قراءة لكتاب بحث حول الإمام المهدي(ع) للسيد الشهيد آية الله العظمى محمدباقر الصدر(قده)

نبيل الحلباوي

أـ مقدمة

تبرز عبقرية هذا الكائن الإنساني في تفرده وخصوصيته بين سائر أفراد النوع وتميزه عن الجحافل السائرة من المهد إلى اللحد بمميزات وسمات تنسب إليه وتدل عليه:

والناس ألف منهم كواحد   وواحد كالألف إن أمر عرا

 

وكلما توهج هذا التفرد ألقاً وذاعت هذه الخصوصية أريجاً فسحت لهذا العبقري أمداً وتركت له بصمات في مسيرة هذه البشرية.

وحين يتعانق مع عبقرية إنسان هاجس مقدس للانطلاق بهذه البشرية إلى ربها بعد إن امتلأت نفسه ففاضت وأترعت فتدفقت وأزهرت فتفتقت بدين هو أوج الأديان الإلهية وشريعة هي خاتمة الشرائع السماوية وسنة هي أرحب السنن النبوية وسيرة هي أكمل السير الرسالية وخط عترة هي أزكى العتر وخلاصة البشر وأهل بيت هم معدن العلم والفن وموئل التنزيل والتأويل. فحدث حينئذ عن العجب العجاب والشهد المستطاب وعن عالم فريد وسيد شهيد. إنه للصدر الذي يصدق فيه قول أبي فراس بألطف معانيه وأبعد مراميه:

ونحن أناس لا توسط بيننا   لنا الصدر دون العالمين أو القبر
أعزّ بني الدنيا وأعلى ذوي العلى   وأكرم من فوق التراب ولا فخر

 

ب _ البحث

لم نرد من تلك المقدمة تدبيج عبارات ولا ترصيع بيان وإنما كان القصد إلى تلمس مفتاح تلك الشخصية التي جمعت بين العبقرية والهاجس الرسالي في خصوصية وتفرد، ينسحب على كل ما خط بهذا اليراع من مقدمات وموجزات وأبحاث ومؤلفات.

ولنقف عند هذه المقدمة التي كتبها السيد الشهيد(قده) لموسوعة الإمام المهدي لتلميذه الصدر الآخر الذي سيرقى سدّة المرجعية الشهيدة في ملحمة جهادية كربلائية جديدة.

وحسبنا ما قاله فيه وفي موسوعته أستاذه السيد الشهيد:

وسأقتصر على هذا الموجز من الأفكار تاركاً التوسع فيها وما يرتبط فيها من تفاصيل إلى الكتاب القيم الذي أمامنا. فإننا بين يدي موسوعة جليلة في الإمام المهدي(ع) وضعها أحد أولادنا وتلامذتنا الأعزاء وهو العلامة البحّاثة السيد محمد الصدر، وهي موسوعة لم يسبق لها نظير في تاريخ التصنيف الشيعي حول المهدي(ع) في إحاطتها وشمولها لقضية الإمام المنتظر من كل جوانبها، وفيها من سعة الأفق وطول النفس العلمي واستيعاب الكثير من النكات واللفتات ما يعبّر عن الجهود الجليلة التي بذلها المؤلف في إنجاز هذه الموسوعة الفريدة، وأنا أشعر بما تملؤه هذه الموسوعة من فراغ وما تعبّر عنه من فضل ونباهة وألمعية.

إذن سنرى كيف يستحيل تقديم كتاب على يدي هذه الخصوصية المتفردة المتولدة من عناق عبقرية فذّة وهاجس رسالي شيئاً أكبر من التقديم المتعارف، حيث يجري المقدّم على أن يقرأ الكتاب أو بعضه ثم يكتفي ببضع ملاحظات عجلى يوفي بها دين التقديم لمن أخجله أو أحرجه ويستريح.

ولكن هذا التقديم الذي نحن بصدده بحث منهج يغني جانباً مهماً من الموضوع ويسدّ فراغاً كبيراً في بابه ولن نسبق التحليل إلى التقويم فلنعد إلى موضوع هذا التقديم.

إنه بحث حول المهدي(ع) ينطلق من إبراز المفارقة بين عمومية القضية وخصوصية معالجة الإسلام لها.

فالقضية جماع طموح بشري وإلهام فطري يتطلعان من منطلق غيبي ديني أو وضعي مادي إلى يوم موعود ينتهي بالبشرية من خضم الصراع والنزاع إلى شاطئ السلام والوئام.

ويرى السيد الشهيد(قده) أن هذه التجربة النفسية أعم تجارب الإنسان مدى وأوسعها أمداً.

وأما دور الدين فيها فهو تحويلها من الذاتية إلى الموضوعية ومن المعرفة إلى الإيمان ومن المثالية الغيبية إلى الواقعية ومن الأمل والعزاء إلى القوة والعطاء، وفتح آفاق السعي أمام الفرد المظلوم والأمة المظلومة للمشاركة في حمل الراية وتحمّل العبء في الصراع مع الظلم مهما تجذّر وامتدّ.

ويضيف السيد الشهيد(قده) إلى هذا الدور أن المنقذ لم يعد في الإسلام فكرة ونبوءة ومستقبلاً، بل تحول واقعاً قائماً ينتظرنا وننتظره وحاضراً يترقب ونترقب معه لحظة الفاعلية ويوم الظهور، وفي ذلك من شد العرا وتوثيق الرابطة بين المهدي المجسّد وهو يراقب التجربة البشرية ويراقب الظروف حتى تحين اللحظة المناسبة لظهوره وبين جمهوره المنتظر الممهِّد ليتقاسما الآلام والآمال.

وينطلق السيد الشهيد إلى إثارة الأسئلة حول هذا التجسيد وما تعبّر عنه من مواقف سلبية تقف قبالة كل ما تزخر به فكرة التجسيد من مميزات إيجابية. ويعدّد السيد الشهيد الأسئلة ليعقد لكل منها فصلاً صغيراً من هذا التقديم ۔ الكتيّب ۔ وهي التالية:

1 ۔ كيف تأتّى للمهدي هذا العمر الطويل خلاف قوانين الطبيعة؟

2 ۔ لماذا المعجزة والعمر الطويل فليولد ولينم يوم تدعو الحاجة إليه في مقبل الزمان؟

3 ۔ كيف يكتمل إعداد هذا الإمام لهذا الدور الكبير وقد ارتقى سنام الإمامة بعد سنين خمس من ولادته؟

4 ۔ إذا كان كامل الاستعداد فلماذا لم يظهر إلى الآن؟

5 ۔ ثم هل للفرد كل هذا الدور؟

6 ۔ وأخيراً ما طريقة التغيير في اليوم الموعود؟

وفي الجواب عن السؤال الأول: كيف أمكن لهذا القائم المنتظر أن يعيش قروناً متطاولة لا يدرى إلامَ تمتد؟ يتناول السيد الشهيد الإمكان بمعانيه الثلاثة:

العملي العادي ويمثّل له بالسفر عبر المحيطات.

والعلمي كالوصول إلى كوكب جديد لم يصل إليه الإنسان حتى الآن فيقاس على نظائره المتحققة من الوصول إلى القمر وبعض الكواكب، فإن لم يتح الوصول إلى ذلك الكوكب الجديد عملاً فهو ممكن علمياً.

والفلسفي المنطقي وهو ما لا يحكم العقل باستحالته وإن لم يتوصل العلم والواقع العملي إلى تحقيقه. ومثال المستحيل منطقياً قسمة العدد الفردي إلى نصفين بدون كسر؛ إذ يترتّب على هذه القسمة الجمع بين النقيضين، إذ يكون العدد الفردي في الوقت نفسه عدداً غير فردي.

ومثال الممكن فلسفياً أن يعيش بعض الناس عمراً طويلاً دون أن يهرم ويموت ويفنى، فليس في هذا تناقض سواء فسّرنا الشيخوخة بالصراع مع المؤثرات الخارجية أو التطور الطبيعي للخلية الحية، بل بقاء الإنسان عمراً مديداً ممكن في هذه الأيام كما تؤكده الأبحاث والتجارب، وحتى لو كانت الشيخوخة قانوناً علمياً فليس عصيّاً على المرونة ضمن ظروف معينة بتدخل العلم نفسه.

فيتلخص أن: طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن علمياً، ولكن لا يزال غير ممكن عملياً إلا أن اتجاه العلم سائر نحو تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.[1]

ويردّ السيد الشهيد(قده) على الاعتراض على أن يسبق الإسلام في أمر إطاعة عمر المهدي(ع) العلم، ويرى أن غرابة دور الإمام المولود أبعد مدى من غرابة طول عمره، وهو نظير نوح(ع) في موقعه من التغيير في مصير البشرية.

وفي الجواب عن شق آخر من السؤال حول المعجزة والعمر الطويل يطوّر السيد الشهيد(قده) المسألة إلى افتراض عدم الإمكان العلمي لهذا العمر الطويل، وهذا يعني أنها معجزة وهي ليست أكثر غرابة من معجزة ألا تحرق النار إبراهيم(ع) وهو فيها؛ فإذا عطّل هاهنا قانون علمي فليكن هنالك تعطيل قانون علمي آخر، ونظير ذلك فلق البحر لموسى(ع) وتشبيه عيسى(ع) للرومان وخروج محمد(ص) من بيته بين محاصريه المتربصين لقتله من قريش.

ويخرج السيد الشهيد بمفهوم عام وهو أنه كلما توقف الحفاظ على حياة حجة الله في الأرض على تعطيل قانون طبيعي وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمته التي أعدّ لها تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك.

ويثير هاهنا السيد الشهيد(قده) سؤالاً حول تعطيل القانون وانفصام رابطة الضرورة بين الظواهر الطبيعية، ويجيب السيد الشهيد بأن الضرورة حالة غيبية لا يثبتها العلم وهو يعوض لها بفكرة التقارن والتعاقب. ومخالفة اطّراد التقارن والتعاقب أيسر شأناً من مخالفة الضرورة، وينطلق السيد الشهيد إلى تفسير اطراد التعاقب والتقارن لا على أساس ضرورة ذاتية علية بل على أساس حكمة من خالق الكون له أن يتركها إلى الاستثناء حين تكون الحكمة فيه.

وبعد هذا الاستقصاء الواسع ۔ لمشكلة العمر الطويل في إمكانه علمياً وفلسفياً وتفسيره بالمعجزة في تخلّف اطراد التعاقب والتقارن بين ظاهرتين لحكمة أوسع وأشمل ۔ ينتقل السيد الشهيد إلى سؤال ثان عن فائدة هذه الغيبة الطويلة ومسوّغاتها ولِمَ تعطّل القوانين الطبيعية لإطالة عمر هذا الإنسان (ولا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخض فيه المستقبل وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر).[2]

ولا يلجأ السيد الشهيد إلى الجواب الغيبي حول خصائص الأئمة بل يؤثر الجواب الاجتماعي للموقف؛ لأن جمهوره أوسع، ويلخّصه بأن العمر الطويل للقائد المدّخر أدعى إلى نجاح عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود والتمكين له من قيادتها على نحو أفضل؛ لأنها تمتعه بشعور بالتفوق على الحضارات التي مرت وانقضت، فهو أكبر منها وأطول عمراً، وهذا الشعور بزخمه مطلوب للقدرة على التغيير الشامل. ويمثّل لذلك بأهل الكهف الذين أتيحت لهم هذه التجربة في مقابل الحكم الذي اضطهدهم وقد ناموا ليصبحوا أقوى من تأثيراته وليستيقظوا بعد تداعيه وسقوطه ليدركوا أنهم أكبر منه.

ويرى أن هذه التجربة تمتع القائد الموعود بخبرات في مشاهدة الخطأ والصواب في ممارسات الآخرين، وأن عملية التغيير أيضاً تقتضي قائداً سبق إلى مصادر الإسلام الأولى، وبنيت شخصيته في ظلالها بمعزل عن رواسب الحضارات ومرتكزاتها وبعيداً عن التأثر بها.

وفي جواب السؤال الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أنه لم يعاصر أباه الإمام العسكري إلا خمس سنوات؟ يبيّن السيد الشهيد خصائص الإمامة المبكرة بما هي أمر تكرر في الهادي والجواد والوقوع أبلغ دليل على الإمكان. ويعدّد السيد الشهيد نقاطاً ستاً لتوضيح واقعية الإمامة المبكرة بمرأى ومسمع واختبار من القواعد الشعبية لإمامته وسكوت الخلافة المعاصرة لها دون أن تلعب ورقة كشف عدم كفاءة الإمام، وهي أيسر من أساليب القمع والمواجهة، بل قد لعبتها حيناً وفشلت ولم تزعزع الإمامة المبكرة ولم تخرجها لحظة واحدة، ويمثّل لنظائر قرآنية للإمامة المبكرة في النبوة المبكرة ليحيى وعيسى(ع).

وأما السؤال الرابع وهو يقول بعيداً عن إمكان وجود قائد له هذا العمر بمسوّغاته: ما الدليل على وجوده على مستوى الواقع التاريخي الفعلي، وأنه ليس مجرد افتراض لإشباع رغبة نفسية عند جمهوره من الناس؟ ويجيب عنه السيد الشهيد بتواتر الأحاديث لدى السنة400 حديث ولدى الشيعة 6000 حديث بأن الإمام المهدي سيكون في يوم من الأيام.

وأما تجسيد الفكرة في الإمام الثاني عشر(ع) فيدلّل عليه بدليل إسلامي هو وجود مئات الروايات حول الخلفاء الاثني عشر وأئمة أهل البيت وأنه منهم ومن ولد فاطمة ومن ذرية الحسين والتاسع من ولده، وهي روايات انتشرت وذاعت على الرغم من تحفّظ الأئمة(ع) خوفاً عليه من الاغتيال.

ولا يكتفي السيد الشهيد بالكثرة العددية بل يركّز على قرائن مهمة تتمثل في حديث الاثني عشر إماماً أو خليفة أو أميراً وله أكثر من 270 رواية في أشهر كتب الحديث بما في ذلك صحيحا البخاري ومسلم، ويلاحظ أن البخاري روى الحديث قبل تحقق مضمونه، إذ كان معاصراً للأئمة الجواد والهادي والعسكري(ع) قبل أن تكتمل سلسلة الأئمة بالإمام الثاني عشر، علماً بأن هذه الأحاديث لا تفسَّر إلا بهذه السلسلة النورانية.

وأما الدليل العلمي فيتمثل في تجربة الغيبة الصغرى التي مهّدت للكبرى حيث لم ينقطع فيها الإمام المهدي مدة سبعين سنة من إمامته عن الاتصال بقواعده الشيعية وذلك عبر سفرائه الأربعة على التتالي:

1 ۔ عثمان بن سعيد العمري

2 ۔ محمد ابنه

3 ۔ أبي القاسم الحسين بن روح

4 ۔ أبي الحسن علي بن محمد السمري

وكان هؤلاء السفراء حلقة وصل بين الإمام وقواعده الشعبية يوصلون أوامر منه وتوقيعات ورسائل وأجوبة عن الأسئلة، وكل ذلك بخط واحد وسليقة واحدة إلى أن أعلن آخر سفرائه ابتداء غيبته الكبرى حيث لا سفراء بعد؛ إذ حقّقت الغيبة الصغرى وظائفها في إعداد القواعد والشيعة عموماً لتحمّل غياب الإمام(ع) عنهم وتحوّلت النيابة من سفراء منصوصين إلى خط عام وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين. فهل بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين سنة؟ وينفي السيد الشهيد ذلك مستفيداً من حساب الاحتمالات أيضاً.

وأما السؤال الرابع فهو لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدة؟

ويجيب السيد الشهيد بربط عملية التغيير الاجتماعي بالشروط والظروف الموضوعية والتمييز بين الجانب الرسالي والجانب التنفيذي، فالأول من تفجير السماء وأما الثاني فهو المرتبط بتلك الشروط والظروف لنجاحه. ويمثّل لذلك برسالة الإسلام، فهي من الله تفجير ولا ارتباط لها بظرف أو شرط، ولكنها في جانبها التنفيذي جاءت بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمرّ قروناً.

ويقسّم الظروف الموضوعية إلى قسمين: ما يشكّل المناخ العام المناسب والجو العام للتنفيذ المستهدف، وما يشكّل التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير في منعطفاتها. ويمثّل للأول في حالة الثورة البلشفية بتضعضع القيصرية وقيام الحرب العالمية الأولى، وللثانية بنجاح لينين في التسلل إلى داخل روسيا. والله عزوجل يفسح للظروف الموضوعية محلها في الأول ويتدخل في الثاني بالإمدادات الغيبية كحفظه لأنبيائه.

وفي مجال ظهور الإمام المهدي(ع) يلخّص السيد الشهيد(قده) المناخ العالمي المناسب والظرف الموضوعي المطلوب لعملية التغيير العالمية بأمرين هما: شعور الإنسان بإفلاس الحضارات بتجاربها المختلفة من جهة، وتطوّر وسائل الاتصال بما يتناسب مع جهاز مركزي للاتصال والتوعية والتثقيف للعالم من جهة أخرى.

ويردّ على إشكال حول تنامي القوة المادية للمعسكر المواجه كلما امتد الزمن بأنّ هذا التنامي لا يجدي بالغاً ما بلغ مع الهزيمة النفسية وانهيار البناء الروحي لهذا العدوّ، فيكفي لتهاويه أول ضربة مركّزة.

وأما السؤال الخامس: هل للفرد ۔ مهما كان ۔ القدرة على إنجاز هذا الدور العظيم وهو نتاج ظروف وشروط مادية؟

فيردّ عليه بأن هذا السؤال يستبطن تعظيم دور القوى المادية وظروف الإنتاج والطبيعة، وهو ما رشّحته المدرسة الماركسية مهملة دور الإنسان، فهو وإن تأثر ولكنه في المقابل مؤثر في الشروط والظروف، ولاسيما حين يتصل بالسماء ويستمد من المدد الإلهي الغيبي كما تمثّل ذلك في حركة الرسول العظيم محمد(ص) ولا مانع من تحقق ذلك على يد حفيده الذي بشّر به.

وأما السؤال السادس الأخير وهو (عن الطريقة التي يمكن أن نتصور من خلالها ما سيتم على يد ذلك الفرد من انتصار حاسم للعدل وقضاء على كيانات الظلم المواجه له).[3] فيجيب عنه السيد الشهيد ۔ اعتماداً على الأحاديث والتجارب التاريخية لعمليات التغيير الكبرى ۔ بافتراض حدوث التغيير عقب فراغ كبير، نتيجة نكسة وأزمة حضارية خانقة تقع كمحصّلة طبيعية لتناقضات التاريخ المنقطع عن الله تعالى، فيبرز النور في أحلك ظلمات الظلم ويطفئ نارها ويقيم على الأرض عدل السماء.

ج _ تقويم

ونجمله في عدة أسئلة:

السؤال الأول: ما مكان هذا البحث من أبحاث الشهيد الصدر(قده)؟

يحتلّ هذا البحث الموجز مكانه بين أقرانه من نتاج عبقرية السيد الشهيد ولاسيما (بحث حول الولاية) و(المرسل والرسالة والرسول)، لتشكّل مجموعة عقدية ولتنتظم مع أبحاث موجزة أخرى كنظرة عامة في العبادات وفدك في إضمامة تجمع إلى البحث في العقيدة البحث في فلسفة العبادات والتحقيق التاريخي.

وهذه الأبحاث المختلفة ۔ على إيجازها وصياغتها بشكل مقدمات لكتب للسيد الشهيد وسواه ۔ تكشف عن سمة الخصوصية والتفرد التي طبعت شخصيته من خلال توأمة العبقرية والهاجس الرسالي، فهو لا يترك فرصة إمساك القلم دون أن يملأ فراغاً في ساحة الاحتياجات الفكرية والعملية للأمة ويرسم صورة الإسلام العظيم أمامها بكل أبعاده، وهو في هذه الموجزات شأنه في أبحاثه الموسعة يأتي بكل جديد ومفيد مما يؤكد تفوّق هذه العبقرية في كل ما تناولته ومدى ما قدّمته للفكر الإسلامي والأمة الإسلامية على صُعد متنوعة.

فبالإضافة إلى ما طرحه في هذه الأبحاث الموجزة فإنه قدّم أكثر من مَعلم بارز وقفزة نوعية من خلال حلقاته الثلاث في البحث الأصولي، وفتاواه الواضحة على صعيد الرسالة العملية، وتقريرات بحث الخارج له في مجال الاستدلال الفقهي والأصولي، وفلسفتنا في الميدان العقلي، واقتصادنا والبنك اللاربوي في الإسلام في الاقتصاد النظري والعملي، والسنن الكونية في البحث القرآني الموضوعي، وأهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف ونشأة الشيعة والتشيع في تحليل أبعاد خط أهل البيت(ع)، ومجموعة الإسلام يقود الحياة بعد الثورة الإسلامية في التنظير لدستورها ودولتها، والأسس المنطقية للاستقراء وهو ذروة سامقة في البحث المنطقي والرياضي.

فالصدر(قده) هو الصدر في كل ما بحث فتوسّع أو أوجز، وله في ذلك نكهته المميزة وحسبنا شهادة الأستاذ حفني حامد داود في تصديره لهذا الموجز:

الأستاذ محمد باقر الصدر متبحر وشخصية لامعة يعتز بها الفكر المعاصر، وهو في كتبه وأبحاثه ومقالاته يتميز بالموضوعية البعيدة عن التحيز والانطواء تحت لواء العاطفة والمصالح الشخصية؛ لذلك جاءت أبحاثه في كل ما كتب أشبه بالقيم الفكرية إن صح التعبير. وهو من العلماء القلائل الذين يجمعون في أسلوبهم بين دعامتي الأصالة في التعبير:

1 ۔ التصوير الفني.

2 ۔ الأسلوب العلمي التقريري

وقد استطاع سيادته بمهارة العالم الأصيل الذي جمع الله له بين الاستعداد والأداء، وأعني بالاستعداد الملكة الفطرية المعينة على الغوص في تحليل القضايا الدينية، وأعني بالأداء جمعه بين أشتات المنقول والمعقول من العلوم الشرعية والعلوم الكونية في صورة موسوعية نادرة المثال. أقول استطاع بفضل ما وهب من استعداد وما اكتسب من أدوات العلم أن يبحث هذه الخارقة في صورة علمية تشبه تماماً ما يفعله العالم الطبيعي أو الكيميائي في المعمل ليقنع الخصوم المنكرين بتجربته.

السؤال الثاني: ما مكانة هذا البحث بين الأبحاث التي تناولت قضية الإمام المهدي(ع)؟

ليس لدينا فهرسة كاملة لهذه الأبحاث لكننا نحسب أن من أبرزها هذه الموسوعة الصدرية التي قدّم لها السيد الشهيد(قده) بالإضافة إلى كتب أخرى ككتاب (انتصار الإمام المهدي على ضوء فلسفة التاريخ) للشهيد المطهري(قده) وكتاب الشيخ علي الكوراني (الممهّدون للمهدي وعصر الظهور) وكتاب الدكتور عبدالهادي الفضلي (في انتظار الإمام).

وليس المقام مقام دراستها جميعاً إلا أنها كما يظهر من عناوينها المتنوعة تتناول القضية من جوانبها المختلفة وتتكامل فيما بينها.

وسنكتفي بوقفة مقارنة سريعة بين بحث السيد الشهيد من جهة والشهيد مطهري من جهة أخرى. فبحث السيد الشهيد يركّز على الإمام المهدي(ع) من خلال أسئلة كبرى قد يطرحها أي مسلم أو أي إنسان حول عمره الطويل وإعداده ووجوده وعدم ظهوره إلى الآن ودوره بما هو فرد في التاريخ وطريقة التغيير في اليوم الموعود.

في حين نجد أن الشهيد مطهري(قده) يتحدث عن مسيرة التاريخ باتجاه انتصار الحق متمثلاً في الدين الإسلامي بقيادة الإمام المهدي على الباطل، الذي يجابه هذا الإسلام تحت رايات مختلفة أبرزها المادية والاستكبار والصهيونية. ويتحدث عن الانتظار الإيجابي بما هو وظيفتنا. وفي هذا تركيز على دور الأمة لتستحق الانضواء تحت راية الإمام.

ولا تزال قضية الإمام المهدي قابلة للمزيد والمزيد من البحث على صعيد صلتها بالمستقبل خصوصاً والزمان عموماً وبالحلم الإنساني وبقيمة العدالة ومحور الولاية والإمامة.

وحسب هذين الشهيدين العظيمين أنهما تعانقا بعبقريتهما وهاجسهما الرسالي على ذروة الشهادة، وخطّا بحثين عميقين غنيين، وكانا من أبرز رواد الثقافة المهدوية في فكرنا الإسلامي الحركي البنّاء. وهي ثقافة ما أحوجنا إلى تعميمها وتعميقها جنباً إلى جنب مع الثقافة الحسينية الكربلائية لتعميق فهم الإسلام في نفوس المسلمين عموماً وأتباع مدرسة أهل البيت(ع) خصوصاً.

وحسبهما فخراً أنهما كانا من الممهّدين الحقيقيين لظهور صاحب الزمان(ع) واستشهدا في معركة المجابهة الثقافية السياسية الرسالية مع أعداء الخارج والداخل، وحسبهما عزاً وشرفاً أن اندغما بالثورة الإسلامية بقيادة أعظم الممهّدين لصاحب الزمان في القرون الأخيرة الإمام الخميني(قده).

السؤال الثالث: ما مدى تجلية هذا البحث لأبعاد الشخصية المنهجية للسيد الشهيد(قده)؟

لقد أجمل الأستاذ نزيه الحسن في دراسة بعنوان (السيد محمد باقر الصدر دراسة في المنهج) السمات الخاصة لفكر السيد الشهيد في التكامل والأصالة والخلق العلمي وملكة النقد والتحقيق والسمات العامة في الوضوح والتتبع واليقظة ورسم المعالم والموضوعية والتمييز والالتزام على صعيد المنهج.[4]

وفي بحثنا هذا بالذات نجد أبعاداً متعددة لهذه الشخصية يمكن إجمالها فيما يلي:

أولاً ۔ القدرة على إثارة الأسئلة حول الموضوع لإعطاء البحث أعلى درجات الموضوعية، والنيابة عن القارئين والباحثين في كل زمان ومكان في التساؤل والإجابة، ونحسب أن هذه القدرة هي امتداد لمدرسة الفلاسفة الإسلاميين ولاسيما الملاصدرا وتلامذته الذين برعوا في تفتيق الأسئلة حول أي موضوع والإجابة عنها، مما أعطى لهذه المدرسة غنى وخصباً وسمح لها بالاستمرار إلى يومنا هذا لتستمر الفلسفة الإسلامية من خلالها في منحى صعودي لا يتوقف.

ومن المؤسف أن تكون هذه المدرسة مجهولة من قبل مؤرخي الفلسفة الغربيين ومجهولة أكثر من قبل مؤرخي الفلسفة المسلمين، ولا يمكن أن نغفل أن السيد الشهيد هو من قدّم لنا كتاب فلسفتنا، وكان له كتاب مفقود هو كتاب فلسفي معمّق ومقارن بين آراء الفلاسفة القدامى والفلاسفة الجدد.

ثانياً ۔ تراتبية الأسئلة في نسق منطقي وشموليتها وأهميتها مما يشكّل امتداداً للمدرسة المنطقية التي تمثّل السيد الشهيد أبعادها من خلال ابن سينا وسواه من الفلاسفة والمناطقة المسلمين، ووصل بها إلى أوج سامق وإضافة مهمة في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء.

ثالثاً ۔ الدقة في البحث العلمي والاطلاع الواسع على النشاطات العلمية كما ظهر في حديثه عن الشيخوخة والتجارب العلمية حولها.
رابعاً ۔ البعد الرياضي كما يتجلى في إدخاله حساب الاحتمالات في مناقشة الأمور كحديثه عن أن الأكذوبة لا يمكن أن تستمر طويلاً بحسب هذه الحسابات، ولا يستغرب الخير من معدنه، فالشهيد الصدر هو الذي انتقل بالبحث العلمي إلى أفق عظيم من خلال مناقشته لنظريات حساب الاحتمالات في أسسه المنطقية.

خامساً ۔ الإحاطة بالعلوم الإنسانية ولاسيما علم الاجتماع، فهو يطرح قضية التغيير الاجتماعي وظروفه الموضوعية ببراعة كبيرة.

سادساً ۔ التعمق في فهم فلسفة التاريخ وتركيزه على تأثير الإنسان فيها لا مجرد تأثره بها، ولا يستغرب ذلك ممن ناقش المادية التاريخية فيما تستند إليه من المادية الجدلية في (فلسفتنا) وما تفرزه من المذهب الاقتصادي في (اقتصادنا).

سابعاً ۔ الإيمان بانتصار الإسلام في مقابل الغرب المادي مهما تنامت قوته. ومن هاهنا يفهم هذا الاحتفاء الصدري المتلهب بانتصار الثورة الإسلامية وإعلانه لكل هذا الحب لها والذوبان في قيادة إمامها، وإنه ليرى اليوم انتصارها الكبير من خلال المقاومة الإسلامية على العدو الصهيوني وهزيمته الكبرى واندحاره المخزي على أيدي هؤلاء الأبطال الحسينيين المهدويين الأشاوس.

ثامناً ۔ ومن خلال هذه الإحاطة العلمية تظهر لدى السيد الشهيد القدرة على التنبؤ بالأحداث كما في توقعه فراغاً حضارياً كبيراً وأزمة حضارية خانقة بدأت ملامحها تظهر. ولعل تنبؤه بأن دمه ودماء إخوانه في العراق سيحقّق النصر على علج العراق العنيف أن يتحقق في وقت قريب، ويستعيد لنا بلد العتبات المقدسة والحوزة العلمية الكبرى إسلامياً نقياً ظافراً مؤزراً.

د _ مناقشة

على أنه كما في كل بحث يمكن المناقشة في أمور، ولعل ذلك من قصور المناقش، وليت السيد الشهيد كان معنا ليوضّح ما التبس ويرفع الإشكال بما وهبه الله تعالى من براعة ومقدرة، وهذه الأمور هي:

1 ۔ أن تجسيد الإمام المنتظر في الإمام الثاني عشر هو فهم شيعي خاص لم يسلّم به المسلمون جميعاً، فما المقصود من دور الدين في هذا التجسيد كما طرح السيد الشهيد، أهو الفهم الأعم من الخاص والعام أم هو الدين في جوهره وحقيقته؟

2 ۔ هل المعجزة هي تعطيل قانون أو هي تعطيل قانون بقانون؟

3 ۔ هل تنتفي رابطة العلية والمعلولية لتحلّ محلها رابطة التعاقب بين ظاهرتين كما كان يرى هيوم؟

4 ۔ هل تنتفي الضرورة بين العلة والمعلول ليحلّ محلها الاطّراد في التعاقب بين ظاهرتين؟

5 ۔ هل التفسير بالحكمة مقابل الضرورة مخرج من مسألة الاستثناء من قانون الاطّراد؟

6 ۔ أو أن هذه الثلاثة الأخيرة إنما كانت من قبيل التنزل والمماشاة لما هو سائد عند العلميين التجريبيين؟

7 ۔ ألا يتنافى استعداد المعصوم وتأهيله منذ سن مبكرة لتحمل أعباء الإمامة مع تأهيله التدريجي لقيادة عملية التغيير العالمي؟

8 ۔ هل تتلاءم المعصومية مع الإفادة من التجارب؟

9 ۔ هل تراعى الظروف الموضوعية في التنفيذ الإلهي كما تراعى في التنفيذ البشري؟

هـ _ تلخيص واستنتاج

1 ۔ يبقى مفتاح الخصوصية والتفرد بنتيجة التلاقح بين العبقرية والهاجس الرسالي في كل ما كتب السيد الشهيد صالحاً لتفسير تميّز أبحاثه صغيرة كانت أم كبيرة واتسامها بالابتكار والجدة والإضافة النوعية.

2 ۔ تتجلى البراعة والدقة المنهجية في كل ما كتب.

3 ۔ كما تتجلى في نتاجه بأجمعه الإحاطة العلمية والتعمق في علوم مختلفة.

4 ۔ وتظهر القدرة العقلية للسيد الشهيد(قده) متألقة في هذا البحث؛ إذ قلما يعرّج فيه على دليل غير عقلي وهو يعطي بذلك للبحث حجيته تجاه المتدينين وغير المتدينين.

و _ اقتراحات

1 ۔ على صعيد فكر السيد الشهيد(قده):

– طبع أعماله الكاملة ونشرها وتوزيعها لتحتلّ موقعها المطلوب من كل مكتبة عامة ومسجدية من بلاد المسلمين ومجتمع أتباع مدرسة أهل البيت(ع) وتغدو في متناول أيدي الباحثين.

– مزيد من الدراسة التحليلية التقويمية لها.

– مؤتمر سنوي لفكره.

2 ۔ على صعيد قضية الإمام المهدي:

۔ نشر الثقافة المهدوية.

۔ تعميمها لجميع المسلمين.

۔ تأكيد الرابطة بينها وبين الخط الكربلائي الحسيني.

۔ ترسيخ منطلقها الإسلام المحمدي الخالص.

۔ تنمية الانتظار الإيجابي.

۔ الربط بالثورة الإسلامية الممهدة لصاحب الزمان(ع) وولاية الفقيه.

۔ تنويع الأساليب من قناة فضائية باسم الإمام المهدي وجامعة مفتوحة و موقع خاص على الإنترنت وأفلام كرتون.

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين

دمشق 21 ربيع الأول 1421

22 – 6 – 2000

[1]. بحث حول المهدي، ص34.

[2]. م. ن، ص49.

[3]. م. ن، ص97.

[4]. انظر: السيد محمد باقر الصدر دراسة في المنهج، د. نزيه الحسن.