النداء الأخیر

(ذوبوا في الإمام الخمیني كما ذاب في الإسلام)

رباب الصدر

هذا نداؤه الأخیر ۔ الشهید السید محمد باقر الصدر ۔ یدعو فیه الأمة إلی التوحد عقلاً وقلباً ولساناً في الثورة الإسلامیة الإیرانیة وقائد الأمة الإمام الخمیني(رضوان الله علیه)، إنه النداء الذي قطع كل حلم غَرور بإمكانیة تبدیل أو تعدیل أو تغییر، وما كان لمجاهد في الله أن یبدّل أو یغیر وصولاً للشهادة أو النصر، فكان نداؤه مفتاح الشهادة.

وأرغب أن أقف عند هذه الدعوة دون أن أتعدّاها، ولیس لي القدرة علی هذا، وما كنت لأتعدی حدودي، فبحره واسع زخّار، ولججه عمیقة الأغوار، ولیس لي منه إلا أن أتبرد بحبیبات رذاذ یحملها نسیمه إلی من یرتادون ساحله، كما لا أتعدی حدودي وفیكم الأعلام الذین ما استعصی علیهم ظهر، وما تقطعت بهم أعماق. وإن كنت قد تجرأت أن أكون بینكم، فلشكرٍ أعلنه استجابة للرابطة الثقافیة العالمیة المنظمة لمؤتمر الشهید السید محمد باقر الصدر، وعرفانٍ أبدیه لمن دعاني، وما كان إلا أن أجیتُ لما فیه لله رضا من ناحیة، ومن ناحیة أخری فخیاراً لموقف أتشبه فیه بكرام الأمة علی مدی التاریخ ممن اقتدوا بالأئمة(ع).

أقف من ندائه(رضوان الله علیه) عند (ذوبوا في الإمام كما..) ففیها روح الإسراء من موطن تأسیس الإسلام إلی منطلق انتشاره، وبین مكة والقدس تلاحُم الجسد والروح لیتم العروج بعیداً عن تنظیرات حول حالة الإسراء والعروج إن كان جسمانیاً أم روحیاً، ولا إمكانیة لعروج المادة دون أن تذوب الروح فیها عشقاً في المطلق، في سفر دائم بین الخلق وبین الحق، وكأني بالإسراء من المسجد الحرام مركز التأسیس إلی المسجد الأقصی رمز الانتشار لدین الله لا تكتمل شروطه إلا بالارتفاع لذي المعارج سبحانه.

وفي (ذوبوا في الإمام كما..) لمعات من شرر معول النبي(ص) وهو یكسر الصلد في حفر الخندق، فینكشف الآتي بانهیار عرش كسری وقیصر، وإن كان الذوبان في الإسلام قد هدم عرش كسری فلن یكون بعیداً یوم قیصر.

وفیها مبیت الإمام علي(ع) لیلة الهجرة في فراش النبي(ص)، وما كان المبیت عن شجاعة إنسان بقدر ما هو ذوبان في معنی الهجرة إلی الله، ولا هم إن كان وقع الإنسان علی الموت، أو وقع الموت علی الإنسان، فالذوبان لیس فیه وقوع ولا إیقاع، بل فیه تحول وحالات إلی اتحاد الروح مع المراد من المعشوق أن یكون علیه إنسان العشق الإلهي.

وفي (ذوبوا في الإمام كما..) شهود لمفاصل وقائع الفصل بین الحق والباطل علی ید الإمام علي(ع)، وقد ورد في النهج (لما أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: ودِدتُ أن أخي فلاناً كان شاهدنا لیری ما نصرك الله به علی أعدائك، فقال(ع): أهَوی أخیك معنا؟ قال: نعم. قال: فقد شهدنا ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سیرعف بهم الزمان ویقوی الإیمان).

وبهذا فالذوبان كما ذاب في الإسلام هو شهود الأقوام التي تقلبت في الأصلاب والأرحام، فرعف بهم الزمان وقوي الإیمان فأظفر الله المؤمنین بالثورة، فشهدوا عسكر الإمام علي(ع).

وفیها لَحَق بعسكر الحسین(ع)، جاء في زمان آخر غیر الزمان الذي استشهد فیه، جاء لبلوغ فتح لم یدركه زمانه، وإنما لحقت به أقوام جرت في عروقهم دماء كربلاء فتداركوا المستشهدین بین یدیه؛ لیتقوم الزمان الذي تخاذل فیه من لم یلحق به.

(ذوبوا في الإمام كما..) ولیس لهذه الـ(كما) حصر في الشواهد والمتراکمات في تاریخ الجهاد في الله، ولا إمكانیة للحاق بسرعة المتداعیات، فهي تلك العین التي یشرب بها عباد الله، فتمتلك علیهم آفاقهم بما تطهرت وتطیبت، فینهضون لأمر هو من طُهر وطیب یكشحون العتمة ویشقّون الظلمة، یفجرونها تفجیراً، تجري عبر جداول الزمن تروي الظامئین وتشبع الجائعین. تؤمّن الخائفین، وتقوّي المستضعفین، تضع ملوكاً وترفع آخرین، إلی أن یرث الأرض العباد الصالحون.

من هنا كانت (ذوبوا.. كما..) من نسیج (كن) و(إقرأ) و(قم) و(أنذر) و(بلّغ) تحفر لنفسها الأخادید، تسیل عبرها هادرة تارة، هادئة طوراً، ولا مصبّ لها سوی (الحوض)، وإن كان لهذاه الأفعال أن تحدد لها أزمنة، فماضیها امتداد التفاعلات والإشارات، وحاضرها جُزَيء من جُزيئات الثواني لیتحول ماضیاً، وأمامنا المستقبل، التحدي، المنتصب الوحید المواجه لنا؛ إذ تخلّ بنا جزئیات الثواني هاربة إلی الماضي لتتری جزیئات یردفها المستقبل باندفاعات لا یقوی علیها إلا من امتلك كیانه النداء: (ذوبوا في الإمام كما..) فاندفاعات المستقبل استشراس ظلم واستفحال جور، لا یطیق علیهما صبراً إلا من شرب بتلك العین فانكشف له یوم العدل والقسط فسار في ركاب السائرین إلیه یهزج:

من به خال لبت ای دوست گرفتار شدم

وسلام علیك یا ابن عم مع طلب الاعتذار منك، فالتقصیر بحقك وبحق ما أعطیت كبیر وكبیر جداً، ولا یقوی القیام به إلا من عاش الذوبان في الله وفي الإسلام، والعذر عندي علی هذا بأن الذوبان الذي عشته دونه مرتقیات ومرتقیات، وهذا المؤتمر من علائم الوصول.

وأنبیك یا أبا جعفر، بأنا ما زلنا ندافع بأرواحنا إلی مَصهر علي والأئمة(ع)، تطهیراً لها واحتمالاً لابتلاءاتنا وابتلاءات الأمة بصدام والقذافي وما لفّ لفّهما، ورجاؤنا أن تطفي ظمآناً تلك العین التي یشرب بها عباد الله.

سلام علیك یا ابن عم یوم ولدت، ویوم جاهدت فاستشهدت، ویوم تبعث شاهداً.

والسلام علیك با ابنة عم، یا آمنة، یا من اخترت لنفسك لقب بنت الهدی منذ أن هداك الله إلی دروب المعرفة وقضایا الإسلام، واهتدیت إلی أخیك حاملاً شرف القضیة فكان أن ذبت فیه كما ذابت عمتك زینب بأخیها الحسین(ع)، ذبت فیه حتی استشهدت إلی جانبه.

والسلام علیكم أیها الذائبون في الله رابطةً ومحاضرین وحضوراً ورحمة الله وبركاته.