الثابت و المتغير عند الامام الخميني و العلامة الطباطبائي و الشهيد الصدر أحمد المبلغي

 

الثابت والمتغيّر

نشير في مقدمة البحث إلى نقاط ثلاث هي:

أولاً ـ أهمية البحث

يحظى بحث الثابت والمتغير في الاسلام بأهمية كبيرة، ففي ظله نستطيع ان نجلّي قدرة الاسلام على ادارة المجتمعات المعقدة، ونثبت بطلان الشبهة، التي ترى عدم قدرة الاحكام الاسلامية على حل مشكلات الانسانية، او قلتها مع تزايد احتياجات البشرية وكثرة صعوباتها وازماتها، فهذا الفكر الخاطئ يرى عدم امكانية الاحكام الاسلامية الثابتة على تلبية تلك الاحتياجات المتفاقمة، ورفع الصعوبات المتزايدة وادارة المجتمعات المعقدة.

ثانياً ـ البعد العلمي

لم يكن بحث الثابت والمتغير في الاسلام بحثاً بسيطاً، يمكن انجازه بتقديم افكار آنية وموضوعات براقة. فالبحث في هذا المجال يحتاج من جهة الى خبرة طويلة بالمجتمعات الانسانية المعقدة، ومن جهة اخرى يتطلب فهم الاسلام واهدافه وعمق تعاليمه، اضافة الى اطلاع كاف على منهج واسس الاجتهاد. وهذه المعارف شرط للدخول الى حل المسألة، وحل هذه المسألة يحتاج الى تنظير، اي ينبغي على من اكتسب المعرفة حتى اصبحت طوع يده ان يقدّم، بشكل جدى وعلى مستوى عال من الحساسية والدقة مع مراعاة جميع الجوانب، نظرية تتوافر على خصلتين، هما:

أ ـ ان يصور الاسلام وقدراته تصويراً صحيحاً وواضحاً.

ب ـ ان يكون قادراً على وضع اساس واطار افضل للتخطيط والسياسة والتوجهات الاسلامية.

ان ما قلناه سابقاً دليل على كمال اي نظرية في هذا الخصوص، لكنّ  هناك ملاكين اذا تجردت النظرية عن احدهما اصبحت باطلة من الاساس، وهما:

اولاً: يجب ان لا تخلط النظرية بين مساحات الثابت والمتغير، ولا تخطأ في تحديد مصاديق كل واحد منها.

ثانيا: ينبغي ان لا تبتلي النظرية بتقليد الاراء، فاغلب من يرد هذا البحث ليس له اطلاع على علم الاصول والاجتهاد مما يجعل نظريته فاقدة كلا الملاكين، فلا يضع من ليس له الاهلية قدمه في هذا الوادي السحيق، كما ينبغي على من ينظّر من العلماء ان يراعي الدقة في عمله.

ثالثاً: لكل من الامام الخميني والعلامة الطباطبائي والشهيد الصدر نظرية في هذا الحقل وهذه الدراسة ستجري، من خلال تقديم خلاصة عن كل واحدة منهما، مقارنة بين النظريات الثلاثة، ومن
خلالها ستتضح كل نظرية اكثر وسنقف على ابعاد جديدة للثابت والمتغير في الاسلام، وسينفتح لنا طريق لرد الشبهات الباطلة.

اما اهم تلك الشبهات فهي:

أ ـ الاحكام الاسلامية تحول دون التقدم والتنمية.

ب ـ افتقار الاسلام الى الانظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية

حـ ـ لم يتدخل الاسلام في الامور الدنيوية بشكل جدي، لان رسالته الاساسية الاهتمام بالاخرة وما يتعلق بها من امور.

نظرية العلامة الطباطبائي

يقول العلامة: (قسّم الاسلام احكامه الى قسمين متمايزين ومنفصلين بعضهما عن بعض، الاحكام الثابتة والاحكام المتغيرة)((الطباطبائي،، العلامة محمد حسين، ملامح من الاسلام (فرازهايي از اسلام)، جمع السيد مهدي ايت الهى، طهران، جهان آرا، ص 73.)).

الأحكام الثابتة

هي الاحكام والقوانين التي وضعت على وفق مقتضى حاجات الطبيعة الواحدة والثابتة للانسان((المصدر نفسه، ص 76 .)). فقد سمّى الاسلام تلك الاحكام التي اقامها على اساس طبيعة الانسان وخصوصياته بالدين الشريعة (فاقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)((المصدر نفسه، ص 69.)).

الأحكام المتغيّرة

هي الاحكام المؤقتة (أو تلك التي لُحظ فيها شي ما)، وتختلف وفق انماط الحياة المختلفة. فهذا القسم يتماشى مع التقدم التدريجي للمدنية والحضارة وتغيّر المظاهر الاجتماعية ومجي الاساليب الحديثة وانضمار الاساليب القديمة، وتختلف بحسب مصالح الزمان والمكان المختلفة.

وهذه الاحكام باعتبارها من آثار الولاية العامة، منوطة بنبي الاسلام محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والقائمين مقامه والمنصوبين من قبله، وتشخّص وتنفّذ في دائرة الثوابت الدينية((المصدر نفسه، ص 68.))، وطبقاً لمصالح الزمان والمكان (يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم)((سورة النساء، الآية 59.)).

وهناك قسم من هذه الاحكام يعبّر عنه باختيارات الوالي وقد وضع هذا الاصل في الاسلام ليلبّي حاجات الناس المتغيرة في كل عصر وزمان، وفي كل منطقة ومكان، من دون ان تتعرض احكام الاسلام الثابتة الى النسخ والبطلان، كما انها تغطي حاجات المجتمعات الانسانية. وبناء على الولاية العامة لولي امر المسلمين في دائرة حكومته، وكونه موجه افكار المجتمع الاسلامي ومورد قبول الجميع، يمكنه التصرف في محيطه العام، كما يتصرف اي شخص داخل محيطه الخاص((ملامح من الاسلام، مصدر سابق، ص 76 ـ 77.)).

نظرية الإمام الخميني

اكد الامام اصلين هما:

أ ـ تبدّل موضوع الحكم الى موضوع آخر في ظل العلاقات الحاكمة على أحد الانظمة:

يقول بهذا الخصوص:

(بلحاظ العلاقات الحاكمة في السياسة والاجتماع والاقتصاد في أحد الانظمة لعل حكماً جديداً يطرأ على مسألة ما، كان حكمها السابق يختلف، بمعنى ان الاحاطة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية جعلت ذلك الموضوع نفسه: بالظاهر موضوعاً جديداً فيستتبعه حكم جديد)((الخميني، الامام روح الله، صحيفة النور، قم، مؤسسة نشر وتنظيم آثار الامام الخميني، ج21، ص 98.)).

فتكمن أهمية وحداثة نظرية الامام في انها ترى ـ من جهة ـ ان العصر الحاضر عصر سيادة العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة، ومن جهة اخرى يُطرح هذا الفكر بلحاظ التأثيرات المختلفة للعلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فانها تؤثر في تغيير موضوعات الاحكام الشرعية بشكل بسيط وواضح، وستتضح الابعاد الجديدة لهذه النظرية ودورها واهميتها من خلال تحليل وجهات نظرها.

ان اهم بعد جديد في نظرية الامام هو ان تبدل الموضوع، في ضوئها ـ يمكن ان يتم بشكل خفي وبدون اي ضجيج. أي عندما نرى ظاهر الموضوع ساكناً فان هناك تحولاً يجري خلف هذا السكون الظاهري، فقبل هذه النظرية كان الفقهاء يقبلون ذلك حينما يتحول الموضوع الى موضوع آخر، وتبرز علامات تدل عليه، كما في استحالة الخمر الى خل او الميت الى ملح. اما الامام، فان معرفته بحقيقة الوقائع المتأثرة بالعلاقات الاقتصادية والسياسية من جهة، وتعريفه موضوع الحكم الشرعي ومناطه وفلسفته من جهة اخرى، لم يحصر تبدل الموضوع بظهور ما يدل عليه، كما طرح اضافة الى ذلك فكرة التبدّل الداخلي.

ففي الحقيقة ان ما احدثه الامام من تحول في النظرة الاصولية بالنسبة الى تغيّر الموضوع، حينما طرح فكرة التحول الداخلي للموضوع، هو بقدر ما احدثه الملا صدرا في النظرة الفلسفية لموضوع الحركة حينما طرح الحركة الجوهرية. اي ان تعيين مصداق الحركة قبل الملا صدرا كان منوطاً بالتحولات الظاهرية في الكم والكيف، وكذلك كان تعيين مصاديق تبدل الموضوع قبل الامام ناظراً الى التغيرات الظاهرية.

وعندما شبّهنا نظرية الامام بنظرية الحركة الجوهرية لا ندّعي ان جميع الموضوعات، في نظر الامام، تتبدل بشكل قهري في ظل العلاقات الاقتصادية والسياسية، فهذه دعوى لا اساس لها، لان بعض الموضوعات، مثل الموضوعات العبادية وكثير من الموضوعات الاخلاقية ثابتة على مدى الزمان، فالمقصود من هذا التشبيه، هو ان التحولات الظاهرية كانت هي الملاك قبل نظرية الامام.

ولسنا بصدد اثبات صحة نظرية الامام، لان ذلك يحتاج الى بحث مستقل، بل نحن نريد هنا اجراء مقارنة بين هذه النظرية ونظريات العلامة؟ والشهيد الصدر .

ب ـ الولاية المطلقة للفقيه:

يقول الامام هنا:

ان الحكومة المتفرعة عن ولاية رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ المطلقة، هي احد الاحكام الاولية للاسلام، ومقدّمة على جميع الاحكام الفرعية….. فالحكومة قادرة على منع الحج، الذي هو من الفرائض الالهية المهمة، مؤقتاً، اذا كان في ذلك صلاح البلد الاسلامي((المصدر نفسه، ج2، ص 170.)).

نظرية الشهيد الصدر

خلاصة هذه النظرية هي:

أ ـ ترك الاسلام، في نظامه التشريعي، منطقة خالية من اي حكم الزامي (وجوب او حرمة)((الصدر، الشهيد محمد باقر، اقتصادنا، بيروت، دار التعارف، ط 1980، ص 721.))، تسمى منطقة الفراغ.

ب ـ لا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصور التشريعية، او اهمال من الشريعة لبعض الوقائع والاحداث((المصدر نفسه، ص 725.))، بل تعبّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة((المصدر نفسه، ص 722.)).

ح ـ وضع الاسلام منطقة الفراغ  (الخالية من الحكم) تحت تصرف ولي الامر ليملأها على اساس مصالح ومقتضيات الزمان، وفي ضوء اهداف ومقاصد الشريعة((المصدر نفسه، ص 726.)).

المقارنة بين النظريات

تتطلب معرفة موارد الاشتراك والافتراق، ونقاط امتياز وقوة كل واحدة من النظريات، المقارنة بينها، وسنجري هذه المقارنة في ثلاثة محاور:

أولاً ـ مرونة التشريع الإسلامي

لاشك ان النظام الصالح للتطبيق في جميع الظروف نظام مرن، بشكل يتمكن من تقديم حلول للأزمات والتحولات والاحتياجات المتجددة مع المحافظة على هويته، ووجوده، وأهدافه وأصوله.

وبهذا يتضح، ليس المراد من المرونة هنا خضوع النظام للواقع، لان هذه المرونة تساوق العدم، ولا تمنح الاستمرارية للحياة ودورها البنّاء.

ومن هنا فان جميع النظريات التي اثبتت خلود الاسلام وقدرته على التطبيق في مختلف الظروف تعتبر مرونة نظام التشريع احد متبنياتها المسلّمة.

ومن هذا المنطلق قالوا بوجود احكام ثابتة ومتغيرة، او تبدّل الموضوع في ظل الزمان والمكان، او دور ولي الامر في وجود التحولات.

ثانياً: طبيعة المرونة في التشريع الإسلامي

ان ابداء الرأي حول هذا الموضوع يعدّ من أكثر الموضوعات علمية وحساسية في بحث الثابت والمتغير في الاسلام، فالنظريات هنا مختلفة، لكنها سلّمت بدور ولي الامر، الذي بنوا عليه نظرياتهم. وسنبين من خلال تحليل هذه النظريات (اضافة الى نظرية اخرى سنذكرها اثناء البحث) عدة نقاط حول تجديد الالية في هذا الخصوص:

الرأي الاول: ترك التشريع من قبل الشارع وعدم تدخله في دائرة الامور الدنيوية بعد ان جعلها في عهدة العلم والتجربة.

وهذا الرأي متأثر بالحلول الغربية التي فصلت بين الدين والسياسة والاقتصاد . فمن يتبنى هذا الفكر يعتمد في طرحه المباني الغربية.

الرأي الثاني: ترك التشريع في منطقة خاصة مع جعل الولاية فيها.

وهذا الرأي يستفاد من نظريتي الشهيد الصدر والعلامة الطباطبائي، اللتين ذكرنا خلاصة عنهما، الا ان كلام الشهيد الصدر اوضح دلالة في هذا المجال .

اما اهم نقاط الإختلاف بينهما فهوان منطقة الفراغ عند الشهيد الصدر هي منطقة المباحات في الاسلام، اما هذه المنطقة في رأي العلامة الطباطبائي فهي حاجات الانسان غير الفطرية.

مقارنة بين الرأي الأول والثاني

ادناه نقاط الاختلاف بين الرأي الاول (المتأثر بالفكر الغربي)، والرأي الثاني (رأيي العلامة والشهيد الصدر):

1 ـ ان المساحة التي اباح الشارع حكمها، في ضوء الرأي الاول، بمقدار ما يواجه الناس ـ او اعظمهم ـ من توسع، بينما في ضوء الرأي الثاني لم يبح سوى حكم منطقة المباحات او الحاجات غير الفطرية. وقد صرح الشهيد الصدر أن الحكم المباح كان حكماً الزامياً، وإنْ اعتبر الشارع حكم هذه المنطقة غير الزامي، ولهذا اسمى هذه المنطقة منطقة المباحات((المصدر نفسه، ص 726.)).

2 ـ يعلل الرأي الاول ترك التشريع بنقص في رسالة الاسلام، بينما على الرأي الثاني ان هناك تركاً وتداركاً، اي إذا ترك الشارع حكماً في منطقة ما يتداركه بشكل ما من جهة اخرى.

وبهذه الصورة يُتممَ التشريع بحكم اخر، وهي الاحكام الحكومية. وهذا الترك والتدارك جعله الشارع من اجل مرونة هيكل التشريع الاسلامي. ومن هنا، فان هذا الرأي يرى كمال الرسالة الاسلامية.

3 ـ بما ان الحكومة امر دنيوي فهي خارجة ـ حسب الرأي الاول ـ عن دائرة تشريع الشارع، وتناط مهمة تعيين كيفية الحكم وبنيته الى العلم والتجربة . اما على الرأي الثاني فان الحكومة داخلة في منطقة التشريع، وخارجة عن منطقة الفراغ، اي ان الحكومة ليست في دائرة المباحات ولا في دائرة الحاجات غير الفطرية، ومن هنا فالشارع يتدخل بجد لتحديد نوع وبنية وظروف الحكومة.

ووجهة النظر هذه توضح فلسفة تشكيل الحكومة، وتبين ان الفراغ الناشئ من ترك الحكم، سيملأ بواسطتها بشكل يتناسب مع نظام التشريع.

الرأي الثالث: جعل الولاية في ترك أحد الاحكام مؤقتاً مع تداركه على أساس المصلحة الاسلامية.

وهذا الرأي يستفاد من القسم الثاني من نظرية الامام، وعلى اساسه لم نفترض وجود مساحة لم يشرّع فيها الشارع المقدس حكماً، وهذه تعتبر نقطة قوة لنظرية الامام، لان افتراض ذلك لا ينسجم وما ورد في الروايات.

فالمستفاد من الروايات ((ما من واقعة الا ولله فيها حكم)).

وما طرح في ضوء نظرية الامام هو ان يمنع ولي الامر الحكم لا ان يتخلّى الشارع عن تشريع الحكم .

ومن الممكن ان تواجه مسألة منع ولي الأمر الحكم إشكالاً آخر، وهو منافاته لبعض الروايات، مثل: ((حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمد حرام الى يوم القيامة)).

وجواب هذا الاشكال يتضح من خلال بيان ثلاث نقاط:

اولاً: ان نفترض ان المستفاد من روايات ولاية الفقيه ثبوت الحق للولي الفقيه في منع احد الاحكام على اساس المصلحة الاسلامية.

ثانياً: المفروض ان ولاية الفقيه مقدمة على الاحكام الفرعية (مثل الحج)، ومن الواضح ان التقدم هنا يعني ان موضوع هذا الحكم عند اعمال الولاية ينتفي بصورة مؤقتة.

ثالثاً: من الواضح ان الحكم يتبع الموضوع، فاذا انتفى الموضوع انتفى الحكم لكن ـ كما هو المعروف ـ لا يسقط اعتباره عند انتفائه، لان عدم إتيانه يغاير عدم اعتباره، فلو عاد الموضوع فعلياً مرة اخرى يصبح الحكم صالحاً للتنفيذ (اي فعلياً).

وعلى اساس ما تقدم  يصبح الفقيه قادراً على منع احد الاحكام الفرعية كما دلت الادلة على ذلك.

(وينبغي التنبيه، الى أننا لا نحتاج هنا الى ذكر الادلة والبحث في دلالتها، لان الموضوع يدور حول كيفية تصور الامام لمرونة التشريع، وانه تصور كامل).

ثم ان منع الاحكام لا يتنافى وابدية الاحكام الالهية، لان الغاء الموضوع يصبح من باب السالبة بانتفاء الموضوع، لا من باب عدم اعتباره، وما جاء في الحديث (حلال محمد حلال …) المذكور آنفاً له دلالة على استمرار الاعتبار.

الرأي الرابع: تكثّر الموضوعات.

يستفاد هذا الرأي من القسم الاول من نظرية الامام، أي تغيّر الموضوع في ظل الظروف الزمانية والمكانية، لان النتيجة التي نخلص اليها عندما نفترض تغيّر موضوع في ظل الظروف الزمانية والمكانية، عدم محدودية الموضوعات في نظر الشارع، بل ان موضوعات مستقلة ستحصل تبعاً لاختلاف الظروف، ولكل موضوع حكم يعبّر عن الواقع الشرعي ولحد الآن لا توجد نظرية بهذه المتانة وذلك:

الف ـ لا يرد عليها ايّ اشكال، ولا يلزم منها الاعتقاد بوجود مساحة لم يشرّع فيها الشارع المقدس حكماً حتى يقال في الروايات (ما من واقعة الا ولله فيها حكم)، بل يلزم ان نقبل ان الشارع في مقام التشريع كان فعالاً جداً، وقد شرّع احكاماً بقدر الموضوعات المتكثرّة في ظل الظروف المختلفة. كما لا يلزم من هذه النظرية، الاعتقاد بترك الشارع لقسم من الاحكام ولا تخدش رواية (حلال محمد…)، لانه ـ كما تقدم ـ انتفاء الحكم بسبب انتفاء الموضوع، وهذا لا يعني انه غير معتبر، فكثير من الاحكام لا تطبّق لعدم تحقق موضوعها، وبعبارة اخرى، ان نظرية الامام ناظرة، الى تحولات الموضوع وليس الحكم.

ب ـ لما واجهت نظريتا العلامة الطباطبائي والشهيد الصدر الاشكال الاول، عجزت عن حل جميع الاشكالات، فمثلاً: في حالات التطور الحقيقي في دائرة غير المباحات، كيف يمكن لنظرية الشهيد الصدر ان تحل ذلك (علماً انها تعتمد على تدخل ولي الامر في دائرة المباحات).

كيف تتبلور النظرية

لاستيعاب الموضوع ينبغي ملاحظة:

1 ـ السؤال الذي يواجهه المنظّر ويسعى من خلال الاجابة عليه صياغة نظريته.

فمعرفة السؤال الذي يواجهه المنظّر يكشف عن مدى خبرته بهذه الدنيا وبتحولات وتعقيدات المجتمعات الانسانية، فكلما كان التلقي اصح واعمق كان التنظير اقوى.

2 ـ المنهج الذي يعتمده المنظّر لحل مشاكل الثابت والمتغير في الاسلام.

فصحة وعمق وتناسب المنهج المعتمد في بحث او تنظير ما، يؤثر في النتائج التي يفضي اليها البحث .

اما السؤال الاول:

فقد طرح العلامة، في بحثه حول الثابت والمتغير في الاسلام، الاسئلة التالية:

أ ـ هل يلبي الاسلام حاجات العصر؟

طرح العلامة هذا السؤال في إحدى مقالاته حول هذا البحث((ملامح من الاسلام، مصدر سابق، ص 45.))، حيث كان يفترض فيه تجدد الحاجات في كل عصر.

ب ـ إذا كان الاسلام قد وضع سلسلة من العقائد والاخلاق والاحكام الثابتة التي لا تقبل التغيير، وقد كلّف المجتمعات الانسانية بها، فكيف يمكن تطبيقها على حاجات العصور الانسانية المختلفة؟((المصدر نفسه، ص 56.)).

وهذا السؤال قد اعتمد كذلك على عنصر حاجات العصور المختلفة.

جـ ـ هل يريد الاسلام ان تبقى المجتمعات الانسانية على حالة ثابتة، على مر الزمان، ويغلق جميع منافذ التقدم نحو المدنية، ويختم على نشاطات الانسانية المتزايده؟

وكيف نكسب المعركة مع الطبيعة المتحركة والنظام الطبيعي الذي يحكم عالم البشرية؟((المصدر نفسه.)) ففي هذا السؤال اعتمد العلامة على عنصر الطبيعة المتحركة، الذي هو منشأ التقدم نحو المدنية والنشاط اليومي المتزايد.

وفي هذا السؤال بالذات كان ينظر بجد وبشكل اساسي الى الزمان وتطوراته . غير ان مبناه في البحث اعتمد ـ كما هو واضح من خلال بحوثه ونظرياته حول الثابت والمتغير في الاسلام ـ على عنصر حاجات العصور الذي تطرق له في السؤال الاول، لانه اعتبر خلال تقسيمه الحاجات غير الفطرية حاجات متغيرة. وضرورة القانون ناشئة عن هذا الاحتياج، والخلاصة، فان القوانين تقسّم كذلك الى ثابتة ومتغيرة((المصدر نفسه، ص 63.)).

اما السؤال المطروح من قبل الشهيد الصدر فهو:

كيف يجعل الاسلام اصوله ومبادئه في التشريع (النظام السياسي او الاقتصادي) ملائمة لجميع العصور؟ في حال ان البشرية تسعى لايجاد حلول جديدة للتغلب على ما يواجهها من مشكلات((اقتصادنا، مصدر سابق، ص 722 و 723.)).

الشهيد الصدر طرح هنا عدة امور:

اولاً: تواجه البشرية في كل عصر مشكلات جديدة.

ثانياً: هذه المشكلات تحتاج الى حلول جديدة.

ثالثاً : كيف ينظم الاسلام نظامه الاقتصادي (او السياسي) ليتغلب على مشاكل العصر بواسطة الحلول الاسلامية؟

لقد طرح الشهيد الصدر في معرض رده على هذا السؤال عنصرين اساسيين، هما:

أ ـ بيّن الاسلام بجميع ابعاده واهدافه ومقاصده.

ب ـ اعطى لولي الامر حق التدخل والتصرف، لكي يضع الحلول اللازمة لكل عصر من خلال التعرف على تلك الاهداف والمقاصد.

أما ما يستفاد من آراء الإمام فهي الأُمور التالية:

1 ـ يرى العالم عالم نظم وعلاقات اقتصادية وسياسية…

2 ـ ان هذه العلاقات علاقات معقدة وحاسمة.

وفي الحقيقة أن الامام طرح هذا السؤال: كيف يدير الاسلام العلاقات الاقتصادية والسياسية المعقدة في العصر الحاضر؟

مقارنة بين الأسئلة

عندما نلاحظ النقاط ادناه نجد أن السؤال الذي يطرحه الامام خلال عملية التنظير بخصوص الثابت والمتغير اكثر تناسباً وتجربة ودقة.

1 ـ عندما اطل الامام على عالم اليوم نظر الى علل الاشياء لا الى معلولاتها. فتحديد الحاجات ـ كما عند العلامة الطباطبائي ـ او تحديد المشكلات الجديدة ـ كما عند الشهيد الصدر ـ فعلّة كلا الظاهرتين وجود العلاقات الاقتصادية والسياسية المعقدة. وواضح اذا لم تكتشف علة التحولات لا يمكن حل مشكلة الثابت والمتغير.

كما يمكن ان نستفيد مما قاله العلامة والشهيد الصدر في بحث العلاقات الاقتصادية والسياسية، وذلك ان تقسم نتائج العلاقات في ضوء الحاجات والمشاكل الجديدة، التي ذكرها العلامة والشهيد الصدر، لمعرفتها وايجاد المصاديق لها، وهذه خطوة كبرى للتعرف على تلك الروابط بشكل اكبر. وقد اشار الامام الى ضرورة اجراء بحث حول العلاقات الاقتصادية والسياسية بدقة((صحيفة النور، مصدر سابق، ج 21، ص 98.)).

وتجدر الاشارة الى ان التعمق في بحث الثابت والمتغير يحتاج الى هذه الخطوة، ولا سيما ان ماقاله هذان العلمان يتضمن بحوثاً اخرى. فمثلا، طرح العلامة بعد بحث الحاجات موضوعاً جاء فيه:

يجب ان نقول بوجود اختلاف بين الحاجات الواقعية والحاجات غير الواقعية، ثم أضاف: ليس مراد الاكثرية تشخيص الحاجات الواقعية، كما ان ميولهم لا تطابق الواقع دائما((ملامح من الاسلام، مصدر سابق، ص 63.)).

ومن الواضح ان هذه البحوث مركزية ومهمة جداً وتمتد الى بحوث اخرى كالديموقراطية، والاتجاهات التي ترجح الحاجات غير الضرورية.

وعلى اي حال، لو اعتبرنا لنظرية الامام ملاكاً، فينبغي ان نرى في ضوء هذه النظرية هل ان الحاجات التي تفرزها العلاقات الحاكمة على العالم حاجات واقعية ام لا؟

وكذلك صحيح ما طرحه السيد الشهيد، وهو: ان توضع الحلول الاسلامية في ضوء الاهداف والابعاد الاسلامية، لكن ينبغي الالتفات الى ان مراد الامام من الاهداف والابعاد شيء اخر، وهو ان تلك الاهداف تصبح مناطات شرعية، لكن الموضوع يفقد مناطه في ظل الظروف الزمانية والمكانية ويحصل له مناط آخر، وفي النتيجة يصبح موضوعاً آخر.

2 ـ ان رأى الامام يتطابق مع الرؤى التي صارت ظواهر في العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لان الكثير من هذه الظواهر يمكن معرفتها من خلال دورها في العلاقات الاجتماعية وبعض التنبؤات التي قامت في هذه العلوم على هذا الاساس تنبؤات اوجدت ارتباطاً بين عالم الاقتصاد والسياسة.

منهج البحث

لقد اعتمد العلامة الطباطبائي في بحثه الثابت والمتغير المنهج الفلسفي، حيث اعتبر ملاك تحديد الثابت طبيعي الانسان فيقول: الاحكام الثابتة هي الاحكام التي لوحظ في وضعها واقع الانسان الطبيعي.

اما الملاك في تحديد موارد التغير فهو ما يلحق بطبيعة الانسان، يقول: عندما نلاحظ حياة الانسان الطبيعية نجد بناءه الخاص ثابتاً بنسق واحد، واما ملحقاته الزمانية والمكانية فمرتبطة بما تواجهه من حالات التغيرّ والتكامل، وبعد ان تتصارع مع اسباب التحولات والظروف الزمانية والمكانية المختلفة يتغير شكلها بالتدريج، وتتلاءم مع محيطهاالجديد، وهذا في الاوضاع يستوجب تغير الاحكام.

اما السيد الشهيد فقد اعتمد المنهج الاصولي في بحثه لانه تكلم عن المباحات، ومن هنا فان نظريته من بعض الجهات قد تشابكت فيها الابحاث اكثر من نظرية العلامة.

ويمكن ان نقول ان منهج الامام كان اصولياً مئة بالمئة. اي اعتمد في نظريته على فكر له عمقه في اصول مدرسة اهل البيت عليهم السلام، وهو مسألة الموضوع والحكم((مقال تحت عنوان نظرية الامام الخميني حول دور الزمان والمكان في الاجتهاد (المنشور في ج2 من مجموعة مقالات مؤتمر المباني الفقهية للامام الخميني.)).

ومن هنا فإن بحث الثابت والمتغير في الاسلام بحث اجتهادي، والمنهج الاصولي في هذا البحث يضفي عليه متانة اكبر.

 

جدول بياني

التسلسل النظرية طريقة الحل

 

مساحة الثابت

 

مساحة المتغيّر

 

منهج البحث
1 نظرية العلامة

 

ان يترك الشارع التشريع في منطقة وتداركها باعطاء ولي الامر حق التدخل حاجات الانسان الفطرية

 

الحاجات غير الفطرية

 

شبه فلسفي

 

2 نظرية الشهيد الصدر

 

= = =

 

دائرة غير المباحات دائرة المباحات

 

اصولي

 

3 النظرية المتأثرة بالفكر الغربي

 

ترك التشريع في منطقة مع عدم التدارك

 

امور الآخرة

 

الامور الدنيوية للانسان او القسم الاعظم منها

 

كلامي (الكلام الجديد المتأثر بالفكر الغربي)
4 نظرية الامام 1ـتكثّر الموضوعات

2ـالولاية المطلقة للفقيه

جميع الاحكام الموضوعات اصولي