الشيخ محمد رضا النعماني
كنت أنظر إلى مكتبته الخاصّة فتتعمّق حيرتي وتزداد دهشتي: لأنها مكتبة متواضعة، صغيرة ومحدودة لا تتناسب مع مستوى صاحبها، حتّى كان يستعين في بعض الأحيان بمكتبة قريبة من بيته هي مكتبة الحسينيّة الشوشتريّة لمراجعة بعض المصادر فيها: لأن مكتبته فقيرة لمعظم المصادر الكبيرة والمهمة.
فإذن كيف استطاع أن يمتلك كل هذا الرصيد العلمي الهائل، والمعرفة الشاملة وهو لا يمتلك ما يمكن أن نعتبره ـ الرصيد المادّي للمعرفة ـ المتمثّل بالكتاب.
وفي يوم من الأيام حرّضني الانبهار لاكتشاف هذا الأمر فسألته عنه، فقلت له: سيدي، إنّ هذه الكتب التي أراها لا تقوى على إثراء أحد من العلماء للإجابة على كل هذه الأسئلة المعقّدة والمتنوّعة ، فكيف يتسنّى لكم الإجابة على كل هذه الأسئلة المختلفة في موضوعاتها ومستوياتها، والتي بعضها لا يخطر على بال؟
فقال: وأنا أعجب من ذلك في بعض الأحيان ، فحينما يبدأ السائل بسؤاله قد لا يحضرني الجواب حتى اللحظات الأخيرة من سؤاله، ولكن ما أن ينتهي حتى يحضر الجواب أمامي وكأني قد أعددته قبل ذلك.
================
قد حدّثني والدة السيد الشهيد بهذه القضيّة العجيبة:
كان السيد الشهيد في بداية حياته العلميّة مواظبا على الذهاب في كل يوم إلى حرم الإمام أمير المؤمنين علي فكان يؤدي الزيارة والصلاة ثم يجلس يفكر بالمسائل العلمية المعقّدة، مستلهما من باب مدينة العلم حلّها ، وكان يقول: ما استعصى علي حل لمسألة في حرم أمير المؤمنين.
وقد انقطع السيد الشهيد عن الذهاب إلى الحرم الشريف فترة من الزمن، ولم يكن أحد يعلم لذلك كلّه إلى أن أنكشف هذا الأمر رجل كان خادما لوالد السيد الشهيد ثم بعد وفاته بقي على خدمته وعلمه متبرعا بذلك، فقد رأى في عالم الرؤيا أمير المؤمنين فقال له : قل لولدي السيد محمد باقر الصدر لماذا انقطعت عن حضور درسنا).
وحينما استيقظ من النوم أخبر بما رأي، وقص ذلك للسيد الشهيد. وهنا كشف عما كان قد اعتاده من الجلوس خلف الضريح والتفكير بالمسائل العلميّة هناك. وعاد إلى ما كان عليه واستمر عليه حتى آخر يوم قبل احتجازه.
================
كان السيد الشهيد ـ وكما سمعت منه ـ يقتطف أكثر من عشرين ساعة من الليل والنهار للتحصيل العلمي، وكان يقسمها بين المطالعة والكتابة والتفكير، ولعل التفكير كان يأخذ أكثرها ، وقد يكون هذا أحد أسباب الابداع في نتاجاته العلميّة، وما يرى فيها من تميّز ظاهر. فهو لم يجعل نفسه وعاءا لأفكار الاخرين يستنسخها في ذاكرته فقط، بل يمحّص كل شيء بموضوعيّة ودقّة منقطعة النظير، فما هو حق منها يستدل له، وما هو باطل يستدل عليه، وهكذا.
================
تروى حادثة طريفة تدل على فرط ما يتمتع به سيدنا الشهيد من ذكاء خارق وعبقرية خاصة فقد كان المرحوم آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين يظن أن يحضر السيد الشهيد لبحثه حضورا تشريفيا لا اكتسابيا حقيقيا : ذلك لأن عمر السيد الشهيد لم يكن يتناسب مع مستوى بحث الخارج، فتلك الأبحاث لا يحضرها حضورا استيعابيا إلا القلائل من الطلبة والعلماء الذين اتعبوا أنفسهم في التحصيل سنوات كثيرة، حتى تمكنوا من تمهيد الأرضية العلمية لاستيعاب الابحاث الاستدلالية المعقدة التي تلقى فيها، وإذا علمنا أن بحث المرحوم آل ياسين كان يحضره أمثال آية الله الشيخ صدرا البادكوبي، وآية الله الشيخ عباس الرميثي، وآية الله الشيخ طاهر آل راضي وأمثالهم من جهابذة العلماء، ندرك أن الحق مع المرحوم آل ياسين في ظنونه بحقيقة حضور السيد الشهيد لبحثه.
ويبدو أن السيد الشهيد (رضوان الله عليه) كان في تلك الفترة يكتفي بالاستماع لبحث استاذه متجنبا مناقشته، أو الاعتراض عليه، وإلا فإن بإمكان الشيخ أن يكتشف من خلال ذلك عبقرية أصغر تلاميذه في وقت أبكر من تاريخ وقوع الصدفة التي غيرت اعتقاده.
والذي حدث فغير نظرة الشيخ عن السيد هو أن الشيخ كان يبحث مسألة : أن الحيوان هل يتنجّس بعين النجس ويطهر بزوال العين التي نجسته، أو لا يتنجس بعين النجس؟
فذكر أن الشيخ الانصاري ذكر في كتاب الطهارة أن هنا ثمرة في الفرق بين القولين تظهر بالتأمل. وقال: إن استاذنا المرحوم السيد إسماعيل الصدر حينما انتهى بحثه إلى هذه المسألة طلب من تلاميذه أن يكتشفوا ثمرة الفرق بين القولين ، فبيّنا له ثمرة الفرق بين القولين. وأنا أطلب منكم اكتشاف الثمرة والإتيان بها في بحث اليوم الآتي.
فحضر شهيدنا الصدر في اليوم التالي قبل الآخرين، وقال للشيخ : إني جئت بثمرة الفرق بين القولين وذكر الثمرة التي اكتشفها ، فتعجب الشيخ وقال له : أعد بيان الثمرة لدى حضور باقي الطلاب. وحينما حضر الطلاب الآخرون طالبهم الشيخ بالثمرة فلم يتكلم منهم أحد، فقال الشيخ: إن السيد محمد باقر الصدر أتى بثمرة جديدة غير الثمرة التي ذكرناها لأستاذنا وهنا بيّن شهيدنا الصدر الثمرة بين القولين.
فاثار إعجاب الحاضرين وعرف من ذلك الوقت بالعلم والفضيلة والعبقرية.
================
سمعت سماحة آية الله السيد كاظم الحائري ينقل عنه أنه كان يستطيع نسف الفلسفة الأفلاطونية، بل كان قد بدأ بذلك على مستوى الأحاديث والأبحاث الخاصّة بينه وبين بعض طلابه، ولم يبرز ذلك على شكل كتاب: لأن قسما من الناس يؤمنون بالله من خلال هذا الطريق فلم يجد ضرورة أو حاجة تستلزم الخوض في هذا الموضوع. ومن المؤكد أن علمه هذا ـ لو حقّقه ـ فسوف يجعله على رأس قمّة فلاسفة العالم، ولكانت مكانته الاجتماعية والعلميّة قد تتجاوز العالم الإسلامي إلى العالم كلّه، ومع ذلك فقد قدّم المصلحة الدينيّة على ما كان سيحصل عليه من شهرة لو أنه حقق ذلك المشروع الفلسفي.
================
كان السيد الشهيد ينقطع عن العالم من حوله بشكل كامل، وهي حالة ليس من السهل لكل أحد أن يربي نفسه عليها، وابتعد عن كل ما من شأنه شغل وقته بما في ذلك الحياة الزوجيّة، فلم يتزوّج إلا بعد أن وصل إلى أعلى مراتب الاجتهاد، وحتّى بعد هذه المرحلة ظل على نفس المنهج تقريبا.
================
لم أعهد السيد الشهيد يخلد إلى النوم حتى في أشدّ أيّام الصيف حرارة، فكان حتّى في هذا الوقت لا يفارق كتبه، وقد قارب الخمسين من عمره، وفي وقت كان فيه الشاب القويّ النشط لا يستطيع مقاومة إغراء النوم في تلك الفترة.
نعم، في العام الأخير من عمره الشريف وبعد أن ضعفت قواه كان يستلقي على فراشه أقل من ساعة وكان يقول لي: إذا رآني نائما: لم أعوّد نفسي على النوم: لأن العمر قصير، فلم تعود نفسك على ذلك وأنت لازلت شابا.
================
من الغريب ما سمعته من السيد الشهيد من أنّ حرارة جسمه الطبيعيّ كانت أكثر من الطبيعي بنصف درجة أيام شبابه، وكان المصور أن سبب ذلك حالة مرضيّة مجهولة، إلا أن الفحوصات أثبتت سلامته من أي مرض، وفسر الطبيب ذلك بأن الزيادة عبارة عن طاقة إضافية في جسمه، وبمرور الزمن وكلّما تقدّم العمر كانت الزيادة في درجة الحرارة تنخفض حتى أصبحت في السنوات الاخيرة من عمره الشريف بالمستوى الطبيعي.
================
من العجيب أن السيد الشهيد يتصل بجده الإمام موسى بن جعفر أما بمجتهد أو عالم فاضل ، فكل رجال هذه الاسرة علماء أفاضل أو مراجع كبار . وهي ميزة فريدة قلما تتوفر لأسرة من الاسر.
================
لا أنسى عصر ذلك اليوم وقد جلسنا معاً على سطح الدار ، وقبّة حرم أمير المؤمنين عليه السلام تلوح أمامنا ، وقد أدّينا الزيارة والسلام ، وكانت هذه عادته في كلّ يوم ، عندها جمعت قواي ، وشددت همّتي ، وتجرّأت إلى حدٍ كبير ، فطلبت من سماحته أي يحقّق هذه الامنية.
قلت لسماحته : إنّني أشعر بضرورة وأهمّية أن تقوموا بترجمة لحياتكم فأنتم أقدر على هذه المهمّة بالمستوى الذي يشبع طموح أبناء الأمّة وعلمائها ومفكّريها.
إذ لا يمكن لأحدٍ غيرك أن يستوعب جميع جوانب حياتكم ، ويكتب عنها ، وخصوصاً المعانات الكبيرة التي عشتموها في مسيرتكم الجهاديّة منذ بدايتها وحتى هذه الساعة ، وقد لا يصدّق الناس حجم المحنة وعظم المعانات إن كتبها أحد سواكم . وذكرت له بعض الشواهد والنماذج ممّا يصعب تصديقه أو وقوعه.
ثم قلت : إن تاريخ أئمتنا عليهم السلام حافل بالكثير من أمثال هذه الترجمات التي فرضتها الضرورات ، أو مصلحة الإسلام . لقد ترجم الامام علي عليه السلام نفسه للمسلمين من على المنبر ، وفي مناسبات متعدّدة ، فذكر جهاده مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومواقفه في صدر الاسلام ، وما تعرّض له من ظلم واضطهاد بعد وفاته صلى اللّه عليه وآله وسلم وهكذا فعل الامام علي بن الحسين عليه السلام ولم يفسّر ذلك علي أنّه حبّ للذات ، أو الشهرة ، خصوصا أنّكم تعتقدون أنّ نهاية المطاف هو الاستشهاد في سبيل الله عزّوجلّ.
ترددّ (رضوان الله عليه) في القبول بهذه الفكرة ، وقال:
(إن دمّي هو الذي سيترجمني ، فأنا لا اريد إلا خدمة الاسلام ، وهو اليوم بحاجة إلى دمي أكثر من حاجته إلى ترجمتي ، أمّا أنت فقد عشت معي طويلاً ، وشاركتني محنتي ، وعشت مراحل صراعي مع الظالمين ، فعرفت الكثير من تلك الجوانب ، فإن كتب اللّه ـ تعالى ـ لك السلامة فاكتب ما قد رأيته أو سمعته….).
وبعد حديث طويل جري بيني وبينه عن هذا الموضوع . قلت لسماحته : أنّ أحداثاً خطيرة ومهمّة وقعت في فترة الحجز ، فمن سيصدّق أنّها وقعت إن لم تكتب بقلمكم؟
فقال : (نعم قد أكتب بعض ذلك…)
================
ذكر لي رحمه اللّه أنه حينما اجتمع به المجرم فاضل البرّاك (مدير الأمن العام) في الكوفة قال له :
(سيّدنا : إني أتمكن من اتلاف كل التقارير التي تكتب ضدكم ، والتي ترفع إلينا من قبل مديريات الأمن ، ولكن ماذا يمكن أن أفعل للتقارير التي ترفع للقيادة مباشرة دون أن تمرّ بنا من قبل فلان وفلان ، وذكر أسماءهم ، ثم قدم له نماذج منها) !!؟
================
سألت السيد الشهيد (رضوان الله عليه) عما إذا كان يتذكر والده السيد حيدر الصدر فقال: ليس في ذاكرتي شيء عنه إلا صورة غير واضحة، وأنا بحكم من لم ير أباه.
================
إن السيد الشهيد (رضوان الله عليه) حينما بلغ العاشرة أو الحادية عشرة من العمر وجد نفسه ـ داخل الاسرة ـ بين نزعتين متخالفتين تتجاذبانه نحو منحيين متغايرين في التخطيط لمستقبله ، فمن جانب كانت والدته تحثه على الدراسة في الحوزة واختيار حياة الطلبة ، ومن جانب آخر كان المرحوم السيد محمد الصدر يرغبه في مستقبل يضمن فيه سعادة دنياه والعيش في رفاه ودعة بعيدا عن حياة الحوزة وما يكتنفها من فقر وفاقة.
أما السيد الشهيد فقد وقف موقفا عمليا حسم به ذلك التجاذب وأشعر تلك الأطراف التي تقاطعت رغباتها بمستقبله بواقع ما يطمح إليه، فقد أضرب تقريبا عن الطعام من دون إعلان، واكتفى من الطعام بقطعة صغيرة من الخبز يسد بها رمقه طوال الليل والنهار.
بعد أيام أحس الجميع ـ بالإضراب الهادئ فسألوه عن السبب فقال: إن الذي يستطيع أن يعيش على قطعة صغيرة من الخبز أياما عديدة لهو قادر على أن يستمر إلى آخر العمر كذلك ، فأنا لا أخشى من الفقر ولا أخاف من الجوع.
واستطاع ان يقنع الجميع بصوب رأيه بالالتحاق بالحوزة العلمية والانخراط في صفوف ورثة الأنبياء رغم ما قد يواجهه من صعوبة الحياة وجدب العيش فيها ، وأثبت أن إرادته في اختيار هذا الطريق إرادة لا يزعزعها شيء.
وقد حدثني (رضوان الله عليه) عن هذه المرحلة من حياته فقال:
(إن المرحوم السيد محمد الصدر رئيس وزراء العراق آنذاك ـ كان يصطحبني معه إلى مزرعته خارج بغداد على ظهر جواد له، فكان يمنّيني بمنصب كبير في الدولة وبحياة ناعمة مرفهة إن أنا واصلت دراستي في المدارس الحكوميّة، فقلت له : إن حياة الحوزة والدراسة فيها هي خياري الوحيد، وإن قناعتي في ذلك تامة رغم حاجتي للمال.)
================
حدثتني الشهيدة بنت الهدى (رضي الله عنه) فقالت:
(كنت مع أخي في تلك الفترة نجمع ما نحصل عليه من مال قليل، فيشتري السيد به كتابا فنطالعه ونستوعبه، ثم يبيع الكتاب ليشتري بثمنه كتابا آخر، وهكذا استمر الحال بعد هجرتنا إلى النجف الأشرف).
================
في أوائل السنة الثانية عشرة من عمر السيد الشهيد درس كتاب (معالم الاصول) على يد أخيه المرحوم السيد إسماعيل الصدر،فكان لفرط ذكائه يعترض على صاحب المعالم باعتراضات وردت في كتاب (كفاية الاصول) للخراساني.
منها: أنه ورد في بحث (الضد) في كتاب (معالم الاصول) الاستدلال على حرمة الضد بأن ترك أحدهما مقدمة للآخر. فاعترض عليه الشهيد الصدر بقوله: (إذا يلزم الدور). فقال له المرحوم السيد إسماعيل الصدر:(هذا ما اعترض به صاحب الكفاية على صاحب المعالم).
================
كان المرحوم آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين يظن أن يحضر السيد الشهيد لبحثه حضورا تشريفيا لا اكتسابيا حقيقيا : ذلك لأن عمر السيد الشهيد لم يكن يتناسب مع مستوى بحث الخارج، فتلك الأبحاث لا يحضرها حضورا استيعابيا إلا القلائل من الطلبة والعلماء الذين اتعبوا أنفسهم في التحصيل سنوات كثيرة، حتى تمكنوا من تمهيد الأرضية العلمية لاستيعاب الابحاث الاستدلالية المعقدة التي تلقى فيها، وإذا علمنا أن بحث المرحوم آل ياسين كان يحضره أمثال آية الله الشيخ صدرا البادكوبي، وآية الله الشيخ عباس الرميثي، وآية الله الشيخ طاهر آل راضي وأمثالهم من جهابذة العلماء، ندرك أن الحق مع المرحوم آل ياسين في ظنونه بحقيقة حضور السيد الشهيد لبحثه.
ويبدو أن السيد الشهيد (رضوان الله عليه) كان في تلك الفترة يكتفي بالاستماع لبحث استاذه متجنبا مناقشته، أو الاعتراض عليه، وإلا فإن بإمكان الشيخ أن يكتشف من خلال ذلك عبقرية أصغر تلاميذه في وقت أبكر من تاريخ وقوع الصدفة التي غيرت اعتقاده.
والذي حدث فغير نظرة الشيخ عن السيد هو أن الشيخ كان يبحث مسألة : أن الحيوان هل يتنجّس بعين النجس ويطهر بزوال العين التي نجسته، أو لا يتنجس بعين النجس؟
فذكر أن الشيخ الانصاري ذكر في كتاب الطهارة أن هنا ثمرة في الفرق بين القولين تظهر بالتأمل. وقال: إن استاذنا المرحوم السيد إسماعيل الصدر حينما انتهى بحثه إلى هذه المسألة طلب من تلاميذه أن يكتشفوا ثمرة الفرق بين القولين ، فبيّنا له ثمرة الفرق بين القولين. وأنا أطلب منكم اكتشاف الثمرة والإتيان بها في بحث اليوم الآتي.
فحضر شهيدنا الصدر في اليوم التالي قبل الآخرين، وقال للشيخ : إني جئت بثمرة الفرق بين القولين وذكر الثمرة التي اكتشفها ، فتعجب الشيخ وقال له : أعد بيان الثمرة لدى حضور باقي الطلاب. وحينما حضر الطلاب الآخرون طالبهم الشيخ بالثمرة فلم يتكلم منهم أحد، فقال الشيخ: إن السيد محمد باقر الصدر أتى بثمرة جديدة غير الثمرة التي ذكرناها لأستاذنا وهنا بيّن شهيدنا الصدر الثمرة بين القولين. فاثار إعجاب الحاضرين وعرف من ذلك الوقت بالعلم والفضيلة والعبقرية.
================
مما يذكر عن نبوغ وذكاء السيد الشهيد في تلك الفترة، والمكانة التي وصل إليها وهو في سن مبكرة أنه لمّا توفي الشيخ آل ياسين في سنة(1370 هـ) علّق المرحوم آية الله الشيخ عباس الرميثي على رسالة آل ياسين المسمّاة بـ(بلغة الراغبين) ولشدة اعتقاده بذكاء ونبوغ السيد الشهيد طلب منه حضور المجلس الخاص بكتابة التعليقة ليشارك هو أيضا بعمليّة الاستنباط.
وكان الشيخ الرميثي يقوله له في ذلك التاريخ :(أن التقليد عليك حرام). وهذا يدل على أن السيد الشهيد كان قد بلغ مرتبة الاجتهاد وهو في سن مبكّرة جدا.
وقد سمعت السيد الشهيد يقول: إني لم اقلّد أحدا منذ بلوغي سن الرشد.
================
كان السيد الشهيد قد كتب تعليقة على رسالة المرحوم الشيخ آل ياسين المسمّاة بـ(بلغة الراغبين)، وكان يأسف على ضياع تلك النسخة التي تعتبر من أغلى ذكريات عمره العلمي.
وشاء الله تعالى أن أعثر على تلك النسخة وكان لذلك قصة هي:
كنت قد سمعت من السيد الشهيد ومن والدته أن سادن الروضة الحسينيّة (الكليدار) في زمن والد السيد الشهيد أهدى لمراجع ذلك الوقت ومنهم المرحوم السيد حيدر الصدر (تربة) للصلاة كان قد أحضرها من تراب قبر سيد الشهداء ـ أي التراب القريب جدا من جسد الامام الحسين ـ فكانت هذه التربة الشريفة يتغير لونها منذ طلوع فجر يوم العاشر من محرم الحرام في كل عام، ففي أول الفجر من اليوم العاشر يبدأ لونا بالإحمرار تدريجيا حتى يشتد فتصير عند الزوال كأنها علقة دم. وكان السيد الشهيد يشير بيده إشارة توحي إي أنها تتحول إلى دم حقيقي ، وبعد الزوال يبدأ لونها يعود إلى حالته الاولى. فكان السيد الشهيد يقول : كنا لا نشك في يوم العاشر من المحرم بسبب خاصية هذه التربة المقدسة.
وذكرت لي والدته قصصا عجيبة وكرامات عديدة لهذه التربة في شفاء الامراض.
وفي يوم من الأيام سألت السيد الشهيد عن هذه التربة المقدسة هل لا زالت موجودة : فقال : كلا ، لقد فقدت أثناء هجرتنا إلى النجف أو بعدها بقليل.
وكانت بعض المخلفات والمتروكات من حاجيات منزل السيد الشهيد قد حفظت في صناديق ووضعت في (سرداب) المنزل، فدفعني أمل العثور على التربة إلى التفتيش والفحص، فكنت في أوقات الفراغ أقلّب محتويات تلك الصناديق وافتش صغيرها وكبيرها بحثا عن تلك التربة، فلم أعثر على شيء ،إلا أني وجدت في أحد الصناديق مجموعة كبيرة من الأوراق والدفاتر كان منها النسخة الأصلية لكتاب (اقتصادنا)، ووجدت كتاب مطبوعا سقطت عدة صفحات من أوله، عليه تعليقات فقهيّة بخط السيد الشهيد ، فاعتقدت أنها كتاب (بلّغة الراغبين) الذي تحدث عنه السيد الشهيد، فأخذتها مسرعا وقدمتها لسماحته، وقلت له : لعل هذه هي تعليقتكم على (بلغة الراغبين) قد عثرت عليها في الصناديق المودعة في (السرداب).
أخذها السيد الشهيد وقلّب صفحاتها ثم قال: نعم، هذه تعليقتي على (بلغة الراغبين) . وبعد ذلك حاول أن يعرف مقدار الفرق الحاصل في فتواه في الفترة ما بين تاريخ تعليقته على (بلغة الراغبين) وحتى تاريخ كتابته للفتاوي الواضحة ، فوجد بعد الفحص والتدقيق أن التطابق بين الفتاوى كبير جدا ، وموارد الاختلاف يسيرة وقليلة.
================
كان السيد الشهيد حينما يقرأ أو يكتب أو يفكّر ينقطع عن المحيط الذي يعيش فيه، وينسجم مع الحالة التي هو فيها انسجاما بنحو لا يشعر معها بما حوله وكنت في أحيان كثيرة أردع أطفاله الصغار عن اللعب أو الصياح ظنا منّي أن ذلك يوفر له جوا مناسبا للتفكير والمطالعة ، إلا أني لاحظت أن شهيدنا لا يعبأ بما يحدث حوله ، ولا يتضجّر من الضجيج والصياح ، فسألته عن سبب ذلك فقال لي: حينما أنسجم مع المطالب العلميّة لا أشعر بما حولي.
================
سمعت من زوجة السيد الشهيد العلوية التقيّة ام جعفر تقول: حينما يستغرق السيد في المطالعة أو التفكير ينسى كل شيء ، حتى طعامه ، فأراني مضطرة في أخر الأمر إلى قطع تأمله أو مطالعته ، فأقول له : لقد قرب الظهر ولا شيء عندنا ، عندها يقوم ليشتري بنفسه ما نحتاج إليه.
================
من الطرائف ما كان يذكره السيد الشهيد من أنه كان يستغرق أحيانا في التفكير بشكل مستمر طوال اليوم والليل ولا ينقطع إلا عند النوم، ثم إنه عندما كان يستيقظ يبدأ من نفس النقطة التي انتهى إليها عند النوم ، وبذلك يفسر قدرته على استيعاب جميع هذه المطالب.
================
عن عبقرية السيد الشهيد وذكائه العجيب يروي سماحة آية الله السيد كاظم الحسيني الحائري في كتابه (مباحث الاصول) المحاورة العلميّة التالية التي جرت بين السيد الشهيد وأستاذه السيد الخوئي ـ والسيد الخوئي معروف بقدرته الكبيرة على النقض ـ فقال:
(ذكر الاستاذ الشهيد أنه أورد على استاذه فيما بين الصلاة والدرس بأن الأصول العمليّة لا تجري بلحاظ الحكم الظاهري ، حيث إن التنجيز والتعذير إنما يكونان بلحاظ الواقع ولا مجال لجريان أصالة البراءة أو الاشتغال بلحاظ الحكم الظاهري لأنها إن جرت بلحاظ الحكم الظاهري على خلاف ما هي جارية بلحاظ الحكم الواقعي فلا بد من الاخذ بما جرى بلحاظ الواقع ، وإن جرت بلحاظ الحكم الظاهري بالشكل المماثل لجريانها بلحاظ الواقع فهي لغو ، إذ كان جريانها بلحاظ الواقع مغنيا عن جريانها بلحاظ الظاهر.
قال الاستاذ الشهيد : إن كلامي هذا كان وقف مبني السيد الاستاذ القائل بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة، فلا تبقى إلا أصالة البراءة والاشتغال وقد قلنا : إنّهما إنما يجريان بلحاظ الواقع.
وقال أستاذنا الشهيد إن السيد الاستاذ أجاب على الكلام بالنقض ، فأجبت على النقض ، فأتي بنقض آخر وأجبت عليه ، وهكذا إلى النقض السابع ، فأجبت عليه، وأخذ يفكر في الموضوع إلا أنه حان وقت الدرس فبدأ بالتدريس وانقطعت سلسلة البحث في هذه المسألة.
وقد نقل لي الاستاذ الشهيد تلك النقوض السبعة مع أجوبتها من دون الالتزام بالترتيب بين النقوض…)
================
حدثت مناقشة بين السيد الشهيد واستاذه السيد الخوئي في مسائل الحج فاستطاع أن يغير أكثر من عشرة فتاوى للسيد الخوئي في موضوع الحج خلال ساعة واحدة أو ما يقارب ذلك.
================
بعد أن تكرر على السيد الشهيد الطلب الكثير بطبع رسالة عمليّة ، وحصلت له قناعة بذلك فكر في أسلوب جديد لكتابة رسالته العمليّة واتفق أن كان المرحوم الشيخ محمد جواد مغنيه ضيفا عند السيد الشهيد في تلك الفترة. والشيخ مغنية كاتب إسلامي معروف بقدرته على كتابة المطالب العقّدة بأسلوب وعبارة مفهومة للجميع، وكان يعرف بكاتب الشباب ، وكتبه متداولة بينهم ومحبوبة عندهم لهذا الامتياز. فاقترح البعض أن تناط مهمة كتابة رسالة السيد الشهيد إليه.
وباشر المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية بتكليف من السيد الشهيد كتابة نماذج تجربية للمسائل الشرعية والفتاوى بما كان يعتقد أنها الصياغة المثلى التي تحقّق الغرض المطلوب، وبعد مناقشة السيد الشهيد لها تبيّن للشيخ مغنية خلاف ذلك.
وكرر الشيخ محاولاته وكان في كل مرة يواجه مشكلات، إما لان الصياغة التعبيريّة قاصرة عن إفادة الحكم الشرعي المقصود، وإما لأن الصياغات التعبيريّة لا تخلو من تعقيد ولا تحقق التبسيط المطلوب.
وبعد فشل تلك المحاولات قرر السيد الشهيد تبنّي المهمة بنفسه.
================
باشر السيد الشهيد كتابة (الفتاوى الواضحة)، وبدأ علمه فاختار عدة مواضيع فقهية كتبها بصياغات مختلفة، ومستويات متعددة، على شكل كراسات، وأمرني أن أعرض هذه النماذج التجربية على نخبة مختارة تمثل مختلف الشرائح الاجتماعيّة وخاصّة طلاب المدارس، وأن أطلب منهم التأشير على العبارات الغامضة، أو التي لا تفهم بسهولة.
ونفذنا هذه التجربة، وكررناها عدة مرات، حتى استطاع أن ينتخب الأسلوب الافضل والتعبير الاسهل والاجمل مع الاحتفاظ بمتانة المادة الفقهيّة.
ومسك اليراع الطاهر بالقلم فانطلق يكتب، فكانت ولادة (الفتاوى الواضحة) الرسالة المثاليّة التي لا زالت يتيمة زمانها.
================
للميزات التي اختصّت بها (الفتاوى الواضحة) أخذت موقعا خاصا في نفوس المؤمنين والمسلمين ، لا في الوسط الشيعي فقط، بل في الوسط السنّي أيضا. ولتأكيد هذا حققه أول: أن ا(الفتاوى الواضحة) كانت قد طبعت في القاهرة طبعة خاصة ونفدت في أسواقها بنفس السرعة التي نفدت فهيا في العراق.
================
أرسل أحد رؤساء الدول العربيّة مبعوثة الخاصّ للسيد الشهيد وكان المبعوث مصريا يحمل شهادة الدكتوراه، فأبلغ السيد الشهيد أن الرئيس(….) يطلب مساعدتكم لتقنين الأنظمة والقوانين في بلاده بما يوافق الشريعة الإسلامية وقدّم للسيد الشهيد دعوة رسمية تتضمن ذلك.
جرى حديث طويل عن هذا الموضوع كان من جملته ما يلي:
قال المبعوث :(سيدي الصدر لا ندري كيف نستطيع أن نطبّق الشريعة الإسلامية في هذا العصر الذي يعتبر معظم العقوبات الشرعيّة مخالفة لحقوق الإنسان، فمثلا الجلد والرجم والقطع وغير لذلك يعتبره العلام عملا بشعا ينافي حقوق الإنسان، وفي نفس الوقت لا يمكننا رفع اليد عن هذه الأحكام لأنها أحكام ربّانيّة، فهل هناك حلل لمعالجة هذه المشكلة المعقّدة.؟)
فأجابه السيد الشهيد:
(إن الإسلام ـ في بعض الموارد ـ يتشدد في النظرية ويتسامح في التطبيق، فقد ورد مثلا (إدرأوا الحدود بالشبهات) أي أن الإسلام يتشدد في وسائل اثبات الجريمة التي يترتب عليها الحي فمثلا يصعب إثبات الزنا على ضوء الشروط المقررّة لكيفية الشهادة عليه، وهكذا القول بالنسبة لباقي الأمور التي توجب الحد).
إني وأن كنت لا اتذكر تفاصيل هذه الجلسة وأمثالها، لأننا نحن الذين كنا نعيش في كنف السيد الشهيد لم نكن ندوّن هذه الوقائع ونؤرّخها، وهذا مما يؤسف له ، إلا أنّي أذكر أن هذا المبعوث كان ينبهر بالأجوبة التي كان يتلقّاها من السيد الشهيد.)
والشيء المثير في هذه القضية أن لهذا الرئيس روابطا قوية بالأزهر في مصر، وهو على المقاييس المذهبيّة يعدّ سنّي المذهب وكانت طبيعة الحال هذه تقتضي أن يتعين بالأزهر لا بالنجف، فما هو مبرر هذه المبادرة؟ ولماذا جاء يستعين بالسيد الشهيد دون غيره؟
لقد كفنانا هذا المبعوث الجواب، فقد قال للسيد الشهيد (لقد بحثنا هذا الأمر وبذلنا جهودا مكثفة فحصلت للسيد الرئيس قناعة كاملة بأن المفكر الإسلامي الوحيد القادر على تحمل أعباء هذه المسؤولية الخطيرة هو سماحتكم…)
================
إن رئيسا لدولة عربية مجاورة للعراق بعث برسالة شفوية، عن طريق الإمام موسى الصدر طلب فيها من السيد الشهيد أن يسعى عن طريق إرسال مبلّغين من النجف إلى دولته لتغيير البنية العقائدية لشعب تلك الدولة وكان ذلك الرئيس منبهرا بكتب السيد الشهيد وأفكاره وطريقة عرضه للفكر الإسلامي بما ينسجم مع متطلبات العصر.
================
في عام 1978 م حينما كنت برفقة السيد الشهيد في مكة المكرمة لأداء العمرة اتفق أن كنا بقرب مكتبة تقرب من المسجد الحرام وقف السيد الشهيد يتصفّح بعض كتبها فوجد كتاب (اقتصادنا) في مقدمة الكتب المعروضة للبيع فسأل صاحب المكتبة: بكم تبيع هذا الكتاب؟ فقال : بكذا ريال، ثم قال للسيد الشهيد بلهجته الحجازية: (يا حاج اشتري هذا الكتاب ، إنه كتاب زين، هذا كتاب الصدر، هذا ضد الشيوعية).
================
يقول الدكتور زكي نجيب محمود المفكر المصري الشهير على ما نقلته صحيفة (كيهان العربي) في عددها (961) نقلا عن صحيفة (الأهرام) المصريّة:
(إن إعدام مفكر ساهم في تنمية العقل العربي تثير لدينا مشاعر التقزّز والاشمئزاز، فالدول المتقدّمة تكرّم أفذاذها، أما العراق فيعدم مفكريه).
================
في عصر صائف من أيام النجف الحارة، طرق الباب رجل كبير السن وبعد ان فتحه خادم السيد الحاج عباس الذي كان يقوم ببعض الخدمات كتحضير الشاي للضيوف، أو توفير بعض احتياجات المنزل، سأل الرجل الكبير : هل هذا منزل الشيخ محّمد باقر الصدر؟ فقال له الحاج عباس: نعم.
فقال: هل يمكن أن ألتقي بسماحته الصدر؟
فقاله له: نعم، تفضّل اجلس، سوف اخبر السيد بذلك وأستأذنه لكم.
وكان السيد الشهيد لا ينام الظهيرة رغم الجو الحار الذي ينهك القوى فقد كان من عادته أن يصلّي الظهر والعصر ثم يتغدى وبعد ذلك يذهب إلى مكتبته يطالع أو يكتب حتى المساء تقريبا.
وكان هذا حاله دائما وفي كل يوم إلا في حالات استثنائية قليلة، وكان الحاج عباس يعرف ذلك، فصعد إلى غرفة المكتبة،وأخبر السيد الشهيد بأن ضيفا من مصر يطلب اللقاء بكم، فاستجاب السيد وأذن له بزيارته، وكانت هذه الزيارة هي الأولى له، ولم يكن رأي السيد الشهيد قبل ذلك.
لم يكن أحد يعرف أن الزائر هو الدكتور محمود شوقي الفنجري رغم أه كان قد بعث إلى السيد الشهيد رسائل عديدة عبر فيها عن إعجابه الشديد بمؤلفات السيد الشهيد (اقتصادنا، وفلسفتنا)، وكانت هذه الرسائل قمة في الثناء والإطراء.
صعد الدكتور الفنجري إلى الطابق الأعلى حيث تكون مكتبة السيد الشهيد، والسيد جالس في الزاوية التي اعتاد الجلوس فيها، وهنا حدثت المفاجأة، وكشف الدكتور الفنجري عمّا كان يخالج نفسه من شك في حقيقة ما يرى ، فهل الرجل الذي عرفه من خلال اقتصادنا وفلسفتنا هو هذا الرجل المتواضع البسيط الذي يعيش في مقبرة عائلية من المقابر المتعارفة في النجف؟ هل الصدر هو هذا الجالس هنا بتواضع، في مكتبة متواضعة جدا؟ كانت مشاعر من الشك والارتياب تخالج الدكتور الفنجري في حقيقة ما يرى.
فوقف عند باب الغرفة والدهشة ملأت كيانه كلّه، وأذهلته حتى عن التحية، فخاطب السيد الشهيد:
بالله عليك أنت الشيخ محمد باقر الصدر؟
فأجابه السيد الشهيد والابتسامة تعلو وجهه: نعم، تفضل، أهلا وسهلا.
الفجري: مش معقول!!
وكرر سؤاله مرّة ثانية وثالثة، ويتكرر الجواب نفسه. وأراد أن يقطع الشك باليقين فقال: أنت الشيخ الصدر مؤلف كتاب اقتصادنا وفلسفتنا؟
فقال السيد الشهيد: نعم، تفضل.
عندها دخل الدكتور الفنجري إلى المكتبة محييا السيد الشهيد بأجمل التحيات، ويرد عليه شهيدنا بأرق منها ،وقد هدأت نفسه، واطمأن قلبه وأيقن أن هذا الذي أمامه هو ذلك الصدر الذي يريد اللقاء به. وهنا قال السيد الشهيد:
جئت مدعوا لحضور مؤتمر في بغداد يعقد من قبل حكومة بغداد، وكنت في الطائرة افكر في أن استغل هذه الفرصة الوحيدة التي يمكن أن ألتقي فيها بفضيلتكم، وكنت أقول لنفسي كم يجب عليّ أن انتظر حتى أحصل على موعد خاص للقائكم، بل هل يمكن أن يتحقق ذلك؟ أما أن آتي إلى النجف وألتقي بكم بهذه البساطة وخلال عشرة دقائق، فهذا ما لم يكن يخطر ببالي.
هنا حدثه السيد الشهيد عن حياة الطلبة والعلماء في النجف الأشرف، وما تتسم به من بساطة وتواضع، وزهد في المظاهر والزخارف، وقال أنا أحد هؤلاء الطلبة، وهذه هي حياتنا.
بعد ذلك حاول الدكتور الفنجري أن يتعرف على الوضع العلمي والدراسي لشهيدنا الصدر، وفي أي جامعة من جامعات العالم تلقّي دراساته وعلومه، وكيف وصل إلى هذا المستوى العلمي الرفيع فقال:
سماحة الشيخ، أن كتبكم تعتبر آية في عمقها ودقّتها العلميّة، وفي محتواها الفكري، فقد نالت إعجابي وإعجاب عدد كبير من أصدقائي الأساتذة، ومنهم المفكّر الفرنسي روجيه غارودي الذي يرغب هو أيضا بزيارتكم، فأين تلقيتم دراساتكم؟
وفي أي جامعة من جامعات العالم؟
فقال السيد الشهيد : لم أدرس في أي جامعة من جامعات العالم التي تقصدها، لا في العراق ولا في غيره، بل لم أخرج من العراق في حياتي إلا مرّتين، مرّة إلى حجّ بيت الله الحرام، والأخرى إلى لبنان لزيارة بعض أرحامنا هناك.
الفنجري: إذن أين درستم؟
الشهيد الصدر: في المساجد، الطلبة والعلماء هنا في النجف يدرسون في المساجد.
قال الفنجري: وقد اصيب بالذهول والحيرة:
ولله، إن مساجد النجف أفضل من جامعات اوروبا كلّها، وأظنّه قال: أفضل ألف مرّة من جامعات اوروبا.
ثم قال: لقد اطلعت صديقي المفكّر الفرنسي روجيه غارودي على مضمون كتبكم، وأعطيته صورة عن أفكاركم في كتابي اقتصادنا وفلسفتنا، فنالت إعجابه، ووقع تحت تأثيرها وهو يرغب أن يلتقي بكم ويتعرّف عليكم، كما أن لديه مناقشات أو استفسارات عن بعض الافكار فيها، فهل يمكن تحديد وقت لذلك؟
فقال السيد الشهيد: كما ترى الوقت مفتوح، ومتى ما أحب أو اتيحت له الفرصة فأهلا به.
الفنجري: سوف أنقل له جوابكم.
ثم اقترح الدكتور الفنجري على السيد الشهيد أن يسعى لترجمة كتاب الاسس المنطقية للاستقراء، وقال : ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الانجليزية ترجمة دقيقة فسوف يحدث (ثورة) في اوروبا. واقترح أن يقوم بالترجمة الدكتور زكي نجيب محمود.
وطلب أيضا ترجمة كتب السيد الشهيد الأخرى، وكان يعتقد أنها لو ترجمت فسوف تأخذ مكانتها المرموقة في العالم الاوروبي الذي لا يعرف شيئا عن الفكر الإسلامي بالمستوى الموجودة في كتب السيد الشهيد.
وعلى كل حالة فقد امتدت الجلسة والدكتور الفنجري يرغب بالمزيد، وهولا يكاد يصدق أن الشهيد الصدر ـ الفكر والعبقرية والنبوغ ـ هو هذا الرجل المتواضع الزاهد.
================
بعد مضي شهر على لقاء الدكتور الفنجري بالسيد الشهيد وصلت منه رسالة يخبر فيها السيد الشهيد أنه أبلغ روجيه غارودي بكل ذلك ووعدني بأنه سيبعث لكم رسالة حول موضوع زيارته لكم، وسيكون على صلة مستمرة بكم من خلال الرسائل.
وما هي إلا أيام قلائل حتّى وصلت رسالة من روجيه غارودي أخبر فيها السيد الشهيد بأنه سيصل إلى العراق بدعوة من الحكومة العراقيّة لحضور مؤتمر سيعقد هناك، وحدد تاريخ ذلك، وقال: أود أن ألتقي بكم خلال هذا التاريخ.
كان الذي يترجم الرسائل من الفرنسيّة إلى العربية وبالعكس هو المرحوم الشيخ يوسف الفقيه وهو أحد طلاب الشهيد الصدر.
بعث السيد الشهيد برسالة جوابية رحب فهيا بقدومه، وروجيه أيضا أجاب برسالة شكر أخرى ، وتمنّى أن يتحقق اللقاء في أقرب وقت.
وجاء الموعد، بل وانتهى أيضا ولم نر المفكر الفرنسي غارودي، فهل أخلف وعده، أم أن شيئا ما قد حدث؟
بعد أيام وصلت السيد الشهيد رسالة منه تحمل في طيّاتها العجب، وتكشف عن خلق حكام البعث وخبثهم، بل تكشف عن خوفهم ورعبهم من السيد الشهيد، فقد كان مضمون رسالة غارودي كالتالي:
(وصلت في الموعد المقرر إلى بغداد، وفي قاعة الاستراحة في مطار بغداد سألني رئيس لجنة التشريفات عما إذا كنت أرغب بوضع جدول لزيارة أماكن معيّنة، فقلت: أرغب بزيارة الاستاذ محمد باقر الصدر. فتحيّر الرجل ولم يتكلّم بشيء وقد أصيب بالدهشة والذهول. بعد ذلك أبلغني مسؤول في وزارة الخارجية العراقيّة أن شخصا بهذا الاسم لا يوجد في العراق. فقلت له: هو موجود بالتأكيد في النجف الأشرف، فقد راسلته وراسلني! فقال: سوف نخصص لكم زيارة إلى النجف ونسأل هناك عن هذا الشخص. وفعلا بعد أن انتهي المؤتمر جاء بي إلى النجف للبحث عنكم، وفي كليّة الفقه أحضروا لي عددا من طلاب الكليّة وقالوا لي أسأل هؤلاء عن ذلك الشخص، فلّما سألتهم عنكم قالوا: لا يوجد في النجف شخص بهذا الاسم!!!
وهذا أثار استغرابي وحيرتي، وتساءلت في نفسي: هل ما يحدث أمامي حقيقة أم خيال؟)
وفي ختام رسالته اعتذر من السيد الشهيد عن عدم حضوره في الموعد المقرر وأعرب عن أسفه لذلك.
================
اقنع الدكتور شوقي الفنجري شهيدنا الصدر بضرورة ترجمة كتاب الأسس المنطقية للاستقراء إلى اللغة الانجليزية فتم الاتصال بالدكتور زكي نجيب محمود وعرضت عليه الفكرة طلب الدكتور زكي نجيب فرصة لمطالعة الكتاب ليقرر بعد طبيعة الرد، ولكنه بعد أن قرأ الكتاب اعتذر عن تحمل أعباء هذه المسؤولية بسبب ظروفه الصحيّة وكبر سنه، والكتاب يحتاج إلى جهد كبير لا تسمح به كل تلك الأمور، إلا أنه وعد السيد الشهيد بتكليف أحد أفضل وأذكى تلاميذه وهو أيضا يحمل شهادة الدكتوراه وكانت رسالته الجامعيّة التي منح على أساسها شهادة الدكتوراه في الاستقراء، وتعهد هو بالإشراف على الترجمة فحسب.
وتم الاتفاق مع الاستاذ الذي رشحه الدكتور زكي نجيب ـ وللأسف لا أتذكر أسمه ، واتفقا على مبلغ من المال أزاء الترجمة، وعلى الفترة الزمنيّة التي كان من المفروض أن ينجز فهيا ترجمة الكتاب.
وكان السيد الشهيد في هذه المرحلة يفكر بالطريقة التي بمكن أن يتأكد من خلالها باستيفاء الترجمة لمادة كتاب الاسس المنطقية للاستقراء، وهل تعبر عن محتواه تعبيرا دقيقا، وذلك لأنه يعلم أن مطالب كتاب الاسس المنطقية بدرجة من العمق والتعقيد بحيث لا يتسنّى فهمها إلا لأفذاذ من العلماء، فهل يتمكّن هذا الاستاذ من تحقيق ذلك، وينجز هذه المهمة الكبيرة.
إلا أن الحيرة لم تدم طويلا، قد وصلت رسالة من هذا الاستاذ اعتذر فيها عن ترجمة بقية الكتب، بعد أن ترجم ما يقرب منه مائة صفحة، وذكر في رسالته أنه بحاجة ـ قبل أن يمضي في ترجمة الكتاب ـ إلى دراسته عند السيد الشهيد لفهم واستيعاب مطالب العلميّة كي يتمكّن من ترجمة الكتاب فيما بعد.
وهكذا عجزت القاهرة بما تزخر به من علم ومعرفة عن ترجمة كتاب الاسس المنطقية للاستقراء.
================
كان أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية العراقيّة آنذاك يرغب أن يضيف إلى رصيده الكبير من الألقاب والصفات ، صفة العالم والمفكر، وكان بإمكان الكبير أن يمنح نفسه أعلى المناصب والرتب الحكومية والعسكريّة: وذلك لأن القانون في العراق ـ كما يعلم الجميع ـ بيد الرئيس يصرفه كيف يشاء، فما أيسر أنيق مادة قانونية يمنح نفسه من خلالها أكبر الرتب، أو المناصب الحكوميّة،أو العسكريّة، إن لك لا يحتاج إلى أدلّة وبراهين: لأنها أمور اعتبارية جعليّة لا قيمة لها.
أما أن يدعي أنه مفكر كبير، وعلام ضليع، فهذا ما يحتاج إلى برهان قاطع، ودليل بين، وهنا لا تستطيع (المراسيم الجمهوريّة) أو التلاعب بالقانون منح البكر ذلك. وهن حاول البكر ، وهي محاولة تدل على غباء مفرط ـ أن يستفيد من طاقات السيد الشهيد العلميّة فبعث إليه السيد على بدر الدين ليستكشف إمكانيّة ما إذا كان السيد الشهيد مستعدا لتأليف كتاب بمستوى كتبه العلميّة الرائعة ويطبع بإسم أحمد حسن البكر.
بالطبع رفض السيد الشهيد ذلك، وباءت هذه المحاولة بالفشل الذريع، فحاول مرة أخرى، ولكن هذه المرّة كان مبعوثه مدير الأمن العم فاضل البرّاك. ويعتبر إرسال فاضل البرّاك تلويحا باستعمال القوة والعنف وإن م يصرح بذلك: لان البرّاك رئيس أكبر مؤسسة إجرامية في العالم، فماذا سيكون ردّه ، لو رفضا السيد ، الشهيد الاستجابة لطلبة ـ غير القوّة والإرهاب.
قال البرّاك: إن السيد الرئيس يرغب بتأليف كتاب، إلا أن انشغاله الدائم بإدارة شؤون البلاد يحول دون ذلك، فاختاركم للقيام بهذه المهمّة على أن تبقى سرية، والسيد الرئيس مستعد لتقديم أي مبلغ من المال تطلبونه، وأضاف ـ على سبيل الإغراء ـ أنّ هذه الخطورة إن تمت فسوف تحقق لكم مقعدا خاصا عند القيادة، وتخلق صداقة وثقة تكون فوق الشبهات والاتهامات والشكوك التي تدور حولكم. إلا أن السيد الشهيد لم يستجب لطلبه ورفض كل العروض الأخرى المشابهة التي جاءت بعد هذا العرض.
================
يتجلى السمو الروحي، والترفّع عن طلب المكانة والابتعاد عن الشهرة فيما عرف عن السيد الشهيد من خلو جميع كتبه من التعابير المتعارفة الدالة على مكانته العلميّة، وكان يكتفي بكتابة اسمه فقط مجردا، ولا يسمح لأحد بإضافة أي صفة لاسمه ممّا تعارف لدي الأوساط العلميّة.
================
أتذكّر أن السيد الشهيد حينما أكمل كتابه (الفتاوى الواضحة) وأردنا إرساله إلى المطبعة كتبت على الدفتر الأوّل منها عبارة (تأليف سماحة آية الله العظمى السيد محمّد باقر الصدر) فلمّا رأى ذلك شطب عبارة (سماحة آية الله العظمى) وقال لي: (لاحاجة إلى ذلك، قدمها إلى الطبع بهذا الشكل).
================
في زيارة من زيارات فاضل البرّاك مدير الأمن العامّ للسيد الشهيد طلب وبشكل خاصّ ـ وسريـ أن يشرف سماحته على رسالته العلميّة التي كتبها وأخذ عليها شهادة الدكتوراه من جامعة روسيّة، وكان شديد الرغبة في أن يتحقق ذلك تمهيدا لطبعها.
كان الشيء الطبيعي بالنسبة لفاضل البراك أن يستعين بميشيل عفلق الذي كان حيا يباشر أعماله يومئذ في بغداد، وهو ـ حسب المدّعي ـ مفكّر الحزب، وعبقري التنظير، وقمّة المعرفة، وفاضل البرّاك أقرب إليه من السيد الشهيد الصدر، فما الذي دفع فاضل البراك إلى تجاوز (مفكر الحزب!) الذي يؤمن بأفكاره ويعتنق مبادئه، إلى الشهيد الصدر الضد العنيد، والعدو واللدود: ما لاشك فيه أن الوهج العلمي، لشخصية السيد الشهيد، وما يمتلك من خصائص ومقوّمات استثنائية في مجال المعرفة العامّة جعلت فاضل البراك وغيره يقع تحت تأثيرها هذا الوهج، ويتجاوز (مفكّر الحزب) إلى (عدو الحزب)
================
قال البراك للسيد الشهيد: (إنّنا سوف نقتلك ونبكي عليك) مشيرا بذلك إلى هذه الحقيقة. وصدق في الجزء الاول من كلمته، وكذب في الجزء الثاني منها، فقد قتلوه ولم يبكوا عليه، بل دعاهم حقدهم إلى إخفاء قبره وقبر شقيقته، ألا لعنة الله على الظالمين.
================
في الفترة التي اضطرّت فيها السلطة إلى إعطاء الحزب الشيوعي العراقي نوعا من الحريّة على أساس الاتّفاق الجبهوي بين حزب البعث والحزب الشيوعي العراقي، نشط الحزب الشيوعي في شن حملة ثقافية قويّة هدّدت كوادر وقواعد حزب البعث العميل.
واستطاعت كوادر الحزب الشيوعي أن تهدّد كيان حزب البعث الحاكم، ووقع الحزب في حرج كبير، بعد أن فشلت أدبيات الحزب وأفكاره، وعجز قائدة ومفكّره ميشيل عفلق من الوقوف بالمستوى المطلوب أمام هجمة الحزب الشيوعي الفكريّة.
لقد كان بإمكان السلطة قمع التحرك الشيوعي، بل واجتثاث الحزب نفسه عن طريق القوة، وهو ما حصل فيما بعد، إلا أن الظروف لم تكن مناسبة في تلك الفترة، وكانت الخطة تقتضي الاستمرار بالسماح للحزب الشيوعي في نشاطه الفكري والثقافي، أما بسبب ضعف السلطة ف ذلك الوقت، أو بسبب ضغط الاتحاد السوفياتي عليها.
ومن المؤكد أن السلطة فتشت كل ما عندها من أرصدة ثقافيّة وعلميّة فلم تجد كتابا يستطيع الوقوف بوجه الهجمة الشيوعيّة، فلجأت إلى كتاب (فلسفتنا)، وكان من الكتب الممنوعة في ذلك الوقت.
وكتاب (فلسفتنا) بالقدر الذي يفنّد الفكر الماركسي يفنّد الفكر الاشتراكي الذي يؤمن به حزب البعث الحاكم، فكان من غير المنطقي أن تسمح السلطة بتداول كتاب (فلسفتنا) بشكله الحالي من دون إجراء تعديلات عليه تنسجم مع طبعة متبنياتها الفكريّة. فبعثت مدير الأمن العام فاضل البرّاك ليبحث مع السيد الشهيد فكرة السماح بطبع كتاب فلسفتنا بعد إجراء تعديلات عليه. وكان السيد الشهيد يعلم بالمأزق الذي وقعت السلطة فيه، إلا أنه تجاهل ذلك أمام فاضل البرّاك، وأخبره بأنه لا يشعر بضرورة لطبع كتاب (فلسفتنا)، إلا أن فاضل البراك أصر على طبع كتبا(فلسفتنا)، مبررا ذلك بأن الفكر الإلحادي بدأ يتفشّى في العراق، ولابد من مواجهته بكل الوسائل المتاحة. وقد تحدث البراك عن أهمية هذا الموضوع، وعن اهتمام (القيادة) به.
وأحس السيد الشهيد بأن السلطة مصمّمة على تنفيذ هذه الفكرة، وسواء أقبل بذلك ام لا فإنها ماضية في عزمها. ولكن هل الأفضل أن يترك السلطة تتصرّف بالكتاب كيف تشاء، أو أن يختار بنفسه الجزء الذي سيحذف والذي لا يؤثر كثيرا على ما استهدفه كتاب (فلسفتنا) من حقائق؟
ووجد أن الخيار الثاني هو الأفضل،وعلى هذا الأساس جري الحديث مع البرّاك على المقدار الذي سيحذف من الكتاب، وأن الإشراف على طبع الكتاب يجب أن يكون للسيد الشهيد.
ووافق فاضل البراك على هذه الشروط، وطبع الكتاب في مطبعة الميناز في بغداد، وقد أمرني بالإشراف على طباعته احتياطا منه على أن لا يحذف منه إلا المقدار الذي جدّده.
وما أعتبه من ذكر هذه الحادثة هو أنّ حكّام البعث العميل بكل ما يحملونه من غرور كبرياء، ورغم أن السيد الشهيد يعتبر عدوّهم اللدود، ومع ذلك فأنهم رضخوا لحقيقة البعد العلمي العظيم، والعبقرية الفذة في شخصية السيد الشهيد فخضعوا له مرغمين، وأذلّوا أنفسهم مكرهين، ونحن نعلم أن هؤلاء الحكّام بما يحملون في أنفسهم من كبرياء وغرور، ومن تأثر بكرسيّ الحكم وقوّة السلطان يصعب علهم هذا القدر من الاعتراف بعظمة عدّو لهم يعيش في ظل سلطانهم وهو مجرّد من كل قوة مادية يمكن أن تخيفهم.
================
كان للسيد الشهيد مجلس عام يلتقي فيه بالناس والمراجعين قبل ظهر كل يوم، وفي يوم من الأيام دخل رجل وقور فسلّم على السيد الشهيد فردّ عليه السلام ورحّب به أحسن ترحيب، وبعد دقائق تكلم الضيف الجديد، فقال للسيد: اعرفكم بنفسي، أنا الدكتور عبد الفتاح عبد المقصود. فرحّب به السيد الشهيد ترحيبا أخر واسترّ به، وأثنى على كتبا له عن الإمام علي بما يستحق.
وبدأت بشائر الفرح والسرور تلوح في وجه الاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، فقد فهم من هذا الكلام أن للسيد الشهيد قد قرأ كتابه، فسأله عن رأيه بالكتاب:
فقال: كتاب رائع، ومحاولة مباركة، وأثنى عليه كثيرا، ثم قال: ولنا عليه ملاحظات، وأخذ السيد الشهيد يذكر له ملاحظات على كتابه ـ والكتاب مكوّن من عدّة أجزاء ـ والاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود يستمع بانبهار وتعجب ،ويسلّم له بكل ملاحظاته على الكتاب ووعده بإجراء التعديلات اللازمة على ضوء هذه الملاحظات في الطبعة الجديدة للكتاب.
ولشدة انبهار الاستاذ عبد الفتاح بشهيدنا الصدر، قام إليه وقبل يده تعبيرا عن تقديره للسيد الشهيد.
والغريب أن السيد الشهيد لم يكن يتوقع زيارة الاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود لكي يتهيأ لمناقشة ما في كتبه من أفكار، أو نقاط ضعف، أو يسجّل ما عنده من ملاحظات عليه، وإنما كانت زيارته مفاجأة بمعني الكلمة، والأغرب من ذلك أن مكتبة السيد الشهيد تخلو من كتاب الاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، ولم أره يوما فيها، وإذا كان قد طالعه فإن الفاصلة الزمنيّة بين مطالعته للكتاب ولقائه بمؤلّفه لا تقلّ عن عشر سنوات على أقل تقدير
ولعل الاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود قد أدرك من طبيعة مناقشة السيد الشهيد فكتابه والتي تدل على استحضار كبير لمادّة الكتاب، أن هذا ليس بإمكان كل أحد، بل هو شأن العلماء الأفذاذ، مما أثار إعجابه وانبهاره.
================
من الوقائع الخالدة في الذاكرة ما حدث للدكتور عصمت سيف الدولة، مؤسس النظرية الاشتراكية المصريّة، وهو محامي مرموق، وشخصية مصريّة كبيرة. لقد دعي الدكتور المذكور لحضر مؤتمر للمحامين العرب في بغداد، وكان أحد المحامين العراقيين من عائلة نجفيّة معروفة هم السادة آل الخرسان قد شجّع الدكتور عصمت سيف الدولة على زيارة السيد الشهيد باعتباره مفكر معروف، وكان هدفه من ذلك إثبات أن الاشتراكية بكل صبغها وأشكالها توجه معضلات فكرية كبيرة، ولا تستطيع أن تصمد أمام النقد بل ليست هي الاطروحة الصحيحة القادرة على حل مشاكل الانسان الاقتصادية، وأن النجف تملك من المفكرين ما لا نظير له في العالم، ولكن يا ترى من يستطيع أن يثبت ذلك بالوضوح الذي لايدع مجالا للنقاش، ومن يستطيع أن يدلي هذه الحقيقة كالشمس في رابعة النار لرجل يعتبر مؤسس نظرية في الاشتراكية؟
لا شك أنه الشهيد الصدر بما يحمل من عبقرية فذّة، ونبوغ فريد.
وجاء وقد كبير يضم نخبة من المحامين، كان في مقدمتهم الدكتور عصمت سيف الدولة ،وتم اللقاء الذي استمر ما يقرب من ساعتين والسيد الشهيد يجيب على كل سؤال يرد منهم بالدقة المعروفة عنه، والعمق المعهود فيه. ثم عرج الاشتراكية يقطّع أوصالها، ويهدّم أركانها حتى رأي الجميع الهزال والخواء في كل حلقاتها ومفاصلها بعد ان جرّدها من كل ما كان يسترها من شعارات برّاقة تغري الفقراء والضعفاء فيتأثرون بوهجها وبريقها.
ثم أثبت لهم أن الإسلام الشريعة الربّانية الخالدة، القادر الوحيد على إنقاذ البشرية، وتخليصها من مأزق الفقر، لو أن البشرية آمنت به، وتمسكت بعروته، وكان يقدّم الدليل بعد الدليل، والحجة بعد الحجة، والكل في حالة من الانبهار والاعجاب.
وفي هذا اللقاء لم يتمكن أحد من مواجهة سيل الأدلة التي قدّمها الشهيد الصدر لإثبات ما ادّعاه أو دحض بها الأفكار الاشتراكية التي يحملها هؤلاء ومنهم الدكتور عصمت سيف الدولة.
وانتهى هذا اللقاء، وأخذ الواحد منهم بعد الآخر يودّع السيد الشهيد، وكان آخرهم المحامي العراقي الذي أشرت إليه، فقد قبّل يد السيد الشهيد وخاطبه قائلا: (لقد بيضّت وجوهنا، بيّض الله وجهك يا سيدي).
================
في السنوات الأخيرة من عمر السيد الشهيد بدأت بمشروع لكتابة وتنظيم أجوبة السيد الشهيد على الأسئلة التي ترد عليه، سواءا في مجلسة اليومي في بيته من قبل المراجعين، أو عن طريق الرسائل التي ترسل إليه ، وكنت أسعى لكتابة أغرب وأهم تلك الأسئلة على أمل طباعتها في المستقبل.
ورغم غرابة بعض الأسئلة أو اختلافها في العمق أو البساطة فأن السيد الشهيد كان يجيب عليها بالدقة العلميّة المعروفة عنه، وبالوضوح المعهود منه، ولم أعهد السيد الشهيد تلكأ في جواب ن أو حار في رد طيلة مرافقتي له.
وكنت أعجب، بل تأخذني الدهشة وأنا أسمعه يجيب، بإسهاب وتفصيل على أسئلة لا تخطر ببال بشر دون استعداد أو تحضير.
================
لازلت أتذكر تلك الأجواء الرهيبة التي تخيّم على المرتبطين بالشهيد الصدر والمقرّبين منه، ومطاردة قوّات الإرهاب (الأمن) لهم في المساجد والمدارس والأزقّة والأماكن العامّة والخاصّة، ولا زالت أتذكّر ذلك العالم الجليل الذي التقى بي صدفة في زقاق قريب من مسجد الجواهري في النجف الأشرف عام (1975 م) تقريبا فأخذني جانبا بعد أن التت يمينا وشمالا ليطمئن إلى عدم وجود رقيب للسلطة، فقال لي: إنّك تلعب بالنار، هل تعلم إن حياتك في خطر، إنك مراقب من قبل الأمن، قلل من ذهابك إلى منزل السيد الصدر.
وهذا الرجل كان مخلصا في نصحه لي،فأنا أعرفه حق المعرفة، إلا أنه لم يكن يدرك من الأمور إلا أبعادها الماديّة فقط، فلست أجهل أخلاقيّة السلطة ونقمتها وغضبها، وكنت أعلم أن العاقبة الماديّة لهذا الطريق لا تصبّ في مصلحتي، فمن المحتمل أن اعتقل وأعدم في أي لحظة، ومع ذلك كنت أشعر أن المسؤولية الشرعيّة تحتّم عليّ أن أواصل المسيرة مهما كانت النتيجة، ومهما كان الثمن، ولأني كنت أرى الصدر يجسّد قيم على وإخلاصه، وفنائه في الله، وزهده وتقشفه وتفانيه في الإسلام، فكنت أقول لنفسي: أن التراجع خيانة، وخاصّة في هذه الظروف القاسية والعصبية.
كان هذا التفكير يطمئن قلبي ويريح مشاعري وأحس بالاطمئنان أكثر وأكثر حينما أرى السيد الشهيد يصارع تلك المحن والمصائب صراع الأنبياء لها، فكان لا يخشى ولا يخاف، وحيت توّج صراعه هذا بالعاقبة الحسنة فاختار الشهادة راضيا.
================
إن من سمات شخصية المرجع الشهيد تلك العاطفة الحارّة، والأحاسيس الصادقة، والشعور الأبويّ تجاه كل أبناء الأمة.
تراه يلتقيك بوجه طلق، تعلوه ابتسامه تشعره بحب كبير وحنان عظيم، حتى يحسب الزائر أن السيد الشهيد لا يحب غيره، وإن تحدّث معه أصغى إليه باهتمام كبير ورعاية كاملة، وإن سأله أجابه بمقدار استيعابه وتحمّله، وتحصل حالة يحس الزائر من خلالها بحبّ وعاطفة تملك قلبه.
================
كانت السمة العاطفيّة في شخصية السيد الشهيد تشكّل نقطة ضعف في نظر البعض، وكان يلام على ذلك، وينتقد ـ ومن العجيب أن ينتقد الإنسان على حسناته ـ بل استغل البعض هذه السمة ممّن أرهبهم شموخ السيد الشهيد وامتداده في الأمة، بعد أن عجزوا عن العثور على سلبيّة في شخصية أو سلوكه، فشنوا حملات كبيرة من الانتقاد والتشهير تثير العجب، وكانوا يقولون:(إن السيد الصدر عاطفي لا يصلح للمرجعيّة وقيادة الأمة)؟!
واعتقد ان هؤلاء الذين ينتقدونه على ذلك، ويعتبرون هذه السمة نقطة ضعف فيه ـ أيا كانوا ـ لا يعرفون حقيقة الشهيد الصدر، بل لا يعرفون ما يجب أن يتوفر في القائد من سمات ومقوّمات وصفات، بل لعلّهم لا يفهمون سيرة نبينا محمّد وأئمتنا مع المؤمنين والمسلين على امتداد التاريخ الإسلامي، رغم أنهم يردّدون مقاطع من تلك السيرة ويستشهدون بها في أحاديثهم وخطبهم.
================
كان السيد الشهيد يتألم حينما تبلغه الانتقادات (حول عاطفته) ، لا لأنها تمسه شخصيا، فما أكثر المواقف والانتقادات التي استهدفته فتجاهلها وكأنّها لم تكن أو كأنه لم يسمع بها لأنّها شخصيّة، بل لأنّ هذه الانتقادات كانت تصبّ في إطار تهديم الحوزة والمرجعيّة ، وهو ما كانت تستهدفه السلطة.
لقد سمعته يقول: ماذا يريد هؤلاء منّي هل يريدون أن أتعامل مع الناس بجفاء وخشونة، هل يريدون أن لا أمنحهم حبّي، إذ كيف يمكن للأبّ أن يربّي أبناءه بقلب لا يحبّهم، أليس هؤلاء هم الذين سيحملون راية الإسلام ويدافعون عن كرامة القرآن، إذا كنّا لا نسع الناس بأموالنا فلماذا لا نسعهم بأخلاقنا وقلوبنا وعواطفنا؟
================
رأيت السيد الشهيد في مواقف مع بعض أرحامه وأعز الناس عليه حينما تصرفوا تصرفا مباحا لكنه ينافي الخط الذي رسمه للمرجع والمرجعيّة، رأيته وكأنه قد مسخت عنه العاطفة ولم يعرف لها معنى. وإذا كان لا يحق لي أن أتحدث عن الآخرين فلا ضير من أن أتحدث عن نفسي فيما يتعلق بهذا الموضوع.
فمثلاً في يوم من الأيام حاولت أن اشتري جهاز تكييف من دون إذنه لأن والدته ـ حليفة الورع والتقوى ـ مصابة بمرض في جهازها التنفسي، وكان الدكتور المشرف على علاجها (وهو الدكتور ضياء العبيدي) قد أخبرني بأن حالتها ستستمر بالتدهور إلا إذا استبدل جهاز تبريد الغرفة المائي بجهاز تكييف غازي.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى السوق لأسأل عن سعر الجهاز كي استأذن السيد الشهيد في شرائه،ولم أكن أخبرته برأي الطبيب، أن علاج والدته منحصر بهذا، ولكني أخبرته بأمر ذهابي إلى السوق لغرض معرفة سعر جهاز التكييف، وهنا كانت المفاجأة، لقد غضب غضبا شديدا، وتغيّرت ملامح وجهه، وأعتقد أني لو كنت ابنه الصلبي لضربني في تلك الساعة، ثم خاطبني منفعلا بقوله:
(هل مات أحساسك؟ هل تريد أن أنعم بالهواء البارد وفي الناس من لا يملك حتّى المروحة البسيطة؟ ألم تعلم بأنيّ اريد لهذه المرجعيّة حياة البساطة والاكتفاء بأبسط مظاهر العيش بل الضروري منه؟)
فوالله العظيم لقد أذهلتني الصدمة وأنا أرى السيد الشهيد قد بلغ به الانفعال والغضب أشدّه وأنه لم يعرف للعاطفة والمحبّة محلا في قلبه.
فقلت له: لقد ذهبت بمفردي إلى السوق ولم يعلم بذلك أحد.
فقال : الناس يعلمون أنك معي وتصرّفاتك يحسب عليّ.
قلت: الطبيب نصح بذلك، ويمكنكم الاستفسار منه، ثم أخبرته بتفاصيل ما قاله الطبيب، هنا عاد إلى وضعه الطبيعي، وبدأ يخفّف ممّا أحسّه في نفسي من تأثّر، وقال:
(أنا يا ولدي اريد أن أغير هذا الواقع بقولي وفعلي، وعليك أن لا تنسى هذه الحقيقة في كل تصرّفاتك وأعمالك في المستقبل).
================
أتذكر أن السلطة الظالمة حينما شنّت حملتها القاسية عام(1974 م) لاعتقال الطلبة والمؤمنين، وانتهت بإعدام الشهداء الخمسة والحكم بالسجن المؤيّد على عدد كبير منهم ، وقد بلغ السيد الشهيد ـ قبل أن تظهر نتائج الحملة ـ أن المتعلقين يعانون من ضغوط كثيرة منها حرمانهم من الطعام مع ما يتعرضون له من تعذيب شديد ، فتألم وتأثر لذلك كثيرا، فأخذ يفكر في طريقة تساعد المؤمنين في محنتهم، وتعينهم على الصبر والصمود، فدعاني في ظهر يوم من أيام تلك المحنة إلى مكتبته، وقال لي: لقد بلغني أن المؤمنين يتعرّضون إلى مجاعة مع ما يلاقون ن تعذيب، وتحدّث عن ضرورة مساعدتهم بأيّ ثمن، وظلّ يتحدّث حتى فهمت أن لديه رغبة في أن أقوم بهذه المهمة. فقلت له: أنا مستعد لذلك إن شاء الله فقام وأتى بمبلغ في حدود أربعمائة دينار، وقال وزّع هذا المبلغ عليهم أو وفّر لهم الطعام في السجن من دون علم السلطة بمصدر المال، وفي عصر نفس اليوم ذهبت إلى سوق النجف الكبير وهناك تمّ اعتقالي مع جماعة من الطلبة وكان المتوقّع أن انقل إلى بغداد، إلا أن ذلك لم يحصل بسبب امتلاء سجون مديريّة الأمن العامّة بالمعتقلين، وبعد مضي شهر تقريبا وبعد التحقيق تم الإفراج عنّا جميعا بكفالة، وكنّا نحن سجناء مديريّة أمن النجف آخر من افرج عنهم تقريبا.
أمّا في بغداد، فإن السلطة استقرّ رأيها على إعدام الشهداء الخمسة والحكم بالحبس المؤيّد على مجموعة أخرى، واعتقدت السلطة بأن هذه الضربة ستقضي على التحرّك الإسلامي في العراق، أو تشلّه ولو لأمد من الزمن، وعلى هذا الأساس اتخذ التحقيق طابعا أخر، فتقرر أن كل من يعترف ـ ولو اعترافا صوريا ـ بانتمائه لحزب الدعوة الإسلامية يفرج عنه في نفس اليوم، فوقع تحت تأثيرها هذا الإغراء الكثير منهم وتم الإفراج عنهم.
بقد علم السيد الشهيد بذلك فتألم كثيرا، ولكن ما عساه يفعل وقد انتهى كل شيء، وكان يظن أن الإفراج عنّ كان لنفس السبب.
علم بوصولي إلى بيته، فتوقّعت منه استقبال الأب لابنه، خاصّة و أنا أعرف كريم خلقه، وصفاء قلبه، ونقاء روحه لم يكن ما كنت اظن ، فقد جاء وعلامات الانفعال والتأثر ظاهره عليه، وقال: إن كنت قد اعترفت فلا تدخل بيتي بعد اليوم، ولا تعرّض هذه المرجعيّة للخطر.
والحقيقة كانت مفاجأة كبيرة لم أكن أتوقعها، بل كانت صدمة هدّت كياني، وكدت اسقط أرضا من وقعها، إذ لم أعلم بما جرى في مديريّة الأمن العامّة في بغداد، ولم أعلم بقصّة الاعترافات.
أكدّت له بأنّي ومعظم الأخوة الذين كانوا معي في المعتقل لم نعترف بشيء وتحمّلنا في سبيل الله حتّى اللحظة الأخيرة ألوان التعذيب، وشرحت له مسار التحقيق بأكمله، عندها تفتّحت أساريره، وطفح السرور على وجهه وقال لي: يا ولدي،غن اعترافك يختلف عن اعتراف الآخرين، إنّ السلطة تعرف موقعك منّي، واعترافك يحسب عليّ، ويجب علينا أن نحمي المرجعيّة ولا نعرّضها للخطر.
وكان يسعى للابتعاد بالمرجعيّة عن الاطر الحزبيّة التي كانت السلطة جادّة في تثبيتها على مرجعيّة، وإلصاقها بها تمهيدا للقضاء عليها.
================
في فترة الاحتجاز قدّم مدير أمن النجف المجرم(أبو سعد) عدّة اعترافات خطيّة للسيد الشهيد وقال له : هذه الأدلّة التي تثبت أن منزلك وكرا لحزب الدعوة، وأنّ بعض أصحابك من أعضائه، وهذه الوثاق تكفي وحدها لإعدامك.
================
رأيت السيد الشهيد حينما صدر حكم الإعدام على الشهداء الخمسة في عام (1974 م) إذ تأثّر غاية التأثر،كان الحزن يخيّم عليه، وكان الأسى يملأ قلبه، لا يقرّ له قرار، ولا يهدأ له حال وكأنه قد ثكل بأعز ولده، وأصيب بما يشبه الشلل، دخلت عليه في يوم من أيام حادثة إعدام الشهداء الخمسة في حدود الساعة الثالثة بعد الظهر فوجدته يبكي والدموع تجري وكأنه فقد أعز عزيز عليه،فقلت له: سيدي إذا كنت أنت تفعل هكذا فماذا يجب أن أفعل أنا وأمثالي؟
كفكف دموعه ثم قال لي:
(والله لو أن البعثيين خيّروني بين إعدام أولادي الخمسة وبين هؤلاء لاخترت إعدام أولادي وضحيّت بهم، إن الإسلام بحاجة إلى هؤلاء لا إلى أولادي).
================
لقد رأيت السيد الشهيد خلال فترة الاحتجاز يضحّي بسعادة عائلته وأولاده من أجل الإسلام، كان كل شيء في البيت يدعو السيد الشهيد إلى فكّ الحجز حيث والدته المريضة طريحة الفراش تشكو بأنينها مصاعب المرض وحرمانها الدواء، وبدأ الجوع آثاره على وجوه أولاده الصغار في تلك الفترة من الاحتجاز، والجو الكئيب الملتف بالإرهاب قتل الابتسامة في وجوههم، وقد طالت المدّة وتمادت، ومع ذلك أبى قبول أبسط شروط السلطة لفكّ الحجز، وقدّم مصلحة الإسلام والمرجعيّة على مصلحته الخاصّة، وسترى تفاصيل ذلك فيما بعد.
================
المرحوم الشيخ عارف البصري كان من كبار علماء بغداد، وفي مركز من أهمّ مراكزها وهو الكرّادة، وكان محورا كبيرا، تغلغل في قلوب الناس وأعماقهم، وكان من المتوقع أن يؤدي دورا كبيرا في بعث حركة الوعي الإسلامي في بغداد.
وقد لا يصدّق البعض إذا قلت: إن صلة المرحوم الشيخ عارف البصري بالسيد الشهيد كانت ضعيفة جدا، فلم يتفق أن زار السيد الشهيد ولا مرة واحدة طيلة المدّة التي قضيتها مع السيد الشهيد، ولم يكن من وكلائه أو المحسوبين عليه، ومع ذلك فإن القيم التي يتعامل على أساسها شهيدنا العظيم مع الأشخاص والمواقف أسمى بكثير من الاعتبارات الذاتيّة والملاكات الشخصيّة ذات الاتجاه العاطفي الأناني، فهو يبكي على الشيخ عارف لا على أساس صلته الشخصيّة به، على أساس صلته بالإسلام ودوره في مسيرة الجهاد نحو خدمة الرسالة.
================
كنت خلال فترة الاحتجاز أخبر السيد الشهيد بإعدام أشخاص من المؤمنين ـ وكان لا يعرفهم ـ فكن يبكي ويقول: (بأبي أنتم وأمي أيّها السعداء جزاكم الله عن الإسلام، وعن أبيكم، هنيئا لكم، لقد سبقتموني إلى لقاء الله).
================
حينما بلغ السيد الشهيد نبأ إعدام الشهيد آية الله السيد قاسم شبّر، السيد المبرقع، وعشرات آخرين من العلماء والمؤمنين، قبض على شيبته الكريمة ورفع رأسه إلى السماء وقال:
(إلهي بحق أجدادي الطاهرين، ألحقني بهم سريعا، واجمع بيني وبينهم في جنّاتك).
================
حدّثني السيد الشهيد في فترة الحجزـ وكنت أتحدث معه عن إمكانية الفرار وإنقاذه من أيدي الظالمين ـ بأنه مصمّم على الشهادة ـ وذكر الأسباب ـ وقال:
(حتّى لو أن السلطة فكّت الحجز عنّي فسوف أبقى جليس داري؟ فليس منطقيّا أن أدعو الناس إلى مواجهة السلطة حتّى لو كلّفهم ذلك حياتهم، ثم لا أكون أوّلهم سبقا إلى الشهادة في الوقت الذي يستشهد فيه الشاب اليافع والشيخ الكبير من أمثال الشهيد المرحوم السيد قاسم شبّر الذي جاوز من عمره).
================
في فترة الحجز كانت قوات الأمن تطوّق منزل السيد الشهيد تطويقا تامّا وكأنهم ذئاب يتربّصون فريسة لينقضّوا عليها، فكانت هذه العاطفة تمتدّ حتّى إلى هؤلاء. ففي ظهر أحد أيام الاحتجاز كن نائما في غرفة المكتبة فاستيقظت على صوت السيد الشهيد وهو يقول:
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وظننت أن حدثا مّا قد وقع، فسألته هل حدث شيء؟ فقال: كلا، بل كنت أنظر إلى هؤلاء ـ ويقصد قوات الأمن ـ من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة فرأيتهم عطاشى ينصبّ العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار.
فقلت : سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوّقون منزلتكم، ويعتقلون المؤمنين الأطهار من محبّيكم وأنصاركم، هؤلاء هم الذين روّعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال ممّن هم في أعمارهم؟
فقال: ولدي، صحيح ما تقول: ولكن يجب أن نعطف حتّى على هؤلاء، إن هؤلاء إنما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم تتوفّر لهم الأجواء المناسبة للتربية الإيمانية، كم من أمثال هؤلاء شملهم الله تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين).
ثم نزل إلى الطابق الأرضي وأيقظ خادمه الحاج عباس وأمره أن يسقيهم الماء.
وشهد الله، لم أتمالك نفسي وأنا أراه يرقّ حتّى لهؤلاء، وتذكّرت جدّه الحسين يوم سقى الحرّ بن يزيد الرياحي وعسكره في طريق كربلاء، ويوم جلس يبكي في نهار عاشوراء وهو ينظر إلى الألوف المؤلّفة، فيسأل ممّ بكاؤك يا بن رسول الله فيجيبهم بأن بكائي لهؤلاء الذين سيدخلون النار بسببي.
فما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبهك بأجدادك الطاهرين يا أبا جعفر، فلقد أحييت بمواقفك مواقف أجدادك الطاهرين وجعلتنا نعيشها حيّة ماثلة في شخصك، فسلام عليك حيّا وميتا.
================
أتذكّر أنّ أحدهم وكان (ضابط أمن) وكان يرأس هذه القوت بعث رسالة شفهيّة إلى السيد الشهيد قال فيها:(سيدي لا تتنازل لهؤلاء الجبناء ـ يقصد حكّام البعث ـ إنّهم يرتجفون خوفا منك، إنّ حذاءك أشرف منهم جميعا…).
================
في فترة حجز السيد الشهيد قسّمت السلطة البعثيّة المجرمة القوت الخاصّة بمراقبة منزل السيد الشهيد إلى مجموعات ثلاثة تتناوب في مراقبتها للمنزل، وكانت كل مجموعة مكلفة بالمراقبة مدّة ثماني ساعات، وكان يرأس كل مجموعة ضابط من قوات الأمن يتحمّل مسؤولية الإشراف المباشر على عملية الاحتجاز، وكان الضابط المتعاطف مع السيد الشهيد يباشر عمله في فترة ما بعد الظهر وحتّى المساء تقريبا. ولمّا سمحت السلطة ـ بسبب الضغوط الجماهيريّة عليها ـ لعائلة السيد الشهيد بالخروج من البيت لقضاء بعض حوائجهم الضروريّة كان أحد أفراد الأمن يلاحق من يخرج من البيت من اللحظات الاولى وحتى العودة، وكانت الشهيدة بنت الهدى أكثرهم تحرّكا ، فكانت تخرج في كلّ يوم تقريبا وفي ساعة محدّدة بتكليف من السيد الشهيد، وكانت هذه المراقبة تشكّل حرجا كبيرا لها ، ولن ما كان ذلك يثني الشهيدة بنت الهدى بطلة المهمّات الصعبة ورسولة السيد الشهيد في كلّ ما يعجز عنه الرجل، فقد أخبرته أمامي بأنها مستعدة لتنفيذ أي مهمّة، أو أداء أي دور يأمر به السيد الشهيد ولو كلّفها ذلك حياتها.
ولم يكن له من خيار إلا القبول بهذا العرض التضحوي، فقد كان بحاجة إلى معرفة الكثير من المعلومات والأمور، ودراسة الأوضاع وما يجري على الساحة بدقّة تامّة، والشهيدة هي أفضل من يتحمّل مسؤولية ذلك.
وبدأت بتنفيذ مسؤوليتها الصعبة، فقد اتّفقت مع الأخت الصالحة أمّ فرقان أن تلتقي بها في كل يوم تقريبا في حرم الإمام علي، فكانت تخرج من البيت عصرا في ساعة معيّنة فيتبعها أحد أفراد الأمن على حسب عادته أداء لمهمة المراقبة الموكولة إليه، فتدخل الحرم الشريف، ويبقى رجل الأمن ينتظرها عند (الكشوان) الذي أودعت حذاءها عنده وهو يظن أن الشهيدة داخل الحرم الشريف، وحينئذ تتمكّن الشهيدة مع الأخت أم فرقان من الخروج من إحدى الأبواب الأخرى للحرم مستفيدة من حذاء آخر كانت قد وفّرته لها صاحبتها، وبعد أن تكمل مهمّتها تعود إلى الحرم، وتخرج من الباب الأوّل الذي يقف عنده رجل الأمن منتظرا خروج الشهيدة، وهو يعتقد أنها لم تخرج من الحرم خلال تلك المدّة، واستمر الوضع على هذا الشكل لفترة لا بأس بها.
كان ذلك الضابط قد رصد الساعة التي تخرج فيها الشهيدة في كل يوم، فكان قبل موعد خروجها يستدعي قوات الأمن المحيطة بمنزل السيد الشهيد إلى زقاق قريب منه بحجّة توجيههم أو إبلاغهم ببعض المعلومات والأوامر بحيث يخلو الزقاق منهم، وحينئذ تتمكّن الشهيدة من الخروج والذهاب حيث تشاء من دون مراقبة أو مضايقة، ثم يكرر نفس العملية تقريبا قبل عودتها ، وهكذا كان يفعل في أغلب الأحيان في خطرة تعاطف مع السيد الشهيد.
وكان السيد الشهيد مسرورا لذلك، وكان يقول:
(إن الحجز نعمة كبيرة، لقد جعل هؤلاء وأمثالهم يتعاونون معنا ونحن في هذه الظروف.
وشاء الله عز وجل أن يكرم هذا الرجل بالشهادة مع عدد من قوات الأمن الذين كانوا معه، فقد عثرت السلطة على منشورات ضدّها كان يكتبها بالآلة الطابعة العائدة إلى مديرية أمن النجف ويوزعها في أهمّ مراكز السلطة التي كان من المستحيل أن تصل إليها المجاهدين.
ولمّا بلغ السيد الشهيد خبر إعدامهم قال لي:
(انظر، كيف اهتدى هؤلاء، يجب أن تسع قلوبنا حتّى هؤلاء).
================
قد وصلتنا رسالة بواسطة الحاج عباس خادم السيد الشهيد كانت تتضمن بيان عواطف ومشاعر وتألّم على ما يجري على السيد الشهيد من محن ومصائب، كتبت بعبارات خليطة من الكلمات الفصحى والعامية، وكان أهم ما فيها أن الموقعين فيها عاهدوا السيد الشهيد على اغتيال قوات الأمن المحاصرين لمنزله، وحددوا يوما وساعة معينين، وضمّنوا الرسالة مبلغا بسيطا من المال هدية للسيد الشهيد واعتذروا من قلّته.
قرأت الرسالة، ثم اطلعت السيد الشهيد علها، وأخبرته بأن بعض هؤلاء غير معروفين بالتديّن، ومن المحتمل أن تكون هذه العملية مدبّرة من قبل السلطة لمعرفة ما إذا كان لنا اتصال أو تعاون مع جهات أو أشخاص خارج البيت، فقال فلننتظر الموعد الذي حدّدوه في رسالتهم فمن خلال ذلك يتبيّن الحال.
ترقّبنا الأحداث حتّى حان الوقت المعيّن حيث كنا ننتظر ما يحدث، فإذا بمجموعة من الشباب الملثّمين يهجمون على قوات الأمن وينهالون عليهم طعنا بالسكاكين بعد أن حاصروهم من طرفي الزقاق، وكان السيد الشهيد ينظر إليهم من خلال فتحة صغيرة في النافذة.
بعد هذه العملية شدّدت السلطة من إجراءاتها الأمنيّة، وزوّدت رجالها بالرشاشات والقنابل، وأجهزة اللاسلكي، ومنعوا الناس لفترة طويلة من المرور خلال الزقاق خوفا من علمية مشابهة.
علّق على هذا الحادث فقال:
(لو قدّر للحجز أن يفك عنّا، وتعود الأمور إلى طبيعتها، فسوف أصرف قسما كبيرا من الحقوق الشرعيّة على تربية هؤلاء، إنّهم يملكون الشجاعة التي نحتاجها في مسيرتنا الجهاديّة،هؤلاء أفضل عند الله من الذين تخلوا عنّا، أو الذين اتهمونا ببعض التهم، ونحن نعاني ما نعاني في الحجز).
================
في تلك الفترة العصيبة (فترة الحجز) والسيد الشهيد يعيش تلك المشاكل الكبيرة، ويتحمّلها بروح الصابرين المؤمنين يبعث أحدهم إليه برسالة مضمونها كما يلي:
(إننا نعلم أن الحجز مسرحية دبّرها لك البعثيون، وأنت تمثّل دور البطل فيها، والغرض منها إعطاؤك حجما كبيرا في أوساط الأمة، إنّنا نعلم إنّك عميل لأمريكا، ولن تنفعك هذه المسرحية)!؟
لقد رأيت السيد الشهيد قابضا على لحيته الكريمة وقد سالت دمعة ساخنة من عينه وهو يقول:
(لقد شابت هذه من أجل الإسلام، أفؤتّهم بالعمالة لأمريكا وأنا في هذا الموقع؟!!.
================
من المواقف الرائعة التي لازال لها وقع في نفسي قصّة ذلك الشاب الذي فجع في لحظة واحدة بجميع أهله بحادث سيارة.
كان هذا الشاب في غاية التأثر، يكاد قلبه يتقطّع من هول المصيبة التي حلّت به، يبكي بالانقطاع بزفرات تبكي الصخر الأصم، ولا يستطيع أحد وهو يرى هذه الحالة إلا أن يواسيه بدمعة حارة، سألني صديقه عن إمكانيّة اللقاء بالسيد الشهيد في هذه الساعة من الليل، فوجدت أن من المناسب أن يواسي هذا الشاب المصاب، وكنت أظن أن أحدا لا يستطيع أن يخفّف من هول الصدمة التي يعاني منها، وكنت أحسب أنّه سوف يخرج بنفس الحالة التي جاء بها.
جاء السيد الشهيد فأجلس الشاب المفجوع إلى جانبه، وبدأ بعاطفته الحارّة، وبكلماته الرقيقة يخفف عليه من معاناته ويهوّن عليه من مصيبته، ولما أن تمكّن من قلبه بدأ يشرح له حقيقة الموت، وأنه بداية الطريق إلى حياة أسعد وأجمل من حياتنا هذه، وقرأ له بعض الآيات والروايات، ثم قال له: إذا كنت قد فقدت أباك فأنا أبوك، وإن كنت فقدت إخوتك فهذا ولدي جعفرا أخوك ـ كان جعفر واقفا عند الباب ـ بل جميع هؤلاء إخوتك.
كان هذا الشاب يصغي للسيد الشهيد وقد أخذت هذه الكلمات الموشّحة بأرقّ العواطف والمشاعر مأخذا من قلبه، وبدأت ابتسامة ترتسم على وجهه، فأحس ثم أمر بإحضار العشاء، وأظن أنه اشترك معنا، وبعد ذلك خرج الشاب وقد اطمأنت روحه وسكنت نفسه، وكأنه لم ينكب بمصيبة كبيرة.
================
لما توفي المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي بحادث سيارة في إيران تأثر تأثرا بالغا، وكان في تلك الفترة مشغولا بتأليف كتابه (دروس في علم الاصول) فأهدى ثواب كتابه إليه، وحسب علمي لم أر أستاذا وهو بهذه المكانة والمنزلة قد فعل مثل ذلك، فكتب في مقدمة الحلقة الاولى ما يلي:
( يا إلهي وربّي، يا عالما بضري وفاقتي، يا موضع أملي ومنتهى رغبتي، أي رب وتقرّبا إليك بذلت هذا الجهد المتواضع في كتابة الحلقات الثلاث، لتكون عونا للسائرين في طريق دراسة شريعتك، والمتفقّهين في دينك، فأن وسعته برحمتك وقبولك ـ وأنت الذي وسعت رحمتك كل شيء ـ فإني أتوسل إليك يا خير من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، أن توصل ثواب ذلك هدية منّي إلى ولدي البار وابني العزيز السيد عبد الغني الأردبيلي الذي فجعت به وأنا على وشك الانتهاء من كتابة هذه الحلقات، فلقد كان له الدور البليغ في حثّي على كتابتها وإخراجها في أسرع وقت، وكانت نفسه الكبيرة وشبابه الطاهر الذي لم يعرف مللا ولا كللا في خدمة الله والحق، الطاقة التي أمدتني ـ وأنا في شبه شيخوخة متهدمّة الجوانب ـ بالعزيمة على أن أنجز دل هذه الحلقات في شهرين من الزمن ،وكان يحثّني باستمرار على الإسراع، لكي يدشّن تدريسها في حوزته الفتية التي أنشأها بنفسه وغذّاها من روحه من مواطن آبائه الكرام، وخطط لكي تكون حوزة نموذجية في دراستها وكل جوانبها الخلقية والروحيّة.
ولكنّك يا ربّ دعوته فجأة إليك فاستجاب طائعا، ووالله ما عرفته خلال العشرين عاما التي تتلمذ علي وترعرع إلى جانبي إلا سريعا إلى إجابتك، نشطا في طاعتك، لا يتردد ولا يلين، ولا يتلكأ ووالله ما رأيته طيلة هذه المدّة غضب لنفسه، وما أثر ما رأيته يغضب لك، وينسى ذاته من أجلك…
أي رب، إنّي إذا كنت قد عجزت عن مكافأة هذا الولد البار، الذي كان بالنسبة لي وبالنسبة إلى أبيه معا مثالا للولد المخلص الذي لا يتردد في الطاعة والتضحية والفداء، وإذا كنت قد فجعتنا به وأنا في قمة الاعتزاز به وبما تجسّدت فيه من عناصر النبل والشهامة والوفاء والإيثار، وما تكاملت فيه من خصال التقوى والفضل والإيمان.
وإذا كان القدر الذي لا راد له قد أطفأ أملي في أن أمتدّ بعد وفاتي، وأعيش في قلوب بارّة كقلبه، وفي حياة نابضة بالخير كحياته فإني أتوسل إليك يا ربيّ بعد حمدك في كل يسر وعسر أن تتلقّاه بعظيم لطفكن وتحشره مع الصدّيقين من عبادك الصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وأن لا تحرمه من قربي ولا تحرمني من رؤيته بعد وفاته ووفاتي بعد أن حرمت من ذلك في حياته، وأرجو أن لا يكون انتظاري طويا للاجتماع به في مستقر رحمتك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين).
================
يعلم الله أنه ما رأيت السيد الشهيد لبس عباءة يزيد سعرها عن خمسة دنانير في الوقت الذي كانت تصله أرقى أنواع الملابس والأقمشة ممن يحبّونه ويودّونه.
================
كان السيد الشهيد قد أمرني بالاحتفاظ بجميع الهدايا من الأقمشة وغيرها لتوزيعها على الطلبة فيما بعد، وكان إذا حضر في مجلسة العامّ المنعقد قبل ظهر كل يوم لاحظ أوضاع الطلبة الحاضرين، فإن رأى أن ملابس أحدهم غير لائقة ومناسبة لشأن طالب العلم يأمرني بإيصال قطعة قماش له مع أجرة خياطتها.
================
في يوم من الأيام، و بعد جريمة إعدام الشهداء الخمسة ، أصيب السيد الشهيد بخدر شديد في رجله أعجزه عن الحركة عدّة أيام، فلما أراد الاستحمام طلب منّي مساعدته، فلما دخل الحمام رأيت ما نسمّيه بـ(الفانيلة) وفيها أكثر من مزق، فقلت له: سيدي هذه (الفانيلة) ممزّقة، فهل أشتري لكن غيرها؟ فقال: كلا، هذه لا يرها أحد. ولقد رأيته مرارا يصلح ملابسه بنفسه.
================
في يوم من الأيام دخل على السيد الشهيد خادمه الوفي (محمّد علي المحقّق) في وقت لم يتوقّع دخول أحد عليه، وكان جالسا في مكتبته فوجده يأكل خبزا يابسا وبيده قدحا من الماء، ولم يكن يتوقّع صعود الأخ محقّق في تلك الساعة، فخجل خجلا شديدا، وأدار وجهه إلى الحائط وهو لا يدري ما يفعل.
================
حدّثني الأخ محقّق أنه سمع السيد الشهيد يخاطب خادمة كانت عندهم تعرف بأم صالح بقوله:(إذا بعثتي بوجبة الغداء لآغاي محقّق، فابعثي معه الخبز الحار، واتركي لنا الخبز البارد).
================
سمعت السيد الشهيد يقول:
(يجب علي وأنا في هذا الموقع ـ يعني المرجعيّة ـ أن أكون ـ في مستوى العيش ـ بمستوى الطلبة الاعتيادي).
وكان كذلك، فإن ما في بيته بمستوى ذلك إن لم يكن أدنى.
فمحتويات منزله عبارة عن غرفة الاستقبال وفيها سجّادة لا أعلم هل أهديت له أم قد اشتراها لأنها قديمة، وعلى يسار غرفة الاستقبال غرفة أخرى مفروشة هي مقبرة آل المامقاني ليس للسيد الشهيد فيها قليل أو كثير.
وإذا صعدت إلى المكتبة وجدتها مفروشة بقطعتين مما نسميّه بـ(البسطة) وهي جزء من صداق والدة السيد الشهيد.
وفي داخل ـ مسكن العائلة ـ توجد غرفة هي للنوم وللضيوف ولجلسة العائلة الاعتياديّة لا تحتوي إلا على أبسط المفروشات.
و توجد غرفة فوقها خاصّة بالسيد الشهيد مفروشة بما نسميّه بـ(الكنبار) مع منادر النوم، وهذه الغرفة أقرت إلى المخزن من غرفة الاستراحة والنوم.
================
أتذكر أن السيد الشهيد فوجئ يوما بعدد من الضيوف، واقتضت الظروف بقاءهم لما بعد الظهر، فكان لابد من تقديم الغداء لهم، ورغم أن عددهم كان لا يزيد على خمسة عشرة شخصا، فلم يكن ما في البيت من لوازم يكفي لهذا العدد، وأحس بذلك أحد أصدقاء السيد الشهيد، وكان صدفة في ذلك الوقت في البيت فذهب إلى السوق واشترى ما كان يلزم من صحون وملاعق.
================
كانت زوجة السيد الشهيد الطاهرة تكتب في كل يوم ورقة صغيرة باحتياجات البيت وتسلّمها (لآغاي المحقق) ليوفرها لهم، وهي الاحتياجات البسيطة المتعارفة، فأمرني بالإشراف على تلك الورقة خشية أن يكون فيها من الطلبات أكثر من المألوف ، بل كان في بعض الأحيان بشرف عليها بنفسه، وسمعته يقول: لا أرضة بشراء الفواكه مهما كان المبررّ، حتّى لو كان ذلك من أجل الضيوف، ويجب أن ننتظر إلى الوقت الذي يتمكن جميع الناس من شرائها.
================
أتذكر أني كنت في السوق وكان معي ولد السيد الشهيد السيد جعفر وكان طفلا، فرأى الموز بلونه الأصفر الجميل يباع في السوق فأحبّ أن يأكل منه فاشتريت له كيلو غرام واحد من مالي الخاص، فأكل منه وأعطي لأخته الصغيرة أيضا وانتهى كل شيء، وحسبت أن الامر قد انتهى، ولكن بعد ساعة من ذلك جاء السيد الشهيد يلومني على ما فعلت عندما لاحظ قشور الموز في سطل النفايات فعرف الأمر، ثم دعا ولده ينصحه بكلمات جميلة ورقيقة أحفظ منها هذه العبارة:
(ولدي إنّ موز الجنّة أطيب وألذ من هذا الموز).
================
استشهد السيد الشهيد وهو لا يملك وسيلة للنقل (السيارة) وكان أحد الأخيار قد أوصى بسيارته (التويوتا) للسيد الشهيد ولما استلمها أمر ببيعها ليضيف قيمتها إلى أموال الرواتب والمساعدات، في قوت كان بأمس الحاجة إلى وسيلة للتنقّل، فمن ناحية كان يواجه حرجا من أخلاق بعض السواق وتصرفاتهم، ومن للتنقل، فمن ناحية أخرى كانت الأوضاع الأمنية تتطلّب ذلك، ورغم إلحاحنا عليه بعدم بيعها، إلا أنّه أصرّ على ذلك، وظلّ إلى آخر يوم من حياته مكتفيا في تنقّله بسيارات الاجرة أو سيارات الأصدقاء.
================
لقد شهدت عدّة عروض قدّمت للسيد الشهيد لشراء دار له من أموال خاصّة وليست حقوقا شرعيّة،ومن ذلك عرض تقدّم به تاجر من أهل البصرة، وكان محبا للسيد الشهيد فقد علم بأن دارا تقع إلى جانب منزل السيد الشهيد معروضة للبيع فحاول شراءها وأخبره بأن مال الشراء مال شخصي وليس حقوقا شرعيّة، فرفض السيد الشهيد قبول هذا العرض وقال له:
(إذا اشتريت هذه الدار فإني سوف اوقفها لسكن الطلاب ولن أسكنها أبدا).
فقال المتبرّع: أريدها دارا خاصّة لكم.
فقال السيد الشهيد:
(أنا لن أمتلك دارا حتّى يتمكّن كلّ طلبة من شراء دور لهم، وحينئذ سأكون آخر من يشتري.
================
أتذكر حينما كنت أساعد السيد الشهيد في فرز المال وتقسيمه في آخر كل شهرن كان بعض أطفاله ـ وهن صغار ـ يحضرون معنا تلك الجلسات فيرون أكوام المال فيتعجبون، فكان يترك العمل ويتحدث معهم فيقول:
(أبنائي، هذا المال ليس لي، هذه أموال صاحب الزمان(عجّل الله فرجه)، هذه أموال المسلمين أمانة بيدي… أولادي، المال ليس مهما، وهذه الدنيا لا قيمة لها،إنّنا نريد الآخرة والآخرة خير لنا وأبقى).
ويتحدث معهم بأمثال هذه العبائر والمفاهيم.
================
في فترة الحجز جمع السيد الشهيد (رضوان الله عليه) كل ما بحوزته من أموال، سواء كانت من الحقوق الشرعيّة أو من أمواله الخاصّ، وبعثها إلى سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي ولم يبق إلا القليل.
وأتذكر أني حينها قلت له :(نحن لا ندري متى سيستمر الحجز، فماذا سنفعل لو نفد هذا المال).
(أحب أن ألقى الله تعالى وأنا كذلك، لا شيء في ذمّتي، أمّا رزقنا فإن الله يكفينا وهو وليّنا، أنا لا اريد ان تقع هذه الأموال بيد السلطة بعد استشهادي، وإن شاء الله لنا السلامة فسوف أصرفها في مواردها الشرعيّة).
================
كان الإمام الراحل سماحة آية الله العظمى السيد الخميني قد بعث بمبلغ مائة ألف دينار للسيد الشهيد وهو في الحجز فأمر أيضا بتسليمها لسماحة السيد الهاشمي، ورفض أن تبقى عنده تحرجا من المسؤولية الشرعيّة.
================
في الشهر الأوّل من الحجز منعت السلطة الظالمة دخول المواد الغذائية إلى منزل السيد الشهيد، وقطعت الماء والكهرباء والهاتف في محاولة لقتل جميع من في البيت، وكان وضعا محرجا، لقد كنت في خدمة السيد الشهيد جالسا في مكتبته وكانت آثار الجوع بادية عليه، والشحوب يغطي وجهه، وكان يتحدّث معي فمرّت من أمامنا طفلة من أطفاله فرق لها قلبه، وسالت دمعة من عينه، وقال :
(سيقتلون هؤلاء بسببي، ليتهم يحجزوني وحدي ويطلقون هؤلاء).
================
في فترة الحجز ، نفد كل ما كان موجودا من طعام، وبدأنا نعاني معاناة لا يعلمها إلا الله، ولم تبق إلا قطع قليلة من الخبز اليابس والتالف، فكانت عائلة السيد الشهيد تهيّئه لنا كطعام شعبي من الأطعمة المعروفة في العراق، فكان يأكل منه وهو يقول:
(إن ألذّ طعام ذقته في حياتي هو هذا، لأنه في سبيل الله عز وجل).
================
في الوقت الذي كانت فيه العروض تتوالى من هذا وذاك لشراء دار للشهيد السعيد، كان يرفض ذلك، ويسعى لشراء مقبرة له ولطلابه، ففي السنوات الأخيرة من عمره الشريف بدأ بالبحث عن قطعة أرض قريبة من الصحن الشريف خالية من كل شبهة ليجعلها مقبرة، وقد كلّف الأخ حجّة الإسلام السيد المحمود الخطيب بالبحث عن المكان المناسب لهذا الغرض.
وكان أمله أن يدفن مع طلابه في مكان واحد، وقد قال مرارا: إنه سيجعلها خاصّة به وللذكور من ذريّته ولطلابه. وكان قد جمع مقدارا من المال لهذا الغرض، ولولا أحداث رجب، وما تبعها من احتجازه لنفّذ هذا الأمر.
================
كان السيد الشهيد لا يصلّي، ولا يدعو، ولا يمارس أمثال هذه العبادات إلا إذا حصل له توجّه وانقطاع كامل، وكان متكتّما على أمره هذا، ومتخفيّا في عبادته، ولا يعرف أقرب الناس منه شيئا عن هذا الأمر.
================
طلب عدد كبير من العلماء والمؤمنين من السيد الشهيد الصلاة بهم إماما في الحسينيّة الشوشتريّة، وكان بعض أهل الرأي، ومنهم المرحوم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين يرون ضرورة هذا العمل لأنه يشكّل حصانة للسيد الشهيد من بطش السلطة واعتدائها، ويجعل وجوده الديني والاجتماعي أمرا واقعيا يصعب تحدّيه.
وبعد أن عرضت الفكرة عليه رفضت قبولها، ولم أكن أعرف السبب الحقيقي للرفض، وكن أظن أن هذا العلم سيكون من الأعمال الإضافية التي تحمل عليه لتضاف إلى جدول أعماله اليومي الكبير، خاصّة أن صلاة الجماعة تتطلب التزاما يوميّا مستمرا.
وفيما بعد أصر عليه خاله المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين، وألح عليه كثيرا، فاضطر إلى الاستجابة، فصلّة بالناس إماما صلاتي الظهر والعصر في الحسينيّة الشوشتريّة.
================
حدث أن جاء ضيف ذو شأن كبير من لبنان، وكان وصوله بعد أذان الظهر بقليل، وكان السيد الشهيد جالسا على مصلاه، فأخبرته بوصول ـ فلان ـ فأمرني باصطحابه إلى الغرفة، وقام فجلس في الزاوية التي أعتاد الجلوس فيها من الغرفة متهيئا لاستقبال ضيفه.
وبعد دقائق صعدت إلى الغرفة مع الضيف وإذا بي أرى السيد الشهيد قد وقف يصلي وهو في حالة من الانقطاع والخشوع العجيبين وكأنه لم يكن على موعد مع أحد.
================
كنت أتربّص الفرص لاصلّي خلفه جماعة في البيت، فكان في أحيان كثيرة تجلس في مصلاه فكنت أجلس خلفه، وقد دخل وقت الصلاة، بل قد يمضي على دخول وقتها أكثر من نصف ساعة والسيد الشهيد جالس مطرق برأسه يفكّر، ثم فجأة ينهض فيؤدي الصلاة.
هذه الأمور وغيرها دفعتني في يوم من الأيام للاستفسار منه عن سبب هذه الظاهرة، فقال:
(إنّي آليت على نفسي منذ الصغر أن لا اصلّي إلا بحضور قلب وانقطاع، فأضطر في بعض الأحيان إلى الانتظار حتّى أتمكن من طرد الأفكار التي في ذهني، حتّى تحصل لي حالة الصفاء والانقطاع، وعندها أقوم للصلاة).
================
لقد سمعت السيد الشهيد خلال فترة الحجز ـ ولم أسمعه قبل ذلك ـ يقرأ القرآن في أيام وليالي شهر رمضان بصوت حزين وشجي، ودموع جاريّة، يخشع القلب لسماعه، وتسمو النفس لألحانه، وهو في حالة عجيبة من الانقطاع والذوبان مع معاني القرآن، إنّه مشهد عجيب يعجز القلم عن وصفه، وما فيه من معنويات كبيرة.
================
من المشاهد الخالدة في ذاكرتي ما حدث في سفرنا لأداء العمرة قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقليل، فقد كان يذهب إلى المسجد الحرام يصلّي الظهر والعصر، ثم يعود إلى الفندق لتناول وجبة الزحام الغداء، ثم يعود مرّة أخرى في حدود الساعة الثانية ظهرا إلى المسجد حيث يقل الزحام بسبب شدة الحر وكانت أرض المسجد الحرام مغطّاة بالمرمر الطبيعي ـ وهو غير المرمر الموجود حاليا ـ فكان لا يتمن أحد من شدّة الحر من الطواف في تلك الفترة، فكان يذهب ف يذلك الوقت إلى المسجد حافي القدمين، وكنت أطوف معه، فوالله ما تمكّنت من إكمال شوط واحد، حتّى قطعت طوافي وذهبت مسرعا إلى الظل، فقد شعرت أن باطن قدمي قد التهب من شدّة الحرّ، وما طفت في تلك الساعة إلا منتعلا. فكنت أعجب من حال السيد الشهيد وهو يطوف ويصلّي، وكأنّه في الجو الطبيعي الملائم، فسألته يوما بعد عودتنا من المسجد الحرام عن هذه القدرة العجيبة من التحمّل، فقال:
ما دمت في المسجد الحرام لا أشعر بالحرارة، نعم بعد أن أعود إلى الفندق أحس بألم في قدمي).
ولم يكن ذلك إلا بسبب انقطاعه وتوجّهه إلى الله تعالى، وإلا فإنّه كان يتضايق من الحرّ في الظروف الطبيعيّة.
================
ذهبت مع السيد الشهيد في المدينة المنوّرة إلى البقيع لزيارة الأئمة الأطهار، فدخل من الباب حافي القدمين بخشوع وخضوع، فاقترب من قبور أجداده الأطهار وبدأ بزيارتهم وكأنّهم أمامه يراهم ويرونه، والدموع تنهمر من عينيه دون انقطاع، وقد حلّق إلى عالم آخر في مشهد فريد من الولاء والحب لأهل البيت.
================
دخل السيد الشهيد إلى حرم الإمام علي (عليه السلام) لزيارته، وكان أمامه أحد خدّام الحرم الشريف، ولم يكن يعلم بوجود السيد الشهيد، ولما بدأ بالزيارة فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين، التفت الخادم مذهولا إلى السيد الشهيد وقال له : ادخل يا سيدي فوالله لقد سمعت الإمام يقول: ادخل يا ولدي، ولم أكن أعلم بوجودك هنا.
================
جاء من أهل القرنة في محافظة البصرة، وكان معروفا بحبّه وولائه لأهل البيت ويشهد الجميع بصدقه، فحدث السيد الشهيد بهذه الكرامة، فقال: أصبت بمرض في بطني، وبعد إجراء الفحوصات في مدينة الطب في بغداد قرّر الأطباء إجراء عملية جراحيّة لي، قال: فأصبت بالخوف والرعب، فتوسلت بالإمام موسى بن جعفر الذي كنت أرى قبّته الشريفة من نافذة غرفتي في مدينة الطب أن يعينني في محنتي.
وفي الليلة نفسها رأيت في عالم الإمام موسى بن جعفر فتوسّلت به إلى الله من أجل شفائي فقال لي: اذهب إلى السيد محمّد باقر الصدر، فهو الذي يعالجك.
قال: فجئت إلى مكان آخر فوجدتك فيه، وأخبرتك بقول الإمام فكشفت عن بطني وأخرجت حصاة أو غدّة ـ والترديد منّي ـ ثمّ مسحت عليها، ثم قلت لي: قد شفيت من علّتك.
استيقظت من النوم سليما معافى من كل علّة، وقد استغرب الأطباء وتعجّبوا ممّا حدث.
وكان يحمل معه بعض الصور (الشعاعيّة) والتحاليل التي أجريت له قبل أن يرى رؤيته والتي كانت تثبت صحّة كلامه.
================
في عقيدتي أنّ أهمّ تلك الكرامات (كرامات السيد الشهيد) ما كنت أحسّه منه، ففي الأمور الصعبة والحرجة والتي يصعب على العقل أن يستنتج أو يقرّر أرى الشهيد الصدر وفي لحظة واحدة يعطي الموقف الصحيح والمناسب وقد قال لي:
(إنّ حالة من الوضوح تحصل لي في مثل هذه الموارد).
================
كان السيّد الشهيد ينهج أسلوب الشورى في أموره الهامّة، فكان يجمع أهل الرأي والخبرة ممن يثق بهم ، ثم يطرح عليهم ما هو المهم من الأمور، وكان لا يخالف الأكثرية حتّى ولو كان رأيهم يغاير قناعاته الخاصّة، وأتذكر أنّه في السنوات الأخيرة من عمره الشريف ـ تقريبا دعا من يثق إلى اجتماع من هذا القبيل وعرض عليهم فكرة دعم إحدى المرجعيات التي سمّاها لهم بكلّ ما يملك من طاقات.
والحقيقة لم تكن في الفترة مبرّرات واضحة لهذا الدعم الكبير، لذا كان موقف الأكثرية سلبيا من هذه الفكرة وكانت قناعة السيد الشهيد إيجابيّة منها فلم يسعه مخالفتهم … ثم سألته في وقت آخر عن هذه القضية وعن سبب ذلك، فقال:
(إني أرى صحة موقفي كما أراك، إنّ لديّ وضوحا كالشمس يدعوني إلى دعم تلك المرجعيّة).
ومرّت الأيام، وشاء الله أن يتألّق نجم تلك المرجعيّة في سماء الإسلام ، عندها قال لي: (هل أيقنت بصحّة رؤيتي؟).
================
من المكرمات التي لا أشك فيها ما حصل للسيد الشهيد قبل الاعتقال الأول الذي تعرّض له، فقد كان مصابا بمرض ضغط الدم، وفي تلك اليوم الأسود وقبل اعتقاله بساعة تقريبا أخرج علبة أو كيس الأقراص فابتلع عدة أقراص وهو لا يشعر. وكان هذا يشكّل خطورة حقيقة على حياته، فنقل إلى المستشفى مغشيا عليه، وبعد نقله إلى المستشفى اقتحم جلاوزة المجرم ناظم كزار ـ مدير الأمن العام في تلك الفترة ـ البيت لاعتقاله، ثم علموا بتدهور حالته الصحيّة، فذهبوا إلى المستشفى للقبض عليه، وكادوا أن يفعلوا لولا أن الأطباء منعوهم من ذلك بسبب حالته الصحيّة الحرجة، وكان هذا سبب نجطلب أحد اجتماعا خاصا بالسيد الشهيد، وفي هذا اللقاء طلب مساعدة ماليّة ليتمكّن من إجراء عملية جراحيّة لزوجته، وكان وضعها حرجا من هذه الناحية.
كان الوضع المالي للسيد الشهيد في تلك الفترة يعاني ضيقا وشدّة، ومع ذلك أخرج مائة دينار وسلّمها إيّاه، واعتذر من قلّته. أخذها الرجل حامدا شاكرا، وكان هذا المبلغ في ذلك الحين مبلغا لا باس به.
تحدث هذا الرجل في مجلس من مجالس النجف عن كرم السيد الشهيد وأريحيته، وذكر قصّته معه، فتحفّزا أحد الحاضرين ـ طمعا في المال لا لحاجته إليه ـ ليكرّر ما يشبه تلك القصّة فجاء يطلب المال لحاجة ذكرها، واعتذر السيد الشهيد بعدم توفر المال لديه، وأوعده أنه متى ما توفّر يحقّق له ما يريد.
ظن هذا الرجل أن هذا الاعتذار تبرير لحرمانه ومنعه من العطاء، وليس عذرا واقعيّا فانهال على السيد الشهيد يكيل التهم والشتائم، فقال له: إنكم تصرفون الحقوق الشرعيّة لشراء الذهب لنسائكم وبناتكم، تبنون القصور، وتشترون السيارات، قبل يومين جاء فلان فأعطيته مائة دينار، وأنا اليوم أطلب منكم فلا تعطيني.
أمّا السيد الشهيد فظل صامتا يستمع إيه وحاول تهدئته بما يمكن لن لم تجد معه تلك المحاولات.
كنت قد قرّرت وأنا أسمع إلى وقاحته أن ألقنه درسا فقد تملّكني الغضب والانفعال. وكان السيد الشهيد قد لمح ذلك في وجهي.
فلّما أراد الخروج خرجت معه إلى باب المكتبة، فأمرني بالجلوس، وظلّ ساكتا سمع صوت غلق الباب المنزل حيث تأكّد من خروجه، هنا قال لي:
(ماذا كنت ستفعل؟ فأخبرته بما كنت عزمت عليه).
فقال: لا بأس عليك، إنّني أسمع أكثر وأقسى ممّا سمعت، ويجب عليك أن ترتفع بأخلاقك وصبرك إلى مستوى المسؤولية، فإنّي بالرغم مما سمعت من هذا الرجل من تهم وشتائم ، فإني لا أحمل عليه حقدا ولا كرها لأنه لو أطلع على أوضاعي لما صدر منه ما صدر، وسوف يأتي اليوم الذي يندم فيه، ويصلح خطأه).
وشاء الله ـ عز وجل ـ أن يأتي هذا اليوم ، وجاء الرجل يعتذر يقبّل يد السيد الشهيد ورجله، وعندها ذكّرني بما نصحني به وقال: هكذا يجب أن نتعامل مع الناس.
================
بلغ السيد الشهيد أن أحد أبناء المراجع قال لمدير أمن النجف: (ماذا تنتظرون بالصدر، هل تريدونه خمينيّا ثانيا في العراق لماذا لا تعدمونه….) فقال لمّا بلغه ذلك: (غفر الله لك يا فلان، إن قتلوني اليوم، قتلوكم غدا..). ولم يزد على ذلك شيئا.
================
كان السيد الشهيد قد أطلعني مع بعض الأخوة الأعزاء على أمر هام يتعلق بمستقبل العمل الإسلامي في العراق ، و منشأ الأمنية نابع من الظروف الأمنية القاسية ، فحدث أن ظهرت بعض خيوط هذا الأمر في مدينة النعمانية بين أصدقاء لي هناك ، منهم المرحوم الشهيد الحاج نعيم النعماني ، و هو أحد الكوادر القيادية لحزب الدعوة الإسلامية.
علم السيد الشهيد بذلك، فكان مفاجأة قوية لهن إذ كيف يتسرّب ذلك من دائرة محدودة جدا.
ومن العجيب أن كل الظروف كانت ضدّي، وكل الدلائل كانت تشير إليّ، فقد صادف أن زارني المرحوم الحاج نعيم بعد يوم واحد من اطلاعي على ذلك الامر ، ثم إن الامر انتشر في مدينة النعمانيّة بواسطة الحاج نعيم، فكان من المنطقي أن أكون موردا للظن القوي…فدعاني لجلسة خاصة فقال لي: ولدي، إنّي أثق بك ثقة تامة ومن الطبيعي أن تشتبه أو تخطأن ولو حدث هذا فإنّه لن يغيّر من موقعك في نفسي، إنّ الأمر الخاصّ الذي اطلعتك عليه انتشر في النعمانيّة، فهل أخبرت به أحدا؟
أكّدت له بأنّي لم اخبر أحد على الإطلاق، ويمكن التأكّد من ذلك ممّن أفشى الخبر هناك.
بعث أحد الأخوة إلى مدينة النعمانيّة ليبحث عن رأس الخيط، ويحقّق في الأمر فعرف أن الخبر أفشاه وأحس المرحوم الحاج نعيم بأن الشبهة ستدور حولي،فجاء في اليوم التالي إلى النجف، وأخبر السيد الشهيد بأن المصدر كان (…..) وهو أخذه من (….) وأنّ ـ كاتب هذه السطور ـ لا علاقة له بذلك.
وأحسّ السيد الشهيد بحالتي النفسيّة، وما أعاني من انكسار،خاصّة بعد أن علمت بأنه بعث إلى النعمانيّة من يحقّق في هذا الأمر، إنّ خسارة ثقة السيد الشهيد ليس أمرا هينا بالنسبة لي.
كان لقاء الحاج نعيم بالسيد الشهيد قبل الظهر بقليل، وكان من عادتي أن أستضيفه إذا جاء إلى النجف، ويعد أن أدّينا الصلاة وكنّا على وشك إحضار الغداء، وإذا بالسيد الشهيد يطرق الباب والابتسامة تعلو وجهه، وروح الأبوة وريحها تطفح منه فقال:
جئت أتغدّى معكما لأني قدّرت أن الحاج نعيم سيتغدّى هنا) ثم قال لي :(أنت كولدي جعفر، فلا تضجر منّي).
يا الله ما هذا الخلق العظيم، الروح السامية وإنّك حقا (لعلى خلق عظيم).الحاج نعيم، ولم يكن يعلم بأهميّته وخطورته.
================
في الفترة التي عيّنت حكومة البعث الغاشم ستّة أيام لتسفير الإيرانيين بما فيهم طلاب الحوزة العلميّة من النجف إلى إيران، رأيت أحد طلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف مودّعا لأستاذنا الشهيد، فرأيت الاستاذ يبكى في حالة وادعه إيّاه بكاء الثكلى، رغم أنه كان يعرف أن هذا الرجل يعد في صفوف المناوئين له).
================
حدثت للمرجعيّة أزمة كبيرة، ووقع للسيد الحكيم ما يشبه الحصار، فلا داخل عليه ولا خارج، حتّى من أقرب المقرّبين إليه خوفا من بطش السلطة وغضبها.
وهنا كان السيد الشهيد موقفه التضحوي الخالد، فقد كسر الحصار وكان أوّل داخل على السيد الحكيم، وكانت أوّل زيارة حلت بعد فترة من زمن الحصار، وكان السيد الشهيد يعلم خطورة ما قام به، فالسلطة البعثيّة لا تؤمن بأي منطق إلا منطق القوّة، وكان يعلم أنه يعرض حياته لخطر كبير لكّنه لم ينثن أبدا، وحقّق ما كان يشعر أنّه تكليف شرعي.
================
سافر السيد الشهيد إلى لبنان ليقود حملة إعلاميّة مكثّفة دفاعا عن المرجعيّة، ومن هناك كتب رسالة إلى سماحة السيد محمد باقر الحكيم، تحدث فيها عما قام به من نشاطات إعلاميّة قال فيها:
(أكتب إليكم هذه السطور بعد أسبوعين كاملين من دخول لبنان، وأود أن أعطيك صورة عن الموقف في حدود رؤيتي له، وأشعر بأنّ وجود صورة لك عن الموقف شيء مفيد على خط العمل.
لا أدري كيف اصف الحديث، أتصور أني أبدا بما تم من عمل ثم أتحدث لك عن الموقف بشكل عامّ،ثم عن المشاكل والمكاسب.
أمّا ما تمّ من عمل فهو كالتالي:
أولا: خطاب استنكار وقّع عليه حوالي أربعين عالما.
ثانيا: ملصقة جداريه ألصقت في كثير من المواضع في بيروت تطالب بإنقاذ النجف.
ثالثا: برقيات طيّرها أبو صدري ـ السيد موسى الصدر ـ إلى جميع رؤساء وملوك الدول العربيّة والإسلاميّة باسم المجلس الشيعي الأعلى يشرح لهم فيها المأساة، ويستنجد بهم، وقد جاءه الجواب حتّى الآن من جمال عبد الناصر وفيصل والأرياني الرئيس اليمني.
الشارع الشيعي في بيروت مكهرب بالقضية، وكذلك الإنسان الشيعي في لبنان بشكل عام، بالرغم من نشاطات البعثيين … والسفارة العراقيّة في بياناتها المتعاقبة حول الموضوع تكشف عن شعورها بعمق المشكلة، وعن اضطرارها إلى شيء من المداورة واصطناع أساليب المجادلة)
================
في صباح اليوم الذي قرّر الإمام الراحل سماحة آية الله العظمى السيد الخميني مغادرة العراق إلى الكويت، قرّر السيد الشهيد الذهاب إلى بيت الإمام لتوديعه، بالرغم من الرقابة المكثّفة التي فرضتها سلطات الأمن المجرمة على منزله.
وفي الصباح ذهب السيد الشهيد إلى منزل السيد الإمام، ولكن للأسف كان الإمام قد غادر قل ذلك الوقت بقليل، ومع ذلك جلس في المنزل ليعبّر عن تأييده وتعاطفه مع السيد الإمام لمن بقي بعد الإمام في بيته.
================
أخبرني السيد الشهيد أنّه أثناء التحقيق الذي جرى معه في اعتقال رجب سئل عن أهداف هذه الزيارة، وقال هل مدير الأمن العام: إنّها تمثّل في رأي السلطة مظهرا من مظاهر التنسيق والتعاون، وإلا فلماذا لم يبادر باقي المراجع والعلماء لزيارته أو توديعه؟
قال : (كنت قد صممّت على الشهادة، ولم يكن يخطر ببالي أن أعود حيّا إلى النجف الأشرف، فقلت له: فسّروها بما شيءتم،لقد ذهبت لتوديعه جهرا لا سرّا.
فأغضب ذلك مدير الأمن، إذ لم يكن يتوقّع منّي هذا الجواب، وكان يتصور أن أعتذر من ذلك).
================
في اعتقاله الذي تعرّض له في انتفاضة (17) رجب عام(1979 م) كان الأخ المجاهد حجة الإسلام والمسلمين الشيخ طالب السنجري ـ حفظه الله ـ قد بقى في تلك الليلة في منزل السيد الشهيد متبرّعا بحمايته والدفاع عنه في حال تعرّضه لما كنّا نخشى وقوعه، وفي الصباح حينما جاء مدير أمن النجف لاعتقال السيد الشهيد أصر سماحة الشيخ السنجري على مرافقة السيد الشهيد، والذهاب معه إلى مديرية الأمن العامّة، رغم علمه بأن الاعتقال هذا ليس بهدف التحقيق، وإنما للإعدام، ورغم منع قوات الأمن له، فقد ألقى بنفسه في داخل السيارة التي كانت تحمل السيد الشهيد، وذهب معه إلى مديرية الأمن العامّة.
وفي بغداد أظهرت السلطة كل ما عندها من حقد وغضب عليه، فنال أقسى أنواع التعذيب، وكان توقّع السيد الشهيد أن ينال سماحة الشيخ السنجري الشهادة في ذلك اليوم.
وبعد الإفراج عن السيد الشهيد على إثر التظاهرة التي خرجت في النجف، اعتذر مدير الأمن العامّ من السيد الشهيد، وأبلغه أنّ (القيادة) لا تعتبر ما جرى اعتقالا، بل زيارة!! وإذا كان قد حدث شيء من الإزعاج فإن مدير أمن النجف يتحمّل مسؤوليّة ذلك لأنّه أساء فهم طلبنا منه بإحظاركم إلى بغداد.
وكان قد حدّثني:
(أن السلطة كانت قد قررت إعدامي هذه المرّة، وكانت كل الظواهر تدل على ذلك).
وعلى كلّ حال، رفض السيد الشهيد العودة إلى النجف إلا بعد الإفراج عن مرافقه الشيخ السنجري ـ حفظه الله ـ وحاول مدير الأمن العام ثني السيد الشهيد عن طلبه ولكن دون جدوى، وأخيرا اضطر مدير الأمن إلى إطلاق سراحه وعاد مع السيد الشهيد إلى النجف، وقد قال لي:
(كنت مصمّما على البقاء في مديرية الأمن مدي الحياة إذا لم تفرج السلطة عن مرافقي).
================
بعد اغتيال الشهيد المطهري على أيدي القوى المضادّة للثورة الإسلامية، وأحد منظري إيران الفكريين، لذا كان الواجب تكريم هذه الشخصية الكبيرة.
وثانيا: كان موقف بعض المرجعيات من انتصار الثورة الإسلامية وإقامة حكومة إسلامية في إيران موقفا يتسم بالضعف والخوف، فقد أحجم الجميع عن القيام بأي عمل تكريم لهذه الشخصية الكبيرة، وكان مجلس الفاتحة اليتيم هو المجلس الذي أقامه الشهيد الصدر، بينما كانت بعض المرجعيات في تلك الفترة تقيم مجالس الفاتحة والعزاء لم كان يعتبر في مستواه العلمي والاجتماعي بمنزلة تلميذ من تلاميذ الشيخ المطهري، بل كانت ـ بعض الجهات ـ تتسابق لإقامة مثل هذه الأعمال الاجتماعيّة ، وكان يعتبر ذلك نوعا من فرض الوجود العلمي على الميدان، والساحة الاجتماعية لهذه المرجعيّة أو تلك، بينما كان السيد الشهيد قد نأي بنفسه عن تلك المظاهر والأعراف.
أحجم الجميع عن إقامة مجلس الفاتحة على روح الشهيد المطهري، وهذه حقيقة بعرفها الجميع، ومن المؤكد لو أن المطهري كان قد توفي في زمن الشاه المقبور لاُقيم له أكثر من مجلس، أما في زمن الإمام الخميني وفي ذل الثورة الإسلاميّة في إيران فلا يجرأ على ذلك إلا الشهيد الصدر لأن هذا المجلس لا يحقّق هدفا اجتماعيا أو مصلحة ذاتية، كما هو الحال في الظروف الطبيعيّة، بل قد يسبب مشاكل لا حدّ لها مع السلطة.
وأقام مجلسا حاشدا في جامع الطوسي في النجف الأشرف، ليعبّر م خلاله عن وقوفه ودعمه للثورة الإسلامية في إيران وتحشّدت قوات السلطة تراقب المجلس بدقة، وتلتقط الصور الفوتوغرافية لكل داخل وخارج لأنّها تعلم أن هذا المجلس يختلف عن غيره في الهدف والقصد، ولذا كان هذا المجلس من (أدلّة الإدانة) التي وجهت للسيد الشهيد في اعتقال رجب.
================
من مواقف الفداء والتضحية ما حدث خلال فترة الحجز، وهو في أشد ظروف المحنة، وأقسى أيام الحصار فقد أجاب السيد الشهيد على كل البرقيات التي كانت قد أرسلت له من قبل بعض العلماء والقيادات الدينيّة والسياسيّة في جمهوريّة إيران الإسلامية، ومنها برقية الإمام السيد الخميني، وهي وإن كانت لم تصله إلا أنه استمع لها من الإذاعة العربيّة في طهران، وقد أجاب عليها من خلال اتصال هاتفي من إيران وأذيع من خلال المذياع ونص الجواب كما يلي:
(سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيد الخميني.
استمعت إلى برقيتكم التي عبّرتم بها عن تفقدكم الأبوي لي، وإنّي إذ لا يتاح لي الجواب على البرقية لأني مودع في زاوية البيت ولا يمكن أن أرى أحدا أو يراني أحد لا يسعني إلا أن أسأل المولى(سبحانه وتعالى) أن يديم ظلّكم منارا للإسلام، ويحفظ الدين الحنيف بمرجعيّتكم القائدة، أسأله تعالى أن يتقبل منا العناء في سبيه، ان يوفقنا للحفاظ على عقيدة الأمة الإسلامية العظيمة، وليس لحياة أي إنسان قيمة إلا بقدر ما يعطي لامّته من وجوده وحياته وفكره، وقد أعطيتم للمسلمين من وجودكم وحياتكم وفكركم ما سيظل به على مدى التاريخ مثلا عظيما لكل المجاهدين.
محمد باقر الصدر.)
================
سأل أحد المؤمنين أحد المراجع الكبار عن جواز أو حرمة الانتماء إلى حزب البعث الحاكم في العراق، فأفتاه بالجواز، وكان ذلك المرجع خائفا من أن يكون السائل من جواسيس السلطة، أو أنه يخشى من انعكاس ذلك على السلطة لو أفتى بالحرمة، مما يسبب له أضرارا شخصيّة، وإلا فنحن نعلم أن هذا المرجع يحرّم في الواقع الانتماء لحزب البعث العميل. وكان تعليق السيد الشهيد على هذه القضية وغيرها أن الوضع إذا اسمر هكذا فأن الأجيال التي سوف تأتي سترى الانتماء إلى حزب البعث أمرا طبيعيا لا حرج فيه، ولهذا السبب تصدّي إلى الافتاء بحرمة الانتماء لحزب البعث، حتى لو كان الانتماء صوريا، وأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، فكان هو المرجع الوحيد الذي أفتى بذلك وحزب البعث في أوج قوّته، وكان ذلك جزءا من العلّة وأحد الأسباب التي أدت إلى استشهاده.
================
أتذكر أن أحد العلماء جاء إلى بيت السيد الشهيد، وكان يتكلّم بانفعال وعصبيّته ويحاسب السيد الشهيد على تصديّه للمرجعيّة، وطبعه للفتاوى الواضحة، وقد سجل نتائج تلك المحادثات من خلال رسالة بعثها إلى أحد تلامذته
================
أتذكر أن رجلا من المناطق الجنوبية في العراق جاء إلى النجف لزيارة أمير المؤمنين، فحدّث السيد الشهيد بما جرى له ، فقال: كنت لا أعرف أين يقع منزلكم، وكانت رغبتي شديدة أن أزوركم وألتقي بكم، فوقفت في الصحن الشريف أنتظر من يدلّني، فمرّ بقربي أحد (المعمّمين)، فسألته عن منزلكم فقال لي: إن منزل السيد الصدر مطوّق من قبل سلطان الأمن، وسوف تعتقل حال وصولك. ثم سال آخر وآخر فكان الجواب واحدا، إلا أن أحد الطلبة الشباب دلّني على منزلكم، وأخبرني بأن الأمور طبيعية، وقال لي: لا تخف، وأتى بي إلى هنا، وأنا الآن أرى الأمور طبيعيّة، فلماذا يفعل هؤلاء هكذا. وكان في حيرة شديدة لا يعرف كيف يفسّر تلك الظاهرة!
================
أفرزت الحملة النفسيّة بتفاصيلها الواسعة حالة من تطويق شديد للشهيد الصدر، فكان مجلسه اليومي محدودا بعدد من الطلبة الشباب لا يتجاوزون عدد الأصابع، وكان بحثه كذلك وكانت صورة قاتمة ترتسم في الأذهان عن المستقبل إن استمر الوضع على هذا الشكل، بل أستطيع أن أجزم بأن مرجعيّة السيد الشهيد كانت على وشك الانهيار التامّ، أو لا أقل الانزواء الكامل، حتّى أنّه اضطرّ إلى ترك التدريس فترة من الزمن، وكان على وشكّ أن يغلق باب داره.
وتصدّي الراشدون الأبرار من الطلبة للعمل من أجل الدفاع عن هذه المرجعيّة، وحماية كيانها، وانضمت إليهم الطلائع الواعية من المؤمنين في صفوف متحدّة متراصة وجنود متواصلة، ورغم الأخطار التي كان من المحتمل أن يتعرّضوا لها، كان في طليعة هؤلاء سماح العلامّة حجة الاسلام الشيخ أديب حيدر فقد لعب دورا كبيرا في مجال إحباط مخطط الحرب النفسيّة وتمكن السيد الشهيد أن يشق الطريق بثبات وعزم، فامتدّ إلى أعماق الأمة فاضطرت السلطة فيما بعد ـ رضوخا لسياسة الأمر الواقع ـ إلى الاعتراف بمرجعيّة، والتعامل معه تعامل الند للند، وكانت الخطورة الاولى في هذا المجال زيارة زيد حيدر عضو ما يسمي بالقيادة القومية لحزب البعث.
================
جاء زيد حيدر وهو لا يحمل مطلبا معيّنا ولا اقتراحا خاصّا، وقد ظل ساكتا طيلة مدّة الزيارة مستمعا فقط للسيد الشهيد وهو يتحدّث، وقد قال السيد الشهيد في جملة ما قال: جاء في الحديث (إذ رأيتم الحكّام على أبواب العلماء، فقولوا نعم الحكّام ونعم العلماء، وإذا رأيتم العلماء على أبواب الحكّام، فقولوا بئس العلماء وبئس الحكّام)…. ثم قال: إن العلماء هم المؤشر الحقيقي الذي يعكس بأمانة مطالب الشعب و رغباته، إن المواطن لا يتحرّج من البوح بما في نفسه أمام العالم، بينما لا يفعل ذلك أمام الدولة، فإذا أردتم معرفة مطالب الشعب الحقيقة ورغباته المشروعيّة، فعليكم بمراجعة العلماء والاستفسار منهم.
ثم تحدث عن دور العلماء في لبنان أثناء الاستعمار الفرنسي لها، ودورهم الكبير في تحريض الشعب على الاستقلال، ودور الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في تلك الأحداث.
وطال الحديث، وكانت الزيارة في المجلس العامّ وبحضور عدد من الطلبة والعلماء. لقد نقل فيما بعد أن زيد حيدر اعترف أمام قيادته في بغداد بأن السيد الصدر مفكّر عربي من طراز فريد، وأنه يستطيع تدوين قوانين دولة في مدّة يسيرة من الزمن. وعلى كل حال فقد انتشر خبر زيارة زيد حيدر للسيد الشهيد والسلطة، وبدأ سوط الرعب الذي يحرّكونه متى أرادوا هزيلا لا يقوى على إخافة أحد، فكثر تردد الناس، وعادت الأمور بالتدريج إلى حالتها الطبيعيّة.
================
لاجل تقديم خدمات إضافية إلى الطلبة وتوفير الوقت لهم وتهيئة الجوّ الدراسي المناسب قرّر السيد الشهيد توفير وجبات الطعام للطلبة، وبدأ هذا المشروع بطلاب المدرسة الشبّريّة كخطوة اولى ، وكان من المقرّر أن تعمّم على باقي المدارس، كما أمر بتوفير أجهزة غسل الملابس الكهربائية للمدارس كخطوة أخرى للغرض نفسه.
وبالإضافة إلى ذلك اهتمّ بتهيئة الكادر الكفوء من الأساتذة، وأمر بعض تلامذته بتدريس أيّ مادّة علميّة حتّى لو كانت أقل بكثير من مستواهم العلمي، بل كان يهتمّ شخصيّا بمراجعة بعض الطلبة له بخصوص تحصيل أساتذة لهم.
ورغم العمر القصير لهذا المشروع فقد بدأت ثماره تنمو بسرعة كبيرة، فلقد تمّ بناء لبنات الجيل الجديد من العلماء، وكان نعم الجيل مباركا طيّبا.
================
فكّر السيد الشهيد بإعداد كتب دراسيّة تكفل للطالب تلك الخصائص، فكتب معظم مواد حلقات (دروس في علم الاصول) في مدّة شهرين، كما ذكر هو ذلك في مقدّمة الحلقة الاولى، وبيّن في مقدّمة الكتاب أسباب تأليف الكتاب والضرورات التي دعت إلى كتابته.
وقد استطاعت حلقات (دروس في علم الاصول) أن تحقّق هدفها في اختزال الوقت مع مراعاة جانب تلقي المطالب العلميّة الذي يقتضي التدريج في الطرح وبيان المسائل، مع احتفاظها بالمستوى العلمي الرفيع حيث تضمّنت أحدث النظريات العلمية في علم الاصول، ولا زالت تشق طريقها في الحوزات والمعاهد العلميّة الدينيّة، وكان أول طالب ـ على ما أذكر ـ درس كتاب دروس في علم الاصول هو الشهيد الشيخ محمد البشيري نجل سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ حسين البشري.
================
كان السيد الشهيد قد أعد العدة لكتابة (دروس في علم الفقه) على نفس منهجيّة (دروس في علم الاصول) من التدرّج في تعميق المادّة العلميّة من مرحلة الفتوى وحتى مرحلة الاستدلال المعمّق،فقد وضع مخطط وهيكلية الكتاب إلا أنّ يد الإجرام عاجلته قبل أن ينجز هذا المشروع العلمي الفريد.
================
أتذكر أن أحدهم وكان يسكن مدينة الثورة أجبر المصلّين في أحد المساجد على تشكيل وفد برئاسته ليطلبوا له وكالة من السيد الشهيد، فلمّا حضر الوفد طلب الشيخ من السيد الشهيد توكيله، وقال: هؤلاء أهل المنطقة يرغبون بذلك.
وهنا توجّه السيد الشهيد السؤال إليهم بقوله: هل ترغبون بتوكيل الشيخ؟ فقالوا: كلا، فغضب الشيخ غضبا شديدا لأنّه يعلم أن عدم منحه وكالة من قبل السيد الشهيد يعني إنهاء وجوده الديني والاجتماعي وكان بعض أعضاء الوفد قد أخبر السيد الشهيد قبل ذلك بأن هذا (الشيخ) أجبرهم على تشكيل الوفد، ولم يتمكّنوا من الامتناع لأنّه يعمل مع أجهزة الأمن، وتمكّن من تطهير تلك المساجد من أمثال هؤلاء، وإبدالهم بالأكفّاء الصلحاء من خيرة شباب الحوزة العلميّة في النجف.
================
شجع السيد الشهيد الكثير من الشباب المثقّفين كالأطباء والمدرسين وأمثالهم على دراسة ما يمكن من المناهج العلمية التي تدرّس في الحوزة، وخاصّة الفقه والأصول في إطار الاستفادة من هذه الطاقات لسد الفراغات الكبيرة التي تعاني منها المساجد والحسينيّات، وحتّى المراكز العلميّة والتربويّة التي يعملون فيها كموظفين وإداريين. وكان يقول : سأضمن لمن يرغب من هؤلاء بالتفرّغ للدارسة في الحوزة نفس المستوى المعاشي الذي كان يحصل عليه من وظيفته الحكوميّة إن لم يكن أفضل. وكان يتوخّى من ذلك الإسراع في تربية علماء يملكون ثقافة عصريّة إلى جانب ثقافتهم الدينيّة، وكذلك الارتفاع بالمستوى الاجتماعي للحوزة بتطعيمها بعناصر لهم مكانة في المجتمع، كالأطباء والأساتذة وغيرهم. وكان أيضا ينوي توكيل بعض الأشخاص ـ من غير طلبة الحوزة ـ ممن تتوفّر فيهم مواصفات معيّنة ليمارسوا دور العالم كل في منطقته أو دائر عمله، وقد طبّق ذلك في دائرة محدودة.
================
قام السيد الشهيد بتشكيل خلايا فدائية ترتبط به بصورة غير مباشرة، مهمّتها اغتيال الطاغية المجرم صدّام التكريتي، وكان المباشر لهذا العلم المرحوم الشيخ عبد الأمير محسن الساعدي، والمرحوم الشيخ جليل مال الله، والمرحوم الشيخ قاسم ضيف، وبعض الاخوة الأعزاء ممّن لم نذكرهم، وهؤلاء يقومون باختيار الشباب المضحّين الانتحاريين (الاستشهاديين) ، وتوزيعهم على المناطق التي يتردد عليها الطاغية، متربّصين به الفرصة المناسبة على أساس خطّة موضوعة.
================
تمكّن السيد الشهيد في الفترة الأخيرة من حياته من إرسال أحد الأطباء لينضمّ إلى الكادر الطبّي الخاصّ برئاسة الجمهوريّة، لينفذّ نفس المهمّة السابقة، إلا نّه اكتشف خلال فترة إعداده لتنفيذ المهمّة وتم إعدامه، وهربت عائلته إلى دولة المجاورة العراق، ولم يعترف على السيد الشهيد ولا على الرابط بينهما رغم التعذيب الشديد، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
================
كان السيد الشهيد على اطّلاع كامل بمحاولة عدنان حسين عضو مجلس قيادة الثورة للإطاحة بنظام صدّام التكريتي. ولم أكن مطّلعا على هذه القضية إلا بعد أن كشفها في فترة الحجز، وبعد أن أحسّ أن وقت استشهاده قد اقترب ، وقصّة ذلك كما يلي:
كان السيد الشهيد يتّصل بمنزلي هاتفيا في بعض الأيام، بين الساعة الثانية والثالثة بعد الظهر، ويطلب حضوري لقياس الضغط الدم، وكنت قد تعلّمت ذلك من بعض الأطباء، فأحضر ثم أقيس الضغط فيأمرني بالبقاء في بيته، ويقول لي: إذا جاء من يطلب مقابلتي فأخبرني.
وبعد برهة من الزمن يأتي رجل لا أجد فيه ما يدلّ على تديّنه، فهو حليق اللحية، متختّم بالذهب، يطلب لقاء السيد الشهيد فكنت وحسب أمر السيد أبرز له الاستعداد والترحيب، فإذا اجتمع به يطلب مني أن لا أسمح لأحد بالصعود إلى غرفة المكتبة، وأن لا أترك البيت حتّى ينتهي الاجتماع، ولم يكن السرّ في هذا الأمر مفهوما لي.
وفي فترة الحجز سمعنا بفشل محاولة عدنان حسين للإطاحة بصدّام، رأيت السيد الشهيد يتأسّف، فأردت أن أقول له : إن الأمر لا يعنينا، بل هو في مصلحتنا ونفعنا فقلت (نارهم تأكل حطبهم) فنظر إلي نظرة طويلة، ولم يجب بشيء.
وفي الأيام الأخيرة من الحجز عندما أحسّ بقرب أجله قال لي: أتذكر ذلك الشخص بتلك الأوصاف؟
قلت: نعم.
قال: له قصّة أخبرك لها لتكون ضمن ما سوف تكتبه عنّي. إنّ هذا الشخص كان مبعوثا من قبل عدنان حسي لمهمّة خاصّة، فقد أخبرني بأنه ينوي الإطاحة بصدام، وطلب منّي أن أعطيه وعدا بتأييد الثورة مشروطا بشروط أنا أضعها، وكان منفتحا ومتجاوبا إلى أقصى الحدود. قال: شككت في بادئ المر بذلك، وتصوّرت أن هذه المحاولة من محاولات السلطة للحصول على مستمسك ضدّي، ولكنّه قدّم لي من الأدلّة ما بدّد تلك الشكوك، فقلت له: إن موقفي بالتأييد حسب الشروط ـ كان السيد الشهيد قد بيّن لي تلك الشروط ـ يتوقّف على مدي التزام عدنان حسين بها بعد أن يستلم الحكم، أمّا قبل ذلك فلا أقف موقفا معارضا أو سلبيّا حتّى تتبيّن الأمور.
وقد قال لي : كان هدفي الأساسي هو إسقاط نظام صدام التكريتي لأن صداما هو الرجل الذي يشكّل خطورة حقيقيّة على الإسلام في العراق، كما أنّ عدنان حسين لا يكون أسوأ من صدّام التكريتي على أسوأ التقادير في حال استلامه للحكم.
================
وجد السيد الشهيد أن فكرة التفسير الموضوعي للقرآن تحقّق هدفين في وقت واحد، الأوّل: كتابة تفسير موضوعي للقرآن على طراز جديد وفريد، والثاني: إيجاد منبر للمرجع يتمكّن من خلاله بيان وجهات نظره للامّة كلّما دعت الحاجة.
و على هذا الأساس كان الحضور مفتوحا لكل الطلبة الذين يمكنهم استيعاب المادّة التفسيريّة من دون التقيّد بكونه بمستوى بحث الخارج. وكان تصميمه على فسح المجال لحضور كلّ أبناء الأمة على اختلاف مستوياتهم في مرحلة لاحقة، وبعد أن يصبح مجلس التفسير واقعا لا تتمكّن السلطة من منعه.
ولأهميّة هذا المجلس اقتطع وقتا له من بحث خارج الفقه، وهو أمر يدلّ على مدى اهتمامه بهذه الفكرة، كما شجّع على فكرة تسجيل البحث وتوزيعه من خلال أشرطه الكاسيت ليتاح لمن لا يستطيع حضور الدرس الاطلاع على الأفكار والآراء التي تمثّل موقف المرجع من مختلف القضايا في المستقبل.
================
ذكر السيد الشهيد (رضوان الله عليه) ذات يوم أنه بلغني خبر يقول: إن البعثيين سيعتقلونني في هذه الليلة، وفي صبيحة تلك الليلة عرفنا أنّه لم يقع شيء من هذا القبيل.
وفي الليلة الثانية ابتلي صدفة بالتسمّم أو ما يشبهه، ممّ كان يحتلم أداؤه إلى الموت، فطلب. إيصاله إلى المستشفى، وكنت أنا والمرحوم السيد عبد الغني بخدمته، لا أذكر ما إذا كان شخص آخر أيضا معنا أولا، فأخذناه إلى مستشفى النجف، وبعد فترة من الزمن جاءت زوجته أم جعفر، وأخته بنت الهدى إلى المستشفى لعيادته، ثم رجعنا إلى البيت، ورجعت أنا أيضا إلى بيتي، وبقي معه في المستشفى المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي وأطلعنا بعد ذلك على أن رجال الأمن العراقي طوّقوا في تلك الليلة بيت الأستاذ، واقتحم البيت لغرض اعتقاله، فقال لهم الخادم (وكان خادمه وقتئذ محمد على محقق ): إنّ السيد غير موجود، ولا أعلم أين ذهب السيد، فبدأوا بضربه ليعترف لهم عن مكان السيد، إلا أنّه أبى، وأصر على إنكاره،رغم علمه بمكان السيد، وجاءت زوجته أم جعفر، وقالت لهم: إنّ السيد المريض،وقد انتقل إلى المستشفى النجف، فانتقل رجال الأمن إلى مستشفى النجف، وطوّقوا المستشفى وطالبوا المشرفين على المستشفى بتسليم السيد.
فقالوا لهم: إنّ السيد مريض، وحالته خطيرة، وذا أردتم نقله، فنحن لا نتحمّل مسؤولية ذلك إذ ما مات بأيديكم.
وأخيرا وقع الاتفاق على أن ينقل السيد تحت إشراف رجال الأمن إلى مستشفى الكوفة، على أن يكون معه المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي بعنوان مرافق المريض، وهكذا كان، فقد نقلوا السيد الاستاذ إلى مستشفى الكوفة، ووضعوه في ردهة المعتقلين، وعند الصباح ذهب السيد محمد الغروي إلى مستشفى الكوفة كي يطّلع على حال السيد الاستاذ، فالتقى بالمرحوم السيد عبد الغني فقال له: إنّ رجال الأمن قد وضعوا قيد الحديد على يده الكريمة، فأخبرني السيد الغروي بذلك، فذهبت أنا إلى بيت السيد الإمام الخميني حيث كان وقتئذ يعيش في النجف الأشرف، وتشرّفت بلقائه وحكيت له القصّة.
ثم كثرت صبيحة ذلك اليوم مراجعة الناس على الخصوص طلاب العلوم الدينيّة والعلماء العظام، أمثال المرحوم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين، والمرحوم الحجة السيد محمد صادق الصدر إلى مستشفى الكوفة يطالبون بلقاء السيد، والجلاوزة يمنعونهم عن ذلك، ودخل البعض على السيد رغما على منع الجلاوزة، وكاد أن يستفحل الاضطراب في وضع الناس، فخشيت الحكومة من نتائج الأمر، فرفع القيد من يد السيد.
وبد فترة وجيزة أطلقت السلطة سراح السيد الاستاذ، ووضع في القسم العادي. غير ردهة المعتقلين ـ في مستشفى الكوفة، وبعد ذلك رجع إلى مستشفى النجف، وبعد أن تحسّن حالته الصحيّة رجع إلى أيام وفاة الإمام موسى الكاظم حيث أقام السيد الشهيد في بيته مأتما للإمام الكاظم كعادته في كل سنة، وكان المجلس يغص بأهله، وكان الخطيب في ذلك الحفل السيد جواد شبر.
وكان يقول السيد الاستاذ إن هذا الاعتقال قد أثر في انشداد الأمة إلينا أكثر من ذي قبل، وتصاعد تعاطفها معنا.
وكان المفهوم لدينا وقتئذ أن مرض السيد كان رحمة، وسببا لتأخير تنفيذ ما يريده البعثيون من اخذه مخفورا إلى بغداد، إلى أن اشتهرت القصّة، وضج الناس، واضطرّت الحكومة إلى إطلاق سراحه من دون الذهاب به إلى بغداد.
================
كان السيد الشهيد يتابع الأحداث بدقّة، وكان في غاية السرور والارتياح وهو يتلقّ] أنباء تحدّي أنصار الحسين لسلطة أعداء الحسين، وصمود أبناء الشعب أمام دبّاباتهم وطائراتهم، وانضمام أعداد كبيرة من قطعات الجيش العراقي وعدد من أعضاء حزب البعث إلى صفوف الثوّار. وكان يعتبر تلك الأحداث مؤشرات حقيقة على بزوغ صحوة الشعب الإسلاميّة، وإدراكه لحقيقة النظام الحاكم الذي ظلّله فترة طويلة. وكان يقول:
( إن هذه المواكب شوكة في عيون حكّام الجور، إن هذه المواكب وهذه الشعائر هي التي زرعت في قلوب الأجيال حب الحسين وحب الإسلام، فلا بد من بذل كل الجهود للإبقاء عليها رغم حاجة بعضها إلى التعديل والتهذيب).
وكان قد أمرني بتقديم الاموال لكافة المواكب التي كانت بحاجة إلى مساعدة ودعم، بل وبعث بالكثير من الأموال إلى المواكب الأخرى التي لم تعتد طلب المساعدات والتبرعات.
وعلى كل حال، كانت انتفاضة تاريخية أقضت مضجع السلطة وأرعبتها، وحطمت كبرياءها، خاصّة بعد فشل التدخّل العسكري، وانهيار قوّات الأمن في منعها.
وحاولت السلطة أن تحافظ على الحد الأدنى من كرامتها وذلك بكف الثوار عن ترديد الشعارات المعادية للبكر وصدام، وأن يدخلوا إلى كربلاء بشعارات حسينيّة فقط، وهي بالطبع عاجزة عن ذلك رغم إمكاناتها الكبيرة، فلجأت إلى العلماء، وطلبت منهم التدخّل لحل الأزمة المتفاقمة بإقناع الثوار بالاقتصار على ترديد الشعارات الحسينيّة فقط.
أما بالنسبة للسيد الشهيد، فقد جاء إليه محافظ النجف جاسم الركابي، وطلب منه التدخّل بإرسال وفد يطلب من الثواّر أن لا يرددوا شعارات معادية للسلطة، ويبلّغهم بتراجع السلطة عن قرار منع المسيرة الحسينيّة، ويطلب منه الهدوء، والاكتفاء بترديد الشعارات الحسينيّة، فقط، وأنه لن يتعرض أحد منهم للاعتقال فيما بعد. فقال له السيد الشهيد:(ومن يضمن سلامة الوفد الذي أبعثه إليهم؟)
فقال الركابي : أنا أضمن سلامة الوفد، ولو حدث غير ذلك فسوف أقدّم استقالتي، واحلق شاربين أن هذا تعهّد منّي ومن وزير الداخليّة عزت الدوري.
لم يكن السيد الشهيد يثق بوعود السلطة أبدا إلا أنّه لا حظ أن المسيرة قد حقّقت أهدافها، وأنّ السلطة سوف تتّخذ أقسى الإجراءات ضد الثوار ريثما تنتهي مناسبة زيارة الأربعين، فكان من الطبيعي أن تتّجه الجهود إلى تخيف رد فعل السلطة تاه الثوار، والسعي لإنقاذ أنفسهم وأرواحهم، والاقتصار على قدر محدود من الضحايا، ومن المؤكّد أن السلطة لن تجعل هذه القضية تمر دون أن تنتقم، فكان سعي السيد الشهيد نحو تضييق دائرة الانتقام إلى أقل عدد ممكن من الضحايا، وبالإضافة إلى ذلك كان السيد الشهيد محرجا في حال امتناعه من إرسال وفد بعد أن استجاب سماحة آية الله العظمى السيد الخوئي لطلب السلطة في تهدئة الثوار، وسوف يفسر موقف السيد الشهيد في حال عدم استجابته بأنّه موقف مخالف ومعادي للسلطة، ومؤيد للثوار.
وعلى كل حال فبعد أن طلب منه الركابي ذلك عقد اجتماعا ضم كبار طلابه، ومنهم سماحة حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد باقر الحكيم اتخذ فيه بعد استشارتهم في الأمر القرار بإرسال وفد يمثّل السيد الشهيد برئاسة السيد الحكيم، وكان السيد الحكيم يرى أن عدم الاستجابة أفضل لأن السلطة سوف لن تفي بتعهّداتها (وكان رأي السيد الشهيد في الواقع كذلك) إلا أنه مع ذلك استجاب لرغبة السيد الشهيد وذهب إلى الثوار، وتحّدث معهم بما يجب، وكان دقيقا وحكيما في كل خطوة خطاها ، وتمكن خلال فترة قصيرة من تهدئة الثوار رغم حالة الغضب والتوتّر لتي كانت تسودهم وتسطير عليهم.
وكان المفروض أن يقدّر هذا الموقف ويشكر من قبل رجال السلطة لأنّه حقن الدماء بحكمة، وكان المفروض ـ وعلى أقل تقدير ـ أن لا يعتقل ، ولكن الذي حدث أن محافظ النجف الذي كان قبل ساعات يستغيث بالسيد الشهيد قام هو بنفسه باعتقال السيد الحكيم وسلّمه إلى قوات الأمن.
لم يخضع السيد الحكيم لأي لون من التحقيق، ولم ير محكمة الثورة، وإنما ابلغ وهو في سجن المخابرات العامة بالحكم عليه بالسجن المؤبّد، ثم نقل إلى سجن أبي غريب.
ولم يقدّم محافظ النجف استقالته، ولم يحلق شاربه ـ كما وعد من قبل ـ، بل توجّهت السلطة بغضب وحقد إلى الشهيد الصدر لتنتقم منه باعتباره الرمز الحقيقي للنجف بما تحمل من تراث ديني وعلمي عريق.
ومن المؤكّد أن السلطة لم تمتلك ما يثبت تورّط السيد الشهيد بالأحداث، أو تحريكه للجماهير ضدّها، ومع ذلك فقد صدر الأمر باعتقاله وجلبه إلى بغداد.
وفي الساعة التاسعة صباحا جاء مدير أمن النجف، وطلب من السيد مرافقته إلى بغداد، مدّعيا أن وزير الداخلية الدوري يريد الاجتماع به، وهذه هي حججهم المعهودة في كل اعتقال.
وذهب السيد الشهيد إلى بغداد لا للتحقيق، بل ليبلغ رسالة حقد قاسية وشديدة من وزير الداخلية، تضمّنت التهديد والوعيد وبألوان من الانتقام، ثم يقاد إلى مديرية الأمن لينال من الحاقدين أنواع التعذيب وقد قال في فيما بعد: (كنت أحرص على كتمان ما كنت قد نلته من التعذيب لئلا يؤدي ذلك إلى انهيار أو خوف من لا يتملك القدرة على الصبر والصمود).
وسألته عما جري عليه في مدرية الأمن العامّة، فقال:
(لم يسألني أحد عن شيء، إلا أن مدير الأمن العام قال لي: إنّنا نعلم أنك وراء هذه الأعمال العدوانية، وبد بعثت السيد محمد باقر الحكيم ليحرّض الشعب علينا، إنّنا سوف ننتقم منك في الوقت المناسب، وهدّدني بالإعدام.)
وكان السيد الشهيد بعد أن افرج عنه يتوقّع اعتقاله ساعة بعد ساعة، وكان مترقبا ومستعدا لذلك ليلا ونهارا.
================
قبل غروب الشمس من يوم الاثنين المصادف (16 رجب 1399 هـ) بدأت قوات الأمن ومنظمة حزب البعث تطوق منزل السيد الشهيد ، والشوارع والأزقة القريبة منه أو المحيطة به، ومنعت المرور منها منعا باتّا.
وجاء الليل بسكونه وهدوئه يخيّم على النجف إلاّ هذا الزقاق حيث مستقر سيدنا الشهيد، إذ تحث الخطي، وتتعالى حركة الحشود، فكانت تمزّق ذلك السكون في ساعات تلك الليلة،وكان الاستعداد قائم على قدم وساق تمهيدا لاعتقال السيد الشهيد. وكن ارقب ذلك الوضع من خلال فتحة أحدثها كسر صغير في زجاجة النافذة المطلّة على الزقاق، فأيقنت أن السلطة تستعد لاعتقال الشهيد الصدر، فذهبت إليه، وأخبرته بذلك الاستعداد، وتلك الحشود المجرمة، فقال لي: (لا بأس، أنا ذاهب للنوم لأنّي أشعر بالتعب الشديد)
ثم سلّم (الخاتم) الذي يعبّر عن إمضائه والذي يختم به فتاواه ورسائله إلى من يثق به من المقرّبين منه خشية أن يسلب منه بعد اعتقاله واستشهاده، فيستغل في تزوير ما تحتاج إليه السلطة من فتاوى مثلا. وكانت الشهيدة السعيدة بنت الهدى قد اطّلعت أيضا على الوضع الحشود الكبيرة المتجمّعة في زقاق. كان السيد الشهيد قد قرّر أن يواجه مدير الأمن بعنف ـ إن جاء لاعتقاله ـ ويعلن له بصراحة عن موقفه من السلطة وسياستها وممارساتها الوحشيّة ضد الإسلام والمسلمين، وكنت قد قلت له ما فائدة هذه المواجهة في الوقت الذي نستطيع أن نستوعب هذه الأزمة، ونمرّرها بهدوء:
فقال:
(أرى أن أجبر السلطة على قتلي، عسى أن يحرّك ذلك الجماهير للإطاحة بالنظام، وإقامة حكم القرآن في العراق).
وفي الصباح الباكر، والناس نيام، لم نشعر إلا والباب قد فتحت، وإذا بالمجرم (أبو سعد) مدير أمن النجف يطلب مقابلة السيد الشهيد ، ولم تكن هذه الزيارة! غير متوقع، أو مباغته، فقد كانت كال الدلائل تشير إلى أنّ السيد الشهيد سوف يعتقل في هذا اليوم، وعلى :ل حال، اجتمع هذا المجرم بالسيد الشهيد، فقال: سيدنا إن القيادة ترغب بالاجتماع بكم.
السيد الشهيد: أنا لا أرغب بالاجتماع بهم.
مدير الأمن: لابد من ذلك.
السيد الشهيد: أنا لا أذهب معك، إلا إذا كنت تحمل أمرا باعتقالي.
مدير الأمن: نعم، أحمل أمرا باعتقالك.
هنا أجابه السيد الشهيد، فقال:
(أي سلطة هذه، وأي نظام هذه… أنكم كمّمتم الأفواه،وصادرتم الحرّيات، وخنقتم الشعب بقوّة الحديد والنار…
تريدون شعبا ميّتا يعيش بلا إرادة.
تريدون عشبا بلا كرامة…
وحين يعبّر شعبنا عن إرادته، وحين يتّخذ موقفا من قضيّة مّا، وحينما تأتي عشرات الآلاف من أبناء شعبنا لتعبّر عن ولائها للإسلام والمرجعيّة، تقوم قائمتكم، فلا تحترمون شعبا، ولا دينا، ولا قيما، بل تلجأون إلى القوّة لتكمّوا الأفواه ، وتصادروا الحرّيات، وتسحقوا كرامة الشعب.
أين الحرية التي تدّعونها، وجعلتموها شعارا من شعاراتك؟
أين هذا الشعب الذي تدّعون أنّكم تدافعون عنه، وتحمون مصالحه؟
أليس هؤلاء الآلاف الذي جاءوا ليعبّروا عن ولائهم للمرجعيّة هم أبناء العراق؟
لماذا يستولي الرعب والخوف على قلوبكم إن عبّرت الجماهير يوما عن إرادتها ورغبتها؟
وظل السيد الشهيد يواصل هجومه بتوجيه أمثال لهذه الاعتراضات إلى مدير أمن النجف الذي كان مضطربا وقلقا، وقد وقع تحت تأثير هذه المفاجأة، فلم يتكلّم بشيء وظل ساكتا.
ثم خاطب مدير الأمن، فقال: هيا لنذهب إلى حيث تريد).
خرج السيد الشهيد بشمائل علويّة، وشجاعة هاشميّة، وقد صمّم على الشهادة وهو يذكر الله عز وجل ويردد (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر).
كنت مع الإخوة، الشيخ طالب السنجري، والسيد محمود الخطيب، والحاج عباس برفقه السيد الشهيد من البيت وحتّى السيارة، إلا أننا فوجئنا بوالدته العجوز التي كانت لا تقوى على الحركة تجر أنفاسها بصعوبة بالغة وهي منحنية الظهر واقفة في الزقاق تخاطب أحد الجلاوزة المجرمين، وتقول له: خذوني مع ولدي، وتفاجئنا بالعلوية الشهيدة بنت الهدى وقد وقفت بقرب السيارة التي كانت معدة لنقل السيد الشهيد إلى بغداد، ركب في السيارة، وفجأة ألقى الشيخ طالب السنجري بنفسه في السيارة، وجلس إلى جانب السيد الشهيد، وأصرّ على مرافقته إلى مديريّة الأمن العامّة في بغداد رغم تشدّد قوات الأمن على منعه من ذلك، ورافقه كذلك الأخ السيد محمود الخطيب.
خطاب الشهيدة بنت الهدى:
كانت الشهيدة الخالدة بنت الهدى قد سبقت الجميع إلى حيث تقف سيارة مدير الأمن في شارع الإمام زين العابدين، والتي كانت ستنقل السيد الشهيد إلى بغداد، وهناك وقفت وكأنّها زينب في شجاعتها وصبرها وتضحيتها، تخاطب الظالمين الذين احتوشوا أخاها وقد زاد عددهم على ثلاثمائة شخص من قوّات أمن، وأعضاء في حزب البعث، ومرتزقة من هنا وهناك.
وأمام هذا الحشد الكبير ألقت الشهيدة خطبتها فقالت:
(انظروا ـ وأشارت إلى الجلاوزة المدججين بالسلاح ورشاشات الكلاشنكوف ـ أخي وحده بلا سلاح، بلا مدافع، بلا رشاشات…
أمّا أنتم فبالمئات مع كل هذا السلاح.
هل سألتم أنفسكم لم هذا العدد الكبير؟ ولم كل هذه الأسلحة؟
أنا أجيب… والله لأنكم تخافون .. ولأن الرعب يسيطر على قلوبكم.
والله أنكم تخافون لأنكم تعلمون أن أخي ليس وحده، كل العراقيين معه، وقد رأيتم ذلك بأعينكم، وإلا فلماذا تعتقلون فردا واحدا لا يملك جيشا ولا سلاحا بكل هذا العدد من القوات؟
أنّكم تخافون، ولو لا ذك لما اخترتم اعتقال أخي في هذا الوقت المبكّر… لماذا تجيئون لاعتقاله والناس نيام؟
ممن تخافون؟… ومن تخشون؟… اسألوا أنفسكم؟
ثم وجّهت خطابها إلى السيد الشهيد: إذهب يا أخي، فالله حافظك وناصرك، فهذا طريق أجدادك الطاهرين…)
غادر السيد الشهيد النجف الأشرف إلى بغداد ..
أمّا أنا فقد بقيت في المنزل السيد الشهيد للقيام ببعض المهمّات، كحرق بعض الرسائل، وإتلاف بعض الأوراق التي كان فيها أسماء بعض المؤمنين خوفا من وقوعها بيد السلطة في حال اقتحام البيت، ولم أكن أعلم بما يجري في داخل النجف، إلا أن العلوية الشهيدة كانت قد أخبرتني بأنها ستخرج إلى حرم الإمام علي لتعلن عن خبر اعتقال السيد الشهيد،وفعلا خرجت، ثم عادت بسرعة، وأخبرتني بأن عدد الناس في الحرم كان قليلا، وأنها ستذهب حينما يتواجد فيه أكبر عدد منهم بعد شروق الشمس…
وحين أيقنت أن الوقت قد حان، والفرصة قد أتت خرجت إلى الحرم الشريف، وعند ضريح سيد المظلومين علي نادت بأعلى صوتها:
(الظليمة الظليمة….
يا جدّاه، يا أمير المؤمنين، لقد اعتقلوا ولدك الصدر.
يا جدّاه، إنّي أشكو إلى الله وإليك ما يجري علينا من ظلم واضطهاد..
ثم خاطبت من كان في الحرم الشريف، فقالت: أيها الشرفاء المؤمنون، هل تسكتون وإمامكم يسجن ويعذّب ؟
ماذا ستقولون غدا لجدي أمير المؤمنين إن سألكم عن سكوتكم وتخاذلكم؟
اخرجوا وتظاهروا واحتجوا….)
فجاءها أحد خدام الحضرة الشريفة ممن يعمل للسلطة، وحاول منعها، فنهرته، وصرخت بوجهه. ثم قام إليه بعض من كان في الحرم، فإنهالوا عليه بالضرب، فولّى هاربا.
================
حدثني السيد الشهيد: أن أسلوب فاضل البراك مدير الأمن العام كان قاسيا، ولهجة فضة حينما كان يستجوبني، وفي أثناء ذلك دخل عليه شخص، فسلّمه ورقة صغيرة، فلمّا قرأها غير من أسلوبه معي في التحقيق، وبعد ذلك بدقائق دق جرس الهاتف، وبدى لي أن المتحدّث معه كان شخصية كبيرة، إذ كان فاضل البراك يجيب بعبارات من مثل: نعم سيدي، أمرك سيدي، وما شابه ذلك).
وقد علمنا فيما بعد أن المتحدث كان هو المقبور أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية آنذاك.
قال السيد الشهيد:
(شعرت أن شيئا ما قد حدث غير من مجرى التحقيق معي، وإن كنت لا أعرف حدوده، إلى أن قال لي فاضل البرّاك: ماذا فعلنا حتّى تخرج تظاهرات في النجف والكاظميّة احتجاجا على ما يسمّونه اعتقالا لكم، إنّ هذه زيارة وليس اعتقالا!!!).
وكان المجرم (أبو أسماء) مساعد مدير الأمن العامة وهو تركماني وعضو في حزب البعث العربي! أول من استقبل السيد الشهيد في مديرية الأمن من العامّة في بغداد، وقال له بلهجة ساخرة: (سيدنا ضعفان)، فأجابه بلهجة خشنة:(كلا، لست كذلك، أنا طبيعي جدّا)…
وعلى كل حال، فأن فاضل البراك غير من أسلوبه في التحقيق، فقال للسيد الشهيد: لم يكن هدفنا اعتقالكم، بل أحببنا أن نتعرف بشكل مباشر منك على الأحداث.
فقال له السيد الشهيد: وهل يتطلّب ذلك طرح هذا العدد الكبير من الأسئلة، وبهذا الأسلوب. ثم هل يستدعي ذلك تطويق بيتي من العصر حتّى الصباح، وبهذا العدد الكبير من القوّات.
فقال: إن هذا خطأ ارتكبه مدير أمن النجف، وكنا قد لنا له: إننا نريد أن نستفسر من السيد الصدر عن بعض الأسلوب،وطلبنا منه أن يصحبكم إلى بغداد بكل احترام!! ثم قال: إن أحببت العودة إلى النجف فأنت حر، وأهلا بك.
قال السيد الشهيد:
(رفضت الإفراج عني والعودة إلى النف، إلا إذا افرج عن مرافقي، وعن جميع الذين اعتقلوا في هذه الأحداث).
ووعد السيد الشهيد أن يتوسط شخصيا لدى رئيس الجمهوريّة أحمد حسن البكر للإفراج عنهم وذكر أيضا أن قسما منهم قد قتل أو جرح عددا من قوّا الأمن، فلا يمكن لمديريّة الأمن الإفراج عنهم لأنّه خارج عن صلاحياتها.
لم يقنع السيد الشهيد بكلامه، ولم يثق بوعده، فرفض العودة إلى النجف إلا بعد تنفيذ هذا الشرط. هنا حاول البرّاك أن يتوسّط وبحضور السيد الشهيد، إلا أن محاولته فشلت، وأقسم أمام السيد الشهيد على أن يفرح عنهم في أقرب فرصة ممكنة.
عاد السيد الشهيد إلى النجف الأشرف، فأخبرته بأن اعتقالات واسعة شملت وكلاء وعددا كبيرا من المؤمنين، وخاصّة أولئك الذين اشتركوا في وفود البيعة، فقال لي:
(كان ظنّي أن ذلك قد حدث وأنا في مديريّة الأمن العامّة: لأننّي أعلم أن السلطة لن تكتفي باعتقالي فقط، بل أنّه ستعتقل عددا كبيرا من المؤمنين).
ثم أمر سماحة الأخ حجة الاسلام السيد محمود الخطيب أن يتصل بفاضل البراك، ويطالبه باسم السيد الشهيد بالإفراج عن جميع المعتقلين. وفعلا فقد تم الإفراج عن عدد كبير منهم، واحتجز آخرون.
================
يقول السيد الشهيد :(إن كل الدلائل كانت تشير إلى أن السلطة كانت عازمة على إعدامي، وكان فاضل البرّاك متشنّجا، مكفهّر الوجه، خشن المعاملة).
وأنا هنا أذكر بعض ما سمعته من السيد الشهيد فيما يتعلٌّق بالتحقيق الذي جرى معه في يوم (17 ) رجب عام 1399 هـ.
فاضل البراك: ما هي علاقتكم بالسيد الخميني؟ السيد الشهيد: علاقة العالم بالعالم.
البراك: الخميني، سياسي، وليس عالم.
السيد الشهيد: أنا لازلت أعتقد انه عالم ديني، ومرجع من مراجع المسلمين.
البراك: الخميني زعيم دولة، ونحن نعتبر أي علاقة به خارج القنوات الدبلوماسيّة للدولة العراقيّة نوعا من العمالة.
السيد الشهيد: فسروا ذلك بما شيءتم، أمّا أنا، فسيبق السيد الخميني في نظري مرجعا من مراجع المسلمين.
البراك: لماذا أصدرت بيانات تؤيد فيها الثورة الإسلامية في إيران؟
السيد الشهيد: واجبي الشرعي فرض عليّ ذلك، وليس فيها ما يضركم.
البراك: هذا شأن الدولة، لا المواطنين.
السيد الشهيد: ما صدر مني لا يخالف سياسة الدولة، أنتم تقولون نحن نؤيد الثورة الإسلامية، وهذا الموقف ينسجم مع موقفكم.
البراك: إننا نعتبر ذلك تجاوزا للسلطة والقانون، إلا إذا تم بإشرافنا وموافقتنا، ومن خلال القنوات الدبلوماسيّة.
السيد الشهيد: أن علمت بتكليفي الشرعي والأخلاقي، وليس وراء ذلك أهداف أو أغراض سياسيّة.
البرّاك: ما هو اهدف من زيارتك لبيت السيد الخميني في اليوم الذي غادر فيه العراق؟
السيد الشهيد: هكذا هي العلاقة بين العلماء، لقد ذهبت لتوديعه، وهذا يؤكد ما قلته سابقا من أن علاقتي بالسيد الخميني قائمة على أسس غير سياسيّة، إن زيارتي له كانت قبل انتصار الثورة.
البراك: ماذا يعين السيد الخميني بالبرقية التي بعثها لك؟
السيد الشهيد: …(لا جواب).
البراك: أين السيد المحمود الهاشمي؟ علمانا أنه ذهب إلى إيران ليمثلكّم هناك؟
السيد الشهيد: ….(لا جواب).
البراك: ألا يعتبر إرسال السيد محمود الهاشمي إلى إيران عملية تحريض ضدنا؟
السيد الشهيد: فسروا ذلك بما شيءتم.
البراك: الوفود التي جاءت إلى النجف، من نظّمها؟ ومن يقف خلفها؟ وما هو الهدف منها؟
السيد الشهيد: الشعب العراقي كان وراءها، وهو الذي نظّمها، جاءوا يطلبون منّي البقاء بينهم.
البراك: وهل كنت تنوي مغادرة العراق؟
السيد الشهيد: كلا.
البراك: إذا ألا تعتبر أن ذلك تحريض مدروس، واتّفاق مسبق بينك وبين السيد الخميني، قام بتنسيقه السيد محمود الهاشمي للإطاحة بالسلطة عن طريق تحريض الجماهير علينا؟
السيد الشهيد: ليس بيننا اتّفاق على شيء.
البراك: إذا لماذا طلب منك البقاء في العراق؟ هل لكي تقود الثورة ضدّنا بمساعدة إيران.
السيد الشهيد: ليس لإيران، ولا لأي دولة أخرى يد في ذلك، كل الذين جاءوا هم من أبناء العراق، وأنتم تعرفون ذلك.
البراك: إنّنا نعتبر ذلك تحريضا للشعب للإطاحة بالحزب والثورة.
السيد الشهيد: أنتم تقولون نحن أقوياء بما فيه الكفاية، فهل يستطيع هؤلاء الإطاحة بالثورة من خلال تظاهرات سلميّة غير مسلّحة، وفي النجف؟
البراك: لقد ثبت لدينا أنكم تحرمون الانتماء لحزب البعث؟
السيد الشهيد:….(لا جواب).
البراك: إن كل واحدة من هذه الأمور تستحق الإعدام.
السيد الشهيد: أنا في قبضتكم، فافعلوا ما شيءتم.
وهنا دخل أحد الأشخاص وسلّم البرّاك ورقة صغيرة، ثم دق جرس الهاتف، وبعدها افرج عن السيد الشهيد ..
================
اتصل المجرم فاضل البراك وكذلك مساعده المجرم (أبو أسماء) بعد وصول السيد الشهيد إلى النجف فطلبا أن يعود السيد الشهيد إلى وضعه السابق من التدريس ومقابلة الناس، وألحّا في الطلب على قاعدة( يكاد المريب أن يقول خذوني) ما أثار لدينا الشكوك في النوايا الحقيقيّة من هذا الطلب.
بعد ذلك ونحن في الاحتجاز علمنا من المرحوم السيد علي بدر الدين أن السلطة كانت قد أعدت مخططا لاغتيال السيد الشهيد، وكنت الخطة تقضي بأن يفتعل شجار بين بعض أفراد الأمن في سوق العمارة، أو في الطريق الذي يمر منه السيد الشهيد، وأثناء الشجار والعراك يطلق أحدهم النار في الوقت المناسب باتّجاه السيد الشهيد ويؤدّي ذلك إلى قتله خطأ حسب الخطة، ثم تقوم السلطة بإعدام القاتل، وبذلك العمل تتخلّص من أعتى وأعند معارض لها.
وفي الفترة التي رفعت فيها السلطة الحجز جزئيا طلب مدير أمن النجف المجرم (أبو سعد) من السيد الشهيد العودة إلى وضعه الطبيعي، وكان ذلك لنفس الهدف.
وكان أحد أفراد قوّات الأمن محيطين، بمنزل السيد الشهيد قد سأل ـ في تلك الفترة ـ الحاج عباس عن وقت الذي سيخرج فيه السيد الشهيد لزيارة الإمام أمير المؤمنين، بل كان بعضهم يقول له: لماذا لا يخرج السيد الصدر، لقد رفعت السلطة الحجز عنهن قل له فليخرج، وبسبب هذا الإلحاح أدرك الحاج عباس رغم بساطته أن السلطة تنوي إنهاء حياة السيد الشهيد، ولم يكن على علم بأن السيد علي بدر الدين قد أخبرنا بذلك.
================
أصيب السيد الشهيد بألم في مفصل رجله اليسرى، فطلب من خادمه الحاج عباس شراء دهن (الفكس) المعروف لعلاج مثل هذه الأوجاع.
ذهب الحاج عباس، واشترى الدهن من هذا العطّار، وفي أثناء ذلك سأله: لمن هذا الدواء؟ فقال الحاج عباس: السيد يشكو من ألم في رجله اليسرى، وهذا الدواء له.
في اليوم الثاني وبينما كان الحاج عباس يمر من أمام دكانه ناداه بعد أن التفت يمنيا وشمالا، ليوهم الحاج عباس بأنه يريد أن يطمئن من خلو المكان من شرطة الأمن حذرا وخوفا من أن يكونوا على مقربة منه، فناوله جهازا صغيرا وقال له: إن أخي طبيب وقد أعطاني هذا الجهاز وهو خاصّ بمعالجة أوجاع الرجل، فأعطه السيد الصدر، وقل له أن يضعه في جيب القباء (الصاية) المحاذي لرجله المصابة، فأنّه لا يمرّ عليه يوم وليلة إلا ويشفى من كل الأوجاع.
استلم الحاج عباس الجهاز، وجاء به إلى البيت، وكان قبل ذلك قد أطلعته على وجود أجهزة لإرسال واستراق الصوت وحذّرته من الحديث معي إلا في الأماكن التي حدّدتها له، وكان منها غرفة مكتبة السيد الشهيد.
جاء الحاج عباس وكنت جالسا في المكتبة فأخبرني بما جرى، وكان قد وضع الجهاز في إحدى الغرف التحتيّة، فقلت له: اذهب وأتني به، وضعه أمامي من دون أن تتكلم بشيء حتى السلام. لقد كنت أتوقع أنه جهاز لاستراق الصوت، ثم أخبرت السيد الشهيد وأخته الشهيدة فشاهدوا الجهاز، وكنّا أثناء ذلك لا نتكلم وكنا نتخاطب عن طريق الكتابة.
كان أسطواني الشكل، طوله أقل أو أزيد من عشرة سانتيمترات، وتوجد في كل طرف من طرفيه عدسة زجاجية تشبه عدسة آلة التصوير إذا نظرت من أيّهما لا ترى الطرف الآخر، قمت بفتح الجهاز بصعوبة كبيرة، فوجدت في داخله جهازا للتوقيت متصلا بمادة متفجّرة مكبوسة داخل وعاء معدني، وجهاز التوقيت يسير بحركة لولبيّة باتّجاه نقطه معيّنة، ولم أعثر على قطع إلكترونية تدل على أنّه جهاز لاستراق الصوت.
شاهد السيد الشهيد محتويات الجهاز، وأيقنّا جميعا بأنه متفجرة موقوتة، فقال: لعنك الله يا…. إذا كنت تريد قتلي، فما ذنب هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين أنهكهم الحجز وحرمهم من أبسط ما يتمتّع به الأطفال. وكان يتسلّى بأطفاله في فترة الحجز وهم يتسلّون به بعد أن حرمهم النظام من كل حق لهم في الحياة، وها هو اليوم يبعث لهم بمتفجّرة ليبيدهم وهم في المحنة.
قلت للسيد الشهيد: ماذا أفعل بالجهاز، هل أدمّره؟ فقال: كلا أرجعه إليه. قلت له: فلنقتله به، قال: أنت وشأنك.
وبقيت أراقب جهاز التوقيت وهو يتحرك باتّجاه النقطة المعدنيّة المفروض أنّه سينفجر إذا اتصل بها، وكنت قد خمّنت أن ربع ساعة هي المتبقّية لانفجاره، فقمت بشده وإعادته إلى حالته الاولى، ثم أخذه السيد الشهيد وأعطاه للحاج عباس، وقال له : قل لـ .. إن السيد لا يحتاج إلى هذا العلاج.
أخذ الحاج عباس ـ وهو لا يعلم أنه متفجّرة ـ وسلّمه لـ ….. وهنا كانت المفاجأة، لقد قفز … وراح يركض بسرعة، وترك دكانه مفتوحا وهو بحالة من الرعب والخوف الشديدين.
جاءني الحاج عباس، وقال لي: إن … أصيب بالجنون عندما سلّمته الجهاز، لقد فعل كذا وكذا، ولم يكن أحد من قوات الأمن في السوق كي يخشى إلى هذا الحد وكان الحاج عباس يظن أن هذا الشخص فعل ذلك خوفا من قوات الأمن. وهكذا فشلت هذه المحاولة القذرة التي أرادت السلطة تنفيذها على يد شخص هو أبعد ما يكون ـ حسب الظاهر ـ عن أجواء الشك والريبة، وعن العمل مع أجهزة السلطة الإرهابية، خاصّة أنّه لا يحمل الجنسيّة العراقية، بل كان معرضا للتسفير في أي وقت.
================
أمرت أجهزة الأمن مصلحة المياه بفتح أنبوب الماء الكبير الذي يغذي المنطقة التي يقع فيها منزل السيد الشهيد من أقرب نقطة من المنزل بحيث يتم ضخّ الماء تحت منزل السيد الشهيد، واستمر ضخ الماء بقوّة كبيرة لمدة عشرين ساعة تقريبا ـ وهي المدة التي تقطع الماء فيها في ذلك اليوم عن المنطقة ـ، وكان المفروض أن يكفي ذلك لانهيار المنزل على من فيه. ولم نكن نعلم في ذلك الوقت بما حدث، إلا أننا لاحظنا حركة غير طبيعية لقوات الأمن التي كانت تحاصر منزل السيد الشهيد، فقد ابتعدوا عن المكان حتى أنّنا استغربنا من خلو الزقاق منهم، وكان المارّ يظن أن الحجز قد رفع.
في اليوم الثاني لاحظنا أن السرداب قد هوى بأكمله إلى الأسفل مسافة لا تقل عن خمسة أمتار، وبقي البيت معتمدا على بعض الأعمدة وكأنّه معلّق في الهواء.
وكان منظرا مخيفا، لا ندري في أي لحظة سينهار ويقتل كل من فيه.
ولما لم يحدث ذلك اضطرت السلطة إلى فصح الزقاق الذي يتواجد فيه أفراد الأمن عن طريق حفر عدة أماكن من الزقاق لمعرفة ما إذا كان قد حصلت فيه انهيارات أرضيّة تحت التبليط أو لا ، فلما تأكدت من عدم وجود خطر أمرت قواتها بالعودة إلى أماكنهم الاولى.
وكان قد أشيع ونحنه في الحجز أن السلطة وجهة أشعة قاتلة من مكان قريب من المنزل باتّجاه بيت السيد الشهيد لقتله، ولم يتيسّر لنا التأكّد من صحّة تلك المعلومة أو نفيها.
================
أراد ضابط في الجيش، أو المخابرات العسكريّة أن ينفذ إحدى محاولات اغتيال السيد الشهيد ، وكان بيته مجاورا لمنزل السيد الشهيد، فقد اتفقت معه السلطة على أن يقوم بدور المفاوض حلو فك الحجز عن السيد الشهيد، ثم يقوم بقتله في داخل البيت.
وهذا الرجل الذي هداه الله ـ تعالى ـ فيما بعد ونال درجة الشهادة كان لا يعرف السيد الشهيد، رغم الجوار، والسبب يعود إلى قلّة تواجده في النجف، وكان يظن أنّ (السيد كاظم الكفائي) هو السيد الشهيد الصدر، وكان يعلم أن الكفائي ممن يسهل قتله، فأعلن عن استعداده للقيام بعملية الاغتيال.
وفي بوم من الأيام جاء يطلب موعدا من السيد الشهيد على أساس أنه مبعوث من قبل السلطة، ولم نكن نعرف حقيقة هذا الشخص،وأنّه يسكن في دار مجاورة لمنزل السيد الشهيد فلما التقي بالسيد الصدر أصيب برعدة شديدة، وظل يرتجف كالسعفة،ما أثار استغراب السيد الشهيد، فسأله عن سبب ذلك، فقال: سيدي ، إن السلطة بعثتني لقتلك، وهذا المسدّس أحمله لتنفيذه هذه المهمّة، أمّا الآن فمن المستحيل أن أفعل ذلك، إنّني اهتز من أعماقي، ولا أعرف السبب، أرجو منك المعذرة، فقد كنت أتصوّر أن الهدف المطلوب هو كاظم الكفائي.
سأله السيد الشهيد: كيف حدث ذلك، وكيف تم اختياركم لتنفيذ الاغتيال؟ فقال: جاء ضابط كبير من المخابرات، فجمع الضبّاط الشيعة من أهل النجف،وقال لنا: هناك عميل لإيران،وعدوّ للثورة في النجف، من منكم على استعداد لاغتياله في بيته؟ فقلت له: أنا مستعد لذلك، وحينئذ كلّفوني بهذه المهمّة، ووعدوني بمنصب كبير بعد إنجازها، وأنا الآن أتوب إلى الله ـ تعالى ـ على يدكم، وسوف انتقم منهم بكل ما يتاح لي من وسائل.
================
وجدنا في صباح يوم من الأيام جهاز الهاتف عاطلا عن العمل، وكان المتصور أن خللا بسيطا حدث فيه، وهو أمر طبيعي يحدث لكل هاتف، فاتصلنا بدائرة الهاتف، وطلبنا إصلاح العطل، هنا حاول عالم البريد والهاتف أن يعتّم علينا وهو لا شك يعمل ضمن مديريّة أمن النجف، فطلب الانتظار قليلا ليفحص خط الهاتف، وبعد دقائق أخبرنا بأن الخط بأن الخط سالم ولا عيب فيه، وإنّما الخلل في نفس هاتف المنزل، فطلب إحضاره ليقوم بإصلاحه.
إلى هذا الحد كانت الأمور طبيعيّة، ولم تحصل حالة من الشك، وبعثنا بالهاتف إليهم،ووعدنا بإصلاحه بعد ساعة أو أقل، ولكن خلال هذه الساعة تذكرت أن في المنزل هاتفا آخر فحاولت الاستفادة منه بدلا عن الهاتف العاطل، فوجدت أن هذا الجهاز لا يعمل أيضا، ما أثار الشك في تصرف دائرة البريد والهاتف.
وبعد ساعة استلمنا الهاتف، وكان من حسن الصدف أن هاتفا آخر من نفس النوع والشكل كان بحوزتنا فقمت بفتحهما معا للمقارنة بين أجهزتهما الإلكترونية، ومعرفة ما إذا كانت السلطة قد أحدثت شيئا فيه، وكان الظن أنها تحاول زرع متفجّرة لقتل السيد الشهيد، إذ لم يكن يخطر ببالنا أن توجد أجهزة إلكترونية يمكنها أن تسترق الصوت من خلال الهاتف.
وفتحت الهاتف، فوجدت فيه جهازا زرع في نقطة معينة منه،فأخبرت السيد الشهيد وبعض الأخوة من طلابه، فاطّلعوا عليه، وشاهدوا هذا الجهاز الغريب، وكنّا في حالة من الشك والريب في حقيقة، هل هو متفجّرة أو شيء آخر.
وعلى كل حال، فقد أمرني بالاحتياط، إلا أني وفي نفس اليوم استطعت أن أتأكد من حقيقة، فقد ثبت ومن خلال تجارب بسيطة أنّه جهاز لالتقاط الصوت، ويتمتّع بحسّاسية عالية جدّا.
وبعد أن تأكدنا من ذلك استدعى السيد الشهيد خاصّة طلابه والمقرّبين منه، فأطلعهم على هذا الأمر، وطلب منهم الاحتياط التام، وأن لا يتحدّثوا بشيء مهم إلا إذا أشار إليهم بأن لا محذور من ذلك.
وكان لهذا الجهاز فوائد كثيرة، فمن فوائده أنّنا استطعنا أن نستغلّه لتضليل السلطة والتعتيم عليها، فقد كنّا نضع الجهاز في غرفة السيد الشهيد التي يعقد فيها اجتماعاته الخاصّة، وكان يأتي عدد من طلابه فيجري البحث عن مسائل أصولية وفقهيّة في نفس الغرفة مع السيد الشهيد.
ومن جانب آخر كنت مع بعض الأخوة نقوم بتضليل السلطة بأسلوب آخر، وبصورة مختلفة…. وكانت السلطة تعتقد أن العمليّة غير مكشوفة حتّى أنّ المجرم (نجم) وهو من أخب عناصر الأمن في النجف استوقفني يوما في الصحن الشريف، وقال لي: إنّنا نعلم أن السيد الصدر لا يكن عداءاً للثورة، وأنت أيضا كذلك، ولكن أحذركم من بعض العناصر من أعضاء حزب الدعوة العميل الذين يتردّدون على بيت السيد الصدر… وقال: إنّنا نعلم بكل تحرّكاتكم وتصرّفاتكم…. وكان يشير بذلك إلى هذا الجهاز، وقد استنتجنا من هذه القضية أن السلطات الأمنيّة قد وقعت تحت التضليل فعلا.
ومن أضراره أنّنا لا نستطيع أخبار كل أحد بذلك، وخاصّة الزوّار والضيوف الذين يتردّدون إلى المنزل السيد الشهيد. إن الزائر يفترض بيت السيد الشهيد المكان الآمن الذي يمكنه فيه أن ينال من السلطة ومثالبها وجرائمها بكل حرية وأمان، والتحذير أو إخبارهم جميعا بذلك سيؤدي إن عاجلا أو إجلا إلى علم السلطة باكتشافنا للجهاز، الأمر الذي لم يكن السيد الشهيد يرغب فيه، فكنّا بين محذورين، ومن هنا كنا نواجه حرجا كبيرا، ومشكلة مستعصية في كيفية التعامل مع الضيوف والزوّار.
وبسبب هذا الحرج اضطررنا وبعد فترة طويلة إلى فك الجهاز من الهاتف، وتخلّصنا من هذا الرقيب المزعج، الذي كان لا يفارقنا في الليل ولا في النهار. ومن الطبيعي أن تعلم السلطة بذلك. فقطعوا الخطّ الهاتفي على أمل أن نضطرّ إلى تكرار نفس العمليّة السابقة، ولما لم يحدث ذلك جاءوا إلى المنزل وقالوا: إن في هاتفكم عطلا شل عمل خطوط المنطقة، وطلبوا إحضار الهاتف، فأتتهم الشهيدة بنت الهدى ـ وكانت هي الوحيدة المطّلعة على تلك القضية ـ وأعطتهم هاتفا آخر، فقالوا لها: إن جهازا آخر غير هذا كان عندكم!!! فقالت لهم : إن ذلك كان عارية وقد أخذها صاحبها وسافر إلى خارج العراق، فأخذوا الهاتف ونصبوا فيه جهاز آخر، وبقي هذا الجهاز حتّى استشهاد السيد الصدر.
================
قطعت السلطة التيّار الكهربائي عن بيت السيد الشهيد والبيوت المجاورة له، وعندما خرج السيد الشهيد لإلقاء بحث الخارج على طلابه في مسجد الطوسي قبل الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم، وكان المفروض أن أرافقه إلى هناك لأحضر البحث، لكنّني كنت ساعة خروجه مشغولا بإسباغ الوضوء، فتخلّف عن مرافقته وفي تلك اللحظة جاءت مجموعة من رجال الأمن بلباس عمال الكهرباء، وقالوا لخادم السيد الشهيد الحاج عباس: إن خللا في بيت السيد سبب انقطاع التيار الكهربائي في المنطقة، وطلبوا الإذن بالبحث عن مكان الخلل، فصعد أحدهم إلى الغرفة الخاصّة، فقام بفتح نقطة كهربائية، ثم وضع جهازا صغيرا فيها، ثم أوصله بالتيار الكهربائي، وأعاد غلق النقطة إلى حالته الاولى، وكنت أشاهد ما يجري من الحمام الذي كنت أتوضأ فيه وهو لا يشعر بوجودي، أمّا البقية فقد ذهبوا إلى أماكن أخرى ليموّهوا على الحاج عباس، ولم ينصبوا أجهزة فيها، وقد ثبت ذلك من فحصنا لتلك النقاط فيما بعد.
ولما خرجوا من البيت بعد أن ادعوا أنهم أصلحوا الخلل وضعت مفتاح التيّار الكهربائي (الفيوز) في حالة القطع،كي لا يتمّ جريان التيّار إلى المنزل بعد إعادته إلى المنطقة، خشية علم ذلك الجهاز الذي نصبوه في الغرفة ونحن لا نعلم عن حقيقته شيئا.
وبعد أن عاد السيد الشهيد أخبرته بما حدث، وشاهد الجهاز، فحذّرني من فتحه، ولمّا لم تكن لدينا وسيلة لمعرفة حقيقة قمت بفتحة من دون علم السيد الشهيد، فوجدت فيه قطعا إلكترونية، ولاقطة صغيرة جدا للصوت، وحينئذ أخبرته بذلك، فأمرني بإرجاعه إلى مكانه، وبإعادة التيّار الكهربائي إلى المنزل، وأيضا حذر من يجب تحذيره من المقرّبين منه، وحسبت السلطة أنّها نجحت هذه المرّة، وستحصل على أخطر المعلومات في المستقبل القريب.
ومما زاد من تأكيده هذه الحقيقة أن مدير أمن النجف زار السيد الشهيد بعد أيام قليلة من نصب الجهاز في نفس تلك الغرفة، فكان بين الحين والآخر يسترق النظر إلى نفس النقطة الكهربائية التي وضعوا فهيا جهاز الإنصات ويبتسم، وكان يظن أن العملية قد انطلت علينا.
وفي تلك الفترة أيضا حاولت مديرية أمن النجف شراء منزل قريب من بيت السيد الشهيد، وكان الهدف يتعلّق بنفس المهمّة، حيث كان المفروض أن يوضع جهاز استقبال الصوت في ذلك البيت القريب لضمان استقبال جيّد للأمواج الصوتيّة.
وكما هو الحال بالنسبة إلى جهاز الإنصات المنصوب في الهاتف فقد تعاملنا معه بحذر أيضا، قمنا بتضليل السلطة بمهارة ودقّة لدرجة خفّفت فيها من رقابتها للسيد الشهيد عن طريق عملائها الأراذل، بحيث كانت مطمئنة إلى أن أجهزتها التجسّسية تؤدي مهامها على أفضل حال.
ومما لا شك فيه أن السلطة وقت في ارتباك كبير، ففي الوقت الذي تضع على السيد الشهيد ألف علامة استفهام، تجد أن أجهزتها الإلكترونية لا ترصد إلا الأبحاث الفقهيّة والأصولية، بل لم تحصل على ما يثبت لها وجود عداء أو مخططات للسيد الشهيد ضدّها، وهو أمر لا يقتنع به الوجدان ، وهذه الحيرة حيرة قاتلة بالنسبة لهم، خاصّة وأن فترة المراقبة والرصد قد طالت ولكن من دون نتائج مهمّة.
================
قام السيد الشهيد بعد أن بلغه نبأ انتصاره الثورة الإسلامية في إيران بإعلان التعطيل لدروسه ابتهاجا وفرحا بذلك الحدث التاريخي العظيم، وتحدّث في البحث الذي أعلن فيه التعطل عن ضرورة دعمها وإسنادها ووجوب الوقوف معها في السّراء والضرّاء.
وهذا الموقف هو الوحي الذي وقفه مرجع كبير من مراجع النجف، وبهذه الصراحة في تلك الفترة الحرجة والقاسية في ظل حزب البعث الحاكم.
================
أراد السيد الشهيد أن يحرّك الساحة باتّجاه إيجاد تأييد شعبي عامّ وشامل، فدعا بعض أنصاره إلى تنظيم تظاهره شعبيّة لتأييد الثورة الإسلامية في إيران، وإظهار الابتهاج بانتصاره، فهرع الشباب المؤمن فخرجوا بتظاهرة من جامع الخضراء بعد صلاة المغرب والعشاء، ورفع المتظاهرون فيها صور السيد الشهيد والسيد الإمام وهي المرّة الاولى التي يحدث فيها مثل ذلك في العراق.
================
كتب السيد الشهيد رسالة إلى طلاّبه الذين هاجروا إلى الجمهورية الإسلامية في إيران،دعاهم فيها إلى بذل كل الطاقات والإمكانات لخدمة الثورة، وأكّد لهم فيها ضرورة الالتفات حول مرجعيّة السيد الخميني والعمل على إسنادها ودعمها. وتعتبر هذه الرسالة من أروع مواقف الدعم والتأييد، وهذا نصّ الرسالة.
بسم الله الرحمن الرحيم
أولادي وأعزائي حفظكم الله بعينه التي لا تنام
السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته.
أكتب إليكم في هذه اللحظات العظيمة التي حقق فيها الإسلام نصرا حاسما وفريدا في تاريخنا الحديث على يد الشعب الإيراني المسلم، وبقيادة الإمام الخميني وتعاضد سائر القوى الخيّرة والعلماء الأعلام، وإذا بالحلم يصبح حقيقة، وإذا بالأمل يتحقٌّق، وإذا بالأفكار تنطلق بركانا على الظالمين، لتجسّد وتقيم دولة الحقّ والإسلام على الأرض، وإذا بالإسلام الذي حبسه الظالمون والمستعمرون في قمقم، يكسر القمقم بسواعد إيرانيّة فتية لا ترهب الموت، ولم يثن عزيمتها إرهاب الطواغيت، ثم ينطلق من القمقم ليزلزل الأرض تحت أقدام كل الظالمين، ويبعث في نفوس المسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها روحا جديدة وأملا جديدا.
إن الواجب على كل واحد منكم، وعلى كل فرد قدّر له حظه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلامية الرائدة أن يبذل كل طاقاته، وكل ما لديه من إمكانات وخدمات، ويضع ذلك كله في خدمة التجربة، فلا توقّف في البذل والبناء يشاد لأجل الإسلام، ولا حد للبذل والقضية ترتفع رايتها بقوة الإسلام، وعملية البناء الجديد بحاجة إلى طاقات كل فرد مهما كانت ضئيلة.
ويجب أن يكون واضحا أيضا أن مرجعيّة السيد الخميني التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم لابد من الالتفات حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم، وليست المرجعيّة الصالحة شخصا، وإنّما هي هدف وطريق، وكل مرجعيّة حقّقت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعيّة الصالحة التي يجب العمل لها بكل إخلاص.
والميدان المرجعي أو الساحة المرجعية في إيران يجب الابتعاد بها عن أي شيء من شأنه أن يضعف أو لا يساهم في الحفاظ على المرجعيّة الرشيدة القائدة.
أخذ الله بيدكم، وأقرّ عيونك بفرحة النصر، وحفظكم سندا وذخرا. والسلام عليكم يا أحبّتي ورحمة الله وبركاته.
================
في الفترة التي عمل فيها أعداء الثورة الإسلامية في إيران على إثارة القلاقل والفتن، وتحريض عرب إيران على التمّرد والعصيان، وجّه رسالة إليهم دعاهم فيها إلى نبذ الفكر الجاهلي والقومي، وطلب منهم الالتفات حول قيادة الإمام الخميني وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
شعبنا العربي المسلم العزيز في إيران المجاهد.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإنّي أخاطبكم باسم الإسلام، وأدعوكم وسائر شعوب إيران العظيمة لتجسيد روح الأخوّة الإسلاميّة، التي ضربت في التاريخ مثلا اعلى في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتّقين، الذي لا فضل فيه لمسلم على مسلم إلا بالتقوى، مجتمع عمّار بن ياسر، وسلمان الفارسيّ، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، مجتمع القلوب العامرة بالفكر والإيمان، المتجاوزة كل حدود الأرض المفتوحة باسم السماء ورسالة السماء.
فلتتوحّد القلوب، ولتنصهر كل الطاقات في إطار القيادة الحكيمة للإمام الخميني، وفي طرق بناء المجتمع الإسلام العظيم الذي يحمل مشعل القرآن الكريم إلى العالم كلّه.
والسلام عليكم ورحمة وبركاته
محمد باقر الصدر
النجف الأشرف 16 رجب
================
من أهم صور دعم السيد الشهيد و إسناده للثورة الإسلامية في إيران كتابة حلقات (الإسلام يقود الحياة). وكان سبب تأليفه أنّه رأى أن بعض القوى التي برزت على الساحة الإسلامية في إيران بعد انتصار الثورة كانت تشكّل خطرا كبيرا على الثورةـ وقد ثبت ذلك فيما بعد بما قدمت به حركة مجاهدي خلق المنحرفة ـ فكان مهتمّا بهذا الأمر.
وقال في تلك الفترة: لأجل تجاوز هذا الخطر يجب أن تطرح رسالة الإمام (توضيح المسائل) كشعار يرفعه كل إيراني، ويطالب بتطبيقها.
ومن الطبيعي أن هذا العمل سيفرز القوى المنحرفة، ويعزلها عن الساحة، لأن المنافق لا يطالب بتطبيق رسالة (توضيح المسائل) التي تمثّل أحكام القرآن والشريعة الإسلامية المقدّسة.
وقد بادر إلى كتابة سلسلة (الإسلام يقود الحياة) لإعطاء تصورّات عامّة وبسيطة عن موقف الإسلام من مختلف القضايا الحياتيّة، والجوانب الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ونظام الحكم وغير ذلك. وقد بعث العدد الأوّل من سلسلة الإسلام يقود الحياة (لمحة فقهيّة) إلى أحد تلامذته المخلصين وهو سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيد محمد الغروي (حفظه الله) إذ كان قد أخبره بأنّه عازم على الذهاب إلى إيران ضمن وفد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان للتهنئة بمناسبة انتصار الثورة فطلب منه السيد الشهيد طباعة هذا العدد وتقديم عدّة نسخ منه إلى المسؤولين في إيران، وقام سماحة السيد الغروي بتقديم نسخة منه إلى مكتب الإمام الراحل ونسخة إلى الشهيد السيد البهشتي وإلى عدد من المسؤولين في أجهزة الدولة العليا في ذلك الوقت.
وقد طاب السيد الشهيد ترجمة هذه الكراسات إلى اللغة الفارسيّة ليتسنّى للجميع معرفة تصورّات عامّة عن هذه الجوانب الحيويّة من الإسلام.
وكن يقول: إن القادة الكرام في إيران مشغولون بالكثير من المشاكل والقضايا التي تتعلّق بحفظ الأمن واستتابه، وتركيز قواعد الثورة، وممّا لا شك لفيه أن ملء الجوانب الفكريّة لا يتيسّر لهم في الوقت الحاضر، فكان الواجب أن نمدّ يد العون والمساندة لهم، ولو بهذا الجهد البسيط، وكان مصمما على كتابة أفكار حلقات (الإسلام يقود الحياة) بتفصيل واستيعاب أشم لولا أن عاجلته يد الإجرام العفلقيّة، فحرمتنا من ذلك.
================
بعث السيد الشهيد سماحة السيد الهاشمي إلى إيران ليكون ممثّلا له ، ومنسّقا مع القيادة الإسلاميّة في إيران.
وقد حرص السيد الشهيد على أن يتم هذا الأمر بسرّية تامّة، وإن كانت هذه السرّية سوف لا تطول؛ لأن سماحة السيد الهاشمي من أبرز طلاب السيد الشهيد والمقرّبين منه، وهو مراقب من قبل السلطة، وسوف تعرف ـ ولو بعد حين ـ بسفره إلى إيران وتمثيله للسيد الشهيد فيها.
كان هذا العمل قد جعل السلطة في حالة من التوجّس والقلق عمّا سوف يجري في المستقبل، إذ أنّها تعلم أن السيد الهاشمي شخصيّة كبيرة وخطيرة، وليس منطقيا أن يكون سفره بلا هدف كبير وخطير، ولهذا السبب كثّفت السلطة من رقابتها للسيد الشهيد بشكل لم يسبق له نظير.
برقية الإمام:
ولم يمض وقت طويل على مغادرة سماحة السيد الهاشمي إلى إيران حتّى بثّت وسائل الإعلام في جمهورية إيران الإسلاميّة ومنها إذاعة طهران القسم العربي برقية وجّهها الإمام الراحل إلى السيد الشهيد ونصّها كالتالي:
بسمه تعالى
سماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد محمد باقر الصدر دامت بركاته.
علمنا أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث، إنّني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلامية وإنّني قلق من هذا الأمر، آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
روح الله الموسوي الخميني
وقد أجاب السيد الشهيد على برقية السيد الإمام بالبرقية التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيد روح الله الخميني دام ظلّه.
تلقّيت برقيّتكم الكريمة التي جسدت ابوّتكم ورعايتكم الروحيّة للنجف الأشرف، الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة، وإنّي أستمد من توجيهكم الشريف نفحة روحيّة، كما أشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الأشرف.
وأودّ أن اعبّر لكم بهذه المناسبة عن تحيّات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز، الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد عيى يدكم ضوءا هاديا للعالم كلّه، وطاقة روحيّة لضرت المستعمر الكافر، والاستعمار الأمريكي خاصّة، ولتحرير العالم من كل أشكاله الإجراميّة، وفي مقدّمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدّسة فلسطين.
ونسأل المولى أن يمتّعنا بدوام وجودكم الغالي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الخامس من رجب 1399 هـ النجف الاشرف
محمد باقر الصدر
والحقيقة أن السيد الشهيد لم يستلم برقية السيد الإمام إذ أنّها احتجزت لدى السلطة،وإنّما سمعها بعد أن سجّلتها له على شريط الكاسيت عندما أذيعت من إذاعة طهران القسم العربي.
وكان في وقتها قد طلب منّ تكرار سماع البرقية المسجّلة عليه، فكان يستمع إليها بدقّة ثم طلب السيد الشهيد أن نتّصل بسماحة السيد الهاشمي ونستفسر عن هذا الأمر، وعن مقصود السيد الإمام الحقيقي من ذلك حيث إن السيد الشهيد لم يكن عازما في واقع الأمر على مغادرة العراق، بل لم يفكر بذلك مطلقا، فهل هناك شيء فرض أن تكون صياغة البرقية بهذا الشكل والسيد الشهيد لا يعلم؟ وكان هذا الاحتمال أقوى المحتملات التي تتعلّق بهذا الموضوع.
لقد أجرينا عدّة اتصالات هاتفية كان السيد الشهيد حاضرا بعضها، أو لعل معظمها، وإن لم يكن هو المتحدّث، نستفسر عن حقيقة البرقية، والهدف منها.
ولكن ـ للأسف ـ لم تثمر تلك الاتصالات شيئا، ولم يتحقّق السيد الشهيد من هذه القضية، ولم يعرف الأسباب والدوافع حتّى اليوم الذي استشهد فيه.
================
كان السيد الشهيد يعلم أن قطاعات كبيرة من أبناء الشعب قد استمعت لبرقية الإمام السيد الخميني، وقد أقلقها أن يغادر الشهيد العراق، ويترك الجماهير من دون قائد يرعاهم وهم في أمسّ الحاجة إليه، وفي أخطر وأهمّ مرحلة من مراحل التحرّك الإسلامي وكانت أعداد كبيرة من المؤمنين تتوافد إلى النجف، تسأل عن هذا الأمر، وهل حقا سيغادر السيد الشهيد العراق؟
من هنا بدأت فكرة مجيء وفود البيعة تبرز إلى السطح وتتبلور في ذلك الاجتماع وهل هو عمل يناسب هذه المرحلة أم لا؟ فكان الرأي قد انتهى إلى أن نبدأ بهذه الخطوة مهما كانت النتائج، وكان هدف السيد الشهيد أن يبدأ مرحلة جديدة من المواجهة مع السلطة، ويضع من خلال ذلك الشعب العراقي في طريق الصراع المباشر من النظام، ومواصلة الطريق حتى تحقيق الهدف المنشود بإقامة حكم الإسلام في العراق، حتى لو كان الثمن هو دم السيد الشهيد نفسه.
وكنت قلقا جدا من نتائج ذلك الاجتماع، ومتوجّسا من العواقب التي سينتهي إليها التحرك، لأني أعلم أن السلطة العملية لا تتحمّل أقل من هذا العمل لو صدر من السيد الشهيد، فكيف لو حدث أن جاءت وفود كبيرة، وقد قلت للسيد الشهيد بعد أن انفضّ الاجتماع: إن هذا يعني أنكم قد صمّمتم على الاستشهاد في سبيل الله تعالى في وقت تكون الأمة فيه بأمس الحاجة إليكم؟ فقال: هل تريد إقامة حكومة إسلاميّة في العراق؟ قلت: نعم، فقال:
(إني أرى أن طريقها هذا، أن استشهد لتستثمر الجماهير دمي، المهمّ أن أعمل ما أعتقد أنّ يخدم الإسلام حتّى لو كان ثمنه حياتي ولا أفكر بنصر سريع.).
================
تقاطرت وفود البيعة، وهي تضم قطاعات واسعة وكبيرة من أبناء الأمة، وخاصة الشباب المثّقف منهم، يطالبون السيد الشهيد بالبقاء معهم، وعدم مغادرة العراق.
وكان السيد الشهيد يستقبل الوفود طوال النهار وشطرا من الليل، بروح من التفاعل والتجاوب، بخلق محمدي رفيع رغم المشاكل الصحيّة التي كان يعاني منها.
================
كانت معظم الوفود النسائية تلتقي بشهيدنا الصدر في منزل العائلة، إلا وفدا كانت تقوده المجاهدة الشهيدة سلوى البحراني، فقد التقى بالسيد الشهيد في البراني الخاص بالرجال، وطالبين بالبيعة، كما كان في زمن رسول الله، فأحضرنا إناء كبيرا مملوءا بالماء، فوضع السيد الشهيد يده فيه، ثم قامت كل واحدة منهن بوضع يدها فيها، وبايعنه على الشهادة.
وقد ألقي فيهنّ كلمة قيّمة نحتفظ بتسجيلها على شريط الكاسيت هذا نصّها:
بسم الله الرحمن الرحيم
المشاعر التي أحس بها في قلبي اتجاهكم، اتجاه البنات من أمثالكم، مشاعر لاحد لها، إحساس بمسؤوليتكن في العصر الحاضر كبير جدا.
يا بنات فاطمة الزهراء..
أنتن المثل الأعلى لمرأة اليوم….اليوم أنتم تقدمون المثل الأعلى للمرأة التي تحمل بإحدى يدها إسلامه، ودينها وقيمها، ومثلها، وحجابها، وإصرارها على شخصيّتها الأصيلة القويّة الشريفة النظيفة التي حفظها الإسلام لها، وتحمل بيدها الأخرى العلم والثقافة، لكن لا هذه الثقافة التي أرادها المستعمرون لنا منذ أن دخل المستعمرون عالمنا الإسلامي قبل ستين سنة، أرادوا أن يقنعوا شبابنا وشابّاتنا بأن الثقافة عبارة عن لون من المجون.. عبارة عن ألوان السفور والاختلاط… عبارة عن السعي وراء الشهوات والنزوات..
عبارة عن الابتعاد عن المسجد، وعن الإسلام، وعن المرجع، وعن الصلاة…قالوا لشبابنا وشاباتنا بأن الإنسان التقدّمي، والإنسان التقدّمية المثقّفة هي من تقطع صلتها بهذه الأمور وتنغمس إلى رأسها في الشهوات والملذّات…
هكذا أراد المستعمرون منذ ستّين سنة أن يسرّبوا إلى نفوس بناتنا الطاهرات، وفي نفوس شبابنا الزاكين هذا المفهوم الخاطئ للتقدميّة وللثقافة.
أنتن يا بنات الزهراء تقع عليكن مسؤولية أن تعرّفوا العالم أن الثقافة والعلم الحقيقي يحمل مع الإيمان، يحمل مع الدين، يحمل مع رسالة السماء كما حملتها فاطمة الزهراء….
أمّكنّ العظيمة فاطمة الزهراء كانت مثلا أعلى في الإسلام، في الجهاد عن الإسلام… في الصبر على محن الإسلام… كانت مع أبيها في كل شدائده، في كل محنه… كانت تخرج معه في الحروب، كانت تواسي جروحه، كانت تلملم محنه،كانت دائما إلى جنبه، كان يستمدّ منها سلوة في اللحظات العصيبة، كان يستمدّ منها طاقة في لحظات صعبة جدّا، كانت امرأة مسلمة مجاهدة بكل معنى.
هذا من جانب، ومن جانب آخر أن فاطمة الزهراء كانت امرأة عالمة، وكانت المثل الأعلى في العلم والثقافة، لكن لا هذه الثقافة التي أرادها المستعمرون لنا، لا ثقافة المجون والسفور، لا ثقافة الاختلاط والتميّع، لا ثقافة التحلّل، وإنّما الثقافة الحقيقة،
انطلقت فاطمة الزهراء….انطلقت إلى مسجد أبيها حينما اقتضى منها الواجب ان تخرج إلى مسجد أبيها، وخطبت تلك الخطبة العظيمة التي لا يقدر عليها الكبار من العلماء ….. كانت البلاغة والفصاحة والحكمة تتدفقّ من كلماتها كما يتدفّق السيل من البحر، وكان عمرها الشريف أقل من عشرين سنة، لكنّها علّمت العلماء علّمت الحكماء، ضربت المثل الأعلى الذي لم تصل إليه حتّى الآن المرأة الأوروبية.
هذه فاطمة الزهراء التي استطاعت ان تثبت في تاريخ الإسلام أن العلم يجتمع مع الدين وأن الثقافة توأم مع الإيمان بالله، ومع التمسّك بالحجاب، ومع التمسّك بشعائر الدين.
أنتن حملن رسالة فاطمة الزهراء….
أنتن من سوف يعرف العالم عن طريقكن أن العلم يجب أن يكون إلى جانب الإيمان، وأنه ليس من العلم في شيء السفور، وليس من الثقافة في شيء الاختلاط والتحلّل.
إن المرأة يمكن أن تصل إلى أعلى مدارج الكمال والرقي في كل الميادين، من دون أن تتنازل عن قيمة من قيمها الإسلاميّة، وعن شيء من تراثها، ومن رسالة ربّها رب العالمين.
الأوروبيين حاولوا أن يثنوكم، وعليكم أنتم أن تفهموا العالم كله أنّهم على خطأ وأنكم على حق.
نسأل الله أن يوفّقكم جميعا إن شاء الله ويرعاكم بعينه)
================
لقد رأى السيد الشهيد أن الجماهير ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها السلطة لمسخ هويّتها وإرادتها وكرامتها لازالت حيّة تستجيب لنداء الحق، متى ما وجدت القيادة الرشيدة والواعية، وهذا هو الذي زرع الأمل في قلبه، وقد سمعته يقول:
(من كان يظن أن الجماهير ستستجيب إلى هذا الحد، وتتوافد إلى النجف الأشرف تطلب منّي أن أبقى معها، أو تعلن عن بيعتها على الموت في سبيل الله تعالى، في مثل هذه الظروف الأمنيّة القاسية؟ إن هؤلاء جميعا يعلمون أن ثمن مجيئهم الإعدام، أو السجن على أحسن التقادير ومع ذلك فقد تحدّوا الموت وجاءوا، إن هذا هو النصر المبين.)
وحقّا إن ما حدث كان شيئا عظيما، بل كان ثورة جماهيريّة عارمة، وقد قال مدير أمن النجف في أول لقاء له بالسيد الشهيد في فترة الحجز:(سيدنا، إن ما حدث كان ثورة كادت أن تنجح لولا حزم القيادة!).
كما أن السيد على بدر الدين أخبر السيد الشهيد أن أحد أعضاء مجلس قيادة الثورةـ لا أتذكر اسمه ـ قال له: (إن السيد محمد باقر الصدر قاد ثورة ضدّنا ، ومن الآن سوف نتعامل معه على هذا الأساس)، وأخبره أيضا: أن القيادة السياسيّة والعسكريّة كانت مجتمعة ومتأهبة طيلة تلك الفترة، وهي في حالة إنذار قصوى.
================
كتب السيد الشهيد البيان الأوّل الذي وجّهه إلى الشعب العراقي، وهذا نصّه:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين.
أيّها الشعب العراقي المسلم…إنّي أخاطبك أيّها الشعب الأبيّ وأنا أشدّ الناس إيمانا بك، وبروحك الكبيرة. وبتاريخك المجيد، وأكثرهم اعتزازا بما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحب والولاء، والبنوّة للمرجعيّة، إذ تدفّقوا إلى أبيهم يؤكّدون ولاءهم للإسلام بنفوس ملؤها الغيرة والحمية والتقوى، يطلبون منّي أن أطلّ إلى جانبهم أواسيهم،وأعيش آلامهم عن قرب لأنّها آلامي.
وإنّي أودّ أن اُأكّد لك ـ يا شعب آبائي وأجدادي ـ أني معك، وفي أعماقك، ولن أتخلّي عنك في محنتك، وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك.
وأود أن اُأكد للمسؤولين: أن هذا الكبت الذي فرض بقوّة الحديد والنار على الشعب العراقي فحرمه من أبسط حقوقه وحرّياته في ممارسة شعائره الدينيّة لا يمن أن يستمر، ولا يمكن أن يعالج دائما بالقوّة والقمع.
إن القوة لو كانت علاجا حاسما دائما لبقي الفراعنة والجبابرة.
اسقطوا الأذان من الإذاعة فصبرنا..
واسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا….
وطوّقوا شعائر الإمام الحسين عليه السلام ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا..وحاصروا المساجد وملأوها (أمنا) فصبرنا، وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إلى حزبهم فصبرنا، وقالوا إنّها فترة انتقال يجب تجنيد الشعب فيها صبرنا، ولكن إلى متى؟ إلى متى تستمرّ فترة الانتقال؟ إذا كانت فترة عشرة سنين من الحكم لا تكفي لإيجاد الجوّ المناسب لكي يختار الشعب العراقي طريقه، فأيّ فترة تنتظرون لذلك؟
وإذا كانت فترة عشر سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم ـ أيّها المسؤولون ـ إقناع الناس بالانتماء إلى حزبكم إلا عن طريق الإكراه، فماذا تأملون؟
وإذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجمّد أجهزتها القمعيّة أسبوعا واحدا فقط، ولتسمح للناس بأن يعبّروا خلال أسبوع عمّا يريدون.
إنّي أطالب باسمكم جميعا.. أطالب بإطلاق حريّة الشعائر الدينيّة، وشعائر الإمام أبي عبد الله الحسين.
وأطالب باسمكم جميعا بإعادة الأذان وصلاة الجمعة، والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة.
وأطالب باسمكم جميعا بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث على كل المستويات.
وأطالب باسم كرامة الإنسان بالإفراج عن المعتقلين بصرة تعسّفية، وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء.
وأخيرا أطالب باسمكم جميعا باسم القيم التي تمثّلونها بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقيّة حقّه في تسيير شؤون البلاد، وذلك عن طريق إجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس يمثّل الأمة تمثيلا صادقا.
وإنّي أعلم أن هذه الطلبات سوف تكلّفني غاليا، وقد تكلّفني حياتي … ولكن هذه الطلبات ليست طلب فرد لتموت بموته، وإنّما هذه الطلبات هي مشاعر أمة وإرادة أمة، ولا يمكن أن تموت أمة تعيش في أعماقها روح محمّد، وعلي، والصفوة من آل محمّد وأصحابه.
وإذا لم تستجب السلطة لهذه الطلبات، فإنّي أدعو أبناء الشعب العراقي الأبيّ إلى المواصلة في حمل هذه الطلبات مهما كلّفه ذلك من ثمن، لأنّ هذا دفاع عن النفس، وعن الكرامة، وعن الإسلام، رسالة الله الخالدة، والله ولي التوفيق.
20 رجب 1399 هـ
محمد باقر الصدر
================
كان هدف السلطة من اعتقال السيد الشهيد في يوم (17 )رجب هو تنفيذ حكم الإعدام فيه، ولما فشلت في تحقق ذلك اضطرت إلى اتخاذ إجراء آخر تمثّل بفرض الإقامة الجبريّة (الحجز) عليه، فبعد ساعات قليلة من عودة السيد الشهيد إلى النجف، أتّصل المجرم مدير الأمن العام ومدير الشعبة الخامسة المعروف بزهير ـ أبو أسماء ـ ليبلّغ بقرار الحجز، وقال : لا يحقّ للسيد الصدر الخروج من المنزل، ولا يحق لأحد الدخول عليه.
تطويق المنزل:
ثم طوّقت أجهزة الأمن منزل السيد الشهيد من كل الجهات، ومنع الناس من المرور من الزقاق الذي قع فيه، وضيّقوا الخناق على المنطقة كلّها، كما وضعوا جهازا للمراقبة فوق بناية مطلّة على منزل السيد الشهيد والمنطقة لتصوير ما قد يحدث، وكانت تعمل ليل ونهار.
وهكذا بدأ الحجز الذي استمرّ تسعة أشهر، وانتهى بالشهادة.
ورافق ذلك أن السلطة منعت الحاج عباس ـ خادم السيد الشهيد ـ من دخول المنزل، وهو الذي كان يوفّر ما تحتاجه عائلة السيد الشهيد من مواد غذائيّة قبل الحجز، وكان الهدف من ذلك هو قتل السيد الشهيد وعائلته جوعا.
وبسبب هذه المحاصرة الجائرة اضطررنا إلى الاستفادة من الخبز اليابس الذي لا يصلح للأكل، وكن يوما أتغذي مع السيد الشهيد من هذا الطعام، فلمّح في وجهي علامات التأثّر، وكن في نفسي أقول: سبحان الله: أن نائب المعصوم يأكل من هذا الفتات بينما يأكل الطغاة ما لذ وطاب! فقال لي:
(أن هذا الطعام ألذ طعام ذقته في حياتي؛ لأنّه في سبيل الله ومن أجل الله).
وكلما مرّت الأيّام كان تشتدّ المحنة على السيد الشهيد سيّما من الناحية العاطفيّة، فإنّ كان يحسّ بحرج كبير وهو يرى أطفاله جياعا، وأمّه المريضة المقعدة تطلب الدواء ولا دواء، وكان يقول لي:
(سيموت هؤلاء جوعا بسببي، ولكن ما دام ذلك يخدم الإسلام فأنا سعيد به، ومستعد لما هو أعظم منه).
================
كانت أول عملية اقتحام لفكّ الحصار الغذائي عن السيد الشهيد قام بها سماحة العلامة السيد مير حسن أبو طبيخ، وكان موقفا شجاعا وبارّا، فقد هيأ كمّية من المواد الغذائية، وجاء إلى الزقاق الذي يقع فيه منزل السيد الشهيد بعد أن سمحت السلطة للناس بالمرور عبره متظاهرا بالمرور منه إلى جهة شارع الإمام زين العابدين، ولمّا وصل إلى الباب طرقه فهرعت الشهيدة بنت الهدى لتعرف ماذا حدث، فسمعت السيد مير حسن أبو طبيخ يقول لقوّات الأمن التي حاولت منعه:
(الآن أذهب معكم إلى حيث تريدون، هل تريدون قتل الأطفال جوعا وعطشا؟).
وعندها فتحت الشهيدة الباب لأنّها كانت تعرف صوته، فألقى زنبيلين من المواد الغذائية، وأغلق الباب.
ولم تنجح خطّة الحصار الغذائي بعد أن انتشر خبرها، وشاع بين الناس، فقد واجهت السلطة ضغطا لا من المرجعيّة، ولا من الحوزة، بل من الشباب وعامّة المؤمنين الذي ملأوا الجدران بالشعارات، وبالمناشير التي توزّع بسريّة، وتندّد بالحصار الغذائي مما اضطر السلطة إلى فك الحصار، فسمحت للحاج عباس بإيصال الغذاء يوميّا ولكن في ظل رقابتها، وكان شرطي الأمن يرافقه كظلّه في السوق، ولا يسمح له بالكلام مع عائلة السيد الشهيد، فكان يستلم ورقة صغيرة كتبت عليها احتياجات العائلة من المواد الغذائية فيقوم بشرائها تحت إشراف الأمن، وهكذا استمرّ الحال لفترة طويلة.
================
بدأت لنا أوّل صلة بخارج البيت في اليوم الأخير من شهر شعبان حينما صعدت إلى سطح المنزل، ووقفت في زاوية منه بحيث لا تراني أجهزة المراقبة ولا عيون الأمن مترقّبا هلال شهر رمضان المبارك، فرأيت سماحة الأخ حجة الإسلام والمسلمين السيد عبد العزيز الحكيم، وكان هو أيضا قد صعد إلى السطح مترصّد الهلال.
وبما أن المسافة بعيدة ـ نسبيا ـ بين دار السيد الشهيد وداره، كان تفاهمنا عبارة عن إشارات باليد، بعضها كانت مفهومة والأخرى غير مفهومة، ولكن الشيء الذي اتّفقنا عليه من خلال الإشارات أن نلتقي في اليوم التالي في نفس الوقت.
وهكذا بدأت لنا أول صلة بالعالم من خلال هذا الطريق بعد عزلة تامّة استمرّت ما يقرب من خمسين يوما.
وفي اليوم الثاني صعدت إلى السطح، فرأيته من بعيد يشير إليّ بإشارات، وأنا أيضا اُقابله بإشارات مماثلة حاولت من خلالها أن أفهم ما يقول وافهمه بما اريد، ولكن من دون نتيجة تذكر، حيث لم يفهم بعضنا مراد البعض عبر الإشارات فاتّفقنا على موعد آخر.
وفي اليوم الذي بعده كتب عبارات على قطعة من الكارتون استطعت أن أقرأ بعضها، وعجزت عن قراءة البعض الآخر، وكان هذه المحاولة بداية التوصل إلى الأسلوب المناسب للتخاطب، فبعد ذلك كنت أكتب ما يريده السيد الشهيد؛ على (صينية الطعام) بخط كبير ـ وقد يستدعي ذلك عدّة صواني وأقوم بعرضها الواحدة بع الأخرى على حسب تسلسل كلمات الجملة، فاقدّم الاولى ثم الثانية وهكذا حتى تتمّة الجملة، وهو يقرأها بواسطة الناظور المقرّب (الدوربين) ويفهم ما نريد إيصاله إليه، وهكذا نحن نقرأ ما كان يكتبه لنا، ويتمّ التفاهم بيننا بهذا الأسلوب.
وكنّا فيما بعد نتّفق على أكثر من موعد في اليوم حسب ما تقتضيه الظروف، وقد يحدث أن يتم الاتّصال من دون موعد في بعض الأحيان.
وبهذه الطريقة استطاع السيد الشهيد أن يكون على اطّلاع كامل على الأوضاع، ومن خلاله كانت تصل توجيهاته وتعليماته إلى المجاهدين والمؤمنين.
================
بعثت السلطة الدكتور ضياء العبيدي من دون طلب سابق بحجّة إجراء فحوصات للسيد الشهيد، والكشف عن وضعه الصحّي، فقالت له الشهيدة بنت الهدى: أن صحّة السيد بخير، ولا يحتاج إلى طبيب، فأصر على السيدة الشهيدة وقال: إن السلطة سمحت لي بذلك، وهي أيضا أصرت على عدم وجود ضرورة لذلك، ولم تسمح له بدخول البيت، ولا ندري ما هو الهدف الحقيقي من هذه المبادرة!!!
وإذا كان لنا الحق في أن نشك في كل أعمال السلطة على ضوء ما نعرف عنها من خبث وحق،فأن ما حث قد يكون محاولة لاغتيال السيد الشهيد.
================
بعثت السلطة إحدى النساء لمعرفة ما يجري في داخل بيت السيد الشهيد.
طرقت الباب: ففتحت لها الشهيدة بنت الهدى الباب، ومن دون استئذان دخلت وقال: إني أرغب بزيارتكم.
فقالت لها الشهيدة: وكيف حصلت على الإذن من السلطة بزيارتنا؟
فقالت: لا يحتاج ذلك إلى الإذن.
الشهيدة: ورجال الأمن الذين يطوّقون بيتنا لم يمنعوك من ذلك؟!
قالت : كلا.
كان الانطباع الأوّلي أن تكون المرأة كغيرها من النساء أو الرجال الذي لم يكونوا على اطلاع كامل عن الأوضاع فجاءوا لزيارتنا السيد الشهيد أو عائلته وهم في الحجز فالقي القبض عليهم،إلا أن السيدة الشهيدة لاحظت أن هذا الوجه غريب، بل لم تكن المرأة هذه تعرف من المتحدّثة معها أيضا، هل هي بنت الهدى أو أم جعفر، ثم إن هذه التضحية الكبيرة ـ وهي الزيارة العلنية في هذا الظرف العصيب ـ التي لم يجرأ عليها اقرب المقرّبين من السيد الشهيد، أو الشهيدة بنت الهدى باعثة على الاستفهام والاستغراب… وما هي إلا دقائق معدودة حتى كشفت هذه المجرمة عن هويّتها، من خلال الأسئلة التي كانت تطرحها. واستمرّت هذه المجرمة تتردّد على منزل السيد الشهيد بين الحين والآخر حتّى نهاية الحجز.
================
حاول سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيد محمود دعائي سفير جمهوريّة إيران الإسلامية في بغداد زيارة السيد الشهيد وهو في الحجز.
حدث ذلك حينما كنت أنظر إلى الزقاق من فتحة أحدثها كسر صغير في زجاجة النافذة التي تطل عليه، فشاهدت السيد الدعائي يقترب من منزل السيد الشهيد، فذهبت بسرعة ووقفت خلف الباب لأستمع للحديث الذي سيدور بينه وبين قوّات الأمن التي تطوّق المنزل.
حاول سماحته أن يدقّ الجرس، فقال له أحدهم: سيدنا، إن السيد الصدر غير موجود.
السيد الدعائي: أنا أعلم أن السيد في بيته.
(الأمن): السيد ذهب إلى الكاظمية، أو سامراء للزيارة ـ والترديد منّي ـ …
وجرى بينهم حديث آخر يدور حول نفس الموضوع، كان بعضه يصل إلى مسامعي، والبعض الآخر لا يصل، ولم يتمكّن من زيارة السيد الشهيد.
بعد محاولة سماحة السيد الدعائي زيارة السيد الشهيد شدّدت السلطة من إجراءاتها الأمنية، ومراقبتها للمنزل وللزقاق، وكان بعض أفراد الأمن المجرمين يصيح بصوت عال ليسمع السيد الشهيد، أو عائلته عبارات مثل (عملاء إيران مصيرهم الإعدام)، أو (انكشفت الحقائق، وتبيّنت العمالة) وأمثال ذلك.
================
كتب السيد الشهيد البيان الثاني وهذا نصّه:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين.
يا شعبي العراق العزيز…
يا جماهير العراق المسلمة التي غضبت لدينها وكرامتها ولحرّيتها وعزّتها، ولك ما آمنت به من قيم ومثل…أيها الشعب العظيم:
أنّك تتعرّض اليوم لمحنة هائلة، على يد السفّاكين والجزّارين الذين هالهم غضب الشعب، وتململ الجماهير، بعد أن قيّدوها بسلاسل من الحديد، ومن الرعب والإرهاب، وخيّل للسفّاكين أنّهم بذلك انتزعوا من الجماهير شعورها بالعزّة والكرامة، وجرّدوها من صلتها بعقيدتها وبدينها، وبمحمّدها العظيم، لكي يحوّلوا هذه الملايين الشجاعة المؤمنة من أبناء العراق الأبي إلى دمى وآلات يحرّكونها كيف يشاؤون، ويزقّونه ولاء عفلق وأمثاله من عملاء التبشير والاستعمار بدلا من ولاء محمّد وعلي صلوات الله عليهما.
ولكن الجماهير دائما هي أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة، وقد تصبر ولكنها لا تستسلم، وهكذا فوجئ الطغاة بان الشعب لا يزال ينبض بالحياة، ولا تزال له القدرة على ان يقول كلمته، وهذا هو الذي جعلهم يبادرون إلى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الآلاف من المؤمنين والشرفاء من أبناء هذا البلد الكريم، حملات السجن والاعتقال والتعذيب والإعدام، وفي طليعتهم العلماء المجاهدين، الذي يبلغني أنّهم يستشهدون الواحد بعد الآخر تحت سياط تعذيب.
وإنّي في الوقت الذي اُدرك فيه عمق هذه المحنة التي تمر بك يا شعبي، يا شعب آبائي وأجدادي أؤمن بأنّ استشهاد هؤلاء العلماء، واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين، وأبنائك الغيارى تحت سياط العفالقة لن يزيدك إلا صمودا وتصميما على المضي في هذا الطريق، حتّى الشهادة أو النصر.
وأنا أعلن ـ يا أبنائي أنّ صمّمت على الشهادة،ولعل هذا آخر ما تسمعونه منّي ، وإن أبواب الجنة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء، حتّى يكتب الله لكم النصر.
وما ألذ الشهادة التي قال عنها رسول الله : إنها حسنة لا تضر معها سيئة، والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت.
فعلى كل مسلم في العراق ، وعلى كل عراقي في خارج العراق، أن يعمل كل ما بوسعه ـ ولو كلّفه ذلك حياته ـ من أجل إدامة الجهاد والنضال، لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب، وتحريره من العصابة اللاإنسانيّة، وتوفير حكم صالح فذ شريف، يقوم على أساس الإسلام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
10 شعبان 1399 هـ
محمّد باقر الصدر
================
عندما تسلم صدّام السلطة قام بدعوة إفطار لمجموعة من العلماء أكثرهم من علماء إخواننا السنة وبعض الأفراد من علماء الشيعة منهم السيد حسين السيد إسماعيل الصدر وقد رفض الاستجابة لهذه الدعوة فاعتقل، وفي مديرية الأمن صعدوا به إلى مقصلة الإعدام إن لم يستجب لحضور دعوة الإفطار، فاضطرّ لقبول ذلك، وفي هذه الدعوة سلّم صدّام على السيد حسين وسأله عن السيد الصدر سؤالا عابرا وكان سلام وسؤال عزّت الدوري أوسع، وهنا طلبوا منه أن يتدخّل لفك الحصار وتسوية الصراع، ولم يكن من خيار أمامه إلاّ القبول، وكان النظام قد أطلق سراح بعض السجناء وهم أكثر من مائتين كإبداء لحسن النيّة في عهد الطاغية الأسود، وعلى أثر ذلك وبعد عيد الفطر المبارك اتصل مدير أمن النجف وطلب من الشهيدة بنت الهدى الإذن لزيارة السيد الشهيد، فقالت له: إن السيد نائم، ولا يمكن أن أتحدّث مه، فقال لها: سوف اتصل بكم بعد ساعة.
وخلال هذه الساعة جرى حديث بنا حول الموقف المناسب تجاه هذا الطلب، وكان موقف السيد الشهيد الرفض أوّلا على أساس أن الزيارة قد تمتصّ همم وغضب العاملين، أو من كان يعتق أنّ مهتم بأمر احتجاز السيد الشهيد، وكان يريد أن يجعل عملية الاحتجاز قضيّة كبيرة توجّج الروح الثوريّة لدى الناس، وتدفعهم إلى مواصلة الجهاد، ومن ناحية ثانية كان السيد الشهيد بحاجة إلى معرفة المستجدّات في موقف السلطة، ليتمكّن على ضوء ذلك من معرفة ما يجب أن يفعله. وبما أن زيارة مدير الأمن ستكون شبه سريّة، ولن تنعكس إلا على نطاق محدود من الناس، فقد وافق على أن تتم بعد الظهر، حيث يقل تردد الناس في زقاق المنزل إلى حد كبير.
وبعد ساعة اتصل مدير أمن النجف فقالت له الشهيدة: لا مانع من ذلك على أن تكون الزيارة بعد الظهر.
وبعد الظهر جاء مدير أمن النجف، والتقى بالسيد الشهيد، وجرى بينهما الحوار التالي:
مدير الأمن: سيّدنا أنا آسف على أن أزوركم في هذه الظروف، وكنّا نرغب في أن لا يحدث هذا الوضع.
السيد الشهيد: أي وضع؟
مدير الأمن: الاحتجاز.
السيد الشهيد: أنا راض بهذا الوضع، ولست متضايقا منه.
مدير الأمن: نحن غير راضين به،ونتمنّى أن ينتهي بسرعة، وتعود الحياة إلى طبيعتها.
السيد الشهيد: إذا كان هذا الوضع غير طبيعي فأنتم سببه.
مدير الأمن: سيّدنا أنت لا تعلم بما حدث ـ في رجب ـ، لقد كانت ثورة حقيقية كادت أن تنجح لولا حزم القيادة. إنّنا لم نواجه حدثا كهذا ثورة 17 تموز وحتّى ذلك، اليوم، إن الأوضاع كانت خطيرة، جدا وإلى الآن توزّع المناشير، وتكتب الشعارات على الجدران التي تحرّض الناس علينا.
ثم قال: نحن نعلم أن ظروفكم غير طبيعيّة، وقد تكون بحاجة إلى المال، نحن بخدمتكم لأي مقدار تحتاجون إليه.
السيد الشهيد: لست محتاجا إلى المال.
مدير الأمن: هل من خدمة أقدمها لكم؟
السيد الشهيد: أطلقوا سراح المعتقلين، فإن هؤلاء لا ذنب لهم.
مدير الأمن: سأنقل طلبكم إلى الجهات المختصّة.
هذا بعض ما جرى في تلك الزيارة.
ومن المؤكد أن السيد الشهيد قد حصل على كل ما كان يريد، وتأكد له أن الحجز يمكن أن يكون قضيّة كبيرة تستثمر لخدمة الإسلام،وعلى هذا الأساس تشدّد في اللقاءات الأخرى في موقفه من فك الحجز.
================
بعد مضي شهر واحد تقريبا من لقاء مدير أمن النجف بالسيد الشهيد بعثت السلطة الشيخ عيسى الخاقاني بمهمّة خاصة.
وقبل أن نعرف طبيعة هذه المهمّة يجب أن نشير إلى حقيقة مهمّة، وهي أن الشيخ الخاقاني لا يرتبط بأي شكل من العلاقات بالسيد الشهيد، فليس هو من تلاميذه، ولا من وكلائه، كما أن الشيخ المذكور يعتبر من أعداء الثورة الإسلاميّة في إيران، وكان له دور كبير في تأجيج الفتن في المنطقة العربية من خوزستان.
والحقيقة أن السيد الشهيد استغرب كثيرا حينما اتّصل الشيخ الخاقاني هاتفيا، وطلب الإذن بزيارته، وكان الاحتمال الأقرب الذي تبادر إلى أذهاننا قبل أن نلتقي بالسيد الشهيد هو أن ضغطا حصل من قبل الشيعة في دول الخليج على السلطة البعثيّة مما أجبرها على السماح لممثّل لهم يزور السيد الشهيد ليطمئن على صحّته وسلامته، أمّا أن يأتي على أساس أنه ممثّل أو مبعوث للسلطة، فهو أمر لم يكن محتملا لدينا.
التقى الشيخ الخاقاني بالسيد الشهيد، وكان يرافقه شخص آخر، لم نعرفه بشكل دقيق ومن المحتمل أن يكون من أقاربه.
وبدأ الخاقاني حديثه مخاطبا السيد الشهيد بخجل مفتعل، فقال: لقد جئت إلى خدمتكم لأجل حل هذه المشكلة، وإعادة الأمور إلى طبيعتها.
السيد الشهيد: ومن كلّفك بهذه المهمّة؟
الخاقاني: القيادة.
السيد الشهي: ماذا تقصد بالقيادة؟
الخاقاني: رئيس الجمهورية والمسؤولين.
السيد الشهيد: الأزمة سبّبتها الدولة، إنّها لا تتحمّل فوتوغرافية وفود لم يرفعوا شعارا ضدها ولم يهدّدوا الأمن، إن كل وفد منها كان يأتي ويجلس معي عشرة دقائق يطلب منّي أن لا اغادر العراق، ثم يعود بكل هدوء إلى بلده، هل هذا العمل يعتبر جريمة أو تهديدا للسلطة؟
الخاقاني: كلا، فالحكومة لا تعتبر ذلك جريمة، وإنّي أودّ أن أطلعكم بأن المسؤولين قالوا لي: أبلغ السيد الصدر أن بإمكانه أن يفتح بابه، ويستقبل أي أحد يرغب بزيارته، أو يخرج إلى أي مكان شاء ويمارس حياته الطبيعيّة.
السيد الشهيد: إنّ حياتي طبيعيّة، وأنا سعيد للوضع الذي أنا فيه، ولا حاجة إلى ذلك كلّه.
بعد ذلك كشف الشيخ عيسى الخاقاني عن المهمّة الحقيقيّة التي بعثوه من أجلها، فقال: سيّدنا تعلمون أن الحوزة العلمية بحاجة إلى تغيير وبناء جديد، وبحاجة إلى دعم وإسناد.
السيد الشهيد: نعم، إنّها بحاجة إلى ذلك.
الخاقاني: وخاصّة الحوزة العلمية العربيّة، إنّها بحاجة إلى بناء جديد، ولا أحد يستطيع أن يفعل ذلك غيركم، وأنا مستعد لتنفيذ كل أوامركم بهذا الشأن.
السيد الشهيد: الحوزة العلميّة في النجف الأشرف كيان واحد لا يتجزأن ليس لدينا حوزة عربية وأخرى فارسيّة، وثالثة أفغانيّة، بل لدينا حوزة فيها العربي، والفارسيّ، والأفغاني، والباكستاني، ومن مختلف القوميات.
الخاقاني: ولكن يا سيدي سيطر على الحوزة، فمعظم المراجع منهم.
السيد الشهيد: الأجواء في الحوزة العلمية حرّة، وكل ما يثبت لياقة وجدارة يتقدّم، ولا يمنعه من ذلك أحد.
الخاقاني:هل تعلم ـ يا سيدي ـ ماذا فعل العجم بالعرب في خوزستان، لقد قتلوا شبابهم، وهتكوا أعراضهم، وسلبوا أموالهم، لقد وقف الخميني ضدّ العرب، أذلّهم وسحق كرامتهم.
السيد الشهيد: أن لا أسمح لك أن تتكلّم بهذا، إنّ السيد الخميني مرجع عادل لا يفرق بين عربيّ وأعجمي كان هنا في النجف يمنح المرتب الشهري للعرب والعجم، لا يفرّق بين أحد منهم. وإذا كان الغرض من مجيئك إلى هنا هو هذا فلست مستعدا لمواصلة الحديث.
الخاقاني: معذرة، لم يكن الهدف هذا، وإنّما كان الهدف تطوير الحوزة، وفي أثناء ذلك أحببت أن أخبركم بأنّ أحداثا مؤلمة وقعت لعرب خوزستان.
السيد الشهيد: عرب خوزستان يعيشون في ظل دولة إسلامية، لهم ما لغيرهم، وعليهم ما على غيرهم، ولا احبّ أن يتكررّ هذا الكلام مرّة أخرى.
انتهى هذا اللقاء، ومن الواضح أن هدف السلطة كان تحريك الحس القومي، واستغلاله لإيجاد فاصلة كبيرة بين النجف والثورة الإسلامية.
================
جاء الشيخ عيسى الخاقاني مرّة أخرى، وقال للسيد الشهيد: إن هذه هي الفرصة الوحيدة التي يمكن أن تستفيدوا منها لحل هذه الأزمة، إنّنا بحاجة إلى حوزة ومرجعيّة عربيّة، والسلطة مستعدّة لتقديم كافّة المساعدات، كالرواتب للطلبة، والإعفاء من الخدمة العسكريّة، وقد بحثت مع المسؤولين كافّة التفاصيل.
فأجابه السيد الشهيد: بأن الحوزة والمرجعيّة ليست بحاجة إلى مساعدة أحد، الحوزة قائمة بنفسها، وإمام العصر يرعاها، وأنا لست مستعدّا لقبول أي عرض ممّا تقول.
================
من المحاولات التي جرت أثناء فترة الحجز محاولة قام بها المرحوم السيد علي بدر الدين، فمن خلال علاقاته الواسعة بالمسؤولين في السلطة،وخاصّة القياديين منهم طلب أن يتوسّط لديهم لحلّ الأزمة بينهم وبين السيد الشهيد، وكان يتصوّر أن بإمكانه ذلك.
وحينما علم السيد الشهيد أن السيد على بدر الدين سوف يأتي لهذه المهمّة استرّ لذلك؛ لأنّه يعلم أن السيد بدر الدين على اطّلاع كبير بما يجري خلف الكواليس، ولن يتردد في الكشف عن كل مخطّطات السلطة تجاه هذه القضية، وأنّ ما سوف يكشف عنه على بدر الدين سيكون له تأثير كبير على تخطيط السيد الشهيد.
وبعد مكالمة هاتفيّة استأذن فيها لزيارة السيد الشهيد جاء وجلس في الغرفة الخاصّة باستقبال الضيوف لوحدهن وكنت في مكان بحيث يمكنني أن أستمع لما يجري فيها من حديث، فسمعته يقول: إلهي بحق محمد وآل محمد وفّقني لحلّ هذه المشكلة وإنقاذ السيد الصدر.
بعد ذلك حضر السيد الشهيد، فسأله عن موقف السلطة،وبماذا تفكّر؟
فقال: لقد سمعت منهم كلاما خطيرا، وأنا قلق جدا من ذلك، إن ما يستفزّهم جدا ويغيظهم ويثير فيهم الحقد عليكم هو تأييدكم للثورة الإسلامية في إيران، لابد من إيجاد حل لهذه القضية.
السيد الشهيد: وماذا يريدون؟
السيد بدر الدين: يريدون شيئا من التأييد لهم، أو التراجع عن موقفكم من تأييد الثورة الإسلامية في إيران بشكل مناسب.
السيد الشهيد: وإذا لم أفعل؟
السيد بدر الدين: والله ـ يا سيّدي ـ إنّهم يفكّرون بإعدامكم، والتخلّص منكم، لا حديث لهم إلا هذا ، ولا هم لهم إلا التفكير في كيفيّة تنفيذه، إن هؤلاء قساة لا رحمة في قلوبهم، إني أرجوك ـ يا سيّدي ـ أن تفكر ولو بقليل من التنازل لإنقاذ حياتك، إن استشهادك خسارة كبيرة.
السيد الشهيد: كيف ينظرون لما حدث في رجب، وما أعقبه من أحداث؟
السيد بدر الدين: إنّهم في قلق وخوف دائمين،إنّهم يخشون من تصاعد الأحداث وتطوّرها، إنّهم يعتبرون ما حدث في رجب ثورة لم تنجح، وخوفهم من تكرر ذلك.
السيد الشهيد: لا أتنازل أبدا، وموقفي ثابت، وإذا كان هؤلاء يفكّرون بإعدامي، فأنا مستعد لذلك.
السيد بدر الدين: سيّدي، هل من أمل ولو ضعيف؟
السيد الشهيد: أبدا.
وبكى السيد علي بدر الدين بكاءا شديدا، ثم قال: إنّني سأترك العراق، وأسافر إلى لبنان، أنا لا اريد أن أبقى هنا وأشاهد جنازتكم.
وكان هذا آخر لقاء له بالسيد الشهيد، وبعدها غادر إلى لبنان، وبعد مضيّ فترة من الزمن قامت المخابرات العراقيّة باغتياله هناك.
================
كان السيد الشهيد يعتقد أن قضيّة الاحتجاز سوف تستثمر من قبل المهتمين بأمر العمل الاسلامي، وكان يتوقع أن يسمع أخبارا تسرّه، فليس منطقيّا أن يتقدّم القائد إلى الإمام ويبقى المقاتلون في مواضعهم ينظرون إلى أشلائه تقطع بأيدي أعدائه، وليس من المتوقّع أن يحتجز السيد الشهيد وفي خارج العراق الكثير من فرص العمل الإعلامية، والسياسيّة ، والجهاديّة التي يمكن أن تسخّر لخدمة القضيّة.
كنّا نتابع الإعلام ليلا ونهارا عسى أن نستمع لحدث، أو قضيّة تخصّ قضيّتنا، وكنّا نقول: هل يعقل أن أحدا لم يخطط لاختطاف طائره، أو اقتحام سفارة، أو اغتيال مسؤول قيادي في السلطة يتجوّل في دول العالم بهدف إلفات نظر العالم إلى هذه القضيّة الكبيرة مثلا؟ إن ذلك غير محتمل على إطلاق.
إلا أن السيد الشهيد فوجئ بأنّه وبدلا من أن يستمع لإخبار من هذا القبيل أخذ البعض يطالبه من خلال الهاتف المراقب وهو في الحجز بأن يجيب على برقيات لبعض العلماء الأعلام ما زاد من غضب السلطة وحقدها عليه بسبب ذلك! كما أنّه لم يحدث شيء مما كان يتوقّعه. فلا طائره تختطف، ولا سفارة تقتحم، بل برقيات وأخبرا لا طائل من ورائها غير إلحاق الأذى بالسيد الشهيد.
وحاول أن يطّلع على الحقيقة كاملة، فأرسل رسالة إلى أحد الأشخاص في خارج العراق وكان قد كتبها على شكل أسئلة لتكون الإجابة دقيقة، وركّز في معظم أسئلتها على مثل هذه القضايا.
ولمّا جاء الجواب ـ على بعض الأسئلة ـ أصيب بخيبة الأمل، وبدأ بتغيير تصوّراته وخططه في العمل، وقال في حينها:
(إنه لو قدّر للسلطة أن ترفع الحجز عنّي من دون قيد أو شرط، وأعود إلى حياتي ووضعي الطبيعي، فسوف أعتمد في العمل على أمثال (أصحاب الرسالة)، إن هؤلاء أسخى الله تعالى بدمائهم من أجل الإسلام والقيادة الإسلامية، وسأبذل معظم الحقوق الشرعيّة على تربيتهم، إن الإسلام اليوم بحاجة إلى المضحّين الفدائيين، إن واحدا من هؤلاء يستطيع بعمل تضحوي ما أن يغيّر وضعا قائما كان يبدو من المستحيل تغييره، ولا يستعد أن يفعل بعض ذلك من بذلنا الكثير من أجله).
وعلى هذا الأساس فكّر بإعادة النظر في كل الأمة وقد كتب بعض ذلك بخطّه.
================
جاء مدير أمن النجف مرة أخرى، وكانت مهمّته تتلخّص بما يلي:
1 – محاولة الحصول على شيء بسيط من التنازل، فقد قال للسيد الشهيد: إن السلطة تشعر أن كرامتها أهينت، وأن أبسط تجاوب منكم سوف ينهي الأزمة.
ورفض أن يتجاوب مع هذا المقترح وقال له: لم يصدر منيّ شيء من هذا القبيل، إن هذه افتراضات تفترضونها، وأنا على كل حال لا أشعر بالضيق من الوضع الحالي.
2 – أخبره بأن السلطات تسمح للعائلة بالخروج من البيت وللأطفال بالذهاب إلى المدارس، كما تسمح بزيارة بعض الأرحام لكم.
هذا أهمّ فقرات تلك الزيارة.
وكان السماح بالخروج من البيت أهمّ فرصة للشهيدة بنت الهدى للعمل رغم مراقبة قوّات الأمن لها، من لحظة خروجها وإلى لحظة عودتها، وقد تحدثنا عن ذلك فيما سبق.
================
كان المرجع الوحيد الذي بادر لزيارة السيد الشهيد هو المرحوم آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري، فقد جاء متحديّا السلطة، ومحييّا بطولة السيد الشهيد وصبره وتضحيته، فكان موقفه موقف مشكورا، عبّر من خلاله عن موقف العالم الربّاني الذي لا يخشى في الله لومة لائم، وعندما خرج من البيت السيد الشهيد ألقت قوّات الأمن القبض عليه، وحاولت اقتياده إلى مديريّة أمن النجف، فقال لهم: إن واجبي أن أزور السيد الصدر، وأنا مستعد لتحمل مسؤوليّة ذلك، اذهبوا بي إلى حيث تشاؤون.
وبادر أيضا الكثير من العلماء والطلبة إلى زيارة السيد الشهيد، وامتنع الأكثر، ومع ذلك أوشكت الأمور أن تعود إلى حالتها الطبيعيّة، ويصبح رفع الحجز حقيقة واقعة بمعنى الكلمة، وتعجز السلطة حينها عن اتّخاذ أي رد فعل ضد السيد الشهيد ولحقّقت المرجعيّة والحوزة ـ أيضا ـ قوّة ومكانة، ولما تعرّضت للذلّ والهوان فيما بعد.
بعد تل المؤشّرات قال لي:
(إن السلطة ستعود إلى فرض الحجز)
وهكذا كان ، فبعد أيّام قليلة أعادت كل الإجراءات الإرهابيّة، وفرضت الإقامة الجبريّة بشدّة بالغة، ووحشيّة لا نطير لها إلى درجة اضطرّ خادم السيد الشهيد الحاج عباس إلى ترك العمل، والانقطاع عنّا ، وعادت حالة الفاقة من جديد بشدّة، وأوشكنا على مجاعة حقيقيّة، لولا أن بادر بعض الاخوة إلى إقناع الحاج عباس بالعودة إلى العمل مرّة أخرى فعادت الأمور إلى ما كانت عليه وكان السيد الشهيد يقول:
(ليس من حقّنا أن نكلّف الحاج عباس أكثر من طاقته، إن الرجل كان يتحمّل مسؤوليته خدمة الضيوف وشراء احتياجات المنزل، أمّا أن يشاركنا المحنة إلى هذا الحدّ فهو أمر فوق طاقته، وخارج عن واجبه، ونحن لا نتوقّع ذلك منه).
================
كنت قد تحدّثت مع السيد الشهيد عن فكرة الخروج من العراق، وطرق تنفيذ ذلك وكان الأخ السيد عبد العزيز الحكيم، يخطّط أيضا لتنفيذ هذه الفكرة، وكانت رغبتنا قوية في تحقيق ذلك، وخاصة وأنّني تمكّنت من الخروج من البيت أكثر من مرّة بسبب ضرورات ومسائل مهمّة كان لابدّ لي من تنفيذها حسب أوامر السيد الشهيد، وكما يقال ، فأن الوقوع دليل الإمكان، فلماذا إذن لا نحقّق ذلك للسيد الشهيد، وننقذه من مخالب الطغاة المجرمين؟
وكان بعض المؤمنين قد خطّط لعمليات إنقاذ أخرى، منها أنّه فكّر بحفر نفق يتّصل بمنزل السيد الشهيد وإنقاذه من خلاله.
كما أن سماحة السيد محمود الدعائي كان قد هيّأ للسيد جوازا للسفر، وآخر لي على أمل أن يستفيد من فك الحجز المؤقّت للخروج من العراق بواسطة جواز.
إلا أن السيد الشهيد كان قليل الاهتمام بهذه الخطوات، وكان يعتقد أن خياره الوحيد هو الاستشهاد، فلم يتجاوب مع هذه المبادرات، وكنت حينما أطرح عليه هذا الموضوع يسعى جهد الإمكان إلى طرح موضوع آخر.
================
كتب السيد الشهيد البيان الثالث والأخير، وهذا نصّه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الميامين.
يا شعبي العراقي العزيز…
أيّها الشعب العظيم…
إنّي أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك، وحياتك الجهاديّة، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وأكرادك، بسنّتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخصّ مذهبا دون آخر، ولا قوميّة دون أخرى، وكما أن المحنة هي محنة كل الشعب العراقي، فيجب أن يكون الموقف الجهادي، والردّ البطولي، والتلاحم النضالي هو واقع كل الشعب العراقي.
وإنّي منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمّة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسنّي على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حين دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعا، وعن العقيدة التي تضمّهم جميعا، ولم أعض بفكري وكياني إلا الإسلام طريق الخلاص، وهدف الجميع.
فأنا معك يا أخي وولدي السنّي بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام، وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلّط والذلّ والاضطهاد.
إنّ الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبناء البررة من السنّة: أن المسألة مسألة شيعة وسنّة، ليفصلوا السنّة عن معركتهم الحقيقيّة ضدّ العدوّ المشترك.
وأريد أن أقولها لكم ـ يا أبناء علي والحسين وأبناء أبي بكر وعمرـ : إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السنّي، إنّ الحكم السنّي الذي مثّله الخلفاء الراشدون، والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل علي السيف للدفاع عنه، إذ حارب جنديّا في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الأوّل (أبي بكر) وكلّنا نحارب عن راية الإسلام، وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي.
إن الحكم السنّي الذي كان يحمل راية الإسلام، قد أفتى علماء الشيعة ـ قبل نصف قرن ـ بوجوب الجهاد من أجله، وخرج مئات الآلاف من الشيعة، وبذلوا دمهم رخيصا من أجل الحفاظ على راية الإسلام ومن أجل حماية الحكم السنّي الذي كان يقوم على أساس الإسلام.
إن الحكم الواقع اليوم ليس حكما سنّيا، وإن كانت الفئة المتسلّطة تنتسب تاريخيّا إلى التسنّن، إن الحكم السنّي لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنّيين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر الذي تحدّاه طواغيت الحكم في العراق في كلّ تصرّفاته، فهم ينتهكون حرمة الإسلام، وحرمة علي وعمر معا في كل يوم، وفي كل خطوة من خطواتهم الإجراميّة.
ألا ترون يا أولادي وإخواني أنّهم أسقطوا الشعائر الدينيّة التي دافع عنها علي وعمر معا.
ألا ترون أنّهم ملأوا البلاد بالخمور وحقول الخنازير، وكل وسائل المجون والفساد التي حاربها علي وعمر معا.
ألا ترون أنّهم يمارسون أشدّ ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب، ويزدادون يوما بعد يوم حقدا على الشعب، وتفنّنا في امتهان كرامته، والانفصال عنه، والاعتصام ضدّه في مقاصيرهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات، بينما كان على وعم يعيشان مع الناس، وللناس، وفي وسط الناس، ومع آلامهم وآمالهم.
ألا ترون إلى احتكار هؤلاء للسلطة احتكارا عسكريّا عشائريّا، يسبغون عليه طابع الحزب زورا وبهتانا.
وسدّ هؤلاء أبواب التقدّم أمام كل جماهير الشعب سوى أواسيهم الذين رضوا لأنفسهم بالذلّ والخنوع، وباعوا كرامتهم وتحوّلوا إلى عبيد أذلا.
إنّ هؤلاء المتسلّطين قد امتهنوا باسمكم كرامة حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث عملوا من أجل تحويله من حزب عقائدي إلى عصابة تطلب الانضمام إليها والانتساب لها بالقوّة والإكراه، وإلا فأي حزب حقيقي يحترم نفسه في العالم يفرض الانتساب إليه بالقوّة؟!
إنّهم أحسّوا بالخوف حتّى من الحزب العربي الاشتراكي نفسه الذي يدّعون تمثيله، أحسّوا بالخوف منه إذا بقي حزبا حقيقيّا له قواعده التي تبنيه، ولهذا أرادوا أن يهدموا قواعده لتحويله إلى تجميع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب، ليفقد أي مضمون حقيقي له.
يا أخوتي وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة، من أبناء بغداد وكربلاء والنجف، من أبناء سامّراء والكاظميّة، من أبناء العمارة والكوت والسليمانيّة؟ من أبناء العراق في كل مكان، إني أعاهدكم بأني لكم جميعا، ومن أجلكم جميعا، وأنكم جميعا هدفي في الحاضر والمستقبل، فلتتوحّد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلّطة، وبناء عراق حرّ كريم، تغمره عدالة الإسلام، وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنين جميعا على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم بأنهم إخوة، يساهمون جميعا في قيادة بلدهم وبناء وطنهم، وتحقيق مثلهم الإسلاميّة العليا المستمدّة من رسالتنا الإسلاميّة، وفجر تاريخنا العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد باقر الصدر
النجف الأشرف
================
في الفترة الأخيرة من أيّام الحجز كان السيد الشهيد مهتما بقضيّة ملء الفراغ الذي سيحدث بعد استشهادهن فمن سيواصل المسيرة؟ ومن سيقود الثورة؟ ومن يستثمر دمه الطاهر لخدمة الإسلام؟
ولم تكن الخيارات المتاحة له كثيرة؛ وذلك لأن التجربة المرّة أثبتت أن الساحة تفتقر إلى القيادة الرشيدة التي ستستثمر دمه وتواصل المسيرة بحكمة وشجاعة، وخاصّة ساحة المرجعيّة والحوزة التي لم تكن مهتمّة إلا بحياتها الروتينية وأعرافها وأوضاعها الخاصّة، وما تجربة الحجز إلا شاهد حي على صحّة تلك الرؤية إذ لم يتحرّك أحد ممن كان يفترض أنّه سيتحرّك، وهكذا فليس متوقّعا أن تستثمر المرجعيّة أو الحوزة دمه الزكي في حال استشهاده، فكان لابد من عمل ما يكفل قيادة الثورة من ناحية، والاستفادة من دم السيد الشهيد إلى أقصى حدّ في خدمة القضيّة الإسلاميّة من ناحية أخرى.
وعلى هذا الأساس جاءت فكرة القيادة النائبة كخيار اضطراري لابد منه، وكان تخطيطه أن تواصل القيادة النائبة قيادة الثورة وبيدها أعظم محفّز لتحريك الجماهير واستثارتهم، وهو دم السيد الشهيد.
وكانت الخطوط العامّة لفكرة القيادة النائبة كما يلي:
1 – اختار السيد الشهيد ـ مبدأيّا ـ أربعة أشخاص من أجلّة العلماء، ليكونوا القيادة النائبة التي كان من المفروض أن يعلن عن أسمائهم للامّة.
2 – وضع قائمة بأسماء أشخاص آخرين ـ لعل عددهم أكثر من عشرة ـ يكون من حق القيادة الرباعيّة انتخاب من تشاء منهم، للانضمام إليها فيما إذا اقتضت المصلحة ذلك، أو اقتضى توسّع إضافة أشخاص آخرين لها، حسب نظام كان قد كتبه.
3 – أن يكتب السيد الشهيد رسالة مفصّلة إلى الإمام الراحل السيد الخميني؛ يشرح له فها فكرة القيادة النائبة، ويبيّن له تفاصيلها، ويطلب منه الاهتمام بالقيادة النائبة، وإسنادها بكل ما يمكن.
4 – تسجيل بيان بصوت السيد الشهيد موجّه إلى الشعب العراقي يوصيه فيه بوجوب الالتفات حول القيادة وإسنادها، وإطاعتها، والعمل بتوجيهاتها.
5 – كتابة بيان مفصّل حول نفس الموضوع موقّع من قبله.
6 – أن يخرج السيد الشهيد إلى الصحن الشريف في الوقت الذي يكن فيه مملوءا بالناس، وهو الفترة الواقعة بين صلاة المغرب والعشاء، وهناك يلقي خطابا على المصليّن، يعلن فيه عن أسماء أعضاء القيادة النائبة، ويطلب من الناس إطاعتهم، والسير تحت رايتهم.
وقال لي:
(سوف أظل أتكلّم وأتهجم على السلطة، واندّد بجرائمها، وأدعو الناس إلى الثورة عليها إلى أن تضطرّ قوّات الأمن إلى قتلي في الصحن الشريف أمام الناس، وأرجو أن يكون هذا الحادث محفزا لكل مؤمن وزائر يدخل الصحن الشريف، لأنّه سيرى المكان الذي سوف اقتل فيه فيقول: (ها هنا قتل الصدر، وهو أثر لا تستطيع السلطة المجرمة محوه من ذاكرة العراقيين).
وكان قد أمرني أن أخرج من البيت، وأشتري قطعة سلاح ـ وهي المرّة الثانية التي خرجت فيها ـ ، وتمكّنت بمساعدة أحد الاخوة الطلبة أن أوفر له ذلك، وآتي به إلى البيت.
ثم قال لي:(هل أنت مستعد لتشاركني الشهادة؟)
فقلت : نعم إن شاء الله.
فقال: إذا نخرج معا، فإذا حاولت قوّات الأمن منعي من الذهاب إلى الصحن فحاول إطلاق النار عليهم، لكي يتاح لي الوصول إليه.
وكان المفروض ـ كشرط ضروري لتنفيذ الفكرة وضمان نجاحها ـ أن يكون كافّة أعضاء القيادة الرباعيّة في خارج العراق، لأن الإعلان عن أسمائهم وهم في داخله يعني ـ على أقل الاحتمالات ـ قيام السلطة باعتقالهم إن لم يكن إعدامهم. وعلى هذا الأساس عرض فكرة مشروع القيادة النائب على أحدهم، وبعد نقاش للمشروع وشكل اشتراكه في اعتذر عن الاشتراك.
وفشل مشروع القيادة النائبة، وأصابت السيد الشهيد، خيبة أمل قاتلة، وهم دائم، فتدهورت صحّته، وأصيب بانهيار صحّي، وضعف بدني، باسمكم كان لا يقوى على صعود السلّم إلا بالاستعانة بي، وظهرت على وجهه علامات وحالات لا أعرف كيف أعبّرها عنها.
قلت لسماحته: سيّدي لماذا هذا الهمّ والحزن والاضطراب..؟
فقال: لقد تبدّدت كل التضحيات والآمال، أنت تعرف أنّني سوف لن أتنازل للعفالقة، وسوف اقتل… أنا لا اريد أن اقتل في الزنزانات ـ وإن كان ذلك شهادة مقدّسة في سبيل الله ـ بل اريد أن اقتل أمام الناس، ليحرّكهم مشهد قتلي، ويستثيرهم دمي، هل تراني أملك شيئا غير سلاح الدم، وها أنذا قد فقدته، إن قتلني هؤلاء فسوف لن يفلحوا بعدي، ولن ينتصروا.
================
اتصّل فاضل البرّاك مدير الأمن العام بالسيد الصدر، وقال له: إن القيادة ستبعث لكم اليوم ممثّلا لها ليبحث معكم كافّة القضايا، وأرجو أن تكون النتائج طيّبة وإيجابيّة.
وبعد ساعة واحدة جاء (المبعوث) محاطا بعدد من قوّات الحماية، وطلب من الشهيدة بنت الهدى الإذن بلقاء السيد الشهيد، وكان مؤدّبا حسن المعاملة والتصرّف قياسا بغيره من المسؤولين.
دخل إلى البيت بعد أن طلب من حمايته البقاء خارج المنزل، ومنعت قوّات الأمن التي تطوّق منزل السيد الشهيد المرور من الزقاق، بما في ذلك السكّان الذين تقع دورهم فيه.
التقى هذا الشخص بالسيد الشهيد وعرّف نفسه بأنّه مبعوث خاص من قل رئاسة الجمهوريّة، ومخوّل من قبلها، وكنّى نفسه بأبي علي.
وبدأ خطوته بمجاملة حارّة! وقال: يصعب على السيد الرئيس وعلينا هذا الوضع الذي لم نكن نرغب فيه، ولم نكن نتمنّى لكم هذا الوضع، وأرجو أن نتوفّق لحل هذه المشكلة، فأنت عربي منّا، ومفكّر إسلامي كبير.
السيد الشهيد: إذا كنت تقصد الحجز فأنا لست متضايقا منه.
المبعوث: لا أعني الحجز وحده، بل الحالة غير الطبيعيّة بيننا… ثم قال سيّدنا، إنّني مخول من قبل القيادة لبحث كل القضايا والمشاكل، وإن شاء الله سنتوصّل إلى حلّ في هذا اليوم يرضي الطرفين، وتعود الأمور إلى طبيعتها، بل وتحدث بيننا محبّه وصداقة.
السيد الشهيد: تفضّل.
المبعوث: سيّدنا، إنّ ما حدث ـ في رجب ـ كان تحدّيا للدولة، وقد أهينت كرامتها، وهتكت حرمتها، إن مسؤوليّة ذلك تقع عليكم، وأحبّ أن أخبركم أن القيادة لم تتسامح مع أحدـ بما في ذلك رفاق قياديين في حزب البعث ـ كما تسامحت معكم، إن من أصعب الأمور بالنسبة لنا هو كيفيّة التعامل معكم، إن هذا من الأمور المعقّدة بالنسبة للقيادة، إن ما صدر منكم مما لا يمكن للقيادة تحمّله.
السيد الشهيد: وما الذي صدر منّي؟
المبعوث: أشياء كثيرة، العلاقة بإيران، وفرد المعارضة للسلطة، تحريم الانتماء لحزب البعث.
السيد الشهيد: علاقتي بإيران لا تتجاوز علاقتي بالسيد الخميني، وهي علاقة العالم بالعلم، وأمّا تأييد الثورة الإسلاميّة فهو موقف ينسجم مع موقف السلطة، فأنتم أيضا أيّدتم الثورة الإسلاميّة.
المبعوث: ولكن يجب أن يكون ذلك بموافقتنا، ومشورتنا، وما سوى ذلك يعتبر تحدّيا لنا، وليس من حق أيّ مواطن أن يقيم علاقة بدولة، إنّنا نعتبر ذلك عمالة للأجنبي، وعلى كل حال فلأجل حل هذه المشاكل وضعت القيادة شروطا، فإن استجبتم لها فسوف تنتهي هذه الأزمة وتعيش معززا مكرّما.
السيد الشهيد: وما هي الشروط؟
المبعوث:
1 – عدم تأييد الثورة الإسلاميّة في إيران، والاعتذار عمّا صدر منكم من مواقف بهذا الخصوص من خلال بيان يصدر منكم.
2 – وأن يتضمّن البيان شجبا صريحا للوفود التي جاءت لتأييدكم في رجب.
3 – أن تصدر فتوى خطّية تعلن فيها حرمة الانتماء لحزب البعث.
4 – التخلّي عن فتواكم حول حرمة الانتماء لحزب البعث.
5 – إصدار بيان تؤيّد فيه السلطة ولوفي بعض منجزاتها كتأميم النفط، أو منح الأكراد الحكم الذاتي، أو محو الامّية.
السيد الشهيد: وإذا لم أستجب لهذه المطالب؟
المبعوث: الإعدام.
السيد الشهيد: تفضّل، أنا الآن مستعدّ للذهاب معك إلى بغداد لتنفيذ حكم الإعدام.
قال لي السيد الشهيد حينما سمع جوابي بقي متحيّرا مذهولا، تارة ينظر إليّ، وتارة يطرق برأسه إلى الأرض، وتغيّر لونه وكأنّه تفاجأ بالجواب، ثم التفت إليّ وقال: ل هذا هو الجواب الأخير؟
السيد الشهيد: نعم، لا جواب آخر عندي.
المبعوث: ألا تفكر بالأمر؟
السيد الشهيد: لا فائدة.
وانتهى اللقاء، ولكنه جاء في يوم آخر بمشروع جديد، كان يعتقد أن السيد الشهيد سيقبل به لما يحمل من إغراءات كبيرة، فقال المبعوث: سيّدنا، إنّ السيد الرئيس يعدكم في حال قبولكم بهذه الشروط بما يلي:
1 – سيقوم بزيارتكم، وتغطّى الزيارة من خلال وسائل الإعلام، ومنها التلفزيون.
2 – في خلال الزيارة سيقدّم السيد الرئيس صدّام حسين سيّارته الشخصيّة هدية لكم، وهذا أعلى مراتب التكريم والحفاوة، ولكي تطمئنّوا إلى صحّة نوايانا فسوف لا نطلب منكم نشر البيان قبل أن تشاهدوا ذلك من التلفزيون.
3 – تكون أوامركم وطلباتكم نافذة في دوائر الدولة، وبهذا نكون قد بدأنا صفحة جديدة من الصداقة والمحبّة، لأنّنا أقرب إليك من الخميني، وأنت أقرب إلينا منه.
السيد الشهيد: موقفي هو موقف السابق.
المبعوث: نحن لا ندري ماذا تريد، والله (بشرفي) إن القيادة لم تتنازل لأحد بهذا المقدار، والله لقد نفّذنا الإعدام بأشخاص عارضونا أقل من هذا، وكان منهم رفاق في الحزب فلماذا هذا الإصرار؟ ماذا تريد أن نفعل؟
السيد الشهيد: أنا لم أطلب منكم شيئا، وكما قلت لكم إذا كان الحلّ لهذه الأزمة هو الإعدام فأنا مستعد لذلك، ولا كلام آخر عندي.
ظلّ هذا المبعوث ساكتا، ولم يتكلّم بشيء، وبعد فترة عاد إلى الحديث، ففاوض السيد الشهيد على الشروط متنازلا عنها الواحد تلو الآخر، والسيد الشهيد مصرّ على موقفه، بعدها قال المبعوث: سيدنا، بقي شيء لابد منه، كما أنّه ليس من حقّي أن أتنازل عنه مطلقا.
السيد الشهيد: ما هو؟
المبعوث: أن توافق على إجراء مقابلة مع صحيفة أجنبية، وإن شيءت تكتب الأسئلة بنفسك فلا مانع ـ حتّى لو كانت فقهيّة ـ ، ولكن بشرط أن تؤكّد في المقابلة أن الاعداء بينكن وبين السلطة أو تشيد ببعض إنجازاتنا كمحو الامّية، أو تأميم النفط، أو منح الأكراد الحكم الذاتي، وفي مقابل ذلك نتعهّد بتنفيذ كل التعهّدات السابقة.
السيد الشهيد: وإذا لم أفعل؟
المبعوث: الإعدام، بشرفي لا حلّ غيره.
السيد الشهيد: أنا مستعد، ولا كلام آخر عندي.
وتحيّر المبعوث، وظلّ ساكتا فترة طويلة، ثم قاوم وودّع السيد الشهيد، وجرت دموعه على وجهه، وقال بلهجته العاميّة:(حيف مثلك تاكله الكاع ـ أي الأرض ـ حيف، والله حيف).
وكانت هذه المفاوضات قد جرت في آخر شهر من أشهر الحجز.
بعد أن انتهى هذا اللقاء قلت للسيد الشهيد وكانت أخته الشهيدة بنت الهدى حاضرة: إن الشرط الأخير لا يعتبر مهمّا، ولا يفسّر قبولكم به على أنّه تنازل، ثم من لا يعذركم وأنتم تعيشون هذه الظروف القاسية وقد تخلّى عنكم الجميع.إن حياتكم أهمّ للإسلام وللعمل الإسلامي في العراق، وإذا كان الحجز قد كشف لكم عن حقائق هامّة، وغيّر من تصوّراتكم عن بعض القضايا، فمن سيستفيد من هذه التجربة إن أنتم استشهدتم، إنّني أرى أن نستفيد من هذه الفرصة ونهيّئ أنفسنا للفرار من العراق، وإذا كنتم لا ترغبون بالخروج من العراق فلنذهب إلى منطقة آمنة في شمال العراق، فمن هناك يمكن أن تقودوا العمل بشكل أفضل ممّا هو في الحجز. لقد تحدّثت معه كثيرا حول هذا الموضوع، وتحدّثت معه أيضا الشهيدة بنت الهدى، ولكن دون جدوى، فقد أجابني بأن رفع رأسه إلى السماء وقال:
(اللّهم أنّي أسألك بحق محمد وآل محمد أن ترزقني الشهادة وأنت راض عني، اللهم أنت تعلم أني ما فعلت ذلك طلبا للدنيا، وإنّما أردت به رضاك، وخدمة دينك، اللهم ألحقني بالنبيين والأئمة والصدّيقين والشهداء، وأرحني من عناء الدنيا.)
ثم كفكف دموعه، وغسل وجهه، وكان يحرص قدر المستطاع أن لا يدخل الحزن على قلوب عائلته وأطفاله، فأمر الشهيدة بنت الهدى أن لا تخبر أحدا بنتيجة هذا اللقاء.
================
جاء السيد الشهيد (رضوان الله عليه) وأيقظني للصلاة، فقمت وصلّيت الفجر، ثم قال لي: إني ابشّر نفسي بالشهادة إن شاء الله.
فقلت: خيرا إن شاء الله.
فقال:
(رأيت في عالم الرؤيا أن خالي المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين وأخي المرحوم السيد إسماعيل الصدر قد جلس كلّ واحد منهم على كرسيّ، وتركوا كرسيّا لي بينهما، وهما ينتظران قدومي إليهما، ومعهم ملايين البشر ينتظروني أيضا. ووصف لي النعيم وما هما فيه من سعادة لا تتصوّر).
فقلت: لعل هذه الرؤيا تدل على الفرج والنصر أن شاء الله.
فقال إن الشهادة أعظم نصر إن شاء الله.
================
كان السيد الشهيد قد بعث في أول فرصة أتيحت له في فترة الحجز بكل ما يملك من أموال إلى خارج العراق بما في ذلك أمواله الشخصيّة لكي لا تقع هذه الأموال بيد السلطة في حال استشهاد وفيها حقوق شرعيّة،وأيضا بعث بما لديه من أمانات كأموال العبادات إلى الأمام الخوئي بواسطة المرحوم السيد محمد صادق الصدر، ولم يبق شيء في ذمّته.
================
انقطع السيد الشهيد إلى ربّه انقطاعا كاملا، فكان بين تال للقرآن، أو مسبحّ حامد، وكان أكثر ذكره (سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله وأكبر) وكان صائما في الأيّام الأخيرة من الحجز، ولم يكن له من هم إلا العبادة، وكنت في بعض الأحيان أثير أمامه بعض المواضيع التي تتعلّق بالعمل الإسلامي فلا يجيب بشيء، ويكتفي بابتسامه بسيطة، وكأنّه لا يريد أن يتحدّث عن شيء من هذه الأمور، إذ لا فائدة ولا أمل في ذلك.
كان الهمّ والحزن ينخر في قلبه حتّى أصبح كأنّه هيكل عظمي من الضعف، وأعتقد أن البعض لو رآه لظنّه شخصا آخر، وما ان ذلك والله خوفا من القتل، ولا حرصا على الحياة، ولا حبا للدنيا، وما حياته الماديّة تستحق ذلك، إذ كانت بلا رفاه ورغد، فلا قصور منيفة، ولا سيّارات فارهة، استشهد وهو لا يملك من الأرض شبرا واحدا، ولا وضع حجرا على حجر، وما كان همّه في يوم من الأيام السعي وراء زخارف الدنيا وزينتها.
لقد قضى حياته بين مخالب السلطة العفلقيّة وأنيابها، لا همّ لها إلا اعتقاله ومضايقته والتجسّس عليه، وقد قال لي يوما: (إنّي ـ والله ـ أخشى أن اقبّل أطفالي خشية أن تسترق أجهزة الصوت الموضوعة في البيت ذلك، وتسخّرها السلطة لأغراض دعائيّة ضدّي، وتصوّرها للناس بشكل آخر).
================
في اليوم الخامس من شهر نيسان الأسود عام (1980 م) وفي الساعة الثانية والنصف بعد الظهر جاء المجرم مدير أمن النجف ومعه مساعده الخبيث (أبو شيماء)، فالتقى بالسيد الشهيد وقال له : إن المسؤولين يودّون لقاءك في بغداد.
فقال السيد الشهيد: إذا أمروك باعتقالي فنعم، أذهب معك إلى حيث تشاء.
مدير الأمن: نعم، هو اعتقال.
السيد الشهيد: انتظرني دقائق حتّى أودّع أهلي.
مدير الأمن: لا ،ولكن لا حاجة لذلك،ومع ذلك فافعل ما تشاء.
فقام وودّع أهله وأطفاله. وهذه هي المرة الوحيدة التي أراه يودّعهم من بين الاعتقالات التي تعرّض لها.
ثم عاد والابتسامة تعلو وجهه، فقال لمدير أمن النجف : هيّا بنا نذهب إلى بغداد.
وذهب السيد الشهيد إلى بغداد لينال الشهادة، ويفي لشعبه بوعده حينما خاطبه قائلا:(وأنا أعلن لكن يا أبنائي أنّي صمّمت على الشهادة، ولعل هذا آخر ما تسمعونه منّي، وأن أبواب الجنّة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء، حتّى يكتب الله لكم النصر، وما ألذ الشهادة التي قال عنها رسول الله: إنّها حسنة لا تضر معها سيئة، والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت….).
وفي اليوم السادس من نيسان الأسود جاء المجرم الخبيث مساعد مدير أمن النجف المعروف بـ(أبي شيماء) ولم تسمح له السيدة الشهيدة بالدخول إلى الدار، فقال لها: علوية، إنّ السيد طلب حضورك إلى بغداد.
(فقالت: نعم، سمعا وطاعة لأخي إن كان قد طلبني، ولا تظنّ أني خائفة من الإعدام، والله إنّي سعيدة بذلك، إن هذا طريق آبائي وأجدادي.
ضابط الأمن: لا علوية، بشرفي إنّ السيد طلب حضورك.
أجابته الشهيدة مستهزئة: صدقت، بدليل أن قوّاتكم طوّقت بيتنا من جديد.
ثم قالت له: دعني قليلا، سوف أعود إليك، ولا تخف، فأنا لن أهرب، وأغلقت الباب بوجهه.
ثم جاءتني وقالت لي:(أخي أبا علي، لقد أدّى أخي ما عليه، وأنا ذاهبة لكي أودّي ما عليّ، إنّ عاقبتنا على خير… أوصيك بأمي وأولاد أخي، لم يبق لهم أحد غيرك، إن جزاءك على أم فاطمة الزهراء، والسلام عليك).
قلت لها: لا تذهبي معهم.
فقالت: لا والله حتّى أشارك أخي في كل شيء حتّى الشهادة.
================
لقد قام المجرم صدام التكريتي بقتل السيّد الشهيد الصدر وأخته بنت الهدى ـ رضوان الله عليهما ـ بنفسه فهو الذي أطلق النار عليهما بعد أن شارك في تعذيبهما . إنّ مصادر ثلاثة روت لي المأساة واتفقت على كيفية التعذيب والإعدام وهذه هي القصة كما يرويها أحد أفراد قوات الأمن ممّن كان حاضراً في غرفة الإعدام والعهدة عليه قال : » احضروا السيّد الصدر إلى مديرية الأمن العامة فقاموا بتقييده بالحديد ثمّ جاء المجرم صدام التكريتي فقال له باللهجة العامية : ( ولك محمّد باقر تريد تسوي حكومة ) . ثمّ أخذ يهشم رأسه ووجهه بسوط بلاستيكي صلب .
فقال له السيّد الصدر ( أنا تارك الحكومات لكم ) وحدث جدال بينهما عن هذا الموضوع وعن علاقته بالثورة الإسلامية في إيران ممّا أثار المجرم صدّام فأمر جلاوزته بتعذيب السيّد الشهيد الصدر تعذيباً قاسياً . ثمّ أمر بجلب الشهيدة بنت الهدى ـ ويبدو أنّها كانت قد عُذبت في غرفة أخرى ـ جاءوا بها فاقدة الوعي يجرونها جراً فلّما رآها السيد الشهيد استشاط غضباً ورق لحالها ووضعها . فقال لصدام : إذا كنت رجلاً ففك قيودي . فأخذ المجرم سوطاً وأخذ يضرب العلوية الشهيدة وهي لا تشعر بشيء ثمّ أمر بقطع ثدييها ممّا جعل السيّد الصدر في حالة من الغضب فقال للمجرم صدام ( لو كنت رجلاً فجابهني وجهاً لوجه ودع أختي ولكنك جبان وأنت بين حمايتك ) فغضب المجرم وأخرج مسدّسه فاطلق النار عليه ثمّ على أخته الشهيدة وخرج كالمجنون يسب ويشتم « (ملخص رسالة عن الراوي احتفظ بها) .
نعم هكذا يفعل الطغاة هذه وسائلهم وهذه جرائمهم إلاّ إنّ ربك لبالمرصاد لهم ولأعوانهم وبدأنا اليوم نرى أثر الدماء الزكية تهشم كيان الحكم والحاكم من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون .
================
في مساء اليوم التاسع من نيسان 1980 م، وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساءا قطعت السلطة التيّار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف، وفي ظلام الليل الدامس تسلّلت مجموعة من قوّات الأمن إلى دار المرحوم الحجّة السيد محمد صادق الصدر، وطلبوا منه الحضور معهم إلى بناية محافظة النجف، وكان بانتظاره هناك المجرم مدير أمن النجف ( أبو سعد)، فقال له: هذه جنازة الصدر وأخته، قد تم إعدامهما وطلب منه أن يذهب معهم لدفنهما.
فقال المرحوم السيد محمّد صادق الصدر: لا بد لي من تغسيلهما.
فقال له مدير الأمن: قد تمّ تغسيلهما وتكفينهما.
فقال: لابد من الصلاة عليهما.
فقال مدير الأمن: نعم، صلّ عليهما.
وبعد أن انتهى من الصلاة قال له مدير الأمن: هل تحبّ أن تراهما؟
فقال: نعم.
فأمر الجلاوزة بفتح التابوت، فشاهد السيد الشهيد مضرّجا بدمائه، وآثار التعذيب على كل مكان من وجهه، وكذلك كان حال الشهيدة بنت الهدى.
ثم قال له: لك أن تخبر عن إعدام السيد الصدر، ولكن إيّاك أن تخبر عن إعدام بنت الهدى، إن جزاءك سيكون الإعدام.
ولمّا حانت وفاة المرحوم السيد محمد صادق الصدر أخبر عن شهادة بنت الهدى.
وقد دفن السيد الشهيد في مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف وإلى جانبه أخته الطاهرة بنت الهدى في مكان أعرفه على نحو الإجمال.
================
أصدر الإمام الراحل السيد الخميني بيانا تاريخيا أعلن فيه عن استشهاد الإمام السيد الصدر وأخته المظلومة بنت الهدى، هذا نصّه:
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّا لله وإنّا إليه راجعون!
تبيّن ـ ببالغ الأسف ـ من خلال تقرير السيد وزير الشؤون الخارجيّة، والذي تم التوصّل إليه عن طريق مصادر متعدّدة وجهات مختصة في الدول الإسلاميّة، وحسب ما ذكرته التقارير الواردة من مصادر أخرى: أن المرحوم آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر وشقيقته المكرّمة المظلومة، والتي كانت من أساتذة العلم والأخلاق ومفاخر العلم والأدب، قد نالا درجة الشهادة الرفيعة على أيدي النظام البعثي العراقي المنحطّ، وذلك بصورة مفجعة!
فالشهادة تراث ناله أمثال هذه الشخصيات العظيمة من أوليائهم،والجريمة والظلم أيضا تراث ناله أمثال هؤلاء ـ جنات التاريخ ـ من أسلافهم الظلمة.
فلا عجب لشهادة هؤلاء العظماء الذين أمضوا عمرا من الجهاد في سبيل الأهداف الإسلامية،على أيدي أشخاص جناة قضوا حياتهم بامتصاص الدماء والظلم، وإنّما العجب، هو أن يموت مجاهد وطريق الحق في الفراش دون أن يلطّخ الجناة أيديهم الخبيثة بدمائهم!
ولا عجب أن ينال الشهادة المرحوم الصدر وشقيقته المظلومة،وإنما العجب، أن تمر الشعوب الإسلاميّة وخاصّة الشعب العراقي النبيل، وعشائر دجلة والفرات، وشباب الجامعات الغيارى، وغيرهم من الشبّان الأعزّاء في العراق، على هذه المصائب الكبرى التي تحل بالإسلام وأهل البيت رسول الله دون أن تأبه لذلك، وتفسح المجال لحزب البعث اللعين لكي يقتل مفاخرهم ظلما الواحد تلو الآخر.
والأعجب من ذلك هو أن يكون الجيش العراقي وسائر القوى النظامية آلة بيد هؤلاء المجرمين، يساعدونهم على هدم الإسلام والقرآن الكريم.
إنّني يائس من كبار القادة العسكريين، ولكنّني لست يائسا من الضباط والمراتب والجنود، وما أتوخّاه منهم هو: إمّا أن يثوروا أبطالا وينقّضّوا على أساس الظلم، كما حدث في إيران وإمّا أن يفرّوا من معسكراتهم وثكناتهم، وألا يتحمّلوا عار مظالم حزب البعث.
فأنا غير يائس من العمال وموظّفي حكومة البعث المغتصبة وآمل أن يضعوا أيديهم بأيدي الشعب العراقي، وأن يزيلوا هذا العار عن بلاد العراق.
أرجوه تعالى أن يطوي بساط ظلم هؤلاء الجناة.
وها أنا أعلن الحداد العام لمدّة ثلاثة أيام اعتبارا من يوم الأربعاء الثالث من شهر (ارديبهشت) الثالث والعشرين من نيسان، كما أعلن يوم الخميس عطلة عامّة؛ وذلك تكريما لهذه الشخصية العلميّة، ولهذا المجاهد الذي كان من مفاخر الحوزات العلميّة، ومن مراجع الدين ومفكّري المسلمين.
وأرجو الخالق تعالى أن يعوّضنا عن هذه الخسارة الكبرى والعظيمة على الإسلام والمسلمين.
والسلام على عباد الله الصالحين.
الثاني من شهر ارديبهشت 1359
روح الله الموسوي الخميني
================
لقد قام المجرم صدام التكريتي بقتل السيّد الشهيد الصدر وأخته بنت الهدى ـ رضوان الله عليهما ـ بنفسه فهو الذي أطلق النار عليهما بعد أن شارك في تعذيبهما . إنّ مصادر ثلاثة روت لي المأساة واتفقت على كيفية التعذيب والإعدام وهذه هي القصة كما يرويها أحد أفراد قوات الأمن ممّن كان حاضراً في غرفة الإعدام والعهدة عليه قال : » احضروا السيّد الصدر إلى مديرية الأمن العامة فقاموا بتقييده بالحديد ثمّ جاء المجرم صدام التكريتي فقال له باللهجة العامية : ( ولك محمّد باقر تريد تسوي حكومة ) . ثمّ أخذ يهشم رأسه ووجهه بسوط بلاستيكي صلب .
فقال له السيّد الصدر ( أنا تارك الحكومات لكم ) وحدث جدال بينهما عن هذا الموضوع وعن علاقته بالثورة الإسلامية في إيران ممّا أثار المجرم صدّام فأمر جلاوزته بتعذيب السيّد الشهيد الصدر تعذيباً قاسياً . ثمّ أمر بجلب الشهيدة بنت الهدى ـ ويبدو أنّها كانت قد عُذبت في غرفة أخرى ـ جاءوا بها فاقدة الوعي يجرونها جراً فلّما رآها السيد الشهيد استشاط غضباً ورق لحالها ووضعها . فقال لصدام : إذا كنت رجلاً ففك قيودي . فأخذ المجرم سوطاً وأخذ يضرب العلوية الشهيدة وهي لا تشعر بشيء ثمّ أمر بقطع ثدييها ممّا جعل السيّد الصدر في حالة من الغضب فقال للمجرم صدام ( لو كنت رجلاً فجابهني وجهاً لوجه ودع أختي ولكنك جبان وأنت بين حمايتك ) فغضب المجرم وأخرج مسدّسه فاطلق النار عليه ثمّ على أخته الشهيدة وخرج كالمجنون يسب ويشتم. (بنقل عن راوٍ)
================
ان السلطة العميلة مارست مختلف الضغوط على السيد الشهيد(قدس سره)، والتي تمثلت بالاحتجاز له ولعائلته واطفاله، وبالتجويع وقطع الماء والكهرباء، وبالترهيب والتهديد، وبالقتل والاعدام تارة، وبالاغراءات المادية والمعنوية تارة اخرى، وكان الهدف من ذلك كله ان يتنازل (رضوان الله عليه) عن مواقفه التي اعلنها من خلال بياناته المسجلة بصوته او الموثّقة بخطه او رسالته الى طلابه بشأن ضرورة دعم الجمهورية الاسلامية وقائدها الامام الخميني(قدس سره)وامثال ذلك.
وكان السيد الشهيد (رضوان الله عليه) يعلم ان السلطة جادة في تهديدها ووعيدها ومع ذلك أبى ان يتنازل ولو لقيد شعره، وكان في كل مرّة يُهدَّد بالاعدام يقول لهم انا مستعد لذلك ولا جواب آخر عندي.
وكان (رضوان الله عليه) يعتقد ان الاستشهاد هو آخر ما يمكن ان يقدّمه للاسلام والثورة الاسلامية في العراق، وانَّ هذه الشهادة لو تستثمر من قبل الاخرين فسوف تؤثر تأثيراً كبيراً في ازالة سلطة البعث واقامة حكم الاسلام في العراق في فترة زمنية لست طويلة.
================
يمثل قيام جمهورية اسلامية في ايران حُلماً لم يكن يخطر ببال احد انه سيتحقق بهذه السرعة، وكان يمثل الهدف الذي عاش السيد الشهيد(قدس سره)من اجله ولذلك انطلق ـ بلا حدود ـ في تأييد الثورة وقائدها وشعبها، ولعل المرجع الديني الوحيد في العراق ـ حسب علمي وحسب ما نعرف من مواقف مُعلنة ـ الذي اعلن هذا الموقف كان هو الامام الصدر(قدس سره)رغم الظروف القاسية والصعبة التي كانت تحيط به، ورغم اجواء الارهاب التي كانت تخيم على العراق والنجف خاصة.
وهذا الموقف كان يمثل بطولة نادرة قياساً للظروف والاوضاع السياسية والامنية التي كانت سائدة، وقد تحمّل السيد الشهيد(قدس سره) اثناء التحقيق معه الكثير والكثير بسبب ذلك، حتى لقد اتُهم بانه ايراني فحين كان المجرم صدام ينهال على السيد الشهيد بالضرب مهشماً رأسه ووجهه في مديرية الامن قُبيل الاعدام بساعات كان يقول له عبارات نابية مثل (… انت عجمي) [والنقاط تمثل كلمة شتم لا يناسب ذكرها] واستطيع ان اجزم بان احد الاسباب المهمة لاعدامه كان تأييده للثورة الاسلامية في ايران ولقائدها و شعبها.
================
ان موضوع القيادة النائبة مؤشر على مدى عبقرية السيد الشهيد(قدس سره)القيادية، فقد كان السيد الشهيد(قدس سره)يعلم اهمية وجوده ودوره في العمل الاسلامي في العراق وموقعه في الصراع مع السلطة، الاّ ان الاحداث خلقت في نهاية المطاف رؤى جديدة حول ما يجب ان نعمل وكيف نعمل وعلى من نعتمد وهكذا.
وعلى هذا الاساس وجد السيد الشهيد الصدر(قدس سره) ان الاستشهاد الهادف بالطريقة التي يختارها وبالاسلوب الذي يناسب الحدث وبالمكان المناسب وهو الصحن الحيدري الشريف يمكن ان يحقق الاهداف المطلوبة من الاستشهاد في فترة زمنية قصيرة، ولكن هذا العمل كان مشروطاً بتشكيل قيادة سياسية جهادية تقود العمل من بعده منطلقة من هذا الحدث العظيم، فعقد العزم على تشكيل قيادة نائبة
مؤلفة من عدة اشخاص، وقد ذكرت التفاصيل المهمة لهذه الفكرة واسباب عدم تحققها في كتاب (سنوات المحنة وايام الحصار).
ولا يعني هذا ان السيد الشهيد لم يكن يعتقد بأهمية العمل الحزبي المنظم ودوره في اختزال الزمن بل كان يرى ان الحزب والاحزاب انما هي اذرع للمرجعية، والقيادة يجب ان تكون في كل الاحوال للمرجعية الدينية الواعية العارفة بمتطلبات الزمن والحياة.
================
ما من شك في اهمية العمل السياسي وضرورته، ويجب ان نعرف ان فترة الصراع التي عاشها الامام الصدر كانت لا تسمح بعمل سياسي واسع، وقد ذكرت بعض ذلك في كتاب سنوات المحنة، الا انني اعتقد من خلال ملاحظتي لتجربة المعارضة الاسلامية مع العمل السياسي ـ وكذلك المعارضة غير الاسلامية التي استجدت بعد هزيمة نظام البعث في الكويت ـ انها غير مجدية اذا لم تقترن بقوة جهادية ضاربة مؤثرة في صنع القرار السياسي او الاتجاه السياسي والامثلة على ذلك كثيرة ومنها مؤتمر اربيل وما تمخض عنه من نتائج ذهبت كلها ادراج الرياح، وكذلك المؤتمرات التي سبقته وتلته …
ان النظام يتعامل مع المعارضة بأساليب قمعية وارهابية لا سياسية ولا دبلوماسية ومهما تطورنا وتقدّمنا في عملنا السياسي فسوف لن نحصل الا على عطف هذه الدولة او تفهّم تلك الاخرى، وهذا وان كان يؤثر بدرجة واخرى في تقدّم عملنا ولكنه لا يحل المشكلة، لانه لا يفل الحديد الا الحديد.
السيد محمد الحسيني
كانت انتفاضة صفر (1396/1977) مناسبة للاتصال المباشر مع السيد الخوئي خاصة عقيب القضاء عليها من قبل السلطة واعتقال عدد كبير من المشاركين فيها وغير المشاركين. وقد اجتمع السيدان الخوئي والصدر في دار الأول منهما في (الكوفة) بحضور عدد من العلماء كان منهم السيد عز الدين بحر العلوم والدكتور مصطفى جمال الدين، واتفقا على ارسال وفد الى السلطة يحمل رسالة المرجع (الخوئي) لاطلاق سراح المعتقلين وتسوية الامور للحؤول دون اقدام النظام على تصفية العشرات من المشاركين في الانتفاضة. وقد كتب نسخة الرسالة الأصلية (مشروع الرسالة) السيد الشهيد الصدر والدكتور جمال الدين كل على انفراد ليختار السيد الخوئي نسخة السيد جمال الدين. ولعل ذلك يرجع الى ما تنطوي عليه رسالة السيد الشهيد من معان ودلالات تنسجم مع خطه السياسي المعروف، وحمل رسالة السيد الخوئي كل من السيد مصطفى جمال الدين والسيد جمال الخوئي والسيد حسين بحر العلوم والشيخ جواد الشيخ راضي.
================
كتب السيد الشهيد رسالة جوابية على سؤال مفترض أملاه هو على أحد الجالسين وبحضور استاذه الخوئي ـ كما يذكر باحث مطلع. بصدد علاقته باستاذه الخوئي أطرى فيها على استاذه الخوئي بما لا مزيد عليه وأوضح أن علاقته باستاذه علاقة (طولية) على حد تعبيره، منبهاً الى ضرورة التلاحم مع المرجعية بأي شكل من الاشكال والانتباه الى محاولات تمزيق الكلمة ـ وأقدر أن الرسالة بمثابة رد على جهاز السيد الخوئي نفسه، وهي لا تخلو من اشارات لا تخفى على القارىء فضلا عن الباحث. ويعود تاريخ الرسالة الى الثامن من شهر جمادى الاولى من العام (1396ه) الموافق للعام (1976م).
================
كان أوّل (انفجار) علني للسيد الشهيد (تجاه المضايقات التي كان يتعرض لها) في العام (1395/1975) ومن على (منبر) درسه العالي في مسجد الشيخ (الطوسي)، وينقل طلبة الشهيد الصدر أن محور الدرس كان غريباً وساقه الشهيد الصدر بدون مناسبة. لقد استعار مسألة فقهية عرفت عند الفقهاء بـ (من كان سفره اكثر من حضره) ثم تعلل بصحته وأنه أشرف على الشيخوخة، (نذكّر ان عمره في تلك الفترة لم يتجاوز الأربعين عاماً) وأنه يفضل لطلابه الانصراف الى استاذ آخر، ثم أعلن عن تعطيل الدرس. شعر طلابه أن أمراً ما حدث أو لا يزال يحدث.
كانت المرة الاولى التي يضيق بها الشهيد الصدر ذرعاً ولا يكاد يتحملها، مع أنه يعرف أن الامور لن تؤول الى الأحسن، ولكن الامنور المتلاحقة دعته الى تسجيل موقف (ايجابي) هذه المرة تجاه موقف (سلبي) سائد يتحكم بمصير أعرق مركز علمي. كان يعرف عن قرب براءة الاستاذ وتقديره العالي له في الوقت نفسه، الا ان السكوت عن هذه (الحملات) له من الآثار ما يتجاوز البعد الشخصي للقضية، فثمة بعد عام آخر، بمقتضاه يلتزم علماء النجف بمعالجة مثل هذه الظواهر المرضية وتجاوزها، خاصة في ظروف تواجه فيه النجف تحديات جد كبيرة تهدد كيانها كله.
لم ينجح طلاب الشهيد الصدر في اقناع استاذهم بضرورة التراجع عن قراره بتعطيل الدرس، وقد صادف ذلك وجود الشيخ محمد جواد مغنية (1979) في النجف وحضوره المجلس الاسبوعي الذي يقيمه الشهيد الصدر في داره، وحاول ان يمارس ضغوطاً عديدة لثني الشهيد الصدر ورجوعه عن قراره، وباءت كل هذه المحاولات بالفشل. وتكلم الشهيد الصدر لأول مرة ـ بمحضر الشيخ مغنية ـ عن هذه الحملات وطبيعتها وما يمكن ان تسببه لكيان النجف كله
================
في العام 1961 اضطر الشهيد الصدر الى الانسحاب من حزب الدعوة الإسلامية ، بناء على نصيحة من السيد الحكيم ـ لا أعرف اذا كان سمعها منه مباشرة أو بطريق الوسائط ـ الذي أمر نجليه السيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم بالانسحاب أيضاً والتعاون مع الحزب خارج اطار التنظيم. كان ذلك اثر حملة تعرض لها السيد الصدر بوجه خاص قادها حسين الصافي وآخرون نيابة عن حزب البعث العراقي في محاولة استعداء المراجع وأفاضل حوزة النجف عليه، وفي هذا الاتجاه تمت زيارة السيد الحكيم والسيد الخوئي وغيرهم لاقناعهم باتخاذ موقف مضاد للسيد الصدر، الا ان حملتهم هذه باءت بالفشل.
لم يعلم أحد اكبر قيادي الحزب ـ يومذاك ـ الشيخ علي الكوراني بأمر انسحابه الى العام 1968 هو أحد الاسباب التي أدت الى تعكير صفو العلاقات بينهما كما يذكر الكوراني نفسه
================
منذ العام (1972) جرت مواجهات حادة بين السلطة والحزب أدت الى ان اكتشفت بعض الخطوط التنظيمية واعتقال المئات ومن ضمنهم عدد كبير من العلماء المرتبطين بمرجعية الشهيد الصدر على نحو الخصوص.
================
عام (1974/1394) صدرت فتوى الشهيد الصدر بتحريم انتماء طلاب العلوم الدينية الى الأحزاب ولو كانت اسلامية، ويبدو أنها كانت وليدة مباحثات مع عدد من مساعدي الشهيد الصدر أجراها معهم قبل عام تقريباً من هذا التاريخ (4)، وارغم على اعلان المنع في صورة الفتوى الصادرة عام (1974).
================
اجتمع الشيخ مرتضى آل ياسين مع السيد الخوئي في مجلس من المجالس في الفترة التي كان السيد الشهيد «ره» يتلمذ فيها على يد السيد الخوئي, فوجه السيد الخوئي للشيخ آل ياسين سؤالاً قال له: هل يحدثكم السيد محمد باقر بشيء من أفكاره؟ فقال له الشيخ آل ياسين: ولم تسألون عن ذلك؟ قال السيد الخوئي: يا شيخنا ان هذا الرجل فلتة, هذا الرجل عجيب فيما يتوصل إليه وفيما بطرحه من نظريات وافكار.
السيد عبد الكريم القزويني
في بداية الغزو الماركسي للعراق لم تكن في المكتبات كتب اسلامية من النوع الذي يرد الشبهات عن الفكر الإسلامي فذهبت إلى السيد الصدر وعرضت عليه حالتنا فكتب مقدمة فلسفتنا وكنا نستنسخها ونوزعها على المؤمنين
السيد علي أكبر الحائري
ذات مرة حول السيد الشهيد الدرس إلى محاضرة ، و من جملة ما قاله:
أنا لم يسرني قط في يوم من أيام حياتي (أو أنه قال: في لحظة من لحظات حياتي ، و أظنه حلف يميناً) وجود الطلاب و التفافهم من حولي ، أو أن أكوّن لنفسي عنوان أستاذ أو عنوان مرجع أو أية سمعة و ما شابه من الأمور الظاهرية ، و لا يهمني إذا امتلأ المسجد أو لم يمتلئ.. إنما غاية ما يسرّني هو أن أحقق خدمةً لله تعالى.
================
يرجع دوري في تحقيق الكتاب (دروس في علم الأصول) الى ما قبل طباعته فقد كلّفني السيد الشهيد(رضي الله عنه) وكلّف فضيلة العلاّمة السيد صدر الدين القبانچي بضبط الجزء الثاني من الحلقة الثالثة ـ كما اتذكر ـ من حيث الفوارز والنقاط وامثال ذلك وربما استخراج بعض المصادر، وفعلا قمنا بهذا الأمر ولهذا ترى الآن ان الجزء الثاني من الحلقة الثالثة من ناحية ضبط الفوارز والنقاط افضل من باقي اجزاء الكتاب، وبعد طباعة الكتاب بدأت بمطالعته بشكل دقيق من بداية الحلقة الاُولى فوجدت الكثير من الاخطاء المطبعية وكنت اسجلها واقدمها الى سماحة السيد الشهيد(رضي الله عنه)، وكان يتأسف على هذه الاخطاء الواردة في الكتاب، ومن جملة الاخطاء التي وجدتها هو حذف مقطع على مستوى سطر او أسطر في موضع من الجزء الاول من الحلقة الثالثة وايضاً مما يشبه ذلك في موضع من الجزء الثاني من الحلقة نفسها، وقد نبهت السيد الشهيد(رضي الله عنه)على ذلك في كلا الموضعين، والسيد تدارك ذلك بخطه الشريف على أمل ان يضاف ذلك الى الكتاب في الطبعات القادمة، ولكني وضعت وسجلت هذه الاضافة التي اضافها السيد الشهيد(رضي الله عنه)في هذين الموضعين على نسختين بقيتا في النجف الاشرف واحسب انهما قد صوردتا مع الاموال والكتب والاشياء التي شملها طغيان البعث وظلم الظالمين، ولهذا لا يوجد عندنا الآن نص عبارة السيد الشهيد(رضي الله عنه) في هذين الموضعين، ولكنهما معينان عندي وواضحان وكذا المضمون ايضاً واضح عندي، وفي الطبعة القادمة ان شاء الله سأُضيف بعبارتي ما يؤدي نفس المضمون، وبعد ما جئت الى ايران بلغني ان السيد الشهيد عندما كان محاصراً في منزله اوصى بأخذ هذه التصحيحات بعين الاعتبار وهي
تصحيحاتي للحلقات في الطبعات القادمة، واتذكر انه قال لي ذات مرة (أنك أحييت هذا الكتاب)، ومن خلال تدريسي المتكرر للكتاب والذي بدأ بمجرد صدور الكتاب الى الاسواق وبأمر من السيد الشهيد وجدت اخطاءً كثيرة اخرى فقمت بتصحيح جديد وشامل للكتاب، وقد تم ذلك بالنسبة للحلقة الاولى والثانية المطبوعتين من قبل مجمع الفكر الاسلامي، اما الحلقة الثالثة بجزئيها فانها تحت التحقيق وقد قمت ـ بالاضافة الى تصحيح الاخطاء الواردة في المتن ـ بكتابة تعليقات توضيحية على المواضع الغامضة من الكتاب، إذ انه كتاب جديد في الاوساط العلمية ولا يوجد له شروح، فكان جملة من اساتذة هذا الكتاب يعانون كثيراً ما من مشكلة فهم بعض النقاط الغامضة، فهو ليس كالكتب الاخرى العلمية التي توجد عليها شروح، تعليقات، تهميشات وما شابه فالاساتذة يستفيدون من هذه الامور، ولكن هذه التهميشات التوضيحية كانت قليلة ونبهني الكثير على ان هذه التعليقات اقل من المقدار المتوقع، ولهذا انا الآن مشغول في الحلقة الثالثة بتعليقات اوسع بكثير مما صنعته في الحلقة الاولى والثانية، واسأل الله تبارك وتعالى ان يوفقني لاكمال ذلك وطباعته.
================
أتذكر في الفترة الأخيرة من حياته جاء السيد الشهيد(رضي الله عنه) مرة من المرات الى مجلس بحثه وأثار فجأة مسألة جديدة، فتعجبنا واستغربنا، والمسألة هي: (انه عندنا في الفقه ان الرجل إن كان سفره أكثر من حَضره فما هي كيفية صلاته وصومه وما شابه)، علماً ان موضع البحث كان مسألة اُخرى لا علاقة لها بهذه المسألة، وقد علّق على ذلك السيد الشهيد(رضي الله عنه) بقوله: (انني كما ان الرجل قد يكون سفره اكثر من حضره اصبح مرضي الآن اكثر من صحّتي … ومع هذا الوضع الصحي المتدهور اسعوا في سبيل تحصيل استاذ آخر بدلا عني)، وأخذ يشرح بأن في هذه الفترة الزمنية التي ربّيت فيها تلامذة وطلاباً ربما استطعت ان أُثبت الجدارة في هذا الأمر وانا ادعوكم الآن الى ان تفتّشوا عن استاذ غيري وأنا أترك البحث، وبالفعل اعلن تعطيل البحث وكانت هذه طامةً كبرى على رؤوسنا فلم نتحمل ذلك وتألمنا كثيراً، كما انه قبل ذلك بقليل كان قد اعلن تعطيل صلاة الجماعة في الحسينية الشوشترية في النجف الاشرف.
اتذكر اني ذهبت الى بيته باكياً بشدة وقلت له ما هو السبب في ذلك؟ وماذا نصنع بعد هذا؟ بعد ذلك بيّن(رحمه الله) الاسباب في مجلس التعزية الذي كان يقام في بيته في ليالي الخميس، وكان يحضره كثير من المؤمنين والطلبة والعلماء، وقد حضر في ذاك الاسبوع المرحوم (الشيخ محمد جواد مغنية)، وبعد المجلس اخذ
يعاتب السيد الشهيد(رضي الله عنه) على تعطيله للدرس، فقام السيد الشهيد(رضي الله عنه) ببيان بعض الاسباب الخلفية وظهر ان هناك ما يُدمي قلب السيد الشهيد وما يجعله في حيرة من أمره، كان يقول بأن الاوساط الحوزوية اصبحت لا تتقبلني ولا تحب ان استمر في التدريس واذن لا داعي على ان أصر على استمراري في الدرس، وكان يقول بأن هناك مُعاداة كثيرة ومحاربة كثيرة من ابناء نوعنا وكان يقصد (الطلبة والحوزويين) عليَّ وعلى طلابي في شتى الانحاء الحوزوية، وكان يعطي بعض النماذج، ومن جملة النماذج التي
اتذكرها كان يقول بان احد الطلاب حدثني بأنني حضرت درسك ليوم واحد وخلال هذا اليوم الى موعد
اليوم القادم تلقاني عدة اشخاص من الطلبة الآخرين وحذروني بأنّا سمعنا انك حضرت درس فلان وكيف تحضر درس فلان؟ فلان مثلا رجل سياسي! فلان رجل خطر!.
وكان السيد الشهيد(رضي الله عنه) يقول بانه هكذا يحاربوني ويحذرون الطلاب منّي، لذا اذا كنت مغضوباً عليه من قبل الاوساط الحوزوية ومن ابناء نوعنا الى هذه الدرجة فلا داعي على استمراري في الدرس فليأخذوا راحتهم في انتخاب من يريدون من الاساتذة الآخرين.
فظهر ان هناك خلفيات من هذا القبيل مما يدل على مستوى مظلومية السيد الشهيد من الخواص فكيف بالاعداء الصريحين.
================
عاش مظلوماً واستشهد مظلوماً ولازلت أعتقد انه مظلوم ولم يعرف قدرهُ لا في الاوساط العامّة ولا في الاوساط الخاصّة، انا اعتقد ان قدر السيد الشهيد(رضي الله عنه) مجهول ولا يزال مجهولا الى يومنا هذا، ولا أدري الى متى سيبقى مجهولا؟، واسأل الله تبارك وتعالى ان يوفقنا للسير على دربه والاهتمام بأمره واحياء ذكره والمساهمة في تقديره بما ينبغي ان يقدر
السيد محمود الهاشمي
في الوقت الذي كان فيه الشهيد مشغولاً بكتابة «اقتصادنا» بلغه صدور ترجمة عربية لكتاب وِل
ديوارنت «قصَّة الحضارة» فطلب منَّا السعي للحصول عليه بأسرع وقت قائلاً: «كيف أرد على
نظرية تدَّعي أنَّها قائمة على سرِّ تاريخ البشرية، فيما قد يكون هناك أمر مهمٌّ في أحوال المجتمعات
ومعاملاتها الاقتصادية لم أطَّلع عليه؟» فعلمنا أنَّ شيخاً معروفاً قد اقتنى نسخة منه، وكان
عزيزاً نادراً، فكلَّمناه، فلم يستجب لطلبنا، فاتَّصل به السيد الشهيد وبعد إلحاح شديد أعاره
إيَّاه لمدَّة أُسبوع واحد فقط، فعكف الشهيد أُسبوعه ذلك على أجزاء الكتاب الثلاثة والأربعين
حتى طواها بأكملها وأعاد الكتاب إلى صاحبه في موعده دون تأخير.
السيد عمار أبو رغيف
عكف السيد الشهيد في أخريات أيامه على كتابة بحث مفصل ومنهجي لدراسة العقيدة الاسلامية وللسيد رأي في المنهج الكلامي ـ قال لي رحمه اللّه يوماً : ان لدي اشكالاً أساسياً على التفكير الكلامي بأسره… ويلوح لي أن المعلم الشهيد أراد لعلم الكلام روحاً ومنهجاً، روحه المعاصرة والرسالية ومنهجه البحث الموضوعي الحر بعيداً عن العقم الجدلي الذي أبتليت به أغلب الدراسات الكلامية. فهو مع منهج أهل البيت في تسخير الفلسفة لخدمة قضايا الانسان وهو مع الافق الرحيب في مواكبة الاجيال، وحرية الفكر .
================
من المسلم أن المثقف في العراق كاد أن يمثله الماركسيون في التيار العلماني إبان النصف الثاني من القرن الميلادي المنصرم .كان الماركسيون مثقفين ، بل هم طليعة المثقفين العراقيين، وفي عام 72- 1973 وفي مجلة ” الثقافة ” الماركسية ، التي يصدرها الدكتور صلاح خالص ، تصدى مهدي النجار لمناقشة ونقد كتاب “فلسفتنا”.
اهتم المرحوم السيد الصدر بهذا الموضوع ، وعن طريق علاقات المرحوم الشيخ ماجد البدراوي حاول الضغط على إدارة تحرير المجلة لكي توافق على نشر رد على هذا النقد ، وفور موافقتهم ، كتب السيد رداً على ما جاء في مقال مهدي النجار ، ثم أرسله بيد السيد محمود الهاشمي إليّ لإعادة صياغته ونشره باسمي ، فقمت بذلك وأعطيته عنوان ، ” ماذا جاء حول فلسفتنا ” ، ونشر فعلاً في المجلة نفسها.
الشاهد أن هيئة التحرير بعد أن استلمت الرد ندبت حظ مهدي النجار ، وقال أحد مسؤوليها باللهجة العراقية : (( ويامن بلش )).
السيد كاظم الحائري
حدثني السيد الشهيد ـ رحمه الله ـ ذات يوم: أنّه حينما كتب كتاب (فلسفتنا) أراد طبعه باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف بعد عرضه عليهم متنازلاً عن حقّه في وضع اسمه الشريف على هذا الكتاب. إلاّ أنّ الذي منعه عن ذلك أنّ جماعة العلماء أرادوا إجراء بعض التعديلات في الكتاب، وكانت تلكَ التعديلات غير صحيحة في رأي استاذنا الشهيد، ولم يكن يقبل بإجرائها فيه، فاضطّر أن يطبعه باسمه. قال ـ رحمه الله ـ إني حينما طبعت هذا الكتاب لم أكن أعرف أنه سيكون له هذا الصيت العظيم في العالم والدويّ الكبير في المجتمعات البشريّة ممّا يؤدي إلى اشتهار من ينسب إليه الكتاب. وأنا الآن أفكّر أحياناً أنّي لو كنت مطّلعاً على ذلك، وعلى مدى تأثيره في إعلاء شأن مؤلّفه لدى الناس، فهل كنت مستعدّاً لطبعه باسم جماعة العلماء وليس بإسمي كما كنت مستعدّاً لذلك أولاً؟ وأكاد أبكي خشية إنّي لو كنت مطّلعاً على ذلك لم أكن استعدّ لطبعه بغير اسمي.
رحمك الله يا أبا جعفر وهنيئاً لك على هذه الروح الطاهرة والمعنويات العالية العظيمة، في حين كنت تعيش في مجتمع يتكالب أكثر أبنائه على سفاسف الدنيا أو زعاماتها، أو كسب مديح الناس وثنائهم، أو جمع ما يمكنهم من حطام الدنيا ونعيمها من حلال أو حرام.
================
سُئل ذات يوم في بيت المرحوم السيّد عبد الغني الأردبيلي (قدس سره) وكنتُ حاضر المجلس – متى تقوم الحكومة الإسلاميّة في العراق؟ فأجاب؛: لا تقوم الحكومة الإسلاميّة في العراق إلّا إذا نضجت الحوزة العلميّة على مستوى الإشراف أو إدارة الحكومة الإسلاميّة.
================
كانت للمرحوم آية اللَّه العظمى السيّد الحكيم (رضوان اللَّه عليه) مدرسة منظّمة للدروس التي تُسمّى بدروس السطح باسم مدرسة العلوم الإسلاميّة وكان المشرف عليها سماحة السيّد محمّدباقر الحكيم وكان قد أمر اُستاذنا الشهيد الصدر (رضوان اللَّه عليه) عينة طلّابه ومريديه بالتعاون والتعاضد في ما بينهم في تنمية المدرسة وتدريس طلّابها وتربيتهم وعياً وروحاً زائداً على تعليمهم العلوم الإسلاميّة الفقهيّة وغيرها وقد خدمت هذه المدرسة الاُمّة في العراق ردحاً من الزمن وأنتجت علمآء واعين عاملين إنتشر قسم منهم في أطراف العراق كوكلآء للمرجعيّة.
================
أمر أخيراً خيرة طلّابه بتبنّي مدرسة علميّة حوزويّة لا في بناية معيّنة أو داخل مدرسة مبنيّة بالجصّ والآجُر بل بتعيين أساتذة يدرّسون وطلّاب يدرسون وهيئة مشرفة مؤلّفة من عدد من طلّابه هو (رضوان اللَّه عليه) ولعلّه براتب خاصّ أيضاً يوزّع على كلّ من يتخذه للدرس في هذه المدرسة مع الإهتمام بتربيتهم وتوعيتهم حتّى تؤتي هذه المدرسة ثمارها ضمن الحوزة النجفيّة الاُمّ ، و كلّ ذلك كان تحت إشرافه (قدّس اللَّه نفسه الزكيّة.
================
كتب لدى نعومة أظفاره رسالة وضّح فيها نقائص الحوزة العلميّة في النجف الأشرف ووضع حلولها وطريقة تنظيمها وترتيبها ومضت الأيّام والليالي إلى أن أصبح على أبواب المرجعيّة وعثر صدفة ضمن كتاب من كتبه أو في مكان آخر على تلك الرسالة وكان عدد من طلّابه -وأحدهم أنا – متشرّفين بخدمته في بيته في العمارة الذي كان ملكاً لسماحة الشيخ المامقاني(حفظهاللَّه) في الغرفة الفوقانيّة من قسم البرّاني الذي كان قد اعتاد على عقد جلساته الخاصّة هناك، فقرأ علينا تلك الرسالة وقال: إنّ قيمة هذه الرسالة عندي فعلاً قيمة تاريخيّة وكانت الرسالة حقّاً تجسّد همومه وآلامه وآماله وطريقة وضعه للحلول وفقاً للمشاكل منذ نعومة أظفاره.
وإنّي آسف على أنّني لا أمتلك نسخة من تلك الرسالة ولا علم لي بوجود نسخة منها لدى أحد من الإخوة أو عدمها.
================
حينما كنت اُدرّس في قم في المؤسّسة المسمّاة بـ (در راه حقّ) (في طريق الحقّ)، كتب المشرفون على المؤسّسة رسالة إلى الشهيد الصدر؛ طالبين منه أن يشرح لهم إقتراحه حول تنظيم حوزة علميّة نموذجيّة، وطلبوا منّي إرسال الرسالة إلى الشهيد الصدر(قده) فأرسلتها إليه فجائني الجواب في رسالة، كان في ضمنها مكتوبٌ بخط سماحة السيّد محمّدباقر الحكيم(حفظه اللَّه)، وكان مضمون رسالة الشهيد الصدر؛ أن ما تجده بخط السيّد محمّدباقر الحكيم هو رأيي في كيفية تنظيم الحوزة وترتيبها إلّا أنّه بقلم السيّد محمّدباقر، فأوصله إلى المؤسّسة التي طلبت ذلك.
وأيضاً إنّي آسف على عدم وجود نسخة من ذلك لديّ ولكنّني أقترح على الهيئة المشرفة اليوم على تجميع آثار شهيدنا الصدر؛ أن يراجعوا سماحة السيّد محمّدباقر الحكيم من ناحية ومؤسّسة (في طريق الحق) من ناحية اُخرى عساهم يجدون لدى أحدهما نسخة من ذلك.
================
رغم أنّه؛ لم يكن – لصغر سنّه آنئذٍ – عضواً في جماعة العلمآء في النجف الأشرف، كان المفكّر الحقيقي لهم وقد كتب لهم كثيراً من الأفكار الواردة في كتيّب (رسالتنا) وكثيراً ممّا ورد في إفتتاحيّة الأضواء وأخيراً كتب كتاب (فلسفتنا) وأراد طبعه باسمهم – وليس باسمه – لولا أنّهم كانت لديهم بعض المناقشات في مطالب هذا الكتاب فلم يستعدّوا لطبعه باسمهم إلا بإدخال تعديلات فيه وهو لم يكن يرتضي بتلك التعديلات ممّا جعل سيّدنا الاُستاذ مضطراً إلى طبعه باسم نفسه.
================
كان يتابع المشاكل الإجتماعيّة ويضع لها الحلول إلى أن صمّم على الشهادة فتابع ما سينجم من الفراغ في قيادة عمليّة التغيير الإجتماعي في العراق باستشهاده فوضع له حلّاً باسم القيادة النائبة ولكنّها لمتر النور في صفحة الوجود.
================
انفصل أحد طلاب السيد الشهيد عن درسه وعن خطه الفكري الإسلامي. ثم بدأ يشتمه وينال منه في غيابه أمام الناس، وكان كثير من كلماته تصل إلى مسامع استاذنا العظيم، وكنت ذات يوم جالساً بحضرته الشريفة فجرى الكلام عن هذا الطالب الذي ذكرناه فقال ـ رضوان الله عليه ـ : انا لا زلت اعتقد بعدالة هذا الشخص وأنّ ما يصدر منه ناتج من خطأ في اعتقاده وليس ناتجاً من عدم مبالاته بالدين.
================
ومن طرائف الأمور ان الاستاذ الشهيد ـ رحمه الله ـ مضت عليه برهة من الزمان كان له مقلدون كثيرون في شتى المدن العراقية, ولعله في خارج العراق ايضاً وكان يمتنع عن طبع رسالة عملية لأنه كان شاباً آنذاك, ولعل قسماً من المجتمع لم يكن يستسيغ طبع رسالة عملية العالم شاب مع وجود مراجع كبار متقدمين في السن, فكان بعض مقلدية يضطرون إلى استنساخ تعليقته على جزء الأول من منهج الصالحين بخط اليد, وما زلت أنا محتفظاً في مكتبتي بنسخة منها استنسختها بيدي.
================
ذكر السيد الشهيد (رحمه الله) ذات يوم لصفوة طلاّبه: إنّ ما تعارفت عليه الحوزة من الإقتصار على الفقه والأصول غير صحيح، ويجب عليكم أن تتثقفوا بمختلف الدراسات الإسلاميّة، وأمرهم بمباحثة كتاب فلسفتنا فيما بينهم، فعقدوا بحثاً في بيتي الواقع وقتئذٍ في النجف الأشرف في الشارع الثاني مما كان يسمى بـ (الجُديدة). وفي أوّل يوم شرعوا في المباحثة وجدنا طارقاً يطرق الباب ففتحت له الباب وإذا بأستاذنا الشهيد قد دخل وحضر المجلس وقال: إنّني إنّما حضرت الآن هذا المجلس لأنّي اعتقد أنه لا يوجد الآن مجلس أفضل عند الله من مجلسكم هذا الذي تتباحثون فيه في المعارف الإسلاميّة، فأحببت أن أحضر هذا المجلس الذي هو أفضل المجالس عند الله.
هكذا كان يشوّق طلابه ويرغبّهم في تكميل أنفسهم في فهم المعارف الإسلاميّة، وهو الأب الرؤوف والعطوف الحنون على طلابّه. فوالله إنّنا قد أُيتمنا بفقد هذا الأب الكبير فلعن الله من أيتمنا وفجع الأمّة الإسلاميّة بقتل هذا الرجل العظيم، اللّهم مزّق الذين شاركوا في دمه الطاهر تمزيقاً واجعلهم طرائق قددا، وأرنا ذلّهم في الدنيا قبل الآخرة وزدهم عذاباً فوق العذاب، إنّك أنت السميع المجيب.
================
حضرت بحث السيد الشهيد في أوائل أيّام تعرّفي عليه في بحث الترتب، ولم يكن ذلكَ منّي بنيّة الاستمرار وبعد إنهائه لبحث الترتّب صممّت على ترك الحضور لبعض المشاكل الحياتية والصحّية التي كانت تمنعني من الاستمرار. فاطلّع ـ رضوان الله عليه ـ على تصميمي هذا فطلب مني ـ رحمه الله ـ أن أعدل عن هذا التصميم. وأستمر في الحضور في بحثه الشريف وقال: أنا أضمن لكَ أنّك لو بقيت مستمراً في هذا البحث مدة خمس سنين ستكون مجتهداً، فشرحت له بعض المشاكل التي تحيط بي والتي تمنعني عن الحضور. فتركت الحضور برهة من الزمن إلى أن انتهت تلك المشكل المانعة، فاستأنفت مرّة أخرى الحضور في بحثه الشريف إلى أن قدّر الله لي الهجرة إلى إيران. وحينما مضى على حضوري في بحثه الشريف خمس سنين أو أكثر تشرفت بالحضور لدى الاستاذ ذات يوم وقلت له: أنت وعدتني بأني لو حضرت البحث خمس سنين سأكون مجتهداً . وها هو الحضور بهذا المقدار قد حصل ولم يحصل الإجتهاد. فإجابني ـ رضوان الله عليه ـ بأن مفهوم الإجتهاد قد تغيّر عندكّ فالإجتهاد بالمستوى المتعارف عليه في الحوزة العلميّة قد حصل، ولكنك تريد الإجتهاد على مستوى هذا البحث.
================
رأيت ذات ليلة في عالم الرؤيا أنّ نبياً من الأنبياء قد حضر بحث استاذنا السيد الشهيد، وتشرفت بعد هذا ذات يوم بلقاء استاذنا الشهيد في بيته الذي كان واقعاً وقتئذٍ في شاعر الخورنق وحكيت له الرؤيا. فقال لي: إنّ تعبير هذه الرؤيا هو أنّني سوف لن اوفق لتطبيق رسالتي التي نذرت نفسي لأجلها وسيأتي تلميذ من تلاميذي يكمل الشوط من بعدي. ذكر ـ رضوان الله عليه ـ هذا الكلام في وقت لم يكن يخطر بالبال أنّه ستأتي ظروف تؤدّي على استشهاده.
================
كان السيد الشهيد يقول ـ رضوان الله عليه ـ إنّني في الأيّام التي كنت أطلب العلم كنت اعمل في طلب العلم كل يوم بقدر عمل خمسة أشخاص مجدّين.
================
قال السيد الشهيد ـ رحمه الله ـ: إنّني كنت أعيش في منتهي الفقر والفاقة، ولكنّني كنت اشتغل منذ استيقاظي من النوم في كل يوم بطلب العلم، كنت أنسى كلّ شيء وكلّ حاجة معيشيّة إلى أن كنت أفأجا من قبل العائلة بمطالبتي بغداء يقتاتون به وكنت أحتار عندئذ في أمري.
================
أدركتُ الأستاذ الشهيد فيما بعد أيّام فقره وفاقته حينما كان مدرّساً معروفاً في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف ومع ذلك كان يعاني من الضيق المالي، وكان يدرّسنا في مقبرة آل ياسين في حرّ الصيف ولم تكن وسيلة تبريد في تلك المقبرة، ولم يكن يمتلك وسيلة تبريد في بيته. وكان المتعارف وقتئذٍ في النجف الأشرف عدم وجود عطلة صيفيّة لطلاّب الحوزة العلميّة فكان الطلبة يدرسون حتّى في قلب الحرّ الشديد.
ولا أنسى أنّ المرحوم السيّد عبد الغني الأردبيلي (رحمه الله) تشرف ذات يوم بخدمته في بيته الواقع في محلّه العمارة فيما بعد الزقاق المسمّى بـ (عقد السلام) وقال له: إنّ الحرّ شديد وطلابكَ يعانون من الحرّ في ساعة الدرس في مقبرة آل ياسين. فأذَن لنا بشراء مبرّدة نضعها في المقبرة لتبريد الجوّ، ولي صديق من التركمان في شمال العراق من بيّاعي المبرّدات، وهو مستعد لتزويدكم بمبردة بسعر الكلفة، وهو سعر يسير ويقسّط السعر عليكم أشهراً عديدة لا يأخذ منكم في كل شهر عدا دينارين . فسكت أستاذنا الشهيد (رحمه الله) خجلاً وحياءً من أن يقول إنّ وضعي الإقتصادي لا يسمح بهذا. ولكن المرحوم السيّد عبد الغني اعتقد أنّ السكوت من الرضا فاستورد مبرّدة ووضعها في المقبرة ثمّ أخبر أستاذنا الشهيد بما فعل، فرأيت وجه أستاذنا قد تغيّر حيرة في كيفيّة دفع هذا المبلغ اليسير. إلاّ أنّ المرحوم السيّد عبدالغني (رحمه الله) لم ينتبه إلى ذلك. وعلى أيّ حال فقد التزم استاذنا الشهيد بدفع المبلغ ولا أعرف كيف كان يؤمّن ما عليه إلاّ أنّني كنت أعلم أنّه كان يدفع كلّ شهر دينارين إلى السيّد عبدالغني كي يدفعه إلى صاحبه أداءً للدين.
================
كان السيد الشهيد يقول ـ رحمه الله ـ إنّ تربية الطفل إلى شيء من الحزم والخشونه من ناحية، وإلى اللين والنعومة وإبراز العواطف من ناحية أخرى. وقد تعارف عندنا في العوائل أنّ الأب يقوم بالدور الأوّل والأم تقوم بالدور الثاني قال ـ رحمه الله ـ: ولكنّني اتفقت مع (ام مرام) على عكس ذلك فطلبت منها أن تقوم بدور الحزم والخشونة مع الأطفال لدي الحاجة كي أتمحّض أنا معهم في أسلوب العواطف واللّين وإبرام الحبّ والحنان . وكان السبب في ذلك أنّه كان يرى نفسه أقدر على تربية أطفاله على العادات والمفاهيم الإسلاميّة، فكان يريد للأطفال أن لا يروا فيه عدا ظاهرة الحبّ والحنان كي يقوى تأثير ما يزقّه في نفوسهم من القيم والأفكار، فلا بدّ أن تُملأ حاجتهم إلى الصلابة والخشونة عن طريق الأمّ.
كان يقول ـ رحمة الله ـ إني نفثت في نفس ابنتي مرام ـ وكانت وقتئذٍ طفلة صغيرة ـ الحقد على الصهاينة . قال : قد صادف أن حدثتها ذات يوم عن ظلمهم للمسلمين من قتل أو قصف. فبان عليها انكسار الخاطر وتكدّر العيش فأردفت ذلك بذكر قصة أخرى من حكايات قصف المسلمين لإسرائيل فاهتزّت فرحاً وضحكت واستبشرت لتلك القصة.
وكثيراً ما كان يصله ـ رحمه الله ـ من الحقوق الشرعيّة ما يصل عادةً بيد المراجع ولكنّه (رحمه الله) قال إني فهمّت ابنتي مرام أنّ هذه الأموال الموجودة لدينا ليست ملكاً لنا فكانت هذه الطفلة البريئة تقول أحياناً : إنّ لدى والدي الأموال الكثيرة ولكنّها ليست له، ذلك لكي لا تتربى على توقع الصرف الكثير في البيت بل تتربّى على القناعة وعدم النظر إلى هذه الأموال كأملاك شخصيّة.
================
في الفترة التي عيّنت حكومة البعث الغاشم ستّة أيّام لتسفير الإيرانيين بما فيهم طّلاب الحوزة العمليّة من النجف إلى إيران رأيت أحد طلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف مودّعاً لأستاذنا الشهيد، فرايت الأستاذ يبكي في حالة وداعه إيّاه بكاء الثكلي رغم أنه كان يعرف أنّ هذا الرجل يُعدّ في صفوف المناوئين له.
================
حدثني الأستاذ السيد الشهيد (رحمه الله) ذات يوم فقال إننّي أتصور أنّ الأمّة مبتلاة اليوم بالمرض الذي كانت مبتلاة به في زمن الحسين عليه السلام، وهو مرض فقدان الإرادة، فالأمّة تعرف حزب البعث والرجال الحاكمين في العراق ولا تشك في فسقهم وفجورهم وطغيانهم وكفرهم وظلمهم للعباد ولكنّها فقدت قوة الإرادة التي بها يجب أن تصول وتجاهد في سبيل الله إلى أن تسقط هذه الزمرة الكافرة عن منصب الحكم وترفع كابوس هذا الظلم عن نفسها. وعلينا أن نعالج هذا المرض كي تدّب حياة الإرادة في عروق هذه الأمّة الميّتة وذلك بما عالج به الإمام الحسين (ع) عرض فقدان الإرادة في نفوس الأمّة وقتئذٍ، وهو التضحية الكبيرة التي هزّ بها المشاعر وأعاد بها الحياة إلى الأمّة إلى أن انتهى الأمر بهذا السبب إلى سقوط دولة بني أميّة.
فعلينا أن نضحي بنفوسنا في سبيل الله ونبذل دماءنا بكل سخاء في سبيل نصرة الدين الحنيف. والخطّة التي أرى ضرورة تطبيقها اليوم هي أن أجمع ثلةً من طلاّبي ومن صفوة أصحابي الذين يؤمنون بما أقول ويستعدّون للفداء ونذهب جميعاً إلى الصحن الشريف متحالفين فيما بيننا على أن لا نخرج من الصحن أحياء. وأنا أقوم خطيباً فيما بينهم ضدّ الحكم القائم ويدعمني الثّلة الطيّبة الملتفّة من حولي، ونثور بوجه الظلم والطغيان فسيجابهنا جمع من الزمرة الطاغية ونحن نعارضهم (ولعلّه قال : ونحمل السلاح) إلى أن يضطرّوا إلى قتلنا جميعاً في الصحن الشريف. وسأستثني ثلة من أصحابي عن الإشتراك في هذه المعركة كي يبقوا احياءً من بعدي ويستثمروا الجوّ الذي سيحصل نتيجة لهذه التضحية والفداء.
قال (رحمه الله) : إن هذا العمل مشروط في رأيي بشرطين:
الشرط الأوّل ـ أن يوجد في الحوزة العلميّة مستوى من التقبّل لعمل من هذا القبيل . أما لو أطبقت الحوزة العلميّة على بطلان هذا العمل وكونه عملاً جنونياً أو مخالفاً لتقيّة واجبة، فسوف يفقد هذا العمل أثره في نفوس الأمّة ولا يوفي ثماره المطلوبة.
والشرط الثاني ـ أن يوافق أحد المراجع الكبار مسبقاً على هذا العمل كي يكتسب العمل في ذهن الأمّة الشرعيّة الكاملة.
فلا بدّ من الفحص عن مدى تواجد هذين الشرطين : أمّا عن الشرط الأوّل فصمّم الأستاذ (رحمه الله) على أن يبعث رسولاً إلى أحد علماء الحوزة العلميّة لجس النبض ليعرض عليه هذه الفكرة ويستفسره عن مدى صحّتها وبهذا الأسلوب سيعرف رأي عالم من العلماء كنموذج لرأي يتواجد في الحوزة العلميّة . وقد اختار (رحمه الله) بهذا الصدد إرسال سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي (حفظه الله) إلى أحد العلماء، وأرسله بالفعل إلى أحدهم كي يعرض الفكرة عليه ويعرف رأيه، ثم عاد الشيخ إلى بيت أستاذنا الشهيد وأخبر الأستاذ بأنّه ذهب إلى ذاك العالم في مجلسه ولكنّه لم يعرض عليه الفكرة وكان السبب في ذلك أنّه حينما دخل المجلس رأى أن هذا الشخص مع الملتفين حوله قد سادهم جوّ من الرعب والإنهيار الكامل نتيجة قيام الحكومة البعثية بتسفير طلبة الحوزة العلميّة، ولا توجد أرضيّة لعرض مثل هذه الفكرة عليه إطلاقاً.
وأمّا عن الشرط الثاني فرأى أستاذنا الشهيد (رحمه الله) أن المرجع الوحيد الذي يترقّب بشأنه أن يوافق على فكرة من هذا القبيل هو الإمام الخميني ـ دام ظله ـ الذي كان يعيش وقتئذٍ في النجف الأشرف فلا يصح أن يكون هذا العمل من دون استشارته، فذهب هو ـ رضوان الله عليه ـ إلى بيت السيّد الإمام وعرض عليه الفكرة مستفسراً عن مدى صحّتها، فبدا على وجه الإمام (دام ظله) التألّم وأجاب على السؤال بكلمة ( لا أدري) . وكانت هذه الكلمة تعني أنّ السيد الإمام دام ظله كان يحتمل أن تكون الخسارة التي ستوجّه إلى الأمّة من جرّاء فقد هذا الوجود العظيم أكبر ممّا قد تترتّب على هذا العمل من الفائدة.
وبهذا وذاك تبيّن أنّ الشرطين مفقودان فعدل أستاذنا الشهيد (رحمه الله) عن فكرته وكان تاريخ هذه القصة بحدود سنة . 1390 أو 1391 هـ .
================
كان الأستاذ الشهيد (رحمه الله) يصلّي في الحسينية الشوشترية صلاة الجماعة إماماً . فاتفق ذات يومٍ أنه غاب عن صلاة الجماعة لعذر له، فطلب جمع من المؤمنين من السيّد محمّد الصدر أبن المرحوم السيد محمد صادق الصدر أن يأمّ الناس في ذاك اليوم بدلاً عن الأستاذ، فاستجاب السيد محمد الصدر لطلب المؤمنين. وهو من حفدة عمّ الشهيد الصدر ومن تلامذته، وكان معروفاً بالزهد والورع والتقوى فصلّى الناس خلفه جماعةً ثمّ اطلع أستاذنا الشهيد (رحمه الله) على ذلك، فبان عليه الأذى ومنع السيد محمد الصدر عن أن يتكرّر منه هذا العمل. وكان السبب في ذلك رغم علمه بأنّ حفيد عمه أهل ومحلّ لإمامة الجماعة ـ أنّه تعارف لدى قسم من أئمة الجماعة الاستعانة في غيابهم بنائب عنهم يُختار من أقربائهم أو أصحابهم لا لنكتة موضوعية بل لأنّه من أقربائه أو أصحابه فقد يحمل ما وقع من صلاة حفيد العم في نظر الناس غير المطّلعين على حقيقة الأمر على هذا المحمل، بينما لا بدّ من كسر هذه العبادة وحصر إمامة الجماعة في إطار موضوعي صحيح وتحت مقياس دقيق تلحظ فيه مصالح الإسلام والمسلمين زائداً على الشرائط الاوّلية الفقهيّة لإمامة الجماعة، فلهذا منع حفيد العمّ عن هذا العمل رغم علمه بتواجد الشرائط والمصالح فيه ما دام العمل قابلاً في نظر الناس للتفسير غير الصحيح.
================
حدّثني الأستاذ (رحمه الله) أنّه كان في فترة من الزمن في أيّام طلبه للعلم يتشرّف يوميّاً ساعة من الزمن إلى الحرم الشريف بغرض أن يفكر في تلك الساعة في المطالب العلميّة ويستلهم من بركات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) . ثم قطع هذه العادة ولم يكن أحد مطّلعاً عليها وإذا بامرأة في بيت الأستاذ ولعلها والدته الكريمة (الشك مني وليس من الأستاذ) رأت في عالم الرؤيا أمير المؤمنين عليه السلام يقول لها ما مضمونه : قولي لباقر لماذا ترك درسه الذي كان يتتلمذ به لدينا ؟!
================
رأى أحد طلاّب السيد الشهيد ذات يوم في عالم الرؤيا أنه يمشي هو وزميل آخر له من طلاب السيّد الشهيد بخدمة الأستاذ في طريقهم إلى مقصد مّا، وإذا بحيوانات مفترسة هجموا على السيّد الشهيد كي يقطعوه ففّر الزميلان من بين يديه وجاء ناس آخرون التفّوا حول الأستاذ كي يحموه من تلك السباع فحدّث هذا الطالب بعد ذلك أستاذنا الشهيد برؤياه فقال له الأستاذ : إنّ تعبير رؤياك أنكما ستنفصلان وتبتعدان عني، ويأتي ناس آخرون يلتفّون حولي ويكونون رفاقي في الطريق . وكان هذا الكلام غريباً على مسامع ذاك الطالب لأنّه وزميله كانا آنذاك من أشدّ الملتصقين بوضع الأستاذ ولكن ما مضت الأيّام والليالي إلاّ وابتعدا عن الأستاذ (أحدهما بالسفر والآخر بترك الدرس رغم وجوده في النجف).
================
سألت الأستاذ السيد الشهيد ـ رحمه الله ـ ذات يوم عن أنّه هل قلّد في حياته عالماً من العلماء أولا؟ فأجاب ـ رضوان الله عليه ـ بأني قلّدت قبل بلوغي سنّ التكليف المرحوم الشيخ محمد رضا آل ياسين، أمّا من حين البلوغ فلم أقلّد أحداً . ولا أذكر أنّه قال: كنت من حين البلوغ أعمل برأيي أو قال : كنت بين العمل بالاحتياط والعمل بالرأي.
================
حدّثني السيد الشهيد ـ رضوان الله عليه ـ بعد رجوع المرحوم آية الله العظمى السيّد الحكيم من لندن (إذ كان ذهب إلى لندن في أواخر حياته للعلاج) : أنّه رأى ذات يوم آية الله الحكيم قبل مرضه في حرم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فألهم أستاذنا رضوان الله عليه بأنّ هذه آخر رؤية له للسيّد الحكيم وسوف لن يتوفّق لرؤيته مرة أخرى إلى أن يتوفّى السيد الحكيم. وبعد ذلك بأيام قلائل تمرض السيّد (رحمه الله) واستمر به المرض إلى أن ذهبوا به إلى لندن للعلاج ولم يشف من مرضه. وحينما رجع السيّد من لندن، وكان ينزل في مطار بغداد من درج الطائرة حاول أستاذنا (رحمه الله) أن يلقي نظرة على السيد الحكيم كي يراه ليثبت بذلك أنّ ما اُلهم به كان وهماً لا قيمة له، فيأمل أن يشفى السيّد من مرضه ويعيش صحيحاً سالماً إلاّ أنه لم يوفّق الأستاذ لرؤية السيد إلى أن توفي بنفس المرض ـ قدس الله روحه الزكيّه ـ .
================
زار زيد حيدر عضو القيادة القومية لحزب البعث السيد الشهيد ـ رحمه الله ـ ذات يوم بصحبة عبد الرزاق الحبوبي (كان عبد الرزاق الحبوبي وقتئذٍ محافظ كربلاء وقائم مقام النجف) وتكلّم الأستاذ الشهيد (رحمه الله ) معه في جملة من المؤاخذات على الدولة بالقدر الذي كانت الظروف تسمح بالكلام معه فيها، وكان يعتبر هذا في تلك الظروف موقفاً جريئاً من الأستاذ (قدس سره) . وقد حضر المجلس ثلّة من طلاّب السيّد الشهيد وأصحابه، وكنت أنا أحد الحضّار. ولكن بما أنّ طول الزمان أنساني أكثر مضامين ما دار في تلك الجلسة أكتب هنا ما كتبه أبو محمد (الشيخ عبد الحليم) حفظه الله، ولم يكن وقتئذٍ حاضراً في المجلس ولكنّ الأستاذ الشهيد (رحمه الله) قصّ له القصّة . قال الشيخ عبد الحليم: «تحدث السيد الشهيد أمامي عن طبيعة الحديث الذي دار بينه وبين (زيد حيدر) وبحضور الحبوبي قال رحمه الله : دخلت الغرفة وكان فيها (زيد حيدر) وبعد دقائق دخل الحبوبي الغرفة فسلّم عليّ وابتسم وكأنه كان مستحياً لأنّه كان يصلّي في الغرفة الثانية ويتظاهر بالخجل من تأخيرها إلى ذلك الوقت عصراً. وبدأت الحديث مع زيد بحضور الحبوبي وشرحت دور الحوزة العلمية والعلماء في تحريك الأمّة وفي تربية الأمّة، فعلماء الدين الشيعة يختلفون عن علماء المسيحية مثلاً، حيث إنّ الأمّة مرتبطة بالعالم الشيعي، وبدأت بسرد الأحداث التاريخية التي تدلّ على دور العلماء، فثورة العشرين اختلط فيها دم العالم مع دم العامل والفلاّح مع دم الأمّة والشعب حيث قاد العلماء الثورة. والسيّد شرف الدين (رحمه الله) قاوم الإستعمار الفرنسي في لبنان، وبعد ذلك تعرّض إلى حرق مكتبته وكتبه المخطوطة وغيرها، وكانت عصارة جهده وعصّارة حياته وأعز ّشيءٍ عنده (وكذلك على ما أتذكر أنّه ذكر قصة التنباك) ثم عرجت على دور الحوزة العلمية في الوقت الحاضر، وذكرت له إن كثيراً من أبناء الشعب يراجعونني حول جواز أو حرمة التأخر عن الدوام الرسمي، فاذا افتيت لهم بالجواز أو الحرمة فانه يؤثر على الدولة، وكذلك يسألني الكثير من المقلدين حول مسألة جواز الدولة حاليّاً لا تتعاون مع العلماء حتى في المسائل الشرعية فإن مذبحاً كبيراً في بغداد غير موجه على القبلة، وماذا يضرّ الدولة إذا كان المذبح على القبلة بينما إذا كان الذبح غير شرعي فسوف لن تُشترى كثير من اللحوم.
يقول الشهيد وفي هذا المقطع من الحديث التفت الحبوبي قائلاً: إني أتعجب أن يكون الذبح هنا غير شرعي علماً بأني عندما أسافر إلى الخارج احاول الحصول على لحم مذبوح على الطريقة الإسلامية فكيف يكون ذبح العراق غير شرعي؟ وبعد ذلك تحدّثت عن محاولة الدولة شقّ طريق يقتضي بموجبه أو أقتضى تهديم مقام الحسين بن روح أحد نواب الإمام المهدي (ع) وللشيعة أرتباط تاريخي في هذا المكان والآن بعض أجزاء مقامه محلات ودكاكين هذا مضمون ما أذكر والله العالم» انتهى ما كتبه الشيخ عبد الحليم حفظه الله مع تغيير يسير في العبارة.
ومن جملة ما قاله الأستاذ الشهيد في حديثه مع زيد حيدر : إنّ الدولة لو أرادت أن تعرف آراء الشعب ونظرياته يجب أن يراجع العلماء فإنهم هم معدن أسرار الأمة ومحط ثقتهم وهم لسان الأمة.
وفي نهاية المجلس خاطب الحبوبي زيد حيدر وقال له: أنظر إلى هذا الرجل (يشير إلى السيد الشهيد الصدر) كيف يتكلم بكلام لطيف فلنجعله عالماً للبعثيين. وهنا ضحك الحضّار فقال لهم الحبوبي لماذا تضحكون ؟! فقال الأستاذ الشهيد (رحمه الله): أنا عالم المسلمين ولست عالم البعثيين.
الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي
في مثل هذه الأيام وقبل أربعة عشر عاماً، كنا طلاباً في الجامعات المصرية حيث جاء خبر استشهاد العلامة السيد محمد باقر الصدر، نزل الخبر علينا حينها كالصاعقة، فعلى مدى السبعينات ومنذ أن عثرنا على مؤلفيه العظيمين (فلسفتنا) و (اقتصادنا) وغيرها من المؤلفات، كان آية الله الصدر بالنسبة إلينا معلماً كبيراً مصدر إلهام عظيم، وقد تدهشون عندما تعلمون أنه لا تخلو مكتبة في فلسطين وتحديداً في الضفة الغربية وقطاع غزة ـ لا تخلو من مؤلفات السيد الشهيد الصدر. في الحقيقة لم أشهد انتشاراً لكتبه وأفكاره في أي بلد عربي كما شهدت في فلسطين المحتلة حيث كان يلتحق الشباب المسلم حول دراساته حتى داخل سجون الاحتلال وطالما شاركت في تلك الحلقات ورأيت كيف يقترب الشباب المسلم في دراسات السيد الصدر بنهم شديد فقد أعاد لنا جميعاً الثقة بأنفسنا وبعقيدتنا وديننا وهو يصرع الفلسفات المادية الماركسية. والوضعية وبعقيدتنا وديننا بحجج قوية دامغة تستند إلى العلم والمنطق وإلى نظرية وأعية في المعرفة الإنسانية. وبفقدان السيد الشهيد الصدر هو فقدان ركن حضاري من أركان النهوض الإسلامي، فقد رحل في سن مبكرة بعد أن أحاط بالعلوم الإسلامية كما لم يحط بها أحد في عصره أو من مثل عمره، وأحاط بالعلوم الوصفية والفلسفات البشرية مما لم يحط بها عالم مسلم في التاريخ الحديث
================
«في مثل هذه الأيام وقبل أربعة عشر عاما، كنا طلابا في الجامعات المصرية حين جاء خبر استشهاد العلامة السيد محمد باقر الصدر ، نزل الخبر علينا حينها كالصاعقة، فعلى مدى السبعينات ومنذ أن عثرنا على مؤلفيه العظيمين فلسفتنا واقتصادنا ثم غيرها من المؤلفات كان آية الله الصدر بالنسبة إلينا معلما كبيرا ومصدر إلها عظيم، وقد تدهشون عندما تعلمون أنه لا تخلو مكتبة من فلسطين وتحديدا في الضفة الغربية وقطاع غزة ـ لا تخلو من مؤلفات السيد الشهيد الصدر. في الحقيقة لم اشهد انتشارا لكتبه وأفكاره في أي بلد عربي كما شهدت في فلسطين المحتلة، حيث كان يتحلق الشباب المسلم حول دراساته حتى في داخل سجون الاحتلال ،ولطالما شاركت في تلك الحلقات ورأيت كيف يقترب الشباب المسلم من دراسات السيد الصدر بنهم شديد فقد أعاد لنا جميعا الثقة بأنفسنا وبعقيدتنا وديننا وهو يصرع الفلسفات المادية، الماركسية والوضعية بحجج قوية دامغة تستند الى العلم والمنطق والى نظرية واعية في المعرفة الإسلامية».
قبل آية الله محمد باقر الصدر.. كانت تطغى النزعة السطحية المستعجلة على كتابات الاسلاميين المعاصريين في مناقشة خصومهم وفي مناقشة الأفكار المعادية للإسلام ، في فلسفتنا وفي اقتصادنا كان المنهج الإسلامي يرتقي إلى ذروة المنهج العلمي متحدياً المنهج الغربي المادي.
الشيخ هادي الخزرجي
التقيت بالشهيد الصدر و عرضت له مجموعة أسئلة فيجيب عنها السيد الصدر ومنها:
1 – حول الصلاة والحديث المروي عن رسول الله (ص) لا تسلموا على تارك الصلاة) ويجيب السيد الصدر: لابد من مقدمة تسبق الجواب، أن العقيدة ـ أي عقيدة ـ ومنها العقيدة الإلهية الإسلامية تمر بمرحلتين مرحلة العسر وشدة والضيق هذا أولاً وثانياً مرحلة اليسر والرخاء والسعة ويغور السيد الشهيد بإجابته تفصيلاً جميلاً معمقاً مرتكزاً على أصل الواقع الذي يراده به تطبيق القول أو الحديث المأثور وبذلك يحاول السيد الشهيد رفع الإشكال بذلك.
2 – حول الفقر والحديث عن الإمام الجواد(ع) حيث جاءه رجل يطلب منه نصيحة فقال له الجواد (ع) أو تقبل؟ قال الرجل: نعم، قال له الإمام: توسد الصبر وأعتنق الفقر… الخ ثم يتسأل الشيخ الخزرجي كيف نوفق بين هاتين المجموعتين من النصوص المتعارضة ظاهراً؟ فيجيب الشهيد الصدر بأن الفقر فقران، فقر يأتيك رغماً عنك، وفقر تأتيه باختيارك وتعتنقه بشوق ورغبة ثم يغور تفصيلاً وتحليلاً مع الاستشهاد بأمثلة واقعية توضح مجمل المطالب والاشكالات.
الشيخ طالب السنجري
أدخلوا السيد وأنا معه في أحد الغرف وجاءنا مدير الشعبة الخامسة، وطلب مني أن أذهب إلى غرفة أخرى فرفضت، واستمر بالطلب واستمر رفضي، عندها قال لي السيد الشهيد (رض) (قم الله معك ثلاث مرات) وبعد خروجي من الغرفة التي اعتقل فيها السيد ادخلوني في أجدى زنزانات التعذيب، وبدءوا تعذيبي بمختلف وسائل التعذيب حيث استخدموا الكهرباء معي، ونزفت دماءاً كثيرة من أذني وعيني. وبعد الساعة الثانية عشر ظهراً جاء جلاوزة الأمن لي والبسوني ملابسي وتحدثوا معي باحترام وقاموا بمسح الدم عن أذني وعيني، ولم أكن أعرف سبب تغيير طريقة معاملتهم وأرجعوني إلى نفس المكان الذي احتجزوا السيد الشهيد فيه، جاءوا مرة أخرى وأخذوني إلى مدير الأمن العام الذي كال لي الشتائم وبصق في وجهي ثم أرجعوني مع السيد الصدر وقتها أخبرني السيد بأنه أصر على عدم الخروج إلاّ وأنا معه وصلينا الظهر جماعة في مديرية الأمن العامة مع ما بي من دماء، فكانت صلاة تحدي ثم بعد ذلك عدنا إلى منزل السيد في النجف
طالب الحسن
بعد جمعي المعلومات حول حادث استشهاد الإمام محمد باقر الصدر (رض) توصلت إلي أن الإمام الشهيد قابل في آخر لحظات حياته كل من صدام وبرزان و ابن خالتهم (دحام العبد) وبعد أن إحتدم النقاش بين السيد الشهيد وبين الطاغية الجزار، أطلق هذا (العبد) النار على رأس المرجع الشهيد وأستمر هذا المجرم فترة لا تزيد على خمسة أشهر بعد جنايته الخبيثة وجريمته البشعة، وكان طيلة هذه الفترة يفتخر أمام أبن خالته الطاغية إذ يقول: أنا الذي قتلت عدوك، يقصد بذلك الشهيد الصدر (رض) حتى نزل فيه انتقام الله العزيز (والله عزيز ذو انتقام) ثم حلت في بيته مجزرة مخيفة على يد خاله المقبور (خير الله طلفاح) هلك خلالها كل أفراد عائلته (وإن بطش ربك لشديد
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
جرى الحديث في مجلس الشهيد الصدر، طاب ثراه، فرايت من اهتمامه واصغائه لما يدورحول ذلك ما لم اره عند غيره، وسمعت منه تاكيدا على ذلك دفعني الى معاودة الموضوع كلما دخلت عليه. ولكثرة ماعاودنا طرق الموضوع اشبعت جميع جوانبه تقريبا بالبحث، وقد اشرت الى ذلك اشارة مقتضبة في الكتيب الذياصدرته في العام الماضي: «تجاربي مع المنبر»، ولكن ساتناول هنا ابرز ما دار الحديث حوله، وما بقي في ذاكرتي مماطرحه السيد، طاب ثراه، لقد كانت اهم الافكار التي في ذهنه تتلخص في عناوين رئيسية منها، بصورة مجملة:
1- تقعيد المنبر، بمعنى ان يصدر المنبر عن قواعد وعلم اذا تناول اي مفردة من مفردات خطابه، فيكون مثله مثل طالبالعلم الفاضل، اذا عالج مفردة في موضوع شرعي عالجها بمنهجية، مثلا اذا عالج مسالة فقهية نظر الى دليلها، فاذا كانمن غير القرآن الكريم يبدا بتوثيق الدليل من حيث السند، ثم يبدا بتقييم الرواية وتحقيقها، من حيث عدم الزيادةوالنقص والتحريف، ثم ينتقل الى الفاظها، ويسال: هل هي مما لا يحتمل الا معنى واحدا، او يحتمل اكثر من معنى؟فيصنفها الى نص او ظاهر او مؤول، ثم يجمع الروايات حول الموضوع ليرى مدى تاثيرها في دلالات الرواية علىالمعنى المراد او الحكم المراد، ثم يبحث عما يعارضها ويعمل فيها وسائل التعادل والترجيح الخ.. وبالاختصار انيسلك الخطيب مسلك الفقيه في معالجة ما يطرحه على المنبر من عقيدة او احكام.
2- اثراء مادة المنبر، بمعنى تنويع مضامين المنبر والتماس المواد المشوقة للسامع التي يجب ان تاخذ بعين الاعتبارالاختلاف في مستوى المستمعين ومداركهم في الوقت نفسه والظروف المحيطة بالمنبر، وبذلك يحافظ على رعيلالمنبر ورواده ويعمل على زيادة عددهم من الناحية الكمية، كما يعمل على الارتفاع بمستواهم تدريجيا، وذلك فيقوالب تتناغم مع امزجتهم، لانهم من شرائح غير متجانسة من كافة النواحي غالبا، وكل ذلك في اطار اجوائنا العقديةوالشرعية، فهي الهدف الاساسي.
3- العمل على الارتفاع بالمنبر حتى يصل الى مستوى مرجع متجول يرجع اليه الجمهور للتعرف الى كثير مما يهمه، منقريب او بعيد، من حكم شرعي او عقيدة. وبتعبير آخر، الطموح الى جعل المنبر مكتبة متنقلة ترتقي بمقدار ما تؤديالمطلوب للجمهور، على نحو موسوعي لا يصل الى حدود التخصص. واذا قدر له ذلك فهو فتح في آفاقنا المعرفية.وبذلك يكون المنبر مؤهلا للخوض في الافكار العامة، وليس دخيلا عليها، مع لفت النظر الى انه فعلا سائر الى هذهالمرتبة رغم الثغرات التي تحوطه، وكل ذلك لالتفاف الناس حوله بدافع من العقيدة وطلب الاجر.
وهذه الامور الثلاثة التي اجملتها فيها تفاصيل كثيرة وشعب دار حولها كثير من النقاش، وخصوصا من ناحية ان ما هوقائم بالفعل يمكن تهذيبه، او ما هو مؤمل وممكن في حدود الامكانات المتاحة، لا ارى ضرورة لذكره هنا وانما اردتمجرد الاشارة اليه.
================
كان السيد الشهيد يرى ان الخطيب هو العنصر المؤثر في المنبر والروح الحقيقية له. ولهذا استاثر بحصة لاتقلعن حصة مضمون المنبر في الحديث مع السيد الصدر(رض)، من حيث ما يجب ان يحمله من مؤهلات وما يتصفبه من صفات. وكان اهم ما انتهت اليه الاراء ما ياتي:
1- ان يكون رعيل الخطباء قسما من الحوزة لا قسيما لها، بمعنى ان يسير على ما يسير عليه طلاب الحوزة من خطواتفي المنهج والمضمون، وفي سلوكه وهديه والتزامه باجواء الحوزة. واذا قدر له ان يتصف بذلك، فستحصل له اموراهمها: الثقة بنفسه وانه بمستوى اداء الرسالة علميا وستتغير النظرة اليه عند الجمهور، من كونه مجرد ذاكر يمارسموضوعا يتصل بالعواطف عند محبي آل البيت (ع) الى كونه من اهل العلم الذين يقومون بما يقوم به ممثلو العلماء فيالبلدان. غاية ما في الامر ان الممثلين ثابتون في مكان محدد وهؤلاء متجولون، وبذلك سيكون الخطباء مشمولين بكلما للحوزة من حقوق ورعاية وغطاء مادي من الحقوق الشرعية حتى لا يتعرضوا للضياع في ايام العجز والشيخوخة، الىغير ذلك من مكاسب.
2 – يتعين على الخطيب، اضافة الى ترسمه المنهج الحوزوي، ان يحقق اتقان الاليات ذات العلاقة بفن الخطابةالحسينية، لان ذلك من اول شروط المنبر الناجح، على ان تكون هذه الامور مسايرة للتطور اداء ومضمونا، ومنسجمةمع ضوابطنا الشرعية والاخلاقية، وحاملة لسمات عقيدتنا في خطوطها العامة، ومتصفة بالبعد عن المبالغاتوالتهويلات، الامر الذي يجعلها مستساغة، وبالاختصار ان تكون وفق المواصفات السليمة. ان هذه الاليات المذكورة هي العنصر الفاعل في جذب الجمهور الى المنبر، ومن ثم مخاطبته وفق المستويات التييخضع لها، من حيث الزمان والمكان والهوية وغير ذلك مما يحدد آفاق المستمعين. وينبغي الا يحرص الخطيب علىمجرد ارضاء المستمعين بالنزول الى مستواهم وما يتوقون اليه، خصوصا اذا كان يؤدي الى الهبوط بمستوياتهم، لا بد منمحاولة الارتقاء بهم تدريجا وبهدوء. ان بعض تلك الممارسات حتى لو كانت سائغة شرعا، لكنها اذا كانت تودي الى مايهبط بجمهورنا، ينبغي الابتعاد عنها، ان عملية الانتقاء هنا ضرورية ينبغي ان ترضي مزاجنا الديني، وان كانت لا ترضيالخطيب او الجمهور، ذلك ان الخطيب حامل رسالة، والرسالة تبني وان كانت عملية البناء متعبة تكلف جهداومعاناة.
3- انطلاقا من ذلك اصبح لا بد من عملية انتقاء لمن يمارس الخطابة، بمعنى انه ينبغي الا يكون الباب مفتوحا امام منيريد سلوك هذا الطريق ما لم يحمل المؤهلات، ولو بالحد الادنى، وليس من المحتم دخوله هذا السلك، بل يمكنتيسير السبيل امامه الى اداء رسالة عن طريق الحوزة التي لا ضرورة فيها للشروط المطلوبة من الخطيب مما سنشير اليه.اننا بذلك نحقق للمنبر ما هو ضروري له ولطالب اداء الرسالة ما يحفظ له مكانته ولا يعرضه للضياع لفقدان الشروطالمنبرية المفروض ان تتوافر لديه. كما نرى كثيرا ممن يمارس الخطابة ولا تتوافر له الظروف المطلوبة، فيكون عرضةللضياع واهدار عمره في ما لا يعود عليه بالمطلوب.
ولعل ابرز ما قد يحتاجه الخطيب هو:
أ – حسن المظهر ووجاهته في حدود معقولة، وينبغي الا يتصف الخطيب بما يغاير ذلك.
ب – ان يكون ممن رزقه اللّه تعالى صوتا جيدا مرنا وقابلا للتكيف مع الحالات المطلوبة في الاداء، لان حاجته لذلكشديدة، بحكم كون الصوت الجيد عامل جذب مهما للجمهور.
ج – ان يكون ذا حافظة سليمة لخزن المعلومات وليس من المبتلين بعكس ذلك.
د – ان تكون عنده موهبة حسن الاختيار، سواء كانت ذاتية ام مكتسبة، مع قدرة على التحرك بهذه الموهبة في المواقفالمطلوبة.
هـ – كونه من ذوي السمعة الحسنة، ومن دون ذلك يفقد التاثير ولا يعتنى بقوله. و ان يكون قد اجتاز مدة من التدريب والتلمذة تحقق له النضج في الخطابة والتحلي بخواص المنبر التي يكتسبها منمجموعة، وليس من واحد، لانها قد لا تكون مجموعة عند واحد فياخذ من كل منهم ما هو متميز به.
هذا اقل ما ينبغي ان يكون عند الخطيب، ليكون مؤهلا للقبول في ما يمارسه من عمل المنبر وحتى نكون قد اخترناللمنبر من هو مؤهل ومهيا لاداء هذه الرسالة، والا فليس من الصحيح ان نضعه في غير مكانه فنسيء له من ناحيةولرسالته من ناحية اخرى.
الشيخ خالد العطية
“ذات امسية واحسب انها كانت احدى امسيات شهر محرم الحرام، حيث تتجدد ذكرى شهادة الامام الحسين (ع) فيكربلاء وتتعطل الدراسة في الحوزة تحدث استاذنا الصدر في «مجلسه» الذي كان يجلس فيه الى طلابه وخاصته في بيتهفي تلك الايام عن زيارة الحسين (ع) المعروفة بزيارة «وارث»، والتي جاء في مطلعها: «السلام عليك يا وارث آدم صفوةاللّه، السلام عليك يا وارث نوح نبي اللّه، السلام عليك يا وارث ابراهيم خليل اللّه، السلام عليك يا وارث موسى كليماللّه، السلام عليك يا وارث عيسى روح اللّه، السلام عليك يا وارث محمد حبيب اللّه، السلام عليك يا وارث اميرالمؤمنين ولي اللّه…».
قال الصدر، وقد تالقت عيناه، وسرى في اساريره وهج شاعري: حينما نسلم على الحسين بهذه الكلمات نشعر اننا نعيش في اجواء رسالات الانبياء، واننا متواصلون معهم ومندمجونفي حركتهم الواحدة الممتدة في خطها المستقيم الواحد الطويل..
انها ترينا الحسين في موقعه التاريخي من الاطروحة الالهية والتدبير الرباني لهداية البشر، فتصفه بحق انه وارث الانبياء اولي العزم ووارث وصي خاتمهم امير المؤمنين عليبن ابي طالب… وهذه جملة ليست بحاجة الى تفسير، (والكلام للشهيد الصدر)، فهو بقية ذواتهم الطاهرة، وسليلاصلابهم الشامخة، كما انه مجسد معانيهم الشريفة وقيمهم الخالدة، ومستودع كتبهم المنزلة، ومبلغ رسالاتهم المتتابعة،والمتحمل، وحده، على قلة الناصر وخذلان الاصحاب، اعباء جهادهم الشاق وآلام تضحياتهم الدامية.. انها وراثةسموالذات وشرف النسب الى جانب كونها وراثة الخصال والمسؤولية والهدف والموقف الصعب”.
الدكتور زهير الغزاوي
ولكنني وكعهدي بنفسي كنت الملحاح اللجوج الكثير الأسئلة، ووردت أن ألمس أعماق الإنسان العالم الثوري في السيد الشهيد، لقد اكتشفت كبعض غيري عنه ذلك المناضل المؤمن المشروع التوحيدي الثوري… ومن خلال بسمته الودودة المشرقة في لقائنا الأخير لا أدري لماذا شعرت أنني أودع إنساناً من ذلك الطراز النادر من الكبار الذين نذروا أنفسهم للآخرين وخير الإنسانية… نذروا أنفسهم ليكونوا المشروع الخير لخلق الأنموذج في كيان أو نظام يسعى من خلال الأيديولوجيا الإسلامية لوضع شريعة السماء موضع التطبيق على الأرض
الشيخ محمد جواد مغنية
“في سنة 1973 زارني آية الله السيد محمد باقر الصدر في فندق الاستراحة بكربلاء و كان امامي كتاب “التجارب” ، و على ظهر الكتاب اسمه بالخط العريض ، ففتحه كيف اتفق ، و قرأ منه أسطراً بعنوان :”الوجودية في التعليم النجفي”. فابتسم و قال كلمة نسيتها بالحرف و الشكل ، و أذكرها بالمضمون و المعنى : “جر الوجودية إلى التعليم النجفي يفتقر إلى معرفة الجار و المجرور”.
السيد صدر الدين القبانجي
سئل آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر عن كتابة بعض الأبحاث الفلسفية فأجاب بأن الإسلام اليوم لا يحتاج إلى أفكار ، إنما يحتاج إلى قائد ، و كان ذلك قبل انتصار الإسلام في إيران.
السيد عبد العزيز الطباطبائي
انه عندما صدر كتاب «فلسفتنا» تساءل بعض الفضلاء في الحوزة الذين التقوا في منزل ابن الميرزا النائيني، هل درس محمد باقر الصدر الفلسفة كي يؤلف في الفلسفة؟ فأجابهم الشيخ صدرا البادكوبي الذي كان حاضر المجلس: لقد حضر عندي محمد باقر الصدر ودرس «الاسفار» خمس سنوات، ففوجىء معظم الحاضرين بهذا النبأ.
الشيخ صدرا البادكوبي
اشترط عليَّ أن لا يتابعني في التدريس الرتيب لهذا الكتاب (الأسفار) ، بل طلب مني ان يقرأ عليَّ كل يوم صفحات من هذا الكتاب، ويسألني عما أشكل عليه فقبلت، وأنهى دراسته للكتاب بسرعة على هذا الشكل
السيد فاضل النوري
لقد بذل الباذلون أن يشتروا له بيتاً فارهاً يسره ويرضيه، فأبى ذلك إياه يثبت به أن زهده حق لا يشوبه باطل، صادق لا تطيق به فضلاً عن ان تخالطه مساءة الكذب
================
لقد كان الامام الشهيد متصرفاً عن سكنه الدنيوي الى السكن الاُخروي مشغولاً عن( ام مرام) بالامور العظام، قيادته جهاده، أُمته، دروسه، تأليفه، زُواره أيام العافية، عواده أيام المرض، فتاوى مقلديه، التفكير في الامور العارضة من هنا وهناك.
وكان هذا يزيدها فخراً به واعظاماً له، وإكباراً لجلالة قدره تذكره حين تذكره متحدثة عن بعض أموره فيطفح الاعجاب على وجهها ، او يستحيل الى دمعة خشوع لعظم شخصه تترقرق أو تسيل.
وكانت اذا أعوزها امر الى اليمين اقسمت بحياته فله في نفسها حرمة بالغة، وله في قلبها مقام مكين.
كانت تسافر عنه لبعض شأنها الى خارج العراق وقد تغيب عنه الشهور الطوال ، فلا يحُس بأن الفراق يضنيه بل لا يجد له في نفسه أثراً، فهو على وصال ما هو اسمى منها واكبر وقعاً في نفسه استحواذاً عليها، ولا يأخذ من فكره أو خاطره شيء اسمه فراق الأهل أو بعد الزوج مهما طال.
================
كان له مع المال يومان: يوم كان المال في منأى عنه لا يجده لأيسر أموره ، ويفقده في الهين من شأن طعامه ولباسه، لا يظفر منه الا بما يكفل له أيسر ما يستره من اللباس، واقل ما يأكله من الطعام ، وكان يقضي معظم شهره يستدين من البقال ليعطيه اذا طلع الهلال ما لا يبقى منه بعد اداء دينه إلا ما يكنه مما هو أقل من الكفاف واكثر من الحرمان.
================
أتته واحدة من صغيراته في احدى ليالي شهر رمضان لتقول له ببراءة طافحة لقد اشترينا يا أبت( صينية بقلاوة) وهنا يصعد دم الانفعال في وجه الامام، ويضطرب نابضه المبارك، ويدعو غضبان اليه زوجه يسألها عن ذلك الأمر ، فتنبئه أنه شيء أهدي اليهم، وكثير هم اولئك الذين يودون ان يهدوا اليهم هدية تنال رضاهم او رضا الله بالبذل لا وليائه ممن يطلبون الزلفى الى ربهم سبحانه.
================
تدخل زوجه البيت وفي يدها شيء من التفاح اشترته بعد مرورها بالسوق، ويرمقها الامام الشهيد بنظرة عتب قاسٍ ليقول لها بعدها: ما هذا؟ الم تعلمي أنه لا يدخل بيتنا في اليوم زوجان من الفاكهة وعندنا الساعة من(البطيخ) ما يكفي او يزيد؟
وتعتذر روجه بانها تعلم ذلك ولكن صغارها المرضى اوحوا الى نفسها أن تشتري لهم من التفاح ما عسى ان يعينهم على الأوبة الى العافية.
================
كان خادمهم يمضي الى السوق في حاجاتهم ووصيتهم ترن في اذنه(اشتر لنا من الأشياء اوساطها).
وقد اوصوه أن يشتري لهم مرضعة( زجاجة رضاعة) فذهب الى السوق تصحبه تلك الوصية، فوجد زجاجة قد رضعت من قبل فظنها من ذلك الوسط المطلوب فاشتراها مفصحاً بذلك عما الفه من وصيتهم ومن حال عيشهم، وما ألفوه هم منه مما يشتريه لهم.
================
كانت لدى زوجه ماكنة خياطة قديمة تحرك باليد فأحبت ان تستبدل بها غيرها من أيسر الجديد المستحدث، ولكن زوجها الامام يأبى مبيناً لها أن مهم الامر الذي تقوم به هذه تقوم به تلك فليس ثمة داع معتد به يدعو الى بذل المال فيها.
================
كانت (زوجه) تشتكي من بعض العناء في أحضار اللبن الممزوج فرغبت اليه ان تشتري من هذه الآلة الجديدة التي تمزجه بيسر، بقيمة لا ترتفع الى الدينار الواحد، فأبى الامام بذل هذا الثمن في شيء قد يكون مما تحتويه بيوت الاغنياء، وأصر على زوجه ان تبقى مع طريقتها القديمة في اعداد اللبن.
================
كان يتأبى أن يشتري( الثلاجة) وهي لم تكن يومئذ من مختصات الموسرين، بل كان يملكها حتى اوساط الناس ان لم نقل أدناهم في معيشتهم، رغم ان بيته الزوجي كان يجد مسيس الحاجة اليها، وظل هكذا خالي البيت منها مع هذا الالحاح البالغ مع معارفة واصحابه على ان يسر اسرته بها، وليس يعوزه المال الذي يشتريها به، ويبقى الامام متأبيا زاهداً فيها، حتى كتب كتاب(المعالم الجديدة) فأهداه إلى كلية( أصول الدين) فرأى المشرفون عليها ساعتئذ أن يهدوا اليه ثلاجة صغيرة يمنعه الخلق الرفيع أن يردها فأوصدوا على اهل الامام باباً من العناء ، وأشرعوا في وجوههم باباً الى بعض الراحة .
وتظل هذه الثلاجة تكدح في بيت الامام أربعة عشر عاماً حتى خارت قواها، وضعفت عن أداء دورها فرغبت اليه في تغييرها لضعفها وصغرها وبالغ حاجتهم الى اكبر منها، فأبى اباءً شديداً أن يجيبهم الى ما يطلبون حتى عرف الأمر احد تلامذته فاشترى لاسرة استاذه الزاهد ثلاجة جديدة.
================
لم تكن تدخل بيت الامام الشهيد هذه الانواع الجديدة من( المهد) ما يدخل الكثير من بيوت اقل الناس في ذات اليد، وكان يأمر ان يشترى لمولوده الجديد مهد من النوع القديم الذي تزدريه أعين الناس، حتى لوليده جعفر الذي أحس له اهل بيته وهو يدخل دنياهم بالسرور الوافر، فهو الغلام الوحيد، وكانت تلك القضبان الحديدية المرتبة على هيئة المهد هي حضن ذلك الوليد السعيد بعد حضن امه.
================
كان مألوف طعامه اذا أصبح الخبز والحليب، ومألوفه اذا أمسى الخبز و(السكنجبيل) ، ومألوفه بينهما الخبز واللبن، قد يصحبها ظهراً وعشاءً (بالخس) ايسر طعام، واخف ادام، فما بسط له الخوان الملون ، وما اقيمت له المائدة العامرة ، وما وضعت بين يديه فنون الطعام واصنافه يأكل منها ما يشاء متلذذاً، ويصيب منها ما يريد متنعماً شرهاً الى ذلك ، راغباً فيه، طالباً أياه، باحثاً عنه.
================
كان له قباءان اعتقب عليهما ـ وهو يلبسهما ـ اثنا عشر عاماً لم يستبدل بهما غيرهما، واظنه نال الشهادة وهو يرتدي احدهما ، عازفة نفسه عن تخير الالبسة كما عزفت عن تخير الأطعمة.
================
كان كثير من الهدايا التي تهدى اليهم تبوء برفضهم المشفوع بالعتب اذ يقال لاصحابها: لِمَ لم تذهبوا بها الى الفقراء، وذوي الحاجة من المساكين فذلك ادعى الى رضا ربكم؟ ولم قصدتمونا بها ونحن في غنى عنها؟
وكان البعض منها يقبل ليتحول الى من هو بحاجة اليه يذهبون به اليه بأنفسهم.
================
لقد زهد رضوان الله عليه في كل مظاهر الدنيا من معرفته بحقيقتها وتساميه بفضائله عليها، وطلبه الباقيات عند ربه ، شأن آبائه الميامين، وهو حيث يكتب رائعته الفريدة( فلسفتنا) لا يثور في نفسه هاجس الدنيا العريضة بطلب الشهرة الواسعة ليجعل ذلك الزاهد المترفع لهيف النفس الى ان يرى اسمه قد سار مع كتابه الفريد في الارض تلهج به الألسنة، وتتحدث عن صاحبه المحافل، لقد اراد ان يصدر الكتاب باسم جماعة العلماء زهداً في الشهرة ، وايثاراً لغيره على نفسه ، وتقديماً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، ولو لا رغبة البعض في تلك الجماعة في التغيير في الكتاب مما يضعف مضامينه ويسلبه الكثير من جدواه، لكان ما اراده الصدر المتسامي قد حصل.
================
ويتسامى الزهد الصدري ليبلغ ذروة لا يرقى اليها طائر الطموح تثير العجب بها ومنها إثارة محيرة حين نراه في محنة الحصار، وضيق الخناق حيث تسد في وجهه السبل الى الحياة كما يحيى فيها الناس، وتمنع يده من ان تمتد الى حقها الطبيعي في مادة العيش، وتمنع عنه الايدي ان تعطيه ذلك الحق.
في تلك المحنة الحازبة. كانت تصل اليه بلطائف الحيل هدايا الاولياء من الاموال والمساعدات، وكان يرفضها متذكراً الايام الاخيرة لحياة أبيه حين غادر الدنيا ولم يترك في بيته شيئاً من زخرف الحياة حتى ما يكفي لعشاء أهل بيته في ذلك اليوم الذي رحل فيه.
================
لقد اوصى له احد معارفه( حال الموت) بشيء من ثلثه وكان (سيارة)، عسى ان تكون له بعد موته صدقة جارية حين يستعين بها الامام على قطع المسافات التي تفصله بين بيته ودرسه، او بيته وكربلاء ليالي الجمع، او بيته وكثير من المواضع الأُخرى التي يقصدها يؤدي فيها حقوق الله أو حقوق اخوانه المؤمنين ، وتدخل(السيارة ) بيت الامام دون ان يطرف لها طارف الحبور، او يهيج لمرآها داعي البهجة يزيد من سروره وينقص من غمة، فلمطالب الدنيا هذه مثل هذا الأثر عند غيره لا عنده.
تدخل السيارة بيته، لتكفن فيه كما كفنت في نفسه تنتظر من يبذل لها حقها من الثمن ليتحول بعد ذلك الى الأيدي الخالية تملأ بها بطوناً ساغبة لدى الفقراء من تلامذته وسواهم، والى بعض هموم الجهاد مواضع حاجاته ، مع ان غيره من اكابر العلماء ملكوا( السيارة)، وأفادوا منها في شؤونهم، واستعانوا بها على قضاء حوائجهم. لكنها النفس العظيمة تستصغر أعراض الدنيا، ولكنه القلب الكبير يستهين بكل زخارف الحياة.
================
اهدى اليه احد مريديه من الكويت عباءة نفيسه، وحين يعرضها عليه رسول مهديها يأخذها الصدر بيده ويعرضها على احد الحاضرين في مجلسه ممن يبيع مثلها طالباً منه ان يقدر ثمنها، وكم تعدل من مثل ما يلبس هو(الصدر) من عباءة.
فأجابه الرجل أنها ثمينة وتعدل الكثير من مثل عباءته، فعرض عليه الصدر الزاهد ان يعاوضها بذلك المقدار الذي يعتقد أنها تعدله يسلمه بيده الى المحتاجين م الطلاب.
================
وصلت الى بيته هدية مترفة( وسيلة من وسائل الزينة) من لبنان الى احد تلامذته المترفين ضلت الطريق الى مقصودها فاستقرت في بيت الصدر عند الباب تنتظر مجيء صاحبها اليها، وقطب الصدر جبينه الكريم بعد أن انقبض قلبه من رؤيتها ،ولم تبق في بيته الا أياماً كانت فيها كالثقل الجسيم يرزح تحته قلبه الكريم.
وجسد الصدر امتعاضه وعتبه الغليظ على طالبها بأمره الحازم له أن ينقلها من بيته سريعاً ، لانها ارمضته وسلطت على صدره سوط الأذى والتبريج.
================
القدسية في كلمتين من القرآن:{ اذلة على المؤمنين}.{واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}.
كان الذين يزورونه ، ويستمعون اليه، ويتفهمون منه، يعجبون اول ما يعجبون بتواضعه، وخفض جناحه، وبشاشته، واشراق محياه، وطيب لقائه، وبعد ان يردوا نميرة وينهلوا منه ما يبل ظمأهم، ويطفئ غلتهم، ينقلون عنه ليروا منه في صدورهم عنه مثل ما رأوا في ورودهم عليه. يقوم لهم اذا أقبلوا عليه ببسمة ساحرة، وبشرٍ طافح، واقبال آسر، ويأخذن بمجامع قلوبهم، ويطرن بنفوسهم شعاعاً في عالم الحيرة والذهول، واشدهم تأثراً من كانوا قد رأوا غير فرأوا منه أقل القليل مما لا يبلغ معشار ما يرونه منه، فاذا سأل سائلهم أدار طرفه اليه مصحوباً ببسمة وادعة ، وأصغى اليه اصغاء سمحاً، حتى اذا أتم كلامه راح يجيبه على قدر فهمه لا برماً بسؤاله انى كان، ولا سئماً من الجواب عنه، فلا يخرج هذا من عنده الا بقلب مأخوذ وشعور مغلوب وعاطفة مشبوبة مشدودة لهذا الامام المتواضع.
================
كان ينصت لكل اشكال يطرحه تلامذته ويرده ولو كان خارجاً عن روح بحثه، ولا يرد احداً منهم يناقشه رداً قاسياً، ولا يشتط في جوابه، ولا يغلظ عليه ولو أساء ملاددته ومعارضته.
================
وان أنس فلن انسى مشهداً علوياً اطلت علينا به روح التواضع عنده ودليله الى سواها من الكثير الوفير من الوان تواضعه وخفض جناحه ـ ذلك هو انحناؤه وهو الذي انحنى له أعزُ الرؤوس، ولثم انامله أعز الشفاه على ايدي اساتذته يقبلها، ليكون ذلك آية اخرى يتنزل بها من علياء الخلق الرفيع وحي التواضع تبهر باشراقها انظار المبصرين، وتذهب بقلوبهم كل مذهب في دنيا الحيرة والاعجاب.
================
كان(رض) قليلاً ما يجيب دعوة الحضور ببركته في افراح الزواج ليقلل من شأن الاهتمام بها، ويوحي وحياً صامتاً بعدم الافراط فيها، او الخروج بها عن مرغوب الاسلام ومطلوبه.
اما حين يدعوه خادمه لمثل هذا الامر فانه يستجيب لا ليقضي بعض الوقت هناك كما يفعل في النادر من حضوره في هذا الأمر ساعة، بل هو اليوم يمكث حتى يتعشى ليملأ نفس اخيه المؤمن بالغبطة والسعادة ثم ينصرف عنه بخالص الدعاء وصادق الرجاء.
================
يدخل عليه احد تلامذته صنعة تلك المرحلة المزبورة، ليسمعه بذيء القول في ذمه، وقبيح الكلام في انتقاصه والحط من قدره، فيصغي الامام له ويصمت على بسمة ذابلة تداعب شفتيه، ثم يرفع طرفه الوادع الى شاتمه ليدعو له ولاخوانه من ورائه بالرشد والصلاح، ومعرفة السداد والصواب.
فلم يزعق فيه لسوء ادبه الجاهر، ولم يغضب عليه لجرأته الفاضحة، ولم يسمعه كلمة رادعة وقد سمع منه فضيعاً ، ولم تنبس شفتاه الطاهرتان بغير الدعاء له ولمن دفعوه لذلك الامر، وينقلب عنه تلميذه بالصفح والستر كأن لم يكن قد بدر منه ما بدر.
================
بلغ سمعه الشريف ان احد العلماء ابن احد المراجع الكبار يقصده بسهام السوء، ويرمي ساحته الطاهرة بها من حسد حانق ظالم، ولا يكتفي الحلم الصدري في هذا الامر بالسكوت والإغضاء ، بل يدفعه حلمه الرفيع وحكمته المتعالية الى أرفع المواقف وأسماها، فيوصي احد تلاميذه ممن لهم علاقة بحاسده ان يتلطف معه في اشعاره بان الصدر يحبه ويذكره بخير، عسى ان يكون ذلك عوناً على قطع لسانه، وقمع غائلة فتنةٍ يريد اثارتها في وسط الحوزة وحصنها المنيع( المرجعية)، واضعاف الخط الاصيل فيها، وتوهين رائده الفذ، وكذا كان.
================
وينقل له ثقاته ان احد تلاميذه انحرف عن خطه، وراح يتجنى عليه، ويظلمه ويقذع له في السب والقدح، وكان الناقل يظن أن الصدر سوف تبدر منه الحسرة والآهة والتظلم والدعاء على ظالمة، لكن الذي طفح به معدنه الكريم هو مقالة التقي الحليم( انني ما زلت اعتقد بعدالة هذا الشيخ، وإن ما يصدر منه ضدي ناشيء من خطأ في اعتقاده، وليس من عدم مبالاته بالدين) فمن هو غير الصدر حين يجد لعدواة كارهيه ونابزيه ، باللقب السيئ ـ محملاً في الخير يحملها عليه، ويوجهها وجهة الخير، وان بدت كريهة مؤذية؟
================
دخل عليه احد تلاميذه مودعاً له عند ارادة( تسفيره) وكان هذا التلميذ ممن لفهم تيار الحقد على خط الصدر المظلوم فبدر منه ما بدا من التجني والعدوان، وقد اراد بالوداع ان يتوب الى الصدر مما بدا منه ليهبه اياه فيظفر بالنجاة من وزر الظلم لاستاذه.
فماذا وجد ذلك التلميذ المتجني عند استاذه المظلوم؟ لقد وجد ذلك التلميذ صدراً رحباً وسع سقطات المتجنين، وامتد حتى حوى الفضاء الفسيح للصفح والستر، فلم يعد فيه شيء من نقمة الناقمين، او غضب الذين يثأرون لانفسهم من ظالميهم بالسطوات او بالاعراض، لقد ضمه الصدر اليه واعتنقه باكياً تنهمر دموعه اسىً وحسرة لهذا الذي جاءه معتذراً مودعاً وقد بدت عليه علائم الانكسار للندم، ومظهر الاذى لما يحل به من امر( التفسير) والابعاد عن النجف.
================
وليس يفوتني أن اذكر أن الحلم الصدري الكبير قد تعدى طوره المألوف منه وهو طور بعيد ليرقى الى طور عجيب هو حلمه عن عبيد الطاغوت الذي أساؤوا اليه وآذوه، وكبلوا معصميه بالأصفاد، فحين يقفون ازاءه بعد اعتقاله البكر قبل ان يغادر سجنهم وغلالهم معتذرين كذباً ورياءً يقولها هو حقاً وصدقاً :ـ( اذا أخطأ الابناء فعقوا وقصروا، فعلى الآباء أن يصفحوا ويغفروا).
================
كان امراً عجيباً لم اسمع به من ذي قبل عن احد غيره، ان يوصي الامام الشهيد زوجه ان تلزم جانب الشدة مع ابنائها، تحاسبهم بحزم وجزم، وتدير شؤونهم بقوة وعزم، ليسلك هو جادة الرفق واللين، لا يغلط عليهم، ولا يقسو معم، كأنه(ص) يرى انها بهم الصق، وهم اليها اقرب، وجل امرهم موكول اليها ، معول به عليها، فلا يزكو بغير الشدة يمازجها اللين، ولا يصفو بغير الزجر يرافقه التبيين، ثم انهم اليها احب وهي بهم ارأف، والى رغباتهم اسرع، فحري ان تكسر حده الحب بشيء من القسوة حتى لا يبتلي بمصيبة الاذعان لرغبة المحبوب، ولا يناله داء التسليم لاهوائه.
ولعله كان يعلم أنه سيسبق زوجه في الأوبة الى ربه فتبقى هي لهم تتحمل كل العبء المفروض لهم من التفهيم والتهذيب والتقويم، فلتستعد لهذا الامر الجسيم قبل اوانه، وليجدوا فيها أماً حازمة يهابونها ويكبرونها، حتى اذا بقيت معهم دون ابيهم كان لها بما في نفوسهم من مهابتها قوة تعينها على تدبير شؤونهم، لا يخالفونها ولا يعصونها ، فقد كانت لها معهم تلك السجية الأبوية التي وهبها لها ابوهم لتكون بها معهم اماً عطوفاً كالأب الحازم، يذوقون منها طعم الامومة الناعمة، ويجدون عندها اقتدار الابوة المدبرة.
================
صورة مصغرة لهذا الرفض كانت منه( رض) معي، فلست أنسى كلماته المباركة في وصيته لي عندما أمرني بالخروج حيث رأى موضع الحاجة الي: ( لا تلتق باحد من المسؤولين، ولا تقصده ابداً مهما كنت تشعر بالحاجة الى ذلك. لا تستقبل احداً منهم صغر او كبر. لا تقبل منهم هدية، ولا تأخذ من ايديهم شيئاً ، لا تهيب ان تدعو الناس الى المحور، وان تظهر لهم انك وكيل لي جئت تهدي الناس بامري، ولا تتستر باسم احد غيري لا..لا..لا…..).
================
لقد شغلت بال الامام الشهيد قضية الاسلام التي اعطاها عصارة عمره، وبذل لها زهرة دهره، فكان مطمحه ان يراه خفاق اللواء على ارض العراق، مبسوط السلطان على ربوعه، ليرى الناس في عدله القويم سعادتهم، ومن حكمه الميمون هناءهم وكان المحرومون والمستضعفون الذين أملوا فيه اعظم آمالهم نصب عينيه، يراهم بناظره إذلم تحجبهم عنه حجب الاستعلاء ولا أستار اللامبالاة،ويسمع شكاتهم فيحس كأنها نصال تخترق أحشاءه، ويسمع من اخبارهم مايرمضه ويسهده ، فلم يجد الامام بُداً من ان يستنهضهم وينهض بهم ، ويشحد هممهم ليصاول بها ، فهم سلاح ثورته ، وهم جُل غايتها ، ففتح لهم قبله يذيقهم دفأه بعد أن حُرموا دفء الحياة ، وفتح لهم ذراعيه يضمهم الى صدور الحنون بعد ان نبت بهم ونبذتهم معيشتهم الكأداء، وفتح لهم باب داره على مصراعيه ليجتمع بهم ويسمع منهم، ويرسم لهم طريق الخلاص. وجاؤوه من كل حدب وصوب زرافاتٍ ووحداناً، شيباً وشباناً، وحسرت اليه الكواعب وبنات الخدور يبايعونه مخلصين ، ويبدون صفحة البأس والعناد للظلم تحت لوائه ثائرين.
فراح هو يأسو جراحهم ببلسم كلامه، ويربط على قلوبهم برباطته، ويشد على أيديهم بيد الاقتدار يقول لهم: ( قد آن للمستضعفين أن يمكنوا ويسودوا، وللمحرومين ان تفك عنهم أغلال الحرمان) (قد صممت على الشهادة لانها غاية الطريق في سعيي من اجلكم وبذلي في سبيلكم، ووالله لن أسلمكم، او اخذلكم، أو اتخلى عنكم، ولو كان دون ذلك تقطيع الاوصال على ثرى كربلاء مكرورة في عاشوراء مجدد، وسيبقى دمي بعد ذلك حراباً مشرعة لها طعن دراك في صدور الظالمين وسيوفاً مصلتة تقد رقابهم، وصرخة مدوية ليس لها خفوت تقض مضاجع المستكبرين).
وأعظم بعشق اولئك المحرومين لإمامهم، ومحبتهم لقائدهم ، مذ الفوه ذاب رفقاً بهم، رحمة لهم، واشفاقاً عليهم، ولقد سمعوا يوماً أنه يريد أن ينصرف عن بلاد السوء الى بلاد سواها، فعجوا وهاجوا، وماج بعضهم في بعض من قلق وحيرة، وأرقلوا اليه مسرعين يستوضحون صدق الانباء، ليذوقوا طعم النعيم بتكذيبها، ويعطوا الامام عهداً مؤكداً على الموت دونه او يوقعهم في يتم فادح، وخطبٍ جائحٍ، حين ينأى عن وجوههم فتذوي في الصدر آمالهم، وتغرب عن عيونهم شمس تنير لهم مسالكهم في الديجور، وتبصرهم مواضع اقدامهم في المتاهة.
ويطلع عليهم امامهم بوبجهه الباسم اللألاء ليفقأ عين خشيتهم فلا تراهم بعدها، ويكسر جموح الخوف فيهم، ونزقان التوجس في صدورهم، ويقول لهم قولته المشهورة( محياي محياكم ومماتي مماتكم). ليصدق فيها صدقاً لا يجارى، ويفي لها وفاءً لا يماثل ، ويعطيها دليل الصدق والوفاء دماً زكياً مسفوحاً، وجسداً مباركاً صريعاً.
================
وتشتد مع الامام الثائر حال العداء من عدوٍ فاجر، وتؤوب هذه الحال الى شر مآل، فتحيط به مخالب الطغاة الجفاة كأنها انياب الحيات، ويطلع عليه الشر بوجه منكر، فقد استغلقت احبولة الصائد الظافر حتى اوشكت أن تسد عليهم منافذ النسيم لا تحور ولا تريم، واوصدت في وجوههم باب الحيلة للخلاص من هذا البلاء المارد الذي غزاهم بهوله في كل الموارد.
وكانت منهم معه حيلة العاجز الواهن الذي لا يقوى على مقاومة الحجة بالبرهان ، فلم يألف الناس في ايام حكمهم غير السجن والسيف والخوف، تخرس افواه الحجج الباهرة، وتقطع أعناق البراهين القاهرة.
واغلقت الباب على الامام السعيد سجين بيته، ورهين داره، لا يفارقها، ولا يزار فيها، فصلاً بين الامة وامامها، وتفريقاً بين المستضعفين وقائدهم.
وينظر الامام حوله ويتطلع فماذا يرى؟
ويسمع الامام ويتسمع فماذا يصل الى اذنيه؟
لا يرى الامام من حوله الا جدراناً صماء خرساء قد تضمنته وعياله كما يتضمن الوعاء ما فيه، واحضنت عليهم كما يحضن الجسم على احشائه، وتشابكت اركانه محكمة عليهم كما تتشابك اركان السجن محكمة على من اودعوا فيه.
قد اوصد الباب فلا ذهاب ولا اياب، الحياة تصخب من حولهم وهم في الدار وادعون،ويعج الناس بالنشاط في كل صوب منهم وهم في بيتهم ساكنون، ويتقلب الناس في الارض كيف يريدون وهم رهن هذه الجدران لا يغادرون. قد اعلقتهم اوهاق الطغاة فلا منجى ، واحتبلتهم اشراك الجناة فلا حيلة ، فعيون الجبارين تترصدهم وهم في الطوق الخانق، وتحصي عليهم كل شيء وهم في الحصار المبرم، انهم يخشون الا يكف الامام عن علاقته بامته، والا يقطع ارتباطه باتباعه، والا يمنعه ضيق حبسه وفرط الحرص على عزله من امره المحذور وشأنه المحظور، وقد قرأوا في تاريخ اجداده الميامين انهم لم يفارقوا اتباعهم قط وهم في الطوامير، ولم ينفصلوا عنهم وهم في الخطب العسير، ولقد حسبوا انهم قد عالجوا الداء بغاية الدواء ، ولم يعلموا انه النور لا تحتويه قبضة كف، وانها الحقيقة لا يضمها سجن، وأنه القائد المعشوق تأتيه اشواق القلوب إن عجزت ان تقبل عليه بأنفسها.
================
ينظر الامام الى مخدرتيه( زوجه واخته) تتعاوران اخراج ما يجتمع لديهم من (النفايات) فتخرجه هذه مرة وهذه مرة لتضعه حيث تقوم كلاب البعث بنبشه في حضورها نبشاً، وتبحث في اجزائه بحثاً اذ تخشى ان يكون في اطوائه رسالة مدفونة، او ان تحتوي احناؤه وصيد مخفية، وتحس الهاشمية لهذا المشهد كأن نصال هؤلاء الاعلاج تقطع نياط قلبها، وينطلق للمرأى الأليم سهم نافذ يصمي فؤداها فاذا به افلاذاً تتطاير، فلا تدخل البيت حتى تهوي منهدة اركانها كأنها قد فرغت للتو من حمل الجبال، وتسقط من فرط الاعياء ، كأنها كانت تصعد في السماء.
================
لم تمض أيام على فتح بابه للوافدين، وبعد علمه ببعض حالات الملاحقة والاعتقال لمن زاروه ـ حتى اغلق بابه بيده متحدياً امر الطاغوت بفتحه، واصر الظلمة على ان يفتح فأصر هو على اغلاقه، وابى ان يستقبل احداً من الناس، وحفاظاً منه على ارواحهم ، وحقناً لدمائهم، ليبقى هو رهن سجنه الاليم يكثف عليه اطباق الهموم، قد تحدى امر الجبابرة، وقطع عليهم سبيل المكر ، وحال بينهم وبين وما يشتهون ، ومنعهم من ان يصطادوا به اولياءه ، وان يجعلوه احبولة صيدهم ، وفي ذلك تسعير لغيظهم وحنقهم ، وتأكيد لحكم الموت الذي رأى انهم قد حكموا عليه به سراً الا ان يكون عند مواضع رغباتهم.
وكانت تلك من كرماته التي لا تنسى مدى الدهر ، ومحاسنه التي تبقى زاهية تاجاً على رأس الفخر.
================
وتسمع واعتياه طرق الباب بعد ظهر يوم السبت 19 جمادى الاولى 1400هـ، فلا يشك في انها تباشير الخلاص بدأت تترى ، ويسمع الباب يفتح ليدخل عليه بعض اعلاج الشيطان يدعونه لمرافقتهم معتقلاً بعد ان رفض دعوتهم له ان يمضي معهم زائراً على شأن إبائه ورفضه وشموخه وكفره بطاغوتهم ، ودعوته الى الكفر به والثورة عليه. وكأني بالامام ينطلق مودعاً اهله الكرام بادئاً بامه منتهياً بصغاره وهو أمر وان كانوا الفوه من قبل الا انهم يحسون له اليوم حرارة لم يجدوها فيما سبق، ويلفون فيه جداً وحزماً لم يعرفوهما فيما سلف.
فكان ذلك ادعى الى مضاعفة الشجى، واستعار الاذى، ولولا ان يقطع الامام حديث الوداع بالانصراف فقد خاف غائلة الظن من الجناة انه قد هابهم وضعف بصارف الخوف عن المجيء اليهم، لولا ذلك لكان لموقف الوداع اثر غير الذي كان من ذوب القلوب بحر ناره، وانقطاع الانفاس في غمرة تياره.
ويقبل الامام كالضرغام على طالبيه، ويبسم مسلماً عليهم، منطلقاً امامهم ينقل خطاه الى حيث اعدوا له( سيارة) تنقله الى حيث يريدون.
وتنطلق الجماعة الغاوية برهينتها على عجل ووجل مسرعة به الى بغداد، وتبلغ عصبة الضلال غاية مسيرها، وتمضي بالامام الى المكان الذي اريد له ان ينزل فيه ليفتح له عبيد الشيطان باباً أملوا فيه كل آمالهم، وتوسموا فيه غاية محبوبهم.
================
تفتح الباب صبيحة يوم جديد ليدخل على الامام رهط من الجلادين تتقدمهم امرأة لها بمن أدخلوها عليه شبه في الخلقة والجسم ، ولها منه نظير في الصلابة والعزم ، وينظر الامام فاذا بها (اخته ) بنت الهدى) فتأخذه رعدةٌ سرعان ما سكنت وتشب في احشائه نار عجلان ما خمدت ، ويكتفي في هذا المشهد بنظرتين ثاقبتين يلقيها على اخته ، فيهما صرامة و اقدار ، وفيهما حديث ووصية ، ثم يطرق الى الارض لا يرفع ناظريه ، وأزبد الجلادون وأرعدوا ، وهددوا وأوعدوا ، وأنذروا بفظيعات الشرور ، وجسيمات الامور.
وكأن في اذن الامام وقراً عن سماع الوعيد ، ودون قلبه وما ينذرون حجاباً مستوراً من حديد.
وانصرفوا عنه باخته بعد حين ، وقد جاؤوا بها اليه مساومين ، وانقلبوا غير مفلحين ، اسارى البُرَحَاء ورهائن الغماء ، ويمضون الى اوليائهم يقصون عليهم قصة الرفض يسمونها ( العناد) وآية الاباء يسمونها ( إلاصرار على الجرم.).
فما هي الا بضع ساعات حتى جاءهم الامر المبيت الذي ارادوا بالمساومة مع الامام بشتى فنونها ان يظفروا بخير منه ما عسى ان يكون علاجاً لدائهم ،وأيسر منه ما عسى ان يكون سبيلاً الى غايتهم.
وها هو ذا وجه اليوم أسيف حزيناً ، اسيان مفحوعاً.
السيد محمد باقر الحكيم
لقد حدثني (رض) كمثال على هذا الظن الحسن أنه كان يعيش في دار ملاصقة لدار خاله المرجع الكبير الشيخ محمد رضا آل ياسين، وهو مرجع ترده الأموال الشرعية مثل بقية المراجع الآخرين، وكانت ظروف الشهيد الصدر المعيشية في حالة ضيق وشدة، ولكنه لم يتلق المساعدة المطلوبة من خاله كطالب علم متفوق ورحم قريب وجارٍ عزيز ومن أسرة علمية مرموقة وتنطبق عليه جميع العناوين المطلوبة من الحقوق الشرعية، لأن خاله ـ مع حبه واحترامه له لقربه ونبوغه ـ كان يتصور ان حالته المعيشية عادية، ويأبى الشهيد الصدر لعزته وكرامته أن يتحدث عن أحواله هذه ويبقى حاله على هذه الشدة والفاقة، واذا كان حال خاله الملاصق له في حسن الظن هذا فكيف بحال غيره؟!.
================
لقد حدثني (رض) مرة عن هذا الامر بانه واجه صعوبة كبيرة في ادارة هذه الحياة في هذه الفترة ولا سيما بعد هجرته الى النجف الاشرف مع عائلته وانقطاعه عن الوسط الاجتماعي الكاظمي القريب منه ومن والده، فذكر انه اضطر إلى بيع بعض الممتلكات البسيطة من الأثاث وغيره مما كان لديهم في الكاظمية ليحولها الى سيولة نقدية ويشتري بذلك حصة سيارة تستخدم للأجرة على طريق النجف ـ الكوفة وعلى نحو المضاربة ليحل بذلك جانباً من المشكلة المعقدة.
وكان يذكر انه كان يدير هذا الامر مع تفرغه لطلب العلم من ناحية وبعيداً عن الأنظار لحساسية مثل هذا العمل اجتماعياً في ذلك الوقت من ناحية أخرى ولاسيما هذا النوع من النشاط، وحتى انّ أبناء العائلة ومنهم الأخ الأكبر لم يكن مطلعاً على هذا الأمر، وكان يصرف المال الذي يهيأه الشهيد الصدر دون سؤال، وكان قلب الشهيد الواسع وفكره النير وطهارة قلب الأخ الكبير كلها عوامل مساعدة لتعميق هذا الامتحان والمعاناة، فهو الذي كان يتحمل المسؤولية ويهيء النفقات وينفذ الخطة بعيداً عن العيون والأنظار، وكان أخوه يصرف الأموال وعلى راحته أحياناً.
وقد استمر هذا النوع من المعاناة إلى وقت متأخر من حياته رضوان الله عليه، لقد كان يرى استخدام هذا النهج في تدبير أمور المعيشة ـ على الظاهر ـ منهجاً يتأسى فيه بأئمة أهل البيت عليهم السلام ولكنه لم يكن معروفاً في الاوساط الحوزوية على الأقل ان لم يكن عيباً في نظرهم، وان كان معروفاً في روايات أهل البيت ولا سيما الامامين الصادقين (عليهم السلام)
================
وعندما كان يفكر يستغرق بالتفكير بصورة عميقة حتى كأنه لا يوجد شيء حوله يشغله أو يشوش عليه فكره فقد سألته مرة عن عمله الفكري مع وجود أطفال أخيه في بيته وقد كانوا صغاراً في حينه وهم يبكون أو يلعبون، أو وجود الحركة والحديث في البيت وهو بيت ضيق نسبياً، فذكر لي بأن هذه الأمور لاتشوش عليه تفكيره ولا تشغله عنه ولا يتأثر بالضوضاء التي تجري حوله بسبب استغراقه في التفكير.
================
وكان هذا النبوغ المبكر سبباً في الانتاج المبكر للشهيد الصدر حيث انه طبع كتاب (فدك) الذي تناول فيه قضية مطالبة الزهراء (ع) بإرثها بعد وفاة النبي الأعظم (ص) تناولاً تأريخياً وفقهياً وفكرياً وعقائدياً في سن مبكرة، وكان قد أنهى حينذاك كتابة دورة كاملة في علم الأصول وعندما أراد أن يطبعها لم يكن لديه مال ينفقه للطباعة فاشترط عليه صاحب المطبعة أن يأذن له بطبع (فدك) لأن موضوعه واسلوبه له سوق رائجة وفي مقابل ذلك يطبع له جزءاً مهماً ـ ولكنه حساس ودقيق ـ من هذه الدورة الأصولية التي أسماها (غاية الفكر) وهو البحث في (تنجيز العلم الاجمالي) الذي كان يتبنى فيه الشهيد بعض الآراء الجديدة.
كما أنه وضع الأسس لدستور الحكم الاسلامي وبعد ذلك الف كتابي فلسفتنا واقتصادنا النادرين في سن مبكرة نسبياً أيضاً.
================
وكان ينظر للحركة الاسلامية الجديدة بمفاهيم حديثة عبر عنها في افتتاحيات مجلة “الاضواء” ، ثم طبعت في كتاب تحت عنوان (رسالتنا) ولم يكن يذكر اسمه الشريف فيها عند كتابته الافتتاحية.
كما قام بتنظيم الخطاب السياسي لجماعة العلماء من خلال منشوراتها التي كتبها بقلمه الشريف في هذه السنّ المبكرة أي في منتصف العقد الثالث من عمره بالرغم من أن تجاربه السابقة في هذه المجالات كانت محدودة للغاية. وكان بداية نشاطه العلمي العالي وهو تدريس بحوث مرحلة الخارج أصولاً وفقهاً في هذه السن أيضاً.
================
حدثني أنه كان يراجع الامام الخوئي ليلاً في داره القريبة لمنزل الشهيد الصدر وذلك لمتابعة ومناقشة بعض مسائل الدرس، وقد طال النقاش مرة حتى انفض جميع الحاضرين ولم يبق الا هو والسيد الاستاذ ـ كما كان يعبر عن الامام الخوئي ـ واحتدم النقاش بينهما في هذه الخلوة حتى ضاق الخادم بذلك فدخل عليهما لينقذ السيد الاستاذ من هذا الطالب الذي ظنه مزعجاً ولا سيما بعد ان كان قد علا الصوت في النقاش، وإذا بالسيد الاستاذ يبادر الخادم ويمنعه من التدخل ويصرفه ليستمر النقاش الى نهايته الطويلة وقدكان يستمر في بعض الأحيان عدة أيام لمراجعة مسألة واحدة.
وقدكان يذكر الشهيد الصدر مثالاً لذلك اشكالاته وملاحظاته حول موضوع (استصحاب الحكم الشرعي)، الذي لم يكن يقول الامام الخوئي بحجته على خلاف مذهب الشهيد الصدر فيه، حيث يذكر الشهيد الصدر انّ الاشكالات العديدة المذكورة في تقريرات السيد الخوئي حول الاستصحاب (تقريرات الشهيد آية الله السيد محمد سرور الواعظ) انّما هي إشكالاته التي كان يثيرها لدى السيد الخوئي.
وقد كان يسمح له الامام الخوئي بالنقاش حتى ينتهي أحياناً الى تغيير رأيه كما هو الحال فيما ذكره الشهيد الصدر لي في مسألة وجوب صلاة الجمعة تعييناً عند النداء اليها وإقامتها.
================
عندما بلغه مقتل الشهداء الخمسة الأوائل وقد كان قد أمضى الليل ساهراً بالدعاء والتوسل، انهار حتى أصيب بما يشبه السكتة والعجز عن الحركة تفاعلاً مع الحدث، لأنه وجد فيها كارثة في الوسط الاسلامي حيث كانت المرة الأولى التي يرتكب فيها حزب البعث الحاكم في العراق مثل هذه الجرائم الوحشية بهذه الطريقة الوقحة العلنية وبالرغم من كل محاولات منعه من ارتكابها والوعود الكاذبة في الامتناع عن ذلك.
================
وعندما قرأ رسالة كنت قد كتبتها سنة 1960م (1380هـ) له من لبنان أحدّثه فيها عن بعض المشاكل المعقدة الشخصية التي واجهتها في الطريق بسبب الظروف السياسية القائمة حينذاك لم يملك نفسه عن البكاء والحزن.
================
كان يولم الولائم البسيطة في بيته، أو يطلب من الاصدقاء ذلك، أو يقوم بالاسفار القصيرة الترفيهية للكوفة وغيرها من أجل التعبير عن هذه العواطف الجياشة وبناء أواصر الود والمحبة بين الأولياء والأصدقاء والزملاء.
================
وعندما كان يحرص على دروس المبتدئين من الطلبة أو رعاية المستضعفين مادياً وروحياً كان يفعل ذلك كله بعقله ممزوجاً بعاطفته. وعندما كان يستقبل الشباب والاوساط العامة من الكسبة والفلاحين كان يفعل ذلك بعقله الممزوج بعاطفته.
================
وهكذا عندما يتفقد طلابه الغائبين في عوائلهم أو الحاضرين في مشاكلهم ومرضهم كان يفعل ذلك أداءً للحق ولكنه حق يلمس الانسان فيه الحب والرغبة والعاطفة النبيلة التي تتحرك في نفس هذا الانسان.
================
قد بذل جهده في البداية في طلب العلم وتدبير شؤون البيت، ورعاية الاهل ثم تطور الأمر إلى إضافة المطالعة الأدبية والتربية للطلبة، وتطور بعد ذلك الى التصدي للنشاطات العامة الأخوانية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
ولم يكن يبدو عليه مع هذا التطور أي تغيير ملموس في الموقف تجاه المراحل السابقة فبقي درسه ورعاية الأهل والاخوان والاصدقاء على المستوى نفسه مع اضافة هذه الاعباء الجديدة لعمله، بل يبدو أنه قد ازداد فاعلية وعطاءً.
نعم هناك بعض الأمور التفصيلية قد تحولت بطبيعة الحال حسب الأولويات الى غيره، فبعد أن كان يقوم بالتسوق بنفسه أخذ يقوم بذلك غيره عنه، حيث أخذ يكلّف الآخرين بهذا الأمر ثم اتخذ خادماً لذلك، أو كان يقوم بتدريس أهل البيت فتولى آخرون ذلك، مع استمرار الرعاية، وقد كان يجيب شخصياً على جميع الرسائل فتولى آخرون مساعدته في ذلك.
================
فعندما الف كتاب فلسفتنا قرأ أكثر الكتب الماركسية والديمقراطية المتوفرة في ذلك الوقت في فترة قياسية، وعندما ألّف كتاب (اقتصادنا) استوعب النظريات الاقتصادية المعروفة وبسرعة فائقة، وعندما كتب (الأسس المنطقية للاستقراء) قرأ كتب الرياضيات.
================
لازلت أذكر ما نقله لي العلامة الفقيد السيد عز الدين بحر العلوم، الذي كان محباً له وإن لم يكن من طلابه، حيث ذكر لي بأني كنت أعرض بعض كتاباتي على بعض الفضلاء الجيدين من أصدقائه وأساتذته فتبقى لديهم مدة من الزمن، وجربت الشهيد الصدر مرة في عرض الكتابة عليه فأرجعها فوراً مع الملاحظات فأُصبت بالدهشة وعرفت الفارق بينه وبينهم.
================
بعد الازمة التي اختلقها بعضهم ضده في تحريض جماعة العلماء عليه انقطع عن كتابة (رسالتنا) رعاية منه للحكمة واستمرار الجماعة دون أزمات، ومع ذلك كله بقي على ولائه الكامل للعمل معها ولها.
================
بعد الاعلان عن الافتراء الظالم في حق الشهيد العلامة السيد مهدي الحكيم ومحاصرة المرجعية الدينية للامام الحكيم في سنة 1969 كان الشهيد الصدر أول شخصية تأتي من النجف الأشرف لتصل إلى بيت الامام الحكيم في الكاظمية، في حين تغيّب عدد كبير من علماء بغداد والكاظمية البارزين بسبب هذا الحادث، وقد قدم اقتراحاً يدل على الدرجة العالية من الشجاعة ويقضي بتقديم مذكرة فورية للنظام بالأسماء الصريحة ومنها اسمه احتجاجاً على موقف نظام البعثيين العفالقة وضرورة تحمل نتائج ذلك حتى الاستشهاد، ولكن كان رأي العلماء الحاضرين في ذلك الوقت التوقف عن ذلك، وقدمت المذكرة باسم الشهيد السيد مهدي الذي كان قد أعدها لذلك من قبل.
================
كانت آثار عمله (في سفره إلى لبنان) واسعة وقوية علىالنظام بدرجة انه اتخذ قراراً بمقاطعة الحكومة اللبنانية في موضوع السياحة للضغط عليها وطلب من العراقيين الخروج من لبنان فوراً وفي غضون أربعة وعشرين ساعة ، وقد كان الامام الحكيم يتخوف عليه من ملاحقته من قبل النظام بعد رجوعه إلى العراق.
================
يذكر بعض الأشخاص الذين لا أعرفهم: إنّ الشهيد الصدر كان لديه قدرة عالية في حفظ النصوص منذ صغره، ولكني لم ألاحظ ذلك فيه طيلة مدة معاشرتي ولا اذكر أني سمعت منه ذلك، ولكنه كان على درجة عالية من استذكار الموضوعات العلمية والدقة فيها وفي نسبتها إلى أصحابها وكذلك استذكار مضامين الأحاديث الشريفة والآيات القرآنية التي كان يراجعها بسرعة ويشهد له بذلك دروسه الفقهية والاصولية والتاريخية والتفسيرية التي كان يلقيها عن ظهر قلب وبصورة منسقة وأحياناً لمدة طويلة إلاّ انه كان يستعين أحياناً لقراءة النص بالورقة، وكذلك ما كان يتحدث به من قصص وعبر ونوادر تاريخية وحوادث شخصية مشهودة أو مسموعة حول مختلف القضايا.
================
لقد كان شهيدنا يستذوق الأدب سواء منه الشعر المنظوم الذي كان يتفاعل معه أو النص المنثور ولا سيما القصة الأدبية حيث كان يقرأها ويؤكد على قراءة بعضها باعتبارها روائع ذات مضمون أدبي وأخلاقي كما في قصة (البؤساء) لفيكتور هيجو.
ولم أعرف عنه انه قد نظم الشعر أو تداوله بالرغم من انّ أخته الفاضلة كانت تنظم الشعر وتكتب القصة والظاهر كما أعتقد إنّ ذلك كان بتشجيعه لها واشرافه على عملها مضافاً الى مواهبها الجزيلة.
================
كتابته لكتاب فلسفتنا واقتصادنا والتوفيق الذي لاقاه في ذلك كان بسبب هذا الاخلاص، حيث كان التأليف في هذه المجالات يؤثر سلبياً في ذلك الوقت على سمعته الحوزوية ويعطي انطباعاً آخر عن شخصيته العلمية وانه مجرد كاتب اسلامي لا مجتهد كبير ومدرس في الحوزة.
كما كان على استعداد أن يصدر الكتابين باسم آخر تواضعاً وإخلاصاً منه في النية، وكذلك الحال في جميع كتاباته التي لم تصدر باسمه وهي عديدة، حيث أشرت إلى بعضها مثل كتابته لمناهج علوم القرآن لكلية أصول الدين أو مقالات (رسالتنا) للأضواء.
================
اما في العلاقات الاجتماعية فيمكن ان نرى ذلك في طريقة تعامله مع عموم الناس ولا سيما الاوساط المستضعفة من الطلبة والشباب والنساء من خلال احترامهم والتودد اليهم واعطاءه الوقت التمين لهم.
وقد بلغ ذلك بالنسبة الى بعض طلابه المستضعفين ان تحول الى صديق حميم، مثل ما حصل للاخ الفاضل الشيخ عباس اخلاقي ولاخينا الشيخ عبد العالي المظفر وغيرهم من الاشخاص، وكذلك في طريقة تعامله مع بعض خدمه والعاملين معه مثل الحاج عباس وملاباقر الافغاني وغيرهما. وكذلك تعامله مع بعض الكسبة الذين يتردد عليهم بالشراء.
================
تعرض اخوه آية الله السيد اسماعيل الصدر لمحنة قاسية حيث شرد من موقعه المتميز في الكاظمية على يد الشيخ مهدي الخالصي واعوانه بتحريض من الحكم العارفي واستمرت هذه المحنة حتى كاد ان يعتريها النسيان وكان يشعر بالالم الشديد من اجلها ولكنه أبى لعزته وكرامته ان يطالب المرجعية الدينية بحلها، وقد فاتحني في هذا الامر وكنت قد اطلعت علىموقف سلبي نسبي مبرر تجاه السيد اسماعيل ولكني كتمت عليه ذلك اذ قد يسيئه ولكنه بقي محتفظاً بجلده وعزته حتى اذن الله بالانفراج على يد المرجعية الدينية نفسها بعد ازمة الخامس من حزيران سنة 1967.
================
وقد بقي متمسكاً بمسكنه المتواضع في محلة العمارة من بعد زواجه وضيق المكان به وباهله مع تطور وضعه الاجتماعي والمعنوي وهو قادر على تبديله فلم يصنع ذلك حتى تطور الوضع الاجتماعي الى حد فرض عليه تغييره الى سكن في محلة البراق وهو بيت الحاج شيخ نصر الله الخلخالي، ثم انتقل بعد ذلك الى مقبرة آية الله العظمى الشيخ المامقاني في محلة العمارة وكانت سكنه حتى شهادته.
================
كان يبدي التذاذه ورغبته في الطعام عندما يكون جيداً واعجابه به عندما يتهيأ له بصورة مناسبة لدى الاحبة والاصدقاء، فهو صاحب ذوق حسن ويتفاعل مع العواطف والاكرام ولكنه يراه شيئاً مؤقتاً لا يستحق الوقوف عنده او الاهتمام البالغ به.
وقد حدثني مرة انه يلتذ بصورة خاصة في امور المعيشة بالقميص الذي يلبسه وبالقلم الجيد واما ما دون ذلك فلم يكن يشعر بامر خاص تجاهه.
================
كان يكن لأمه الحب والاحترام بدرجة عالية جداً، حيث كان يلتزم تجاهها بنظام قاسٍ من الإخبار لها عن جـميع حركاته وسكناته، مما كان يلفت نظر القريبين له، وكنت في البداية أثيـر لديه التساؤل عن ذلك، حيث كانت وسائل الاتصال مثل التلفون مفقودة في ذلك الوقت، فيلتزم شخصياً بنظام حديدي في الأوقات والمواعيد والذهاب والاياب بسبب ذلك، ولكنه كان في ذلك يستجيب لطلبها وإلحاحها بسبب عاطفتها القوية وشفقتها الفائقة وما لاقته من فقد للأولاد والزوج.
كما كان يأخذه الاضطراب الشديد شفقة وخوفاً عليها عندما كانت تصاب بنوبات من ضيق التنفس المتكررة التي تصبح في الحالات العادية أمراً عادياً بسبب تكرارها، ولكنه بقي (رضوان الله عليه) يحس بذلك إلى آخر عمره حباً بها وشعوراً بالمسؤولية تجاهها وشفقة عليها، وذلك تعبيراً عن العواطف المتأججة في نفسه تجاه الأشخاص الذين يحبهم.
ولعل مرجع ذلك ـ مضافاً إلى طبيعة علاقة البنوة وخصوصية العاطفة المتأججة التي يتصف بها (رضوان الله عليه) ـ إلى أنّ أمه كان لها دور خاص في قراره في سلوك طريق العلم والمعرفة فهو يشعر بحق اضافي خاص لها عليه، وكذلك بسبب انّ أمه كانت قد فقدت عدة أولاد حتى كانت تعبّر عن ذلك أحياناً بالغة في هذا الأمر بالقول أني قد ملأت القبور منهم.
================
كان يكن الاحترام الكبير لأخيه الكبير بالرغم من تفوق الشهيد الصدر العلمي عليه واعتراف أخيه له بذلك مع انّ أخاه الكبير كان من فضلاء الحوزة العلمية المعروفين بالفضل والاجتهاد وانشغال الشهيد الصدر بصورة دائمة بالعمل العلمي.
ولم يكتف بذلك الاحترام حتى انه كان يشعر ويقوم بمسؤولية الرعاية لأخيه الكبير ويقوم تجاهه بذلك من رعاية مادية واجتماعية ومعنوية له ولعائلته، حيث كانت تشمله رعاية البيت كلّه المادية والتفكير بشأنه وموقعه الاجتماعي.
وكان للشهيد الصدر (رض) الدور الرئيس في تهيئة ظروف انتقاله إلى مدينة الكاظميين ورعاية وضعه الاجتماعي فيها هناك وتسديده بالقول والعمل والزيارة والاسناد، وكان أخوه يبادله الحب والاحترام الفائقين بحيث يشعر الانسان بوحدتهما مع وجود الفوارق العديدة في شخصيتهما الذاتية وطريقة العمل والتفكير واسلوب الحياة الاجتماعية والشخصية.
================
في أثناء المد الشيوعي في العراق في شتاء سنة 1958 حيثُ كانت أزقة النجف الأشرف تمتلأ في كل قواطع طرقاتها بمن يسمون أنفسهم حراس الجمهورية يتربصون بالمؤمنين الدوائر، وكان الشهيد الصدر يكتب في ذلك الوقت كتاب (فلسفتنا) فكنت أذهب إليه بعد الظهر لمراجعة الكتاب، وعندما ننتهي من ذلك كان يذهب بنا الحديث مذاهب شتى في جو من العواطف والحب حول الأوضاع السياسية والاجتماعية والحوزوية والحركية، حيث كنا قد أسسنا الحركة الاسلامية المنظمة وساهمنا في اسناد ودعم جماعة العلماء وتصدي المرجعية الدينية والحوزة العلمية للقضايا العامة.. فيطول الحديث بنا حتى ينتصف الليل وتخلو الأزقة من المارة إلاّ هؤلاء الأوغاد، ونحن لا نشعر بذلك فأخرج من بيته إلى بيتنا القريب نسبياً، وكنت أسكن في بيت المرحوم الامام الحكيم حينذاك، كما كنت حديث العهد بالزواج، ويخضع بيت الامام الحكيم للمراقبة المشددة من قبل هؤلاء والأشخاص وأطوي الطريق وعيون الأوغاد تكاد أن تلتهمني قبل عصيهم وأسلحتهم، وأصل البيت وأهل البيت قد ناموا إلاّ زوجتـي المسكينة أجدها تنتظرني على النافذة المطلة على الشارع وهي ترقب الطريق لوقت طويل، وألقى العتاب منها وأعتذر بالعمل والمسؤولية فتصبر على ذلك، ويتكرر هذا الأمر باستمرار.
================
في احدى ليالي الصيف كنت عند الشهيد الصدر في الزيارة الاعتيادية التي أقوم بها له يومياً ، فيدخل الليل ويطول الحديث، وزوجتـي في حالة الطلق والولادة وأنسى ذلك ويطلع الفجر وأذهب إلى البيت وأرى زوجتـى في حيرة بالغة من أمرها لا تدري ما تصنع وهي وحدها مع ثلاثة من أطفالها الصغار، ولم يكن لدينا أداة اتصال (تلفون) وأواجه هذا الحرج الشديد وأعتذر بالعمل والمسؤولية ولم أكن كاذباً في ذلك وهي تكاد أن لا تتفهم ذلك وتصبر عليه.
================
كانت للشهيـد الصدر علاقة صداقة قوية مع بعض الأصدقاء ولكنها تصدعت فأصيب بالاحباط بسبب ذلك وولّد لدى الشهيد الصدر إحساساً ـ كما ذكر ذلك ـ بالخوف من تكرار هذه التجربة مع صديق آخر، ولذا كان يحرص أشد الحرص في متابعة الأمور الصغيرة التي تطرأ أحياناً على العلاقة من غيبة أو انقطاع أو عدم انشراح أو احتمال وجود انفعال سلبي ولو بسيط وما أشبه ذلك، وفي هذا الحرص الشديد والمتابعة يحس الانسان انّ ذلك كان لدى الشهيد الصدر أمراً كبيراً وذلك بسبب الاحساس الوجداني العالي بحب الصديق وأهمية المحافظة على الصداقة.
================
لقد طرحت عليه يوماً هذا السؤال انه لماذا لا يحضر درس الخارج للامام الحكيم ويحضر درس الخارج للامام الخوئي، وكان يعني انّ الحضور إذا كان للتكريم أو التشريف (لأنه قد استغنى عن الحاجة العلمية للحضور وكان يدرس الخارج حينذاك) فدرس الامام الحكيم أولى بذلك لما أعرفه من موقع للامام الحكيم في نفسه، فذكر انّ حضوره لدى الامام الخوئي انما هو وفاءً له لأنه لا يمكن أن يقدم خدمة للامام الخوئي إلاّ من خلال هذا الحضور، حيث انّ موقفه وعمله كان إلى جانب مرجعية الامام الحكيم حينذاك، واستدرك انه إذا كنت ترغب بذلك فأنا على استعداد للحضور في درس الامام الحكيم فاعتذرت منه.
================
لقد طلبت منه يوماً أن أدرس لديه بعض الكتب الفقهية على مستوى السطح وكان في ذلك الوقت يدرس الخارج ونحن نحضر لديه درس الخارج أصولاً ولم يكن يدرس في ذلك الوقت السطح ولا مستواه العلمي والاجتماعي ذلك فبادر للقبول وباشر دون الباقين مع ما كان يكلفه ذلك من وقت ثمين مع انه كان يمكن أن أحصل على هذا الدرس لدى أساتذه آخرين، ولكن شدة الود والحب والرغبة في اللقاء المستمر أوجد هذه الرغبة لديّ والقبول لديه.
وقد صنع ذلك أيضاً لنفس السبب من جانبه ورعاية لحال الأخ الشهيد السيد مهدي (ره) عندما طلب منه ذلك أيضاً.
================
لقد درس لديّ بعض الطلبة الجزء الأول من كفاية الأصول من أوله إلى آخره وكان الطلبة من المشتغلين المحصلين، وكان يلح على الدرس حتى في أوقات التعطيل، وكنت أستجيب له باستمرار إلى أن أنهى الكتاب، وبعد مدة سمعت بأنه كان يذكر في بعض المجالس عدم استفادته الكاملة من هذا الدرس، فأحسست بالمسؤولية تجاه هذا الموضوع، فطلبت من الشهيد الصدر أن يعطيه فرصة لإعادة البحث لديه وكان الشهيد الصدر يدرس الخارج وانقطع عن تدريس السطح ولم تكن علاقته بهذا الشخص جيدة، ولكنه وافق حباً واستجابة للصداقة وهو أمر غريب، ثم وقعت بعض الملابسات جعلت الشهيد الصدر يفكر بقطع البحث مع هذا الشخص لأنه كان يتعامل معه بطريقة مؤذية لم يوضحها الشهيد الصدر حفظاً لكرامة هذا الانسان وتورعاً، فلم يقطع حتى استأذنني في ذلك، وهذا يمثل منتهى الأدب والوفاء والحب.
================
لقد ابتلاني الله تعالى بالسجن في العراق والحكم عليَّ بالسجن المؤبد في قضية زيارة الامام الحسين (ع) وهي قضية معروفة، وكان السبب الظاهري للقضية هو انّ الشهيد الصدر كان قد كلفني بالقيام بمهمة الوساطة بين الحكومة والزائرين بعد أن أخبرته تراجعها عن موقفها في منع الزيارة ذلك لأن الشهيد كان يريد أن يحفظ هذه الشعائر وكنت أرى انّ الحكومة تريد أن تناور وليس لديها حسن النية ولكنه أصر فقبلت ولاسيما واني استأذنته بالاستخارة فوافق وخرجت الاستخارة جيدة، فكان ما كان من أحداث اعتقال وإعدام وتعذيب وسجن ونقض للعهود والمواثيق من قبل الحكومة على عادتها في القضية المعروفة بانتفاضة صفر، وقد كتبت للشهيد الصدر رسالة أحدثه فيها ما جرى عليَّ في السجن سلمتها للعائلة سراً عند أول لقاء معهم الذي تم تحت نظر ومراقبة الحكومة، فأصيب بنوبة من البكاء والحزن الشديد.. وبقي الشهيد يقوم يومياً ـ كما حدثتني العائلة ـ بزيارتهم إلى البيت فيجلس في الباب لمدة من الزمن يسأل الأحوال ويتحدث إلى الأطفال ويسلّيهم ثم لم يكتف بذلك حتى سافر إلى البيت الحرام للعمرة وكان أحد أهدافه في ذلك هو التوسل في البيت والتعلّق بأستار الكعبة ولدى النبي (ص) والأئمة الأطهار (ع) لإطلاق سراحي وكان أن استجاب الله دعائه فأطلق سراحنا بعد رجوعه بأقل من اسبوعين.
================
لقد كتب الشهيد الصدر كتاب فلسفتنا المعروف وكنت أراجع الكتاب معه لتقويم النص ووضع العناوين ومناقشة بعض الأفكار وغير ذلك من الأمور التكميلية ولم يكن يخطر ببالي أن يذكر الشهيد الصدر شيئاً من ذلك، ولكن فوجئت عند مراجعتي لمسودة الطبع للتصحيح انه قد ذكر في المقدمة التي كتبها في آخر مدة الطبع اسمي شاكراً عملي في التصحيح الثالث للمسودات، ولكني قمت بحذف ذلك، وفوجئ عند طبع الكتاب بعدم وجود الاسم، فلم يحدثني بشيء حتى كان طبع كتابه (اقتصادنا) الذي بذلت فيه جهداً هو أقل من جهدي في (فلسفتنا) فلم يذكر الشهيد الصدر اسمي عند مراجعتي للمسودات ولم أكن أتوقع ذلك أيضاً، حتى فوجئت بالكتاب عند صدوره انه قد أورد اسمي بالمقدمة، فسألته عن ذلك وانه كيف، فذكر بأنه طلب من عامل المطبعة أن لا يمر على تصحيح الملزمة الأخيرة في النوبة الثالثة لها والتي كانت فيها المقدمة لئلا أحذف الاسم كما صنعت في كتاب (فلسفتنا)!!
================
كان اتصالي بالشهيد الصدر وعمره حوالي اثنين وعشرين عاماً، ولم أكن أر أنّ له علاقات اجتماعية خارج دائرة الأسرة والأصدقاء والدرس المحدود بالرغم من انتمائه إلى أسرتين علميتين معروفتين عريقتين ومنتشرتين إلى جانب مرجعية خاله آية الله العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين وديوانية خاله الآخر الشيخ مرتضى آل ياسين، وذلك على خلاف أخيه آية الله السيد اسماعيل الصدر الذي كان له علاقات اجتماعية جيدة.
…ولذلك لم يكن الشهيد الصدر (رض) في بداية حياته وحتى عنفوان شبابه يمارس العلاقات الاجتماعية المعروفة في الحوزة إلاّ بقدر محدود جداً وذلك مثل حضور مجالس الفاتحة بصورة واسعة، أو حضور مجالس التعزية بصورة عامة، أو التـردد على الديوانيات وحضور المناسبات الاجتماعية العامة. فضلاً عن اقامته للمجالس أو فتحه منزله للزائرين أو غير ذلك من الفعاليات الاجتماعية، ولذلك يمكن أن نعبـّر عنه انه كان منطوياً على نفسه اجتماعياً.
…ولكنه في مرحلة متأخرة من حياته بدأ الشهيد الصدر (رض) يهتم بصورة أكيدة بهذا الجانب، وذلك عندما تصدى للعمل المرجعي والاجتماعي العام فأسس له مجلساً اسبوعياً على الطريقة التقليدية تحضره وجوه اجتماعية وتقليدية ولقاءً اسبوعياً في يوم الجمعة مع الزائرين للنجف أو المرتادين على ديوانه ووقتاً يومياً يفتحه للزائرين وأيام خاصة يعقد منها المجالس العامة مثل مناسبة وفاة الامام موسى الكاظم عليه السلام ويقوم بحضور المجالس العامة كالتعازي ومجالس الفاتحة وزيارة القادمين إلى النجف…إلخ.
================
الشهيد الصدر كان مرجعاً من مراجع الاسلام كما وصفهُ بذلك الامام الخميني، وبالرغم من أن مرجعيته الشريفة كانت في بدايتها فكون المرجعية تعني رجوع الامة والناس الى الشهيد الصدر(رضي الله عنه) في قضاياهم الدينية والشرعية والسياسية، ولذلك اقول ان هذه المرجعية كانت في بدايتها، فالشهيد الصدر اذا اردنا ان ننظر اليه كمرجع من حيث مضمونه العلمي والروحي واستعداده للجهاد والتضحية وعطائه على مستوى السلوك والعمل فانه كان مرجعاً كاملا ومتطوراً ومتنامياً، لكن على مستوى رجوع الامة له في هذه القضايا كان في بداية هذه المرجعية.
بالرغم من كل ذلك نجد ان الشهيد الصدر كان له تأثير كبير جداً على تطور الحوزة العلمية في النجف الاشرف وقم المقدسة، اما في حوزة النجف الاشرف فكان فكر الشهيد الصدر(رضي الله عنه) يتحول تدريجياً الى فكر شامل وواسع وعام وكانت مساحة هذا الفكر تتسع يوماً بعد يوم لتشمل المناطق والمراكز المهمة في هذه الحوزة، والآن يمكن ان نقول بأن حوزة النجف الاشرف بشكل عام هي حوزة تتفاعل وتتأثر بمواقف ومرجعية الشهيد الصدر(رضي الله عنه)، وافضل شاهد على هذه الحقيقة ما حدث في انتفاضة 15 شعبان حيث وجدنا اعلام الحوزة ومنهم الامام الخوئي(رحمه الله) وكبار المجتهدين والعلماء والفضلاء والمتنفذين في هذه الحوزة استجابوا لهذا النداء والمنهج واصبح هذا الفكر والموقف هو الموقف السائد في هذه الحوزة العلمية.
وهكذا الحال بالنسبة لحوزة قم المقدسة بالرغم من ان حوزة قم متأثرة بشكل رئيس واساس بالفكر السياسي والجهادي للامام الخميني(قدس سره) الذي احدث تحولا كبيراً جداً ليس على مستوى حوزة قم فحسب وانما على مستوى العالم الاسلامي ولكن مع ذلك كان للشهيد الصدر(رضي الله عنه) تأثير كبير على مستوى هذه الحوزة، وذلك في جانب التنظير للفكر السياسي والجهادي والاجتماعي للاسلام الذي تحتاجه هذه الحوزة احتياجاً كبيراً، كما كان له في الوقت نفسه تأثير على الاوساط العراقية التي تتفاعل مع فكر الشهيد الصدر(رضي الله عنه) ويمكن ان نقول بأن الشهيد الصدر(رضي الله عنه) كان له دور كبير جداً في المحافظة على الحوزة العراقية في بلاد الهجرة من التفكك والانحلال والوقوع تحت مؤثرات الغربة والهجرة والتشتت فيها، فتحولت الحوزة العراقية والحمد لله رب العالمين ببركة هذه الدولة الشريفة ورعايتها وببركة فكر الشهيد الصدر(رضي الله عنه) الى الحوزة الثانية من حيث الاهمية في خصوصياتها وفي مضمونها ومحتوياتها في هذا البلد المقدس قم المقدسة بعد الحوزة الايرانية التي تعتبر الحوزة الاولى من حيث الاهمية.
================
الشهيد الصدر (رضي الله عنه) في مرحلة من مراحل التنظير لكل الحالة الاسلامية وخطواتها وابعادها وجوانبها بدأ ينظر للمرجعية وموقع المرجعية، وافترض للمرجعية فرضيتين:
الاولى: هي ان تكون المرجعية في ظروف يكون الحاكم فيها هو الاسلام وتكون لها حرية الحركة كما هو الحال بالنسبة للجمهورية الاسلامية ووجود هذا الكيان المبارك، في هذه الفرضية قدّم(رضي الله عنه)نظرية المرجعية الموضوعية لهذه الفترة ولذلك تجد المرجعية اليوم بدأت تأخذ بمعالم نظرية الشهيد الصدر(رضي الله عنه)تدريجا.
الثانية: فرضية المرجعية الفردية وتكون في ظروف ما قبل قيام الحكم الاسلامي ووجود الحرية الكاملة التي يمكن ان تتحرك فيها المرجعية، في هذه الفرضية تجد ان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) قدّم مجموعة من المواصفات والخصوصيات والتصورات من اجل تطويرها حيث افترض المرجع هو الفرد لا المؤسسة، ولكن
هذا الفرد لابد ان يتميز بخصائص معينة ويتضمن مجموعة من الاجهزة التي تتحمل مسؤوليات معينة وبدأ الشهيد الصدر(رضي الله عنه) بتنفيذ هذه الاطروحة من خلال:
اولا : ايجاد شورى المستشارين.
وثانياً : تنظيم الاوضاع الدراسية داخل الحوزة العلمية بحيث تكون اوضاعا عامة وذلك بتشخيص وترشيح المدرسين من ناحية وايجاد الامتحانات والتقييم لحركة الطلاب من ناحية اخرى، والخطوة الاخرى التي اتخذها هو موضوع تنظيم الحالة المالية والمعاشية للطلاب من ناحية وتنظيم حالة الموارد التي تأتي الى المرجعية من ناحية اخرى.
وثالثاً: القيام بخطوة كانت ترتبط بموضوع الوكلاء والمعتمدين والمبلّغين الذين يتم ارسالهم الى المناطق حيث قام الشهيد الصدر(رضي الله عنه) بعملية واسعة لتنظيم هذه الحالة وجعلها حالة تصب في الاحداث الرئيسة الكلية التي تسعى اليها المرجعية، الى غير ذلك من الخطوات التي قام بها(رضي الله عنه) والتي قدمها نظرياً من
اجل ان تكون خطوطاً هادية في هذه الاطروحة.
================
عندما نريد ان نتحدث عن القيادة النائبة التي طرحها آية الله العظمى الشهيد الصدر(رضي الله عنه) في أواخر ايامه الشريفة نجد أمامنا بعدين لهذا الموضوع:
البعد الاول: يرتبط بالجانب النظري للقيادة النائبة، والبعد الثاني: يرتبط بالجانب التطبيقي والعملي، في البعد الاول نجد ان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) عندما واجه الحصار والحجز من قبل النظام المجرم الحاكم في بغداد، وقطعت العلاقات بينه وبين امته.
ومن كان يعتمد عليهم في ساحتنا الاسلامية العراقية رأى من الضروري اتخاذ قيادة نائبة عنه في ادارة شؤون التحرك الاسلامي والنهضة في وجه الظلم والطغيان ، كان(رحمه الله)يرى في مثل هذه الظروف يمكن ان تقوم جماعة من الذين تتجمّع فيهم الشروط المطلوبة بالنيابة عن القيادة الاصيلة المتمثلة بالمجتهد العادل الجامع للشروط من الشجاعة والخبرة والقدرة السياسية في ادارة الامور والتي كانت متمثلة فيه حينذاك.
ولابد في هذه القيادة النائبة ان تكون واجدةً لمجموع الشروط للقيادة الاصلية وان لم تكن بمستواها، ولذلك فقد يكون الذين يرشحون للقيادة النائبة ليسوا واجدين لهذه الشرائط ولكن بمجموعهم المركّب تجتمع فيهم،
وهذه الفكرة النظرية التي طرحها الشهيد الصدر(رضي الله عنه) كان لها دور كبير في ساحتنا الاسلامية العراقية، فقد كتبت في هذا الموضوع مقالا قبل اكثر من عشر سنوات اوضح فيه ان ما جرى في ساحتنا من وجود القيادة التي تقوم بادارة شؤون هذه الساحة إنما هو انطلاقاً من هذه الفكرة، فتأسيس جماعة العلماء اولا ومن ثم تطورها الى مكتب الثورة الاسلامية في العراق ثم التطور الذي حصل في هذا التأسيس فولد من ذلك المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق إنما هو تجسيد لهذه النظرية .
وفي البعد الثاني فان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) كان قد رشّح لهذه القيادة أربعة اشخاص هم العلاّمة السيد مرتضى العسكري والعلاّمة الشهيد السيد محمد مهدي الحكيم والحجة السيد محمود الهاشمي والمتحدث، وكان على هؤلاء ان يكونوا في موقع يتمكنوا به من ان يقوموا بدور القيادة النائبة، ، ففي هؤلاء الاشخاص اكثر من مجتهد، كما توجد فيهم الخبرة السياسية والقدرة على ادارة الامور وتمييزها من خلال التجربة الطويلة لهم، وفيهم العمق الشعبي والجماهيري من خلال الاعمال والنشاطات التي قاموا بها في تاريخهم، وهذا من الشروط المهمة التي كان يعتقد بها الشهيد الصدر(رضي الله عنه)حيث ان القيادة لا يمكن ان تفرض فرضاً على الامة وانما لابد من ان تكون القيادة منتخبةً من قبلها، إما بالانتخاب عن طريق صناديق الاقتراع فيما لو تيسّرت الظروف واما ان يكون انتخاباً طبيعياً من خلال حركة الاشخاص في الاُمة والتفاف ابناءها حولهم تدريجياً كما حصل للامام الخميني(رضي الله عنه)وشهيدنا الصدر(رضي الله عنه)، ومن جملة هذه الشروط التي لاحظها الشهيد الصدر(رضي الله عنه)هو ان يكون هؤلاء الاشخاص مستقلّي الارادة بحيث يكونوا في تفكيرهم وتحليلهم ورؤيتهم للاشياء واتخاذهم للقرار غير واقعين تحت تأثير جهة إلاّ الله سبحانه وتعالى والمصلحة الاسلامية العليا ، الاّ ان هذا الاقتراح الذي تقدم به الشهيد الصدر(رضي الله عنه) لم يأخذ طريقه الى التطبيق العملي، فعندما طرح هذا الموضوع كفكرة عليَّ أبديت بعض الملاحظات حوله منها ان بعض هؤلاء كانت لديهم مشكلات حقيقية في الساحة الاسلامية الايرانية، وكان يُراد لهذه القيادة ان تتحرك هنا في الجمهورية الاسلامية، وفي ذلك الوقت كانت الاجهزة المسؤولة عن هذه الاعمال والنشاطات لها موقف سلبي تجاه بعض هؤلاء الاشخاص، ومن ثمَّ كان تقديري ان هذه القيادة لا يمكن ان تؤدي وظيفتها وتقوم بواجباتها بالشكل المناسب الذي يُراد لها ان تقوم به، وقد طرحت هذه الملاحظة وبعض الملاحظات الاخرى الأمر الذي أدى الى ان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) ومن خلال رؤيته لتطورات الاحداث والواقع ان يسحب اقتراحه، وان كان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) من الناحية النظرية ورؤيته لمستقبل الاُمور في العراق كان يرى من المهم جداً ان تكون هناك قيادة في الساحة الاسلامية العراقية تقوم بدورها المناسب في ادارة شؤون الحركة والمواجهة، إذ لا يمكن لأي جماعة واُمة ان تحقق النصر وتصل الى اهدافها مالم يتوفر فيها مثل هذا الشرط.
================
ان العفالقة المجرمين عندما جاؤوا كان اول الاهداف التي وضعوها امامهم هو القضاء على الوجود الاسلامي وكانوا يرون بأن هذا الوجود الاسلامي يتمثل بالمرجعية الدينية وبالحوزة العلمية، ومن هنا خططوا لضربها فكانت الاحداث التي جرت في سنة 1969 م أي 1389 هـ ، حيث سافر الامام الحكيم(رضي الله عنه) الى بغداد احتجاجاً على الاعمال الوحشية والقمعية التي ارتكبها هؤلاء المجرمون ضد ابناء الشعب العراقي، وكان ردُّ العفالقة
المجرمين على طريقتهم من توجيه الاتهامات الباطلة ومن ثم القيام بالعدوان الوحشي على المرجعية الدينية وعلى الحوزة العلمية، وكان احد معالم هذا العدوان هو هجومهم على منزل آية الله العظمى الامام الحكيم منتصف الليل لاعتقال ولده العلامة الشهيد السيد مهدي الحكيم بتهمة التعاون مع القوى الكردية في شمال العراق من اجل اسقاط النظام، هنا اتذكر ان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) عندما سمع بهذا الحادث ركب الى بغداد ودخل بيت الامام الحكيم(رضي الله عنه)الذي كان محاصراً من قبل قوات الأمن وقام بتقديم اقتراح هو كتابة مذكرة احتجاج واضحة توقّع بالأسماء من قبل العلماء، وقال: أنا اول من اوقع على هذه المذكرة من اجل ان يكون الصف صفاً واحداً وقوياً في مواجهة هؤلاء العفالقة، ولكن هذا الاقتراح لم يواجه القبول لعدم المصلحة في القيام بتقديم مثل هذه المذكرة آنئذ.
================
ان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) وجد بأن العفالقة المجرمين يحاولون كما هي سياستهم دائماً التعتيم على الاحداث التي تجري داخل العراق كي لا تنعكس في الخارج، وكانت الاحداث التي تواجهها الحوزة العلمية والمرجعية الدينية ولا سيما الظلم والعدوان الوحشي الذي حصل في الكاظمين وبغداد، وبعد ذلك تكرر هذا العدوان بطريقة وحشية عندما هاجم ازلام العفالقة المجرمين ابناء الحوزة العلمية وضربوهم اشد الضرب ثم قاموا باعتقال عدد كبير من هؤلاء وعرضوهم الى ألوان من العذاب والمحن وغير ذلك من الاعمال الوحشية التي قاموا بها، هنا الشهيد الصدر(رضي الله عنه) رأى بأنه من الضروري ان تكون هناك حملة اعلامية واسعة لكشف هذه الحقائق والتي لا يعرف بها ابناء العالم الاسلامي في الخارج بالسفر الى لبنان وهناك خطط بحكمة وذكاء للقيام بحملة اعلامية واسعة، ساعده فيها جماعة من العلماء اللبنانيين جزاهم الله خير الجزاء، وتمكن ان يفرض موقفاً على نظام العفالقة المجرمين في ان يكشفوا عن كل هذه الحقائق وبعد ذلك تأزمت الاوضاع السياسية مع الحكومة اللبنانية الى درجة ان العفالقة المجرمين اصدروا قراراً بخروج كل العراقيين من لبنان بغضون (24 ساعة) وكانت لهذه الحملة اصداء واسعة ولا زالت الكثير من الوثائق ذات العلاقة بهذه الحملة موجودة وتوثق القضية لصالح المرجعية الدينية.
================
من المواقف الشجاعة للشهيد الصدر(رضي الله عنه) موقفه من قضية تسفير الحوزة العلمية الذي حدث بعد وفاة الامام الحكيم(رضي الله عنه)وكيف تمكن الشهيد الصدر(رضي الله عنه)من ان يقوم بعمل واسع من خلال ارسال البرقيات للنظام ورأسه احمد حسن البكر او القيام بحركة واسعة في اوساط المراجع والعلماء بحيث تمكن من ان يعبي الوضع الروحي والسياسي في النجف الاشرف، طبعاً كانت هناك مواقف ايضا لبعض مراجعنا ومنهم الامام الخميني(قدس سره) الأمر الذي أدى الى ايجاد ضغط كبير على النظام ومن ثم تراجع النظام عن موقفه بسبب هذه الحملة الواسعة.
================
كان الشهيد الصدر(رضي الله عنه)هو الشخص الوحيد الذي بادر للتدخل في هذا الموضوع (قضية الشعائر الحسينية وتدخل العفالقة المجرمين بشكل وحشي لمنعها ) وذلك في احداث صفر حيث قام ارسالي الى هذه المواكب والحديث معها من اجل القيام بعمل يؤدي الى ابقاء هذه المواكب والشعائر الحسينية وتثبيت وجودها ضمن مخطط وخطة حكيمة ودقيقة، الأمر الذي جعل البعثيين في حرج من الناحية السياسية وتراجعوا عن كل وعودهم ومواقفهم من اجل تثبيت هذه الشعائر، وتدخلوا عسكرياً عن طريق الطائرات والدبابات ومن ثم اصبحت القضية واضحة ومكشوفة امام العالم كله وأدت الى ان يتراجعوا عن منع الشعائر الحسينية وزيارة الامام الحسين(عليه السلام) يوم الاربعين مشياً على الاقدام، واصبح هذا الموقف سنّةً بعد ذلك بسبب التخطيط الجيد والحكيم وبسبب التضحيات الكبيرة التي قدمها ابناء الشعب العراقي ايضاً في هذا المجال وصمودهم في قضية الشعائر الحسينية.
================
لقد ضحّى بنفسه الشريفة الغالية في سبيل الاسلام وهذه القضية تعتبر رمزاً في حركة الشهيد الصدر(رضي الله عنه)ووجوده وحياته وتعتبر اشرف قضية في كل هذه الحياة الشريفة المليئة بالمكرمات وبالعزة والخير والعطاء والبذل، والى جانب هذه الشهادة نجد ان الشهيد الصدر(رضي الله عنه)كان دائم البذل والعطاء، فقد كان من مدرسي البحث الخارج واصبح درسه في هذا المجال من الدروس المتميزة في النجف الاشرف.
مع ذلك نجد ان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) من اجل الاسلام وتوعية الاُمّة يضحّي بدرسه الشريف ويحول درس الفقه الى درس للتفسير الموضوعي، و يقدم النظرية الاسلامية الاجتماعية في مواجهة الطغيان العفلقي، وبعد انتصار الثورة الاسلامية من اجل ان يوجد ذلك الوعي الواسع الكبير في اسناد هذه الثورة نجد ان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) ايضاً يضحّي بمرجعيته التي كانت مرشّحة في الساحة الاسلامية فالشهيد الصدر(رضي الله عنه) كان من مراجع الاسلام الكبار كما عرّفه الامام الخميني(رضي الله عنه)، وكان يمثل مشروعاً متميزاً في المرجعية الدينية في شخصيته وعلمه وفضله وحركته وامتداداته ونشاطه الواسع، لكنه ضحّى بها من أجل الاسلام والثورة الاسلامية وقَبِلَ ان يذوب في مرجعية الامام الخميني(رضي الله عنه) من اجل توحيد الموقف الاسلامي ونصرة الثورة الاسلامية وتعميقها في نفوس المسلمين، وقبل ذلك ايضاً نجد الشهيد الصدر(رضي الله عنه) يتبنى بعد مرجعية الامام الحكيم(رضي الله عنه) مرجعية استاذه الامام الخوئي(رضي الله عنه)من اجل وحدة هذه المرجعية ايضاً وجعل القدرة الاسلامية قوية في مواجهة الطغيان والكفر، ومع وجود وسط واسع وكبير ولا سيّما في اوساط الشباب يؤمنون بمرجعيته ويلحون ويصرون على ان يلتزموا بها لانه كان يرى بأن المرجعية لابد لها ان تكون مرجعية واحدة، وعندما تصدّى للمرجعية بعد ذلك كان لاهداف واضحة هي طرح الاسلام ومواجهة الطغيان بعد ان واجهت مرجعية الامام الخوئي(رضي الله عنه)مشكلات جعلتها غير قادرة على الدخول في مثل هذه المواجهة.
كان الشهيد الصدر من اجل ان يقوم بعمل اسلامي يضحي احياناً بعزّته الشخصية وكرامته وهي أثمن شيء عند الانسان حيث كان يذهب فيتواضع لأشخاص لا يستحقون ذلك وذلك من اجل الاسلام ومن اجل ان يوحّد الكلمة ويوحّد الصف ويُعبي الاُمّة في مواجهة الطغيان والظلم.
================
كان الشهيد الصدر(رضي الله عنه)يضحّي بوقته الثمين من اجل طلاّبه واحبائه واصدقائه، لانه كان يرى ان التضحية هي أمر عظيم في حركة الانسان وتكامله
ووصوله الى الله سبحانه وتعالى، أتذكّر ان الشهيد الصدر(رضي الله عنه) ومن اجل ان يربّي بعض طلاّبه كان مستعداً أن يعطي وقتاً لتدريس مواد دراسية هي
دون مستوى أحد طلابه فضلا عن ان تكون بمستواه(رضي الله عنه)، وهذا الأمر انا اقوله عن تجربة شخصية فقد طلبت من الشهيد الصدر(رضي الله عنه) وهو يدرّس
الخارج ان يدرّسني شخصياً كتاب المكاسب فوافق على ذلك.
السيد حسين الصدر
..تغلّف أحدى دور النشر في بيروت طبعة من كتابه (أقتصادنا) بغلاف يحمل صورته ونبذة عن حياته فيأمر كاتب السطور أن يتفق مع الموزع ـ قاسم الرجب ـ على نزع هذا الغلاف قبل بيعه للناس.
================
..يوصي اليه أحد التجار بسيارته الخاصة فيأمر ببيعها ليكون الثمن في بيت المال يصرف على مصالح الاسلام والمسلمين.
================
..يزوره أحد مقلديه عارضا أن يشتري له دارا من ماله الخاص فيرفض ذلك وينصحه بشراء مبنى يوقف مدرسة على طلاب العلوم الدينية.
================
..يتناهى الى سمعه أعدام الكوكبة الاول ى من شهداء الحركة الاسلامية في العراق فيصاب بما يشبه الشلل حزنا وألما وفجيعة.
================
..يدخل الى محافل النجف العامة ومجالسها فيجلس الى جانب المستضعفين من الطلبة.
================
..تطارد السلطة أحد طلابه فيضطر للتواري عن الانظار ومغادرة العراق فتنهمر عيناه بغزير الدموع ويشتد منه الحنين والوجيب.
الشيخ علي الكوراني
الفترة الزمنية التي عاش فيها الشهيد الصدر(قدس سره) كانت بداياتها في الكاظمية وكانت هناك موجة الحداثة الغربية وفرض الدولة من قبل الانگليز على الشعب العراقي، وفي المرحلة اللاحقة عايش فترة انتهاء العهد الملكي في العراق وبداية العهد الجمهوري والموجة المضادة للدين وهي الموجة الالحادية الشيوعية التي اطلق يدها (عبد الكريم قاسم) لاهداف معينة، وكانت موجة قوية ضد الدين ورفعت شعار (الدين افيون الشعوب) وشعارات اخرى وانتشرت الكتب التي تشكك في الدين ووجود الله عزوجل وانتشرت الشيوعية كتنظيم وثقافة وافكار وكانت هناك هجمة شديدة من عدة فئات سياسية ضد الحوزة العلمية والدين عموماً.
واذكر اننا في هذه المرحلة كنا طلبة صغار في النجف نخاف ان نخرج في النهار الاّ جماعة لنتمكن ان ندافع عن انفسنا اذا ما اعتدي علينا اما عند الغروب فلا يمكن لأحد ان يخرج من بيته، الى هذا الحد كانت الموجة طاغية، كان الحرس الشعبي يملأ الشوارع، واذا رأوا معمما فانهم كانوا يهينونه ولاقل كلمة يقولها مقابلهم لعله يقتل وكم قتلوا، لكن رغم شدة هذهِ الموجة وقفت النجف في وجهها بقيادة المرجع الامام الحكيم(قدس سره) وشكلت بتوجيهه جماعة علماء النجف وكان رئيسها الشيخ مرتضى آل ياسين (خال الشهيد الصدر)، وبدأت هذه الجماعة تنشط وتخاطب الدولة عن التجاوزات وترد الافكار وكان الشهيد الصدر اول من فكّر بالكتابة ضد الفكر الالحادي وبدأ بتأليف كتاب (فلسفتنا) في تلك الايام بتشجيع من المرحوم السيد مهدي الحكيم(رحمه الله) وكان عبارة عن كتيب صغير ولم توافق الرقابة العسكرية على طبعه ونشره وكان في هذا المنع مصلحة حيث قام السيد الصدر(قدس سره) بتجديد النظر فيه وتوسيعه فصار هذا الكتاب المعروف اليوم وتم طبعه.
ومن ناحية اخرى كان له دور في نشاط جماعة العلماء مع انه كان صغير السن وذلك لوجود خاله (الشيخ مرتضى آل ياسين) رئيساً لجماعة العلماء فكان يستفيد من الشهيد الصدر، حيث كان يعطي افكارا نافعة لجماعة العلماء، ولما احس الشعب بمظلومية الدين والعلماء وخفت حدة المد الشيوعي الشرس اطلق السيد الحكيم(قدس سره) فتواه (ان الشيوعية كفر والحاد)، وسببت وجود المد الديني المضاد للشيوعية جاء التأييد من قبل العشائر وارسالها للوفود لتأييد المرجعية، في هذه الفترة طلبت جماعة العلماء بتوجيه من الشهيد الصدر(قدس سره) اجازة اصدار مجلة فحصلوا عليها بعد الضغط على الدولة فكان اسم المجلة (الاضواء) وكان يديرها الشيخ كاظم الحلفي ويكتب فيها كتاب كبار منهم الشهيد الصدر(قدس سره) وكانت مركزاً للنشاطات والفعاليات ضد الموجة الشيوعية واللادينية.
================
كان واقع العراق جزءاً من الواقع في العالم العربي والعالم الاسلامي، كان العالم الاسلامي تحت النفوذ الغربي وكان التحرر من النفوذ الغربي يتوقف على رفع شعار الشيوعية او اليسارية، فالمعارضون للحكومات التي تحكمها اميركا والغرب في البلاد العربية والاسلامية، المعارضة التي تريد ان تنقذ هذه الشعوب وتطرح اطروحة البديل للاستعمار او الرجعية هي اليسار، وكان الاسلاميون يشعرون بضرورة طرح البديل الاسلامي وليس البديل الشيوعي، الحركة الاسلامية كانت موجودة بشكل او بآخر في البلاد الاسلامية فهذا الواقع الموجود في العراق هو جزء من الواقع الموجود في البلاد العربية، والشهيد الصدر(قدس سره) رأى هذا الواقع وهو واقع مؤسف وجب عليه التحرك والعمل، وقد اثر في هذا الواقع لان العلماء والمرجعية كذلك اثرت في ايجاد تيار عقائدي في مواجهة العقائد الباطلة المضادة للاسلام من ناحية، والشهيد الصدر(قدس سره) احد المؤسسين لحركة وتنظيم عرف فيما بعد بحزب الدعوة .. كان اولا حركة الدعوة فتدالوا مع جماعة من الاخوة في انه يجب ان تقوم حركة وتنظيم، والشهيد الصدر(قدس سره) كان هو ومجموعة من الناس قد شاركوا في تأسيس هذه الحركة، وكان هو يوجهها واول كتابات في الحركة الاسلامية كتابات تعريف الاسلام وغيره هو الذي كتبها، وبدأ نشاط بعض العلماء والاخوان في تشكيل تنظيمات في المحافظات المختلفة وبتوجيه الشهيد الصدر(قدس سره).
================
الشهيد الصدر(قدس سره) كان منسجماً مع مرجعية السيد الحكيم(قدس سره) وكان يرى ضرورة حفظ مرجعية السيد الحكيم، السيد الحكيم كان يرى ضرورة التوعية وان العمل السياسي عند الضروة تقوم به المرجعية، والشهيد الصدر كان مقتنعاً بأنه يجب العمل لاقامة دولة اسلامية وكان مقتنعاً اول الامر بالتنظيم وضرورة التنظيم وتنظيم الدعوة ثم صار رأيه ان التنظيم يقوم به أُناس يشكلون تنظيماً ذلك اليهم لكن المرجعية لا يجب ان يكون لها تنظيم، فالشهيد الصدر(قدس سره) في المرحلة الاولى كان مقتنعاً بأنه لابد من حركة وحزب ما ينسجم مع المرجعية وتقوده المرجعية ثم غيّر رأيه ورأى ان المرجعية يجب ان تكون مستقلة واذا انشأوا احزاباً يكون التأييد لهم بمقدار انسجامهم مع المرجعية.
================
نظرية الشهيد الصدر كانت نظرية حركة وقيادة جماعية مثلا قيادة فقهاء ويكون عندهم حركة سياسية ونشاط في المجتمع، والسيد الحكيم (قدس سره) رأيه عمل توعية ووكلاء للمرجع ومكتبات في كل محافظات العراق.
الاشخاص الواعون في المحافظات نظموا في الحركة والشهيد الصدر واكب هذا التنظيم وأيده وكانت قناعته ان تكون قيادة جماعية مثلا هيئة فقهاء بقيادة المرجع ويكون لهم تنظيم في المجتمع، ثم غيّر رأيه وصار يرى قيادة المرجع ـ القيادة الفردية ـ وان التنظيمات اذا اراد ان يقوم بها اشخاص يكون الموقف منهم بحسب قربهم او بعدهم من المرجعية، اي الشهيد الصدر تراجع عن فكرة القيادة الجماعية والحزبية وقد رأى اخيراً ان الحزب لا تكون له شرعية الا بعد ان يعطيه المرجع الشرعية، فبمقدار ما تعطي المرجعية للتنظيم الحزبي من شرعية يكون شرعياً، والا قد يكون مضاداً.
================
الشهيد الصدر(قدس سره) اولا كان يرى القيادة الجماعية، والمرحوم الامام الخميني(قدس سره) لم يفكر قط بالقيادة الجماعية كان يرى قيادة المرجع، الشهيد الصدر(قدس سره) كان في مرحلة من الوقت يرى العمل الحزبي الحركي واخيراً وصل الى فكر الامام الخميني(قدس سره) ورأيه، اي وصل الى قيادة المرجعية وان المرجعية لا يصح أن تكون متبنية تنظيماً حزبياً.
================
بعد مرحلة المدّ الشيوعي كان نتاج الشهيد الصدر(قدس سره) للساحة وللحاجة العملية، والفقه هو نتاج يواكب حركة الحياة .. في المسألة الفلسفية احس الشهيد الصدر(قدس سره)بأنه يمكن عالمياً وعقائدياً ان تقدم دراسة جديدة يستفيد منها الاسلاميين لأثبات وجود الله عزوجل على اسس الفلسفة الغربية وبذل جهداً كبيراً في الاسس المنطقية للاستقراء .. مثلا كتب البنك اللاربوي اولا معالجة للساحة ولحاجة الحياة ثم كتب الاسس المنطقية للاستقراء واخذ الكثير من وقته، هذه مسألة عقائدية في مرحلة عقائدية تخصصية، ولكن يمكن ان يقال ان نتاج الشهيد الصدر(قدس سره) نوعاً ينفع للساحة العملية العقائدية والسياسية، وبعد ذلك، الظروف الصعبة التي مرت بها المرجعية والضغوط التي بدأت من مجيء هؤلاء البعثيين منعت الشهيد الصدر من الكثير من الاعمال مثلا كان عنده مشروع مجتمعنا كان يقول: ان مجتمعنا لا يسمح ان يُكتب مجتمعنا.
وكان للشهيد الصدر ابعاد متعددة حيث كانت له كتابات في الفلسفة وبحوث فقهية استدلالية وتمثل عمل حوزوياً تتعاون بالنتيجة في مصب واحد ولو ان الشهيد الصدر كان يعطي الاولوية للعمل السياسي على الساحة ما كان ليكتب (الاسس المنطقية الاستقراء) ولم يبذل جهوداً في مجالات اخرى، و الشهيد الصدر اخيراً اقتنع بأنه ـ يجب ان يكون هو مرجعاً بالطريقة المتعارفة ويعمل بشكل غير مباشر في اسناد العاملين السياسيين على الساحة.
================
بشكل عام تلاميذ الشهيد الصدر(قدس سره) مميّزون بوعيهم لعالمهم وعصرهم وانفتاحهم الثقافي واهتمامهم الاسلامي بنشاطهم وانتاجهم.
تلاميذ الشهيد الصدر(قدس سره)يختلفون بعضهم عن بعض، بعضهم ما زال عندهم قناعاتهم بخط الشهيد الصدر والبعض الآخر تغيرت قناعاتهم، نعم تلاميذ الشهيد عليهم مسؤولية احياء ذكراه(قدس سره)
السيد عبد العزيز الحكيم
الشهيد الصدر(قدس سره) كما هو معروف ابن اسرة عراقية عريقة وعلمائية، وقد عاش منذ نعومة اظافره مع الشعب العراقي وفي الاجواء العلمية والسياسية للشعب العراقي، وكان له طموح منذ بداية عمره في تحقيق الاسلام واقامة حكم اسلامي في العراق باعتبار ان العراق مركز من مراكز الاسلام المهمة وايضاً من مراكز اهل البيت(عليهم السلام)، حيث توجد كما هو معروف ستة مراقد لأئمتنا الاطهار(عليهم السلام) والكثير الأغلب من من الشعب العراقي هم متدينون ومحبون لاهل البيت(عليهم السلام)، وكان الشهيد الصدر(قدس سره) يرى منذ البداية ان هناك مؤامرة استعمارية حيكت لكل الوطن الاسلامي بما فيه الشعب العراقي وأن المستعمرين قد تمكنوا من السيطرة على هذه البلاد، وكان يرى ان من الضروري تهيئة هذه الشعوب من اجل ارجاعها الى الاسلام وتوعيتها وبالتالي تحقيق حكم اسلامي في هذه المناطق.
ومنذ زمن تولي عبد الكريم قاسم الحكم في العراق ثم تولّي العارفَين (عبد السلام وعبد الرحمن) والى مجيئ البعثيين كانت له معرفة بالكثير من التفاصيل التي كانت تجري داخل العراق على المستوى السياسي وعلى المستوى المرجعي والاجتماعي للشعب العراقي، وقد كان له دور واضح وبارز في مواجهة المد الشيوعي الذي تعرض له العراق في 1958 م .. كل هذه الممارسات وهذه الاجواء خلقت لدى الشهيد الصدر(قدس سره)ثقة بامكانية تحريك هذا الشعب وتوجيهه نحو الاسلام وبالتالي من خلال استعداده للتضحية والتضحيات التي قدمها الشعب سوف تؤدي الى اقامة حكم اسلامي ولكن العملية تحتاج الى جهود مضنية، وقد دخل في الكثير من المشاريع في هذا الاتجاه.
وبعد مجيء البعثيين واستلامهم للسلطة وقيامهم بمجموعة من اساليب القمع والارهاب والتعدي والقتل والظلم ومجموعة من الاساليب الاعلامية المضللة للشعب أحس السيد الشهيد ان الامة في هذا الزمان شبيهة بالامة في زمن الامام الحسين(عليه السلام)، حيث كان يرى الامة في ذلك الزمان هي أُمة تعيش الاسلام من ناحية عاطفية و لكن مسلوبة الارادة ولذلك تحتاج الى هزة قوية من اجل تحريكها وارجاعها الى ارادتها، وكان(عليه السلام)يرى ان المنقذ لهذه الامة الفاقدة للارادة والموقظ لسباتها هو بذل دمه الطاهر ودماء العترة الطاهرة من اصحابه واهل بيته و وقعت حادثة الطف الرهيبة.
وبالفعل كان من نتائج هذه الحادثة ومن خلال هذا الدم الطاهر حصول حالة من التحريك للامة، وبالتالي حصلت الكثير من الضغوط على الحكم الاموي فيما بعد وادت في النهاية الى سقوط هذا الحكم ورجوع الامة الى
اسلامها، ولما لم ير الشهيد الصدر وجود مثل الامام الحسين(عليه السلام) في زماننا فلابد اذن من بذل مجموعة كبيرة من العلماء دمائهم في سبيل الله حتى يؤدي سفك هذه الدماء الطاهرة الى حالة من ايقاظ الامة.
واحدى الميزات المهمة للشهيد الصدر(قدس سره) هو تحليله للامة في العراق في زماننا الحاضر، وبالتالي ايمانه
بالشهادة وبضرورتها وبذل الدم وايضاً استعداده للقيام بهذا العمل، واتذكر في بداية السبعينات عندما اصدر
النظام العراقي قراراً بتهجير الحوزات العلمية وبالخصوص الحوزة العلمية في النجف الاشرف التي تعتبر قاعدة من القواعد المهمة للاسلام والتي يرتبط بها المسلمون في مشارق الارض ومغاربها، عندما اراد حزب البعث القضاء على هذه القاعدة الاسلامية الاصيلة المهمة، طرح الشهيد الصدر(قدس سره) فكرة مواجهة النظام من خلال التضحية والشهادة، حتى طرح تصوراً خلاصته ان يذهب هو بنفسه الى الصحن الحيدري الشريف في النجف الاشرف ويرتقي المنبر ويجتمع الناس ثم يبدأ هو بافهام الناس بما يجري من امور وتوعيتهم بواقعهم وبخطورة المسائل الموجودة والتي تتعرض لها الامة ويتعرض لها الاسلام واتباع اهل البيت في هذا الوقت، وكان يرى ان هذا الحديث الصريح على المنبر والذي يتناول حكومة البعث العفلقي سوف يؤدي الى استشهاده وبالتالي سوف يستشهد عدد كبير ويؤدي ذلك الى توعية الامة، وكان يطرح هذه القضية كفكرة وتدارسها مع بعض المقربين له لكنهم انتهوا الى ان القيام بعملية من هذا القبيل سوف لا تؤدي الى تحقيق الاهداف المرجوة، وبالتالي رفع اليد عن تنفيذ هذه الفكرة على الرغم من استعداده لبذل دمه الطاهر من اجل الدفاع عن الامة وعن مقدساتها واسلامها.
هذا التحليل وهذه الفكرة بقي السيد الصدر(قدس سره)يعيشها الى حين استشهاده، وبذلك كان يرى ان الشعب العراقي بالرغم من ولائه لاهل البيت(عليهم السلام)وارتباطه بالاسلام وتاريخه العريق في الدفاع عن الاسلام والتمسك به يمر بمجموعة من الانتكاسات التي حصلت عند الامة ومجموعة من المؤامرات التي قام بها المستعمرون والاجراءات التي اتخذها النظام ويعيش في حالة من السبات ويحتاج الى من يوقظه وكان يرى ان الطريق المهم لايقاظه هو الشهادة.
وهذه النظرية بعد مرور هذه السنوات العجاف على استشهاده كانت نظرية صحيحة وتحليلا دقيقاً في الوقت الحاضر ولذلك نرى منذ ذلك اليوم الذي قرر السيد الصدر(قدس سره) فيه مواجهة النظام واستشهاده ولحد الآن لا يزال الشعب العراقي يعيش حالة من الصراح والمقاومة لهذا النظام وإن شاء الله سوف يتحقق النصر لهذا الشعب في القضاء على هذا النظام واقامة حكم اسلامي في عراقنا الجريح.
================
كانت للسيد الصدر(قدس سره) اهداف مشخصة وحركة محددة وتحرك ضمن خطوات مبرمجة وبذلك ادى هذا التحرك الى هذا النجاح الذي تحقق لحد الآن، وان شاء الله سيستمر ذلك حتى تتحقق الاهداف الاساسية.في الحقيقة حسب علمي ومن خلال قربي للشهيد الصدر قرر(قدس سره)المواجهة بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، حيث انعكس هذا الانتصار بشكل ايجابي على الشعب العراقي وتعلق الملايين من أبناءه بالثورة الاسلامية في ايران وبقيادتها، وكان يطرح هذا السؤال في عمق ونفوس ابناء الشعب العراقي: نحن مسلمون وقد استعمرنا ايضا فلابد ان نرجع الى اسلامنا، فكما تمكن الشعب المسلم في ايران من القيام والنهوض والوقوف في وجه المستعمرين والنظام العميل للاستعمار نحن ايضا نمتلك القدرة على ذلك والاستعداد لتحقيق هذا الامر من خلال الرجوع الى قيادتنا الدينية الموجودة في النجف أنذاك المتمثلة بآية الله العظمى السيد الخوئي(قدس سره) والامام الشهيد الصدر(قدس سره)، واخذ الناس يراجعون المرجعية الدينية لمعرفة الموقف الشرعي، والسيد الصدر(قدس سره) من خلال تحليله كان يرى في ذلك فرصة ذهبية يجب ان تستثمر فان لم تتجاوب المرجعية الدينية والحوزة العلمية مع الامة للجواب على هذا السؤال فانها سوف تنعزل عن الامة وبالتالي سوف تتحرك الامة بدون راع حقيقي، لان الرعاية الحقيقية للامة انما تكون بالمرجعية الدينية والتي هي امتداد للامامة وللنبوة، ولذلك قرر بعد أن رأى الأرضية المناسبة موجودة الدخول في المواجهة وخطط لها من خلال مجموعة خطوات نذكرها بشكل اجمالي:
الاولى: ـ احتضان الامة بشكل عام والمؤمنين بشكل خاص واقرار هذا التوجه وتعميق صحة الجواب عن هذا الاستفسار، بان هذه الامة اذا ارادت ان تتحرك فبامكانها ان تتحرك، واذا تحركت فانها يمكن ان تحقق اهدافها، واذا حققت اهدافها فسوف يتم طرد المستعمرين واذنابهم، وبالتالي يمكن للامة ان تقيم حكماً اسلامياً، وهذا شيء عظيم جداً كان يحتاج له في ذلك الزمان من يقرر صحته على الامة، وقد احس الناس ان السيد الصدر(قدس سره) من خلال الاجتماعات العامة والخاصة ومن خلال الاتصالات بمختلف الطبقات انه يقر هذا التوجه ويرى ضرورة هذا التوجه.
الثانية: ـ الموقف من الثورة الاسلامية وقائدها العظيم الامام الخميني(قدس سره)، وقد تمثل في مجموعة من المواقف يمكن ان نلخصها في:
1 ـ تعطيل درسه في الفقه والاصول في اليوم الذي غادر فيه الامام الخميني(قدس سره) النجف الأشرف وتوجه الى الكويت ومن بعدها الى باريس احتجاجاً وتضامناً مع الامام في هذا التوجه، وكان يرى ذهاب الامام خسارة كبيرة، وهذا موقف تأييد للإمام وتحركه.
2 ـ أصدر بياناً عندما كان الامام الخميني(قدس سره) في باريس بيّن(قدس سره) رأيه بشكل واضح من حكومة الشاه الاستعمارية التي كانت متسلطة أنذاك على الشعب الايراني، واسناده للتحرك المرجعي للاطاحة بالشاه وتمنى النصر للثورة ولقائدها ولحركة الشعب.
3 ـ تعطيل درسه عند انتصار الثورة الاسلامية بعد ان القى محاضرة ـ وكنت انا من الحاضرين ـ بيّن فيها تقييما رائعاً لهذه الثورة واعتبرها انها حققت آمال الانبياء(عليهم السلام) بهذا الانتصار.
4 ـ ارسال برقية للامام بمناسبة انتصار الثورة، وطلب من بعض طلابه اعداد تظاهرة تأييد للثورة في النجف وخرجت هذه التظاهرة وكانت اول تظاهرة تخرج وتصطدم بالقوات الامنية المسلحة الموجودة في النجف بعد سبات طويل منذ رحيل الامام الحكيم(قدس سره).
5 ـ السعي لايجاد علاقات وطيدة بينه وبين قادة الثورة الاسلامية والامام الخميني(قدس سره)، حيث ارسل الرسل والاشخاص واخيراً ارسل معتمده سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي الذي كان يعتبر ولا يزال من اعمدة تلاميذ الشهيد الصدر وكان معروفا بعلاقته بالشهيد الصدر الى ايران للقيام بهذا الدور.
6 ـ الطلب من طلابه الذوبان الكامل في الامام الخميني(قدس سره) كما ذاب هو في الاسلام والاندماج الكامل في قيادة الامام.
7 ـ تقديم مجموعة دراسات للثورة الاسلامية حيث كانت بحاجة الى مثل هذه الدراسات فاستفيد منها وهي تحت عنوان (الاسلام يقود الحياة) و(مشروع دستور الجمهورية الاسلامية).
8 ـ اقامة الفاتحة على روح الشهيد مطهري عندما استشهد وهي الفاتحة الوحيدة التي اقيمت في النجف الاشرف، وكنت حاضراً في تلك الفاتحة وكانت السلطات تحاصر مكان الفاتحة وهو مسجد الشيخ الطوسي(رحمه الله).
9 ـ اظهاره العلني والصريح وأيمانه بمرجعية وقيادة الامام الخميني(قدس سره)، وكان هذا الشيء كبيراً جداً حتى اعترض بعض محبيه باعتبار انهم مقلدين له، وقالوا نحن مقلدون لك وعندما تؤمن بمرجعية الامام الخميني(قدس سره)
معنى ذلك ان ندعو الى تقليده وبالتالي كان في نفسهم شيء، فأخذ(قدس سره) يوضح اهمية هذا الموضوع واعتبر الاصل هو قيادة الامام ومن الضروري ان تنطوي كل القيادات الاخرى تحت هذه القيادة باعتبارها هي الرافعة لراية الاسلام والمقيمة للحكومة الاسلامية، وهذا درس عظيم ومهم لكل واحد منّا كيف ان مثل الشهيد الصدر(قدس سره) الذي يرى في نفسه الاعلمية والقدرة والاهلية يستعد من اجل الاسلام ان يتنازل عن كل وجوده وكل ما حصّله من أجل دعم الاسلام وحركته والقيادة الاسلامية والولاية.
10 ـ الامتثال لرغبة الامام في البقاء في النجف الاشرف من خلال البرقية الجوابية التي وجهها الامام الخميني(قدس سره) ومن يدرس هذه البرقية يرى ان هذا تجسيد حقيقي لطاعة ولاية الفقيه بعد الايمان الحقيقي بها.
وامثال هذه الخطوات التي اتخذها في دعم الثورة الاسلامية.
الثالثة: ـ دعم الثورة الاسلامية العالمية بشكل عام، حيث بيّن امكانية تحكيم الاسلام في مقام رده لشبهة كانت تطرح آنذاك من قبل اجهزة الاستعمار ومن خلال وسائل الاعلام العالمية ان الاسلام ليست له قدرة في ادارة حكم وانما هو عبارة عن مجموعة من العبادات والممارسات التي يمكن للانسان ان يؤديها بينه وبين ربه وبعض الطقوس والعادات والاداب في التعامل لا اكثر من هذا، اما ان الاسلام له القدرة على الحكم فهذه قضية كانت غير واضحة في بداية انتصار الثورة الاسلامية، وكان الشهيد الصدر(قدس سره) له دور مهم في تعميق فكرة امكانية تحكيم الاسلام من خلال الاتصال بالكثير من علماء الاسلام الموجودين في المدن المختلفة ومن خلال الاتصال بالتجمعات الاسلامية والطرح المستمر في لقاءاته مع الامة.
الرابعة: ـ التصدي بشكل اوضح للمرجعية الدينية قبل انتصار الثورة الاسلامية، حيث كانت للشهيد الصدر رسالة عملية وكان متصدياً بنحو من انحاء التصدي للمرجعية، ولكن كان يرى ان المرجعية العليا متشخصة بالامام الخوئي(قدس سره)ولذلك كان لا يمارس بعض المسائل ولا يتصدى لبعض القضايا باعتبار وجود المرجعية العليا، ولكن عندما قرر المواجهة وتهيئة الارضية المناسبة لهذه المواجهة قام بحالة من التصدي لمسائل كان يراها مهمة مثلا التصدي لارسال الوكلاء من قبله، وقد تمكن من خلال تشكيل لجان داخل الحوزة العلمية اقناع عدد كبير من العلماء الواعين المتواجدين في الحوزة العلمية للتواجد في الكثير من مدن العراق باعتبارهم وكلاء عن الشهيد الصدر(قدس سره) وبالتالي ملء فراغ كبير، واصداره فتوى بعدم جواز الصلاة خلف اي عالم ليست له وكالة مرجع من النجف الاشرف، فقد كانت هناك خطة للنظام العراقي لملء بعض المساجد بمعممين مرتبطين بالنظام واجهزته أو غير مرتبطين بالمرجعية، فالسيد الصدر(قدس سره)حرّم الصلاة خلف هؤلاء مالم يرتبطوا بمرجع ويؤيدهم احد المراجع، وبذلك انكشف الكثير منهم وتُركوا واضطر البعض الى ترك هذا الموقع وبالتالي فوّت الفرصة على النظام في تحقيق هذا المخطط.
وهناك شيء آخر مهم هو اصداره(قدس سره) الفتوى بحرمة الانتماء لحزب البعث العفلقي، ففي البداية اصدرها وبيّنها بشكل سري لافراد مخصوصين ومعيّنين ثم تصاعدت الحالة واخذ يبينها في وضع علني، أو شبه علني ثم اجازته لصرف الحقوق الشرعية التي عند المؤمنين في اعمال تخدم هذا التحرك وهذا التوجه.
الخامسة: ـ قيامه بالتنسيق مع الكثير من قيادات العمل الاسلامي المنظم في داخل العراق وتهيئتهم للمواجهة، وبيان افكاره ونظرته وتحليله ومدى استعداده للمواجهة.
السادسة: ـ القيام بالتخطيط للتحرك الاعلامي والسياسي في الخارج، وقد كتب رسالة في هذا المجال تمثل رؤيته للتحرك السياسي والاعلامي وارسلها الى الخارج لمحبيه من اجل العمل وفق هذه التوجيهات.
السابعة: ـ اصدار توجيهه بتأسيس (حركة التحرر الاسلامي) في لندن، وهي تضم مجموعة من عناصر منضمة لاكثر من جهة اسلامية وعناصر مستقلة ايضاً وبدأت تعمل وتمارس النشاط السياسي العام ولاول مرة في الخارج بشكل علني .. فآنذاك لم يكن هناك من يمثل الحركة الاسلامية العراقية ولا يوجد مركز علني واشخاص علنيّين يعرفون أنفسهم للجهات سواء الجهات الدولية او للعراقيين او للامم او للدول والمنظمات ويعملون ويتحركون بشكل علني، كما كانت هناك محاولة لفتح مكتب في باريس يقوم بهذا النشاط السياسي والاعلامي الدولي ونفّذ هذه النقطة سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي.
الثامنة: ـ تكليف بعض محبيه بأيجاد صلات ببعض الدول وبالخصوص الدول الاوربية من اجل ايضاح حقيقة وجود مشكلة حقيقية في داخل العراق، وان النظام يعيش حالة من التضاد مع المرجعية الدينية والقطاعات الاسلامية ومع الكثير من العناصر الموجودة داخل المجتمع العراقي على خلاف ما يدعي من انه مسيطر على العراق وان كل العراقيين معه.
التاسعة: ـ العمل الثقافي والفكري في تهيئة الارضية للمواجهة، وهنا بدأ بالقاء محاضرات قرآنية، وتمكن من القاء 14 محاضرة ضمن المواضيع التالية:
التفسير الموضوعي، التفسير التجزيئي في القرآن، السنن التاريخية في القرآن، عناصر المجتمع في القرآن الكريم، وقد ابتدأ السيد الشهيد(قدس سره) في يوم الثلاثاء 17/ج 1/1399 وانتهى من القائها يوم الاربعاء 5/رجب/1399،
وهذه المحاضرات كانت تلقى في جو متأجج ومثير لغضب النظام وكنت حاضراً في الكثير منها، حيث كان مسجد الطوسي يطوق من قبل اجهزة النظام عند القاء المحاضرات، وكانت آخر محاضرة تختلف عن كل المواضيع التي
تناولها في السابق وهي المحاضرة التي طبعت تحت عنوان (حب الدنيا) وكان لها تأثير كبير على المستمعين، حيث أكد في هذه المحاضرة على عدم وجود اي قيمة لهذه الدنيا والخسران الحقيقي هو ان يكون الانسان مبتلياً بحب الدنيا وان الفوز الحقيقي هو بحب الله، وضرورة تربية النفس وتزكيتها وأحس البعض انه نعى نفسه في هذه المحاضرة حيث ورد فيها: أبي لم يعش اكثر مما عشت لحد الان، اخي لم يعش اكثر ما عشت لحد الان، انا الان استوفيت هذا العمر، من المعقول جداً ان أموت في السن الذي مات فيه اخي، وكان يصغّر الدنيا في نفوس سامعيه وكان يطلب في الواقع من السامعين والمتواجدين وهم كثرة بالمئات الاستعداد للشهادة، وفي هذه المحاضرة حث على العمل للآخرة وان يعيش في قلوبنا حب الله بدلا من حب الدنيا لانه لا دنيا معتد بها عندنا، الائمة علّمونا ان نتذكر الموت دائماً وهو من العلاجات المفيدة لحب الدنيا.
في هذه النقاط وغيرها من الخطوات العملية الذي اتخذها كان يهيئ الشهيد الصدر(قدس سره) لحالة من المواجهة مع النظام، وبعد احساس النظام ببعض هذه الخطوات اتخذ اجراءات عديدة، حتى حصل صاعق الثورة وشرارة انتفاضة رجب المباركة ـ التي القي القبض فيها على الشهيد الصدر ـ بالبرقية التي بعث بها الامام الخميني(قدس سره) الى الشهيد الصدر(قدس سره) يطلب فيها الاستمرار بالبقاء بالنجف، خلاصة القول ان الشهيد الصدر كان واعياً للزمان ولأوضاع الامة وبامكاناتها وكان يعمل ويتحرك بشكل مدروس ومخطط وكان يهيئ الامة من اجل هذه المواجهة التي ابتدأت بعد هذه الخطوات التمهيدية الكثيرة.
================
اعتقد الشهيد الصدر(قدس سره) بالكفاح المسلح كاسلوب اساسي في مواجهة النظام العفلقي، ورغم الخسائر التي تترتب على ذلك كان يرى ان لاخيار غير هذا الخيار بعد ان هيّأ الامة ضمن الخطوات التي ذكرت في السؤال الماضي، وبعد اصرار النظام على عدم قبوله لأي شيء، اي عدم السماح بأي اعتراض او
تعبير عن الرأي وبأي حالة من التغيير بأي اسلوب من الاساليب انحصر الاسلوب في المواجهة المسلحة، وقد
اتخذ السيد الشهيد في رأيه قرارا بضرورة اتباع هذا الاسلوب واعتماده كاسلوب اساسي في عملية المواجهة،
وهذا الشيء واضح من خلال البيان الذي اصدره يوم 20/شعبان/1400 هـ بعد المذبحة التي قام بها النظام
الصدامي، حيث اعدم اكثر من 70 شخصاً بعد اعتقال عشرات الآلاف وفي مقدمتهم آية الله السيد قاسم المبرقع وآية الله السيد قاسم شبر والكثير من الكوادر الحركية والشخصيات العلمية والدينية، كان رد فعل النظام بعد اعتقال السيد الشهيد الصدر(قدس سره) هو اعتقال عشرات الآلاف ثم القيام بالتصفيات الجسدية بهذا الشكل، ولذلك هنا اعتقد السيد الصدر بضرورة المواجهة المسلحة.
وقد جاء في بيانه الثالث: «على كل مسلم في العراق وعلى كل عراقي في خارج العراق ان يعمل كل ما بوسعه ولو كلفه ذلك حياته من اجل ادامة الجهاد والنضال لازالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب وتحريره عن العصابة اللاإنسانية وتوفير حكم صالح فذ شريف يقوم على اساس الاسلام»، وذكر قبل هذا النص ايضاً «انا اعلن لكم يا ابنائي بأني صممت على الشهادة ولعل هذا آخر ما تسمعونه منّي وان ابواب الجنة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب الله لكم النصر»، هذا اضافة الى اقوال وفتاوى صدرت من قبله في هذا المجال. في وجوب الكفاح المسلح وبيّنها، وقد كنت من جملة من نقل هذه الفتاوى لبعض المرتبطين بالشهيد الصدر(قدس سره)، ثم قيامه باجابات تفصيلية على اسئلة العاملين في هذا المجال من قبيل قتل الابرياء في بعض الاحيان عندما تكون عمليات كفاح مسلح أو جواز وعدم جواز الانتحار في بعض الحالات التي يتضايق فيها العامل في هذا المجال.
والخطوة الأخرى التي اتخذها هو الدعم المالي والمعنوي للخطوط التي تعمل في هذا المجال وكانت بعض المساعدات تتم من خلالي، وهذا تأييد ودعم اكبر للعاملين عندما يرون اموال يقدمها الشهيد الصدر(قدس سره) لهم لهذا العمل.
وايضاً ابداء رأيه في بعض العمليات الخاصة التي يراد ان يقام بها في بعض الاحيان وتفكيره المستمر في تطوير هذا العمل ودرس فكرة ارسال احد أهم تلاميذه الى الخارج من اجل مسك خطوط الكفاح المسلح وادارتها
من هناك وهو سماحة آية الله السيد محمد باقر الحكيم، هذه مجموعة من الخطوات اتخذها من اجل دعم الكفاح المسلح، ومنذ ذلك اليوم اعتمد الكفاح المسلح من قبل المجاهدين العراقيين ومن قبل المعارضة الاسلامية العراقية واعتبروه اصلا من اصول تحركهم وان هذا النظام لا ينفع معه اي خط من خطوط التعامل سوى هذا الخط، وكانت نتائج هذا الخط بحمد الله جيدة وتمكن العراقيون من القيام بالكثير من العمليات ضد النظام الفاشي، ويمكن القول ان مؤسس الكفاح المسلح للخط الاسلامي العراقي هو آية الله العظمى السيد الشهيد الصدر(قدس سره)، ولله الحمد بعد بذل هذا الدم الطاهر نلاحظ الآن وجود معارضة عراقية اسلامية وان تكون قوية وان تمتلك الآلاف المضحين والمستعدّين للشهادة والمواجهة واعتماد اسلوب الكفاح المسلح وامتلاك الكثير من المؤسسات السياسية والاعلامية العاملة في مجال حقوق الانسان وهو تراث كبير.
================
كانت هناك مجموعة كبيرة من الاحداث (قبل اعتقال 17 من رجب)، وكان هو يُخطط(رضي الله عنه) لما بعد الاعتقال، فقد كان يتوقع الاعتقال بعد دراسته للظروف السياسية والامنية، وكان عارفاً بمجمل اوضاع الحكّام والاُمّة وتحسّسهم من اي تحرك ضد النظام، وهو كان يقوم بمجموعة كبيرة من التحركات التي كان النظام يتحسس منها ولذلك كان يتوقع الاعتقال، حتى انه قبل اعتقاله بثلاثة ايام كان يعلم بأنه سوف يتم يوم الاثنين من خلال بعض الاخبار التي كانت قد وصلته آنذاك، ولذلك خطط لعملية ما بعد الاعتقال، وكانت الخطوط الرئيسية للمخطط حسب معرفتي ومن خلال معايشتي بأنه كان يريد ان ينتشر خبر اعتقاله بسرعة وتخرج تظاهرات احتجاجية على العملية، وكان يريد فيما لو استمر الاعتقال ان ينشر البيان الاول من بياناته الثلاث من خلال الكاسيت المسجل، وكان قد سجل هذا الشريط ووضعه عندي وبالفعل ـ ولله الحمد ـ ، من خلال المخلصين الذين كانوا حول السيد الشهيد الصدر(رضي الله عنه) وكانوا يعلمون بما يجب ان يقوموا به بعد اعتقاله تحققت هذه المسائل يعني الاول والثاني، وكان خبر اعتقاله قد انتشر بسرعة فخرجت مجموعة من التظاهرات في مختلف المدن العراقية وبالخصوص المظاهرة المهمة التي خرجت في النجف الاشرف والتي كان لها دور مهم في عملية الافراج عنه حسب ما نقله لي هو(رضي الله عنه) بعد خروجه من السجن حيث التقيت به وبيّن ما جرى له من الساعة التي اعتقل بها الى حين الافراج عنه، وقد ذكر بانه في اثناء التحقيق دخل شخص يحمل ورقة اعطاها الى مدير الأمن الذي كان يجري التحقيق معه، وبعد وصول هذه الورقة التي كان يظن بأن فيها خبر خروج التظاهرة في النجف تغير التحقيق وبالتالي أُفرج عنه.
الشيء المهم الذي دائماً اذكره العلاقة القوية التي كانت للشهيد الصدر(رضي الله عنه) مع الله سبحانه وتعالى، وكان عمله لله وينتظر الساعة التي يفدَ فيها على الله، وقد ذكر لي في هذا المجلس الذي حصل بعد اعتقاله انه كان فرح جداً عندما أعتقل بأعتبار انه كان يشعر ان هذا الاعتقال سوف يؤدي الى الاستشهاد وبالتالي الانتقال الى الآخرة واللقاء بالله سبحانه وتعالى، ويكون قد ادّى تمام مسؤوليّته الشرعية على افضل
وجه بحسب اعتقاده وسوف يلقى الله وتنتهي حالة تحمله للمسؤولية والبقاء في هذه الدنيا الدنيئة، وقال: عندما أُفرج عني وأطلق سراحي ووضعت في الزقاق المؤدي الى البيت وتُركتُ هناك احسست بحالة من الألم
لأنني أحسست بأنه سوف أبقى ومن المفروض ان اتحمل المسؤولية، وهم المسؤولية هو الذي كان يزعجه، وعلى كل حال فهذا يدل على حالة كبيرة من العلاقة بالله سبحانه وتعالى ومن الخوف من الله سبحانه وتعالى وفي نفس الوقت حالة كبيرة من الشعور بالمسؤولية في تفاصيل تحركه وحياته.
والمفروض ان يكون لنا عبرة نستفيد منها ونسعى لأن تكون حياتنا بهذه الطريقة.
================
بعد حالة الاحتجاز للشهيد الصدر(رضي الله عنه) والتي فرضت عليه حاولنا وتوفقنا بعد ذلك بلطف من الله ان نجعل هناك اتصال يومي بيننا وبينه بطريقة خاصة قد أُشير اليها في السابق، والذي لم يتمكن الأمن طيلة فترة الاحتجاز من كشفه على الرغم من احساسه بوجود رابطة ما والرقابة الشديدة التي وضعت من اجل كشف طريقة الاتصال واخذ كل الاحتياطات ولكن مع ذلك بلطف من الله لم يكتشفوا هذا الطريق، أذكر الآن انه كان لنا موعد للاتصال بعد الظهر بحدود الساعة الثانية وكان المفروض ان احد الاشخاص في دار السيد الشهيد(رضي الله عنه) يكون الطرف الآخر ولكنه لم يخرج من اجل الاتصال، فأضطربنا وقلقنا خصوصاً وأنا كنا نتوقع ان يتم الاعتقال مرة اُخرى، وبعد فترة تبيّن بأن السيد الشهيد أعتقل في هذه الساعة وكانت ساعة ألم وانزعاج، اذ كنّا نتوقع بعد هذا الاعتقال ستكون عملية الاستشهاد بأعتبار الموقف الصارم للسيد الشهيد الصدر(رضي الله عنه)امام المساعي التي بذلها النظام من اجل اخضاعه واركاعه، وموافقته بالتالي على القبول بالشروط التي كانوا وضعوها من اجل اطلاق سراحه وارجاعه الى وضعه الطبيعي والذي قد يمكن تلخيصه بثلاثة أو أربعة شروط:
الاول: التبرء الكامل من الثورة الاسلامية ومن الامام الخميني(رضوان الله عليه).
الثاني: الانسجام مع الحكومة الظالمة الكافرة والتي يترأسها آنذاك صدام، وسحب فتوى تحريم الانتماء الى حزب البعث.
الثالث: التصدي لحالة المرجعية العربية التي كان يخطط لها النظام العراقي بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، وتكون منسجمة مع الدولة الظالمة في العراق، وتعمل وفق إرادتها وتقف في وجه المرجعية الدينية العظمى وقائد الثورة الاسلامية الامام الخميني(رضي الله عنه).
ولكن السيد الشهيد الصدر(رضي الله عنه) لم يوافق على هذا الطرح وبالعكس من خلال مجموعة البرقيات التي أرسلها آنذاك الى الامام الخميني(رضي الله عنه) كان يؤكد على مرجعيته وعلى قيادته للامة الاسلامية، ولذلك فالحكومة وقفت هذا الموقف من السيد الشهيد الصدر وبالتالي قضت عليه وقتلته في مثل هذه الايام.
كان السيد الشهيد الصدر(رضي الله عنه) طيلة فترة الاحتجاز ذا صلة بالخارج حيث يتابع الاخبار بشكل تفصيلي والتطورات، وكان في الوقت ذاته يفكر في تطوير المواجهة وطرح افكار وخطط واتخاذ مواقف من اجل تطوير هذه المواجهة، ومن ابرزها هو تبنّيه للكفاح المسلح ضد السلطة، والذي بدأ بعد عملية الاحتجاز بشكل شرعي ورسمي بالتبنّي من قبل السيد الشهيد الصدر، وكانت له مجموعة من الخطوط للتحرك في هذا المجال، وايضاً من خلال طرح فكرة القيادة النائبة حيث انه كان يفكر فيما لو استمرت عملية الاحتجاز وبالتالي فان الامة سوف لن تكون متمكنة من التعرف على رأي القائد، ولذلك كان يفكر في بديل لهذه الحالة او تتميم في حال كون القيادة محجوزة يكون هناك قيادة نائبة توضح للامة المواقف والآراء.
وبالتالي بقى السيد الشهيد الصدر(رضي الله عنه) عند عهده مع الله سبحانه وتعالى ومع الشهداء الذين سبقوه والذين كان يتوقع ان يلحقوه بعمليات استشهاد واسعة، وكان يعبر عنهم بقوافل الشهداء لحين ما استشهد.
السيد محمد الحيدري
مسؤولية تلاميذ الشهيد الصدر(قدس سره)مسؤولية كبيرة وعالية وتتحدد من خلال الاهداف التي حددها الشهيد الصدر(قدس سره) ومن خلال المسار الذي سار على نهجه، فقد كان على المستوى السياسي يريد القضاء على النظام الطاغوتي في العراق وتوعية الامة في العراق فضلا عن سائر البلدان الاسلامية الاخرى، وقد ادرك الشهيد الصدر(قدس سره) على المستوى السياسي ان النظام الحاكم في العراق، منذ مجيئه وفي اللحظة الاولى، ان هذا النظام نظام دموي وجاء من اجل محاربة الاسلام والقضاء عليه وعلى المرجعية والحوزة العلمية في النجف ولهذا تحرك الشهيد الصدر تحركاً واسعاً وحدد أُطره واهدافه في هذا التحرك، ومسؤولية تلاميذ الشهيد الصدر(قدس سره) في الجانب السياسي تتطلب العمل الدؤوب لتحقيق هذه الاهداف وهي العمل على اسقاط النظام العراقي واقامة حكم الاسلام وكذلك العمل على توعية الامة في العراق وتحقيق المطالب التي دعى اليها الشهيد الصدر في عمله وخطته وجهاده، كما ان الشهيد الصدر ايضاً قدم نفسه من اجل تحقيق هذه الاهداف، وهذه التضحية بهذا الشكل منه ومن الكثير من تلاميذه تتطلب السير على نفس النهج والعمل على هذا الجانب، وخاصة الآن فالاُمة في العراق اصبحت مؤهلة لان تحقق اهداف الشهيد الصدر في مواجهته مع النظام حيث نرى ان الامة عادت الى الاسلام نتيجة لهذه الدماء الطاهرة كدم الشهيد الصدر ولاصرار المجاهدين والعلماء على التضحية وعلى السير على نهج الشهيد الصدر، وقد اثبتت الامة استعدادها للتضحية من خلال المسيرات المليونية التي تشهدها كربلاء والنجف في المناسبات الاسلامية.
واما على مستوى الجانب العلمي فالشهيد الصدر(قدس سره) له جوانب علمية واسعة والتحرك لتحقيق تلك الاهداف العلمية كان محدوداً مع الاسف، نعم يمكن ان نقول الآن توجد بدايات لعمل دوؤب من اجل ان يسري منهج الشهيد الصدر في الدراسة العلمية في الحوزة، واما على مستوى تكملة بحوثه الفكرية والعلمية عدى الحوزوية فلن نجد لها على الواقع شيء، نعم في الجانب الحوزوي هناك انجازات لكن محدودة ولم تكن بالمستوى المطلوب لعظمة الشهيد ولرؤيته العلمية ولمستواه العلمي العميق والشمولي في هذا الجانب.
لكن يمكن ان نقول ان طموحات الشهيد الصدر(قدس سره) التي كان يطمح لها في بعض القضايا العلمية تحظى بمساع من اجل تحقيقها من قبل بعض تلامذته، واما بشكل العام هناك ضعف في هذا الجانب، ولهذا يمكن القول ان الانجاز الذي حققه تلامذة الشهيد الصدر(رحمه الله) على الجانب العلمي محدود وكذلك على الجانب السياسي فانهم حققوا التقدم في بعض الجوانب ولكن لازال الطريق طويلا ويحتاج الى عمل كبير، على الاقل توحيد الجهود والمواقف بالنسبة الى تلاميذ الشهيد الصدر(قدس سره) تجاه الثورة في العراق وتحقيق اهداف الاسلام فيه.
================
هذه الرؤية (المرجعية الصالحة) تنظر الى ان المرجع هو الذي يمتلك صلاحيات الولاية، ولكن بعد قيام الجمهورية الاسلامية في ايران وبروز ولاية الفقيه التي تمثلت بالامام(قدس سره) ثم في آية الله السيد الخامنئي(حفظه الله) حاليا، كان(قدس سره)يرى ان المرجعية الصالحة ينبغي ان تتمثل فيها صلاحيات للمرجع هي صلاحيات الولي الفقيه باعتبار ان الشهيد الصدر(قدس سره) يرى ولاية الفقيه وشموليتها وسعتها ولهذا فان رؤيته للمرجع ينبغي ان تكون بهذه الشمولية، والآن بدأت تتجسد في السيد الخامنئي(حفظه الله)، من هذا الجانب نستطيع القول ان المرجعية الصالحة في اطروحة الشهيد الصدر من بعض جوانبها بدأت تتحقق خارجاً.
نعم هناك قضايا اخرى اوسع كان يسعى اليها الشهيد الصدر وهو من خلال رؤيته للمرجعية كان يرى ان لابد للعلماء او الوكلاء ان يرتبطوا بالمرجع ويكون هذا الارتباط على مستويين: المستوى الاداري ـ ان صح التعبير ـ اي الذي يحمل وكالة تمثيل او ما شاكل ذلك والمستوى الفكري الذي يسعى اليه المرجع من
اجل تحقيق الطموحات المهمة التي يسعى من اجل تحقيقها في اوساط الامة، بحيث يكون العلماء والمبلّغون الاذرع للمرجعية للتحقيق تلك الاهداف الاسلامية السامية، كما ان من جملة معالم المرجعية الصالحة هي ان تكون هناك ميزانية مالية بيد المرجعية تصرف على الوكلاء والمبلّغين وعلى المشاريع الثقافية والجهادية، ومعنى ذلك هو ان تعطى الحقوق الشرعية للمرجع وهو الذي يقوم بعملية التوزيع من خلال لجنة لذلك، ومقدار من هذا الجانب بدأ يتحقق في مرجعية السيد الخامنئي(حفظه الله).
كما ان في بعض جوانب هذه المرجعية في هذهِ الاطروحة الصالحة كان الشهيد الصدر(قدس سره)يرى ان العلماء لهم الدور القيادي في الامة وهذا الدور يكون حسب موقع والدرجة العلمية لهذا العالم، فالدرجة الاولى للقيادة هي المرجعية المتمثلة بالولي الفقيه بحيث تكون القيادة لكل الامة، ثم العالم الواعي الذي يمثل هذه القيادة في منطقة او دولة معينة يكون قائداً لتلك الدولة وهكذا يتسلسل حتى يصل الى القرية، هذهِ بعض ملامح نظرية الشهيد الصدر في اطروحته للمرجعية الصالحة.
ومن جملة هذه الاطروحة ايجاد برامج ودروس تهم الوكلاء والعلماء والمبلّغين حسب اختصاصهم في الحوزة العلمية وهذا ايضا بدأ بالتحقيق من خلال اطروحة السيد الخامنئي(حفظه الله) في اطروحته للحوزة العلمية وتطويرها ووضع برامج حديثة ومتطورة لكي تتناسب مع تطور الزمن وتطور الاوضاع والمهام التي ينبغي ان تقوم بها القيادة الاسلامية والولاية العامة.
================
من خلال فهمنا للشهيد الصدر(قدس سره) وتعامله مع الجمهورية الاسلامية يمكن القول:
اولا: كان الشهيد الصدر يسعى لتحقيق دولة اسلامية وكانت مواجهته للنظام الحاكم في العراق على هذا الاساس ولهذا كان يمثل اقامة دولة اسلامية في اي بقعة من بقاع العالم احد اهداف وآمال الشهيد الصدر(قدس سره)والمؤمنين المرتبطين به، وعندما انبثقت هذه الدولة اعطى الشهيد الصدر كل وجوده من اجل الوقوف الى جانبها فضلا عن العمل من اجل اقامة حكومة اسلامية في العراق، فقد أيد الجمهورية الاسلامية بكل قوة لانه يرى انها اصبحت مركزاً ومعقلا للثوار وللاسلام، ووقف الى جانب مؤسس الثورة الاسلامية الامام الراحل (قدس سره) بكل قوة واستعد ان يكون وكيلا له وتنازل عن مرجعيته وقيادته لقيادة ومرجعية الامام الخميني (قدس سره) باعتبار ان الامام كان يمثل من جانب قائداً للجمهورية الاسلامية ومن جانب آخر ولياً وقائداً اسلامياً عاماً، فالشهيد الصدر في تأييده لهذه الثورة وتقديمه الاطروحات والمقترحات لدستور الجمهورية الاسلامية، يدل على موقفه المؤيد والمساند بل المضحي من اجل ان يقف الى جانبها لانها كانت تمثل الطموح له وللمؤمنين، الذي كان الشهيد الصدر(قدس سره)يسعى الى تحقيقه في اي بقعة من بقاع العالم وقد تحقق على يد أحد المراجع الكبار وهو الامام الراحل، وهذا هو الامل الذي كان الشهيد الصدر يطمح اليه.
================
نحن نعتقد ان حركة الشهيد الصدر(قدس سره) كانت موفقة وكان تشخيصه للنظام تشخيصاً دقيقاً، واذكر في بداية انتصار الثورة الاسلامية في ايران كان يقول الشهيد الصدر(قدس سره):
«اننا اذا لم نتحرك ونحرك ابناء العراق سوف يقوم النظام بضرب كل القوى الاسلامية بما فيها الحوزة والمرجعية» كما شاهدنا ذلك فيما بعد، كانت رؤيته ثابتة ولذا اصر على الشهادة من اجل ان يحرك الامة بعد ذلك على الاقل، وهذه الرؤية او هذا النظر في موفقية حركة الشهيد الصدر(قدس سره)واضحة من خلال:
اولا: ـ ما نشهده اليوم في داخل العراق من حركة واسعة نحو الاسلام هو نتيجة لموقف الشهيد الصدر(قدس سره)ولاعطائه الرؤية الواضحة لحركته وتضحيته وجهاده، وقد عبرت الامة عن ذلك من خلال الشعارات التي رفعتها في الانتفاضة من تأييدها لحركة الشهيد الصدر وللاسلام وعلمائه، تجده معلماً واضحاً من معالم هذه الحركة ونجاحها، وكان(قدس سره) يرى ان اصراره واصرار تلامذته على الجهاد والتضحية وعلى السير في هذا الخط سوف يدفع الامة للمواجهة من جانب ويجعل النظام يتحسر من جانب آخر وهذا ما نجده فعلا ان الامة مستعدة للمواجهة وعمليات الرفض المستمرة سواء كانت عمليات جهادية او اعلامية او رفض لمشاريع النظام موجودة في اوساط الامة وفي اوساط العلماء رغم القتل والاعدام وما شاكل ذلك من الاساليب الوحشية التي يقوم بها النظام في عمله من اجل قمع التحرك الاسلامي في العراق.
ثانياً: ان الشهيد الصدر كان يرى ان تضحيته ودمائه سوف تعطي زخماً للحوزة العلمية والتحرك الاسلامي وقوة ذاتية في تطورها فضلا عن مواجهتها للنظام وهذا ما وجدناه فعلا بان الحوزة العلمية قاومت اشد الضغوط التي واجهتها من النظام واستطاعت الثبات رغم اعدام واعتقال عدد كبير من العلماء بعد الانتفاضة ولم يبق في الحوزة احد الا وهو مطارداً ومعتقل أو شهيد، لكن مع ذلك نراها صمدت وثبتت واستقامت في مسيرتها وترعرعت فضلا عن حركتها في وسط الامة .. نشاهد الامة ملتفة حول العلماء رغم ضعف التبليغ وضعف الخطباء لكن هناك ارتباط كبير بهذا الخط الذي حدده الشهيد الصدر(قدس سره)، وخلاصة ما نقوله هو ان الشهيد الصدر(قدس سره) كان يريد في موقفه واصراره وحركته هذه تحقيق اهداف الاسلام وربط الامة بالاسلام، وقد ارتبطت الامة بدرجة عالية بالاسلام متحديةً النظام كما ان الامة قدمت تضحيات من اجل تحقيق ذلك الهدف وان كانت لم تصل اليه بعد، وان شاء الله سوف تستمر في حركتها وتصل الى اهدافها في تحقيق حكم الاسلام في العراق.
================
كان السيّد الشهيد (قدّه) يقول: علينا أن نحمل هم الإسلام وندافع عنه.
================
قال السيّد الشهيد رضوان الله تعالى عليه عندما زاره جمع من الطلاب الجامعيين الذي يدرسون خارج العراق: أنتم بإيمانكم وسلوككم الإسلامي تحصلون على أجر جزيل وثواب عظيم.
الأستاذ صادق جعفر
حجم الجريمة يقاس بحجم عطاء الشخصية، فالشهيد الصدر، مرجع، مفكر، قائد ومصلح قدم نفسه قرباناً للاسلام، محققاً بذلك حرية وحق الاختيار، فما بال الشعوب الاوربية اقامت الدنيا ولم تقعدها حينما رفض (جون پول سارتر) استلام جائزة نوبل معللا ذلك برغبته الملحة في ممارسة حق الاختيار، فكيف بال هذه لو عرفت حقيقة حق الاختيار الذي مارسه الشهيد الصدر!! و بالتأكيد فإن حجم الجريمة يتضح من حجم الخسارة التي مُني بها المسلمون.
الشيخ أبو جهاد الشيبي
اعتاد أبناء الامامين الجوادين(عليهما السلام) على السفر بموكب حسيني الى النجف الاشرف ليلة شهادة الامام أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السلام) حيث كان هذا الموكب يضم مجموعة من السيارات الكبيرة والصغيرة يتحرك من الكاظمية متوجهاً الى مسجد الكوفة لاداء مراسم الزيارة وتناول السحور ثم الخروج في موكب عزاء حسيني من بداية «السوق الكبير» في النجف الاشرف والى الصحن الشريف حيث تقام مراسم العزاء، ثم يزور المعزّون حرم أميرالمؤمنين ويجددون معه الولاء والعهد وحالفنا التوفيق في احد السنوات الأخيرة من هذا البرنامج ان نزور في صباحه مع هيئة الموكب وعلمائه المرجع الشهيد الصدر الأول في المسجد الذي يصلي فيه لتقديم التعازي لسماحته والتعرف عليه(رضي الله عنه)، أقسم لقد وجدته:
ـ واقفاً في محرابه لاستقبال زائريه منذ دخلوا عليه وحتى آخر الداخلين عليه.
ـ كان يتفقد زائريه عند السلام عليه ويسألهم عن أحوالهم وأهلهم.
ـ لم يجلس في مكانه حتى جلس آخر من صافحه من زائريه.
ولقد أشعرنا بحديثه الشيق وحواره الهادف بأننا نلتقي بحبيب يعرفنا ونعرفه منذ أمد بعيد.
================
لقد شهد العراق ومدينة الكاظمية يوماً فريداً في تأريخهما ألا وهو يوم وداع جثمان المرجع المظلوم السيد محسن الحكيم(قدس سره)، وسار موكب التشييع من الصحن الشريف عبر جسر الأئمة فالاعظمية فباب المعظم والى جسر الحِرْ و … الى كربلاء ثم النجف الاشرف.
رأيته في هذا التشييع يشارك الجماهير الشيعية المفجوعة بامامها وقائدها وهي تحمل لافتة تقول «لقد عشت إماماً قائداً .. ومت زعيماً خالداً» مشية عباد الرحمن يعلوه التواضع المشوب بالألم وتتوجه الهيبة الالهية المشرقة على من يسير معه من العلماء والتجار والطلاب والكسبة و … ولم يغادر موكب التشييع المهيب بل استمر بالسير على قدميه(قدس سره) حتى عجز عن السير علماً بأنه كان قد انتقل من النجف الأشرف الى الكاظمية ليشارك في هذا التشييع بالرغم من أنه كان يستطيع البقاء في النجف الأشرف والمشاركة في التشييع هناك، وحسب فهمي القاصر اعتقد أنه(قدس سره) كان يهدف من هذا السفر اموراً ثلاثة:
ـ مشاركة الجماهير شخصياً واشعارها بأن العلماء معها في السراء والضراء.
ـ تقديره الكبير لمرجعية الامام الحكيم والذي تجلى في امور عديدة لسنا بصدد ذكرها ومنها المشاركة في هذا التشييع.
ـ تحديه للنظام العفلقي الذي كان قد جاهر بعدائه للمرجعية الدينية المجاهدة بالمشاركة الفعالة في التشييع من نقطة انطلاقه واستعداده لتحمل تبعات ذلك.
================
فجعت الحوزة العلمية وجماعة علماء بغداد والكاظمية بوفاة عميدها آية الله المجاهد السيد اسماعيل الصدر(قدس سره) الأخ الأكبر للمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قدس سره)فاُقيمت الفواتح والاحتفالات التأبينية تكريماً للفقيد الغالي وكنت عريفاً لحفل أقامته هيئة خدمة أهل البيت(عليهم السلام) في مدينة الكاظمية في جامع الحيدرية قرب منطقة (باب الدروازه) لمدة ثلاثة أيام، وقد حضر السيد الشهيد(قدس سره) برنامج اليوم الثالث لانه خصص للشعراء والرواديد من اعضاء الهيئة المذكورة منذ بدايته وحتى ختامه وقد نظمت قصيدة بهذه المناسبة كان من أبياتها:
«أسفاً وهل يجدي الأسف***للأكرمين من السلف
أسفاً وهل يجدي لنا***أسفٌ بفقد من اتصف
بنزاهة الاخلاق حتى***صار جوهرة التحف»
وكانت القصيدة على ما اتذكر من مقاطع ثلاثة طلب المرجع الشهيد الصدر(قدس سره) اعادة كل مقطع من مقاطعها ولم يكن هذا مع قصيدتي فقط بل كذلك مع الشعراء الآخرين بالرغم من أننا كنا نعتذر من الاعادة لعدم أخذ وقت كثير من سماحته (اعلى الله مقامه) ولكنه كان يستعيد ويصر على الاعادة، ويقف على قدميه أحياناً لطلب الاعادة فلماذا؟
ـ ليبرهن اهتمام العلماء بالشعراء والادباء لانهم يعبرون عن مشاعر الامة وأمانيها واهدافها.
ـ ليشجع الشعراء في الاستمرار في طريق التمسك بالاسلام وتعظيم علمائه وخطبائه ومبلغيه والمجاهدين في سبيله.
في حين كان بامكانه(رضي الله عنه) أن لا يحضر هذا الحفل بالمرة لكثرة المجالس التي اقيمت بهذه المناسبة، او أن يبعث مندوباً عنه لحضوره.
فأية أخلاق عالية جسدتها هذه الشخصية الفذة التي خسرها المجتمع الانساني والامة الاسلامية والشعب العراقي بتخطيط استكباري لئيم نفذه صدام المجرم ليحرم الانسانية والمجتمع البشري من معين كان أحوج ما يكون اليه في عالم تتصارع فيه الحضارات وتتساقط فيه النظريات المادية والوضعية ليشرق الاسلام من جديد فيخرج الناس من الظلمات الى النور.
وهل الاُمم الخالدة إلاّ الأخلاق كما يقول الشاعر:
وانما الامم الاخلاق ما بقيت***فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
السيد صدر الدين القبانچي
كان يقيّم نظام البعث في العراق قياساً الى حكومة الشاه في ايران فيقول: ان نظام الشاه كان واضحاً في ارتباطه بأمريكا وهذا الامر هو الذي أسقطه في قلوب الناس، واما نظام البعث فهو يجمع مكر معاوية وبطش يزيد، فهم (البعثيون) يظهرون بصورة الحزب الوطني المدافع عن مصالح الشعب والمعادي للامريكان وهذا هو نموذج مكرهم وخداعهم للناس، ويتعاملون مع الشعب بكل بطش وقسوة ودمويّة كما مارسه يزيد الطاغية الذي لم يكن يملك مكر معاوية.
الدكتور التيجاني السماوي
قال الدكتور التيجاني في معرض حديثه عن مسألة جواز الجمع بين الصلاتين : وأنا أتذكّر بأنّ أوّل صلاة جمعت فيها بين الظهر والعصر كانت بإمامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ عليه رضوان الله ـ إذ كنتُ أنا في النجف أفرّق بين الظهر والعصر ، حتّى كان ذلك اليوم السعيد الذي خرجتُ فيه مع السيد محمد باقرالصدر من بيته إلى المسجد الذي يؤمّ فيه مُقلّديه الذين احترموني وتركوا لي مكاناً خلفه بالضّبط ، ولّما انتهت صلاة الظهر وأقيمت صلاة العصر ، حدّثتني نفسي بالانسحاب ، ولكن بقيتُ لسببين أوّلهما هيبةُ السيد الصّدر وخشوعه في الصلاة حتى تمنّيتُ أن تطول ، وثانيهما وجودي في ذلك المكان ، وأنا اقرب المصلّين إليه ، وأحسستُ بقوّة قاهرة تشدّني إليه .
ولّما فرغنا من أداء فريضة العصر وانهال عليه النّاس يسألونه بقيتُ خلفَه أسمع الاَسئلة والاَجابة عليها إلا ما كان خفيّاً ، ثم أخذني معه إلى بيته للغذاء وهناك وجدتُ نفسي ضيف الشرّف ، واغتنمتُ فرصة ذلك المجلس وسألته عن الجمع بين الصلاتين ؟
سيدي ! أيمكن للمسلم أن يجمع بين الفريضتين في حالة الضرورة ؟ قال : يمكن له أن يجمع بين الفريضتين في جميع الحالات وبدون ضرورة. قلتُ : وما هي حجّتكم؟
قال : لاَن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع بين الفريضتين في المدينة في غير سفر ولا خوف ولا مطر ولا ضرورة ، وإنها فقط لدفع الحرج عنّا ، وهذا بحمد الله ثابت عندنا من طريق الاَئمة الاَطهار وثابت أيضاً عندكم.
استغربتُ كيف يكون ثابتاً عندنا ولم أسمع به قبل ذلك اليوم ، ولا رأيتُ أحداً من أهل السنّة والجماعة يعمل به ، بل بالعكس يقولون ببطلان الصلاة إذا وقعت حتى دقيقة قبل الاَذان ، فكيف بمن يصلّيها قبل ساعات مع الظهر ، أو يصلّي صلاة العشاء مع المغرب ، فهذا يبدو عندنا مُنكراً وباطلاً !!
وفهِمَ السيد محمد باقرالصّدر حيرتي واستغرابي ، وهمس إلى بعض الحاضرين فقام مسرعاً وجاءه بكتابين عرفتُ بأنّهما صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وكلّف السيد الصدر ذلك الطالب بأن يطلعني على الاَحاديث التي تتعلّق بالجمع بين الفريضتين ، وقرأتُ بنفسي في صحيح البخاري كيف جمع النبي صلى الله عليه وآله فريضة الظهر والعصر وكذلك فريضة المغرب والعشاء كما قرأت في صحيح مسلم باباً كاملاً في الجمع بين الصلاتين في الحضر في غير خوفٍ ؟ ولا مطر ولا سفر.
ولم أخفِ تعجّبي ودهشتي ، وإن كان الشكّ داخلني بأنّ البخاري ومسلم اللذين عندهم قد يكونان محرفين ، وأخفيتُ في نفسي أن أراجع هذين الكتابين في تونس .
وسألني السيد محمد باقر الصدر عن رايي بعد هذا الدّليل ؟
قلت : أنتم على الحق ، وأنتُم صادقون في ما تقولون ، وبودّي أن أسألكم سؤالاً آخر.
قال : تفضّل.
قلت : هل يجوز الجمع بين الصلوات الاَربع كما يفعل كثيرٌ من الناس عندنا لما يرجعوا في الليل يصلّون الظهر والعصر والمغرب والعشاء قضاءً ؟
قال : هذا لا يجوز.
قلتُ : إنّك قلتَ لي فيما سبق : بأن رسول الله صلى الله عليه وآله فرّق وجَمع ، وبذلك فهمنا مواقيت الصلاة التي ارتضاهاالله سبحانه .
قال : إنّ لفريضتي الظهر والعصر وقتاً مشتركاً ، ويبتدىء من زوال الشمس إلى الغروب ، ولفريضتي المغرب والعشاء أيضاً وقتٌ مشترك ، ويبتدىء من غروب الشمس إلى منتصف الليل ، ولفريضة الصبح وقتٌ واحدٌ يبتدىء من طلوع الفجر إلى شروق الشمس ، فمن خالف هذه المواقيت يكون خالف الآية الكريمة ( إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتٌ عَلىَ المؤُمِنِينَ كِتَاباً مَّوقُوتا) فلا يمكن لنا مثلاً أن نصلّي الصبح قبل الفجر ، ولا بعد شروق الشمس ، أذأً كما لا يمكن لنا أن نصلّي فريضتي الظهر والعصر قبل الزوال أو بعد الغروب ، كما لا يجوز لنا أن نصلّي فريضتي المغرب والعشاء قبل الغروب ، ولا بعد منتصف الليل .
وشكرتُ السيد محمد باقر الصدر ، وإن كنتُ اقتنعتُ بكلّ أقواله ، غير أنّي لم أجمع بين الفريضتين بعد مغادرته ، إلاّ عندما رجعتُ إلى تونس وانهمكت في البحث واستبصرتُ.
هذه قصّتي مع الشهيد الصدر رحمه الله في خصوص الجمع بين الفريضتين أرويها ليتبيّن إخواني من أهل السنّة والجماعة أولاً ، كيف تكون أخلاق العلماء الذين تواضعوا حتّى كانوا بحق ورثة الاَنبياء في العلم والاَخلاق.
د.زكي نجيب محمود
لقد زارني في القاهرة طالب عربي يُعدّ نفسه للدراسة العليا، زارني لعله واجد عندي ما يعينه على حسن اختيار الموضوع الذي يدير عليه البحث لنيل اجازة الماجستير، فقلت له في معرض الحديث: ان فلاناً في بلدكم قد قام بجهود فكرية جبارة، كان من حسن حظي أن ألمت ببعضها، وتمنيت لها أن تجد الباحث الناقد المدقق، الذي يعرضها عرضاً نزيهاً يقوّمها بالقسطاس العلمي المستقيم، فلماذا لا تجعل نتاج هذا الرجل موضوع بحثك، فتخدم الفكر العربي، لان الرجل يكاد يكون مجهولا لنا برغم غزارة الفكر الذي قدمه، فما كان أشد ذهولي حين أجابني الطالب بقوله انّه لا يستطيع ذلك، والا عرّض نفسه للاذى في وطنه اذا عاد! وليس من شأني الآن أن أسأل لماذا؟ ولا أن أتعرض لاحتمال ألا يكون الطالب قد صدق القول فيما قال، لا، ليس هذا من شأني، لانه يكفي ان يكون المناخ الفكري الذي نعيش فى أجوائه هو مما يتيح للقائل أن يقول كلاماً كهذا، ان هذا الموقف الواحد مشحون بالدلالات على أن المثقف الاصيل في بلادنا مُحبط الى الدرجة التي يمكن أن تقوض لنا كل أمل في النجاة
الشيخ حسن الحساني
“دخل طالب من طلاب العلوم الدينية على سماحة الأستاذ وسلم عليه فقابله السيد الصدر بالترحاب والتقدير و لما استقر به المجلس خاطب الطالب الوافد، السيد الأستاذ قائلاً لقد اختلفت مع أحد طلاب العلوم الدينية حيث قال إنك مجتهد وأنكرت عليه ذلك وقلت إنه طالب فقلت في نفسي أن أسألك مباشرة فجئتك لكي أسألك عن ذلك فما تقول؟ فأجاب سماحته بكل بشاشة وطلاقة يا أبي قل لهم إني ما زلت طالباً.
================
اختلفت مع صديق لي حول الإمام الخميني وخطه السياسي فذهبت إلى الشهيد اصدر وقلت له سيدي ما تقول في الإمام الخميني؟
فأجابني إن خطه أقرب الخطوط في العالم إلينا وأن شخصه أقرب أفراد الدنيا إلينا فاكتسبت الولاء والحب من خلال الشهيد الصدر للإمام الخميني.
================
“كنت يوماً جالساً في محضر الشهيد الصدر وإذا بقائم مقام النجف مسلم الجبوري قد دخل عليه وبعد أن استقر به المجلس خاطب أستاذنا الجليل وقال له لماذا لا تزورنا؟. فقال الإمام الصدر أخاف عليكم فقال القائم مقام ممن؟ فقال من رسول الله صلى الله عليه وآله قال كيف؟ أجاب رضوان الله تعالى عليه إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فنعم العلماء ونعم الملوك. فسكت القائم مقام وطأطأ رأسه بكل ذل.
================
“إن السائق الحاج حسون الذي قاد سيارته في السبعينات حاملاً معه سيدنا الأستاذ إلى الحج كان يتردد يومياً على سماحته فقال له ذات يوم إن طلاب العلوم الدينية يترددون على سماحته لما يستفيدون منه العلم والفكر، فلماذا تتردد أنت على سماحة أستاذنا؟ فأجاب إن سماحة السيد الصدر في طريق الحج قد ملكني بأخلاقه فآليت على نفسي أن أزوره يومياً ولا أطيق أن أفارقه.
السيد محمد الغروي
اعتقل السيد حسين الصدر عام 1979 وتحمل الآلام والعذاب وبعد أن أطلق سراحه قال له سيدنا الأستاذ يا أبا علي كل جرح أصابك أصاب قلبي
================
وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بأسبوع فقط أرسل الشهيد الصدر السيد محمد باقر المهري إلى إيران لتقديم التهاني إلى قائد الثورة الإمام الخميني ودراسة الوضع السياسي والاجتماعي في إيران وبعد عودته إلى العراق وتقديم التقرير الكامل لما يجري في إيران الإسلام أراد السيد المهري البقاء في الحوزة ومتابعة الدروس رغم الظروف القاسية ولكن السيد الأستاذ أمره بالعودة إلى إيران قائلاً له إن العمل ما صنعه الإمام الخميني ويجب على الجميع أن يكونوا في خدمة الإمام الخميني ولا حاجة إلى دعوة أحد إلى تقليدي (السيد الشهيد) لأن الهدف من الدراسة والمرجعية هو إقامة حكم الله وقد حققه الإمام الخميني. وأضاف قدس سره بأن الهدف من المرجعية ليس هو قبض الحق الشرعي وتوزيعه أو تدريس الفقه وأصوله بل المسؤولية الكبيرة التي يجب أن نفكر فيها هي إقامة حكم الله ولكن البعثيين لا يسمحون لنا بتنفيذها.
================
وقال سيدنا الأستاذ للسيد محمد باقر المهري بعدما اعتقل عام 1977 وأطلق سراحه: إن مدير الأمن العام في بغداد فاضل البراك قال للإمام الشهيد أعرفك وأعرف آباءك وبيتك العلمي والجهادي وأفتخر بك والعراق يفتخر بك ولكن إذا قمت بعمل يمس البعث العراقي سأقتلك وأبكي عليك ونحن قضينا على المعارضة فقد قتلنا حردان التكريتي في الكويت وعبد الرزاق النايف في لندن ولم يبق من المعارضة إلا أنت وقد فتحت باب بيتك للمعارضة.
الشيخ محمد يزبك
قال السيّد الشهيد (قدّه) :”عليكم أن لا تربطوا الناس بالنجف الأشرف من خلال بيوتهم المالية والحقوق الشرعية وإنما عليكم أن تربطوا الناس بالنجف الأشرف بما تمثله المرجعية من قيادة”.
السيد محمد حسين الحائري
إن السيد الأستاذ وفي مناسبة دينية عقد مجلساً في بيته وتبرع الشاعر والخطيب الشيخ باقر الإيرواني بإنشاد بعض الأبيات فقام وبدأ قصيدته بقوله:
جلت ظلمة الدنيا بنورك مثلما *** أضاء الدجى بطلعته البدر
رأيتك لم يعقد على الأرض مجلس *** لأهل النهى إلا وكانت للصدر.
فقاطعة سيدنا الأستاذ منادياً يا شيخ بطل. (لا تمدح وإقطع الإطراء).
================
كلما التقيت بأستاذنا العظيم سبقني بالسلام ولو من بعيد
================
في يوم من الأيام دخل بعض الطلاب على الدرس والأستاذ كان يشرح الدرس فاستشاط غضباً وقال من يتأخر في الحضور، لا يبالي بالدرس وعدم الإهتمام بالدرس من إتلاف الوقت الذي لا يجوز.
أحد العلماء
يروي أحد العلماء أن السيد (إسماعيل الصدر) كان يحبذ للشهيد الدراسة الحكومية علّه بعد تخرجه يتحمل أعباء الأسرة المحرومة من الناحية المعاشية، إلا أن الطفل النابغة رفض ذلك وقد اجاب أخاه حينذلك (إن الله تعالى لم ينس أن يوفر لأحقر مخلوقاته غذاءه، فكيف بالإنسان وهو أعز ما خلق…) وقد اصطدم السيد (إسماعيل) بهذا المنطق القوي فاضطر على أثره بالنزول عند إرادة أخيه وامضى رغبته.
================
«كنا في مجلس الاستفتاء ، نتحدث عن الإجابات الشرعيّة للأسئلة التي تردنا من مقلّدي السيّد الخوئي ، و بعد التأكد من رأي السيّد ، نقوم بكتابة الجواب تحت السؤال.
و كان ممن يشارك في الجلسة ، سماحى الشهيد السيّد الصدر رحمه الله قبل أن يطبع رسالته الفقهيّة و يعلن مرجعيته. كان مجتهداً وقّاد الذهن ، شديد الذكاء ، يخرج أسئلة المسائل الفقهيّة من كتاب وسائل الشيعة اعتماداً على ذاكرته ، من دون أن يراجع فهرس هذه الموسوعة.
ذات مرة دار بينه و بين أستاذه السيد الخوئي نقاش طويل دام حوالي أربع ساعات حول مسألة (تقصير الحاج شعره في الحج) ، فرأي السيد الخوئي هو الوجوب التخييري بين الحلق و التقصير ، بينما يرى السيد الصدر الوجوب التعييني في الحلق. و كانت النتيجة أن لم يقتنع الطرفان برأي الآخر، و لكن السيّد الخوئي قال للسيد الصدر: (إنّك قوي).»
================
سأل أحد تلاميذ السيّد الشهيد أستاذه، فقال: سيدنا هل تملكون منـزلاً؟
قال: نعم.
أين موقعه؟
قال: في الجنة إن شاء الله.
الشيخ علي أصغر المسلمي
سألت السيّد الشهيد عن الفترة التي استغرقها تأليف كتاب (الحلقات) فأجاب: حدود سبعة أشهر.
ثمّ سألته عن الفترة التي استغرقها تأليف كتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء) فأجاب: حدود سبع سنوات.
فسألته عن سرّ هذه المفارقة ، فأجاب: في (الأسس المنطقيّة للاستقراء) كان معي السيّد كاظم الحائري الذي كان يلاحقني بالإشكال تلو الإشكال، فيضطرّني للتفكير والإجابة عن إشكالاته، فطالت فترة تأليف الكتاب.
الدكتور عباس البستاني
إنّ السيد الصدر كان يتمنى أن يترجم (الأسس المنطقية للاستقراء) إلى الفرنسية.
السيدة أم تقى
دخلت عليه أزوره مع احدى اخواتي المؤمنات بعد خروجه من المعتقل قبل اعتقاله اليتيم، فاستقبلنا بمحضر والدته واخته قائماً لنا على هيئته التي يصفونه بها عند استقباله للرجال، وبعد ان حدثنا حديث قلبه وروحه وآن لنا أن ننصرف عنه قام لنا، وبقي قائماً حتى انصرفنا عنه بعقلين مأخوذين كأنما ضلا سجية التعقل، وقلبين دهشين كأنما كانا في مشهد مهيب، وتنطلق صاحبتي بعد هذا الموقف تقرأ سطور صفحته الشريفة على مسامع الملأ ممن تعرفهم يقدرون المرأة ويكبرونها في انفسهم وتقول لهم( انه الصدر العظيم يحترم المرأة الى الحد الذي يقيمه لها اذا أقبلت عليه واذا انصرفت عنه فأنى تؤفكون).