مع الأستاذ الشهيد حول غريزة حب الذات كاظم الحائري

[lwptoc]

مع الأستاذ الشهيد حول «غريزة حب الذات»

السيد كاظم الحائري

ذكر اُستاذنا الشهيد ـ رحمه الله ـ في مُقدّمة كتاب فلسفتنا((راجع فلسفتنا: 35 ـ 50.)) ما حاصله: أنَّ المحرك الرئيسي للإنسان في كلِّ نشاطاته هو: حبُّ الذات، فهو الواقع الطبيعيُّ الذي يكمن وراء حياة الإنسانيّة كلِّها، ويوجهها بأصابعه، والذي نعبِّر عنه بحبِّ اللَّذة وبغض الألم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمَّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللَّذة في سبيل أن يلتذَّ الآخرون وينعموا، إلاّ إذا سُلِبت منه إنسانيّته، وأُعطيَ طبيعة جديدة لا تتعشَّق اللَّذة ولا تكره الألم، وحتَّى الألوان الرائعة من الإيثار التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تاريخه تخضع في الحقيقة ـ أيضاً ـ لتلك القوة المحرِّكة الرئيسة: (غريزة حب الذات).

فالإنسان قد يُؤْثِر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحِّي في سبيل بعض المُثُل والقيم، ولكنَّه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذَّة خاصة ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم من إيثاره لولده وصديقه أو تضحيته في سبيل مَثل من المُثل التي يؤمن بها . وهكذا يمكننا أن نفسِّر سلوك الإنسان بصورة عامّة في مجالات الأنانية والإيثار على حدٍّ سواء، ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة: مادِّيّة كالالتذاذ بالطعام والشراب وألوان المتع الجنسية وما إليها، أو معنويّة كالالتذاذ الخُلُقيّ والعاطفيِّ بقيم خُلُقيّة أو أليف روحي، أو عقيدة معيَّنة حين يجد الإنسان تلك القيم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة جزءاً من كيانه الخاصِّ.

وهذه الاستعدادات التي تهيِّئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوِّعةتختلف في درجاتها عند الأشخاص، وتتفاوت في مدى فعليَّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثِّر فيه، فبينما نجد أنَّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعيّة كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً، نجد أنَّ ألواناً أُخرى منها ربَّما لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلُّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتُّحها، وغريزة حبِّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تُحدِّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات، فهي تدفع إنساناً إِلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه; لأنَّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخُلُقيّة والعاطفيّة الذي يدفعه إِلى الإيثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته، بينما ظَفِرَ الآخر بهذا اللَّون من التربية، فأصبح يلتذُّ بالقيم الخُلُقيّة والعاطفيّة، ويضحِّي بسائر لذَّاته في سبيلها.

إذن، فكلُّ الويلات المنتشرة في العالم قامت على أساس مجموع أمرين:

الأوّل ـ هو حبُّ الذات الكامن في نفس الإنسانيّة، أو قل: تعشُّق اللَّذة وكره الألم.

والثاني ـ انحصار المصالح التي تحقِّق اللَّذة وتعالج الأَلم في مصالح مادّيّة دنيويَّة ضيّقة يقع التكالب عليها بين الناس والتزاحم والمنافسات، فتحصل ما تحصل من المصائب والمحن والظلم والرزايا التي يضجُّ بها العالم اليوم.

وتدَّعي الشيوعيّة أنَّها ستعالج ذلك عن طريق القضاء على الأمر الأوّل وهو حبَّ الذات، فيصبح الفرد ـ عندئذ ـ متعشِّقاً للمجتمع لا لنفسه.

إلاَّ أنَّ هذا الحلَّ حلٌّ طوبائيٌّ بحت; لأنَّ حبُّ الذات ذاتيٌّ للإنسان، ولا معنى لانتزاعه عنه، إلاَّ بانتزاع ذاتيَّته وتبديلها إِلى شيء آخر غير الإنسان.

ويقول الإسلام: إنَّ علاج المشكل يجب أن يكون بمعالجة الأمر الثاني، وذلك بتوسيع نطاق المصالح في دائرة عريضة لا يؤدِّي التسابق فيها إِلى التزاحم والتعارض والتكالب، فيحصل كلُّ فرد على مصالحه وملاذّه بقدر ما أُوتيَ له من قوَّة، من دون أن ينقص من الآخر شيء.

وبالفعل هذا هو الذي فعله الإسلام بتوسيعه لدائرة المصالح من بُعدين:

أحدهما ـ بيان أنَّ مصالح الفرد ليست محصورة في دائرة المصالح المادِّيّة الدنيويّة الضيِّقة; بل له جَنَّة عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين.

والثاني ـ تربية الجانب الخُلُقي النبيل في الإنسان، وتنمية قابلياته الأخلاقيّة الكامنة في نفسه: من صفات الإيثار، والعطف، والرحمة، والوفاء، والصدق، وما إِلى ذلك. وتتصادق كلتا المصلحتين الأُخرويّة والخُلُقيّة في تحصيل رضا الله سبحانه وتعالى.

وهذا هو الأسلوب المعقول القابل للتطبيق، فإذ أصبح المجتمع لا يهدِف إلاَّ رضا الله سبحانه وتعالى ـ والذي يكون كفيلاً له بكلتا اللذَّتين وجامعاً له المصلحتين ـ تنتهي كلُّ ألوان الظلم والتعسف والويلات والدركات، ويسود العالَم العدل والرفاه والخيرات والبركات.

أقول : قد يورد على ذلك : بأنَّه لم يبقَ إذن فرق في القيمة المعنويّة والخُلُقيّة، بين عمل الظالم الجائر الخسيس اللئيم وعمل الإنسان الشهم النبيل الشريف ما داما جميعاً يتحركان من وراء اللَّذة وحبِّ الذات.

ولكنَّ الجواب إِلى هذا الحدِّ واضح، فإنَّ الفرق في القيمة بينهما يبقى في أنَّ الرذل والخسيس هو الذي يلتذُّ بالرذائل والخسائس والسفاسف، والشريف وطيِّب النفس هو الذي يلتذُّ بالفضائل والحسنات وصفات الإيثار والنُبل. والفرق بين العملين أو الوصفين أو الشخصين يبقى كالفرق بين الأرض والسماء، فهما شريكان في أصل الالتذاذ، واندفاع كلِّ منهما وراء ما يلتذُّ به، ولكنَّهما يختلفان اختلافاً عظيماً يصعب تصوّر مداه فيما يلتذَّان به ويقصدانه.

وأقصى ما يمكن أن يُتوقَّع من المجتمع العام في الاهتمام بتحصيل رضا الله هو: الوصول إِلى هذا المستوى الذي لو كان هناك أمل في وصول الجميع أو الأكثريّة القاطعة إليه، فإنّما هو بلحاظ زمان حضور المعصوم وعمله المباشر في تربية البشريّة.

ولكن هذا كلّه لا يمنع عن بيان أنَّ الخاصّة من العارفين بالله يكون طريق التعالي لهم مفتوحاً بما هو أكثر من ذلك.

ولتوضيح ذلك نبدأ بالحوار الذي جرى بيني وبين أُستاذي الشهيد ـ رضوان الله عليه ـ حول ما مضى نقله عن مقدّمة فلسفتنا حيث قلت له (رحمه الله): إنَّ هذا البيان يقلِّل من قيمة البطولات الإسلامية والتضحيات والالتزام بالمُثُل وبالفضائل; وذلك لأ نّها ـ حسب الفرض ـ تنشأ من نفس المنشأ الذي تنشأ منه الرذائل وشتَّى ألوان الظلم والخيانة والإجرام، وهو: حبُّ الذات واللَّذة وكُره الألم (صحيح: أ نّه لا يقاس بين من يلتذُّ بالفضائل ومن يلتذّ بالرذائل، ولا بين اتِّصاف الشخص بهذه أو بتلك، أو بين إتيانه بهذه لداعي الالتذاذ بها أو بتلك لداعي الالتذاذ بها) ولكن مع ذلك نرى ـ على أيِّ حال ـ أنَّ هذا إسقاط للقيم العالية والمُثُل العُليا التي تصدر بروح الفداء والتضحية والنُبل والشهامة عن درجة كُنَّا نفترضها ونتصوَّرها إذ تبيَّن أ نّها ـ على أيَّة حال ـ تنشأ من دافع حبِّ الذات والأنا والالتذاذ.

فأجاب ـ رضوان الله تعالى عليه ـ عن ذلك بأنَّ ما قلناه: ـ من أنَّ اللَّذة والألم هما اللَّذان يدفعان الإنسان النبيل إِلى النُبل والفضيلة، كما يدفعان الإنسان اللئيم إِلى اللؤم والرذيلة ـ لم نقصد به كون تلك اللَّذة او اندفاع الألم هما العلَّتان الغائيَّتان للفعل، وإنّما قصدنا كونهما العلَّتين الفاعليَّتين، فالذي يضحِّي في سبيل مَثَل أو مبدأ، أو في سبيل محبوب له، كولد له أو صديق أو الله سبحانه وتعالى، فهو لا يفعل ما يفعل لغاية التذاذه هو أو ارتياحه من الألم النفسيِّ، بل يفعل ذلك لأجل ذاك المَثَل أو المبدأ أو المحبوب ; لأ نّه يعشق ذلك، ولكن هذا العشق أو الحبّ قد جعل في الفعل لذَّة أو في الترك ألماً، والإنسان خُلِق بنحو لولا هذه اللَّذة أو ذاك الألم لما اندفع نحو ما يندفع، فهذه اللَّذة أو ذاك الألم هو الذي يُؤثِّر فاعليَّاً في اندفاعه نحو محبوبه أو في فراره من مبغوضه. إذن، ففرقٌ بين الغاية التي يندفع باتجاهها، وهي : ما يحبُّه ويريده والدافع الذي يدفعه بذاك الاتجاه دفعاً فاعلياً، وهو: اللَّذة الكامنة في الفعل، والقيمةُ الخُلُقيّة تنشأ من شرافة الغاية وسموِّ الهدف.

أقول : إنَّ حصر العلَّة في اللَّذة والألم غير صحيح، سواءٌ كان الملحوظ هي العلَّة الغائيَّة أو العلَّة الفاعليِّة.

أمّا لو كان الملحوظ هي العلَّة الغائيَّة، فإنَّنا نستطيع توضيح بطلان ذلك بإلفات النظر إِلى مقدّمتين:

الأولى ـ أنَّ اللَّذة والألم غير الحبِّ والبغض كما هو واضح، فإنَّ الحبَّ والبغض يتحقَّقان قبل تحقُّق المحبوب والمبغوض، واللَّذة والألم يتحقَّقان بتحقُّقهما ولو في علم الشخص، أيْ: بالوجود العلميِّ والذهنيِّ لتحققهما، سواءٌ طابق الواقع أو لا، فهما وليدا الحبِّ والبغض، بل هما وليدا العواطف المرافقة للحبِّ والبغض، لا وليدا نفس الحبِّ والبغض; ولذا قد ترى ـ نادراً ـ التفكيك بينهما، كمن ينتزع قُرطيْ بنت الحسين (عليه السلام) ويبكي، فهناك لديه عاطفة أَوْجَبَتْ ألمه وبكاءه، لكنَّه كان انتزاع القُرط لديه ـ بعد التكاسر بين مجموع المصالح والمفاسد في نظره ـ محبوباً، فالعاطفةُ التي أَوْجَبَتْ بكاءه انفصل مسيرها صدفة عن مسير الحبِّ الذي تعلَّق بعد تكاسر المصالح والمفاسد بالفعل.

والثانية ـ أنَّ كون الشيء غاية للإنسان عبارة أُخرى عن مطلوبيّته له ومحبوبيَّته وتعلّق شوقه المؤكَّد به. إذن، فالعلَّةُ الغائيّة ليست هي تحقُّق اللَّذة واندفاع الألم، بل هي مُتعلَّق الحبِّ الذي هو أقدم من اللَّذة أو نقيض متعلَّق البغض الذي هو أقدم من الألم.

ويشهد لما قلناه: انَّنا نحسُّ في وجداننا وضميرنا: بأنَّ مَنْ أحسن إِلى شخص استحقَّ شكراً من قبل ذاك الشخص أكثر ممّا قد يشكر الإنسان شخصاً أحبَّ أن يُحسن إليه فعجز عن ذلك، فهذا الشكر إن كان في مقابل اتِّصاف هذا الشخص بصفة الفضيلة وهي حبُّه للإحسان إِلى الضعيف مثلاً فهما سيّان في هذا الاتِّصاف، وإنّما ترك من ترك منهما الإحسان إِلى هذا الشخص بسبب العجز، فيبقى الفارق بين الشكرين بلا مقابل. إذن، فهذه الزيادة تكون في مقابل فعل الإنسان، ولو كانت الغاية له من هذا الفعل التذاذ نفسه دون ارتياح الشخص الضعيف لما استحقَّ هذه الزيادة من الشكر.

نعم، لا ننكر أنَّ نفس اللَّذة والألم ـ أيضاً ـ قد يكون محبوباً أو مبغوضاً فيريد الشخص الأولى ويهرب من الثانية، أيْ: أنَّ اللَّذة والهرب من الألم ـ أيضاً ـ يدخلان في غايته من دون أن يولِّد ذلك لذَّة غير تلك اللَّذة أو ألماً غير ذاك الألم، وإلاَّ لتسلسل.

وقد تلخَّص : أنّ الغاية ـ دائماً ـ هي المحبوب أو نفي المبغوض، لا اللَّذة ونفي الألم، وإن كانا هما ـ أيضاً ـ قد يتعلق بهما الحب والبغض فيدخلان في الغاية بهذا الاعتبار.

وأمّا لو كان الملحوظ هي العلَّة الفاعليَّة قلنا: إنَّ كون اللَّذة والألم هما العلَّة الفاعليّة للتحرك نحو الفعل أو نحو الفرار لا يُتصوَّر إلاَّ بأحد معاني ثلاثة :

إمَّا بمعنى كونهما دافعين للإنسان من دون اختياره، فَمَنْ يلتذُّ بشيء يتحرك نحوه بلا اختيار، ومن يتألَّم من شيء يندفع نحو الفرار منه من دون اختيار.

وإمّا بمعنى دخلهما في القدرة مع فرض حفظ الاختيار بعد تحقُّق القدرة، فاللَّذة الموجودة في الشيء تخلق في الإنسان القدرة على الاندفاع إليه، فيندفع إليه باختياره، والألم الموجود في الشيء يخلق في الإنسان القدرة على التحرك نحو الهرب منه، فيهرب منه اختياراً، ولولا اللَّذة والألم لما كان الإنسان قادراً على التحرك نحو المحبوب أو باتجاه الفرار من المبغوض.

وسواءٌ قلنا: إنَّ اللَّذة والألم دافعان قهريان أو قلنا: إنَّهما يؤثران في القدرة على الاندفاع لا ينافي ذلك أن تكون الغاية هي ما يندفع إليه من المحبوب أو نفي المبغوض لا نفس اللَّذة أو نفي الألم وحده.

وإمّا بمعنى كون اللَّذة والألم دخيلين في تحقُّق الإرادة برغم فرض انحفاظ القدرة والاختيار بغض النظر عنهما.

وكلّ هذه الفروض باطل :

أَمّا الفرض الأوّل ـ وهو : فرض الاندفاع وراء اللَّذائذ والفرار من الآلام قهراً، فهذا يساوق الجبر وإنكار الاختيار، وهذا خلف موضوع علم الأخلاق بعد فرض كون الحسن والقبح أمرين واقعيَّين مُدرَكَيْن بالعقل، لا أمرين اعتباريِّين مجعلوين من قبل العقلاء أو الشريعة، وقد كان هذا هو فرض بحثنا في المقام، فنحن وإن كنَّا لا نمانع عن كون بعض القضايا الأخلاقيّة اجتماعيّة أو شرعيّة، لكن لو لم نؤمن بقضايا أخلاقيّة واقعيّة وبالحسن والقبح الذاتيَّين والعقليَّين، لم يبقَ موضوع لبحثنا هذا.

وأمَّا الفرض الثاني ـ وهو : دخل اللَّذة والألم في القدرة، فهذا يعني: أن لا يقدر الإنسان إلاَّ على الفعل الذي يلتذُّ به ، وترك ذلك الفعل يكون مبغوضاً له، فبغضه إنّما أولد له القدرة على الفرار منه، ومن المعلوم: أنَّ فرض تعلّق القدرة بأحد النقيضين دون الآخر هو عين الجبر تماماً، فإنّ القدرة لابدَّ أن تتعلَّق بطرفي النقيض سواءً بسواء.

وأمّا الفرض الثالث ـ وهو: عدم تحقُّق الإرادة نحو الشيء، إلاَّ بفرض الالتذاذ به أو التألُّم من فقده على رغم انحفاظ اختياره وقدرته لولا اللَّذة والألم، وعلى رغم فرض حبِّه أو بغضه للمتعلق في المرتبة السابقة على اللَّذة والألم، فهذا ـ أيضاً ـ أمر غير معقول سواء، فسَّرنا الإرادة بمعنى الشوق الأكيد كما هو المعروف، أو فسَّرناها بما يشابه أن يقال بأمر وسط بين الشوق الأكيد والفعل، وهو: حملة النفس بدعوى أ نّها هي مركز القدرة والسلطنة.

أمّا على الأوّل فلوضوح أنَّ الشوق الأكيد هو الحبّ الأكيد الذي هو في الرتبة السابقة على اللَّذة.

وأمّا على الثاني فلوضوح أنَّ توقُّف حملة النفس على اللَّذة والألم مع انحفاظ كامل القدرة والاختيار في المرتبة السابقة عليهما وتماميّة الحبِّ والشوق، أمر غير معقول، إلاَّ بمعنى: أنَّ الغاية المحبوبة كانت عبارة عن نفس اللَّذة والألم، وهذا رجوع إِلى الشقِّ الأوّل الذي أبطلناه.

وبهذا تمَّ برهان كامل على أنّ العلَّة الغائيّة والعلَّة الفاعليّة متَّحدتان، غاية الأمر أنّ العلَّة الغائيّة تكون بوجودها العلميِّ ـ ولو الخاطئ ـ مُحرِّكة.

نعم، لا إشكال ـ كما أشرنا إليه ـ في أنَّ اللَّذة والألم قد يدخلان بنفسهما في العلَّة الغائيّة، ويكون الأوّل محبوباً والثاني مبغوضاً.

وقد يقول قائل: إنَّ حبُّ الدَّعة والراحة الموجود في الإنسان لابدَّ أن يتكاسر مع حبٍّ آخر، ويقع مقهوراً تحت شعاعه; كي يتحرك الإنسان نحو ما يكون فيوضعه الأوّلي موجباً لسلب الدّعة والراحة. والمقصودُ بعلِّيّة اللَّذة والألم هو: أنّه لولاهما لما كان المحبوب الأصلي من المُثُل والقيم والمبادِئ ورضا الله وما إِلى ذلك قادراً على الغلبة على حبِّ الراحة، فلكي يغلب حبَّ الراحة أو قُلْ: (لكي تصبح راحة الشخص في خلاف راحته الظاهريّة) لابدَّ أن ينضمَّ إِلى تلك الغاية الشريفة غاية اللَّذة أو الفرار من الألم، وعند ذلك تكون الغلبة لمجموع الغاية الشريفة النبيلة مع اللَّذة ودفع الألم على حبِّ الراحة، فيقوم الإنسان بالعمل النبيل، ويكون الشخص بقدر ما كان من حصَّة الدخل في الغاية لذاك المبدأ النبيل والشريف مستحقاً للمدح والثواب، وبهذا قد جمعنا بين القول بأ نّه لابدَّ لتحريك الإنسان من وجود اللَّذة والألم في المتعلَّق من ناحية، وبين نُبل التضحيات في سبيل المبادِئ والعقائد الحقَّة والمُثُل والقيم العُليا ورضا الله ـ سبحانه وتعالى ـ من ناحية أُخرى. فليكن هذا نوع توجيه لكلام أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) .

إلاَّ إنَّ هذا التوجيه ليس شاملاً لمورد ما قد يتَّفق من عدم وجود زحمة وأقل صعوبة في التحرك، أو كان المطلوب هو الترك ولم يكن في الترك أيّ زحمة ومشقَّة، وإنّما يمكن تطبيق هذا التوجيه في موارد صعوبة العمل وفق ماهو مطلوب أخلاقيّاً.

والظاهر : أنَّ هذا التوجيه ـ أيضاً ـ غير صحيح.

وتوضيح ذلك: أنَّ عدم تحرك الشخص من دون لذَّة أو ألم لكون حبِّه للمحبوب غير كاف لتحريكه، ولكن مع دخول الحبِّ كجزء للعلَّة في الحساب يصبح كافياً له، قد يكون صحيحاً بشأن بعض السالكين، ويكون هذا الشخص أعلى درجة ممَّن لا يتحرك إلاَّ من وراء اللَّذة والألم، ولكن ليس هذا هو آخر الدرجة الممكنة من درجات مرقاة الكمال في سُلَّم الفضائل.

والدليل على ذلك مؤتلف من مقدّمتين:

الأُولى ـ أنَّ التقدير المعنوي لمقدار تلك اللَّذة المعنوية يقول لنا بفهم الوجدان: إنَّ درجة تلك اللَّذة توازي درجة الحبِّ لذلك المبدأ النبيل، وكُلَّما اشتدَّ حبُّه اشتد بقدره الالتذاذ به، وكُلَّما ضعف حبُّه ضعف بقدره الالتذاذ به.

والثانية ـ أنَّ هذا الالتذاذ قد يفوق في بعض الحالات لذَّة الراحة التي كانت تثبت في ترك التحرك نحو ذاك المحبوب، وآية ذلك: أنَّ الإنسان ـ عندئذ ـ لا يحسُّ بالراحة النفسيَّة في الترك، بل يحسُّ بأنَّ راحته النفسيّة في الفعل فحسب، في حين أنَّ من لم يصل حبُّه إِلى هذا المستوى يحسُّ بالتعب النفسيِّ في عمله، ولكنّه يتحمَّل هذا التعب في سبيل محبوبه.

والنتيجة : أ نّه ـ إذن ـ سيكون حبُّه لذاك المحبوب غالباً على حبِّه للدَّعة والراحة; لأ نّه يوازي لذَّته الغالبة على لذَّة الدَّعة والراحة، ويكون وحده كافياً للغلبة على المزاحم((قد تقول: إنّه يوجد في طرف الدَّعة والراحة شيئان: حبُّه للدَّعة والراحة، والتذاذه بهما. وفي طرف المبدأ النبيل ـ أيضاً ـ يوجد شيئان: حبُّه للمبدأ النبيل، والتذاذه بتحقيقه، فصحيح: أنّ التذاذه بالمبدأ النبيل غالبٌ على التذاذه النفسيِّ بالدِّعة والراحة، ومن ثم يكون حبّه لذاك المبدأ غالباً على حبِّه للدِّعة والراحة، لكنّ هذا لا يعني غلبة حبِّه للمبدأ أو لله أو لرضوان الله أو ما إِلى ذلك على مجموع حبّه للدَّعة والراحة والتذاذه بهما، فقد يُدّعى أنَّ الغلبة على المجموع لا تكون إلاّ بعد انضمام الالتذاذ بذلك المحبوب الشريف إِلى حبّه.

والجواب: أنَّ هذا غفلة عن الفرق بين حبِّ الدَّعة والراحة وحبِّ الله أو حبِّ رضوان الله أو حبِّ الفضائل ونحو ذلك، أو قُلْ: هذا غفلة عموماً عن اللَّذائذ الماديّة واللّذائذ المعنويّة; وذلك لأ نّه في اللَّذائذ الماديّة لا يُتصوَّر محرِّكان ينضمُّ أحدهما إِلى الآخر; لأنّ الحبَّ في الماديات ليس إلاّ حبّاً للذَّة أو للفرار من الألم، ولولا التذاذه بالدَّعة والراحة لما أَحبَّهما، فليس حبُّهما شيئاً جديداً يضاف إِلى اللَّذة في الداعويّة، في حين أنّه في الحبِّ المعنويِّ تكون اللَّذة في طول الحبِّ، وليس العكس، فلأنَّ الشخص يحبُّ ابنه مثلاً وراحة ابنه يلتذُّ براحته، لا العكس.))، نعم ، لاشك أنّه يحصل ـ إضافة إِلى ما حصل عليه من الفضيلة ـ على لذَّة فائقة أيضاً ، ولكنَّها واقعة تحت الشُعاع لما يطلبه من مبداً أو فضيلة أو رضا الله سبحانه وتعالى، فذاك المبدأ أو حبُّ الله هو محركه الحقيقيُّ، وتترتَّب على ذلك اللَّذة والانبساط كزيادة خير.

وقد اتَّضح بكلِّ ما شرحناه: أنَّ المطيع تنقسم إطاعته بحسب الدوافع النفسيّة إِلى ثلاثة أقسام:

الأوّل ـ دافع اللَّذة أو الألم الثابتين بالثواب والعقاب، وتلك طاعة التجار أو العبيد.

والثاني ـ المزدوج من دافع حبِّ الطاعة ورضوان الله ودافع اللَّذة والألم، وتلك طاعة الخواص.

والثالث ـ دافع حبِّ الله سبحانه وتعالى وتحصيل رضاه، وتلك طاعة خاصّة الخواصِ حيث يكون التذاذه بالطاعة ـ أيضاً ـ مندكاً تحت داعويّة أصل الطاعة.

والالتفات إِلى ما قلناه لو لم ينفعنا في ارتقائنا السلوكي إِلى الله سبحانه وتعالى في مرقاة هذه الكمالات، فلا أقلَّ من أن يكون نفعه لنا عبارة عن الاعتصام في مقابل صفة العُجب; لأ نّنا ما لم نصل إِلى المرحلة الثالثة، وهي: داعويّة نفس الطاعة ورضوان الله دون الالتذاذ بهما أو في الأقل الثانية، وهي: الدافع المزدوج، فنحن في الحقيقة قد عبدنا لذَّتنا وعشقنا ذاتنا، فأيُّ استحقاق لنا للثواب ؟ ! وأيّة عبوديّة تكون هذه العبوديّة ؟ !

وأنا لا أقصد بنفي استحقاق الثواب نفيه من باب أنّنا مملوكون ملكيّة حقيقيّة لله، فلا نستحقُّ شيئاً منه تعالى في قبال طاعتنا إيّاه، ولا نفيه من باب أنَّ الاستحقاق إنّما يكون لمن أعطى من نفسه شيئاً لغيره، ونحن كلَّ ما أعطيناه لله ـ سبحانه ـ كان من الله، لا من أنفسنا كي نستحقَّ شيئاً بالمقابل، فإنَّ أمثال هذه الأُمور لا تختص بنا، بل تشتمل حتّى المعصومين (عليهم السلام) .

بل أقول ـ بغض النظر عن هذه النكتة ـ : إنّنا غير مستحقِّين للثواب بعقليّة مكافئة الإحسان; لأ نّنا في الحقيقة لم نعمل له، بل عملنا لأنفسنا، فلا مكافئة على أعمالنا إلاَّ بفضل الله ورحمته ورأفته.

نعم، تصحُّ في العرف الفقهي عباداتنا; لأ نَّها تشمُل على القربة بالمعنى المقصود في الفقه حيث قرّروا فيه كفاية الداعي إِلى الداعي القربي، وهذا موجود في المقام; لأ نَّا نعمل بداعي الامتثال والطاعة وإن كان الداعي لنا إِلى هذا الامتثال والطاعة ثوابه، أو الفرار من عقابه، أو الالتذاذ بطاعته، إلا أنّ هذا كما ترى حيلة شرعيّة علّمتنا نفس الشريعة إيَّاها، وقبلها الله منَّا بقبول حسن بلطفه وكرمه، وإلاَّ لهلكنا جميعاً، إلاَّ أنَّ هذا لا يعني: أنَّ الاستحقاق ـ إذن ـ أصبح واقعيّاً (بعد غضِّ النظر عن المملوكيّة وعدم الواجديّة الذاتيّة )، فغير الواصل إِلى ابتغاء رضا الله ـ لأنّه رضاه لا لنعيم الجنَّة ولا للفرار من الجحيم ـ إن كان مطيعاً فهو في مرحلة العرفان يكون صاعداً من مستوى تحت الصفر إِلى مستوى الصفر لا أكثر من ذلك، ومن يلتفت إِلى ذلك كيف يبتلي بالعُجْب ؟!

أمّا من صعد من هذه المرتبة إِلى ابتغاء مرضاة الله تعالى وإرادة ذاته عزَّوجلَّ، فهو ليس بحاجة إِلى ما قلناه في الارتداع عن العُجْب، بل الذي يردعه عن العُجْب قول إمامنا زين العابدين (عليه السلام) : «وما قدر أعمالنا في جنب نعمك، وكيف نستكثر أعمالاً نقابل بها كرمك»((دعاء أبي حمزة الثمالي .)).

اللَّهُمَّ ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وعرفان الحرمة، إنَّك أنت السميع المجيب بمحمد وآله الطاهرين.