خاص بشبكة (والفجر) الثقافيّة
نشرت في حزيران/2005م
طفولته المميزة والعناية الربانية:
قضى الشهيد الصدر رضوان الله عليه زمن صغره بنمط يثير العجب والحيرة، فقد كانت الامدادات الالهية ترعى طفولته الفتية وتحفظه من كل سوء منذ ايامه الاولى وحتى شب فتيا فظهرت كمالاته ومزاياه
كما تروي والدته الفاضلة: ان الشهيد قد مرض في صغره مرضا شديدا وحيث ان اخوته كانوا يموتون صغاراً قبيل السنة او اكبر فقد ذعر والداه كثيرا وخالجهما خوف مبرح من فقده كباقي اخوته الا انها (والدته الفاضلة) كانت قد اتكأت على الجدار بعد ان فرغت من صلاتها في احدى الليالي فرأت بين اليقظة والمنام ان الامام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) قد ادخل رأسه المبارك من النافذة وشرع يقرأ موجهاً قرائته نحو الشهيد وحين انتبهت كان الشهيد معافا سالما.
وتنقل ايضا والدته قصة اخرى تبين مدى الرعاية الالهية التي اختص بها الشهيد في صغره وهي انه وحين توفي والده وقد كان له من العمر خمس سنوات طلب منها يوما (وقد كان الوقت ما قبل صلاة المغرب بساعة تقريبا) ان تعطيه اقراص الخبز باللحم فحاولت انه تثنيه عن طلبه هذا واوضحت له انه الوقت ليس بالمناسب لذلك الا انه كان ملحا في هذه المرة على غير عادته. بعد ذلك اصطحبته والدته إلى بيت جده الشيخ عبد الحسين آل ياسين (قدس الله سره) وبعد المغرب عندما عادوا الى المنزل كان قد شاعت في الارجاء رائحة طيبة وحين نزلت الأم إلى السرداب لإحضار الخبز كالمعتاد وجدت هناك أقراصا من الخبز باللحم الحار مغط ولم يعلم من أهل البيت من احضر هذا الخبز؟!
كانت طفولته ايضا تتميز بسلوكه الفطن واسلوبه الجاد وتصرفاته التي ما كانت تصدر من الاطفال بل كانت تشير الى مدى وعي الشهيد وادراكه ونقلا عن والدته مرة اخرى: انه في احدى المرات التي عاد مع والدته الى المنزل وقد كانه له من العمر آنذاك خمس سنوات عاد للخروج الى الشارع في هيئة الباحث عن امر مفقود وحين سألته والدته عن الامر اجابها بأنه يبحث عن قلمه الضائع فاشارت عليه بالدخول لان الجو حينها كان باردا ومن المحتمل ان يمرض وانها شتشتري له قلما اخر الا انه ادام بحثه حتى وجده وحين رأته والدته تعجبت لكون القلم صغيرا جدا وكان هذا من تصرفاته الفطنة التي تدل على فهمه وادراكه لقيمة الاشياء.
وعلى مشارف الصبا تألقت مواهبه الفريدة حيث انه شرع في دراسة المناهج الحوزوية وهو لم ينهي مرحلة الابتدائية بعد وكان حينها بعقله الراجح محبا للكتب والقراءة جدا وكانت من اكبر مطلباته فيقوم باستعارتها حينا ويبادها بكتاب حين اخر واذا تمكن من الشراء اشتراها وكان قد استحسن مكانا يخزن فيه الأشياء وغالبا يكون عاليا وقريب من السقف يسمى (كنجنه) ليحصل فيه على العزلة ويكون بإمكانه القراءة والكتابه فيه رغم عدوم وجود الانارة الكافية والمريحة فيه، وكانت بداية درسه الحوزوي في الكاظمية وهو في حوالي العاشرة من عمره وفي السنة الحادية عشر بدا بدراسة المنطق على يد أخيه العلامة السيد إسماعيل الصدر (قدس سره الشريف) وبعض دروس المقدمات والسطوح وقد نال درجة الاجتهاد وهو في أواخر العقد الثاني من عمره وهو في ذلك الوقت كتب فتواه على شكل تعليقة على بلغة الراغبين.
وحيث بان تميزه ونبوغه في صباه طلب منه ان يلقي خطابا في في حسينية آل ياسين في الكاظمية وقد كان صغير السن حينها الى درجة استدعى معها ان يضعوا له شيئا يرتقيه حتى يراه الجميع. وينقل ان الكلمة التي القاها في ولادة الإمام الحسين “عليه السلام” كانت رائعة وقد كتبها هو بنفسه وكان لها وقع في نفوس الحاضرين حتى ان خاله الشيخ راضي ال ياسين والذي كان ممن حضر الحفل تلك الامسية لم يمالك نفسه فنهض وقال مخاطبا السيد الصبي باقر الصدر أحسنت “يارافعي” العراق.
واستمر الشهيد في تقدمه المذهل في هذا الطريق المقدس ولم يرضى له حولا. ففي اثناء نزهة له مع اقاربه في ضواحي بغداد عرض عليه السيد محمد الصدر ابن السيد حسن وكان في ذلك الوقت رئيس الوزراء: الاتجاه للدراسات الأكاديمية وإلى مزايا الوظيفة الرسمية في الدولة فرفض السيد هذا العرض وقال: إن خطي هو خط آبائي وأجدادي.
ويكمل السيد قائلا: كان الفضل لوالدتي رحمها الله لأنها كانت وباستمرار تشجعني على المضي في هذا الاتجاه الحوزوي رغم كل المصاعب..
مرتبته الشامخة ومقامه:
كان خال الشهيد حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مرتضى آل ياسين “قدس الله سره الشريف” يحبه جدا ويعتز به وقد قال يوما لشقيقته والدة السيد الشهيد “رحمة الله عليهم جميعا”: لا تخافي عليه أني أتوقع له خيرا كثيرا،فقلد رايته في المنام وهو في الوسط والقران على جنبه والكعبة على جانبه الآخر”.
وايضا ينقل ان السيد اسماعيل الصدر جد السيد الشهيد عندما زار ايران راى في المنام الامام الرضاوالسيده المعصومه (ع ه) يستقبلاه ويقولان له سوف يكون من صلبك عالم له شان ومنزله كبيره.
وقد اشتهر بين العائلة ان امه رأت في المنام انها سترزق ولد في يوم 25من شهر ذي القعدة وسوف يكون له شانا كبيرا.
كما ينقل السيد محمود الخطيب انه سمع احدى بنات الشيخ مرتضى تسأله لمن نرجع بعدك؟ وذلك في الايام التي مرض فيها الشيخ مرتضى آل ياسين وكانت ايامه الاخيرة فاجابها:بأن عليكم بحجة الله السيد محمد باقر الصدر فهو حجة الله عليكم.
عبادته وأوراده:
حصل الشهيد قدس سره على مراتب عالية من القرب الالهي ودرجات الولاية فقد كان يطيل صلاته وكان من الواضح عليه الخشوع والتأثر في اثناء صلاته التي يتبعها بالتعقيب كما كان يأتي في اغلب الاحيان باكثر المستحبات وذلك كما سنحت له الفرصة او توفر لديه الوقت.
زيارة جده الحسين واثرها في نفسه:
ونقلا عن السيد محمود الخطيب واهل السيد كان السيد الشهيد “قدس سره” مواظبا على زيارة سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام في ليالي الجمع والزيارات المخصوصة مثلا الشعبانية والرجبية ويوم العاشر من محرم الحرام ويوم عرفه ووقد استمر على هذه الزيارات حوالي عشر سنوات بلا انقطاع الا اذا كان هناك مانع مرضي وكان يبدأ بزيارة ابي الفضل العباس عليه السلام ثم يوتجه لزيارةالامام الحسين عليه السلام ويأتي بزيارة عاشوراء ثم زيارة وارث ويقف عند رأس الحسين عليه السلام وعند الشروع بالزيارة ينهار بالبكاء والدمع يتساقط على لحيته الشريفة بحيث يلفت انتباه الزوار، وفي احدى زياراته كان معه السيد محمود الخطيب وصحبهم الشيخ محمد جواد مغنية وعند دخولهم الى حرم الامام الحسين عليه السلام جلس الشيخ امام الساعة وهو ينظر الى السيد الشهيد وهو في حالة بكاء يسمعه الجميع وقد وقف الزوار من خلفه يبكون معه , فقلت للشيخ مغنيه: شيخنا ما يصنع السيد؟
قال الشيخ:انه يعرف من يخاطب ويعرف معنى الزيارة ومضامينها وقد كان مواظبا على زيارة عاشوراء كل يوم.
حياته الاسرية:
بما ان السيد كان يعيش حياة الزهد والتواضع لم يكن بحوزته المال الكافي للزواج ولهذا لم يتزوج الشهيد الا حين حصوله على المبلغ الذي يفي باموره وذلك وذلك لبيعه كتابيه “فلسفتنا” و” اقتصادنا”.
و في الفترة التي تلت زواج الشهيد اي في ايام شهر العسل كان يكتب المواضيع الرئيسية لكتاب “الاسس المنطقية للاستقراء” فسألته السيدة الوالدة زوجته: ايضا وفي هذه الايام تكتب؟
اجابها والابتسامة على شفتيه: اني لا استطيع ترك الكتابة في كل الاوقات السعيدة منها والحزينة.
وتنقل السيدة الوالدة ايضا انها بعد زواجها منه وجدت انه لا يمتلك الا قاطا واحدا فقط “أي صاية وثوب” فسالته:اين ملابسك الاخرى؟
فضحكت امه وقالت له: الم اقل لك ان زوجتك سوف تتعجب من قلة ما تملكه من ملابس..
فقد كان يعيش في زهد تام ويقول ” لابد ان تكون حياة وعيشة المرجع مثل احد طلاب الحوزة ” فلم يضيف او يشتري شيء جديد بعد ظهور مرجعيته وتقليد اكثر الناس له وبقي وضع البيت كما هو.
وذكرت السيدة الوالدة انه نادرا ما كان يخيط ملابس له او يشتري ويكتفي باقل شيء ويقول:” عجبا كم جسد لي حتى اخيط واشتري ملابس متعددة”.
وبعدما حصلت الوالدة على مبلغ من المال وذلك من الهدايا التي قدمت لها بمناسبة زواجها اشترت ثلاجة ومبردة هواء وصندوقا للأواني لان في بيت السيد لم تكن هذه الاجهزة موجودة حين الزواج.
وكان يعطي بناته في اوقات المدرسة مصروفا يوميا هو 50فلس حتى يشترين ما يريدنه وفي موسم الموز اخذت المدرسة تبيعه بسعر 60 فلس للموزة الواحدة فذهبنا انا واخواتي اليه وطلبنا منه ان يزيد لنا المصروف10 فلوس ليتسنا لنا شراء موزة واحدة
فاجابنا السيد: لا امانع في اعطائكن ولكن اسالكن هل كل البنات في المدرسة يشترين الموز؟
اجبناه: لا ليس كل البنات يستطعن ذلك واما من يشتري الموز فهم الاقل
عند اذن قال السيد:اذن كن مثل اكثر البنات العاديين لا مثل اقلية البنات.
وعن السيدة الوالدة ايضا ان احد محبيه من بيت “عطيه” اهدى له سيارة لكن السيد لم يركبها ولا لمرة واحدة وامر ببيعها وتوزيع مالها بين الطلبة ولم ياخذ لنفسه او لعائلته إلا جزء بسيط فقط من مالها.
وعن زهده واعراضه عن الدنيا ومغرياتها:
تنقل السيدة الوالدة ايضا انه عرض بيت قريب لبيت السيد فسمع بذلك احد محبيه “أي محبي السيد الشهيد” فقدم الى السيد وقال له انه يريد ان يشتري هذا البيت ليكون ملكا للشهيد بدلا من بيته الذي يسكنه قديم ويتطلبه اجارا فلم يقبل السيد وقال انه ليس بحاجة الى بيت ملك ولكن الطلبه بحاجه لذلك فاصطحبه السيد الى شارع زين العابدين واشتروا هنالك قطعة ارض خصصها السيد للطلبه واراد ان يتم بنائها بشكل شقق لطلاب الحوزة ولكن الوقت لم يساعده واستشهد رضوان الله عليه قبل ان يحقق فكرته.
وكان الشهيد على زهد وورع فحين يهدى اليه ثوبا او شيئا خاصا يتقبله بصدر رحب ويشكر هذه الهدية الا انه يقوم بعدها بإعطائها الى تلامتذته اصحاب الحاجة وليس ذلك لغرور في نفسه او أنفة بل اعراض عن الدنيا وزهد فيها كما كان ذا اكل بسيط متواضع حتى يساوي بنفسه عامة الناس حتى في نوع غذائهم وفي اواخر عمره الشريف اتبع حمية خاصة لانه اصيب بارتفاع في ضغط الدم وقد نحل كثيرا قبيل استشهاده.
– مع امه: وفي بيته كان المثال الصادق للمؤمن المحسن لأهله حيث كان لأمه الولد البار الى اخر يوما من حياته الشريفه وكان يسئلها اذا عزم على امر معين هل ترضى بانجازه او لا ومهما كان رأيها كان يستمع اليه ويطيعه
– مع اخته: وكان لاخته الصديق والاخ الرفيق حيث كان يهبها من وقته الكثير من الساعات ويجالسها للاستماع اليها وتداول دروسها ومساعدتها ولزوجته كان نعم الزوج المحب فقد كان يقدرها ويحترمها ويراعي مشاعرها وكان يقول لها ارجو منك ان تقدري ظروفي وكثرة مشاغلي وان تسامحيني اذا قصرت بامر معين.
وتقول السيدة الوالدة ايضا انها شعرت منذ الايام الاولى لزوجهما بان السيد الشهيد زوج غير عادي لذا كانت تقدسه وتكن له كل مشاعر الاجلال والتقدير.
– اما عن اولاده:
فقد كان شديد التعلق بهم وحريصا عليهم ومتعاطفا معهم فهو الاب الحنون فعندما يمرض احد منهم كان السيد الشهيد عند دخوله المنزل وقبل ان يغير ملابسه يذهب بقربه ويسال عن حاله ويطمئن عن صحته ويضع يده الشريفة على راسه المريض ويقرا سورة الفاتحة بنية الشفاء.
وكان يعاملهم مثل الكبار ويتفاهم معهم ولا يجبرهم على امر ويتكلم معهم كلما سنح له الوقت كما يشركهم جميعا في آراءه بدون اي تعجرف او تسلط على امور البيت بل كان يجتمع اليهم حين يقع حدث ما او يأتي اليهم رجل من رجال الدولة او اذا وقعوا في مشكلة ليخبرهم بما حدث ليكونوا على علم بالوقائع.
و كان يقول لزوجته ان اموري تجعلني ارى اولادي قليلا لذا لا اريد ان تخبريني ما يقترفونه من اخطاء حتى لا يكون لقائي معهم ممزوجا بالتأنيب فلا يتذكرون مني سوى التقريع والعقاب بل اريد ان اكون في ذكرياتهم الاب الذي يلاطفهم ويلاعبهم ويعتزون به ويحبوه لذا فان المسؤولية كلها تقع على عاتقكِ.
وكان اطفاله يفرحون وبشعرون براحة كبيرة كلما رجع السيد الشهيد الى المنزل وكانهم كانوا يشعرون بصعوبة الظروف وان كل يوم يرجع فيه السيد سالماً هو غنيمة ونعمة عظمى.
و قد حصل ان انخفض مستوى احدى بناته في مادة الرياضيات فاخذ السيد مع كل مشاغله ومسئولياته يدرسها ويحاورها في المادة حتى تيقن انها استوعبتها جيدا.
وعندما كان يكتب في غرفة ” الجلوس” التي تجتمع فيها الاسرة كان حديث الاطفال وضجيجهم يصل اليه فإذا ما ارادت الوالدة ان تسكت الاطفال او تطلب منهم ترك الغرفة يقول: لها دعيهم ان صوتهم لا يزعجني ولا يؤثر على كتابتي.
وكان الشهيد كثير الكتابة الى درجة تورمت اصابعه وبالاخص اصابع يده اليسرى “لان السيد كان يسراويا” ولكي يقل العناء والالم كانت الوالدة تقوم بصنع عجينة بطريقة ما وتلفها على اصابعه ولكن هذا لم يكن ليؤثر عليه ولا على استمراره في الكتابة.
علاقته الحميمة مع أخيه وأستاذه:
اما علاقته مع اخيه فلم تكن علاقة عادية ولم تكن تجمعها علاقة الاخوة فقط بل كانت علاقة اخوية وروحية وعاطفية وعلمية فقد كان السيد الشهيد يحب اخاه كثيرا وكان ينظر اليه كما ينظر الاخ الصغير الى اخيه الكبير والولد الى والده والتلميذ الى استاذه.
وكان يقول في اخيه:رافقته اكثر من ثلاثين سنة كما يرافق الابن اباه والتلميذ استاذه والاخ اخاه، وقد اخيته في الامال والالام في العلم والسلوك فلم ازدد الا ايمانا بنفسه الكبيره وقلبه العظيم الذي وسع الناس بحبه ولكنه لم يستطع ان يسع الهموم الكبيرة التي كان يعيشها من اجل دينه وعقيدته ورسالته فسكت هذا القلب الكبير في وقت مبكر , وكذلك كان الشهيد مع اولاد اخيه يحنو عليهم ويهتم بامورهم ويسعى الى مساعدتهم ومشاركته معهم في شؤون حياتهم.
دروسه وأخلاقه:
كان يتمتع بذكاء ونبوغ غير عاديين في كل باب من ابواب العلم حيث كان يترجم كتب اللغة الانجليزية الى اللغة العربية , وهي كتب عميقة غامضة مثل الفلسفة والمنطق , فكان رضوان الله عليه يميز بين الترجمة الصحيحة والخاطئة , ويقول مثلا يجب ان تكون الكلمة هكذا وبهذا الشكل وكثيرا من هذا , وعندما كانوا يرجعون الى الكتاب الاصلي ويترجمونه بشكل ادق يجدون ان كلام السيد صحيح وان تعبيره ادق.
وكانت له طريقة في حل جدول الضرب قريب بشكل او باخر الى الطريقة الصينية ولكن تحل على الاصابع لا في العداد , وكان السيد رضوان الله عليه لا يميز احد على احد اخر او قومية على اخرى ولا ينقد او يعيب احد اطلاقاً.
كان السيد الشهيد منكبا على دروسه وكتاباته مثابرا على مباحثاته , وتنقل زوجته في هذا الصدد ان السيد قد مرض في ليلة كان عليه الذهاب الى بيت السيد الخوئي (قدس سره) للمباحثة فطلبت منه زوجته عدم الذهاب الى المباحثة لان حاله لا يسمح له بذلك وسوف يشتد مرضه حيث ان الجو كان باردا ايضا فقال لها السيد:اعطني القران لاستخير وحين ناولته القران كانت اية الاسنخارة هي ﴿ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴾” [1]
فقال: السيد اذهب الان اولا اذهب؟؟
فاجايته: اذهب في امان الله وحفظه.
وينقل السيد كمال الحيدري في احد دروسه عن احد الطلبة اللذين عاصروا السيد الشهيد وكان معه في درس السيد الخوئي ان السيد الشهيد في الدرس الواحد يستوعب الدرس ويتقدم بمقدار ما نتقدمه نحن في شهر كامل.
قيادته وتربيته للامة:
اجمع كل من عاشر السيد على انه كان فريدا في اسلوب قيادته وتربيته للامة كما كان مميزا في اخلاقه وتواضعه وتعامله مع الاخرين فقد كانت الصفات والخصائص التي يتمتع بها من ميزات الانبياء والائمة (عليهم السلام).
ينقل السيد محمود الخطيب وهو احد طلبة السيد المقربين له: كان السيد يحاور وبكل رحابة صدر وبشر كل من يلتقي منه او يأتيه سواء كان قاصدا السلام او الاستفسار عن مسألة , ومهما كان قدر السائل فانه ما كان ليفرق بين الصغير والكبير او المتعلم او غيره , بل كان يستمع اليهم جميعا ويهبهم الكثير من اهتمامه وتوجهه , كان قائدا حقيقيا للامة حيث يناقش الاحاديث الدينية والاجتماعية مع الجيل الناشئ ويرعاهم باهتمامه وارشاداته.
واتذكر انه وفي يوم من الايام دخل صبي مع والده واسمه ميثم “ابن الشهيد جواد الزبيدي”
وقال والده للشهيد: سيدنا لدى ابني سؤال “
فناداه السيد الشهيد: الي يا ميثم..(وكان عمر ميثم بحسب ما اتذكره يتراوح بين الست والسبع سنوات) واجلسه الى جانبه
فقال له: ما هو سؤالك؟
فقال ميثم بهدوء: سؤالي لماذ الله وافق على قتل الحسين عليه السلام؟”
فقال له السيد: سؤالك جميل جدا ومعناه كبير وسوف اجيبك عنه.
وينقل احد الشيوخ “مهدي الحيدري” حادثة جمعته بالسيد وذلك ان (مهدي) عندما كان صغيرا وقد اجتمع مع رفاقه قرب حرم امير المؤمنين لمراجعة دروسهم لدنو فترة الامتحانات قدم السيد الشهيد الى الحرم العلوي الطاهر لاجل صلاة “الفجر” فسأله عن موضوع معين, الا ان السيد اعتذر بلطف موضحا ان وقت الصلاة في اخره ولا استطيع البقاء معكم والاجابة على سؤالكم، ولكنه في اليوم التالي اتى مبكرا وقال” انا قد اتيت اليوم مبكرا لاجيب عن اسئلتكم “, فقام له الاولاد وفرشوا له معهم بساطا , فجلس عليه وحداثهم.
وينقل احد الفقهاء انه قد ألف كتابا عن كيفية تعليم الصلاة في 15 ورقة , وكان يبلغ من العمر11 عاما , وكان قد وجد ان افضل من يعلق على كتابه هذا هو الشهيد الصدر , فذهب اليه وكان الشهيد في الجامع الذي يعطي فيه درس الخارج , فاستقبله السيد بكل حفاوة , واخذ منه الكتاب بكل رحابة صدر , وبعد عدة ايام ارجع له الكتاب وقد صححه وعلق عليه , وقال اذا لم يطبع له ابوه الكتاب فانه هو سيطبعه له وعلى نفقته.
وبرغم ما بلغه من مقام ومنزلة الا انه كان متواضعا لا يقبل ان يمدحه او يطري عليه احد , لم يكن ليسمح ان تضاف لاسمه القاب او صفات بل يقول لطلبته وحتى اولاده “اذا ارادوا ان يكتبوا اسمه فليكتبوا فقط: السيد محمد باقر الصدر بدون اي اضافات”.
وتنقل الوالدة ان احد محبيه قد نظم الشعر في مدحه , وجاء ليقرأه في مجلس عزاء حضر فيه السيد , الا ان السيد رفض ذلك , وحاول الرجل عدة مرات الا ان السيد رفض ايضا فعدل الرجل عن قراءة تلك الابيات.
كما عثر احد تلامذته على حديث عن الرسول الاكرم (ص) ورد فيه حال رجل يبقر العلم بقرا , وان اصحابه سوف يرون من الظلم والاضطهاد الشيء الكثير , ويصفهم مثل الغيوم المتفرقة في فصل الخريف, ولم يبدي السيد رغبة في نشر هذه الرواية او التحقق فيها تواضعا منه.
كان الشهيد الصدر يعامل تلامذته بحنان الاب الشفوق , ويتفاعل معهم بكل شعوره واحاسيسه حيث كان يمضي خطاباته اليهم او رسائله بـ ” ابوكم ” , ويقول احب ان يكون اولادي وابنائي راضيين عن ابيهم وعن ما قدم هذا الاب من اجلهم , وهكذا كان تعامله مع اولاده الذين من صلبه.
وينقل السيد محمود الخطيب: ان لغة التخاطب بينه وبين تلامذته كان لها طابع خاص وقد رأيته يودع احد تلامذته ايام الحكم الجائر والذي يعتمد على نفي المعارضين وهو يبكي بكاء شديدا ويقول “عز علي فراقكم”.
وتضيف الوالدة الفاضلة ان السيد حينما يصل اليه خبر سيء او نبأ استشهاد او موت بخصوص احد اصحابه او طلبته كان يتأثر تأثرا شديدا ويبقى في هذه الحالة ايام معدودة ويظهر عليه شدة حزنه فلا يأكل الا لمما ولا ينام الا قليلا ,وقد يصل شدة تأثره وحزنه الى حد تضطرب معه صحته الشريفة فيصاب بارتفاع في ضغط الدم او الصداع المستمر , وفي احدى المرات بلغ به الامر الى شبه شلل نصفي حين بلوغه خبر استشهاد بعض اصحابه، ولشدة ما يكنه لهم (اصدقائه واصحابه) من المحبة كان دائم الدعاء لهم كما كان ايضا يقوم بتفقد احوالهم وحثهم على ترك الدنيا والزهد بها والسعي والمثابرة على كسب العلوم وتحصيلها.
لقد نقش السيد الشهيد في قلوب تلامذته اروع واسمى المعاني ولم يكن رضوان الله عليه ليميز بين شخصين او يقدم احدهم على اخر او يفضل قومية على اخرى ولم يكن من اخلاقه ان ينقد او يعيب احد اطلاقا, كان متكاملا في كل جهاته.
كان الوالد غايه في الحب والتقدير لجهود منهم حوله , لا أذكر ابدا انه عاب احد, او ذكر احد بما يستنقص.. رغم كثره الانشغالات والمشاريع…و..الخ
لم يكن ينسى احسان احد ابدا , في الايام الاولى لزواجه من الوالده في لبنان قبل ذهابه للعراق جلسا يتحدثان قي مواضيع عده وقال لامي قيما قال “ايا بنت العم خمسة اشخاص في حياتي انا احبهم وعليك ان تحبيهم امي واخي اسماعيل واختى بنت الهدى واخوك السيد موسى الصدر وعبد الحسين” (وعبد الحسين هو رجل طيب كان يراعي السيد وهو صغير فجعله الوالد في صف امه وخوه).
تعلقه بالإمام الحسين وموالاته الحقّة للأئمّة:
اقبلت مجموعة من المحبين للقاء الشهيد الصدر فحدثهم الحاج عباس_ بو قحطان_ وهو من المحبين والملتزمين بخدمة السيد الشهيد “قدس سره الشريف” عن الشهيد واوضح لهم “ما يراه من حاله وانه كالامام علي بن ابي طالب صفاتا وصبرا وايمانا وشجاعة وانا عاشرته وعرفته جيدا ” وفي اثناء حديثه كان الشهيد في الطابق الثاني وسمع مقالة الحاج فصاح به “لا تقل هذا يا حجي فاني لا ارضى وقد كررت لك رفضي لمثل هذه الاقوال عدة مرات.”
اما في يوم عاشوراء فحال الشهيد تختلف حيث يتغير حاله وتتبدل ملامحه الى حزن شديد دامي وكان يحاول بقدر استطاعته ان يزور سيد الشهداء في كربلاء فإذا ما شرع في زيارة عاشوراء يبكي الى ان تتبلل لحيته الشريفة، واعتاد الشهيد مع عائلته ان لا يأكلوا شيئا في يوم عاشوراء الى بعد الظهر كان اكلهم في ذلك اليوم “الارز مع الماش” وهو ابسط انواع الطبخ وكذلك كان حالهم يوم وفاة الامام امير المؤمنين ولم يكن ليستقبل احدا في ذلك اليوم.
ولتسهيل زيارة عاشوراء افتى بجواز اختصار اللعن والسلام مثلا “اللهم العنهم جميعا” بدل عن جميع اللعن “السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اولاد الحسين وعلى اصحاب الحسين” بدل عن جميع السلام لكي يكون اسهل على القراء ويستطيع الجميع قراءة الزيارة والاستمرار عليها , الا انه هو كان يرغب في قراءتها كاملة , فكان يزور زيارة عاشوراء المعروفة في يوم عاشوراء باكملها بدون اختصار.
زيارة الأربعين:
وكان يحث الجميع على زيارة الاربعين والذهاب الى الحرم الحسيني المطهر مشيا على الاقدام وقد كان يتمنى الزيارة بهذه الكيفية , ولكن الظروف المحيطة به لم تسمح له ابدا , واراد السيد ان لا تؤثر الزيارة بهذا النحو على وضع الشيعة الامني والصحي فاستبدل عادتهم التي كانوا على وفقها يخرجون من النجف الاشرف وتستمر رحلتهم ثلاثة ايام تقريبا بطريقة اخرى توفر لهم السلامة , وهي ان يذهبوا مشيا الى قبيل الغروب ويرجعون الى بيتهم ليلا وفي اليوم الثاني يذهبون بالسيارة الى المكان الذي وصلوا اليه في اليوم السابق وهكذا.
زيارة امير المؤمنين:
واما عيد الغدير عيد الله الاكبر فقد كان يهيئ قناني عطر صغيرة يعطيها لكل المهنئين , وينقل ذات يوم ان السيد كان بجوار الضريح العلوي في حرم امير المؤمنين إذ دخل رجل وتوجه الى الضريح بكل لهفة وعيناه مليئة بالدموع، ووقف بقرب الضريح المطهر وبدا يدعوا باخلاص وحرارة، فرآه السيد ودعا الله وهو في مكانه ان يستجاب له دعائه، فرأى هذا الرجل في الليل في منامه ان فاطمة الزهراء (ع) وفدت عليه وقالت له: ان حاجتك سوف تتحقق لان ابني محمد باقر الصدر دعا لك “وفي الصباح توجه هذا الرجل الى السيد ونقل له الرؤيا فتبسم السيد وقال نعم لقد دعوت لك عندما رايتك في تلك الحالة.
ونقل احد الثقات وهو الحاج خضير لنا انه رأى السيد واقفاً في الصحن الشريف العلوي وهو ينظر الى القبة الشريفة في راحة كمن انقطع اتصاله بالعالم الخارجي، والابتسامة على شفتيه واستمر هذا الوضع لمدة من الزمن، فاحس حجي خضير بقلق على السيد فذهب اليه وسلّم، فالتفت السيد اليه وكانه كان في عالم اخر ثم قال له:”لماذا يا حجي خضير قطعت علي ما كنت فيه ولو رأيت ما كنت أراه ما فعلت ذلك”.
وقد كان قد الزم نفسه بزيارة امير المؤمنين بشكل يومي , بحيث ينقل الطيبين من خدم الحرم الشريف انهم وحتى بعد شهادته كانوا يرونه في الساعة المعهودة, كما كان يقيم ليالي الاربعاء مجلس عزاء عن اهل البيت (عليهم السلام) في بيته.
حالاته الروحية العجيبة اثناء الدعاء والزيارة:
ومما تنقله السيدة الوالدة من حالاته اثناء الدعاء والزيارة انه كان يقرا في اليوم العاشر من المحرم مقتل الامام الحسين لنفسه وبصوته الشجي والغريب انه كان يقراه بلسان دعاء.. اي بالطريقه التي يقرا فيها الدعاء تماما.. وما ان يبدا قرائة المقتل حتى تتغير احواله , ويبكي كما تبكى المراة الثاكل..حتى يصل الى حال نخشى عليه.
ونفس هذا الحال يحصل للسيد الشهيد عندما قراء دعاء عرفه..حتى اني في بعض حالاته خشيت ان يصاب بنوبه قلبيه وهو يقرء دعاء عرفه فاقتربت منه ولمسته وحركته خشيه عليه وقد رايته في حال انقطاع كامل , هكذا كان حاله تمام وهو يقرا المقتل والدعاء بلحن واحد ونبره واحده.
علاقته بالإمام المهدي (ع):
كنت اسمعه مرارا وتكرار يقرا دعاء الندبه , والذي كان يلفتني انه لا يقراه في ايام الجمع فقط , بل كان يقراه كلما كانت هناك مشكله وشده , يقرأه متضرعا متوسلا ,بحيث اصبح مرتكزا في ذهني عندما اسمعه يقرا دعاء الندبه ان له حاجه ملحه أو امراً مهما من امور المسلمين.
واخر مره رايته يقراه في غرفته في الطابق العلوي في بيتنا في النجف الاشرف في محله العماره الواقع قرب الصحن الحيدري الشريف والذي هدم البعث المحله كلها بعد استشهاده.
كما لا يخفاكم أنني شأني كما هو شان كل مسلم يعاني اليوم من الالم والحسرة لما يجري على ارض المسلمين فقلت لعل الحديث عن صاحب الهم الكبير والناصب نفسة للدفاع عن الدين بقلمه ودمه فيه بعض التسليه وكثير من المواعظ والعبر، وإن كان الكتابة عن هذا الجبل الأشم والبحر الزاخر بمقدار ما يترى للوهله الاولى انها سهلة، يسيرة لكثرة وسعة جوانب العظمه والمهمة في حياتة الشريفة، إلا أنها من الصعوبة بمكان ومحل رفيع.. كيف تختار البعض منها وتجعلها محورا للكلام والحديث والبيان.
فان اختيار زهره او اثنتين من روض زاخر بالأزهار والرياحين أو درة أو اثنتين من عالم مليء بالدرر والمجوهرات أمر صعب
ولكن قلت في نفسي ما ذا يريد قارئي مني؟؟؟؟
وكان الجواب وافيًا بالنسبه لي.. إنه يريد من حياة السيد الشهيد الوالد زهورًا ودررًا صعبة المنال عليه وعزَّ أن يجدها من كتاباته او دروسه أو معاشراته العامة..ألا وهي موقفه وسلوكة في بيته وبين اسرته.
ولكن ليسمح لي الاخوة الأعزاء ان ابدا بمقدمة حقيرة أرجو أن لا تثقل عليكم:
عندما نستعرض تاريخ العظماء وعباقرة البشر نجد ان الواحد منهم يحقق نبوغا أو سموًّا أو تكاملاً في جانب معين أو ناحية خاصة من حياته..جانب علمي أو أخلاقي أو نفسي أو اجتماعي…الخ
بينما نراه في جوانبه الأخرى شخصًا عاديًا أو ربما يكون في بعضها دون العادي، ولا فرق في ذلك بين القادة والسياسيين والعلماء والمفكرين أو الفلاسفة والحكماء.
نعم هناك اس واصل مهم يجب ان نسجله وهو ان العظماء الالهيين والرجال البانيين ليسوا كذلك بل الكمال والسمو يشمل كل حياته ويغطي كل جوانبها وكل زاويه من زوايا فكره، وسلوكه الفردي. والاجتماعي والعلمي والعبادي.الخ
ولنا في سيره الانبياء والأئمة الأطهار وأولياء الرحمن شاهد ودليل، والسيد الشهيد مثال حسي ليس ببعيد عنا..بل هو مثال عايشته شخصيًا لذلك السمو والكمال المستوعب لأبعاد العظمة.
فهذا الرجل كان خارج منزله:
الأستاذ والقائد والموجة والمربي والمرجع وقبلها كان التلميذ والزميل..وفي كل ذلك كان مثالا للسمو والكمال والعظمة، والشواهد والقرائن على المدعى فوق الإحصاء إلا أن غيري أولى بسردها ممن عاصر السيد وراه في حالاته هذه. والسيد هذا الرجل الرباني لم يكتف بهذا المقدار من الكمال خارج بيته.
بل كان في منزله مثالا للابن والاب والزوج والاخ قل نظيره وعز مثيله:
وكيف لا يكون كذلك وقد كان له القرآن خلقًا والمصطفى سماحةً والمرتضى عدلاً وحزمًا، كان الوالد الابن البار لأمه يحترمها ويجلها غاية الإجلال ويقدر منزلتها ويأمر اهل البيت جميعًا بذلك أيضا وكان مطيعًا لها مراعيا لمشاعرها ومحبًا شفيقًا عليها
لم ينسَ يومًا ما قدمته هذه الأم الحنون المعطاء له من عنايه ورعايه.
كان إلى اخر ايامه الشريفة يراعي وضعها الصحي وقلقها على ابنها المستمر غايه المراعاة ؛ يأتي لكي يستأذنها للذهاب إلى زيارة ابي عبد الله الحسين (عليه وعلى وابائه وابنائه السلام) ليالي الجمع. وبعد ان تأذن له ينحني ليقبل يدها وينصرف مودعا بدعائها
والله وحده يعلم كم كان يحمل همَّ والدته أثناء الحجز وما سيؤول إليه أمرها بعده، وهو الصابر المحتسب المتوكل على الله المسلم أمره اليه,ولكن شدة عطفه وحنانه تدفعه لذلك.
واذا انتقلنا إلى جانب الاخوة في حياة شهيدنا الغالي
فكم كنت أتمنى أن أشهد تلك العلاقة الأخوية الإيمانية التي كا نت بينه وأخيه الأكبر السيد اسماعيل الصدر والتي عبر عنها بقوله: رافقته كما يرافق الابن اباه والتلميذ استاذه والصديق صديقه والاخ اخاه في النسب واخاه في الآمال والآلام وفي العلم والسلوك.
ولأني بنيت هنا ان أنقل مشاهداتي فحسب لذا اطوي هذه الصفحه المشرقه إلى صفحة أخرى عشتها ووعيت عليها تلك علاقته بالشهيده رفيقة دربه في الحياة والممات:
فإني كنت ألمس اهتمام السيد قدس الله نفسه بعمّتنا الغاليه وحبه إياها، ومما أذكره في هذا الصدد توقيره لها فكان يؤثرها بأحسن مجلس إذا التأم مجلس العائلة ويصغي إلى حديثها بكل اهتمام وعنايه، وكان يقضي معها وقتًا طويلاً في مراجعة كتاباتها ومقالاتها مستمعًا ومطريًا , ناقدًا ومعلقًا. كل ذلك بخلق رفيع ووجه مبتسم واهتمام بالغ حتى تنصرف عنه وهي راضيه فرحه.
أما السيد الشهيد كزوج:
فيكفي أن نأخذ شهادة زوجته في حقه بقولها: انه كلما تمر علينا السنين تزداد احترامًا وثقًة به ,ايمانًا واستقامةً وعدالةً, وكأنه لا حد لتلك الاصفات.
والحق اقول انني ما رايته يوميا آذاها بكلمه أو أسمعها ما لا يرضيها، وكنت أراه في الأيام التي تكون الوالدة فيها صائمة يلزم نفسه الشريفة أن يعود إلى البيت عند الإفطار ويتفقد وضعها ويستخبر حالها وما كان يناديها الا (ياابنة العم)،وهذا السلوك جعل هذه المرأة الصالحة ما تذكره حتى تفيض عيناها بالدموع حسرةً وألمًا..ولا حول ولا قوة الا بالله..
فبالله عليكم هذا القلب الكبير الذي وسع الأمة بأسرها وحمل تلك الهموم الجسام وكان الشفيق والراعي لطلبته ومحبيه، أقول هذا القلب الكبير كيف يا ترى يكون أبا ً؟؟
لقد كان في أبوّته كما هو في كل حالاته , القمة الشامخة والمثل الأعلى والقدوة والأسوة، كان الغاية في الشفقة والحنان ولا أخطئ إذا قلت في حقه كان أبا يحمل قلب الأم الرؤوم الحنون.
فعندما يجد الفسحة والزمن يقضي معنا وقته طورًا ملاعبًا واخرة مودبًا ومربيًا، إذا رأى منا عملا صالحا فرح له, وأثنى عليه، وإذا رأى معنا عملاً دون ذلك أدبنا بنظراته قبل كلماته.
وإذا علم بمرض أحدنا تراه مضطربا دؤوب السؤال والتفقد عن صحتنا، وإني لا أجانب الصواب إذا وصفت حاله معنا بقول ضرار عنه ((كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدأنا إذا اتيناه… ونحن والله مع قربه معنا ودنوه الينا لا نكلمه هيبة له))
كنا معه والله كذلك فطورًا ينبسط معنا حتى نتجرا للعلب بالكرة بين يديه وهو مشغول بكتابته ومطالعته وقد تسقط الكرة بين يديه فنأتي لأخذها ويستقبلنا بوجهه البشوش الطلق المرح ونحن لا نخشى منه سطوةً أو غضبًا. كان إذا رمق احدنا بنظرة عتاب تانيب كان ذلك كافيا لردعنا بلا حاجة منه للكلام وغيره.
وكانت عاطفته وشفقته موزعة بالسوية بيننا فلم يمل لذكر على حساب أنثى ولا لصغير على حساب كبير.. وليس هذا وحده فمن أرشد الامة وهي اسرته الكبيرة وازال عنها ظلام الجهل بدينها ودفع عنها شبهات المستعمرين والمرجفين، فهو اقدر وأجدر على ان يراعي أسرته الصغيرة ويتعاهدها بالتربية والإرشاد ولم يكن مقصرا في هذه الناحية أيضا وحاشاه من التقصير..
فكان حريصا على التزامنا بشعائر ديننا وأدائنا لفروضه.
كان يؤكد كثيرا على محافظتنا على الصلوات الخمس وأن نؤديها في أول وقتها وكان في بعض الأحيان وهو يرانا مشغولين باللعب ينادي علينا: يا جعفر يا فلانة هل اديتم الصلاة ام لا؟؟
وكان يضع لنا برنامجا خاصا – إن صح التعبير- في شهر رمضان ابتداءا بالصوم -تدريجيا- وحتى قراءة دعاء السحر في لياليه المباركة وكنا إذا اشتكينا اليه شيئا أهمّنا أو مرضًا أصابنا كان يحيلنا إلى الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
و أتذكر مرة كثرت الانقطاعات للتيار الكهربائي في أيام الحجز فكنا نضجر من ذلك فكان يوصينا بل قد يقرا معنا دعاء الفرج حتى يعود التيار.
ففي جانب الثقافة الدينية:
كان يعقد جلسات يجمعنا فيها ويقوم بإرشادنا ووعظنا وكان بعضها يدور حول قصص الأنبياء السابقين ويتعمد “رضوان الله عليه ” أن يستخلص منها العبر لنا في الصبر والتحمل في سبيل الله وأن هذا يورث رضا الله وفوز في الدارين.
وفي الجانب العلمي:
كان حريصًا على إكمال إخوتي للتعليم الابتدائي كحد أدنى وعندما وجد في إحداهن القابلية وجهها نحو تحصيل العلوم الحوزوية.
واذكر ان احداهن كان لها مع السيد جلسات علمية في تفسير آية قرآنية أو شرح حديث شريف وكانت تملي ما يذكره السيد حتى تجمع لديها الشيء الكثير وهي لم تبلغ العاشرة وكان يشجعها وكان يثني عليها ويعدها بمستقبل زاهرا في مجال العلم.
اسمحوا لي ان اختم بهذ الكلمات التي اجد نفسي مجبورا على تسطيرها:
كم يتوج القلب وتحزن النفس لفقدك يا با جعفر وياابا الاحرار والمجاهدين..
يامن جاهدت الجهادين ونلت الشهاده فيهما معا..
جاهدت الجهاد الاكبر فافنيت نفسك في مرضاة الله..
وقدمت كل ما عندك في سبيل خدمة دينه وشريعته..
وجاهدت الجهاد الاصغر فقدمت دمك ليكون نبراسا ومشعلا يضيء الدنيا بقيم الحرية والعدل والاباء والكرامة وصرخة ضد الظلم والطغيان والكفر والاستعمار..
ما احوجنا اليك اليوم وفي كل وقت.. ما احوج جعفر بل الأمة بأسرها إلى أبوّتك..
ما احوجها اليك وانت العلاج للهموم والبلسم للجراح..
ما احوجها اليك لتقودها إلى شاطئ الامن والامان وتخرجها من ذل التشتت والعبودية للأهواء والطغاة..
سيدي.. ان القلوب حرّى والعيون عبرة ولا نقول ما يغضب الرب..
فالسلام عليك يوم ولدت من هذها الشجرة الباسقة بالعلم والتقوى..
السلام عليك يوم نهضت اذ احجموا..
والسلام عليك يوم صمدت اذ نكصوا وتراجعو ا..
والسلام عليك يوم خضبت بدمك لترفع راية الحق والعدل..
والسلام عليك يوم ترد على جدك المصطفى وابيك الحسين الشهيد وقد وفيت الرسالة واديت الامانة..
فجزاك الله خير جزاء المحسنين..
وجعلنا على دربك سائرين ولمنهجك متبعين آمين رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتبه: جعفر محمد باقر الصدر