اطروحة المفكر الصدر ومذاهب الاستقراء يحيى محمد

محتويات إخفاء

باحث إسلامي عراقي مقيم في لندن.

مجلة قضايا إسلامية معاصرة ، العددان 11-12 ، 1421 هـ ، 2000 م.

 

يعرّف الدليل الاستقرائي عادة بأنه استدلال يعتمد على حالات خاصة قليلة لينتهي بالنتيجة الى حالة عامة، كما هو الحال في القانون الاستقرائي القائل: « كل حديد يتمدد بالحرارة»، فلا شك انه ناتج عن اختبار عدد محدود من قطع الحديد بالحرارة. والحقيقة ان الاستقراء لم تقتصر وظيفته على اثبات الحالة العامة. اذ لا شك ان له دوراً آخر في اثبات الحالة الفردية من خلال ملاحظة القرائن وتجميع الاحتمالات حتى يصل بها الى درجة الاثبات او اليقين. فمثلاً كيف نعرف ان ذلك القدح مملوء بالماء لا الخمر، لولا عملية الاستقراء الكاشفة عن عدة قرائن احتمالية تتراكم لتصل الى مرحلة الجزم واليقين. ومن الواضح ان هناك مشكلة اساسية في الاستقراء، ففي مثالنا الانف الذكر «كل حديد يتمدد بالحرارة» علمنا انه جاء نتيجة عدة اختبارات لقطع محدودة من الحديد، وبالتالي كيف جاز لنا ان نعمم النتيجة ونعتبر كل حديد يتمدد بالحرارة؟ وبعبارة اخري: كيف نحكم بما هو شاهد على ما هو غائب؟ وكيف نحول ما هو خاص جزئي الى ما هو عام كلي؟ ومن ثم كيف نبرر عملية اليقين في التعميم؟ بل وكيف نبرر كذلك حالة اليقين في اثبات القضايا الفردية؟ وكيف يسوغ لنا ان نحول الاحتمال مهما بلغت قوته الى يقين جازم مطلق؟

وهكذا فان مشكلة الاستقراء في جوهرها هي مشكلة االيقين والتعميم. واذا ما علمنا ان اغلب المعارف البشرية هي معارف استقرائية، ادركنا قيمة الجهود التي تبذل لتفسير عملية الاستقراء. فتفسير هذه العملية هو في حد ذاته تفسير لأغلب المعارف التي يتزود بها الفكر البشري. من هنا جاءت دراسة الشهيد الصدر وهي تعبّر عن هذا المعني، وذلك في كتابه اللامع (الاسس المنطقية للاستقراء). فهي ليست مجرد تفسير للاستقراء بما هو استدلال فحسب، بل انها تمثل تفسيراً لاغلب معارف الفكر البشري، سواء كانت علمية او حسية او ميتافيزيقية او غير ذلك من المعارف الاخري.

والمتتبع للمذاهب التي عالجت مشكلة الاستقراء، سيجد انها تفترق من الناحية الرئيسية الى موقفين متناقضين، أحدهما قديم يمتد الى ارسطو واتباعه من العقليين ومَن سار على شاكلتهم، والاخر حديث يبدأ من فيلسوف الشك التنويري ديفيد هيوم. فبينما كان المنطق العقلي يرى ان الاستقراء محلول أمره من أوله الى آخره دون ان يعي أي مشكلة يمكن ان يشار اليها بالبنان؛ جاء الفكر الحديث وهو يرى ان مشكلة التعميم واليقين مستعصية، مبدياً عدم تفاؤله بأي أمل لإنقاذ المعرفة البشرية من براثن الشكوك والظن. ووسط هذا الضباب، بين عدم الوعي بالمشكلة والوعي بها، وبين حل القضية والتعذر عن حلها، جاء دور السيد الصدر الريادي ليدشّن طريقاً جديدة في المعرفة البشرية. لقد وقف السيد الصدر موقفاً مزدوجاً تجاه كل من المنطق الارسطي والمنطق الحديث، فهو مع المنطق الارسطي أخذ ينعى عليه حلوله الساذجة، ويكشف عما فيها من دور ومصادرات ليس الاستقراء بحاجة اليها. أما موقفه مع المنطق الحديث، فهو انه وإن وافقه على وجود مشكلة منطقية في الاستقراء، لكنه انفرد في الاعتقاد بالقدرة على تذليل المشكلة والقضاء عليها. فهو يتفق مع المنطق الحديث ويعي ان البرهنة على قضايا التعميم واليقين في قضايا الاستقراء انما هو ضرب من المستحيل، لكنه مع ذلك سلك سبيلاً آخر لم يسبق له مثيل، حيث انه افترض اليقين في العملية الاستقرائية وقام بتبريره منطقياً.

من الناحية التاريخية ان أقدم المصادر التي تطلعنا على الاعتراف بوجود مشكلة في الاستقراء هي تلك التي تعود الي جابر بن حيان الكوفي خلال القرن الثاني للهجرة، حيث انه لا يرى ما يبرر اليقين في التنبؤ بالحوادث والتعميمات الاستقرائية، ويعتبر ان الدلالة عليها لا تزيد عن محض الاحتمال. فابتداءً انه يرى ان اضعف حالات الدليل هو ذلك الذي لا يعول الا علي شاهد واحد، كمن يقول: بأن امرأة ما ستلد غلاماً وذلك اعتماداً علي ما رآه انها قد ولدت قبل ذلك ولداً واحداً لا غير. في حين انه يعتبر ان أقوى حالات الاستدلال بالاستقراء هو ما كانت شواهد الوجود دالة عليه من غير مخالف، كمن يقول بأن ليلتنا هذه ستنكشف عن يوم يتبعها، استناداً الي ما رآه من اضطراد في تتابع الليل والنهار. وبين هذه الحالة والحالة التي قبلها هناك حالات اخرى تتفاوت قوة وضعفاً بحسب كثرة النظائر وقلتها. وهو في جميع الاحوال لا يرى في هذه الحالات ما يفضي الي اليقين، بل فيها ظن وحسبان تبعاً لما يدرك من نظام وشبه ومماثلة «حتى انه لو حدث في يوم ما من السنة حادث لرجوا حدوث مثل ذلك الحادث بعينه في ذلك اليوم من السنة الاخري، فان حدث في ذلك اليوم بعينه من هذه السنة مثل ذلك الحادث تأكد عندهم ذلك ان سيحدث مثله في السنة الثالثة، وإن حدث في السنة الثالثة ايضاً، حتي اذا حدث ذلك مثلاً عشر مرات في عشر سنين لم يشكوا البتة في حدوثه في كل سنة». ويزداد الوقع في النفس فيما لو زاد العدد، فكيف اذا ما كان الاضطراد علي وتيرة واحدة من الحدوث؟! وقد اعتبر جابر ان هذا الحال اوهم بعض رجال العلم مثل جالينوس، فمع تمكنه من العلم وتدبره في النظر فانه قد أخذ اعتبار مثل تلك الحالات المضطردة علي انها عقلية أولية، فقال في كتابه البرهان: «ان من المقدمات الأولية في العقل انه اذا كان الصيف يتبعه الخريف لا محالة، فانه لم يكن الا بعد خروج الربيع». وهذا ما أنكره جابر، حيث اعتبر انه لا يُؤمّن ان يحدث هناك صيف لا يعقبه خريف ولم يتقدمه ربيع. وهو على العموم يرى ان علة عدم استطاعتنا ان نتيقن من الحوادث المستقبلية وذلك لعدم إحاطتنا بادراك جميع الموجودات((مختار رسائل جابر بن حيان، تصحيح كراوس، مكتبة الخانجي، 1354هـ، ص419ــ421.)).

لكن يظل ان الفضل في الكشف عن طبيعة المشكل المنطقي الذي يتضمنه الدليل الاستقرائي؛ يعود الى الفيلسوف الانجليزي ديفيد هيوم (1711ـ1776) المعروف بنقده للمعرفة ورده على النزعة العقلية. فهو في مواقفه النقدية أثار مشاكل جديدة كان لها الاثر البالغ على نضج التفكير الفلسفي لدى الذين خلفوه؛ سواء من التجريبيين كالوضعية المنطقية او من العقليين كالفيلسوف عمانوئيل كانت الذي اعلن قوله صراحة: «انني لاعترف صادقاً ان ما استذكرته من تعليم ديفيد هيوم كان هو على وجه التحديد العامل الذي أحدث ـ منذ اعوام كثيرة ـ اول هزة ايقظتني من سبات جمودي الاعتقادي، ووجّه أبحاثي في مجال الفلسفة التأملية وجهة جديدة»((محمود، زكي نجيب: ديففيد هيوم، دار المعارف، 1958م، ص13.)). لذا كان كتابه الموسوم (نقد العقل المجرد) يهدف الى انقاذ المعرفة البشرية من خطر الانتقادات التي أحدثها هيوم.

وعلى العموم ان ظهور هيوم والرد عليه من قبل كانت ثم مجيء الوضعية المنطقية التي نقدت ما قبلها؛ كل ذلك قد ادى الى بلورة المشاكل الاساسية المتعلقة بالدليل الاستقرائي.

فما من أحد يشك في ان هيوم هو اول من وجد في الاستقراء مشكلة منطقيةپپ“ هذه المشكلة التي تتحدد بمسألة وجود المبرر المنطقي للتعميم؛ اعتماداً على فهم السببية بشكل خاص. لذلك كانت هناك مواقف مختلفة اتجاه الدليل الاستقرائي؛ بعضها ينفي المشكلة من الاساس، وبعض آخر يرى أنها ثابتة لا تزول، كما توجد هناك مواقف أخرى لا تصل الى هذين الحدين المتطرفين، وتبتغي سبلاً متباينة من الوسط.

وقد ارتبطت بهذه المشكلة مشكلة منطقية آخرى تتعلق بمبرر اليقين في القضايا الاستقرائية؛ حتى تلك التي لا تكون لها علاقة بالتعميم؛ كمعرفتنا بوجود واقع موضوعي حولنا، وبوجود زيد وموت سقراط ونشوء الارضپپ“ الخ.

ونحن في معرض دراستنا لمذاهب الاستقراء سنقوم بتوزيع اتجاهاتها استناداً الى هاتين المشكلتين.

فهناك اتجاه ينفي أن يكون للاستقراء مشكلة منطقية، كما هو الحال مع المذهب العقلي وفرانسيس بيكون وجون لوك وستيوارت مل والمدرسة الماركسية. وفي المقابل هناك اتجاه آخر ثبّت المشكلة المنطقية دون أن يرى إمكان حلها أو تخفيفها. ويتمثل هذا الاتجاه بفلسفة هيوم. كذلك يوجد اتجاه ثالث يعترف بالمشكلة المنطقية للاستقراء، لكنه يعتقد ان من الممكن تخفيفها، وهو ما عليه الوضعية المنطقية. وأخيراً فهناك المذهب الذاتي للشهيد الصدر الذي هو أيضاً يعترف بوجود المشكلة التي ينطوي عليها الاستقراء، لكنه يعتقد بامكان القضاء عليها تماماً.

الاتجاه التبريري والنزعة القبلية:

أول ما يواجهنا في الاتجاه التبريري هو المنطق الارسطي الذي لم يشكك ابداً بالقيمة الموضوعية التي يفرزها الاستقراء. اذ هو يعتقد ان هذه الاداة صالحة لبناء المعرفة طالما تخضع تحت تحكم بعض المبادئ القبلية التي تُضفي عليها صفة القياس المنطقي.

واذا كان هذا المنطق لا يجد في الاستقراء مشكلة ذاتية نابعة من طبيعته، فلا يعني ذلك انه ينفي عنه سائر المشاكل الاخرى ؛ كتلك الموصوفة بجواز الوقوع في الخطأ العارض، وهي من المشاكل الواقعية. ولا شك ان لهذه حسابها في التوالد القياسي للاستقراء الارسطي.

لكن من الناحية المبدئية يظل الاستقراء الارسطي محكوماً باعطاء نتيجة كلية صحيحة من دون شك، طالما انها تخضع الى حكم القضايا القبلية. فضلاً عن ان مبرره لاثبات القضايا الكلية، يعود الى فهمه الخاص لعلاقات الطبيعة، إذ يراها تنطوي على الروابط الحتمية الخاصة بين ماهيات الاسباب والمسببات. وهو على الرغم من عدم ادعائه القدرة على استنتاج هذه العلاقات قبلاً بواسطة العقل؛ لكنه يسلّم مبدئياً بمحكومية تلك العلاقات ضمن اطر الاعتبارات القبلية، الامر الذي يضفي عليها النزعة العقلية؛ استناداً الى مبادئ خاصة مثل المبدأ القائل: بأن الاتفاق (الصدفة) لا يتكرر أكثرياً ولا دائمياً، ومبدأ الانسجام القائل: بأن الحالات المتشابهة تؤدي الى نتائج متماثلة؛ لذا كان اكتشاف هذه العلاقات بواسطة الملاحظة والتجارب لا يغيّر من الفهم الارسطي حول رد القضايا الاستقرائية الى الصور العقلية وما تتضمنه من اعتبارات الضرورة. وعليه فان الاستقراء بهذا الاعتبار لا ينطوي على مشكلة منطقية تستحق الفحص والتأمل.

على ان نفس هذه النتيجة يمكن استخلاصها من دراسة الموقف العقلي الحديث من الاستقراء. فهو ايضاً يرى ان الطبيعة تتضمن الصور الحتمية من العلاقات، فلا يبقى للباحث من مهمة سوى تشخيصها واستخلاص كلياتها، أو العمل على تعميمها بسلام!

وقد بلغ الامر ببعض الفلاسفة الى ان يرد علاقات الطبيعة الى شكل من الاشكال المنطقية. فالفيلسوف الحديث لايبتز يرى ان من الممكن رد كل علوم الطبيعة الى الرياضة، والمعرفة التجريبية الى التفكير المنطقي المجرد؛ فيستنبط مثلاً من مفهوم (النار) انها حارة تُمدد الحديد وتغلي المياه، وكذلك من مفهوم (افلاطون) انه كان فيلسوفاً إغريقياً ترجع اليه نظرية المثلپپ“. الخ((ريشنباخ:نشأة الفلسفة العلمية،ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1979م، ص102.)). وهو فهم يحاكي المنطق الارسطي في رؤيته الاستنباطية القائمة على ماهيات الاشياء.

يظل ان الفلاسفة العقليين اذا ما استثنينا منهم (كانت) لا يتصورون وجود مشكلة تلوح المعرفة البشرية عامة والاستقرائية منها على وجه الخصوص. وحتى (كانت) فانه يضع للمعرفة شروطاً قبلية تعمل على قبول ما يطلق عليه بـ (الشيء لذاتنا)، جاعلاً (الشيء في ذاته) مما لا يمكن التعرف عليه بوجه ما من الوجوه. الامر الذي يجعل القضايا الاستقرائية قضايا ظاهرية تتصحح بما لدينا من مقولات قبلية هي اشبه بالمبادئ العقلية الضرورية. فهو بهذا الاعتبار لا يولي لخصوص الاستقراء مشكلة خاصة.

وليس الغريب فيما ينطوي عليه الموقف العقلي من تبرير الدليل الاستقرائي برده الى حكم القضايا القبلية، انما الغريب فيما تلجأ اليه العديد من الاتجاهات التجريبية من تبرير ينساق بدوره الى حكم المصادرة القبلية. فلو أنا درسنا مواقف كل من بيكون ولوك ومل والماركسية؛ لوجدناها خير من يعبر عن التلبس بمثل هذه المصادرة. فمبدأ الاستقراء بحسب هذه الاتجاهات لا ينطوي على مشكلة في نتائجه وتعميماته، انما يكفي ما يلاحظ من خبرات سابقة كمبرر لتأسيس الاحكام التي صفتها التعميم عما سوف يحدث مستقبلاً.

فاذا اتينا الى بيكون سنجد انه اول من اهتم بالاستقراء كأداة وحيدة لتحصيل المعارف، الا ان الاستقراء الذي اشاد به كان يقتصر على المنهج التصنيفي، إذ فيه يعرض صفة معينة تُدرس من خلال قوائم لظواهر مختلفة، فهناك قائمة تختص بالظواهر التي تمتلك تلك الصفة، واخرى فيها ما يشابه الظواهر الاولى بوجوه محددة لكنها تخلو من الصفة، وقد تكون هناك قائمة ثالثة تظهر فيها الصفة بشكل متفاوت. وغرض بيكون في منهجه التصنيفي هو لأجل التعرف على الصور الحقيقية لصفات الاشياء، ثم تعميمها على مشابهاتها، وهو لم يعن به كمنهج لدراسة تعلّق الظواهر بعضها بالبعض الآخر((تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم، ص50.)). كما ان هذا المنهج وإن كان مفيداً في وقته، الا ان التطورات اللاحقة التي اعقبته تجاوزت ما كان عليه من بساطة، فأولت للرياضة والفروض العلمية دوراً هاماً في البحوث الاستقرائية((نشأة الفلسفة العلمية، ص83.)). أما من الناحية المنطقية فيلاحظ ان عصر بيكون لم يحن له الوقت بعدُ ليدرك ما يتخلل الدليل الاستقرائي من فجوة معرفية تحتاج الى الملاحظة والنقد.

ويمكن ان يقال نفس الشيء بالنسبة الي مذهب جون لوك الذي أيّد بيكون بسلامة ما استخدمه من الاداة الاستقرائية. لكنه مع هذا واجه مشكلة من نوع آخر اعترضته بطريق الصدفة. فباعتقاده ان معرفتنا لخواص الاشياء محدودة بحيث لا تبلغ درجة اليقين ولا التعميم، وسبب ذلك يرجع الى ضعف طريقة الاختبار التي نمتلكها لفحص الوقائع الخارجية، فلو ان هذه الطريقة تغيرت لكان من الممكن تحقيق كامل الاستنتاجات الصحيحة للقضايا الاستقرائية. والطريقة التي تصورها لوك في كسب الاستنتاج الصحيح؛ تعتمد على معرفة الصفات الاولية للجزيئات التي تتكون منها الاشياء الخارجية، فلو ان حواس الانسان كانت قوية ونافذة الى تلك الصفات؛ لأمكن استنتاج كل الخواص المرئية للاشياء، كأن نستنتج مثلاً ان كل قطعة من الذهب لها قابلية على الطرق((عصر التنوير، ص137ـ139، ايسايا بيرلين، ترجمة د. فؤاد شعبان، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي في دمشق 1980م.)).

كذلك ان الماركسية هي الاخرى قد خلت من العنصر النقدي للاستقراء ولم تقدّر وجود مشكلة منطقية فيه، وموقفها من علاقات الطبيعة يشابه الموقف العقلي، حيث ترى ان هذه العلاقات يتجاذبها شكلان من الروابط، احداهما روابط حتمية، والاخرى عرضية او صدفوية، وكلاهما محكومتان بمبدأ السببية العامة. فكما تقول: «ان كافة الظواهر التي تجري في الطبيعة مشروطة سببياً، فليس هناك من عملية، من حادثة الا ولها اسبابها. لكن ليس كل ما حدث، او يحدث الان في الطبيعة ام المجتمع شيئاً ضرورياً. فالى جانب الضرورة هناك صدفة موضوعية واقعية هي شكل لتجلي الضرورة وتكميل لهاپپ“. فبالنسبة الى الانسان يكون الموت مثلاً امراً طبيعياً، لكن السنة التي يموت فيها ـ ناهيك عن الساعة والدقيقة! ـ هي صدفة الى حد ما، تتوقف على عدد من الاسباب والظروف غير المشروطة على نحو محدد تماماً بالضرورة المعنية. وليس من الصدفة مثلاً ان يضغط الغاز على جدار الوعاء في درجة معينة من الحرارة، ولكن العرضي هو ان الجزيئات التي تضرب على الجدار هي هذه الجزيئات وليست تلك. كذلك فإن من الامور الحتمية ان يتحلل نصف نوعي عنصر مشع خلال نصف دور تحلله، لكن العرضي هو أية ذرات تحللت في هذه الفترة وايها لم تتحلل»((لينين: المادية ومذهب نقد التجربة، ص174ــ175 / العدد الاول من سلسلة اضواء على الفكر الماركسي الكلاسيكي، اعداد الدكتور توفيق سلوم.)).

فبهذا الفهم لعلاقات الطبيعة لا توجد هناك مشكلة منطقية للاستقراء، إذ مع لحاظ توفر ذات الشروط في علاقات الطبيعة لابد ان تكون النتائج المستقبلية واحدة باضطراد. الامر الذي عليه يتأسس التنبؤ بمجرى الوقائع والاحداث((المصدر السابق، ص167.)). والميزة الخاصة لهذا الموقف هو انه يعود الى اتجاه لا علاقة له بالمنطق العقلي، لكنه يتلبس بمصادراته القبلية.

فيكفي ان نلاحظ الإشكالين الآتيين:

1ـ إن الاعتقاد بالسببية العامة لا دليل عليه وفق المباني التجريبية؛ باعتبارها من المبادئ الكلية غير المشروطة، وذلك لأنها تتجاوز إطار العلاقات الملحوظة في الطبيعة.

2ـ إن الخضوع للمنطق التجريبي لا يبعث على كشف الضرورة في علاقات الطبيعة، وبالتالي فإن التعميم لا يستند الى ركيزة يقوم عليها في الدليل الاستقرائي.

مل ومصادرات الاستقراء:

حين نتقدم لدراسة آراء جون ستيوارت مل سنجد فيها نضجاً متكاملاً قياساً مع الآراء السابقة. فهو من ابرز الرجال الذين اهتموا بمعالجة الاستقراء وتحليله رغم عدم اكتراثه بالمشاكل الذاتية التي كشف النقاب عنها ديفيد هيوم. وهو وإن كان متأثراً بأفكار هذا الاخير لكنه يختلف معه في الموقف من الاستقراء. فلأن هيوم كان يرى الاستقراء منطوياً على عقدة ذاتية؛ فإن الامر عند مل غير محمول على محمل الجد. ولأن الاول كان يبني تحليله للاستقراء من خلال مبدأ السببية؛ فإن الآخر يصادره ابتداءً، وعليه يقيم استكشافه للسببية. هذا بالاضافة الى ان فهمهما للسببية مختلف، فهي عند مل تنطوي على الضرورة، وعند هيوم مجرد تتابع زمني.

ويلاحظ في موقف مل وجود مصادرتين اساسيتين كالاتي:

الاولي: ايمانه المطلق بمبدأ الاستقراء كأداة صحيحة وسليمة لكسب المعارف جميعاً من دون إستثناء. فحتى العلوم التي يعتبرها المذهب العقلي اولية كعدم التناقض والعلية ومبادئ الرياضيات؛ فانها عند مل مستمدة من التجربة والاستقراء، بل وتخضع الى تفسير قوانين تداعي المعاني التي ادلى بها هيوم((جون ستيوارت مل ص141، د. توفيق الطويل، دار المعارف بمصر.)). وبذلك يقول مل: «إن اصل كل العلوم، حتى تلك العلوم الاستنباطية او البرهانية هو الاستقراء»((الضرورة والاحتمال للسيد نفادي، ص75، دار التنوير، بيروت، ط1، 1983م.)).

أما المصادرة الثانية: فهي انه قام بتبرير ما ينشأ لدينا من تعميمات مستقبلية طبقاً لما يلاحظ من ثبات في الوقائع المضطردة في الماضي. فهذه المصادرة تعتمد على ما تنتجه المصادرة الاولى في توليد الخبرات السابقة، والتي فيها تصبح الطبيعة بمثابة الكتاب الذي يمكن ان يحكي ما فيه دون حاجة لاضافة خارجية. الامر الذي يتطلب ان يكون المتطلع اليها مؤمناً بما تضفي عليه من حقائق، اذ لا مهمة للباحث سوى ان يصف ما يجري فيها من غير إضافة عقلية او ذاتية.

هكذا فبحسب المصادرة الاولى لا فرق لاداة الاستقراء من ان تكشف ما عليه الطبيعة من علاقات؛ سواء اتصفت بالخضوع الى السببية او كانت صدفوية عديمة النسق. أما بحسب المصادرة الثانية فانها يمكن ان تقوم بدورها اعتماداً على ما تخلص اليه المصادرة الاولى في الكشف عن السببية، اذ تقوم بتعميم الحكم على الحالات المستقبلية؛ وذلك تبعاً لافتراض الاضطراد الملاحظ في الخبرات السابقة. ذلك ان مل يعتبر التجربة قد علمتنا بأن علاقات الطبيعة ليست فوضوية عشوائية، بل تسير على نسق واحد مركب من عدة اطرادات جزئية تسمى بقوانين الطبيعة. وكما يقول: «اذا تأملنا الاطراد في سلوك الطبيعة المفترض في كل تجربة، فمن الملاحظات الاولى التي تكشف نفسها ان الاطراد في هذه الحالة ليس اطراداً واحداً وإنما هو في الحقيقة عدة اطرادات. فالانتظام العام ينتج عنه وجود انتظامات جزئية، وسلوك الطبيعة على العموم ثابت؛ لأن سلوك كل الظواهر المختلفة تنظمها حقيقة معينة تحدث بلا تغيير عندما تتواجد ظروف معينة، ولا تحدث عندما تغيب هذه الظروف». ويقول ايضاً: «فملاحظة الاطراد في سلوك الطبيعة، هو في حد ذاته شيء معقد، ومركب من جميع الاطرادات المتفرقة التي توجد من جهة الظاهرة الفردية. هذه الانتظامات المختلفة، هي ما نسميه في حديثنا العام بقوانين الطبيعة»((الضرورة والاحتمال، ص76.)).

وعلى العموم ان مل يعتقد بوجود نوعين من الاطراد، أحدهما دال على الاقتران في الوجود؛ من قبيل ملاحظة ان كل زنجي يقترن مع ظاهرة تجعد الشعر، وكل صيني يقترن مع انحراف العينين. أما الاخر فهو دال على الاقتران في التتابع، ويطلق عليه بالسببية، سواء كانت عامة او خاصة((المنطق الحديث ومناهج البحث، ص245، محمود قاسم، دار المعارف بمصر، ط6، 1970م.)). فكل ظاهرة تسبق اخرى باطراد وكانت بينهما علاقة ضرورية لا تقبل الانفكاك فإن الاولى تسمى علة والاخرى معلولاً، إذ لا تعني العلة الا مجموعة الشروط والظروف التي متى تحققت فلابد للمعلول ان يقع بصفة مطردة. فهذه الصفة من الاطراد يمكن تعميمها بحسب المصادرة الثانية، اذ ان قانون تداعي المعاني يجعل الذاكرة تعيد الظواهر بنفس النسق الذي كنا نراه ثابتاً في الطبيعة، طبقاً للضرورة المستنتجة بواسطة الاستقراء((جون ستيوارت مل، ص142ــ143.)).

والملاحظ في هذا التفكير انه يواجه بعض الصعوبات كالآتي:

أولاً: ان مصادرته لمبدأ الاستقراء في تحقيق القضايا المعرفية يصطدم مع ما يلاقيه من مشكلة منطقية تلوح عملية الترجيح وتحويله الى اليقين. ذلك ان معرفة قضايا الطبيعة لا يمكن فصلها عن اعتبارات مبادئ الاحتمال واصوله. فاذا كانت جميع المعارف نتاج التجربة والاستقراء؛ فكيف نبرر الحكم على قضية استقرائية مثل سببية الحرارة لتمدد الحديد؛ مع انها تخضع للعديد من الاحتمالات الممكنة، وهذه الاحتمالات اذا كانت مستنتجة بدورها من خلال الاستقراء فسوف نقع في دوامة من الدور والتسلسل، ولو لم تكن إستقرائية لكانت مصادرة قبلية لا تتناسب مع ما عليه مذهب مل والاتجاه التجريبي عامة. كذلك فان الاستناد الى منطق الاحتمالات والترجيح لا يحول القضية الاستقرائية الى يقين، الامر الذي يحتاج الى منطق آخر مختلف كالذي دعا اليه المفكر الصدر على ما سنري.

ثانياً: إن اعتقاده بأن الضرورة مستنتجة عن طريق الاستقراء لا يُقر عليه؛ اذ كل ما يمكن للاستقراء كشفه هو ثبات العلاقات الطبيعية، لكن اثبات هذا الثبات شيء واعتباره خاضعاً للضرورة شيء آخر، على ما سيتبين لنا فيما بعد.

ثالثاً: ان جعل المستقبل على وتيرة الماضي إن كان يجد ما يفسره نفسياً عن طريق تداعي المعاني؛ فانه لا يجد ما يبرره منطقياً على ما سنعرف. ويتضاعف الامر عند التسليم بالتعميم من نوع علي آخر. فمثلاً ان انواع الظواهر التي يخضعها مل للبحث العلمي هي غير الانواع الملاحظة خلال التجارب الماضية، واذا كنا نرى في هذه الاخيرة اطراداً ثابتاً لبعض الانواع بين العلة ومعلولها؛ فكيف يحق لنا ان نفترض سلفاً نفس الثبات بالنسبة للانواع الاخرى من العلاقات؟!

موقف المفكر الصدر من اتجاه مل:

أما بالنسبة لموقف الشهيد الصدر من اتجاه مل؛ فيمكن تقسيمه الى جانبين؛ احدهما فلسفي والاخر منطقي:

1ـ بخصوص الجانب الفلسفي اتفق المذهبان على ان الاستقراء ليس بحاجة لافتراض قضايا السببية سلفاً؛ كما هو عليه الاتجاه العقلي. لكن مؤاخذة الشهيد الصدر على اتجاه مل تتحدد بأن هذا الاخير رغم انه اعتبر الاستقراء دليلاً كاشفاً عن السببية من حيث الاصل؛ الا انه عاد واعتبرها اساساً لبناء التعميمات الاستقرائية اللاحقة. مع انه اذا كان الاستقراء قادراً على اثبات السببية وتعميمها؛ فباستطاعته ان يثبت ذلك مع اي قضية استقرائية اخرى بدون حاجة الى افتراض قضايا السببية كمصادرات قبلية((لاحظ ص78ــ79.)). مع هذا يمكن ان يقال: إنه لا مانع من الاعتماد على الاستقراء بدءاً لاستنتاج السببية ثم الاتكاء عليها لاغراض علمية تفيد تسهيل البحث وتعجيل نتائجه، وهي صورة تشابه تلك التي عمل بها الاستاذ الشهيد الصدر، اذ اعتقد انه يمكن استنتاج القضايا الاستقرائية عن طريق مبدأ عدم التماثل ـ او عدم تكرر الصدفة ـ الذي هو في حد ذاته نتاج الاستقراء((لاحظ ص398ــ399 و410.)).

كما ان للمفكر الصدر نقداً آخر ازاء موقف مل التجريبي، وهو يتعلق بخصوص طبيعة السببية. اذ يربط الصدر جميع التعميمات الاستقرائية بحالة اثبات السببية (العقلية) المتضمنة للضرورة، وهو لا يرى قدرة للترجيح والتعميم المستند الى السببية (التجريبية) العارية عن الضرورة، بل ويرى ان هذه السببية لا تقبل الاثبات ولا الترجيح((لاحظ ص79ــ80.)). ولا شك ان هذا الاشكال يلوح الاتجاه التجريبي الذي يؤكد على انكار الضرورة في العلاقة السببية. أما مع اتجاه مل فما يبدو انه لا ينكر مثل هذه الضرورة كما رأينا.

2ـ أما الجانب المنطقي لموقف المفكر الصدر من اتجاه مل فيمكن الاشارة اليه اجمالاً بعد التعرف على طريقة هذا الاخير في بنائه لمنهج الاستقراء العلمي، وهي الطريقة التي تقوم على اساس معالجته لنظرية المصادفة.

يعتقد مل ان التنبؤ في القوانين العلمية الاستقرائية يعتمد على معرفة العلاقات الثابتة للسببية في عالم الطبيعة. ففي هذا العالم ـ كما عرفنا ـ هناك نوعان من العلاقات؛ أحدهما عبارة عن ارتباطات صدفوية، وهي نتاج تأثير عدد من العلل المتغيرة التي لا يمكن تحديدها. والاخر عبارة عن ارتباطات قائمة على أساس العلية الثابتة. فمثلاً إن سقوط الحجر على الارض لا يعتبر من الارتباطات الصدفوية، وانما هو من الارتباطات العلية الثابتة؛ باعتبار أن هناك علاقة لزومية محددة بين سقوط الحجر وبين جاذبية الارض. في حين إن اصطدام سيارتين في طريق ما من الطرق هو ارتباط صدفوي، اذ لا توجد علاقة لزومية محددة بين حركتي السيارتين.

بهذا التفريق لروابط الطبيعة أراد مل أن يضع منهجاً للكشف عن علاقات العلية الثابتة ليتسنى له بناء صيغة علمية للاستقراء. وهنا نتساءل: ما هي الوسيلة المنطقية التي يمكن من خلالها تمييز الارتباطات الصدفوية عن غيرها من الارتباطات السببية الثابتة؟ وبعبارة أخري، ما هو المنهج الذي يجعلنا نعتبر العلاقة صدفوية أو غير صدفوية؟

حول هذا التساؤل طرح مل في البداية منهج التكرار في الوقائع والاحداث. وخلاصته هو انه اذا كانت هناك ظاهرتان ـ او اكثر ـ قد تكرر وقوعهما بكثرة؛ فيمكن ان نستنتج بأن بينهما علاقة سببية ثابتة، والا اذا لم يتكرر الوقوع على شكل متواتر فالعلاقة بينهما صدفوية. وهو منهج يعبر عن نفس الطريقة التي استخدمها ارسطو في مبدئه القائل (ان الصدفة لا تتكرر اكثرياً ودائمياً).

لكن مل ما لبث ان تنازل عن هذا المنهج ونقده. فبرأيه انه يمكن ان توجد ظواهر تتكرر بشكل متواتر رغم عدم كشفها عن وجود علاقات سببية ثابتة، لعلمنا بكونها صدفوية. كما انه على العكس قد توجد ظواهر اخرى لا تتكرر كثيراً، رغم انها تنطوي على علاقة السببية الثابتة. وبالتالي فهو يرى كما يقول: ان «المسألة ليست ما اذا كان الوقوع يتكرر كثيراً او نادراً بالمعنى العادي لهذه الكلمات، وانما ما اذا كان يتحقق اكثر مما تسمح المصادفةپپ“»((العالم، محمود أمين: فلسفة المصادفة، دار المعارف، 1970م، ص145.)).

فبهذا ان مل لا يضع اجابة تحدد مقدار التكرار الذي يمكن ان تتحقق فيه المصادفة، اذ الامر يختلف باختلاف الحالات، فالمسألة نسبية تماماً، اذ رب تكرار مستمر لا يخضع الى السببية الثابتة، ورب تكرار قليل لا يمكن رده الى المصادفة.

فعن الحالة الاولى يذكر مل إنه قد تكون هناك ظاهرة ـ لنفرضها (أ) ـ موجودة دائماً، واخرى ـ لنفرضها (ب) ـ توجد بين حين وآخر، فتصبح جميع حالات (ب) متفقة في وقوعها مع (أ)، وعلى الرغم من هذا فهو يعتبرها من المصادفات العارضة. ويؤيد ذلك بمثال يضربه حول العلاقة الصدفوية بين النجوم الثوابت الموجودة منذ القدم وبين أي ظاهرة اخرى تحدث على الارض. أما عن الحالة الثانية فيضرب مل مثالاً يخص العلاقة المتغيرة بين هبوب الريح وسقوط المطر، إذ رغم أنه لا يحدث باستمرار لكنه ينطوي على علاقة السببية((المصدر السابق، ص146.)).

الا أن هناك من اعترض على الحالة الاولى التي ذكرها مل، من حيث انه لم يقم بتوحيد الاسس حين قارن بين استمرار الوجود وتكرار الوقوع. فالمفروض أن الظاهرة المتكررة الوقوع تقارن بظاهرة مثلها، وكذا الحال مع الظاهرة المستمرة الوجود((نفس المصدر، ص147.)).

وهو اعتراض يصح فيما لو لم نجد هناك علاقات سببية ثابتة بين الظواهر المختلفة الاسس، أما مع وجداننا لهذه العلاقات فان صورة الاعتراض تكون ضعيفة الاثر. ونحن حين نستقرئ الواقع سنجد هناك الكثير من تلك العلاقات، فعلى سبيل المثال ان الهواء الذي هو مستمر الوجود له علاقة سببية ثابتة مع تكرر حياة كل فرد من افراد الانسان او الحيوان او النبات.

وبغض النظر عن ذلك فهناك الكثير ايضاً من الاقترانات المستمرة الوجود او المتكررة الوقوع والتي يمكن ان نوحد فيها الاسس دون ان نجد فيها روابط ثابتة للسببية، كما هو الحال مع وجود كل من الهواء والارض، اذ هما موجودان باستمرار، او مع تكرر كل من الولادات والوفيات في كل لحظة. فرغم ان مثل هذه الاقترانات دائمة الوجود او الوقوع فان من الواضح انه لا يوجد فيها علاقة سببية لزومية.

على هذا فان مسألة الاقتران الدائم او المتكرر لا يبعث دائماً على استنتاج السببية، كما ان العلل المتغيرة لا تبعث هي الاخرى على منعها. فرمي قطعة النقد ـ المتساوية الوجهين ـ باستمرار كبير يخضع الى ظروف عشوائية وعلل متغيرة، لكن رغم ذلك فانه يحافظ على معدل الاحتمال المقدر بنصف لكل من الوجهين، مما يجعلنا نتأكد أن هذا الاقتراب ليس مصادفة، بل يعود الى سببية ثابتة ـ نسبياً ـ على الرغم من وجود العلل المتغيرة. لذا كان حل هذه المشكلة يعود الى صميم نظرية الاحتمال.

وعلى العموم يمكن القول: إن مل لم يصل الى ضابط محدد في التمييز بين علاقات السببية والعلاقات الصدفوية، لكنه اكتفى بوضع عدة طرق نصح باستخدامها كأداة لاستخلاص السببية ضمن منهج الاستقراء العلمي. وهو مع ذلك حذر الباحث من الوقوف على جمودها، كما اعتبرها لا تصلح للتطبيق في جميع الحالات((اصول البحث العلمي ومناهجه، لأحمد بدر، ص263.)). وتنحصر قواعد كشف السببية عند مل بأربع طرق هي ما اطلق عليها بالاتفاق والاختلاف والتلازم في التغير والعوامل المتبقية.

وبحسب المفكر الصدر ان جميع هذه الطرق رغم انه يمكنها ان تقوي من ظاهرة السببية الخاصة الا انها تظل غير قادرة علي تبرير حالة اليقين فيها والقضاء علي ما يحتمل ان تكون العلاقة المطردة هي علاقة صدفوية. وهي نقطة في غاية الاهمية، وقد أولاها الاستاذ الشهيد الصدر اهتماماً مميزاً في بنائه للدليل الاستقرائي على ما سنري.

الاتجاه النقدي والمشكلة المنطقية:

قلنا سابقاً: إن أول من أثار المشكلة المنطقية للاستقراء هو دافيد هيوم؛ الذي اليه يرجع الفضل في نقد المعرفة عموماً والاستقراء خصوصاً. ويكفي أن ندرك الخطورة التي أحدثها بما شيع عنه أنه «أثار الفضيحة في الفلسفة»، حيث كثرت المحاولات للتخلص من المأزق الذي حفره ضد كل من العقليين والتجريبيين معاً.

وعلى العموم نرى أن مذهب هيوم في الاستقراء يقوم على أمرين أساسيين لابد من دراستهما معاً:

الاول: ويتقرر بأن أي محاولة للاستدلال على مبدأ الاستقراء تتعرض للدور، كما أن التعميم فيه لا يملك أي تبرير ممكن.

الثاني: ويتقرر بأن ما نسعى اليه من استنتاجات استقرائية وقضايا تعميمية؛ كل ذلك يقوم على أساس فهم خاطئ للسببية. وقد استقطب هذا الجانب اهتمام المفكر الصدر في نقده لهيوم دون الاول.

1ـ محاولة اثبات الدور في الاستقراء:

أدرك هيوم ان العملية الاستقرائية لا يمكن لها أن تتم بالشكل المطلوب ما لم يكن هناك افتراض يقرر بأن العلاقات الجارية في الطبيعة هي علاقات حتمية. وحيث إن هذا الافتراض لا يمكن البرهنة عليه؛ لذا فان الاستقراء يظل عاجزاً عن تقديم المعرفة الجديدة. فعلى رأيه أن كل محاولة يراد لها البرهنة على صحة الاستدلال الاستقرائي لابد أن تواجه حلقة فارغة من الدور. فقد يقال بهذا الصدد ان ملاحظاتنا السابقة للوقائع في الطبيعة هي التي علمتنا صحة الدليل الاستقرائي. فنحن نلاحظ دائماً أن الاوراق التي توضع في النار تحترق، وأن الحديد الذي نقربه من الحرارة يتمدد، وأن الشمس تشرق وتغرب كل يوم، وأن السمك يموت خارج الماءپپ“. الخ. فجميع هذه الظواهر جعلتنا نعتبر أن بالامكان أن نعمم عليها الحالات الاخرى المشابهة لها.

لكن واقع الامر هو أننا ـ هنا ـ نستدل على الدليل الاستقرائي من خلال استقراء آخر، فيتحتم علينا أن نقع في الدور. وابراز هذه الحجة يمكن توضيحها من خلال المثال التالي:

لنفترض أنا نريد أن نستدل على القضية القائلة بأن كل نار تحرق. في هذه الحالة لابد من توفر مقدمتين بالشكل التالي:

الاولي: عبارة عن ملاحظاتنا السابقة التي كشفت عن صفة الاحراق للنار.

أما الثانية: فهي الاقرار بأن الاشياء المتشابهة تخضع الى نفس الحكم. فمن هاتين المقدمتين نستنتج أن كل نار تحرق.

لكن الملاحظ أن المقدمة الثانية إما أن تكون مصادرة على الاستقراء أو مستدلة به، ولا شك أنه لا يوجد ما يبرر المصادرة. فيبقى انها عبارة عن نتاج استقرائي، فنكون قد وقعنا بعملية مفرغة من الدور. وهي نفس الحالة التي لم يكترث لها ستيوارت مل فتعرض الى نقد من جاء بعده، كان من أبرزهم برتراند رسل الذي قال:

«كان الكتاب الذي أذاع شهرته ـ لجون ستيوارت مل ـ أكثر من أي شيء آخر هو كتاب (نسق في المنطق). وكان الشيء الجديد في الكتاب بالنسبة الى عصره هو معالجته للاستقراء الذي يقوم في رأيه على مجموعة من القواعد تذكرنا الى حد بعيد بقواعد الارتباط السببي عند هيومپپ“ وكان رأي مل هو ان ما يعطي مبرراً للسير على هذا النحو ـ أي بالنسبة الى تبرير البرهان الاستقرائي ـ هو الاطراد الملاحظ في الطبيعة، الذي هو ذاته استقراء على أعلى مستوي. وبالطبع فان هذا يجعل الحجة كلها حلقة مفرغة، وإن كان يبدو أنه لم يكترث بهذا الامر»((حكمة الغرب لبرتراند رسل، ترجمة فؤاد زكريا، ج2، ص219.)).

هكذا يصل هيوم الى أن خبرتنا الماضية لا تبرر لنا ما سيحدث غداً على وجه اليقين، بل ولا تبرر ذلك على وجه الاحتمال أيضاً، إذ الاحتمال على ما يرى مستمد من نفس افتراض التشابه المنزوع عن الاستقراء، فكيف نقيم الحكم عليه؟!((عصر التنوير، ص243ــ244. كذلك:

John Hospers , An Introduction to Philosophical Analysis . 3rd ed . London . p.991 .)). فالاحتمال المتعلق بمعرفة الواقع عند هيوم ينقسم الى قسمين: أحدهما الاحتمال التخميني الخاص بالمصادفات. والاخر الاحتمال البرهاني الخاص بالاطرادات السببية، ويتصف بأنه ينشأ في البداية على اساس الاول. الا ان كليهما منزوعان عن الانطباعات الحسية التي تفسرها العادة بحسب كثرة الاحساس بوقوع الحوادث المتشابهة((ديففيد هيوم، ص79ــ80.)). وهما على هذا عاريان عن الشكل المنطقي كما هو في ذاته((فرّق هيوم بين الاحتمال المنطقي والاحتمال التخميني من خلال مثال عرض فيه علة ترجيحنا للعدد المكرر على اربعة جوانب دون العدد المكرر مرتين في قطعة زهر خاصة؛ فاعتبر الحكم المنطقي يقضي بتساوي الاحتمالات في الجوانب الستة جميعاً، لكن الحكم الذي رجح العدد الاول يرجع الى تبرير نفسي؛ فسّره على اساس ان الخيال حين يمر على الجوانب الستة مراً سريعاً؛ فستصبح الصورة الذهنية للعدد المكرر اربع مرات اوضح وانصع من الصورة الذهنية للعدد الاخر المكرر مرتين، وذلك بسبب فارق الزيادة للانطباع الحسي (ديفيد هيوم ص80ــ81).)).

مهما يكن فالملاحظ ان محاولة هيوم لإلصاق المغالطة في تبرير الدليل الاستقرائي على اساس الخبرات الماضية؛ هي صحيحة تماماً. لكن ما ابداه بخصوص تفسير الاحتمال برده الى الانطباعات الحسية وتفريغه من الطابع المنطقي هو تفسير ساذج لا يُقر عليه.

2ـ الاستقراء وتحليل السببية:

في هذا الجانب يعتمد هيوم في كشفه لطبيعة الاستقراء على تحليل السببية منطقياً ونفسياً بالصورة التي نوضحها كما يلي:

الاستقراء والتحليل المنطقي للسببية:

في التحليل المنطقي يتناول هيوم بحث الارتباطات الخارجية التي تتضمن علاقة السببية ان كانت تنطوي على ضرورة موضوعية ام لا فمن المعلوم ان المذهب العقلي سلّم بأن هناك ارتباطات ضرورية لعلاقات السببية الخاصة في الخارج؛ هي التي تبرر عملية التعميم في الدليل الاستقرائي. بيد ان هيوم اخضع هذا الافتراض الى محك النقد والتحليل، فما هو المبرر الذي يجعل علاقات الطبيعة تتصف بالحتمية والضرورة؟

ان هيوم باعتباره فيلسوفاً حسياً ليس بوسعه ان يعوّل على المصادرات القبلية. لذا لم يبق لديه الا البحث الخارجي من خلال الملاحظة والتجارب؛ علها تكشف لنا عن صفة الضرورة في العلاقة السببية.

وإذ يمكن ان نتساءل: هل هناك سبيل ـ مثلاً ـ لأن نستكشف العلاقة الحتمية بين تمدد الحديد وبين الحرارة حين نراهما مقترنين معاً باطراد؟ يجيب هيوم ـ ومن حقه ذلك ـ بأن كل ما نراه انما هو وجود اقتران مطرد، فالتجربة لا تتمكن من أن تضيف لنا شيئاً آخر اكثر من ذلك.

وها هو يضرب لنا مثلاً علي ذلك، وهو ان «كرة بيلياردو تتدحرج باتجاه كرة اخري، تتصل الاثنتان ببعضهما، فتتحرك الثانية، لا يوجد هنا شيء قابل للملاحظة يمكن تسميته علاقة حتمية»((عصر التنوير، ص240. كذلك: ديففيد هيوم، ص71ــ72 و86.)).

بهذا يصل هيوم الى انه لا يمكن اكتشاف الضرورة في علاقة السببية ولا إقامة الدليل عليها مهما كان حجم الاطرادات التي نراها. وهو بذلك لا يفرق إن كانت السببية خاصة او عامة، اذ كلاهما لديه يخضعان الى نفس الحكم. فهو يعتبر السببية العامة ليست من القضايا التحليلية التي تتصف علاقاتها بالضرورة والمنطقية كالرياضيات ومبدأ عدم التناقض حيث النتائج فيها منتزعة من نفس مقدماتها، لهذا كانت لا تخبر بشيء عن الواقع الخارجي((نشأة الفلسفة العلمية، ص85.)). وهو اذ يعتبر مبدأ عدم التناقض اساس هذه القضايا؛ فانه يرى ان كل قضية لا يتناقض خلافها معها فهي تحتاج الى دليل من التجربة؛ بخلاف القضية التي تنطوي على التناقض.

فمثلاً ان القضية القائلة: «ان الاعزب هو من لا زوجة له» تعتبر تحليلية؛ باعتبار ان خلافها ينطوي على تناقض، وذلك لأن معنى المحمول هو عين الموضوع. أما مع السببية العامة فالامر يختلف تماماً، اذ كشف هيوم ـ بحق ـ ان خلافها لا ينطوي على تناقض، اذ لا مانع منطقياً من وجود حوادث بدون اسباب، او على حد تعبيره الخاص: «ليس ثمة شيء ينطوي على شيء آخر»((عصر التنوير، ص239.)) ، مما يعني انها ليست مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، وبالتالي فلابد ان تحتاج الى دليل من التجربة. لكن كيف للتجربة ان تدل عليها وهي عاجزة عن كشف الضرورة؟!

بذلك التحليل يقرر هيوم ان لا سبيل الى اثبات الضرورة ولا الى نفيها، فهي في كل الاحوال تظل مشكوكة الوجود ابداً. والدليل الاستقرائي الذي يعتمد عليها يظل عاجزاً عن النهوض لاثبات التعميم في العلاقات الخارجية المطردة.

موقف المفكر الصدر من التحليل المنطقي:

قبل التعرض الى موقف الشهيد الصدر من التحليل المنطقي الذي أفاده هيوم؛ يلزم ان نستخلص النقاط الاساسية التي تضمنها كالاتي:

1ـ ان اساس معرفة السببية يعود الى التجربة لا العقل، باعتبارها لا تستنبط من مبدأ عدم التناقض.

2ـ ليست الضرورة من القضايا التي يمكن للتجربة ان تثبتها او تنفيها.

3ـ على هذا فان عدم اثبات الضرورة يجعل من التعميم في الدليل الاستقرائي فاقداً للتبرير المنطقي.

هذه أهم النقاط التي نستخلصها من تحليل هيوم للسببية وعلاقتها بالدليل الاستقرائي. وللشهيد الصدر مواقف نقدية متعددة ازاءها.

فبالنسبة الى موقفه من النقطه الاولى هو انه يختلف مع هيوم في تفسير اساس معرفتنا لمبدأ السببية (العامة)، ويتفق مع العقليين في كونها قبلية. لكنه مع ذلك لا يعتبرها مستنبطة من مبدأ عدم التناقض او غيره من المبادئ القبلية، بل حسبها من القضايا الاولية المنطوية على الضرورة((لاحظ ص111 و114.)). وهو بهذا لا يوافق على التقسيم الذي أجراه هيوم بحق القضايا، اذ كما عرفنا انها تدور لديه بين ان تكون تجريببية او مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، والحال ان السببية عند الشهيد الصدر لا تنضم الى ايّ من هذين المنبعبن.

أما موقفه من النقطة الثانية فهو على خلاف هيوم يعتقد ان بامكان التجربة اثبات الضرورة في العلاقة السببية، سواء الخاصة منها او العامة، مؤكداً بأنه حتى مع استبعاد الجانب القبلي للسببية العامة فان من الممكن اثباتها بالتجربة((لاحظ ص78ــ79.)). كل ما في الأمر ان ذلك يقوم على أمرين مجتمعين معاً: «الاول: معطيات الخبرة الحسية التي تبدو فيها الحادثتان مقترنتين مرات عديدة. والاخر: الاحتمال العقلي المسبق للواقع الموضوعي للعلية، نتيجة لعجز التفكير العقلي المحض عن الاثبات والنفي.

فالخبرة + الاحتمال المسبق = الدليل على الواقع الموضوعي للعلية»((ما يبدو على هذا النص انه يناسب اثبات السببية الخاصة دون العامة، وذلك لتضمنه القول بعجز التفكير العقلي المحض عن اثبات العلية او نفيها، ولو كان المراد منه السببية العامة لما صحّ هذا الكلام، كما ان مناسبة ذكره اقترنت بمناقشة هيوم حول السببية الخاصة، لكن في كل الاحوال ان مفاد النص ينطبق علي كلا السببين (لاحظ، ص117).)).

أما موقفه من النقطة الأخيرة فيعتمد على ما مر قبل قليل، اذ ان التعميم لا يثبت ما لم تثبت ـ على الأقل ـ الضرورة في العلاقة السببية. لهذا يرى المفكر الصدر ان من الممكن اثبات التعميم استناداً الى اثبات الضرورة استقرائياً.

وقد نتساءل أخيراً أنه اذا كان هيوم قد شكك في قيمة الدليل الاستقرائي ونتائجه فكيف كان يتعامل مع الاشياء في حياته اليومية؟ فعلى سبيل المثال: اذا أراد أن يجهز لنفسه ابريقاً من الشاي، ألم يعتقد أنه سيحتاج الى استخدام الحرارة والماء وما الى ذلك من أمور؟ واذا اراد ان يرجع الى بيته فهل كان يشك في بقاء مكانه على ما تركه؟ وعلى العموم: هل كان الشك المنطقي الذي أبداه هيوم في الدليل الاستقرائي منعكساً على طريقة حياته الخاصة؟

 لنستمع الى ما يقوله فيلسوف الشك عن نفسه وهو يجيب عن مثل تلك الأسئلة:

 «لو سئلت هنا عما اذا كنت اوافق بصدق على هذه الحجة التي يبدو انني أجهد نفسي من اجل دعمها، وعما اذا كنت بحق واحداً من هؤلاء الشكاكين الذين يرون ان كل شيء غير مؤكد، وان حكمنا على أي شيء لا يتم بأي قدر من الحقيقة او البطلان؛ لأجبت ان هذا السؤال لغو في صميمه، وانني لم اكن ابداً اقول بهذا الرأي باخلاص وثبات، ولا كان اي شخص اخر يقول به. فقد حتمت علينا الطبيعة بحكم ضرورة مطلقة وقاهرة ان نصدر احكاماً مثلما نتنفس ونشعرپپ“ أما الذي يجهد نفسه من أجل تفنيد أخطاء هذا الشك الكامل فانه في الواقع قد دخل في نزاع ليس فيه معارض»((حكمة الغرب، ج2،ص140ـ141.)).

بيد أنّا نتساءل: ما هي هذه الطبيعة القاهرة التي يمكنها أن تجعل أفكارنا العملية متسقة لا يشوبها خلل ولا شك؟ وعلى افتراض أنها تفعل ذلك، فهل هناك علاقة بينها وبين التفكير المنطقي المجرد الذي انتهى اليه هيوم؟ وهل كان هذا الفيلسوف يعاني عقدة من التناقض بين ما يملي عليه العقل وبين ما تضفي عليه الطبيعة من أحكام مخالفة؟

هذه تساؤلات تجعلنا ندخل الى التحليل النفسي للدليل الاستقرائي كما رسمه لنا فيلسوف الشك.

فلنبحث أولاً عن الطبيعة القاهرة التي اعتبرها هيوم مصدر التفكير المنسجم مع الحياة العملية. فما هي هذه الطبيعة يا تري؟

الاستقراء والتحليل النفسي للسببية:

لم يكن أمام هيوم وهو يواجه مشكلة مستعصية غير التعويل على طريق آخر لبحث الموضوع؛ عله يجد ما يخفف عن المشكلة. فقد ترك العقل المجرد بعد ان وجده خالياً من الأدلة والمبررات، واتجه نحو «الطبيعة» وهي تعمل بتلقائية دون اكتراث بصاحبها. فقد حاول هيوم ان يلقي ضوءاً على الشروط التي تقوّم فكرة السببية، واستخدم لذلك مثاله الخاص بكرة البيلياردو، اذ كثيراً ما نعبر عن حركة الاولى بانها سبب لحركة الثانية. وفي هذا المثال لاحظ وجود اقتران مكاني وتعاقب زماني بين الحادثتين، لكنهما مع ذلك لم يكفيا عنده ان يحققا ظرف السببية، فأقر بوجود شرط ثالث هو المعبر عنه بـ «الضرورة» التي تجعل الحادثة الثانية واجبة الوجود حين تتحقق الحادثة الاولي.

تلك هي مقومات السببية عند هيوم الذي اعتبر الشرطين الاوليين عبارة عن صفتين محسوستين بخلاف الشرط الاخير. لهذا فقد حاول ان يبحث عن مصدر صفة هذا الشرط في افكارنا، طالما ان التجربة لا يسعها الكشف عنه. فحين ننظر الى علاقة السببية بين الحرارة وتمدد الحديد يمكن ان نتحسس باقترانهما وتعاقبهما، لكنا لا نتحسس بضرورتهما، فكيف نفسر ما في أذهاننا من ضرورة تجعلنا نتصور أنه كلما قربنا الحديد من الحرارة فانه يتمدد؟

لقد بحث هيوم عن مصدر هذه الفكرة، فلاحظ أنها تقترن مع صفة أخرى نطلق عليها بالاطراد أو التتابع المستمر، فحيث لا يوجد اطراد، فلا ضرورة هناك، كما هو الحال مع مثال حركة كرة البيلياردو. فبهذا المفتاح أقام فيلسوفنا تفسيره لوجود الضرورة في علاقة السببية. فنحن حين نلاحظ ظاهرتين تتصفان بالاقتران والتعاقب باطراد فانه سينشأ في مخيلتنا رباط قوي بين فكرتي الظاهرتين، بحكم العادة. فلو أنه حضرت احدى الفكرتين؛ فما على الفكرة الاخرى الا أن تعقبها، وهو ما يبرر لنا كيفية الحكم على الاشياء الخارجية. اذ لو تحسسنا بوجود الظاهرة السابقة لكنا نحكم بضرورة وقوع الظاهرة الاخري؛ نتيجة ما اعتدنا عليه من مشاهدات حسية جعلت أذهاننا مهيأة لافراز العلاقة القوية بين الفكرتين. فمثلاً في حياتنا اليومية نتحسس على الدوام بأن هناك تلازماً بين ظاهرتي النار والاحراق، وبحكم العادة تنشأ في مخيلتنا علاقة قوية بين فكرتي هاتين الظاهرتين، لكن بسبب هذه القوة فانا نضطر الى أن ننزعها على الواقع ونظن أنها خارجية، بحيث كلما لاحظنا ناراً سنحكم عليها بأنها تحرق، مع أنه من الناحية المنطقية لا دليل على ذلك، رغم ما نجده من التهيؤ الذهني الحاد الذي أطلق عليه هيوم بـ «تداعي المعاني».

من ذلك التحليل توصل هيوم الى ان يعرّف العلة باحدى صيغتين كالاتي: «شيء سابق ومقترن بشيء آخر، حيث تقع كل الاشياء المشابهة للاول في موقع مشابه من السبق والاقتران بالنسبة للاشياء التي تشبه الاخير». او انها: «شيء سابق ومقترن بشي آخر ومتحد معه، بشكل يجعل فكرة الواحد منهما يدفع العقل الى تكوين فكرة الاخر، وانطباع الواحد منهما يشكل فكرة أكثر وضوحاً عن الاخر»((عصر التنوير، ص275.)).

ومع ان هيوم يؤكد على دور العملية الذهنية في تكوين فكرة الضرورة لدى العلية((الملاحظ ان تحليل هيوم يشابه ـ الي حد كبير ـ ما نصّ عليه الغزالي في تفسيره لعلاقة السببية الخاصة؛ رغم ما بينهما من اختلاف مذهبي كبير. فمثلاً يقول الغزالي: «الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وبين ما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا“ فليس من ضرورة عدم احدهما عدم الاخر، مثل الري والشرب، والشبع والاكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وحز الرقبة..» تهافت الفلاسفة للغزالي، ص 239، تحقيق سليمان دنيا، ط5، دار المعارف.))؛ الا انه يعترف بعجزه عن تفسير هذا النشاط النفسي، فكما يقول: «ان في علاقة التداعي تناقضاً صريحاً: كيف يمكن ان يوجد مبدأ ارتباط اذا كانت ادراكاتنا منفصلة مستقلة بعضها عن بعض؟ هذه معضلة تفوق طاقة عقلي»((يوسف كرم: الطبيعة وما بعد الطبيعة، ص121.)).

والنتيجة التي يخرج بها هيوم من تحليله السابق هو انه لا يمانع من الناحية الواقعية ان يكون أي شيء سبباً لأي شيء آخر، او ان تحدث الاشياء من غير اسباب، وان ما يستدل به على السببية ليس العقل بشكله القبلي، بل التجربة من خلال الاحساسات المتكررة لحالة الاطراد، مما يعني ان الاحساسات القليلة لا تبعث على خلق الضرورة في مخيلتنا الذهنية بواسطة تداعي المعاني.

تلك هي فلسفة هيوم في تحليله النفسي لعلاقة السببية. وهي فلسفة تبرر قيام الدليل الاستقرائي من الناحية النفسية، وذلك بردها الى مركز العمليات اللاعقلية المسماة بالطبيعة القاهرة، وإن كانت تعجز عن تبريره منطقياً.

نقد التحليل النفسي للاستقراء:

تتلخص النتائج التي توصل اليها هيوم في تحليله السابق الى هاتين النقطتين:

1ـ تتعلق السببية كمفهوم نفساني بكثرة ما يتحسس به الفرد من تكرار في علاقة الاقتران بين الظاهرتين المتعاقبتين، لا انها صيغة قبلية.

2ـ يستحيل تبرير الدليل الاستقرائي من الناحية المنطقية، وإن كان يمكن تبريره نفسياً بواسطة تداعي المعاني الناشئ عن العادة، وذلك من خلال تحليل السببية بالصورة التي فيها تُنتزع الضرورة من المخيلة النفسية لتفرض على الواقع.

وبخصوص النقطة الاولى يلاحظ انها إن استطاعت ان تفسر السببية الخاصة فانها عاجزة عن تفسير السببية العامة، فربما نحكم على حادثة معينة بالسببية وإن لم نتحسس بها الا لمرة واحدة فقط. كذلك فان الضرورة التي نشعر بها في هذه الحالة تختلف عما نشعر به في العلاقة الخاصة للسببية، فما أيسر التسليم بالحكم القائل ان النار قد لا تحرق لخلوّها من الضرورة، لكن ما أعسر الحكم الذي ينفي مطلق السبب عن حدوث زلزلال لم يسبق أن خبرناه من قبل هكذا فمن أين حصلنا على هذه الضرورة في الحوادث الفريدة؟ وكيف نفسر عليها تداعي المعاني اذا كنّا لم نتحسس بالسبب اطلاقاً؟

 على ان تفسير «الضرورة» بواسطة تداعي المعاني يقتضي الاقرار بدءاً بالسببية. اذ لم يكتفِ هيوم بالاعتراف بالضرورة النفسية وانما سعى ليبحث عن سبب وجودها. الامر الذي اوقعه بالدور، ذلك انه يفسر السببية من خلال التداعي في الوقت الذي يجعل العلاقة بين التداعي والضرورة النفسية هي علاقة قائمة على السببية. أي حيث هناك تداعي معاني فهناك ضرورة، وهذا الاقتران والتعاقب بين الظاهرتين النفسيتين باطراد هو ذات البند الذي اعتبره هيوم شرطاً لتحقق ما نحسبه سببية في الواقع الموضوعي، أي ان الظاهرتين النفسيتين يخضعان الى حكم السببية، مما يتولد عن ذلك الدور والتسلسل.

كما ان رغبة هيوم لمعرفة سبب اتخاذ العملية النفسية لاسلوب التداعي بدلاً عن اسلوب الانفصال بين الافكار؛ انما هو دليل اخر على ما في قرارة نفسه من ايمان بالضرورة السببية، بحيث لم يحتمل قط ان تكون العلاقة بينهما صدفة مطلقة.

وعلى العموم ان التفسير النفسي لهيوم ناجح الى الحد الذي فيه اقرار لما تتأثر به مخيلتنا من تصورات انطباعية قد تفرضها على الواقع الموضوعي، لكن ذلك يختلف عما يراد تفسيره منطقياً. لهذا نجد في العلاقة الخاصة للسببية أن الانطباع الحسي المتكرر يمكنه أن يؤثر على المخيلة كحالة نفسية تفسرها نظرية تداعي المعاني، أما من الناحية المنطقية فلا تفسير لذلك سوى الارتكاز الى قوانين الاحتمال وحساباته، بدلالة ان أي خطأ ملحوظ يحدث في التجربة يفضي الى تغيير طبيعة الحكم المنطقي، رغم بقاء الاثر النفسي الذي يمكن أن يؤدي اليه التداعي. فعلى سبيل المثال ـ وكما يقول الشهيد الصدر ـ: «نفرض أن انساناً حاول أن يجرب أثر استعمال مادة معينة على المصابين بالصداع، فلاحظ ان استعمال تلك المادة في أشخاص كثيرين قد اقترن بظاهرة معينة، فسوف يستنتج أن تلك المادة سبب لهذه الظاهرة. ومرد الاستنتاج ـ في رأي هيوم ـ الى العادة الذهنية. ولنفرض ان الممارس للتجربة قد كشف، بعد ذلك، ان شريكه ـ االذي قدم اليه مرضاه المصابين بالصداع الذين أجرى تجاربه عليهم ـ كان يتعمد اختيار المريض الذي تتوفر فيه الظروف التي تؤدي الى وجود تلك الظاهرة، لكي يضلل الممارس للتجربة في اكتشافه، فمن الطبيعي ان يزول اعتقاد الممارس بالعملية بعد هذا الاكتشاف، فلا يتوقع وجود الظاهرة في شخص بسبب استعماله لتلك المادة»((لاحظ ص123.)).

أما فيما يخص النقطة الثانية، فالملاحظ ان هيوم قد جعل من الدليل الاستقرائي حالة نفسية دون ان يكون له اثر منطقي. ونحن وان كنّا لا نمنع الاثر النفسي الذي يبلغه الخيال في الاحكام الاستقرائية، لكن ذلك لا يحيل من وجود منطق خاص يقوم عليه الاستقراء، وهو منطق الاحتمال الذي لم يقتنع به هذا الفيلسوف.

وبخصوص موقف الشهيد الصدر يلاحظ ان هناك عدة اعتراضات موجهة الى مذهب هيوم، بعضها لا علاقة له بما نبحثه؛ كمناقشته لخصوص ما يعنيه بالاعتقاد والاحتمال((لاحظ ص103ــ109 و124ــ126.)). أما البعض الآخر فمنه ما يتعلق بنقد التفسير النفسي واستبداله بالتفسير القائم طبقاً للاحتمال؛ كما مرت علينا بعض النصوص الدالة عليه((لاحظ ص22ــ24.))، وكذلك فان منه ما يكشف عن كون المفاهيم الخاصة بهيوم تفضي بمنع اقامة أي حالة من حالات التنبؤ الاستقرائي((لاحظ ص120ــ122.))، وهو ما يتفق عليه هذا الفيلسوف من دون معارضة. اضافة الى ذلك فان هناك نقداً آخر يكشف عن ان هيوم قد استخدم الدليل الاستقرائي من دون ان يشعر، فهو حين يفسر منشأ الافكار ويردها جميعاً الى الانطباعات الحسية؛ يصل الى نتيجة عامة تقر بأن كل فكرة لابد ان تنشأ عن نوع من الانطباع، وقد طبق هذه النتيجة العامة على فكرة السببية التي لم يجد لها انطباعاً حسياً واعتبرها كغيرها من الافكار الناشئة من الانطباعات. وهو بهذا استنبط حكمه من التعميم السابق بشكل غير مشروع((لاحظ ص118ــ119.)). وكذا نفس الحال بالنسبة الى تعميمه القائل ان كل انطباع هو اقوى من الفكرة التي تنبعث عنه.

هيوم بين الطبيعة والعقل:

لقد أدرك هيوم المأزق الحاد الذي وصل اليه في تفسيره للمعرفة بشكل عام، حيث وقع ضحية طرفين متناقضين يتنافسان عليه، فوقف وقفة المتردد الحائر بين ما تضفيه عليه أفكاره وتأملاته، وبين ما تجذبه اليه الطبيعة من التفكير العادي كبقية الناس، او التعامل كما تريد له الطبيعة أن يتعامل. وكأنه في ذلك يقف بين الجنة والنار؛ بين ما تفيض عليه الطبيعة من ثقة وحنان، وبين ما يهدم له العقل من تفكير.

ولعل من المفيد أن أنقل هذا المأزق المأساوي الذي عاشه هيوم وعبّر عنه بنفسه فكتب يقول: «ولكن ماذا تراني أقول هنا؟ بأن التأملات الراقية جداً والميتافيزيقية لا تؤثر فينا من الصعب عليّ أن لا أتراجع عن هذا الرأي وأرفضه حين أنظر الى شعوري وتجربتي الحاضرين. إن مظهر هذه النواقص والتناقضات الحادة والمتعددة الوجوه في العقل الانساني قد أثّر بي كثيراً، وشوش عقلي لدرجة أصبحت معها مستعداً لرفض أي اعتقاد واستدلال، ولا أستطيع القبول بأي رأي على أنه اكثر احتمالاً من غيره. أين أنا وما أنا؟ ما هي العلة التي أشتق وجودي منها؟ والى أي شرط يجب ان أعود؟ وحظوة من يجب ان ألتمس، وغضب من يجب ان أرهب؟ وما هي المخلوقات التي تحيط بي؟ على من استطيع التأثير؟ ومن يستطيع التأثير علي؟ لقد اربكتني كل هذه الاسئلة، وبدأت اتخيل نفسي في اكثر الحالات يأساً، محاطاً بأحلك الظلمات، وقد فقدت القدرة على استعمال أية ملكة او عضو. ولكن من حسن الحظ انه في حين يعجز العقل عن تبديد هذه الغيوم، تكفي الطبيعة نفسها لهذا الغرض وتشفيني من الكآبة والهذيان الفلسفي؛ إما باسترخاء هذا الميل العقلي او بتذكر ما، وانطباع مشرق للحواس يمحو كل هذه الاوهام. وهكذا اتناول طعامي، والعب بالنرد، واتحادث مع الاخرين واصرح مع اصدقائي، ثم بعد ثلاث او اربع ساعات من اللهو ارجع الى هذه التأملات فأجدها قاحلة وسخيفة ولا أجد أية رغبة في نفسي للخوض فيها ثانية. وهكذا أجدني عازماً عزماً تاماً على الحياة والتكلم والتصرف كجميع الناس في حياتهم اليومية، ولكن على الرغم من ان ميلي الطبيعي وانفعالاتي الحيوانية تهبط الى هذا القبول الخامل للمبادئ العامة في العالم؛ فأنا ما زلت اشعر ببقاء شيء من حالتي السابقة يجعلني ارغب في إلقاء جميع كتبي واوراقي في النار واقرر ان لا انبذ ملذات الحياة ابداً في سبيل التأمل والفلسفة؛ لأن هذا هو شعوري في ذلك المزاج الذي يسيطر علي الان، ربما استسلم، لا بل عليّ ان استسلم لتيار الطبيعة فأسلم امري لحواسي وفكري. وبهذا الاستسلام الاعمى اظهر بصورة تامة مبادئي ووضعي الريبيين. ولكن هل يعني هذا بانه يجب عليّ ان اناضل ضد تيار الطبيعة الذي يقودني الى الخمول والملذات وان عليّ ان انزوي الى درجة ما بعيداً عن معاملات الناس ومجتمعهم الذين يمداني بالمسرات؟ وأن عليّ ان اعذّب عقلي بدقائق وفلسفات في الوقت الذي لا استطيع فيه اقناع نفسي بمنطقية هذا العمل الشاق، ودون ان يكون لي أمل في الوصول بوساطته الى الحقيقة واليقين ما هو الواجب الذي يجعلني أسيء استعمال وقتي بهذا الشكل؟ وما الغاية التي تخدمها، سواء كان لمصلحة الانسانية جمعاء أو لمصلحتي الشخصية؟ كلا إذا كنت سأتصرف أحمقاً مثل جميع أولئك الذين يفكرون أو يعتقدون بوجود أي شيء عن يقين فان حماقاتي ستكون طبيعية وسارة. وحين أناضل ضد ميولي فسيكون لي سبب مقبول لمقاومتي. ولن أُقاد تائهاً في قفار موحشة، وممرات وعرة كالتي سرت فيها حتى الانپپ“»((عصر التنوير ص325ــ327.)).

الاتجاه الوضعي ونظرية الاحتمال:

تعود الوضعية المنطقية الى جملة من المفكرين المعاصرين أمثال شليك وريشنباخ وكارناب وفتجنشتين وغيرهم. وخاصيتها الاساسية هي أنها تعترف بوجود مشكلة منطقية للاستقراء كتلك التي كشف عنها هيوم، لكنها تعتقد بالقدرة على تخفيفها وليس القضاء عليها.

وتعتمد الطريقة التي اتبعتها في ذلك على النظرية العامة في التمييز بين المعارف التركيبية والتحليلية، حيث لا يوجد هناك قسم آخر للمعرفة سوى ما يخص القضايا الميتافيزيقية التي تصفها بأنها لا معنى لها.

والقضايا التركيبية ما هي الا معارف كاشفة عما يوجد في الواقع الموضوعي، لذا كانت تخبر بشيء جديد؛ باعتبار ان نتائجها غير منزوعة عن مقدماتها، فيقتضي الاستدلال عليها بطريق الاستقراء.

اما القضايا التحليلية فهي معارف لا تخبر عن الواقع بشيء جديد؛ وذلك لأن نتائجها مستبطنة داخل مقدماتها، او ان المحمول فيها منتزع عن نفس الموضوع.

ويُعد جون لوك اول من فرق بين هذين النوعين من القضايا، فلقب الاولى بالحقيقية، والثانية بالتافهة. ثم اتبعه في ذلك هيوم ومن بعده كانت ـ مع شيء من الاختلاف ـ وأخيراً الوضعية المنطقية((يختلف مذهب كانت عن غيره من المذاهب هو انه يعد الاحكام الرياضية بجميع اشكالها من القضايا التركيبية لا التحليلية (كانت: نقد العقل المجرد، ترجمة احمد الشيباني، دار اليقظة العربية، بيروت، ص214 و957).)).

وبحسب الوضعية المنطقية أنه لا يمكن استخلاص الدليل الاستقرائي من القضايا التحليلية؛ باعتبارها لا تخبر بشيء جديد، طالما انها تستند الى مبدأ عدم التناقض الذي يصف الواقع دون أن يضيف له معرفة جديدة. فحينما نقول: ان (أ) هو (أ) لا نضيف معرفة الى الموضوع، اذ المحمول هنا يمثل عين الموضوع تماماً، وهذا هو علة كونه يتصف بالضرورة واليقين. وعلى ما يقول ريشنباخ: «القول: إن كل شيء في هوية مع ذاته، وأن كل جملة إما صادقة وإما كاذبة ـ أي (أن تكون أو لا تكون) بالمعنى المنطقي ـ هي مقدمات لا يتطرق اليها الشك، ولكن عيبها أنها بدورها فارغة، فهي لا تذكر شيئاً عن العالم الفيزيائي، وانما هي قواعد نستخدمها في وصف العالم الفيزيائي، دون أن تسهم بشيء في مضمون الوصف. فهي تتحكم في صورته وحدها، أي في لغة وصفنا، واذاً فمبادئ المنطق تحليلية»((نشأة الفلسفة العلمية، ص45ــ46)).

بهذا المنطق اعتبرت الوضعية أن القضايا التحليلية لا يمكنها أبداً أن تبرر لنا طبيعة الدليل الاستقرائي المتصف بان نتائجه اعظم من مقدماته، وهو علة كونه يقبل التكذيب والتخطئة. فقد يأتي يوم نرى فيه الحديد لا يتمدد بالحرارة فنكتشف خطأ التعميم الذي بنيناه من غير تناقض((المصدر السابق، ص53.)). لهذا فان الوضعية حذرة من استخدام التعميمات واليقينات، فهي لا تتحدث عن مطلق افراد القضية الاستقرائية، بل تكتفي ان ترى فيها فئة تقيم عليها حدود الترجيح والاحتمال دون ان تمنحها درجة التعميم واليقين.

تبرير الدليل الاستقرائي:

ان اهم تبرير تستند اليه الوضعية المنطقية في رفضها التسليم بالتعميم واليقين ضمن العملية الاستقرائية هو لاعتقادها ان ذلك لا يتم الا عند افتراض وجود مبدأ قبلي يسيّر العملية باتجاه التعميم واليقين، وذلك كمبدأ الاستقراء الذي اعتبره البعض ضرورة أساسية لا مناص عنه، كما جاء عن برتراند رسل الذي كتب يقول: إن «اولئك الذين يتمسكون بالاستقراء ويلتزمون حدوده لا ينتظر منهم ان يتبينوا ان الاستقراء نفسه يستلزم مبدأ منطقياً لا يمكن البرهنة عليه هو نفسه على اساس استقرائي، اذ لابد ان يكون مبدأ قبلياًپپ“. فلابد لنا إما ان نقبل مبدأ الاستقراء على اساس التسليم بصحته، فنعتبره دالاً بنفسه على صدق نفسه، وإما أن نبحث عبثاً عن مبرر يبرر لنا أن نتوقع حوادث المستقبل قبل وقوعها (على خبرة الماضي)»((عن: عزمي اسلام: لدفيج فتجنشتين، ص304ــ305.)).

لكن الوضعية لم تقتنع بهذه النتيجة التي انتهى اليها رسل، اذ ترى أنه لو كان هناك مبدأ قبلي سابق على التجربة؛ لكان لا بد أن يتصف بالضرورة الصادقة ضمن القضايا التحليلية التي لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي، مع أن مبدأ الاستقراء فيه دلالة واقعية واضحة، وكما يقول فتجنشتين: «وما يسمى بقانون الاستقراء لا يمكن بأية حال أن يكون قانوناً منطقياً، اذ من الواضح أنه قضية ذات دلالة خارجية، ولذا فهو لا يمكن ان يكون قانوناً أولياً كذلك»((المصدر السابق، ص305.)).

الا أن هذا الفيلسوف الذي رفض الاساس المنطقي للاستقراء لم يجد أمامه سوى تفسير الحالة على النحو النفسي كما صنع هيوم. فهو يقول: «وعلى أي حال فان هذه العملية ـ أي عملية الاستقراء ـ ليس لها اساس منطقي، بل اساس نفسي فقط، فمن الواضح انه لا وجود لاسس نعتقد بناء عليها في ان أبسط مجرى للاحداث هو الذي سيحدث حقيقة». وقد مثّل على ذلك بشروق الشمس، فاعتبر ان افتراض كونها ستشرق غداً يتفق مع الخبرة التي الفنا فيها الشروق كل يوم باطراد((المصدر السابق، ص305.)). ومع ذلك فان فتجنشتين يختلف عن هيوم في كونه يثبت النتائج المحتملة للعملية الاستقرائية، وبالتالي ينزع عليها قالباً من الشكل المنطقي. وهي نتيجة يتفق عليها كافة أقطاب المنطق الوضعي. فمثلاً أن ريشنباخ يوافق هيوم على مقولته بأن الاستقراء عادة، لكنه لا يقف عند هذا الحد، بل أقر استقلال المشكلة المنطقية التي من خلالها يُخاط ثوب المعرفة الدقيقة للقضايا الاستقرائية((نشأة الفلسفة العلمية، ص88 و212.))

الاستقراء والاحتمال:

غالباً ما يتخذ الحل الوضعي للمشكلة المنطقية بالاعتماد على حسابات الاحتمال المستخلصة بدورها من عملية استقرائية سابقة تبرر تقدير القيمة الاحتمالية لقضية الاستقراء التي تواجهنا.

يقول ريشنباخ: «الواقع أن تفسير الاحكام التنبوئية بأنها ترجيحات يحل آخر مشكلة تظل باقية في وجه الفهم التجريبي للمعرفة، وأعني بها مشكلة الاستقراء. فالتجريبية قد انهارت أمام نقد هيوم للاستقراء؛ لأنها لم تكن قد تحررت من مصادرة أساسية من المذهب العقلي، وأعني بها ضرورة البرهنة على صحة كل معرفة. ففي نظر هذا الرأي لا يمكن تبرير المنهج الاستقرائي، اذ لا يوجد دليل على أنه سيؤدي الى نتائج صحيحة. ولكن الامر يختلف عندما تعد النتيجة التنبوئية ترجيحاً. ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة الى برهان على صحتها، وكل ما يمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد أو حتى أفضل ترجيح متوافر لدينا. وهذا البرهان يمكن الاتيان به، وبذلك يمكن حل المشكلة الاستقرائية. ويقضي هذا البرهان مزيداً من البحث، فلا يمكن الاكتفاء في تقديمه بالقول: إن النتيجة الاستقرائية لها درجة عالية من الاحتمال، بل انه يستلزم تحليلاً للمناهج الاحتمالية، وينبغي ان يكون مبنياً على اسس هي ذاتها مستقلة عن هذه المناهج. أي ان تبرير الاستقراء ينبغي ان يقدم خارج مجال نظرية الاحتمالات؛ لأن هذه النظرية الاخيرة تفترض استخدام الاستقراء»((المصدر السابق، ص212.)).

وتوضيحاً لهذه الفكرة يضرب ريشنباخ المثل التالي: «عندما نحصي التردد النسبي لحادث ما؛ نجد ان النسبة المئوية التي نتوصل اليها تختلف تبعاً لعدد الحالات الملاحظة، ولكن الاختلافات تتلاشى بازدياد العدد. مثال ذلك أن احصاءات المواليد تدل على أن 49 في المائة من كل الف من المواليد الذكور، وبزيادة عدد الحالات نجد أن الذكور يمثلون نسبة 52 في المائة بين 5000 مولود، ويمثلون 51 في المائة بين 10000 مولود. فلنفرض مؤقتاً أننا نعلم أننا لو واصلنا الزيادة فسوف نصل آخر الامر الى نسبة مئوية ثابتة ـ وهو ما يطلق عليه الرياضي اسم حد التردد ـ فما هي القيمة العددية التي نفترضها بالنسبة الى هذه النسبة المئوية الثابتة؟ ان أفضل ما يمكننا عمله هو أن ننظر الى القيمة الاخيرة التي وصلنا اليها على أنها هي القيمة الدائمة وأن نستخدمها على أنها هي الترجيح الذي نقول به. فاذا أثبتت الملاحظات التالية أن الترجيح باطل فسوف نصححه، ولكن اذا اتجهت السلسلة نحو نسبة مئوية نهائية فلابد أن نصل بمضي الوقت الى قيم قريبة من القيمة النهائية. وهكذا يتضح أن الاستدلال الاستقرائي هو أفضل أداة للاهتداء الى النسبة المئوية النهائية، أو درجة احتمال الحادث إن كانت هناك مثل هذه النسبة المئوية الحدية على الاطلاق، أي اذا كانت السلسلة تتجه صوب حد»((المصدر السابق، ص215.)).

وهناك تشبيه دقيق يستخدمه ريشنباخ في هذا الصدد. فهو يعتبر ان من يقوم بالاستدلال الاستقرائي أشبه ما يكون بالصياد الذي يضطر لاختبار جانب محدد من البحر كي يلقي شباكه، رغم أنه لا يعلم إن كان سيصطاد أم لا، لكنه يعرف أنه لو كان هناك سمك فما عليه الا أن يلقي ما عنده في البحر((المصدر، ص215.(51) لاحظ ص91ـ92.)). فكذا الحال مع التنبؤ الاستقرائي، اذ ما هو الا عبارة عن رمي الشباك في بحر الحوادث الطبيعية دون أن نعلم يقيناً إن كنا سنكسب صيداً من الحدود الترددية، مما يعني أنه لا دليل على حد التردد، فكل ما يبنى من استدلال هو افترض أنه لو كان هناك حد لأمكن التوصل اليه بالاستقراء، وهي عملية تقوم على أساس العادة بشهود الخبرات الماضية التي تجعل الدليل الاستقرائي يفترض وجود حد التردد مؤقتاً دون أن يبرهن عليه ولا يصادره سلفاً.

موقف المفكر الصدر من الاتجاه الوضعي:

قبل مناقشة الاتجاه الوضعي سنعرض الموقف الذي اتخذه الشهيد الصدر من تفسيره للدليل الاستقرائي، رغم ما اقتصر عليه من بحث يتعلق بقضية المصادرة القبلية للاستقراء وعلاقتها بدرجة التصديق النهائية. ويتحدد هذا الموقف من خلال المقارنة التالية:

أولاً: اتفق الجانبان على أن الدليل الاستقرائي ليس بحاجة لأي مصادرات عقلية، لكنهما اختلفا في النتيجة. فهي لدى الجانب الوضعي لا يمكنها أن تكون يقينية والا فسنضطر لافتراض وجود تلك المصادرات القبلية التي تبرر ذلك من خلال تحويل الاستقراء الى عملية قياسية يتحكم فيها العام بالخاص. أما لدى المذهب الذاتي فان الاستقراء يمكنه أن يحقق درجة اليقين في النهاية من غير اقتضاء للاشكال السابق، حيث تظل العملية استقرائية لا تتحول الى شكل القياس، ولا هي بحاجة الى افتراض المصادرات العقلية. لكن حالة تحقيق اليقين لا تتم عن طريق البرهان، وانما تتم عبر افتراض مصادرة تعمل على تبريره ضمن شروط مناسبة، والتي منها عدم وجود ما يبرهن على تبرير ثبات الاحتمال المضاد لليقين المفترض.

ويمتاز هذا اليقين بحالة خاصة تجعله لا يستمد قوته من منطق الضرورة والحتمية، وانما يستمدها من ذات الطبيعة التي جُبل عليها الانسان بتنمية معارفه آلياً. فاليقين بهذا الاعتبار ليس الا شكلاً عملياً بوجه ما من الوجوه. وهو من هذه الناحية يتشابه مع اليقين الذي اقرت به الوضعية كصيغة عملية، رغم ما بينهما من اختلاف اساس. اذ يمثل اليقين الوضعي استجابة عملية تنبعث من مركز السلوك النفسي المتمثل بالعادة، وهو لهذا لا علاقة له بالشكل المنطقي من المبررات، بخلاف ما عليه اليقين «العملي» لدى الشهيد الصدر، حيث يتصف بكونه مشدوداً الى المبررات التي تفرضها عليه حسابات الاحتمال رغم طبيعته الالية((يقول الشهيد الصدر بهذا الصدد: ان اليقين الاستقرائي ناشئ «من تجمع احتمالات كثيرة ثابتة فعلاً في محور واحد فهو ليس يقيناً ثابتاً بالشيء على تقدير افتراض ان احتمالاً معيناً او اكثر من تلك الاحتمالات كاذب، لأن هذا التقدير يتضمن زوال بعض تلك القيم الاحتمالية المتجمعة في المحور والتي ساهمت في تكوين ذلك اليقين، فاليقين الناشئ من تجمع الاحتمالات في محور واحد لا يمكن ان يعيش الا مرتبطاً بتلك الاحتمالات، وأي افتراض لزوال بعض هذه الاحتمالات هو في نفس الوقت افتراض لزوال اليقين» (لاحظ ص384).)).

ثانياً: اتفق الجانبان كذلك على ان الاستقراء ليس مستقلاً عن مبادئ الاحتمالات، لكنهما اختلفا في مصدر وقيمة هذه المبادئ. فهي لدى المفكر الصدر صحيحة ومفترضة قبل الاستقراء، الا انها لدى المنطق الوضعي ليست مفترضة، بل مستدل عليها باستقراء سابق يمنحها قيمة مرجحة تقبل التغيير بحسب ما تكشف عنه الخبرات الاستقرائية اللاحقة.

وهذه النتيجة جعلت من المذهب الوضعي يقر بعدم افتراض بداية محددة للمعرفة. اذ كل معرفة لها مبررات احتمالية تنشأ عن استقراء سابق تبرره احتمالات اخري، وهكذا الى ما لا بداية له. وهي نتيجة لم يوافق عليها المفكر الصدر، حيث اعتبر ان عدم تحديد المعرفة ببداية يفضي الى احالتها من الاصل((لاحظ ص503.)).

ومع ذلك فهما يتفقان على ان الاحتمال الذي يقوم عليه الاستقراء لا يمكنه ان يبرر وجود اليقين في القضية الاستقرائية.

 ثالثاً: اختلف الجانبان حول وجهة النظر المتعلقة بالنسبة لعلاقات السببية؛ فأفضى الامر الى اختلافهما بخصوص تبرير الدليل الاستقرائي. فالاتجاه الوضعي يرى ان السببية العامة فيها من الشمول ما يعجز الاستقراء عن ترجيحها، وهو في جميع الاحوال ينفي ان يكون لها دور مفيد للعملية الاستقرائية، بل اكثر من ذلك انه لا يعلق المعرفة التنبوئية على مطلق السببية سواء كانت عامة او خاصة((نشأة الفلسفة العلمية، ص106.))، وانما ينظر اليها نظرة أي قضية واقعية اخري((يلاحظ ان الاستاذ الشهيد ناقش الاتجاه الوضعي حول ربط القضية الاستقرائية بالسببية التجريبية، مع ان هذا الاتجاه لا يعلّق تلك القضية بشيء من ذلك (لاحظ ص93ــ94).))، وذلك انها ـ علي رأيه ـ لا تتضمن الضرورة التي هي من شأن القضايا التحليلية. في حين ان المذهب الذاتي ـ وكما عرفنا ـ علّق المعرفة التنبوئية على اثبات السببية العقلية المتضمنة للضرورة.

نقد الاستقراء الوضعي:

يمكن تلخيص النتائج التي انتهت اليها الوضعية في تفسيرها للدليل الاستقرائي كالاتي:

1ـ ان الدليل الاستقرائي يستحيل عليه ان يبلغ رتبة اليقين والتعميم مادام لا يرتكز على أي مصادرة قبلية كمبدأ الاستقراء.

2ـ ان حسابات الاحتمال هي التي تعطي للقضية الاستقرائية درجتها الترجيحية، رغم انها بدورها تستمد من عملية استقرائية سابقة، وهكذا يتوالى التراجع في الاسناد والمرجعية الى ما لا بداية له.

3ـ تتصف النتيجة في الدليل الاستقرائي بأنها قائمة على أساس القدر النسبي من حد التردد الذي يمكن التوصل اليه خلال العملية الاستقرائية.

ولمناقشة هذه الحصيلة من النتاج الوضعي نتبع النقاط التالية:

الاستقراء والقيمة التصديقية:

لقد سبق ان عرفنا ان جوهر المشكلة الاستقرائية هي تبرير اليقين والتعميم. فقد اصبح من المسلّم به في الفكر الغربي ان أي محاولة ترمي الي اثبات ذلك انما تقع في الدور او بمصادرة مبدأ قبلي كمبدأ الاستقراء.

لكن في قبال هذا التوجه نجد لدى المفكر الصدر محاولة جريئة غرضها تحقيق اليقين والتعميم من غير ارتكاز على المصادرات العقلية، سوى أن اعترف بحاجة الدليل الاستقرائي الى بعض المصادرات كتلك التي تتعلق بمبادئ الاحتمال، والتي لا تحول الدليل الى شكل القياس كما هو الحال مع غيرها من المصادرات القبلية الاخري. ومن الناحية المبدئية نرى سلامة ما عليه هذا الموقف في تبريره لليقين ضمن شروط، ونرى ضرورة التمييز بين القضايا الاستقرائية، حيث ان بعضها يصح تبرير اليقين فيها دون البعض الآخر، اي اننا نواجه اكثر من صنف للقضايا الاستقرائية لابد من التعامل معها بشكل مختلف كما سيمر علينا فيما بعد.

الاستقراء ومبادئ الاحتمال:

في الاستقراء الوضعي عرفنا أن النتائج تتخذ على الدوام قيماً احتمالية، وذلك باعتبارها تعتمد على حد التردد الذي يستخلص من العملية الاستقرائية القائمة بدورها على حد تردد سابق، وهكذا الى ما لا بداية له.

فعلى ضوء المثال الذي ذكره ريشنباخ ـ كما عرضناه سابقاً ـ، نفترض أننا قد حددنا نسبة الذكور بـ (. 6%) خلال استقراء شمل مائة الف مولود. فهذا الحد الذي يبرر لنا قيمة التنبؤ في الدليل الاستقرائي هو في حد ذاته محتمل، وذلك لأنه يقوم علي احتمال يرجح صحة العملية الاستقرائية طالما لا يوجد لدينا دليل يؤكد عدم خطئنا في اجراء العد وحساب الترددات الخاصة بالذكور، واذا أردنا أن نحدد قيمة احتمال صوابنا فسنعتمد على القيام باحصاء آخر يواجه مثل المشاكل السابقة، وهكذا نتراجع الى ما لا بداية له.

ومن الواضح أن هذه العملية لو حللناها بدقة فسوف نرى أنها تفضي الى ان تقترب قيمة صدق النسبة المشار اليها (60%) من الصفر، وذلك لأن صدق هذه النسبة تتوقف على صدق العمليات الاحصائية السابقة لها. ومهما افترضنا أن نمنح تلك العمليات من قيم عالية فانه يستحيل أن نتخلص من التنازل الصفري، اذ ما دام بعضها يعتمد على البعض الاخر فلابد من اجراء الضرب، وحيث إن عوامل الضرب لا نهائية فيتحتم أن تقترب النتيجة من الصفر، وعندها نقطع ان النسبة المذكورة (60%) خاطئة تماماً، الامر الذي يفضي الى بطلان المعرفة الاستقرائية قاطبة. وهي نتيجة قد توصل اليها رسل في نقده لريشنباخ، لكنها لم تقنع استاذنا الشهيد فاعترض عليها وقال في تعليقه على بعض الامثلة: «نفترض أن قيمة احتمال وفاة الانجليزي في سن الستين: 1/2 على أساس نسبة تكرر الوفاة في أبناء الستين في الاحصاءات الرسمية، فاذا رجعنا بعد ذلك الى الاحصاءات الرسمية ووجدنا في احصاء آخر: أن نسبة الخطأ في الاحصاءات الرسمية هي: 1/10، فهذا يعني أن النسبة السابقة وهي 1/2 من المحتمل بدرجة 1/10 أن تكون خطأ، وذلك إما بأن تكون النسبة السابقة اكبر من النصف، وإما بأن تكون أصغر منه. فاحتمال الخطأ يعبر ـ اذن ـ عن امكانيتين متعادلتين: احداهما تخفض والاخرى ترفع، وبذلك تبقى قيمة احتمال وفاة الانجليزي البالغ ستين سنة: 1/2، لا 1/2 * 1/10»((لاحظ ص502.)).

ما من شك ان الصيغة الرياضية الاخيرة في النص ليست دقيقة للتعبير عن الفكرة المطلوبة. كما ان النتيجة ليست صحيحة. ذلك ان درجة احتمال الخطأ في النسبة المقدرة بـ (1/2) تظل (1/10) سواء كانت رافعة او خافضة، أي ان قيمة صدق تلك النسبة هي (9/10)، وحيث اننا قد نخطئ في هذه المراجعة ايضاً، ولنفرض ان نسبة الخطأ هي نفس النسبة لكل مراجعة، وكذا نسبة الصواب، فان ذلك يعني ان صدق نسبة التقدير الاولية (1/2) تعتمد على صدق النسب في المراجعات؛ لتوقفها عليها جميعاً. وبالتالي لابد من اجراء عملية الضرب بين المراجعات ليتحدد من خلالها القيمة النهائية لصدق النسبة الاولية (1/2). وبالضرب تتنازل القيمة الى ما يقارب الصفر، او ان تصديقنا بتلك النسبة (1/2) يصبح صفراً عند اللانهاية من المراجعات. الامر الذي يعني ان هذه النسبة هي نسبة نقطع بخطئها تماماً، وليس بوسعنا ان نضع أي نسبة اخرى بديلة، باعتبارها ستلقى نفس المصير، مما يعني ان العملية الاستقرائية تفشل في ان تؤدي دورها لتحديد أي قيمة احتمالية.

وللايضاح اكثر، لو فرضنا ان قيمة احتمال وفاة الانجليزي في سن الستين هي (80%)، وان بالمراجعة تبين لنا ان نسبة الخطأ في تحديد ذلك التقدير كانت كبيرة جداً، ولنفترض ان هذه النسبة في المراجعة الاولى كانت عبارة عن (99%)، أي ان احتمالنا لوفاة الانجليزي بـ (80%) هو احتمال في غاية الضآلة، وقيمته (1%). فهل يعقل ان نعتبر قيمة احتمال الوفاة تظل ثابتة لا تزول بحجة اننا نجهل إن كانت المراجعة لصالح الرفع او الخفض؟ ذلك انه لو فعلنا ذلك لكنا علي شبه يقين بأننا علي خطأ. بل لو تبين لنا بالمراجعة أننا متيقنون بالخطأ (100%)؛ فهل يعقل ان نظل متمسكين بتلك القيمة من الاحتمال للوفاة، وبنفس الحجة من اننا لم نعرف إن كان الخطأ لصالح عملية الرفع او الخفض؟!

الاستقراء وحد التردد:

كما علمنا ان حد التردد لدى الوضعية يتوقف على قدر ما نقوم به من احصاء، وبالتالي فهو مؤقت وقابل للتغيير. لكن ما لذي يؤكد لنا هذه الفكرة وما هو مصدر الاعتقاد بها؟ صحيح ان ريشنباخ لا يصادر هذه الفكرة، وبالتالي فهو يعتبر انه لو كانت صادقة لأمكن الاستقراء ان يدلنا عليها((نشأة الفلسفة العلمية، ص215.)). لكن ما يلاحظ انه ليس لدى ريشنباخ دليل على ما استنتجه سوى العادة المستمدة من الاستقراءات السابقة، وبهذا نعود مرة اخرى الى التفسير النفسي دون ان نملك مبرراً منطقياً ينقذنا من المصادرة على المطلوب، فاننا لم نفعل شيئاً سوى ان جعلنا اساس الدليل على القضية الاستقرائية مستلهماً من الاستقراءات السابقة.

مع القضايا التحليلية:

تنقسم القضايا التحليلية لدى الوضعية الى قضايا منطقية واخرى رياضية، باعتبارها تمتاز بطبيعة تكرارية خالية من المضمون الواقعي للمعرفة، مما يجعلها يقينة وضرورية((نشأة الفلسفة العلمية، ص196.)).

ولو رمزنا الى القضية التحليلية بـ (ح)، والتكرارية بـ (ت)، والضرورية بـ (ض)، واللااخبارية بـ (لا)؛ فان تعبير المذهب الوضعي عن تلك العلاقات يصبح كالاتي:

ح = ت = ض = لا

لكن يلاحظ ان المساواة التامة بين هذه القضايا ليس سليماً. صحيح ان القضية التحليلية اذا سلمنا كونها تكرارية ـ اذ المحمول فيها منتزع عن الموضوع ـ لابد ان تكون ضرورية، لكن هذا لا يعني ان القضية الضرورية لا تخبر عن الواقع بشيء، كما لا يعني انه يتحتم عليها ان تكون تكرارية على الدوام، فضلاً عن ان القضية اللااخبارية هي ليست دائماً تكرارية. ولأجل تبيان هذه الامور علينا ان نتتبع ما يلي:

1ـ هناك من المبادئ ما لها طبيعة اخبارية وتتصف بالضرورة كما هو الحال مع مبدأ السببية القائل بأن لكل حادثة لابد من سبب، وان الشيء الواحد لا يمكن ان يكون في أكثر من مكان في نفس الوقت، وكذا لا يمكن ان يكون شيئان في ذات المكان الواحد بنفس الوقت، فان الضرورة التي تتضمنها مثل هذه القضايا ليست منطقية كما عليه القضايا التحليلية.

ومن الواضح ان اعتراض الوضعية على القضايا الضرورية واعتبارها ليست إخبارية لكونها غير قابلة للتكذيب بأي شكل من الاشكال، أو انها تكون صادقة مهما كان عليه الواقع الموضوعي، وبالتالي فانها بهذا لا تقدم معرفة جديدة ولا أنها تقبل التكذيب. لكن يلاحظ ان هناك فرقاً بين القضايا التي تتصف بعدم التكذيب منطقياً، وبين القضايا التي تتحدانا في أن نجد شاهداً يكذبها، ونحن نعتبر ان مثل هذه القضايا تتصف بالجدة والاخبارية وانها ليست عديمة الفائدة كتلك التي لا تقبل التكذيب بالمعنى المنطقي. فكل ما في الأمر ان عقلنا يستبعد تماماً ان يكون هناك ما يعد شاهداً علي تكذيبها، والامر يقبل التحقيق لمن يجد شكاً يراوده، بخلاف القضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا التحقيق والشك، وبالتالي فان الضرورة فيها تتصف باللااخبارية من دون شك. فالفارق بين الصنفين من القضايا هو ان الصنف الاول يتميز بالضرورة الوجدانية وأن اللابدية فيه هي لابدية تحدّية، في حين ان الضرورة في الصنف الآخر هي ضرورة منطقية وأن اللابدية فيه لا تقبل التحدي مطلقاً.

لهذا فان من صفة القضايا الاخبارية الضرورية هو ان مخالفتها لا تفضي الي التناقض. ويصدق هذا الامر حتى مع مبدأ عدم التناقض الوجودي، حيث ان من يعتقد بأن حوادث الوجود ينتابها التناقض لا يمكن أن يدان بأن قراره هذا يفضي في حد ذاته الي التناقض، بخلاف ما لو اعتبر التناقض شاملاً للفكر والمعرفة، او انه يصيب القضايا ذاتها وليس مجرد الحوادث، حيث ان ذلك يفضي في حد ذاته الي التناقض، وبه تستحيل المعرفة. او يقال: إن هذا الحكم لا يصح ما لم يشترط علي الأقل أن يكون مسلّماً بمبدأ عدم التناقض، كي لا يتناقض الحكم مع ذاته، وعندها يثبت هذا المبدأ او تستحيل المعرفة بتسلسل التناقضات.

2ـ كما ان من القضايا الضرورية ما تتصف بكونها غير تكرارية ولا إخبارية، مثلما هو الحال مع قسم الرياضيات التطبيقية التي طوتها الوضعية ضمن القضايا التحليلية رغم ما تتصف به من حالة تركيبية بالنسبة لعلاقة المحمول بالموضوع.

فمثلاً يقول الدكتور زكي نجيب محمود: «ضمن تعريف المثلث في هندسة اقليدس بأنه سطح مستو محاط بثلاثة خطوط مستقيمة، تترتب نتيجة خاصة بمقدار زواياه، وهي أن تلك الزوايا تساوي مائة وثمانين درجة، وقد تظن أن هذه النتيجة علم جديد لم يكن في التعريف، وهو علم يزودنا بخبر عن المثلث المرسوم في الطبيعة الخارجية، ولو كان الامر كذلك لصح قول القائلين: القضية الرياضية قبلية واخبارية في آن معاً، لكن حقيقة الموقف غير ذلك»((نحو فلسفة علمية، ص176.)).

ويقول ريشنباخ: ان «القضايا الهندسية التي يقول بها الرياضي تتخذ صورة (اذا كانت البديهيات صحيحة، كانت النظريات صحيحة). غير ان علاقات اللزوم هذه تحليلية، تتحقق صحتها بواسطة المنطق الاستنباطي. وعلى ذلك فان هندسة الرياضي ذات طبيعة تحليلية. ولا تؤدي الهندسة الى قضايا تركيبية الا عندما تفكك علاقات اللزوم، وتؤكد البديهيات والنظريات على حده. وعندئذ تقتضي البديهيات تفسيراً بواسطة تعريفات احداثية، وبذلك تصبح قضايا عن موضوعات فيزيائية، وعلى هذا النحو تصبح الهندسة نسقاً يصف العالم الفيزيائي. غير انها في هذا المعنى لا تكون قبلية، بل تكون طبيعتها تجريبية. فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الهندسة، اذ ان الهندسة إما ان تكون قبلية، وعندئذ تكون هندسة رياضية وتحليلية، وإما ان تكون تركيبية، وعندئذ تكون هندسة فيزيائية وتجريبية»((نشأة الفلسفة العلمية، ص128ــ129.)).

والملاحظ من النصين السابقين ان سبب جعل الرياضيات التطبيقية ضمن القضايا التحليلية؛ إما لكونها لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي كما في النص الاول، او لكون اتصافها بالضرورة واللزوم كما في النص الثاني، ومع هذا لم توضح الكيفية التي تكون فيها هذه القضايا تكرارية. وهي مصادرة لسنا نضطر اليها، اذ من الواضح ان هناك اضافة جديدة للنتيجة، رغم انها لا تتحدث ولا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي. فمثلاً ان المحمول الذي يحدد لنا درجة زوايا المثلث لا يمكن اعتباره منتزعاً من نفس حقيقة السطح المستوي المحاط بالخطوط الثلاثة المستقيمة كما يحصل مع حالة انتزاع معنى غير المتزوج من الأعزب، وانتزاع النتيجة في الرياضيات الحسابية من مقدماتها ـ كانتزاع معنى العدد((نشأة الفلسفة العلمية، ص227.)) من العدد المكرر لـ((فتجنشتين، ص358.))، بدلالة ان الدرجة المحددة بمائة وثمانين ليس لها خصوصية بزوايا المثلث. فدرجة السطح المستوي من غير مثلث ولا اضلاع هي ذات هذه القيمة، كما قد يكون السطح المنحني بنفس تلك الدرجة رغم انه لا يعد مثلثاً. وبالتالي فان هذه القيمة ليست منتزعة من المعنى الحاصل للمثلث. هكذا فان مثل تلك القضايا هي قضايا ضرورية تركيبية، في الوقت الذي تكون فيه غير اخبارية بالنسبة للواقع الموضوعي.

وعلى العموم فان العلاقات بين القضايا القبلية لا يمكنها ان تكون متساوية؛ بل فيها من الاختلاف ما يمكن توضيحه بالشكل الرمزي التالي:

ض > لا > ت = ح

أي أن القضية الضرورية هي أعم واكبر من القضية الاخبارية، وهذه أعم واكبر من التكرارية التي تعبّر عن نفس القضية التحليلية.

صفة المعنى في القضايا:

تنقسم القضايا عند الوضعية الى ثلاثة أقسام، فهي: إما أن تكون تحليلية أو تركيبية أو قضايا ليس لها معني. وتمتاز هذه الاخيرة بأنها تتحدث عن مواضيع خارجية يعجز الاستقراء والتجربة عن اثباتها أو نفيها. ولهذا وضع مبدأ «التحقق» كي يميزها عن القضايا ذات المعنى المختصة بالواقع الفيزيقي، باعتبارها تنفرد بصفتي الصدق والكذب.

وهناك من الوضعيين من أضاف الى الوصفين السابقين ـ في القضايا ذات المعنى ـ صفة اللاتحدد. فمثلاً أن ريشنباخ لا يشترط أن تكون القضية صادقة أو كاذبة، فهناك صفة اللاتحدد التي تبرر حالة ما اذا كنا نقوم بدراسة عالم آخر من موقع عالمنا الخاص، كما هو الحال مع دارسة عالم الجزيئات الدقيقة التي تمتاز بكونها مواضيع واقعية يمكن اخضاعها للبحث التجريبي((من زاوية فلسفية، ص54ــ65.)).

وقد واجهت الوضعية عدة اعتراضات حول تمييزها السابق. منها ما يخص مبدأ «التحقق»، حيث انه لا ينتمي الى كل من القضايا التحليلية والتركيبية؛ مع ان اليه يسند التمييز بين القضايا التي لها معنى عن تلك التي ليس لها معني، مما أثار الاتهام القائل: (ان الوضعية ترفض قضايا الميتافيزيق بمبدأ ميتافيزيقي)!

لهذا كانت هناك بعض المحاولات الرامية للخلاص من هذا المأزق. فمثلاً ان الاستاذ آير يعتبر ذلك المبدأ وضع كتعريف لا كتقرير تجريبي للواقع((قصة عقل، ص94.)). وشبيه به ما ذكره الاستاذ زكي نجيب محمود من ان هذه القضية ترجع الى احكام منطقية لها مستوى اعلى من تلك التي يمكن ان تتصف بالصدق والكذب((لاحظ كتابنا: الاسس المنطقية للاستقراء/ بحث وتعليق، طبعة نمونة، قم، 1985، ص243 وما بعدها.)).

في حين لا يُشك ان ذلك المبدأ مستمد من الواقع عبر الخبرات والملاحظات الاستقرائية الماضية، فلولا هذه الخبرات ما كان بالامكان ان تُعرف لهذا المبدأ فائدة تذكر، وحين يوضع للتحقيق في القضايا الواقعية فانه لا يتناقض مع كونه تقريراً، ذلك ان له وظيفة علمية لتسهيل البحث في القضايا اللاحقة. ويصدق ذات الأمر على مبدأ اللاتحدد، حيث انه ايضاً جاء نتيجة المعرفة المستمدة من الواقع الموضوعي، وصيغ بالشكل الذي يناظر ما عليه مبدأ التحقيق.

وللوضعية ان تختار لنفسها ما تشاء في ترتيب انماط القضايا؛ طالما لا يؤثر ذلك على مصادرة الموقف اتجاه غيرها من المذاهب. وقد حاول بعض الاساتذة الوضعيين ان يصل الى هذا المدلول في توجيه تلك المدرسة، اذ اعتبرها منهجاً للنظر العلمي وليست مذهباً كسائر المذاهب الاخري((يسود الاعتقاد بان النظريات العلمية لا تخضع الي اعتبارات نظرية الاحتمال، حتى قال فون مايزس: «يجب ان نلاحظ ان العلماء حتى في أحاديثهم العادية التي لا يتوخون فيها الدقة قلما يستخدمون التعبير بأن احتمال النظرية احتمال صغير او كبير»، بل يمكن اعتبار وجود معايير متعددة ومتنوعة تفرض علي العالم أن يأخذ بها في تفضيله لنظرية على اخري، كما يؤكد بذلك مايزس وهو يتحدث عن احتمالات النظريات (فلسفة العلم، ص393 و394). والأمر مبرر من حيث وجود التنافس بين النظريات وان ما يرجى منها هو الفائدة التفسيرية لأكبر عدد ممكن من الظواهر دون البحث عن مطابقتها للواقع الموضوعي او النظر في احتمالات هذا الامر. لكن يظل ان النظرية لا يمكنها ان تستغني عن وجود القرائن التي تؤيدها من المشاهدات، وعلي الأقل لا تتناقض معها. لهذا فالنظرية التي تتناقض مع حقيقة تجريبية تفقد شيئاً من اعتبارها وقد تفسح المجال لاحلال غيرها من النظريات المنافسة.)). مع انه لو صدق هذا التوجيه لكان من الحق ان لا تتهم المذاهب الميتافيزيقية بأنها تبحث عن قضايا لا معنى لها، مما يدل على انها اتخذت اتجاهاً ينافس غيرها من الاتجاهات، او انها نزعت نزعة مذهبية لا منهجية.

وعلى العموم فان الاعتراضات التي تواجهها الوضعية بهذا الصدد يمكن ان تكون كالاتي:

 1ـ لو كان مبدأ التحقيق لا يتصف بالصدق والكذب كما يعلن بذلك بعض الوضعيين؛ لاقتضى ان يكون هناك قسم آخر يضاف الى اقسام القضايا، مما يحتاج الى عملية تفسير توضح منشأ معرفته وعلة عدم اتصافه بتلك الصفة.

2ـ لا يملك مبدأ التحقيق القابلية على التطبيق لكافة قضايا الواقع ذات المعني، وهذا ما شعر به ريشنباخ فأضاف اليه مبدأ اللاتحدد ليتناول المسائل الخاصة بالعلم الجزيئي. لكن المسألة لم تنته بعد، اذ هناك قضايا اخرى يُعترف بأن لها معني، وهي مع ذلك لا تخضع الى اعتبارات كل من التحقيق واللاتحدد؛ كما هو الحال مع قضية وجود الواقع الموضوعي الذي يعجز الدليل الاستقرائي عن ترجيحه او اثباته، على ما بحثناه في محل آخر((نشأة الفلسفة العلمية، ص226.)).

3ـ من المعلوم أنه عند الوضعية لا يشترط في القضية التي لها معنى أن ينالها مبدأ التحقيق مباشرة؛ كمعرفة أن النار حارة والشمس طالعة، اذ يمكنه التطبيق ولو لم يستمد من الخبرة مباشرة، وذلك بالاستناد الى منطق الاحتمالات او ما علي شاكلته((فرانك، فيليب: فلسفة العلم، ص233ــ234.))، من قبيل اعتبار المادة مؤلفة من ذرات، والاعتقاد بوجود كائنات قد سبقت الانسان، والتسليم بقانون الجاذبية في جميع العلاقات الماديةپپ“. الخ((فلسفة العلم، ص283.)).

لكن الملاحظ أن هذه الصورة من التطبيقات غير المباشرة هي في حد ذاتها تتسق مع اثبات بعض القضايا الميتافيزيقية، كالمسألة الالهية التي تفسر وجود النظام في الكون، وذلك لانها تخضع الى نفس اعتبار المنطق العلمي المستند الى اعتبارات نظرية الاحتمال او ما على شاكلتها، فإما أن نفسر النظام في علاقات الطبيعة بأنه ناتج عن المصادفات العشوائية، أو نفسره بأنه نتاج عقل حكيم. ولا شك أن العمل باجراء الحساب الاحتمالي لا يُبقي للفرض الاول أي قيمة يعد لها الاعتبار، بل تنسحب أغلب القيم الاحتمالية لصالح محور اثبات تلك القضية، حتى مع عدم افتراض أي مصادرة قبلية ترفضها الوضعية في مجال بناء الدليل الاستقرائي.

هكذا فليس هناك ما يدعو لتعميم الحكم القائل بأن قضايا الميتافيزيقا خالية من المعني، طالما ان بامكان مبدأ «التحقيق» وما شاكله ان يثبت بعضاً منها. وبالتالي فنحن بين أمرين: إما ان نقبل تطبيق المبدأ الاستقرائي على أمثال القضية الالهية السابقة ومختلف القضايا العلمية غير المباشرة معاً، او نمنع تطبيقه على الجميع، وليس بين الأمرين ثالث يتسق اعتباره. وهي نتيجة سبق ان توصل اليها المفكر الصدر، اذ اعتبر الانسان مضطراً لأن يتبنى موقفاً من بين أمرين: فهو إما ان يرفض العلم وقضية وجود الله معاً، او يتقبلهما سوية، اذ الاخذ بأحدهما دون الاخر يعد تناقضاً؛ مادام انهما يرتكزان على محور الدليل الاستقرائي. ويكفينا كشاهد علي ذلك ما وُصفت به بعض المبادئ العلمية من صفات «ميتافيزيقية» بحيث فُسرت بشكل يتسق تماماً مع ما كان يُنظر الى القضايا الميتافيزيقية ومنها المسألة الالهية.

يقول فيلسوف العلم المعاصر فيليب فرانك: «من الواضح علي وجه التأكيد أن مبدأي الثبات والنسبية اللذين يؤلفان العمود الفقري لنظرية النسبية لاينشتاين لا يمكن استنباطهما من الحقائق المكتسبة من خبرتنا، او حتى من التجارب التي يعدها ويجريها علماء الفيزياء. ومع ذلك، اذا وصفنا هذه المبادئ بأنها عقائد فان علينا أيضاً ان نصف مبدأ القصور الذاتي بأنه (عقيدة). فعندما قدم جاليلو ونيوتن هذا المبدأ كان أيضاً مخالفاً جداً لخبرة الفطرة السليمة ولم يكن ليقبل الا لأن الاستنتاجات المستخلصة منه كانت متفقة مع المشاهدات الواقعية»((اعلام الموقعين، ج1، مقدمة طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، ص ز.)).

ويزداد الأمر اتساقاً عند لحاظ ما ابداه بعض المؤلفين من ان التفسيرات الشمولية هي تفسيرات غير ذات معنى باعتبارها تتضمن نصوصاً لا يمكن تدقيقها بالمشاهدة والخبرة التجريبية((لاحظ ص368.)). وهنا نصل الى ان مثل هذه التفسيرات تقف صفاً واحداً مع الكشف الخاص عن المسألة الالهية، فهل نردّ كلاً من التفسيرات العلمية الشمولية والمسائل الميتافيزيقية الى القضايا الخالية من المعني، الامر الذي يوصد الباب أمام التقدم العلمي، او نعتبر كلا المجموعتين مبررتين بمصدر واحد مشترك؟ فما سبق ان وُصفت به بعض المبادئ العلمية هو أمر يتفق تماماً مع لحاظ المسألة الالهية، باعتبارها ليست مكتسبة من الخبرة مباشرة ولا قابلة لتحضيرها تجريبياً، لكن ما يترتب عليها يتفق مع المشاهدات الواقعية. ذلك ان اهم ما يستنتج من الاعتقاد بها هو شمولية النظام وغائيته. فاذا كنا نعتبرها مستخلصة من لحاظ عدد من الانظمة الكونية، فان ما يستنتج منها هو تعميم النظام في الكون والاعتقاد بالغائية الوظيفية. ولا يعني ذلك ان المسألة الالهية تصبح مسألة علمية كسائر المسائل العلمية الاخري، انما يعني ان استنتاجها لا يختلف عن استنتاج النظريات العلمية من حيث النظر الي وحدة الأساس، بل انها تفوق غيرها بأعظم ما يكون لكونها تكتسب ما لا يحصى من القرائن الدالة عليها دون أن توجد ولا ظاهرة واحدة سلبية تعمل على تكذيبها.

4ـ هناك بعض الادراكات المعرفية المباشرة التي لا تنتمي الى قائمة القضايا التحليلية ولا الاستقرائية ولا الميتافيزيقية، كادراكنا المباشر لوجودنا، ولو على نحو الاجمال. وهو ادراك يحكم عليه بنوع من الضرورة نطلق عليها بالضرورة الحضورية التي تجعل التصديق به تصديقاً أولياً ولازماً دون ان يخضع الى أي دليل مهما كان نوعه وشكله.

اطروحة المفكر الصدر:

لو قارنا اطروحة شهيدنا الصدر بالقياس مع النظريات المعرفية التي سبقتها؛ لأمكن لحاظ جانبين أساسيين يكشفان عن طبيعة هذه الاطروحة، وذلك كالاتي:

 1ـ ان نظرية المعرفة يتجاذبها اتجاهان متعاكسان لمذهبين ظلا على خلاف تاريخي قائم الى يومنا هذا، احدهما يدعى بالمذهب العقلي وخير من يمثله ارسطو واتباعه من المناطقة والفلاسفة، أما الاخر فهو المذهب التجريبي، وخير من يمثله التيارات الوضعية والتجريبية الحديثة. والمعرفة لدى المذهب العقلي قائمة اساساً على مبادئ اولية عقلية ليست مستمدة من التجربة والحس، وعليه كانت الطريقة المتبعة في انتاج المعرفة الجديدة هي دائماً قياسية تتجه مما هو عام وكلي الى ما هو خاص وجزئي. فحتى الاستقراء ذاته يصبح منطوياً على قياس خفي لكونه يرتكز على بعض المبادئ العقلية التي تبرر له مشروعية الاتجاه من العام الى الخاص. أما لدى المذهب التجريبي فعلى العكس ان المعرفة الاساسية لديه قائمة بطريقة استقرائية على التجربة، وبالتالي فان عملية انتاج المعرفة تتجه ـ في الاساس ـ من الخاص الى العام وليس العكس. وكانت مهمة الصدر قبال هاتين النزعتين المتعارضتين هو الجمع بينهما حتى في العملية الواحدة، كما هو الحال في الاستقراء ذاته، اذ الاستقراء لديه ينطوي على عمليتين معاً، حيث يبدأ على شكل قياس باتجاه الفكر من العام الى الخاص، وذلك بتجميع قيم الاحتمالات الرياضية الى اقوى درجة ممكنة من الاحتمال لصالح القضية المستقرأة ؛ اعتماداً على مبادئ الاحتمال ومصادراته التي تبرر الشكل القياسي من العملية الاستقرائية. وقد اطلق الشهيد على هذه العملية بالمرحلة الاستنباطية. لكنه لم يتوقف عندها، اذ اضاف اليها عملية اخرى غاية في الاهمية، وهي التي سماها «المرحلة الذاتية». فبعد ان تنتهي المرحلة الاستنباطية باتجاه الفكر من العام الى الخاص، يأتي دور المرحلة الذاتية الاخيرة باتجاه الفكر من ذلك الخاص الى عام آخر يتمثل بتعميم القضية المستقرأة.

ان هذه التشكيلة من الجمع بين عمليتي تنقّل الفكر البشري في القضية الواحدة، من العام الى الخاص، ومن الخاص الى العام، هي الطريقة الجديدة التي صاغها السيد الصدر ليفسر من خلالها غالب المعرفة البشرية. فمن المعلوم ان العملية القياسية في انتاج المعرفة هي عملية منطقية بحتة. الامر الذي يعني ان الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية الاولي، حينما يقوم اساساً على مبادئ الاحتمال، فانما ينطلق طبقاً لعملية منطقية خالصة ليس للذهن البشري فيها أي دور من ادوار التدخل الذاتي. لكن المشكلة تتحدد في العملية المعاكسة، اذ الاستقراء في مرحلته الثانية او الأخيرة لا يعتمد على الطريقة القياسية، بل يتجه مما هو خاص الى ما هو عام، او مما هو محتمل الى ما هو يقين. فاذا كان من الواضح ان هذه العملية ليست قياسية كما هو الحال مع الاولي، فكيف يمكن تبرير مثل هذا التحول والانتقال؟ وكيف يمكن تفسير مثل هذه العملية؟ وهل يا ترى ان لهذه العملية منطقاً خاصاً ام لا؟

حقيقة الامر ان دور الصدر يبدأ من هذه النقطة بالذات، فهو يرى ان عملية الانتقال مما هو خاص الى ما هو عام، ومما هو احتمال الى ما هو يقين، يتم عبر طريقة خاصة في المعرفة هي تلك التي اطلق عليها بالتلازم الذاتي. فتوليد المعرفة لا يتم هنا عبر شكل منطقي كما هو الحال مع القياس، بل يتم ذاتياً من معرفة اخرى تلازمها. فحين تتراكم القرائن الاحتمالية في الذهن البشري باتجاه محور قضية ما؛ تحصل للذهن حالة اذعان للتسليم «ذاتياً» بصحة هذه القضية، فيخلع عليها لباس اليقين او التعميم. وتعتبر هذه الخاصية من سمات الفطرة للذهن البشري. فمثلاً ان الاختبارات الناجحة التي تُظهر دائماً ان قطع الحديد تتمدد بالحرارة؛ تجعل الذهن يذعن للتسليم بأن الحرارة هي علة تمدد ذلك الحديد. فهذا اليقين نابع من وجود قرائن كثيرة تراكمت لدى الذهن في وعيه الباطن او اللاشعور. لذلك فانه سرعان ما يذعن للتسليم بالتعميم القائل «كل حديد يتمدد بالحرارة»؛ رغم ان القطع التي اخضعت للاختبارات كانت محدودة لا تشكل كل قطع العالم من الحديد. والملاحظ في هذه العملية أنها تنطوي على عملية ذاتية، لا بالمعنى الفردي، وانما بالمعنى النوعي، اي انها لا تتعلق بذاتية زيد او عمر من الناس، بل تتعلق بذاتية الذهن البشري عموماً. وعلى الرغم من ذلك فان الصدر لم يتوقف عند الجانب السايكولوجي من هذه العملية المعرفية، بل انه استهدف إلباس الخاصية الذاتية بالمنطق.

لقد كان الصدر حريصاً على اضفاء الطابع المنطقي على الحالة الذاتية، وذلك كي لا يجعل عملية الاستقراء والمعرفة البشرية تتبخر وسط الاوهام والاحلام النفسية، الامر الذي حدا به الى وضع شروط منطقية هي التي تصحح قبول نتيجة الاستقراء. وبعبارة اخري، ان طريقته وإن كانت تعي حقيقة الغريزة الذاتية للذهن البشري، لكنها في نفس الوقت لا ترى حرجاً من ان تجعلها «تتمنطق» بصورة واعية وذلك باخضاعها الى شروط منطقية بعيدة عن الاثر النفسي وحاكمة عليه.

2ـ طبقاً لما سبق يمكن اعتبار اطروحة استاذنا الشهيد تبتدئ من حيث تنتهي نظرية الوضعية المنطقية. فقد عرفنا ان هذه النظرية لا تتجاوز حدود الترجيح الاحتمالي في تقييمها للقضية الاستقرائية، خاصة وأنها ترفض الاعتراف بالمبادئ القبلية التي تتحكم في سير الدليل الاستقرائي. والميزة التي اضافتها اطروحة الصدر بعد الموافقة على عدم الحاجة للمبادئ القبلية؛ هو بناء المرحلة الذاتية وتحويل الترجيح الاحتمالي الى اليقين.

بل يمكن القول: إن محاولة الصدر تشبه محاولة دعاة المنطق الوضعي وعلى رأسهم ريشنباخ في كتابه (نشأة الفلسفة العلمية)، والذي فيه اكد على ان الاستقراء عبارة عن عادة نفسية، لكنه مع ذلك ادخل هذه العادة لمنطق حساب الاحتمالات، او قل لحساب منطق الاحتمالات، فخلع بذلك على البعد النفسي لباساً منطقياً اكسبه قوة ومتانة. بالفعل ان ما حاوله الصدر يشابه الى حد كبير ما قام به الوضعيون المنطقيون، لكن مع فرق، هو ان هؤلاء لم تكن لديهم «الشجاعة» للاقتراب من التعميم واليقين. فالاستقراء لديهم هو دائماً احتمالي النتيجة، وان اليقين والتعميم هو صفة غريزية تعود الى الطبيعة البشرية في تعاملها مع الامور الحياتية. أما السيد الصدر فقد جرأ بالفعل من التحرش بتلك المعضلة المستعصية التي ادركها المفكرون منذ العاصفة التي أثارها ديفيد هيوم خلال القرن الثامن عشر والى يومنا هذا.

وكما سبق ان قلنا: إن المحاولة الجديدة للصدر لم تقترب من البرهنة على نتيجة الاستقراء، فهذا ما كان يدركه بأنه ضرب من المستحيل، إر ان محاولته اتخذت سلوك طرق اخرى لانقاذ المعرفة البشرية التي سبق ان هزها فيلسوف التمرد ديفيد هيوم. فقد وضع مصادرة تنص على تحول القيمة الاحتمالية الكبيرة جداً الى اليقين والتعميم، ووضع الشروط اللازمة لتفسير هذه المصادرة كي تجنبها السقوط في «الهوي» وتحصرها ضمن صيغة «االجامع المانع».

وتعتبر هذه الصياغة جريئة في تحديد المبرر الذي يجعلنا نرضخ علمياً ـ بعيداً عن الذات والهوى ـ لقبول اليقين والتعميم في العملية الاستقرائية. ذلك انه لما كان اليقين والتعميم يسبقه تراكم احتمالي كبير جداً، اصبح الخطأ محدداً في موضع ضئيل جداً لا يعتد به من الناحية العملية، فهو بمثابة الصفر لضآلة قيمته. لهذا كانت «المرحلة الذاتية» من قيام الاستقراء هي افتراض افناء تلك القيمة الضئيلة جداً، ثم العمل على توفير الشروط الكافية التي تحصر النتيجة ضمن حدودها اللازمة. وبالتالي فان ما كان يعتبر طبيعة سايكولوجية للذهن البشري في تعامله مع امور الحياة على اساس اليقين والتعميم، اصبح مصاغاً علمياً بطريقة لها مبررها في ان تفترض عملياً تحويل ما هو غاية في قوة الاحتمال الى ما هو يقين. فما قام به الصدر في مرحلته الذاتية هو انه قد افنى القيمة المتضائلة عملياً كما هي منتفاة نفسياً لدى عموم الذهن البشري. لكنه مع افنائه اياها عملياً طبع عليها طابعاً منطقياً، وذلك لضمان سلامة الاستقراء كي يظل حاملاً لما هو «جامع مانع» من خلال وضع الشروط المنطقية اللازمة، والتي على رأسها شرط التراكم الاحتمالي بشكل مطرد دون شذوذ.

بهذا فان الدور الرائد للسيد الصدر هو ليس البرهنة على اليقين والتعميم في القضية الاستقرائية، وانما هو تبرير الصفة السايكولوجية لعملية التلازم المعرفي الذاتي بطريقة منطقية. فهو بذلك اراد ان يجعل للطبيعة منطقاً لا يتناقض مع كونها لا تقوم على اساس منطقي.

ان اضفاء الصفة المنطقية على الجانب الذاتي من المعرفة يجعلنا ندرك علة تقسيمه لليقين الى ثلاثة انواع، أحدها اليقين المنطقي القياسي، وهو الناتج بطريقة القياس، واليقين الذاتي الخالص، وهو ناتج عن عملية نفسية تعجز عن ان تخضع الى التبريرات العلمية والموضوعية، كما هو الحال عند بعض الناس الذين يتيقنون بقدوم الشر حين يسمعون نعقة الغراب. ويضاف الى ذلك ما اطلق عليه الشهيد باليقين الموضوعي، وهذا هو المراد من اليقين الاستقرائي. فعلى الرغم من انه اعتبر هذا اليقين هو ايضاً فيه مسحة ذاتية، اي انه يقين ذاتي، لكنه يختلف عن الاول باعتباره يخضع الى الشروط والتبريرات المنطقية الكافية. فهو مشروط بالاساس بمنطق تراكم الاحتمال الى اعظم درجة ممكنة، وهذا التراكم ناتج اساساً بشكل منطقي خالص عن طريق القياس، وبالتالي فان اليقين الموضوعي هو عبارة عن يقين ذاتي، لكنه محاط بدوائر منطقية من المبررات والشروط. وهذا ما يبرر اعتبار الاستقراء ذا اسس منطقية كما جاء في عنوان الكتاب، فلولاها لكان لا يختلف عن المعرفة التي تنتج اليقين الذاتي المحض.

وبعبارة اخرى ان محاولة الصدر التي طمحت الى اضفاء الصبغة المنطقية على حالة اليقين والتعميم في الاستقراء هي اهم ما في الموضوع والكتاب. اذ فرض عليه هذا العمل الى مزاوجة الجانب المنطقي بالجانب الذاتي من المعرفة البشرية، فخرج بالنتيجة الى ان يكون التعميم واليقين مزيجاً بكليهما معاً، فلا هو منطقي بحت كما لدى الاتجاه الارسطي، ولا هو ذاتي خالص كما لدى التيار الحديث. فمن الواضح ان عنوان كتاب الشهيد (الاسس المنطقية للاستقراء) يوحي الى اضفاء الصبغة المنطقية على الاستقراء، في الوقت الذي يوحي عنوان المذهب الذي أسسه للاستقراء الى اضفاء النزعة الذاتية عليه، اذ اطلق عليه سمة «المذهب الذاتي».

ذلك هو اهم ما في مشروع السيد الصدر من ابداع، اذ لم يحصل لأحد ان منطق اليقين الاستقرائي بعيد عن المصادرات العقلية، الامر الذي منحه حق ريادة مذهب جديد في المعرفة البشرية، وهو المذهب الذي اوسمه بـ «الذاتي».

3ـ ان المحاولة المبتكرة للمفكر الصدر أرادت ان تمد جسراً منطقياً بين عالم الشهادة وعالم الغيب، فاعتبرت الاستقراء كفيلاً بحل القضية الميتافيزيقية المعبّر عنها بالمسألة الالهية. وهو أمر لم يسبق للمذاهب الفلسفية أن طرقته، بل عُدّ مستحيلاً لدى الفكر الحديث ومنه التيار العلمي. فقد توصل المفكر الصدر من خلال محاولته الرامية لتأسيس الدليل الاستقرائي الي اثبات المسألة الالهية بنفس القدر الذي تثبت فيه أي قضية علمية اخري. فكما سبق أن عرفنا بأن هناك أساساً مشتركاً لاثبات كل من العلوم الطبيعية والمسألة الالهية، وانه ليس أمام الانسان ان يختار الا طريقاً بين طريقين لا ثالث لهما، فاما الايمان بالعلم والمسألة الالهية، او الكفر بهما معاً، وأي سبيل آخر فهو بلا ريب متناقض، اذ الشروط التي تثبت القضية العلمية هي ذاتها التي تثبت القضية الالهية بلا فرق، مشيراً الي الدور الذي مارسه القرآن الكريم في التنبيه الي فحوى الدليل الاستقرائي للكشف عن الأصل العقائدي من خلال النظر الي الخلق والعالم لاستكشاف ما يبديه من قصد وحكمة.

علماً بأن هذا الأساس المشترك الذي يربط قضية اثبات العلم بقضية عقائدية مثل مسألة وجود الله؛ نجد له إشارة مجملة لدى ابن القيم الجوزية الذي يقول: «تأمل حال العالم كله، علويه وسفليه بجميع أجزائه، تجده شاهداً باثبات صانعه وفاطره ومليكه، فانكار صانعه وجاحده في العقول والفطر بمنزلة انكار العلم وجحده، لا فرق بينهماپپ“ ومعلوم ان وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار، ومن لم يرَ ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما»((بهذا الصدد انظر لابن حزم المصادر التالية: المحلي، مطبعة الإمام بالقلعة بمصر، ج1، ص32. علم الـكلام على مذهب أهـل الـسنة والـجماعة، نشر المكتب الثـقـافـي، الأزهـر، ط1، ص26ــ27. رسالة مراتب العلوم، ضمن رسائل ابن حزم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1983م، ج4، ص62. رسالة التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل ابن حزم، نفس المعطيات السابقة، ج4، ص197. كذلك انظر كتابنا: نقد العقل العربي في الميزان، مؤسسة الانتشار العربي، ط1، 1997م، ص30.)).