأفراد والجماعات في ممارساتهم حقوقهم والتزاماتهم الدینیة والاجتماعیة والسیاسیة.

7. رفض جمیع المذاهب السیاسیة كالاشتراكیة والرأسمالیة والدیمقراطیة، وغیرها التي من صنع الإنسان.

8. اعتبار كل أنواع الضغط والإكراه في فرض الأري الفئوي والمنحرف على الأمة أمر ترفضه الشریعة والإنسانیة.

السید الشهید في مواجهة الاستبداد

وعلى هذا الأساس المبدئي للقیم الإنسانیة، والحریة الدینیة یرفض الشهید الصدر دكتاتوریة الأنظمة لشعوبها الحاكمة في العالم، وهذا ما برز من خلال نداءاته الثلاثة في مواجهة حامیة مع نظام الحكم في بغداد، وأكد على تحقیق النقاط الحیویة التي تقتضیها طبیعیة الحیاة الكریمة في ظل إنسانیة الإنسان لكافة شعوب العالم، وشعب العراق الأبي على الخصوص.

نداء إلى حكام العراق مطالباً بحریة الشعب العراقي

وقد وجه السید الشهید الصدر نداء للحاكمین والمسؤولین في بغداد موضحاً لهم أن حكمهم الفرعوني المفروض بقوة الحدید والنار على الشعب العراقي، وحرمانه من أبسط حقوقه وحریاته من ممارسة شعائره الدینیة والسیاسیة والاجتماعیة والوطنیة لا یمكن أن یستمر، ولا یمكن أن یعالج البقاء في السلطة دائماً بالقوة والقمع، فإن القوة ما كانت علاجاً حاسماً دائماً إلا للفراعنة والجبابرة، وأخیراً أسقطتهم الشعوب المتطلعة للحریة، والظلم لن یدوم وإن دام دمر.

وأضاف رحمه الله وإذا كانت السلطة ترید أن تعرف الوجه الحقیقي للشعب العراقي فلتجمّد أجهزتها القمعیة أسبوعاً واحداً فقط، ولتسمح للناس بأن یعبروا خلال أسبوع واحد عن آرائهم كما یریدون في نوعیة الحكم في بلد الحضارات، فسترى الواقع المكبوت لدى عامة الشعب بأن الدكتاتوریة مرفوضة جملة وتفصیلاً.

ومن أجل تحقیق هذه الأهداف طالب الشهید الصدر المسؤولین في الدول الدكتاتوریة، وبالخصوص نظام صدام ۔ أعتى نظام دكتاتوري في منطقة الشرق الأوسط ۔ بتوفیر الحریة للأمة كي تتمكن من ممارسة حقها الطبیعي في اختیار النظام الحاكم لها، فالطموح الجماهیري للحریة أقوى من الدكتاتوریة مهما تفرعنت، وقد دللت التجارب أن النصر النهائي للجماهیر، وتصاعد الاضطهاد یعبّر عن عمق إحساس الناس بضرورة الحصول على الحریة بغض النظر عن الانتماء الطائفي أو السیاسي من أجل بناء دولة حرة للجمیع.

كما طالب باسم كرامة الإنسان والقوى السیاسیة حكام بغداد:

١. بالإفراج عن المعتقلین بصورة تعسفیة، وإیقاف الاعتقالات الكیفیة التي تجري بصورة منفصلة عن القضاء.

٢. فسح المجال للشعب لیمارس بصورة حقیقیة حقه في توفیر شؤون البلاد، وذلك عن طریق إجراء انتخاب حر ینبثق عنه مجلس حر یمثل الأمة تمثیلاً صادقاً (تمثل فیه كل الشرائح الشعبیة)[46].

٣. رفض حملات الإكراه على الانتماء إلى الحزب الحاكم في بغداد، وادعاء السلطة الحاكمة بحجة حشد الطاقات الجماهیریة لإسناد فترة الانتقال، وبوجوب تجنید الشعب فیها لتقویم الحكم.

واعتبر رحمه الله أن هذا الادعاء باطل ومرفوض جملة وتفصیلاً، فإذا كانت فترة عشر سنین من الحكم لا تكفي لإیجاد الجو المناسب لكي یختار الشعب طریقة فأیة فترة ینتظرون حكام بغداد لإعادة الأمور إلى نصابها؟

المجد والخلود للسید الشهید الصدر

ودفع السید الشهید الصدر ضریبة إیمانه وعقیدته من أجل مطالبة نظام صدام الظالم بحریة شعبه العراقي، فقتل وذهب إلى ربه متوّجاً بالشهادة الحقة، والشرف كل الشرف أن یلتحق الإنسان الشهید بركب الأنبیاء والأوصیاء والمؤمنین الذین ناضلوا وجاهدوا واستشهدوا في سبیل رسالة الله الخالدة.

فسلام الله علیك یوم ولدت، ویوم قتلت في سبیل عقیدتك، ویوم تبعث حیاً لتنال الجزاء الأوفى في یوم لا ینفع فیه مال ولا بنون إلا من حمل جهاده في سبیل عقیدته على كفیه، وهو مخضب بدمه الطاهر.

<وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ>[47]

[1]. میزان الحكمة، محمدي ري شهري، ج2، ص 351.

[2]. م. ن.

[3]. اقتصادنا، الشهید الصدر، ص 264، دار التعارف للمطبوعات، بیروت 1991م.

[4]. م. ن، ص 265.

[5]. اقتصادنا، ص 266.

[6]. م. ن، ص 266 ۔ 269.

[7]. م. ن، ص 266 ۔ 267.

[8]. المدرسة الإسلامیة، الشهید الصدر، ص 101.

[9]. م. ن.

[10]. بحوث إسلامیة، الشهید الصدر، ص 43 ۔ 44، دار الزهراء للطباعة، بیروت 1980م.

[11]. م. ن، ص 44.

[12]. الحریة في القرآن، ص 44 ۔ 45، ضمن بحوث إسلامیة (اخترنا لك ۔ 1)، دار الزهراء للطباعة، بیروت.

[13]. م. ن، ص 45.

[14]. المدرسة الإسلامیة، ص 108 ۔ 109.

[15]. الأعراف: 194، وراجع الشهید الصدر ۔ بحوث إسلامیة، ص 109 ۔ 110.

[16]. المدرسة الإسلامیة، ص 104.

[17]. م. ن، ص 110، ولا أدري هل هذه القاعدة الفكریة مجرد ادعاء أم أنها ممارسة یؤكدها الواقع.

[18]. الشوری: 39.

[19]. م. ن، ص 110 ۔ 111.

[20]. السنن التاریخیة في القرآن، الشهید الصدر، ص 105.

[21]. الرعد: 11.

[22]. النمل: 34.

[23]. البقرة: 214.

[24]. السنن التاریخیة في القرآن، ص 106.

[25]. آل عمران: 85.

[26]. السنن التاریخیة في القرآن، ص 122.

[27]. في الحریة والمساواة، حازم البیلاوي، ص 79، دار الشروق، بیروت 1985م.

[28]. في الحریة والمساواة، ص 79 ۔ 80.

[29]. البقرة: 256.

[30]. الإنسان: 3.

[31]. الحریة في القرآن، بحوث إسلامیة، الشهید الصدر، ص 203.

[32]. القصص: 4.

[33]. المدرسة الإسلامیة، ص 124.

[34]. النقاط المركزیة المذكورة مستلّة من كتاب (الإسلام یقود الحیاة)، ص 20، ومن نداءاته الثلاثة المنشورة ضمن كتاب (الشاهد والشهید) لمؤلفه علي نجف، ص 128 ۔ 129 و132، إیران، طهران.

[35]. خلافة الإنسان وشهادة الأنبیاء، الشهید الصدر، ص 52 ۔ 53، مطبعة الخیام، قم 1399ق.

[36]. م. ن، ص 52.

[37]. الشوری: 38.

[38]. التوبة: 71.

[39]. خلافة الإنسان وشهادة الأنبیاء، ص 54.

[40]. م. ن.

[41]. م. ن، ص 53 ۔ 54.

[42]. الإسلام یقود الحیاة، ص 24، ضمن كتاب البنك اللاربوي في الإسلام، ص 24. المجموعة الكاملة لمؤلفات الشهید الصدر ۔ 12، دار التعارف للمطبوعات، بیروت 1990م.

[43]. راجع: الدولة الإسلامیة بین ولایة الفقیه وولایة الأمة، محمد عبدالجبار، بحث منشور في تجدید الفكر الإسلامي، ص 185 ۔ 199.

[44]. لزیادة الاطلاع یراجع الإسلام یقود الحیاة، ص 121 ۔ 124.

[45]. الإسلام یقود الحیاة، ص 17.

[46]. راجع: النداء الأول الصادر بتاریخ 20 رجب 1399ق، المطبوع ضمن كتاب (الشاهد والشهید) لمؤلفه الأستاذ علي نجف، ص 128 ۔ 129، إیران، طهران.

[47]. آل عمران: 169.