البنيان الأخلاقي الإسلامي في رأي الإمام الشهيد الصدر ياسين الموسوي

البنيان الأخلاقي الإسلامي في رأي الإمام الشهيد الصدر

السيد ياسين الموسوي

طرح السيد الشهيد النظرة الإسلامية للفلسفة الأخلاقي في طيات كتاباته وأحاديثه ، ولم يصلنا منه ” قدس الله نفسه الزكية ” بحثاُ مستقلاً ، وقد لاحظنا أنه يطرح الموضوع على مرحلتين :

الأولى :_ عندما يتحدث عن دور الأخلاق في المرافق العامة للحياة الاجتماعية وفي تربية الإنسان الفرد .

وسوف نحصل على نصوص كثيرة للسيد الشهيد يتعرض بها إلى ذلك في كثير من كتبه .

الثانية :_ توضيح مبادئ الفلسفة الإسلامية الأخلاقية ، ويتحدث فيه عن العقل النظري والعقل العلمي ، وقد عرض آرائه في مباحثه في علم الأصول .

 وقد ارتأينا أن يكون حديثنا في هذه الأوراق عن رأي السيد الشهيد ” قدس الله سره ” في فلسفة الأخلاق الاجتماعية والفردية ، تاركين الحديث عن المرحلة الثانية إلى مجال آخر إن شاء الله تعالى .

فلسفة الأخلاق الاجتماعية والفردية

تستوعب الأخلاق جميع مرافق الحياة _ حسب ما يذهب إليه الإمام الصدر _ وتشكل الأخلاق البنية الأساسية لبناء المجتمع ، ولا يمكن تصور حضارة وأمة ذات وجود حقيقي استقلالي بدون أن تملك الصيانة الذاتية لها المتمثلة بالأخلاق .

وتتوج الهيكل مفاهيم ( الخلافة _ والشهادة ) ، وتتفرع عنها النظرة الإسلامية إلى الجوانب الحياتية باختلافها على نحو الاستيعاب .

فالبناء أذن يتكون في طابقين :

أولاً : الاستيعاب لجميع مرافق الحياء .

وثانياً : مبادئ ومفاهيم الخلافة والشهادة .

الاستيعاب لجميع مرافق الحياة

  • عندما يناقش السيد الشهيد الديمقراطية الرأسمالية بأبعادها الأربعة يطرح عنواناً ، بارزاً في المناقشة :” موضع الأخلاق من الرأسمالية ” ويؤاخذ على هذا النظام عدم أخذ ( الأخلاق ) ومفاهيمه بنظر الاعتبار في بنائه .

 أن الفلسفة الأخلاقية تملك قوة مرونة ، وحركية في تصورات الإمام الشهيد ، غير التي كانت عليه في الكتابات السابقة .

عندما تقول أن السيد الشهيد الصدر ” قدس سره ” قد جاء بجديد في الفلسفة الأخلاقية فنعني ما نقول لأنه أعلى الله مقامه قد أدخل أبواب الفلسفة التي تعيش التنظيرات والتقسيمات والبحث عن حقائق الأشياء إلى الجو الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان بمعاركه السياسية والمعاشية والاجتماعية ، أنه يصيغ من هذين الشيئين وحدة متكاملة أخرى غير القديم ، وغير الجديد ، بل شيء أجد من الاثنين ، وأكثر واقعية منهما معا.

أنه يخلف من أحاديث الفلسفة الأخلاقية القديمة التي تكدست بها الكتب والأدمغة ، والفلسفات المادية ، والأنظمة الاجتماعية ، منهما يخلق شيئاً آخر يعطي للنظام الاجتماعي الحركي : خلاقياته ، وللأخلاق حركته .

يقول السيد الشهيد بهذا الصدد :

” وكان من جراء هذه المادية التي نهض النظام ( الرأسمالي ) بروحها أن أقصت الأخلاق من الحساب ولم يلحظ لها وجود في ذلك النظام ” .((فلسفتنا / ص20 .)) أما ما هي تلك الأخلاق ، وكيف كان ذلك الحساب الذي حسب لها ؟ .. فهو يناقش من نقطة البداية ، حيث يبتدأ من مفهوم ( الأنا ) و ( الهو ) المبحث الإشراقي البحت الذي يغمر أجزائه التحلق نحو المثال الأعلى ، والعلة الأولى ، أو ما يتحدث عنه في علوم الاجتماع بمصطلح ( المصالح الشخصية ) و ( والمصالح العامة ) .

أنه يصيغ من المفهوم الأخلاقي المسمى بـ ( تشخيص الهدف عند التحرك ) أو ما يصطلح عليه أيضاً ” تحديد ملاك الجهد ” الذي يرتكز في أوليات النية ثم الإرادة ” … وحدة بنائية لكل حضارة ولأي أمة ، والمسألة المهمة في الحديث : أنه يجمع هنا بين تصورات المدرسة المثالية الأخلاقية ، ومفاهيم المدرسة المادية في الأخلاق ، ويوّحد منهما وحدة تكمالية في المفاهيم الأخلاقية لصنع نظام الإنسان ، وبناء الحضارة _ حسب ما يراه من نظرة الإسلام لهما .

والمدرسة المثالية الأخلاقية تريد أن تحلق بالغيب والمثال الأول . بينما المدرسة المادية الأخلاقية تريد أن تلغي المبادئ الأولية للتعامل ، أو ما يسمى بـ ( الواقعية الأخلاقية ) باعتبار أن الواقع _ كما يتصوره _ يحتم علينا أن نسعى لتحقيق مصلحة الفرد ، والتي يعبر عنه عند المدرسة بـ ( الأنا )((الـ(أنا) التي في علم الأخلاق تختلف تعبيرا ومعنى عن مفهوم (الأنا ) الذي يقع بحثها في علم النفس ، وتختلف أيضا عن التي تكون موضوع بحث في الفلسفة المثالية والواقعية .)) ، وبالتالي فإن مصلحة الفرد سوف توصل إلى مصلحة الجماعة .

وهذه المسألة هي التي تسمى في الدراسات الأخلاقية بمشكلة ( القيم ) المتفرعة عن مسألة سابقة سموها بمشكلة ( الثبوت والتغير ) في مفاهيم الأخلاق .

أما السيد الشهيد فإنه لم يرتضي كلا المدرستين ، فأما الأولى فهي لا تصلح لمعايشة الإنسان الواقعي حيث تربط الإنسان دائماً بالمثال المطلق دون أن تعطيه حرارة الحركة والانطلاقة في التحرك .

وأما المثالية فإنها لا تعطي للقيم العليا ، ومفاهيم الحياة دوراً في البناء الحضاري ، أو تكوين الأسس الأيديولوجية للعالم ، وتقول : بأنه يمكن التخلق من الدخول في تلك المباحث بطريقة ( واقعية ) أي أن نفس الخطوط المادية يمكنها أن توصل البعض بالبعض .

أما النظرة الواقعية الأخلاقية فتقول : أن النظام لابد من أن يستند على أسس أخلاقية ، وأن الأخلاق لابد _ أيضاً _ من أن تستند على أسس طبيعة واقعية والفطرة التي فطر الله الناس عليها .

وأما التحليق السماوي وحده فهو ما ترفضه الطبيعة الواقعية ورفضته من قبل كتاب الله تعالى. ((سوف تقرأ أن شاء الله تعالى في دور الأخلاق في الاقتصاد السياسي نصوص من السيد الشهيد تؤكد ذلك المعنى .))

يناقش السيد الشهيد النظرة المادية في التعامل بقوله :

” … وكان من جراء هذه المادية التي زخر بها النظام بروحها أن أقصيت الأخلاق من الحساب ولم يلحظ لها وجود في ذلك النظام ، أو بالأحرى تبدلت مفاهيمها ومقاييسها ، وأعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى ، والحريات جميعها كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة . فنشأ عن ذلك أكثر ما ضج به العالم ، تحديث من محن وكوارث ، ومآسي ومصائب ” ((فلسفتنا / ص20 .))

ومع ذلك فهو يستعرض آراء ومناقشات المدرسة المادية الأخلاقية ، فيقول بهذا الصدد :

” وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية قائلين أن الهدف الشخصي بنفسه يحقق المصلحة الاجتماعية وأن النتائج التي تحققها الأخلاق بقيمها الروحية تحقق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي ، لكن لا عن طريق الأخلاق ، بل عن طريق الدوافع الخاصة وخدمتها . فإن الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقق بذلك مصلحة شخصية أيضاً ، باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله ، وحين ينقذ حياة شخص تعرضت للخطر فقد أفاد نفسه أيضاً ، لأن حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية فيعود عليه نصيب منها ، وأذن فالدافع الشخصي والحس النفعي يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها ، مادامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصة ومنافع فردية ” . ((فلسفتنا / ص20_21 .))

ويرد هذه المناقشة بطريقة منطقية فيقول :

” وهذا الدفاع أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال . فتصور بنفسك أن المقياس العملي في الحياة لكل فرد في الأمة ، إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالح الخاصة ، على أوسع نطاق وأبعد مدى ، وكانت الدولة توفر للفرد حرياته وتقدسه بغير تحفظ ولا تحديد . فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد ؟ وكيف يمكن أن يكون اتصال المصلحة الاجتماعية بالفرد جافياً لتوجيه الأفراد نحو الأعمال التي تدعو إليها القيم الخلقية ؟! مع أن كثيراً من تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع وإذا اتفق أن كان فيها شيء من النفع باعتباره فرداً من المجتمع فكثيراً ما يزاحم هذا النفع الضئيل الذي لا يدركه الإنسان إلا في نصرة تحليلية ، بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية ، تجد في الحريات ضماناً لتحقيقها فيطيح الفرد في سبيلها بكل برنامج الخلق والضمير الروحي ” . ((فلسفتنا / ص21 .))

(ب) عندما يدرس السيد الشهيد ” طاب ثراه ” المجتمع الإسلامي دراسة ميدانية وسيسيولوجية مقارناً بينه وبين المجتمع الأوروبي فأنه يخرج بنتيجة : أن المجتمع الذي يعيش في البلاد التي حكمها الإسلام لفترة من الزمن يختلف بطبيعته عن المجتمعات التي جرت وراء المادة البراقة وأن أمنت بالأديان السماوية فلم يكن ذلك الإيمان إيماناً حقيقياً وإنما كان إيماناً متناسباً طردياً مع الطبيعة التي جبل عليها ذلك المجتمع المادي نفسه .

ويوضح السيد الشهيد أن الدور الأخلاقي الأثر الأكبر في التمييز بين المجتمعين ، ولهذا السبب أكدت السماء على تربية الإنسان وطبق هذه الروح وهذه الأخلاقية لتجعل منه إنساناً لمستوى المعركة وبقدر المسؤولية.

فعندما يطرح مشكلة العالم الإسلامي في التبعية للعالم الغربي بشقيه _ الرأسمالي والاشتراكي _ لا يميز بينهما ، لأنهما يمثلان الشبح الواحد في العملية التصديرية للاستعمار والتبعية يقول بهذا الصدد :

” وأنا لا أريد هنا أن أقارن بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي من وجهة نظر اقتصادية مذهبية فإن ما أتركه للكتاب نفسه فقد قام كتاب اقتصادنا بدراسة مقارنة بهذا الصدد وإنما أريد أن أقارن بين الاقتصاد الأوروبي بكلا جناحيه الرأسمالي والاشتراكي والاقتصاد الإسلامي من ناحية قدرة كل منهما على المساهمة في معركة العالم الإسلامي ضد التخلف الاقتصادي ومدى قابلية كل واحد من هذه المناهج ليكون إطاراً لعملية التنمية الاقتصادية ” . ((اقتصادنا / مج1 / ص12 .))

ولم يكتف الإمام المظلوم في بحث المقارنة بحل المشكلة على المحتوى الفكري والمذهبي ، بل تعدى ذلك لدراسة ميدانية للأمة والمجتمع الإسلامي والظروف الموضوعية لها مع التركيب النفسي والتاريخي .

حينئذ يلاحظ أي المناهج الفكرية والمذهبية أقدر على التطبيق . ويقول بهذا الصدد :

ونحن حين نخرج من نطاق المقارنة بين هذه المناهج الاقتصادية في محتواها الفكري والمذهبي إلى المقارنة بينها في قابليتها التطبيقية لإعطاء إطار التنمية الاقتصادية يجب أن لا نقيم مقارنتنا على أساس المعطيات النظرية لكل واحد من تلك المناهج فحسب بل لابد أن نلاحظ بدقة الظروف الموضوعية للأمة وتركيبها النفسي والتاريخي لأن الأمة هي مجال التطبيق لتك المناهج فمن الضروري أن يدرس المجال المفروض للتطبيق وخصائصه وشروطه بعناية ليلاحظ ما يقدر لكل منهج من فاعلية لدى التطبيق ” . ((اقتصادنا / مج1 / ص12 .))

ويدرس بعدها الإمام الشهيد المجتمع الإسلامي على أساس تاريخه وعقيدته والتربية الطويلة التي تربى عليها بتعاليم السماء وعواطفه وأحاسيسه التي صارت جزءاً من كيانه وتفكيره وتحركه نحو الأهداف .

كل هذا ولد عند الإنسان المسلم أخلاقية إٍسلامية في التعامل بما يتلاءم وطبيعة الأيديولوجية والنظام الذي يعتقد به .

ويتوصل السيد الشهيد بدور الأخلاق بحفظ الأمة عن التميع والتبعية بأشكالها الثلاث . ((يقول السيد في اقتصادنا / ص9 :

وقد عبرت التبعية في العالم الإسلامي لتجربة الإنسان الأوروبي الرائد للحضارة الحديثة عن نفسها بأشكال ثلاثة مترتبة زمنيا ولا تزال هذه الأشكال الثلاثة متعاصرة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي .

الأول : التبعية السياسية التي تمثلت في ممارسة الشعوب الأوروبية الراقية اقتصاديا حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة .

الثاني : التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلة من الناحية السياسة في البلاد المتخلفة وعبرت عن نفسها في فسح المجال للاقتصاد الأوروبي لكي يلعب على مسرح تلك البلاد بأشكال مختلفة ويستثمر موادها الأولية ويملأ فراغاتها برؤوس أموال أجنبية ويحتكر عددا من مرافق الحياة الاقتصادية فيها بحجة تمرين أبناء البلاد المتخلفين على تحمل أعباء التطوير الاقتصادي لبلادهم .

الثالث : التبعية في المنهج التي مارستها تجارب عديدة هي داخل العالم الإسلامي حاولت أن تستقل وتتخلص من سيطرة الاقتصاد الأوروبي اقتصاديا وأخذت تفكر في الاعتماد على قدرتها الذاتية في تطوير اقتصادها والتغلب على تخلفها غير أنها لم تستطع أن تخرج في فهمه الطبيعة المشكلة التي يجسدها تخلفها الاقتصادي عن إطار الفهم الأوروبي لها فوجدت نفسها مدعوة لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الإنسان الأوروبي لها فوجدت نفسها مدعوة لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الإنسان الأوروبي في بنائه الشامخ لاقتصاده الحديث .))

لأن الأخلاق التي تتأصل في الأمة قادرة ولو بوحدها على حفظ وجود تلك الأمة وأصالتها يقول ” قدس الله نفسه الزكية ” :

” وهب أن تجربة للتنمية الاقتصادية على أساس مناهج الاقتصاد الأوروبي استطاعت أن تقضي على العقيدة الدينية وقوتها السلبية تجاه تلك المناهج فإن هذا لا يكفي للقضاء على كل البناء العلوي الذي قام على تلك العقيدة عبر تأريخ طويل أمتد أكثر من أربعة عشر قرنا وساهم إلى درجة كبيرة في تكوين الإطار النفسي والفكري للإنسان داخل العالم الإسلامي . كما أن القضاء على العقيدة الدينية لا يعني إيجاد الأرضية الأوروبية لتلك المناهج التي نجحت على يد الإنسان الأوروبي لأنها وجدت الأرضية الصالحة لها والقادرة على التفاعل معها .

فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم الإسلامي وهناك أخلاقية الاقتصاد الأوروبي التي واكبت الحضارة الغربية الحديثة ونسجت لها روحها العامة ومهدت لنجاحها على الصعيد الاقتصادي .

والأخلاقيتان تختلفان اختلافاً جوهرياً في الاتجاه والنظرة والتقييم وبقدر ما تصلح أخلاقية الإنسان الغربي الحديث لمناهج الاقتصاد الأوربي تتعارض أخلاقية الإنسان العالم الإسلامي معها وهي أخلاقية راسخة لا يمكن استئصال جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية .

والتخطيط _ أي تخطيط للمعركة ضد التخلف _ كما يجب أن يدخل في حسابها مقاومة الطبيعة في البلد الذي يراد التخطيط له بدرجة تمردها على عمليات الإنتاج كذلك يجب أن يدخل في حسابها مقاومة العنصر البشري ومدى انسجامه مع هذا المخطط أو ذاك ” . ((اقتصادنا / مج1 / ص17-18 .))

ثم يتحدث عن الأخلاقية التي تحكم الإنسان الأوربي وأنها أخلاقية لا تؤمن إلا بالأرض والمادة وعليها توجه الاقتصاد الذي يتحكم بتلك الجماعة من الناس .

أما الأخلاقية التي يتمتع بها الإنسان المسلم فهي تختلف اختلافاُ جذرياً عن ساحتها الأوروبية ، فالإنسان المسلم يؤمن بالغيب وبالله تبارك وتعالى قبل كل شيء ، ويؤمن بالقيم والمثل العليا ، والتي توجه سلوكه في بناء حضارته وإعادتها ، وتقييم أسس علاقته وتعامله على ذلك الأساس الأخلاقي يقول السيد الصدر في ذلك :

” وهذه الأخلاقية ( إي الأوروبية ) تختلف عن الأخلاقية التي تعيشها الأمة داخل العالم الإسلامي نتيجة لتاريخها الديني فالإنسان الشرقي الذي ربته رسالات السماء وعاشت في بلاده ومر بتربية دينية مديدة على يد الإسلام ينظر بطبيعته إلى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض ويأخذ بعالم الغيب قبل أن يأخذ بالمادة والمحسوس .

وافتتانه العميق بعالم الغيب قبل عالم الشهادة هو الذي عبر عن نفسه على المستوى الفكري في حياة المسلمين باتجاه الفكر في العالم الإسلامي إلى المناحي العقلية من المعرفة البشرية دون المناحي التي ترتبط بالواقع المحسوس .

وهذه الغيبية العميقة في مزاج الإنسان المسلم حددت من قوة إغراء المادة للإنسان المسلم وقابليتها لإثارته الأمر الذي يتجه بالإنسان في العالم الإسلامي حين يتجرد عن دوافع معنوية للتفاعل مع المادة وإغرائه باستثمارها إلى موقف سلبي تجاهها يتخذ شكل الزهد تارة والقناعة أخرى والكسل ثالثة .

وقد روضته هذه الغيبية على الشعور برقابة غير منظورة قد تعبر في وعي المسلم التقي عن مسؤولية صريحة بين يدي الله تعالى وقد تعبر في ذهن مسلم آخر عن ضمير محدد وموجه وهي على أي حال تبتعد بإنسان العالم الإسلامي عن الإحساس بالحرية الشخصية والحرية الأخلاقية بالطريقة التي أحس بها الإنسان الأوربي ” . ((اقتصادنا / مج1 / ص21 .))

وبالأخير فأن إحساس الإنسان المسلم بالأخلاق الجماعية ، أو بتعبير آخر إحساسه بكيفية التعامل مع الجماعة وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة والذي هو قمة التعامل الأخلاقي الجماعي .. يختلف عن الإنسان الغربي الذي لا يؤمن بتلك القيم إلا بمقدار ما تهيئ له من مصالح شخصية ومنافع خاصة . يقول بهذا المجال :

” ونتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها يحس بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب إليها وانسجام بينه وبينها بدال عن فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر الأوربي الحديث ” . ((اقتصادنا / مج1 / ص21 .))

وهذه الأخلاقية الجماعية ولدت عنده شيئا آخر أكبر وهي التحرك والاندفاع نحو الأمام في بناء الحضارة الذاتية وعدم التقليد الأعمى ، والتبعية الجوفاء ، فالإنسان المسلم حريص – لعالمية الرسالة الإسلامية – على توفير الرخاء في العالم ، وتحقيق السعادة في الأرض ، وتحطيم عروش المستغلين ، والمستبدين ، والمستكبرين والمستعمرين ، وتحرير المستضعفين وتخليصهم مما يعانون منه من الاستغلال والعبودية ، هذه الأخلاقية أيثار الجماعة على النفس و ( الأنا ) نقدم الإنسان إلى التضحية والفداء لأجل الجماعة ، ويكفي بها ضمانا للتحرك ((كما نراه الآن في المجتمع الإسلامي في إيران وكيف أنهم يتسابقون إلى الشهادة لأجل الآخرين .)) يوغل الشهيد بهذا المورد :

” وقد عزز فكرة الجماعة لدى الإنسان المسلم الإطار العالم لرسالة الإسلام الذي ينبط بحملة هذه الرسالة مسؤولية وجودها عالميا وامتدادها مع الزمان والمكان فأن تفاعل إنسان العالم الإسلامي على مر التاريخ مع رسالة عالمية منفتحة على الجماعة البشرية يرسخ في نفسه الشعور بالعالمية والارتباط بالجماعة . وهذه الأخلاقية التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي إذا لاحظناها بوصفها حقيقة ماثلة في كيان الأمة يمكن الاستفادة منها في المنهجة للاقتصاد داخل العالم الإسلامي ووضعه في إطار يواكب تلك الأخلاقية لكي تصبح قوة دفع وتحريك كما كانت أخلاقية مناهج الاقتصاد الأوروبي الحديث عاملا كبيرا في إنجاح تلك المناهج بما بينهما من انسجام ” . ((اقتصادنا /مج1 / ص22 .))

وقد يأتي الإشكال هنا بأن النظرة إلى عالم السماء والذوبان في الغيب سيولد عنه الإنسان حالة الخمول والكسل والتقاعس وعدم الحركة ، وهو ما تؤدي إليه تصورات المدرسة الأخلاقية المثالية فالنتيجة سوف تكون عقيمة ومخيفة ، هنا يجيب السيد الصدر عن هذا الإشكال بطرح المدرسة الأخلاقية الإسلامية حيث يقول :

” فنظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدي إلى موقف سلبي تجاه الأرض ، وما في الأرض من ثروات وخيرات يتمثل في الزهد أو القناعة أو الكسل إذا فصلت الأرض عن السماء وأما إذا ألبست الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي . وبدلا عما يحسه اليوم المسلم السلبي من برود اتجاه الأرض أو ما يحسه المسلم النشيط الذي يتحرك وفق أساليب الاقتصاد الحر أو الاشتراكي من قلق نفسي في أكثر الأحيان ولو كان مسلما متميعا سوف يولد انسجام كامل بين نفسية إنسان العالم الإسلامي ودوره الإيجابي المرتقب في عملية التنمية”. ((اقتصادنا /مج2 / ص22 .))

ويقول في مكان آخر :

” والإحساس بالجماعة والارتباط بما يمكن أن يساهم إلى جانب ما تقدم في تعبئة طاقات الأمة الإسلامية للمعركة ضد التخلف إذا أعطي للمعركة شعار يلتقي مع ذلك الإحساس كشعار الجهاد في سبيل الحفاظ على كيان الأمة وبقائها الذي أعطاه القرآن الكريم حين قال ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) فأمر بأعداد كل القوى بما فيها القوى الاقتصادية التي يمثلها مستوى الإنتاج باعتباره جزءا من معركة الأمة وجهادها للاحتفاظ بوجودها وسيادتها “. ((اقتصادنا /مج1 / ص23 .))

وبعد ذلك يقول :

” وهنا تبرز أهمية الاقتصاد الإسلامي بوصفه المنهج الاقتصادي القادر على الاستفادة من أخلاقية إنسان العالم الإسلامي التي رأيناها وتحويلها إلى طاقة دفع وبناء كبيرة في عمليات التنمية وإنجاح تخطيط سليم للحياة الاقتصادية .

فنحن حينما نأخذ بالنظام الإسلامي سوف نستفيد من هذه الأخلاقية ونستطيع أن نعبأها في المعركة ضد التخلف على عكس ما إذا أخذنا بمناهج في الاقتصاد ترتبط نفسيا وتاريخيا بأرضية أخلاقية أخرى ” . ((اقتصادنا /مج1 / ص23 .))

ويصر السيد الإمام الشهيد على أن الأخلاقية الأوربية تختلف اختلافا كليا عن الأخلاقية التي تربى عليها المجتمع الإسلامي ولا يمكن أن نطبق منهاجا فكريا ومذهبا لأمة على أخرى ، فأن الوازع الأخلاقي سوف يقف حجرا منيعا في ذلك .

فهو يرى أن للأخلاق دور كبير في حفظ كيان الأمة ، وفي تقدمها الحضاري ، واندفاعها ، وتحركها نحو التطور والبناء .

ج) وتزداد الأخلاق حركة لتستوعب المذهب الاقتصادي الإسلامي ، ويعرض السيد الصدر ” حشرنا الله تعالى معه ” أبعاد الجانب الأخلاقي في الاقتصاد السياسي الإسلامي ، وما يؤديه من دور في هذا العالم ؟

وعندما يتحدث عن الاقتصاد الإسلامي ويبين ( الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي ) يقول ” قدس الله نفسه الزكية ” :

” يتألف الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية ثلاثة يتحدد وفقا لها محتواه المذهبي ..” ثم يعد الركن الثاني :” مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود .” ويحدد معناه بالضبط هو :

” السماح للأفراد على الصعيد الاقتصادي بحرية محدودة بحدود من القيم المعنوية والخلقية التي يؤمن بها الإسلام ” ((اقتصادنا / ص298 .))

ثم يقول مقارنا في التصورات بين المذاهب الاقتصادية الثلاثة : الإسلام ، والماركسية ، والرأسمالية ، ويوضح ما يميز الإسلام عن الاثنين الآخرين ، مبرزا أن القيم الأخلاقية هو المميز الكبير في هذه المقارنة ، فيقول :

” وفي هذا الركن نجد أيضا الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي ، فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع يقف الإسلام موقفه الذي يتفق مع طبيعة العام فيسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل التي تهذب الحرية وتصقلها وتجعل منها أداة خير للإنسانية كلها ” . ((اقتصادنا  / ص298 .))

وتعمل هذه الفقرة من الهيكل ((مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود .)) الاقتصادي في مساحة واسعة من ميدان العمل الاقتصادي . فأن للحرية الاقتصادية مضمونها الواسع الذي كان سببا رئيسيا في التمييز بين المذاهب الاقتصادية وبالأحرى أنتج التمايز في ميادين التطبيقات لتلك المذاهب .

ثم أن السيد الشهيد ” أعلى الله مقامه ” يبرز الدور الأخلاقي في هذه الفقرة حيث يحددها إحدى أثنين إسلاميا من الحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي ، وبهذه المناسبة يقول :

” والتحديد الإسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين :

أحدهما : التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس ، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية “. ((اقتصادنا / ص298 .))

والمقصود من التحديد الذاتي هو الدافع الذاتي ( الإرادي ) وعندما تضيف الدوافع المحركة للإنسان في سلوكه فأنها تنقسم إلى قسمين :

  • الذاتية .
  • الخارجية .

أما الدوافع الذاتية ( الإرادية ) فهي السمة الأخلاقية التي تتكون عند الإنسان من خلال التربية الصحيحة ، والبيئة النظيفة التي تحيط به . فان الأوامر التي يتلقاها الإنسان من الخارج من الصعب ن يتوجه إليها فضلا عن أن يرتكبها ما لم يتولد هذا التوجه من خلال الظروف المادية أو علم الاقتصاد ، أو الفلسفة ، أو غير ذلك ، وإنما يتم ذلك التولد من خلال الأخلاقية التي يملكها نفس ذلك الإنسان .

يقول السيد الشهيد ” أعلى الله مقامه ” في باب الحديث عن كيفية التوليد الذاتي عند الإنسان ، ودور التحديد الذاتي في الاقتصاد السياسي عموما ، ومقدار حدود نظرة الإسلام إليه . ((راجع تفصيله في اقتصادنا /ص299-300.))

ثم يتحدث عن مميزات الاقتصاد الإسلامي فيقول :

” وللمذهب الاقتصادي في الإسلام صفتان أساسيتان ، تشعان في مختلف خطوطه وتفاصيله ، وهما : الواقعية ، والأخلاقية . فالاقتصاد الإسلامي اقتصاد واقعي وأخلاقي معا ، في غاياته التي يرمي إلى تحقيقها ، وفي الطريقة التي يتخذها لذلك” . ((اقتصادنا / ص305 .))

وأما حدود الصفة الأخلاقية التي تتحكم بمصير الاقتصاد الإسلامي فهي من ناحيتين :

  • من حيث الغاية
  • من حيث الطريقة :

” فهو اقتصاد واقعي في غايته ـ لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية ، بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة ، ويحاول دائما أن لا يرهق الإنسانية في حسابه التشريعي ، ولا يحلق بها في أجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وإمكاناتها .. وإنما يقيم مخططه الاقتصادي دائما على أساس النظرة الواقعية للإنسان ، ويتوخى الغايات الواقعية التي تنفع مع تلك النظرة . فقد يلد الاقتصاد خيالي كالشيوعية مثلا ، أن يتبنى غاية غير واقعية ويرمي إلى تحقيق إنسانية جديدة طاهرة من كل نوازع الأنانية ، قادرة على توزيع الأعمال والأموال بينها ، دون حاجة إلى أداة حكومية تباشر التوزيع ، سليمة من كل ألوان الاختلاف أو الصراع … غير أن هذا لا يتفق مع طبيعة التشريع الإسلامي ، وما أتصف به من واقعية في غاياته وأهدافه .

وهو _ إلى هذا _ واقعي في طريقته أيضاً . فكما يستهدف غايات واقعية ممكنة التحقيق ، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضماناً واقعيا ماديا ، ولا يكتفي بضمانات النصح والتوجيه ، التي يقدمها الوعاظ والمرشدون ، لأنه يريد أن يخرج تلك الأهداف إلى حيز التنفيذ ، فلا يقنع إيكالها إلى رحمة الصدف والتقادير . فنحن نستهدف مثلاً إيجاد التكافل العام في المجتمع ، ولا يتوسل إليه بأساليب التوجيه واستشارة العواطف فحسب ، وإنما يسنده بضمان تشريعي ، يجعله ضروري التحقيق على كل حال .

والصفة الثانية للاقتصاد الإسلامي ، وهي الصفة الأخلاقية ، تعني _ من ناحية الغاية _ : أن الإسلام لا يستمد غاياته التي يسعى إلى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادية ، من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الإنسان نفسه ، كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها … وإنما ينظر إلى تلك الغايات ، بوصفها معبرة عن قيم عملية ضرورية للتحقيق من ناحية خلقية . فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلا لا يؤمن بأن هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه ، نابع من الظروف المادية للإنتاج مثلا ، وإنما يعتبره ممثلا لقيمة عملية يجب تحقيقها ، كما سندرس ذلك بصورة مفصلة خلال بحوث هذا الفصل .

وتعني الصفة الخلقية _ من ناحية الطريقة _ : أن الإسلام يهتم بالعمل النفسي ، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته .

فهو في الطريقة التي يضعها لذلك ، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب _ وهو أن تحقق تلك الغايات _ وإنما يعني بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات . فقد يؤخذ من الغني مال لإشباع الفقير مثلا ، ويتأتى بذلك الفقير أن يشبع حاجاته ، وتوجد بذلك الغاية الموضوعية التي يتوخاها الاقتصاد الإسلامي ، من وراء مبدأ التكافل . ولكن هذا ليس هو كل المسألة في حساب الإسلام ، بل هناك الطريقة التي تم بها تحقيق التكافل العام . لأن هذه الطريقة قد تعني مجرد استعمال القوة في انتزاع ضريبة من الأغنياء لكفالة الفقراء . وهذا وأن كفى في تحقيق الجانب الموضوعي من المسألة ، أي إشباع الفقير … ولكن الإسلام لا يقر ذلك ، مادامت طريقة تحقيق التكافل مجردة عن الدافع الخلقي ، وللعامل الخير في نفس الغني . ولأجل ذلك تدخل الإسلام ، وجعل من الفرائض المالية _ التي أستهدف منها إيجاد التكافل _ عبادات شرعية ، يجب أن تنبع عن دافع نفسي نير ، يدفع الإنسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد الإٍسلامي ، بشكل واع مقصود ، طلباً بذلك رضا الله تعالى والقرب منه .

ولا غرو أن يكون للإسلام هذا الاهتمام بالعامل النفسي ، وهذا الحرص على تكوينه روحياً وفكريا ، طبقا لغاياته ومفاهيمه ، فإن لطبيعة العوامل الذاتية التي تعتلج في نفس الإنسان ، أثرها الكبير في تكوين شخصية الإنسان ، وتحديد محتواه الروحي ، كما أن للعامل الذاتي أثره الكبير على الحياة الاجتماعية ومشاكلها وحلولها . وقد بات من الواضح لدى الجميع اليوم : أن العامل النفسي يلعب دوراً رئيسيا في المجال الاقتصادي ، فهو يؤثر في حدوث الأزمات الدورية التي ،يضج من ويلاتها الاقتصاد الأوربي . ويؤثر أيضاً على منحنى العرض والطلب ، وفي الكفاية الإنتاجية لعامل إلى غير ذلك من عناصر الاقتصاد .

فالإسلام أذن لا يقتصر _ في مذهبه وتعاليمه _ على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع ، وإنما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية ، ليوفق بين المحتوى الداخلي ، وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي ، ولا يكفي في طريقته أن يتخذ أي أسلوب يكفل تحقيق غاياته ، وإنما يمزج هذا الأسلوب بالعامل النفسي والدافع الذاتي الذي ينسجم مع تلك الغايات ومفاهيمها ” . ((اقتصادنا / ص305_306_307 .))

وفي نهاية الفصل أكرر أن الالتفاتة من السيد الصدر إلى الأخلاق في النظرية الإسلامية تستوعب كل هذه الأبواب ، بل وجميع مرافق الحياة بهذا العمق من الاستيعاب ، وبهذه الدقة من التعبير .

قد تكون هذه الالتفاته أولها في تاريخ ( علم الأخلاق ) الإسلامي لم نعرف أحداً سبقه إليه ، وبهذا الشكل الدقيق . ثم أن السيد الشهيد لم يقتصر بعلم الأخلاق على هذه الأبواب من الأمثلة بل جرها إلى جميع المباحث التي اشتركت معها في العنوان الأعم .

فلسفة الأخلاق

في مفاهيم الخلافة والشهادة

الخلافة والشهادة كلمتان لمعنى واسع جدا طرحه السيد الشهيد الصدر ((في سلسلة ( الإسلام يقود الحياة ) / الحلقة رقم 4/ بعنوان (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء )/ وأشار أليه في مقدمة كتابة (اقتصادنا) ص23_24 .)) ، ويمكن أن يستوعب عدة مداليل :

  • المدلول الفلسفي للإنسان ، ونسميه ( مركز الإنسان في الكون ) بإعطاء مفهوم فلسفي إسلامي عن الإنسان .
  • المدلول الاجتماعي لعلاقات الإنسان بالمجتمع والمشاركة في تفسير تركيبة المجتمع .
  • المدلول السياسي في القيادة للأمة والأشراف عليها .
  • وأخيراً المدلول الأخلاقي لمعنى الخلافة والشهادة .

ونحن في موضوعنا هذا لا نحاول التعرف على أكبر من المدلول : الأخير وطبق آراء السيد الشهيد التي طرحها في كتاباته .

ما هي الأخلاقية ؟

عن البداية يقول السيد الشهيد في ذلك :

” إن الله سبحانه وتعالى شرف الإنسان بالخلافة على الأرض فكان الإنسان متميزا عن كل عناصر الكون بأنه خليفة الله على الأرض وبهذه الخلافة أستحق أن تسجد له الملائكة وتدين له بالطاعة كل قوى الكون المنظور وغير المنظور ” . ((الإسلام يقود الحياة / ص133 .))

وقوله تعالى : ” وإذا قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة ” ((من الآية من سورة البقرة .)) . لم يكن مختصرا بآدم عليه السلام بل هي عامة للبشرية ككل ، وبهذا الاعتبار فهل كل إنسان يمكن التعبير عنه بأنه خليفة الله تعالى في أرضه .. هنا يتحدث السيد بقوله :

” الخلافة الني تتحدث عنها الآيات الشريفة المذكورة ليست استخلافاً لشخص آدم عليه السلام للجنس البشري كله لأن من يفسد في الأرض ويسفك الدماء وفقاً لمخاوف الملائكة ليس آدم بالذات بل الآدمية والإنسانية على امتدادها التاريخي فالخلافة إذن ، قد أعطيت للإنسانية على الأرض ولهذا خاطب القرآن الكريم في المقطع الثاني والمقطع الثالث المجتمع البشري في مراحل متعددة وذكرها بأن الله  قد جعلهم خلائف في الأرض وكان آدم هو الممثل الأول لها بوصفه الإنسان الأول الذي تسلم هذه الخلافة وحظي بهذا الشرف الرباني فسجدت له الملائكة ودانت له قوى الأرض ” . ((الإسلام يقود الحياة / ص133 .))

وأما تفسير معنى الخلافة من الله تعالى الموجب لها ، وعند الإنسان القابل لها فهو يحددها بقوله :

” فالخلافة إذن حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوة وهي حركة لا تتوقف فيها لأنها متجهة نحو المطلق وأي هدف آخر للحركة سوى المطلق _ سوى الله سبحانه وتعالى _ سوف يكون هدفاً محدودا وبالتالي سوف يجمد الحركة ويوقف عملية النمو في خلافة الإنسان . وعلى الجماعة التي تتحمل مسؤولية الخلافة أن توفير لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير كل الشروط الموضوعية وتحقق لها مناخها اللازم وتصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس الركائز المتقدمة للخلافة الربانية ” . ((الإسلام يقود الحياة / ص142 .))

فالخلافة إذن هي تجسيد أخلاق السماء ، وعندما يحس الإنسان بمعناها الرمزي يتحرك في نفسه الاندفاع نحو التكامل والكمال لأنه يحاول أن يتشبه بأخلاق المستخلف حتى يكون عند حسن الظن وبمستوى المسؤولية التي توخاها فيه .

وهذا المفهوم ما يشار إليه في علم الأخلاق النظرية بمسألة ” تحرك الممكن نحو المطلق ” وهي المراحل العليا في قانون ( الحركة الجوهرية للنفس الإنسانية ) في التحرك والتطور .

ويقول السيد الشهيد في ذلك :

” وبهذا تصبح فرص النمو متوفرة توفراً حقيقياً والنمو الحقيقي في مفهوم الإسلام أن يحقق الإنسان الخليفة على الأرض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعا في الله عز وجل الذي أستخلفه واسترعاه أمر الكون فصفات الله تعالى وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حد له هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة وأهداف للإنسان الخليفة فقد جاء في الحديث ” تشبهوا بأخلاق الله ” ولما كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة ولا حد لها وكان الإنسان الخليفة كائنا محدودا فمن الطبيعي أن تتجسد عملية تحقيق تلك القيم إنسانيا في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث إلى الله . وكلما استطاع الإنسان خلال حركته أن يتصاعد في تحقيق تلك المثل ويجسد في حياته بصورة أكبر فأكبر عدالة الله وعلمه وقدرته ورحمته وجوده ورفضه للظلم والجبروت سجل بذلك انتصارا في مقاييس الخلافة الربانية وأقترب نحو الله في مسيرته الطويلة التي لا تنتهي إلا بانتهاء شوط الخلافة على الأرض .

” يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ” . ((الإسلام يقود الحياة / ص 141_142 .))

ويمكن تحقيق هذا الهدف بثلاثة طرق :

الطريق الأول : _ الاتصال الدائمي بالهدف وهو المطلق ، ومحاولة محاكاة المطلق في صفاته وأخلاقه _ كما قرأنا ذلك قبل قليل ” . ((ذكرها في مكان آخر ( الارتباط المطلق ) / الفتاوى الواضحة /ص709 .))

الطريق الثاني : _ الموضوعية في القصد وتجاوز الذات . وهو الترفع عن الدناءة في التصرفات ، والتفكير في الأنا ، والمصالح التي تعود مكاسبها إلى نفس الإنسان .. إلى درجة قدسية بالتفكير بالله تبارك وتعالى وجعل كل شيء لأجله .

ومجاهدة النفس الأمارة بالسوء لتصل بالأحرى إلى تلك القيمة العليا بالتعامل مع الناس ، وقبلها مع الله عز وجل . يقول الإمام المفدى :

” واهتمامنا من الإسلام بالتربية على القصد الموضوعي ، ربط دائما بين قيمة العمل ودوافعه ، وفعلها عن نتائجه . فليست قيمة العمل في الإسلام بما يحققه من نتائج ومكاسب وخير للعامل ، أو للناس أجمعين ، بل بما ينشأ للعمل عنه من دوافع ، ومدى نظافتها وموضوعيتها وتجاوزها للذات ” . ((الفتاوى الواضحة / ص717 / طبعة بيروت .))

” … وإنما يعتبر العمل فاضلا ونبيلا إذا تجاوزت دوافعه الذات وكان في سبيل الله ، وفي سبيل عباد الله ، وبقدر ما يتجاوز الذات ويدخل في سبيل الله وعباده في تكوينه ليسمو العمل وترتفع قيمته ” . ((الفتاوى الواضحة / ص717 / طبعة بيروت .))

الطريق الثالث : _ الفهم الخاص للدنيا ولذائذها ، ومعرفة كيفية التعامل معها ، يشفع ذلك بالنظرة إلى الحياة بقولها المطلق سواء فيه عالمي الدنيا والآخرة . قال رضي الله تعالى عنه :

” وليس بإمكان الإنسان المشدود إلى زخارف الدنيا ، والمتعلق بأهداف الحياة الأرضية أن يتنازل عن هذه الطيبات الرخيصة ، ويخرج عن نطاق همومه اليومية الصغيرة إلى هموم البناء الكبيرة ، فلابد لكي تجند طاقات كل فرد للبناء الكبير من تركيب عقائدي له أخلاقية خاصة تربي الفرد على أن يكون سيدا للدنيا لا عبدا لها ، ومالكا للطيبات لا مملوكا لها ، ومتطلعا إلى حياة أوسع ، وأغنى من حياة الأرض ومؤمنا بأن التضحية بأي شيء على الأرض هي تحضير بالنسبة إلى تلك الحياة التي أعدها الله للمتقين من عباده ” . ((منابع القدرة في الدولة الإسلامية /ص13 .))

إلى أن يقول في ذلك :

 ” فالتعلق بالدنيا والانشداد إليها أساس كل انحراف ، وحمل همومها يعتبر تخلياً عن دور الخلافة الرشيدة على الأرض ، والانغماس في طيباتها ولهوها يعني تناسي ذكر الله ، والالتهاء عن كل ما يمثله هذا الإله العظيم من قيم توجه المسيرة ، وتحدد الهدف ، وتشد الإنسان إلى السماء .

ومن أجل أن ينتزع الإسلام من الفرد المسلم هذا التعلق الشديد بالدنيا وهمومها أعطى للدنيا حجمها الطبيعي ، فالدنيا حينما تتخذ كهدف تتعارض مع الآخرة _ أي مع عملية البناء العظيمة التي تدعو إليها وتحث عليها _ وتتحول من دار للتربية إلى أرض للهو والفساد ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، الحديد ) .

وبعدها يقول :

” وأما حينما تتخذ الدنيا طريقا للآخرة _ أي أداة ينمي الإنسان في إطار خيراتها وجوده الحقيقي وعلاقته بالله وسعيه المثمر نحو المطلق في عملية البناء والإبداع والتجديد _ فإن الدنيا تتحول في هذه النظرة العظيمة من كونها مسرحا للتنافس والتكالب على المال إلى مسرح للبناء الصالح والإبداع المستمر . ( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) : القصص 77 ” ((منابع القدرة في الدولة الإسلامية /للسيد الشهيد .))

وبعد هذا لا أريد أن أطيل إليك بنقل النصوص التي أشبعها الإمام الشهيد بالنظرة الموضوعية عن الدنيا ، والآخرة ، أختصر كلامي بأن النظرة الموضوعية إلى الدنيا تشكل إحدى حلقات هذا الهدف .

2) وما دور الخلافة بعد في تخليق الإنسان ؟

ومعناها أيضا في أساس ثان يراه مولانا الشهيد والخلافة للإنسان في الأرض ، ويوضح من خلاله الدور الأخلاقي في هذا البناء مستلا مفهوم العمل الاجتماعي وكيفية التعامل مع الجماعات والأفراد على أساس ذلك الهدف ( وهو  الله تبارك وتعالى ) باعتباره المحور في الانطلاق .

ومعنى ذلك شيئان :

الشيء الأول :- ضمنة صحة التعامل والتفاعل في وقت واحد فيما إذا ألتزمت الجماعة والأفراد في ذلك المحور .

والشيء الثاني :- ينبع من أوله وهو : ” تحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت “

وهي الحركة الثورية التي لابد وأن تلازم الإنسان في جميع معاملاته على طول مسيرته .

الإنسان الذي يلتزم بخلق المشاركة الجادة مع خط الأنبياء (ع) والأئمة (ع) والعلماء سوف يعرف أن الأسماء الأخرى المطروحة في كل ساحات العمل سوف تكون أقزاما وصغيرة مهما كان حجمها ، ومهما نثرت من حولها أضواء الأبهة ، والهيبة ، وشعارات القوة والعظمة ، سواء نسبت لنفسها سيماء الشرعية أم كانت دعاوى فارغة .

خلق الخلافة يعطيه الاستقلالية في أفكاره فلا يكون إمعة في تحركاته مع كل ناطق ، ومتكلم ، وصارخ ، ومتحدث .

خلق الخلافة يقول للإنسان : لا تسير أعمى في طريقك ” ولا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ” . فلم يكن الله عز وجل ليعطي كل هذه الحواس لأبن آدم ويبقى الإنسان الخليفة متجاهلاً تلك الأدوات السجرية والقاهرة الكبرياء الجبروت .

لا تجعل (العقل الجمعي) يفقدك رشدك وحواسك وأرادتك ، ويجعلك عجينة لينة بيد الآخرين يفعلون بك ما شاءوا وما أرادوا .

ولا تدع لروح السيطرة عليك ، أو الفوقانية من الغير توحي إليك التحتانية والصغر ، وتتصرف من هذا الأمر مع الحوادث لأن هذا تنكر لامتحان الخلافة وكفى بها .

ولا تحاول أن تكون مفسرا متبرعا من جيبك لعيوب وحسنات الأقوياء على حسابك وحساب من مثلك من الأمة المستضعفة .

وأرشد طريقك وراء من تسير : ” السماء ، أم الأرض ، وغير الشهود الثلاثة لم يكونوا إلا أرضا ، وتكون طاعتهم من نوع عبودية الأسماء الصغيرة .

3) وثالث الأسس للخلافة الإنسانية من جانبها الأخلاقية هو تمثيل الروح الإسلامية المرحلة في العلاقات الاجتماعية . وتنشأ هذه الروح لعدة اعتبارات :

منها : أن مشاركة الجماعة بوحدة الغاية والهدف – وهو رضا الله – مع وحدة الخط والمسيرة ، تكونت العلاقة الوجدانية العميقة في أغوار فرد الإنسان وجماعته .

وبما أنه خليفته في الأرض فهم – أفراد النوع الإنساني – مشتركون بهذه المهمة بغير تمييز مع مسؤولية مشتركة .

كل ذلك يكون عنده شخصيته المتواضعة والمخلصة والمسؤولة .

ومنها أنه خليفته في الأرض فهم – أفراد النوع الإنساني – مشتركون بهذه المهمة بغير تمييز مع مسؤولية مشتركة .

كل ذلك يكّون عنده شخصيته المتواضعة والمخلصة والمسؤولة .

ومنها : المركز الإلهي المعطى للإنسان في هذا الكون كخليفة لله تبارك وتعالى تربية على شعور المسؤولية ومستوى العطاء الرباني في مركزه الكوني . فعندما يتذكر الخليفة بموقعه الذي وهبه له الخالق بعنوان الاستخلاف يخجل من نفسه ويحاول – أن كان مدركا وواعيا – أن يتمثل الموقع الصحيح ، وينطلق من خلال موقعه في التعامل مع الله تعالي والناس والأمة .

4) إن الخلافة استئمان ولهذا عبر القرآن الكريم عنها في المقطع الأخير بالأمانة ((وهو قوله تعالى :” إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا ” الأحزاب /72 .))، والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب ، إذ بدون أدراك الكائن أنه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يختار لممارسة دور الخلافة وأن العهد كان مسؤولا ) ((الإسلام يقود الحياة /ص136.))

( والمسؤولية ذات حدين :

فهي من ناحية تعني الارتباط والتقيد )  ((الإسلام يقود الحياة /ص136.))

( …. وتعني المسؤولية من ناحية أخرى أن الإنسان كائن حر ، إذ بدون الاختيار والحرية لا معنى للمسؤولية . ومن أجل ذلك كان بالإمكان أن يستنتج من جعل الله خليفة على الأرض أنه يجعل الكائن الحر المختار الذي بإمكانه أن يصلح في الأرض وبإمكانه أن يفسد أيضا وبإرادته واختياره يحدد ما يحققه من هذه الإمكانات .

وهذا الفهم للخلافة هو المنطلق الذي يصور عنه السيد الصدر ” أعلى الله مقامه ” ومبدأ المسؤولية في نظرية الإسلام الفلسفية للأخلاق والتي قد يوفقنا الله تبارك وتعالى بالحديث عنها في الحلقة القادمة عن الموضوع أن شاء الله تعالى .

وما هي الشهادة ……..؟

يقول سيدنا العظيم في ترجمة هذا المفهوم حسب التعاريف المنطقية للأسماء :

” وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خط الخلافة – خلافة الإنسان على الأرض – خط الشهادة الذي يمثل التدخل الرباني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة فالله تعالى يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وما تزخر به من إمكانات ومشاعر وما يتأثر به من مغريات وشهوات وما يصاب به من ألوان الضعف والانحلال وإذا ترك الإنسان ليمارس دوره في الخلافة بدون توجيه وهدى كان خلقه  عبثا ومجرد تكريس للنزوات والشهوات وألوان الاستغلال .

وما لم يحصل تدخل رباني لهداية الإنسان الخليفة في مسيرة فأنه سوف يخسر كل الأهداف الكبيرة التي رسمت له في بداية الطريق .

وهو بهذا يثبت عدة نظريات هي من أم المسائل الفلسفية الأخلاقية وأهما أن الأخلاق موازين ثابتة وليست متغيرة على ما يذهب أليه بعض الفلاسفة الغربيين ومنهم أصحاب النظرية الماركسية .

مميزات التصحيح يعود إلى القوة الشاهدة على الأمة . ولا بد لتلك القوة الشاهدة من امتلاك الثبوت في التصورات لتوجد الوحدة والثبوت في الأحكام ، وأما إذا إنعدمت هذه القوة فأن النتيجة سوف تكون خاطئة على أكثر التقديرات .

والمسألة الأخرى التي نفهمها من ميزان الشهادة في الكيان الأخلاقي تحديد ما يصطلح عليه علميا بـ(مصادر الإلزام الأخلاقي ).

وإن كل مذهب أخلاقي لابد من استناده على فكرة الإلزام باعتبارها القاعدة الأساسية لكل نظام أخلاقي سواء كان المشرع له نظام اجتماعي أو عادات أمة وتقاليد موروثة ، أو كان إلزام غيبي مبعوث للأنبياء (ع) .

وتنبعث الفكرة الإلزامية من مبادئ المسؤولية التي تشترك معها اشتراكا وثيقا في التعبير والتطبيق ولا يمكن الفصل في الحالة من الأحوال ، وذلك أن ( المسؤولية ) معناها الإلزام ، وإلا فلا يمكن تصورها في باب الرخصة والسماحة لتساوي طرفي الفعل والترك .

إذن إن ( المسؤولية ) التي توجدها ( مفاهيم الخلافة ) تشترك مع ( الإلزام ) الذي يوجده مفاهيم الشهادة ويرتبط معه ارتباطا وثيقا على ما ظهر في الأسطر القليلة .

ويبقى ما هي مصادر الإلزام الأخلاقي ؟

يجيب السيد الشهيد الصدر على ذلك بأن المبادئ الأخلاقية هي عبارة عن مفردات قانونية ثابتة في كل مجتمع مهما تغيرت فيه التكنولوجيا والتصنع ، باعتبارها أمور مرتبطة بالحضارة ، وملازمة للتمدن ، ولا علاقة لها بعالم الصناعة والعلوم الطبيعية ، وهي بذلك تتبع القوانين النفسية والاجتماعية التي تسيطر على حياة الفرد كما تسيطر على حياة المجتمع .

وبعد ذلك : فأن المصدر الوحيد الذي يستتبع احتياجات الإنسان بعلاقاته وفق ما يمليه عليه المبدأ الإلزامي في التعامل الأخلاقي هو الله سبحانه وتعالى لكونه المشرع الحكيم ولأنه وحده جل جلاله قادر على تشخيص المبادئ الثابتة في الإنسان ومجتمعه .

ويمكننا تسمية هذه النظرية بـ( نظرية الإلزام الإلهية ) باعتبارها تحصر حق الإلزام في الله تبارك وتعالى ولا تسمح لقوة أخرى باستعمال هذا الحق سواء كان في التشريع أو التنفيذ ، أو الحكم والقضاء .

وهنا أيضا تجتمع ( الخلافة ) و( الشهادة ) مرة أخرى في ( الإلزام ) لتربط بين جانب ( التحديد الذاتي ) في الخلافة ، وبين شهادة السماء على الإنسان لتوازن سلوكه في الأرض .

ويظهر العمق الفلسفي في النظرية الإسلامية حسب ما فهمه سيدنا الشهيد الصدر ” قدس الله نفسه الزكية ” خصوصا عند المقارنة مع النظريات الأخرى التي طرحها المتخصصون من فلاسفة الأخلاق أمثال ( هنري برجسون ) الذي يحصر مصادر الإلزام الأخلاقي بشيئين ( أحدهما : قوة الضغط الاجتماعي ، والآخر : قوة الجذب ذي الرحابة الإنسانية المستمدة من العون الإلهي ، وهي قوة أوسع مدى من سابقتها . ((دستور الأخلاق في القرآن الكريم / محمد عبد الله دراز ص23.))

والحق نقول أن مصطلح ( الشهادة ) لابد من إدخاله في القاموس الفلسفي الأخلاقي لأنه يستوعب عدة مفاهيم أخلاقية ندرس في مجالاته ، يربط بينها السيد الشهيد الصدر ليصدر من جميعها عنوانا واحدا سماه الشهادة .. فالشهادة هي القيمومة على الانحراف وهي أحد المباحث الأساسية في ( الإرادة ) .

والشهادة تثبت أن مفاهيم ( الغرائز ) الذي يبحث عنه مرة في علم النفس ، وأخرى في علم الاجتماع ، وثالثة في علم الأخلاق لها مفهومها الإسلامي الخاص عند السيد الشهيد يعطينا النص التالي صراحة ذلك بقوله :

” فالله تعالى يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وما تزخر به من إمكانات ومشاعر وما يتأثر به من مغريات وشهوات وما يصاب به من ألوان الضعف والانحلال . ((الإسلام يقود الحياة / ص143 .))

فما يسمى بغريزة (حفظ الذات ) أو (غريزة الخول) أو ( غريزة حب الهوة ) أو (السلطة والجاه ) أو ( الملكية والحيازة ) و (حب الاستطلاع) وغيرها ، في الواقع لم تتولد مع الإنسان كما تذهب أليه بعض المدارس الحديثة في علمي النفس والأخلاق ، والمسألة تعيش في غموض كبير في فهمهم لمعنى الغريزة ودورها النفسي أو الأخلاقي في تركيبة الفرد أو المجتمع ، وعليه فمن السهل أن يلمس ذلك الاختلاف واضحا لعدم حصولهم على نظرية مقنعة للتفسير . ((وأما ( أحمد أمين ) المصري في كتابه (الأخلاق) من ص25 يعيش تخبطا كبيرا في الموضوع في تفسيرها أو تحديد أبعادها))

مع هذا فأن السيد الشهيد بكل سهولة وبتمام البساطة يذكر أن ما سميت بالغرائز إنما هي أمور يتأثر بها الإنسان عند اصطدامه في الحياة ، لم يسبق له أن تعرف عليها في عالم قبل عالمنا .

من هم الشهداء

وأما هم فثلاث يقول :

” هم النبيون والربانيون والأحبار هم علماء الشريعة والربانيون درجة وسطى بين النبي وعالم وهي درجة الأمام .

ومن هنا أمكن القول بأن خط الشهادة يتمثل :

أولا : في الأنبياء .

وثانيا : في الأئمة الذين يعتبرون امتدادا ربانيا للنبي في هذا الخط .

ثالثا : في المرجعية التي تعتبر امتدادا رشيدا للنبي والإمام في خط الشهادة .

الفصل الثاني من التكامل الأخلاقي

ويبتدأ الفصل هذا في مراحل تكامل الشهداء ، فإن التكامل الأخلاقي حسب هذا التقسيم ( الخلافة _ الشهادة ) سوف يكون على أمتين : _

الف) الشهداء .

ب) المشهود عليهم .

وتكفي الخلافة في عملية التكامل  الأخلاقي للأمة الثانية ( المشهود عليهم ) في قطع مراحل السفر إلى الله تعالى وتحقيق أهدافه الكبرى في الأرض .

بينما نلاحظ أن العملية سوف تستمر عند الأمة الأولى وهم ( الشهداء ) في حركة المسير إلى الله تبارك وتعالى ويحتاج إلى قيد أخلاقي زائد وهو ما يكن أن يعبر عنه بكلمة ( شرط الشهادة الرئيسي ) .

وهذا الشرط لابد من توفره في الثلاث ، ولكن على رتب مختلفة ، يفصل ذلك السيد الشهيد بقوله :

” وهو أن النبي والرباني _ الإمام _ يجب أن يكون معصوما أي مجسدا للرسالة بقيمها في كل سلوكه وأفكاره ومشاعره ولابد أن تكون هذه النظافة المطلقة متوفرة حتى قبل تسلمه للنبوة والإمامة لأن النبوة والإمامة عهد رباني إلى شخص وقد قال الله تعالى : ” لا ينال عهدي الظالمين “

فكل ممارسة جاهلية أو اشتراك ضمني في ألوان الظلم والاستغلال والانحراف تجعل الفرد غير جدير العهد الإلهي ” .

هذا بالنسبة للشاهد الأول والشاهد الثاني … وأما الشاهد الثالث فيقول :

والمرجع هو الإنسان الذي اكتسب من خلال جهد بشري ومعاناة طويلة الأمد استيعابا حيا وشاملا ومتحركا للإسلام ومصادره وورعا معمقا يروض نفسه عليه حتى يصبح قوة تتحكم في كل وجوده وسلوكه ، ووعيا إسلاميا رشيدا على الواقع وما يزخر به من ظروف وملابسات ليكون شهيدا عليه . “

وقال في مكان آخر :

” وأما المرجعية فهي عهد رباني إلى الخط لا إلى الشخص أي أن المرجع محدد تحديدا نوعيا لا شخصيا وليس الشخص هو طرف التعاقد مع الله بل المركز كمواصفات عامة ومن هذه المواصفات العدالة بدرجة عالية تقرب من العصمة فقد جاء في الحديث عن الإمام العسكري ” عليه السلام ” ( فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه للعوام أن يقلدوه ) .

ولكن هذه العدالة ليس من الضروري أن تبلغ إلى درجة العصمة ولا أن يكون المرجع مصونا من الخطأ بحال من الأحوال ومن هنا كان هو بدوره بحاجة إلى شهيد ومقياس موضوعي ” . ((الإسلام يقود الحياة /ص147 .))

فالشهادة تعاملت مع الخلافة في خلق الفرد ، والمجتمع الصالح ، ومبادئ الله تبارك وتعالى ، وأعتقد جازفا أن الوضع العلمي الذي وصفه السيد الشهيد ” أعلى الله مقامه ” في توضيح معالم ( علم الأخلاق ) بالمضمون والثبوت الجديد هو في قمة مستويات البحث . وأنا معتقد أيضا أن محمل البحث الذي قدمته هو عبارة عن بدايات بحوث أعمق وأشمل ادعوا الله تبارك وتعالى أن يهيئ من يقوم بذلك خدمة للرسالة وتخليدا لأكبر مضحي ومفدي ومخلص عرفته القرون الأخيرة .

وأخيرا إلى سيدنا الأستاذ معذرة أرجو منه العفو والقبول . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

جمادي الثانية / 1402هـ