[lwptoc]
مدخل:
هل تمت دراسة الشهيد السيد محمد باقر الصدر بالشكل المطلوب… ام ان هذه الدراسة لم تنجز بعد؟ هذا السؤال تفرضه اعتبارات عديدة،
اولها:
طبيعة الشخصية الاستثنائية للامام الصدر وتعدد مجالات الابداع عندها، بحيث تتطلب الاحاطة بها جهداً واسعاً يتحرك على الابعاد الفكرية والعملية التي تميز بها.
وثانياً:
ان الشهيد الصدر هو رمز التحرك الاسلامي في العراق وصاحب مدرسة حركية لها خصائصها وسماتها المتميزة مما يفترض ان تكون الدراسة بحجم معطيات مدرسته الفكرية والسياسية.
وثالثاً:
انه ليس من الصحيح ان نتعامل مع الامام الصدر على انه تاريخ فحسب، بل هو حالة ممتدة قدمت للاسلام وللامة الكثير، والمطلوب تأصيل معالم خطه في اجيال الامة، لا سيما وان ما قدمه يمثل مرتكزات اساسية لمشاريع طويلة الامد في مجالات مختلفة، وعلى هذا فدراسته كشخصية منتمية الى زمن محدد ومحاطة بظروف الفترة التي عاشها، تُعبر عن قصور في الرؤية والفهم لدور الامام الصدر وموقعه الحقيقي في التاريخ المعاصر.
ان هذه الاعتبارات وغيرها ـ لا تمثل الاحاطة الكاملة بجو السؤال ـ فهو يحتاج الى مراجعة ما كتب وقيل عن الامام الصدر، وتقييم هذا النتاج بمحصلاته العامة وهو نتاج كبير تجّمع على مدى ما يقرب من عقد ونصف من الزمن. فبعد استشهاده في نيسان 1980 ظهرت الكثير من المقالات والكتابات حول شخصيته الفذة، وكانت مناسبات الذكرى السنوية لاستشهاده تمثل فورة الانتاج عنه، ثم ما تلبث الفورة ان تهدأ وقد تتلاشى بانتظار الذكرى السنوية اللاحقة. ويمكن تلمس هذه الظاهرة من خلال مراجعة الارشيف الاعلامي من صحف ومجلات وتسجيلات تلك الفترة، منذ الذكرى السنوية الاولى وحتى اخر ذكرى لاستشهاده (رضوان الله عليه).
في المناسبات الاولى لاستشهاده كانت الكتابة عنه لها بريقها الخاص، حيث كان هناك من يكتب مشاهداته وذكرياته عن الامام الصدر، وهي مما يتم كتابته للمرة الاولى عن القائد الذي اعطى كل شيء لرسالته وأمته. ونستطيع ان نطلق على تلك الفترة بانها فترة تسجيل المادة التاريخية المتعلقة بالامام الشهيد. الى جانب السرد التاريخي المجرد.
كانت هناك محاولات لدراسة أبعاد شخصية الامام الصدر وتسليط الاضواء عليها من جوانبها المتعددة غير ان تلك المحاولات تميزت بانها كانت محدودة المعالجة حيث يركز الكاتب على أحد جوانب السيد الصدر ولا سيما الاقتصاد والفلسفة، فهما المحوران اللذان نالا الاهتمام الاكبر من قبل الكتاب. في حين كانت الجوانب الاخرى في شخصيته تحظى باهتمام ثانوي، أو لعلها لم تنل الاهتمام اصلا، أما الدراسة الشاملة التي تستوعب شخصية الامام الصدر من جميع جوانبها وبصورة علمية تتناسب مع حجم هذه الشخصية العملاقة، فانها لم تظهر بعد.
ولان عمق الفاجعة كان شديداً، فقد كانت أي محاولة كتابية تتناول الامام الصدر تلقى قبولا حسناً من لدن القراء. كما ان قلة الدراسات المختصة بالسيد الشهيد كان لها دورها في اعطاء الدراسات قيمة واهمية.
ان مراجعة ما كتب عن المرجع الشهيد الصدر منذ استشهاده والى الان، تشير الى عدم تمكنها من الاحاطة بشخصيته، وان استيعاب أبعادها ما تزال ناقصة مقارنة بحقيقة الامام الشهيد، فهو يحتاج الى مشروع متكامل لدراسته لانه كان في نفسه المشروع الحضاري الكبير الذي أراد أن يحقق للاسلام عناصر القوة والانطلاق، بعد ان عاش لفترات طويلة مستهدفاً من جهات عديدة اقليمية ودولية حاولت محاربته في كل جوانبه الفكرية والسياسية والاجتماعية((صدرت عن الامام الشهيد الصدر باللغة العربية بحوث ودراسات كثيرة. الا ان الكتب المخصصة عنه محدودة في عددها ويمكن حصرها بما يلي:
1 ـ مقدمة كتاب مباحث الاصول للسيد الاستاذ آية الله السيد كاظم الحائري. وقد تناول فيها حياة استاذه السيد الشهيد بصورة مفصلة ومشاريعه الاصلاحية في الحوزة العلمية وفي العمل السياسي،وظروف اعتقالاته وقصة استشهاده كما ناقش السيد الحائري بعض الجوانب الهامة في مواقفه والتي ثار حولها الجدل والنقاش.. والمقدمة تصلح لان تكون كتابا مستقلا عن السيد الشهيد.
2 ـ الامام الشهيد محمد باقر الصدر دراسة في سيرته ومنهجه للسيد محمد الحسيني: تناول فيها المؤلف اسرة الشهيد الصدر وطفولته ودراسته العلمية وموقعه العلمي ونشاطه السياسي والفكري… وقد استند المؤلف في كتابه على المقابلات الشخصية وبعض النصوص الوثائقية التي حصل عليها ويعد هذا الكتاب من اوسع الكتب حول السيد الشهيد.
السيد محمد باقر الصدر دراسة في المنهج لنزيه حسن. وهي دراسة جديدة في مجالها حول الخصائص والسمات التي تميز بها السيد الشهيد بالاضافة الى منهجه الموسوعي في البحوث والدراسات التي كتبها في حقول المعرفة وآفاقها.
استشهاد الامام السيد محمد باقر الصدر من منظور حضاري.. الصادر عن المكتب الاعلامي لحزب الدعوة الاسلامية. وهو استعراض تحليلي سريع عن الملابسات السياسية والعوامل والظروف التي ساهمت في استشهاده.
وهناك كتب ودراسات اخرى نذكر منها:
الشهيد الصدر مفجر الثورة الاسلامية في العراق… غالب حسن الشابندر.
الشهيد الصدر.. فضائله وشمائله للسيد فاضل النوري.
والجهاد الفكري والسياسي للشهيد الصدر.. للسيد صدر الدين القبانجي.
الشهيد الصدر.. الفيلسوف الفقيه.. عبد الحسين البقال.
الشهيد الصدر.. ثورة شعب ومصير امة.. الشيخ عبد اللطيف الخفاجي.
الشهيد الرابع للدكتور موفق الربيعي.
ونود الاشارة الى ان مجلة (الفكر الجديد) وضعت منهجاً ثابتاً في خطها الثقافي والاعلامي يتمثل في الاهتمام بنشر الدراسات الخاصة حول الامام الصدر، ولا يخلو عدد من اعدادها من بحث او مقالة عن السيد الشهيد. وتتعامل المجلة مع الدراسات التي تتناول شخصية السيد الصدر على انها خارجة عن التسلسل الزمني للنشر ولها الاسبقية على غيرها من الدراسات كما قد خصصت المجلة عددها السادس قبل عام عن الشهيد الصدر استوعب جوانب هامة من حياته وفكره وتراثه.)).
اشكالية المنهج في الكتابة عن الامام الصدر
من خلال مراجعة عامة لمناهج دراسة الشخصيات نلاحظ ان الباحثين اعتادوا على تناول
ظروف النشأة ودراسة العوامل الاجتماعية والفكرية التي أثرت على الشخصية. ثم تسليط الاضواء على نمو الشخصية وتطورها، ودراسه آثارها النظرية والعملية في الفترة التي عاشتها.
وعندما نقرأ ما كتب عن شخصية الامام الصدر، فاننا نلاحظ ان معظم الدراسات لم تستكمل عناصر المنهجية السابقة ـ رغم تحفظنا على هذه المنهجية ـ أما القسم الاخر وهو قليل من الناحية الكمية، فقد تمسك أصحابها بهذه المنهجية وربما كانت هناك اضافات قدمها الباحث خلال دراسته، لكنها اضافات ثانوية بالنسبة الى الخط العام لمنهج البحث.
وفي تصورنا ان اعتماد هذه المنهجية في دراسة شخصية واسعة مثل شخصية الامام الصدر لا تكون كافية في استيعاب أبعاده واتجاهاته التي تتميز بالعمق والشمولية، مع التأكيد على أن الدراسات التي تناولت شخصية الامام الصدر من جوانبها المختلفة لا تزال محدودة عددياً بشكل يثير الاستغراب.
أما الدراسات والمقالات التي تركز على جانب من جوانب شخصيته كالاقتصاد والفلسفة والأصول والفقه والحركية فهي رغم كثرتها، الا انها لحد الان لم تصل الى مستوى تكوين الرؤية الحقيقية المقنعة حوله.
واذا ما حاولنا اعطاء تفسير لهذه الظاهرة، فاننا سنتوقف مع عامل الزمن، حيث نلاحظ ان معظم الدراسات تظهر في المناسبات السنوية لاستشهاده رضوان الله عليه.
فهي كتابات لاحياء الذكرى اكثر مما هي دراسات لاكتشاف واستيعاب الشخصية.
ويجب ان لا ننسى غلبة العاطفة في اجواء الذكرى فهي تعتم على العديد من العناصر المهمة التي يجب دراستها في شخصية الامام الشهيد.
لقد فرضت العاطفة جوها على نطاق الكتابة، وكانت تشكل عنصر توجيه لمسار البحث، ولا نشك انها قيدت الباحث وحالت بينه وبين التوغل بعمق لموضوعات هامة في حاية الامام الصدر.
وسنعود لمناقشة هذه النقطة في الصفحات القادمة من هذه الدراسة.
اننا لا نقلل من قيمة الجهود العلمية التي قدمها الكُتّاب في معالجاتهم لشخصية السيد الشهيد، لكننا ندعو الى التمييز بين اسلوب الاشادة واسلوب الاستيعاب. فما تحتاجه الامة هو استيعاب فكر الامام الصدر في كافة مجالاته، لانه الفكر الحي القادر على تقديم الحلول لمشاكل الواقع الاسلامي، ولانه الفكر الذي مثل على طول مساره ظاهرة متطورة وممتدة مع الزمن. والأهم من ذلك ان الامام الصدر قدم فكره ليكون حركة مغيرة في كل آفاق الحياة الانسانية، واستطاع ان يحقق انجازات ضخمة ومشهودة.
واذا كانت ظروف استشهاده قد حالت دون مواصلته المباشرة في تقديم العطاء الفكري، فان تراثه قادر على المواصلة فيما لو استطعنا أن نحول تراثه الى مشروع فكري. ولا نشك ان مقومات هذا المشروع متوفرة في تراثه، وانما المسألة الاسلاسية تكمن في منهجية التوظيف الموضوعي لفكره الابداعي الاصيل، وهذا هو الذي يدعونا الى التأكيد على ضروره اعتماد منهجية جديدة لدراسة شخصيته، منهجية قادرة على الاحاطة بكل ابعاده الشخصية والاجتماعية والحركية والفكرية والسياسية، وبعبارة واحدة اننا بحاجة الى منهجية شمولية تستوعب الامام محمد باقر الصدر من اجل ان تكون قادرة على استكمال مشروعه الاسلامي الكبير.
ولابد من التأكيد هنا أن الغرض من هذه المنهجية ليس الوفاء للامام الشهيد فحسب، بل خدمة قضايا الاسلام والامة وهو الهدف الذي كرس حياته الشريفة من أجله.
اننا نحتاج في دراسة الشهيد الصدر الى منهجية متكاملة، مثلما كان السيد يعتمد هو منهجية متكاملة في مشاريعه الرائدة. نحن بحاجة ماسة الى استيحاء روح الصدر عند الكتابة عنه. ولو نجحنا في ذلك نكون قد أحبطنا المخطط الاستكباري الرامي الى قتل المفكر الصدر، ونكون قد ابقيناه قيمةً حية مع الزمن ومشروعاً متجدداً في العطاء العلمي والعملي.
قد تبدو هذه المحاولة شاقة وعسيرة، غير ان الحقيقة خلاف ذلك. فالذين كتبوا عن الامام الصدر كان منهم من يتمتع بالقدرة والكفاءة ونعتقد جازمين أنهم لو اعتمدوا المنهجية المطلوبة لاعطوا الشهيد الصدر حقه.
ونعتقد جازمين ايضا ان الكتابة عن السيد الصدر لو تحولت الى مجال قائم بذاته غير مرتبط بمناسبة الذكرى السنوية لاستشهاده، لظهرت أعمال ناجحة في دراسة شخصية الامام الشهيد تتطور وتتكامل مع حركة الزمن بصورة طبيعية.
مرتكزات اساسية في المنهج
من اجل تكوين رؤية موضوعية لدراسة شخصية الامام الشهيد، لا بد من التحرك اولا على الخصائص الاساسية التي تميزت بها شخصيته، فمن دون الاحاطة بهذه الخصائص تأتي الدراسة ناقصة عاجزة عن رسم الخطوط الكاملة لموضوع الدراسة. ومهما حاول الكاتب بذل الجهود من اجل الاحاطة بدراسة جانب من جوانب الشخصية كالعطاء العلمي او النشاط السياسي مثلا، فان النتائج التي يتوصل اليها لن تكون بالمستوى المطلوب ما لم يستوعب خصائصه الشخصية كلها. فليس هناك تجزؤ للشخصية، انما هي وحدة مترابطة الاجزاء، وان العطاءات هي نتاج تكوينها العام.
وان من الممكن تخصيص دراسات مطولة حول الفكر الاقتصادي للامام الشهيد، وقد تستطيع هذه الدراسات تقديم عرض علمي ناجح لافكاره الاقتصادية وعمق تفكيره في هذا المجال. وقد تستطيع هذه الدراسات ان تصل الى نتائج جيدة فيما يتعلق بالفكر الاقتصادي الذي قدمه الامام الصدر. لكننا لا نتردد فى القول ان هذه الدراسات اذا انطلقت من تراث الصدر في المجال الاقتصادي واعتبرته المصدر الاساسي في معالجاتها. فانها لا يمكن ان تصل الى المستوى المطلوب، وستبقى هناك فراغات لم تملاها الدراسة، تتمثل هذه الفراغات في ابعاد شخصية الامام الشهيد وخصائصه الذاتية. فهو لم يكتب في الاقتصاد لرغبة علمية مجردة، انما هو خاض هذا المجال وابدع فيه ـ كما ابدع في غيره ـ لان دوافع الكتابة عنده تنطلق من نظراته الشمولية للواقع الاسلامي، وتلك هي الخصيصة البارزة في شخصيته. فالكتابة واختيار الموضوع واسلوب المعالجة عند الامام الصدر هي كلها مواقف ثابتة تعكس مسؤوليته الرسالية التي عاشها هماً دائماً طوال عمره المبارك رغم سرعة رحيله عن هذا العالم شهيداً سعيداً.
ولو قدر للباحثين ان يدرسوا الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية التي عاشها رضوان الله عليه الى جانب دراسة شخصيته، عند معالجتهم لفكره الاقتصادي، فانهم بلا شك سوف يقدمون اضافات هامة فى دراساتهم. ولجاءت تلك الدراسات معبرة عن شخصية الامام الصدر الى درجة كبيرة. وقد تنجح في تقديم مشروع السيد الشهيد في الحقل الاقتصادي، وليس مجرد الاكتفاء بتقديمه كمفكر اقتصادي.
وهذه الملاحظة نسجلها على المجالات الاخرى، كالدراسات الفلسفية والحركية والاصولية وغيرها. فنحن نؤكد على ان النتاج الفكري لا يمكن دراسته بصورة منفصلة عن المعالم الاساسية للشخصية.
ونستطيع ان نقدم نموذجاً أولياً لمرتكزات المنهج الاساسية التي يجب دراستها وتفهمها في مشروع الكتابة عن الامام الصدر وهي كما يلي:
اولا:
لا يمكن دراسة شخصية الامام الصدر بصورة تجزيئية تفصل بين ابعاده الحركية والقيادية والفكرية، انما هو وحدة موضوعية قائمة بذاتها ففكره واسلوبه وعمله كان يتحرك بمنهجية شاملة دون فواصل مستقلة. وفي اعتقادنا ان هذه المسألة واحدة من اهم المسائل الموضوعية التي تعيننا على دراسة شخصية الصدر ولعل الذين عايشوه عن قرب يدركون اهمية هذه الحقيقة ومدى تجسدها في الحياة العامة والشخصية لاستاذنا الشهيد، فلقد كرس حياته القصيرة من اجل تقديم النموذج الشمولي في التحرك الاسلامي واستطاع ان يكون هو النموذج.
ان السيد الشهيد كان منظومة الفكر الشامل والعمل الشامل وهذا هو الذي جعله يستوعب الواقع الاسلامي بكل افاقه وابعاده، ويمكنه من الاحاطة الواعية بحاجاته ومشكلاته فقدم في ضوء ذلك معالجاته وطروحاته الفريدة من خلال النظرية والتطبيق معاً.
ثانياً:
لم يركز الامام الصدر جهوده على حقل واحد من حقول النشاط الاسلامي، ولو فعل ذلك لتميز عمن سواه بلا منازع، لكنه كان يتعامل مع الواقع الاسلامي برؤية شمولية واسعة مستمدة من شمولية الاسلام واتساعه لكل شؤون الحياة. لذلك قدم نتاجاته الاصلية الرائدة في المجالات المختلفة فكتب في الاقتصاد والفلسفة والمنطق والاصول والتاريخ والتفسير والمفاهيم الحركية والرؤى السياسية وكان في كل ما كتب افضل من كتب.
فرغم مرور اكثر من عقد على استشاده فان تراثه الفكري لا يزال هو الاول في كل مجال من مجالاته.
اضافة الى شموليته في النتاج الفكري فان الامام الصدر اعتمد المنهج الشمولي نفسه في التحرك المبدئي فكان هو رجل الفكر وقائد التحرك واستاذ الحوزة ومرجع المسلمين وابن الامة ثم كان المجاهد المضحي الذي ختم حياته بالشهادة. ان دراسة شخصيته من خلال هذه الابعاد تجعلنا نصل الى الحقيقة الساطعة بان القائد الشهيد الصدر لم يترك لنا عذرا. انه نهض بمسؤولية كبيرة تجعل كل واحد منا يشعر بالتقصير مهما قدم وضحى من اجل الاسلام.
ثالثاً:
مثلت حياة الامام الصدر مرحلة قائمة بذاتها لها خصائصها ومميزاتها التي تنفرد بها عن الفترة السابقة فبعد ان كان النشاط الاسلامي يتركز في اعتماد اسلوب (الدفاع) لحفظ الاسلام المستهدف من قبل الاعداء، فان السيد الصدر احدث نقلةً نوعية في شكل المواجهة بين الاسلام واعدائه، حيث اخرج النشاط الاسلامي من خندق الدفاع والتقليدية الى ساحة المواجهة والحركية وبذلك اعطى للاسلام صورة التحدي وخط الانطلاق نحو الاتجاهات المضادة، بحيث صار واضحاً ان آلية الصراع مع اعداء الاسلام اصبحت معكوسة عما كانت عليه في فترة ما قبل الامام الشهيد.
فالاسلام اصبح هو الذي يتحدى وهم الذين يبحثون عن خنادق الدفاع والاحتماء من صولاته الفكرية المكتسحة، ولم يجعل الامام الصدر هذا النمط من المواجهة حالة فردية، بل استطاع ان يحولها الى حالة عامّة، حيث اعاد رضوان الله عليه الثقة بالنفس الى ابناء الاسلام فنهجوا نفس اسلوبه في طرح الفكر الاسلامي بصورته المتحدية المؤثرة في الاوساط الثقافية والاجتماعية. وبذلك زرع القناعة الكبيرة بأن الاسلام اقوى، وان الفكر الاسلامي هو الذي يتحدى. فيما يحتاج الاخرون الى اثبات مصداقيتهم الفكرية والعملية. وهذا تحول فكري واجتماعي وسياسي هائل لم يحدث طوال حقبة زمنية طويلة من تاريخ الامة الاسلامية، رغم وجود الكثير من العلماء ورجالات الفكر الاسلامي وما قدموه من جهود مضنية من اجل الدفاع عن الاسلام ضد اعدائه.
والذي يستحق الدراسة والتأمل ان الشهيد الصدر استطاع ان يحدث هذا التحول بطريقة النقلة النوعية السريعة، بمعنى انه امتلك عامل المبادرة كله وسلب خصوم الاسلام حرية الفعل والاختيار فوجدوا انفسهم في خندق الدفاع ملاحقين بزحف فكري اصيل متأهب لخوض اي منازلة فكرية مع اية مدرسة من المدارس الوضعية رغم تعددها. وبذلك فقد اوجد الشهيد الصدر حالة التمييز العقائدي بين الاسلام وبين ما سواه وقدم الدليل العملي المشهود على ان الاسلام بحاجة الى عملية توظيف واعية ليحقق انتصاراته على التيارات الوضعية.
ولقد كان لهذه التجربة اثرها العميق في النفوس حيث انطلقت النشاطات الاسلامية الفكرية التي تميزت بالحركية والتجدد والابداع، بعدما كانت غائبة عن الميدان او خاضعة للتقليدية الصارمة. وهكذا تأسست مرحلة فكرية واجتماعية وسياسية قائمة بخصائصها ومستلزماتها على يد الامام الصدر. مرحلة صنعها فرد وسارت فيها امة بحيث يمكن وصفها بانها مرحلة السيد الامام الصدر ويمكن الحديث عما قبلها بانها مرحلة ما قبل الصدر.
رابعاً:
ان فكر الامام الصدر وان ظهر في مرحلة زمنية معلومة الا انه لا يزال فكراً حياً متجدداً وهو في بعض الساحات كان فكراً سابقاً لاوانه.
ان ايماننا بهذه الحقيقة يُمكننا من التفاعل بصورة اكبر مع نتاجات الشهيد الصدر. مما يفرض علينا ان نعيد التأمل فيها لاستنطاقها بعمق ووعي من اجل تقديمها لابناء الامة الاسلامية في مختلف مواقع الصراع الفكري والمواجهة السياسية.
خامساً:
ما قدمه السيد الشهيد في مجالات المعرفة المختلفة لا يحق لنا النظر اليه على انه تراث فكري مجرد، انما المطلوب توظيفه بصورة دائمة، وتقديم نظرياته ومشارعيه لابناء الامة، لاننا نؤمن ان نتاج الاستاذ الشهيد هو مشروع فكري حي. وهو حق لكل ابناء الاسلام، وعلى هذا فان المسؤولية تقع بشكل اكبر على تلامذة السيد الشهيد وابناء مدرسته من اجل استكمال مشروعه الفكري، ومواصلة مسيرته اللاحبة. وليس الاكتفاء بالعرض والتعريف فالامام الصدر لا يحتاج الى من يردد ما قاله، والامة لا تريد سماع ما كتبه فحسب.
انما هي بحاجة الى معالجات موضوعية لمشاكلها المعاصرة انها تريد الاجابة على ما يواجهها به الاعداء. وذلك من خلال اراء الامام الصدر وافكاره التي كان يكتبها ويقولها فتحسم الموقف بلا عناء.
ان فهم السيد الصدر لا ينجمد على اعادة تراثه انما مقياسه الحقيقي استكمال مشواره الطويل الذي بدأه يوم كان الاسلام محاصراً في الزوايا ومضى به حتى يوم استشهاده، ولا يزال ممتداً لم يكتمل بعدُ.
هذه ملاحظات عامة للتأمل والتفكير والمناقشة من اجل تكريس الجهود لصياغة منهجية جديدة لدراسة رائد الفكر الاسلامي المعاصر استاذنا الامام الشهيد محمد باقر الصدر.
آفاق المنهج في دراسة الشخصية
ان الملاحظات التي اخذناها على ما كتب عن الامام الشهيد، كانت تتركز في محصلاتها النهائية حول المنهج المعتمد في تناول شخصيته، فدراسة الشخصية يجب ان تقوم على تخطيط مسبق يهدف الى جعل الدراسة علمية وليس محاولة غرضية في سياق الجهد الكتابي، بمعنى ان الكاتب يقدم سرداً تأريخياً للوقائع والاحداث والتطورات ينعطف احياناً عن السرد الى التحليل ليتوقف قليلا قبل ان يعود الى السرد، وهكذا تتكرر العملية الى ان تنتهي الدراسة. وهذا ما قرأناه في الكثير من الجهود الكتابية حول الشهيد الصدر والتي حاولت دراسة شخصيته.
ورغم ان هذه الجهود تستحق التقدير ويستحق أصحابها الشكر الا انها لم تصل الى ما هو مطلوب. والذي نقصده هنا ليس القيمة العلمية. بل محصلة هذه القيمة في مدياتها المستقبلية اذ إنه لا يكفي أن تتجمع الدراسات بطريقة كمية فيها التكرار والاعادة باعتبار ان كل دراسة تأتي مفصولة عن سابقاتها، انما المطلوب أن تتكامل الدراسات مع بعضها البعض فتأتي الدراسة اللاحقة لتكمل نواقص السابقة، وتبدأ من النتائج التي توصلت اليها، فتضيف أبعاداً جديدة لافاق الشخصية وتستكشف النقاط التي غابت عن الدراسات السابقة.
وبذلك تتحول الكتابة عن شخصية الامام الصدر الى مشروع قائم بذاته، متصل الحلقات، منسجم في اجزائه، يتميز بالتظافر العلمي بين المساهمين في الكتابة عنه. وهذا لو تحقق فان محصلة القيمة العلمية للدراسات سوف ترتفع مع تقدم الزمن بصورة طبيعية.
ان تحديد منهجية دراسة شخصية الامام الصدر او اية شخصية اخرى في تصورنا يجب ان تنطلق من الآفاق التالية:
العلاقة بين الكاتب والشخصية
لو اجرينا عملية احصائية سريعة للدراسات التي تناولت الشخصيات التاريخية، لوجدنا ان الغالبية العظمى من الدراسات كتبها باحثون لم يعاصروا الشخصية ـ موضوع الدراسة ـ انما تعاملوا مع المصادر التاريخية والوثائق والادبيات كمادة أساسية في دراساتهم، وليس هناك بديل او خيار آخر غير هذه المصادر، إما لبعد الفاصلة الزمنية بين الكاتب والشخصية، او لتعذر الاتصال بين الاثنين وعدم وجود علاقة شخصية بينهما.
وفى هذه الدراسات يبذل الباحث اقصى جهوده من اجل الاحاطة بموضوع شخصيته: الا ان الاستيعاب الشامل يظل حالة مثالية لا يمكن الوصول اليها مهما كان مستوى الجهود المبذولة والمصادر المعتمدة. فثمة قضايا هامة في الشخصية لا يمكن التعرف عليها من خلال المصدر التاريخي بل أن المعايشة والتواصل المستمر هو مصدرها الوحيد.
ان الرؤية التي يكونها الباحث تعتمد بالدرجة الكبرى على قدرته التحليلية واسلوبه في الاستنتاج، وهذا ما يتفاوت بين كاتب واخر، ثم تأتي مسألة اختلاف المصادر التاريخية لتضيف مشكلة جدية في هذه البحوث، حيث تؤدي بالباحثين الى نتائج متقاطعة مع أنهم يتناولون شخصية واحدة. وهذا ما نلاحظه في الاختلاف الكبير في النتائج التي توصل اليها الكتّاب المعاصرون عند الحديث عن شخصية تاريخية.
ولنأخذ مثلا (مؤيد الدين بن العلقمي) حيث اعتبره فريق منهم على انه خائن متواطىء مع هولاكو، وأنه كان يعمل سراً لاسقاط الخلافة العباسية، فكان يقدم للخليفة نصائح مخادعة ذات نتائج عكسية.
بينما يقدمه الفريق الاخر بصورة مختلفة تماماً عن الفريق الاول. انهم يرون فيه شخصية مبدأية تتمتع بالقدرة والكفاءة السياسية، وانه قدم نصائحه المخلصة للخليفة العباسي رغم اختلافه المذهبي معه. لكن رجال الخليفة وفي مقدمتهم قائد الجيش وقفوا ضد مقترحاته وحلوله الصائبة وأحبطوا مشاريعه في مواجهة التحدي المغولي.
ولو ان الخليفة سمع نصائحه وعمل بارائه لما سقطت بغداد، ولما حدثت الفاجعة المروعة في تاريخ الاسلام.
ان النتيجتين متعاكستان بشأن ابن العلقمي مع ان المصادر التاريخية متوفرة لفريقي الباحثين على حد سواء، لا شك ان التعامل الطائفي لعب دوره في التأثير على نمط الدراسات وتدخل في توجيه نتائج الدراسة.
لكن العامل الطائفي ليس هو كل السبب. فحتى الكتّاب الذين يتجردون موضوعياً عن التأثير الطائفي، يواجهون صعوبة كبيرة في التوفيق بين المصادر التاريخية فيما جاء فيها من روايات وأخبار متفاوتة.((يراجع في فترة مؤيد الدين بن العقلمي المصادر التالية:
– ابن الاثير، الكامل في التاريخ.
– عبد الرحمن بن ابراهيم الاربلي. خلاصة الذهب المسبوك.
– ابن العبرى، تاريخ مختصر الدول.
– الذهبي، ودول الاسلام.
– ابن الفوطي، الحوادث الجامعة في المائة السابعة.
– د. ابراهيم احمد العدوي، العرب والتتار
– عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين.
– حسن الامين، الغزو المغولي.
– محمد الشيخ حسين الساعدي، مؤيد الدين بن العلقمي.))
ومنشأ ذلك يعود الى ان المادر التاريخية القديمة كتبها اصحابها تحت ضغط الجو الطائفي الذي عاشوه آنذاك، كما يجب ان لا ننسى ضياع الكثير من المصادر التاريخية حول احداث تلك الفترة. وهي مشكلة كبيرة يواجهها البحث في التاريخ، ليس في موضوع سقوط بغداد فحسب، بل في جميع فترات التاريخ الاسلامي.
ويمكن ان نأخذ نموذجا اخر الى جانب ابن العقلي، هو السيد جمال الدين الافغاني. فرغم ان الافغاني لم يمض على وفاته سوى قرن من الزمن، الا ان الاختلاف في وجهات النظر حول شخصيته يمثل ظاهرة ملفتة للانتباه. فقد كتب عن الافغاني عدد كبير من الدراسات والكتب، واعتمد الباحثون على حشد ضخم من المصادر والوثائق التاريخية، لكن مع ذلك دار جدل حاد حول شخصيته التي بدت وكأنها لغز محير لم يفك الجهد التاريخي رموزه المعقدة، ولم يتفق الباحثون على نقاط اساسية في نشاطه ومواقفه.
والخلاف حول الافغاني ليس بين دائرتين من الباحثين هم السنة والشيعية فحسب، كما هو الحال حول شخصية ابن العلقمي بل هو شخصية خلافية داخل كل دائرة من هاتين الدائرتين كذلك، فهناك من يتهمه بأنه رجل الماسونية الخطير الذي استهدف الاسلام من الداخل.
بينما يدافع آخرون عنه بأنه دخل المحفل الماسوني في (القاهرة) ليتعرف على اسرار الماسونية ومن ثم يحاول تحطيمها من الداخل. وانه لو كان ماسونيا مخلصاً لما كشف تجربته مع الماسونية ولما تعرض للنفي المتكرر طوال حياته.
واعتبره بعض الباحثين بانه من دعاة الاتجاه التغريبي الذي هدد البلاد الاسلامية في القرن
التاسع عشر. بينما اعتبره البعض الآخر بانه رائد الاصلاح الاسلامي وباعث النهضة في العصر الحديث والذي أراد للعالم الاسلامي أن يقف على قدميه أمام الهجمة الثقافية والتحديات الاستعمارية الحديثة.
وقد بلغ الاختلاف بين الباحثين حول شخصية السيد جمال الدين الافغاني الى عقيدته وجنسيته، حيث يعتبره فريق بانه سني المذهب، بينما يؤكد فريق آخر على شيعيته. وفيما ينسبهُ البعض الى افغانستان، يصر باحثون اخرون على انه ايراني من بلدة (أسد آباد).
ان هذه الاختلافات الكبيرة في وجهات النظر حول شخصية حديثة عاشت في القرن الماضي وتوفرت حولها الكثير من الوثائق التاريخية، ان هذه الاختلافات تشير بوضوح الى ان السبب الاهم يكمن في عدم وجود كتابة عن شخصيته من خلال المعايشة. فانها تمثل عنصراً هاماً في فهم ابعاد الشخصية. اننا لا نشك أبداً ان دراسة الشخصية التاريخية لو كانت قد تمت في فترة قريبة من حياتها وعلى يد كُتّاب عايشوا تلك الشخصية لكانت النتائج تختلف كثيراً في محصلاتها النهائية عما توصلت اليه في خصوص الكثير من الشخصيات التاريخية. ولو كان هناك من يكتب عن مثل هذه الشخصيات عن قرب لما حدث هذا التباين الغريب بين الباحثين. فالمعايشة اذاً تصبح هنا المصدر الاوثق في الدراسة التاريخية، وعامل الترجيح الاقوى في التحليل والاستنتاج وفي تفسير المواقف والانشطة.((كتب عن السيد جمال الدين الافغاني عدد كبير من الدراسات والكتب في لغات عديدة منها العربية والفارسية والانجليزية ونثبت هنا أهم المصادر العربية:
عبد القادر المغربي، جمال الدين الافغاني.
محمد رشيد رضا، تاريخ الاستاذ الامام.
مصطفى عبد الرزاق، محمد عبده.
لطف الله خان، جمال الدين الاسد آبادي، ترجمة صادق نشأت وعبد النعيم حنين.
جرجي زيدان، تراجم مشاهير الشرق، الجزء الثاني.
د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الجزء الثالث.
قدري قلعجي، جمال الدين الافغاني.
محمد باشا المخزومي. خاطرات جمال الدين الافغاني الحسينى.
د. علي شلش، جمال الدين الافغاني الاعمال المجهولة.))
لقد ذكرنا هذين النموذجين مممن بين عدد كبير من النماذج في الدراسات التاريخية التي تناولت الشخصيات، ولم تتفق على نتائج موحدة او رؤى مشتركة وذلك لفقدان الدراسة عنصر المعايشة للشخصية بينما نلاحظ ان هناك دراسات كتبها اصحابها من خلال المعايشة عن شخصيات عديدة فجاءت تحوي الكثير من الحقائق الهامة والملاحظات الاساسية وهذا ما نلاحظه مثلا في موسوعة الاستاذ جعفر الخليلي (هكذا عرفتهم) فهي تمثل مصدراً نادراً لدراسة شخصيات مختلفة تناولها المؤلف من خلال معايشته الشخصية معها وظل الكتاب يمثل المصدر الاول والاهم لاي دراسة
تريد ان تتناول احد الشخصيات التي كتب عنها الخليلي.
ورغم ان بعض الكتّاب لم تكن معالجتهم متخصصة في دراسة الشخصية وانما كانت معالجات تأريخية عامة الا ان ما ورد فيها من مادة متعلقة بالشخصيات كانت ناجحة ومفيدة الى حد بعيد، وتمثل مصدراً تاريخياً يمكّن الباحثين الاخرين من الاعتماد عليها وتأسيس نتائج جيدة.
فمثلا نلاحظ أن المؤرخ العراقي الاستاذ عبد الرزاق الحسني الذي اشتهر بكتبه المتخصصة في تاريخ العراق السياسي الحديث خلال الحقبة الملكية يعدّ المؤلف الاهم في هذا المجال لانه كتب من خلال معايشته للاحداث واعطى تقييماته وملاحظاته للاحداث والمواقف التي لعبتها الشخصيات السياسية عبر احتكاكه ورصده القريب لها. مما جعل كتبه وخصوصاً (تاريخ الوزارات العراقية) في مقدمة المصادر التي يعتمد عليها الباحث عند محاولته الكتابة عن شخصية سياسة عراقية.
ان المعايشة عنصر اساس في الكتابة عن الشخصية لانها تكشف عن جوانب هامة في الشخصية لا يقدمها اي مصدر آخر.
والذي نريد أن نؤكد عليه هنا بعد ذكر هذه النماذج والملاحضات، أن منهجية الكتابة عن الامام الشهيد الصدر يجب ان تعتمد المعايشة القريبة منه مصدراً اساسياً في الكتابة عنه الى جانب المصادر الاخرى. فالمعلومة المستندة على المعايشة من شأنها ان توجه التحليل بالاتجاه الصحيح، خصوصاً فيما يتعلق بالمواقف السياسية للامام الصدر، كما أنها تغني الدراسات التي تتناول دراسة شخصيته العلمية، لانها توضح الظروف الحقيقية لنتاجات الامام الصدر في الحقول المختلفة، وما هي دوافع الاختيار والعطاء الذي قدمه (رضوان الله عليه)، وبذلك يمكن التوصل الى منهج شخصيته الرسالية في التخطيط والتفكير والعمل.
وقد نجد من الضروري التأكيد في سياق هذه النقطة، أن مسؤلية الذين عايشوا الامام الشهيد هي أكبر من غيرها، باعتبارهم عاشوا اجواءه وظروفه عن قرب وفي مناسبات ومواقف متعددة.
القيمة العلمية للذكريات:
عند مراجعة ما كتب عن الامام الشهيد محمد باقر الصدر، نلاحظ ان الذكريات المدونة عنه شهدت انطلاقه مكثفة في المناسبات السنوية الاولى لاستشهاده، حيث نشر تلامذته والمقربون منه ذكرياتهم معه في فترات مختلفة من حياته. وكانت هذه الذكريات التي نشرت في صحف ومجلات متعددة ومن قبل كتاب متعددين تمثل المصدر الاساس في التعرف على حياة الامام الشهيد وادوار حياته الاجتماعية والعلمية.
لكن هذه الذكريات قل تدوينها فيما بعد، فالذين يمتلكون الذكريات قالوا ما عندهم. وقد لجأ بعضهم الى اعادة ما عنده باسلوب آخر، وذلك عندما تأتي الذكرى السنوية لاستشهاد الامام الصدر ويضطرون بدافع الاحساس بالواجب والوفاء الى الحديث عن الشهيد الصدر والاستجابة لدعوات الصحف الاسلامية التي تفتح ملفات خاصة للذكرى السنوية، بمناسبة فاجعة الاستشهاد.
وفي تقديرنا ان الصحف الاسلامية وفي مقدمتها صحف المعارضة الاسلامية العراقية.. وهي المهتمة اكثر من غيرها في احياء المناسبة ـ في تقديرنا ـ ان هذه الصحف رغم انها قدمت مادة كثيرة عن شخصية السيد الشهيد الا انها لم تصل الى المستوى المطلوب في عملية التوظيف العلمي والوثائقي للذكريات. فقد كانت تعيش المناسبة من اجل الاعلام اكثر مما هي مناسبة لاجل الامام الصدر. كانت تبحث عن الاثارة والحكاية في تغطية المناسبة، وتوظف كل ذلك توظيفا كميا يقوم على اساس عدد الصفحات المخصصة لذكرى الامام الشهيد من مجموع صفحات العدد. وقد دفعها ذلك الى الاعادة والتكرار لدرجة ان مقارنة اعداد بعض الصحف في المناسبات السنوية يظهر التشابه الملحوظ فيما بينها.
ونستطيع ان نكتشف ظاهرة اخرى في الاعداد الخاصة حول ذكرى استشهاد السيد الصدر (رض) وهي توظيف الامام الشهيد لاهتمامات الصحيفة وحاجاتها السياسية والميدانية. بمعنى ان الصحيفة تجهد نفسها من اجل تحويل الامام القائد الصدر الى شاهد بدعم وجهات نظر الصحيفة في مشاكلها الميدانية مع الصحف الاخرى التي تختلف معها في الخط والاتجاه السياسي.
وهذا ما نلاحظه في الاختلاف الحاد الذي تصاعد بين فصائل المعارضة الاسلامية العراقية حول فكرة (التنظيم) وجدوى العمل الحزبى الاسلامي في المجال السياسي والاجتماعي وهو صراع حاد غطى سنوات عديدة من عمر المعارضة الاسلامية في ساحات المهجر واستهلك جهود الطرفين في المجال الاعلامي واثر كثيرا على نشاطهم السياسي.
خلال تلك الفترات، كانت صحافة الطرفين تبذل جهودا استثنائية من اجل زج الامام الصدر في ساحة الصراع واخضاعه قهرا لدعم فكرة وتوجه املته ظروف الساحة وموازناتها السياسية المعقدة والمضطربة. فمن اجل ان يحقق مناهضو العمل الحزبي انتصارهم على الحزبيين، لجأوا الى اعتبار الامام الشهيد تخلى عن فكرته الحزبية منذ اوائل السبعينات عندما اصدر فتواه بحرمة العمل الحزبي على طلبة العلوم الدينية المرتبطين بجهاز المرجعية (الرشيدة).
وقد اضطر الحزبيون ازاء هذا الهجوم الى الدفاع عن انفسهم بذكر ظروف هذا التحريم، وانه أملته ظروف طارئه تعرض لها جو الحوزة العلمية في النجف نتيجة الارهاب الدموي للسلطة الحاكمة في العراق وان الامام الصدر لم يتخل عن مشروعه الحركي في ضرورة العمل الحزبي وان دعمه المباشر لحزب الدعوة الاسلامية وتنسيقه مع قيادته حتى استشهاده دليل قوي على ذلك، كما وانه رفض بشدة واصرار الاستجابة لطلبات السلطة وتهديدها له في اصدار فتوى تحرم الانتماء لحزب الدعوة الاسلامية باعتباره رأس الحربة في مواجهة النظام البعثي، وقد ظل على موقفه الحازم حتى استشهاده رضوان الله تعالى عليه.
وهكذا تحول الامام الشهيد الى شاهد مجبر ورقم قسري في حالة الصراع الدائرة بين مناهضي العمل الحزبي وبين متبنيه، وبدل ان يُستلهم فكره علميا من اجل ان يوظف في دعم قضايا الامة واستكمال مشاريعه اصبح حاجة سياسية واعلامية توظف لمشاريع محدودة خاضعة لظروف خاصة في دائرة ضيقة.
وبدل ان يتصدى مريدوه لدراسة ابعاد شخصيته العملاقة، استغرقوا في استخدامه كدليل ادانه او دفاع في معركة فيها الطرفان خاسران لانهما يسيران نحو هدف مشترك ويستهدفهما الاعداء على انهما كيان موحد وابناء مدرسة واحدة.
لقد اضطر احد الفريقين الى تصوير الامام الشهيد الصدر بانه تخلى عن العمل الحزبي واضطر بعض اعضاء هذا الفريق الى الايحاء بانه صحح خطأه الاول في تبني العمل الحزبي، عندما تخلى عن العمل الحزبي، ورغم قساوة هذه الاساءة للامام الشهيد فانها تمثل تشويها لحقائق التاريخ ولسيرة حياة رمز القضية الاسلامية المعاصرة.
لقد كان الدافع وراء هذه العملية هو العداء لحزب الدعوة الاسلامية الذي تصاعدت حدته في سنوات عديدة من عمر المعارضة الاسلامية العراقية لكن الغريب ان خصوم حزب الدعوة لم يكتفوا بتوظيف الامام الشهيد كرقم في حملة الهجوم ضد هذا الحزب بل حولوه الى رقم ضد العمل الحزبي بشكل عام وضد المشروع الاسلامي في الصيغة الحزبية. وذلك ليتلافوا الدفاع المضاد من حزب الدعوة القائم على الشواهد التاريخية.
وبذلك وصل التحريف الى فكر الامام الصدر وتوجهاته الاسلامية الاصيلة الرائدة في العمل الاسلامي لان العامل السياسي اصبح عند البعض اهم من السيد الشهيد واهم من تاريخه وموقعه في الحياة الاسلامية المعاصرة.
ان حالة الصراع هذه ليست حالة طبيعية انما هي طارئة في الوسط الاسلامي. وقد تنتهي ذات يوم. ويلقي الطرفان السلاح ويلتقون كما يجب، اخوة يسيرون في خط واحد. وعند ذاك ماذا سيكون مصير الكتابات السابقة المنشورة في الصحف على مدى عدة سنوات؟ هل يضطر الكتاب الى تصحيح ما كتبوا او الاعتذار عما قالوا؟
لقد دخلت الكتابة في التاريخ ولم يعد بالامكان شطبها مع الذاكرة. لكن المهم ان نمنع المزيد من هذه الحالات السلبية في التعامل مع السيد الشهيد وتراثه ومواقفه، فهي ملك للامة والتاريخ، وليس لاحد ان يحولها الى ارقام بسيطة في معادلات طارئة. وقد تبدو هذه العبارات لاول وهلة متشائمة في تصوير تلك الفترة المؤلمة وقاسية في التعبير عنها، ولكنها الحقيقة التي يصعب تجاوزها((للتعرف على ما دار في تلك الفترة من تصعيد اعلامي حول هذا الموضوع يمكن الرجوع على وجه التحديد الى صحيفة (لواء الصدر) وصحيفة (الشهادة) وصحيفة (الجهاد) خلال عقد الثمانينات. وقد كانت حدة الحديث تصل الى مستوى الاتهام واثارة الشبهات في بعض الاحيان كما وصل الصراع الى اصدار المنشورات والقاء الاحاديث من على المنابر.)).
ان من الضروري التعامل مع تراث الامام الشهيد وذكرياته بطريقة علمية مسؤولة، لا تتأثر بالعامل السياسي وبالحسابات الخاصة. انما النظر اليها على انها جزء من تراثه تماما مثل كتبه
ونتاجه العلمي في مختلف المجالات وهذا لو حدث فانه سيحول الذكريات الى مصدر هام من مصادر دراسة الامام الشهيد لا سيما وان هناك ذكريات لم تدون الى الآن اما بتكثير العامل السياسي او لان اصحابها يحجمون عن نشرها، لانها تمثل مقاطع صغيرة متفرقة تعود لمناسبات متعددة، فلا يجد اصحابها انها صالحة للنشر من الناحية الفنية اضافة الى عامل الخوف والارهاب بالنسبة الى الذين لا يزالون داخل العراق.
وفي تقديرنا ان هذه الذكريات المتفرقة والتي تشمل تصريحا او رأيا او موقفا للامام الصدر لها قيمة علمية جيدة. فهي يمكن ان تشكل اضافات هامة للدراسات التي تتناول شخصية الامام الشهيد، ولو قدر لبعض الباحثين ان يطلع عليها لاختار منها ما يدعم دراسته. كما ان بعض الذكريات يمكن ان تفتح آفاق البحث امام الباحثين. او قد تكون بحد ذاتها مشروعا تأسيسياً لعمل علمي قائم بذاته.
وعندما ننقل هذه الصورة المحزنة، فلانها ليست قضية خافية، وانما اصبحت جزءاً من تاريخ المعارضة الاسلامية في المهجر. واطلع على تفصيلاتها حتى الذين لا علاقة لهم بجو المعارضة، وقد اساءت تلك الظاهرة الى عموم القضية العراقية والى المعارضة الاسلامية على وجه الخصوص. حيث بدت ممزقة ومنقسمة على نفسها في حين ان فصائلها المؤثرة تنتمي الى مدرسة الامام الشهيد الصدر وترفعه كرمز لها.
ربما يبرر البعض ان ما حدث كان نتيجة ظروف طارئة لكن المحزن ان يزج الامام الصدر في صراع الظروف الطارئة.
الزمن ودراسة الشخصية
أثرنا في نقطة سابقة من هذه الدراسة الى ان المعايشة عنصر هام في دراسة الشخصية، وان الكاتب عندما يدرس الشخصية من خلال احتكاكه بها فانه سيقدم تصورات مطابقة للحقيقة او قريبة منها. وهذه الميزة ربما تتوفر للباحث الذي يكتب عن شخصية لم يحتك بها ولم يتعرف عليها الا من خلال المصادر التاريخية. الى جانب المعايشة هناك عامل الزمن الذي يحتل اهمية كبيرة في منهجية البحث ودراسة الشخصية. ولا نقصد بعامل الزمن هنا مجرد القرب الزمني بين مشروع الكتابة والشخصية ـ موضوع البحث ـ فحسب ـ بل نريد تأثير الشخصية على حركة الزمن ومسار الاحداث في الفترة التي عاشتها، وامتدادها المؤثر بعد الوفاة.
لقد اعتاد الباحثون التوقف في دراساتهم عند موت الشخصية، واعتباره المحطة الاخيرة في مشروع الدراسة. لكننا نعتقد ان هذا التوقف قد يكون صحيحاً بالمقياس الاكاديمي، لكنه من البعد الحقيقي لقيمة الشخصية يعد ناقصاً. فهناك شخصيات برزت آثارها بعد موتها اكثر مما كانت مؤثرة في حياتها وان عطاءات امتداداتها كانت اكثر من عطاءاتها المباشرة يوم كانت على قيد الحياة.
لقد ترك ابطال التاريخ بصماتهم الثابتة على حركة الزمن لفترة طويلة وظل دورهم حيا لم يمت بموتهم. وليس من السهولة الاحاطة بهؤلاء الابطال الذين امتد دورهم المؤثر في الحياة السياسية او الفكرية او الاجتماعية وغير ذلك من المجالات.
اننا نلاحظ ان هناك الكثير من الشخصيات التي فرض عليها الواقع الزمني اوضاعا قاسية حجّمت ادوارهم التاريخية مع قدرتهم على لعب ادوار اكثر خطورة واهمية مما قاموا به. فلقد اتفق المؤرخون مثلا على ان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني كان يتمتع بمواصفات ذهنية وقدرات سياسية وادارية عالية، بحيث يمكن تصنيفه ضمن سلاطين آل عثمان البارزين. الا ان عبد الحميد جاء في فترة كانت فيها الدولة العثمانية على حافة الانهيار. ومع ذلك فانه أخّر موعد انهيارها لفترة ما. ويذهب بعض المؤرخين الى ان عبد الحميد لو ولد في فترة سابقة لاستطاع ان يغير مسار الدولة العثمانية وان يدفع بها باتجاه آخر غير الذي آلت اليه.
وما ينطبق على عبد الحميد الثاني ينطبق على الكثيرين غيره، فان الظروف التي احاطت بهم جعلتهم لا يمارسون دورا يتلائم مع مؤهلاتهم الشخصية. وعلى هذا فان الكوابح والعقبات الزمنية لها تأثيراتها المباشرة على عطاءات الافراد وابداعاتهم. فقد تحجّم دور ا لبعض، وقد تفرض على البعض الآخر ان يسلك طريقا غير الطريق الذي ينسجم كليا مع مؤهلاته وقدراته الشخصية. وبالتالي فان دور الفرد في حركة الزمن يتحدد باجواء الواقع وظروف الزمن وليس بالمؤهل الذاتي فقط.
ويحفظ لنا التاريخ نماذج رائدة لابطال طليعيين، امتلكوا مواصفات شخصية ومؤهلات ابداعية عالية، فاستطاعوا ان يقدموا انجازات ضخمة وان يلعبوا ادوارا مؤثرة في حركة الزمن. ورغم انهم لم يعيشوا سوى فترة قصيرة من الحياة. فلقد رحلوا عن عالمنا بالموت او بالقتل لظروف سياسية، في الوقت الذي كانوا يتمتعون بأوج قدرتهم على العطاء والرفد. ولو ان العمر امتد بهم لسنوات اطول، لقدموا المزيد من الآثار الخصبة، ولمارسوا ادوارا اكثر عطاء في حركة الزمن. لكن الاجل حال دون ذلك، او ان يد الجريمة امتدت اليهم فاوقفت حركتهم البناءة في امتدادات الزمن.
ومن هؤلاء الابطال الخالدين الذين لم يمتد بهم الزمن طويلا على سبيل المثال لا الحصر الشريف الرضي محمد بن الحسين الذي كتب في الادب واللغة والتفسير باسلوب جديد مبدع وعميق اضافة الى مهامه الاجتماعية ومواقفه السياسية المشهورة.
والامام الشافعي محمد بن ادريس الذي توفي في ريعان الشباب وخلف دراسات رائدة في علم الاصول والفقه والحديث لا تزال موضع اهتمام الفقهاء والباحثين. والامام حسن البنا الذي اغتيل في مصر وهو في اوج نشاطه السياسي وحركته الاجتماعية وعمره لم يتعد النيف والاربعين سنة. ويعتبر من رواد العمل الحركي الاسلامي وتعد مدرسته الحركية من اوسع المدارس الحركية المعاصرة انتشارا في العالم الاسلامي.
والامام الشهيد محمد باقر الصدر الذي استشهد في العراق وهو لم يكمل العقد الخامس من عمره الشريف، فتوقفت بذلك حركة عطاءاته الفذة التي تميز بها في سنوات عمره القصير في مختلف آفاق المعرفة الاسلامية والانسانية. وهو بحق يمثل ظاهرة حضارية ذات قيمة تاريخية متميزة تستحق الدراسة والتأمل ويعبر بجدارة عن مظهر الوعي والتحدي للصحوة الاسلامية المعاصرة في مختلف المواقع والساحات.
وهناك امثلة عديدة اخرى، للابطال الخالدين الذين غابوا او غيّبوا عن مسرح الحياة، لكن عطاءاتهم ظلت خالدة مثمرة مؤثرة وممتدة مع حركة الزمن. مع ان تلك العطاءات هي ليست كل الحصيلة التي يمتلكونها، فلقد كان بمقدورهم ان يضيفوا المزيد، وان يقدموا الكثير من الرفد والتأثير لولا رحيلهم المفاجئ السريع عن ميادين الحياة((نرى فى هذه الظاهرة انها تمثل قضية مهمة من قضايا التاريخ، وان الدراسات التاريخية اعطت لبعض هؤلاء الابطال حقهم فيما بقي البعض الآخر دون مستوى الاهتمام المطلوب. نأمل ان يلتفت الكتّاب والباحثون الى هذه الظاهرة، وان يدرسوا تلك الشخصيات الرائدة بما يناسب موقعها واثرها في حركة الزمن.)).
وقد حدث في التجارب المختلفة ان يتمكن بطل من ابطال التاريخ ان يفرض وجوده على المجتمع، فيتعلق به تعلقا شخصيا، ويستمر هذا التعلق العاطفي حتى بعد وفاته.
ورغم ان هذه حالة طبيعية في حياة الامم والشعوب باعتبار ان الفرد الذي يترك اثاره على واقع مجتمعه. ويظل دوره ممتدا مع حركة الزمن. فان المجتمع ينشد اليه عاطفيا من خلال ارتباطهم بدوره المؤثر ونظرتهم التقديسية له. رغم ان هذه الحالة طبيعية الا انها في بعض الحالات تأخذ طابعا سياسيا. فقد يحدث ان تتمسك الامة بالشخص تمسكا عاطفيا غير واع، فيكون الانشداد الى الشخص وليس الى دوره. مما يجعل من سلوك الامة عامل تجميد لدور الشخص، فهي تعطل انجازاته الزمنية وتحاول ابقاء الزمن عند النقطة التي توقف فيها الفرد البطل بالوفاة لا ان تكمل دوره في حركة الزمن القادم.
فمثلا انشدّ الوسط العلمي الشيعي الى الشيخ محمد بن الحسن الطوسي انشداداً كبيرا خلال القرن الخامس الهجري وتعلقه تعلقا عاطفيا قل نظيره، وقد افرزت هذه الحالة ان سيطر الاحساس العاطفي على الحياة العلمية في حركة الاجتهاد. فلم يعد بمقدور العلماء ان يتخطوا ارائه الفقهية ونظرياته العلمية لانهم يرون في ذلك تعديا على شخصية الطوسي العملاقة وكانت هذه الحالة تهدد مدرسة الاجتهاد عند الشيعة الامامية بالجمود والتخلف حتى جاء دور محمد بن ادريس الحلي، فحطم حالة الجمود من خلال مناقشاته الجريئة لاراء وافكار الشيخ الطوسي، وبذلك عادت حركة الزمن في حياة المدرسة العلمية للمسلمين الشيعة. وهكذا بقيت حركة الاجتهاد مفتوحة ومتطورة في المؤسسة الشيعية على امتداد حركة الزمن. وهناك جانب آخر لهذه الحالة العاطفية في تقديس الفرد والجمود على شخصه دون اثاره وعطاءاته. فقد استغل هذه الحالة الانسانية بعض الاتجاهات السياسية كما هو الحال في تركيا، حيث بذلت السلطات الحاكمة اقصى جهودها من اجل ربط
الشعب التركي المسلم بشخصية كمال اتاتورك. من خلال التعامل مع آرائه على انها ثوابت، لان السلطة ترى في انشداد الشعب الى شخصية اتاتورك يحقق لها المنهج العلماني الذي تريده.
وكذلك فعلت السلطة الماركسية في الاتحاد السوفياتي، حيث حاولت السلطات ربط الشعوب الخاضعة لها بشخصية ماركس ولينين فهي ترى ان هذا الربط لو صار عاطفيا، فانها تستطيع ان تفرض الفكرة الماركسية على الواقع الجماهيري، وان تحولها الى ثابت غير قابل للمناقشة. وقد استمرت هذه العملية القهرية ومحاولات المسخ والتضليل حتى عهد غورباتشوف حيث انهارت النظرية الماركسية من القواعد وانهار الكيان السياسي المرتبط بها. فلقد حاولت السلطات بالارهاب ايقاف حركة الزمن عند حدود كارل ماركس ولينين، ولكن للزمن مساره الآخر وتياره القوي الذي يحطم حواجز الاعاقة، فتنهار ذات يوم امام حركته الساحقة.
وخلاصة القول ان دور الفرد الزمني لا ينفصل عن المؤثرات التي يتعايش معها، فهي التي تتدخل في التأثير على دوره في حركة الزمن، وفي رسم ملامح هذا الدور وفي اعطائه عوامل الاندفاع او التحجيم او التراجع((
تحدثنا فى الفصل السادس من كتابنا (الزمن في حركة العاملين) الصادر عن دار الاسلام في لندن عن قيمة الزمن في حياة الخالدين ودور ابطال التاريخ في التأثير على حركة الزمن في حياة الشعوب على صيغتين ايجابية وسلبية.
وقد ناقشنا في ذلك الفصل اصطلاح (الدور التاريخي) و(الدور الزمني) للشخصية، حيث ان الاصطلاح الاول يستخدم في حدود الماضي وبذلك يصبح تعبيرا محدود الدلالة عند استخدامه في وصف الشخصيات في حين ان الدور الزمني للافراد هو اكبر من دورهم التاريخي فهو يمتد بامتداد الفترات التي استمر فيها تأثيرهم وظل فيها دور البطل حيا في مجال اختصاصه ودائرة تأثيره او في الواقع الانسانى بشكل عام.
وقد ذكرنا في تلك الدراسة الدور الزمني المتميز للامام الشهيد الصدر وامتداده المؤثر بعد استشهاده رضوان الله عليه.)).
ان من الضروري ادخال عامل الزمن كمرتكز بارز وثابت في منهجية الدراسة عن شخصية الامام الشهيد الصدر، من اجل الحفاظ على دوره التاريخي وابقائه حيا مع حركة الزمن. ولا تهدف هذه العملية الى تقديم الجميل او الوفاء للسيد الشهيد، انما هي حقيقة علمية. فالامام الصدر صاحب مشروع كبير في الحياة الاسلامية اثبت قوته وجدراته. ولو قدر للباحثين ان يدرسوه بالمنهجية المطلوبة، لاكتشفوا عناصر ابداع مخفية في مدرسته الرائدة. ولاستطاعوا ان يكملوا ما اراد ان يقدمه الامام الشهيد في حياته، على ان من الضروري ان نؤكد هنا ان الامتداد الزمني لشخصية الامام الصدر لا يقتصر فقط على نتاجه العلمي، بل يشمل مواقفه العملية والتي خطط لها رضوان الله عليه ان يجعلها مشاريع عمل مؤثرة في المستقبل، وكان اخرها مشروع استشهاده الذي حوّله الى موقف رائع حافظ فيه على انطلاقه العمل السلامي وضمن به مواصلته واستمراره، فكان (رحمه الله) المشروع الحي الخالد لفي حياته وفي شهادته.