حوار مع السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي(*)
ترجمة: أحمد أبو زيد
لماذا التزم السيد الهاشمي الصمت حول السيد الصدر؟!
عندما شرعنا في تحضير هذا العدد الخاص والمميّز، رجعنا إلى كافّة المنشورات والمجلاّت التي تمحورت حول الشهيد الصدر، وعلى الرغم من كونكم أكثر من عايش الشهيد الراحل واطلاعِكم الواسع على عطائه الفكري، إلاّ أنّكم غبتم بشكل واضح وملحوظ عن مسارح هذه المنشورات، حتى شكّلتم الحلقة المفقودة التي يلاحقها الباحثون في هذا المجال، فليكن سؤالنا الأوّل عن دواعي هذا الصمت المطبق ومبرّراته؟
السؤال الذي تفضّلتم به سؤالٌ ظريف، والحقيقة أنّ دواعي هذا الصمت عديدة:
أوّلاً: إنّ الحديث عن شخصيّات عظيمة ومرموقة من هذا القبيل ليس بالأمر الهيّن على الإطلاق.
ثانياً: إنّ ما تحلّى به الشهيد الصدر من خصال سياسيّة واجتماعيّة جعلت أكثر الذين يكتبون عنه يسعون إلى وصله والانتساب إليه بنحوٍ من الأنحاء، ثمّ إلى توظيف ذلك لصالح التيّار السياسي الذي ينتمون إليه، تماماً كما حصل مع الإمام الخميني. وكنتُ أنأى بنفسي عن دخول هذه الميادين؛ لأنّني كنتُ سأضطرُّ إلى نفي أمورٍ والمصادقة على أخرى، الأمر الذي كنتُ أحذر منه وأتجنّبه، خاصّةً في السنين الأولى التي أعقبت استشهاد الشهيد الصدر، مع ما حفلت به من ظروف خاصّة جدّاً واستثنائيّة مرتبطة بالحرب العراقيّة الإيرانيّة والنضال ضدّ نظام صدّام حسين. ولهذا رأيت أنّ الابتعاد عن هذه السجالات هو الأفضل والأصلح للساحة السياسيّة، وأنّ من الأفضل كذلك عدمَ تفعيل الخلافات ومنعَها من الظهور إلى السطح.
وكما أشرتم، لربّما لم يصدر حول الشهيد الصدر إلى اليوم أثرٌ جامعٌ مانع، كما أنّه لم يتمّ إلى اليوم البحث حول أبعاد شخصيّته. وكما سبق وذكرتُ، فإنّ الصعوبة التي تكتنف هذه المهمّة قد أقامت دون تحقيقها سدّاً؛ لأنّ المعرفة اللازمة والاطلاع الكافي ليسا بالأمر الهيّن، إضافةً إلى التجاذبات التي ظهرت بين عددٍ من الوجوه والأطياف السياسيّة.
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإنّ انشغالي بأمور أخرى جعلني أفضّل عدم اقتحام هذه الساحة الوعرة، خاصّةً أنّه ـ وكما ذكرتُ ـ سيتوجّبُ عليّ ذكر بعض الأمور ونقد البعض الآخر فيما لو تقرّر الدخول إلى هذه الميادين، وهذا ما دعاني إلى عدم الإدلاء بأيِّ حديث يرتبط بحياة الشهيد الصدر الثقافيّة والفكريّة، وعلى الخصوص السياسيّة.
بداية التعرّف على الشهيد الصدر
حبّذا لو تحدّثتم لنا عن الظروف التي انتهت بكم إلى التقرّب من الشهيد الصدر إلى هذه الدرجة، وبالتالي الاطلاع العميق والوافر على شخصيّته وأفكاره؟
عندما كنتُ في الثانوية[1]، كان الشهيد الصدر قد بدأ يُعرف إلى الملأ ـ خاصّةً على صعيد طلاّب الجامعات والجيل الصاعد ـ بوصفه فقيهاً شاباً في مقتبل عطائه العلمي، مع ما يحمله من فكر حديث، وقد ساهم في ترسيخ صورته ومكانته لدى هذه الطبقة ما صدر عنه في تلك المرحلة، من قبيل كتاب (فلسفتنا) والمقالات التي ترصّعت بها مجلّة (الأضواء). أمّا بالنسبة لي، فقد انتظمتُ بعد الثانويّة في سلك الحوزة العلميّة، وإلى ذلك الحين كنتُ أعرفه مفكّراً إسلاميّاً، إلى أن وصلتُ إلى مرحلة السطوح ـ وعلى وجه التحديد السطوح العليا ـ حيث حضرت على بعض طلاّبه المرتبطين به، وقد قادني ذلك إلى ارتباطي به شخصيّاً، فعلاقة الأستذة والتلمذة تحوز على أهميّة بالغة في بنية النظام الحوزوي، وقد نجم عن ذلك أن وفّقت للاطلاع على الشهيد الصدر في بُعدَيْه: الفقهي والحوزوي.
ومن هنا، وبمجرّد أن أنهيت مرحلة السطوح التحقت بمحضر درسه، وكان ذلك في العام [1387هـ]، طبعاً كنتُ أتردّد على مجلسه حتّى قبل التحاقي بالدرس، وذلك من خلال المجالس التي كان يُتَعارف عقدُها في النجف الأشرف بين العلماء والفضلاء، وكان يعرفني من خلال معرفته بوالدي [السيّد علي الهاشمي الشاهرودي]، وكان والدي من العلماء الذين سارعت إليهم المنيّة، حيث رحل عن أربعين عاماً، وقد آلم رحيله الجميع، فقد كان من مقرّري بحث السيّد الخوئي في الفقه والأصول، وكان أوّل من حرّر له تقريراً[2]، وحيث كان الشهيد الصدر من تلامذة السيّد الخوئي، فقد توطّدت علاقته بوالدي عن هذا الطريق، وإن كان والدي أقدم منه انتساباً إلى درس السيّد الخوئي، حيث كان قد تتلمذ عليه وصار من تلامذته المقرّبين ابتداءً من الدورة التي سبقت الدورة التي حضرها الشهيد الصدر.
وعندما تعرّف الشهيد الصدر عليّ أشعرني بمحبّته واهتمامه بشكل ملحوظ، وكان ـ وإلى جانبه آخرون ممّن يعلمون أنّ المرحوم والدي قد رحل في سنٍّ مبكرة ـ على قناعة بأنّ عليّ أن أستنَّ بسنّته وأجري على منهاجه، وأظهروا اهتمامهم الخاص بي. ولهذا نبتت براعم علاقتي بالشهيد الصدر قبل حضوري في مجلس درسه، ثمّ اشتدّ عودها ورسخت بيننا قواعد المودّة وتوثّقت عرى المصافاة بعد التحاقي بالدرس. وكما سبق وأشرت، فإنّ العلاقة التي تربط الطالب بالأستاذ تحظى في الحوزات العلميّة بأهميّة خاصّة ولها رونقها المميّز؛ فإنّ الأستاذ يلعب في الحوزة دور المربّي والأب والمهذّب في آنٍ واحد. طبعاً هذه الأدوار يلعبها الأساتذة المؤثرون في الحوزات العلميّة تجاه طلاّبهم.
لقد كانت قوى الشهيد الصدر الجاذبة متعدّدة وراسخة، وكان لشخصيّته جاذبيّة استثنائيّة، وكانت أخلاقه في غاية الرفعة، ناهيك عن محبّته الجيّاشة، خاصّةً تجاه طلاّبه الذين لا أعتبر نفسي مبالغاً إن قلت: إنّ الواحد منهم كان يعتبره أقرب إليه من أبيه، وأشدَّ تأثيراً في حياته منه، وأكثر شفقةً عليه منه. هذه هي الحقيقة، وهكذا كانت علاقته بطلاّبه، علاقةً متينةً جداً ووثيقة الأركان، يسعى فيها إلى تربيتهم وترشيدهم من مختلف الزوايا.
علاقة السيّد الصدر بطلابه: المشاريع التربوية والعلاقات الأبوية والبرامج التثقيفية المعاصرة
وحيث إنّ أستاذنا الشهيد صاحب فكرٍ منظّم ويعمل وفق طرق مبرمجة، فقد اعتمد في علاقته مع طلاّبه برنامجاً محدّداً، وهذه المسألة وإن خفيت علينا في بداية الأمر، إلاّ أنّنا سرعان ما اكتشفنا لاحقاً أنّه قد وضع لكلّ شيء خطّة مناسبة وبرنامجاً محدّداً، فقد وضع إلى جانب درسه التقليدي في الفقه والأصول صباحاً وعصراً برامجَ خاصّةً وفي غاية الأهميّة وفق الأسلوب التقليدي نفسه، ولم ندرك أهميّة هذه البرامج إلاّ لاحقاً، حيث أدركنا عظمة الدور الذي لعبته في توعيتنا وتربيتنا.
من باب المثال: أنتم تعلمون كثرة العطل في الحوزة عادةً، حيث كانت تعطّل في كلّ مناسبات ولادات [الأئمّة] ووفيّاتهم، وكان الشهيد الصدر يستثمر هذه العطل ـ باستثناء بعضها كمناسبة عاشوراء ومناسبة الأربعين ـ للحديث عن تاريخ الأئمّة وتاريخ الإسلام، وما يرتبط بذلك من رؤى يجب على العالِم المعاصر أن يتعرّف عليها ويضطلع بها ويعيَها، فكان يجعل من صاحب المناسبة محوراً يدير حوله رحى حديثه، وقد أسفر ذلك عن مجموعة من المحاضرات ربّما نافت على المائة.
هل تمّ تسجيل هذه المحاضرات؟
نعم، لقد تمّ تسجيلها، وتمّ طبع بعضها، وكان بعض الطلاّب اللبنانيّين قد أخذ هذه المهمّة على عاتقه وتجشّم عناءها. وكان الشهيد الصدر نفسه قد طلب تسجيلها ثمّ تدوينها وعرضها عليه لمراجعتها ثمّ طبعها، إلاّ أنّ ذلك لم يتمّ وللأسف الشديد[3]، وكان قد بحث حول سيرة وحياة كل الأئمّة تقريباً بحثاً مفصّلاً.
وانطلاقاً ممّا ذكرته لتوّي من أنّه كان يتمتّع بذهنيّة منظّمة، فقد عمد إلى تقسيم سيرة وحياة الأئمّة^ إلى عدّة مراحل، وهدف بشكل رئيس إلى تسليط الضوء على الدور السياسي الذي لعبوه في قيادة العالم الإسلامي وحفظ ميراث رسول الله’ والتصدّي للانحراف الذي غزا هذا العالم من الداخل والخارج وفي تثبيت خط رسول الله’ وبقيّة الأئمّة الأطهار^، وكانت هذه التعبيرات قد جرت على لسانه في مناسبات سابقة. لقد دارت معظم أبحاثه في هذا الفلك، وكان ـ بفضل ثقافته التاريخيّة الجيّدة ـ يعتمد في الغالب على الروايات والمستندات والنقولات التاريخيّة المثبتة في المصادر المعتبرة.
لقد كانت هذه الأبحاث بالفعل أبحاثاً لطيفة يفوحُ منها عطرُ الحياة، وقد خصَّ أمير المؤمنين(ع) بثلاث أو أربع محاضرات متكاملة، إلى جانب موضوعات أخرى تناول فيها صلح الإمام الحسن(ع) وفلسفته، نهضة الإمام الحسين(ع) وفلسفتها. وبعد أن قسّم في هذه المحاضرات الأدوار التي لعبها الأئمّة إلى أربعة، قام بمعالجة الأسباب التي يُمكن أن تفسّر وتبرّر تنوّع الأدوار هذا، وقام بتنظيمها وترتيبها بشكل لطيف.
كان هذا برنامجاً نظّمه الشهيد الصدر إلى جانب البرنامج الرسمي المعمول به في الحوزة، وأدار عجلته بشكلٍ هادئ.
ومن البرامج الأخرى التي أدار رحاها في العطل الدراسيّة الأطول مدى ـ من قبيل عطلة شهر رمضان المبارك والعطلة الصيفيّة ـ سلسلةٌ من الدروس الفقهيّة المقارنة التي ألقاها على طلاّبه، من قبيل الدروس التي ألقاها في شهر رمضان المبارك [عام 1387هـ] حول فقه المعاملات مقارناً بالمباحث الحقوقيّة المعاصرة[4] التي عالجها الأستاذ السنهوري وأمثاله، وكان يستشهد بهذه الكتب وينقل منها ويشجّع طلاّبه ويحضّهم على مطالعتها.
لم يكن أستاذنا الشهيد يؤول جهداً في توسيع الأفق الذهنيّة والفكريّة لطلاّبه، وكان يسعى إلى كسر الطوق الذي قد يأطرّ اهتماماتهم ضمن أبحاث الحوزة المعهودة، محاولاً إخراجهم إلى أفق أكثر رحابةً، حيث الاهتمام بالأبحاث المعاصرة. ومن الأبحاث التي تعرّض لها أيضاً فقه الحكومة الإسلاميّة، إضافةً إلى الأحكام الفقهيّة الكبرى المرتبطة بالمجتمع.
وإلى جانب هذه الأبحاث، كان لأستاذنا مجلسٌ أسبوعي ـ وأحتمل أنّه كان يوم الأربعاء ـ يبحث فيه الفلسفةَ الإسلاميّة وفقاً لمذهبه المعرفي الجديد ورؤيته الخاصّة، وبعد أن فرغ من بحث الاستقراء، تناول بالبحث الفلسفةَ الإسلاميّة على ضوء ما انتهى إليه من نتائج مرتبطة بالاستقراء، وقام بهذا الصدد بتحضير مجموعة من الأبحاث، ثمّ دوّنها وراح يتداولها مع سبعة أو ثمانية من طلاّبه الذين يثق بهم ويعتمد عليهم من أهل الدقّة والرأي الملمّين بمبانيه ومنظومته الفكريّة، إلاّ أنّ ذلك كان على أعتاب الثورة الإسلاميّة فلم يقدّر لهذه الأبحاث الاستمرار. وكان هذا البحث من الأعمال الرئيسيّة والمهمّة التي شرع بها.
طبعاً، كانت انطلاقة الشهيد الصدر في البحث حول الاستقراء من بحث الأصول، ثمّ سرعان ما خرج عن إطار الدرس المتعارف، فعالجه على هامش درس الأصول وبشكل مستقلٍّ عنه، إلى أن انتهى إلى ما انتهى إليه[5]، وكان حريصاً على أخذ عطاءات الفلسفة المعاصرة بعين الاعتبار، فكان يتابع على سبيل المثال فلسفة هيجل ضمن آخر ما نشر حوله في الشرق والغرب.
وقد استطاع في الفترة الأخيرة من حياته الحصول على كتاب مفصّل يشتمل بين دفّتيه على ترجمة لأدقّ أفكار فيلسوف الدياليكتيك المعروف هيجل، إلى جانب أفكار كارل ماركس، الذي كان وأنجلز من طلاّبه، وقد استفاد الأخيران من فكرة الدياليكتيك وأدخلاها إلى الأبحاث التاريخيّة ووظّفاها هناك. فبحثُ الدياليكتيك والجدل ينحدر من هيجل الذي تناوله من بعده الفلسفي، بينما وظّفه طالباه: ماركس وأنجلز في تفسير التاريخ والمجتمع. لقد امتازت أفكار هيجل بصعوبتها، ولم يكن فهمها متيسّراً للجميع، وكان أستاذنا الشهيد مهتمّاً بمتابعتها، وقد أُمّن له مؤخّراً هذا الكتاب الضخم، الذي كان أحد طلاّب هيجل في مجال الفلسفة قد تجشّم عناء جمعه وتنظيمه في حياة أستاذه، وكان من الكتب المعتبرة في هذا المجال، وكان السيّد الصدر منكبّاً على مطالعته، وكثيراً ما يزيّنه بحواشيه، ويأتي لنا منه بمطالب يطرحها في درسه المذكور، حيث كان يسعى إلى فتح الأفق أمام أذهان طلاّبه.
وإلى جانب الأبحاث العصريّة والاجتماعات وجلسات الاستفتاء التي كان يفوح منها جميعاً عبق العلم والفكر والتنظير، والتي كانت مفعمةً بالسؤال والجواب، كان لديه مجالس أخرى، وهي عبارة عن مجالس الدرس المعهودة. وقد شكّلت هذه المجالس وسوحُ اللقاء أرضيّةً مناسبةً وخصبةً لتنمية الطلاّب وإنباتهم نباتاً حسناً وترشيدهم من مختلف الجهات والحيثيّات.
أمّا تعامله الأخلاقي، فهو مبعثٌ للعجب في الحقيقة، ينحدرُ منه ليتجلّى لك في شدّة تواضعه وتجافيه عن مقاعد الكِبر، وسعيه الحثيث نحو تربية الطلاّب وامتحانهم وابتلائهم وتذكيرهم، محاولاً في ذلك تقديم النموذج الذي يُحتذى به ويُضرب على قالبه. وكان شديد الأدب في تعامله، في تواضعه ولين جناحه، في ذهابه وإيابه، مع أساتذته وأقرانه، وكان يسعى إلى إبراز هذا الأدب وتسليط الضوء عليه. وخلاصة الكلام أنّه كان يحاول دائماً تربية الآخرين.
أمّا مضمار البحث السياسي، فقد كان يلجه واثق الخطى ويعالج مسائله بشكل مفصّل، وكان يتعامل مع موقف النظام العراقي إزاء الحوزة العلميّة والمرحوم السيّد الحكيم بكل دقّة وحساسية؛ وقبل استلام البعثيّين للحكم [عام 1968م]، كان للسيّد الحكيم مكتبات إسلاميّة عامّة منثورة في أغلب المحافظات، وكانت تعرف بمكتبات السيّد الحكيم. لقد كانت هذه المكتبات تحمل عنوان المكتبة ولكنّها كانت في الواقع بالنسبة إلى طلاّب الجامعات والعلماء المتواجدين في تلك المناطق بمثابة المراكز التي تنتظم فيها الصفوف لإعلام ناشئة المسلمين بما يجول حولهم في العالم، ولممارسة أعمال الدعوة والتبليغ.
إلى جانب ذلك، فقد عرفت النجف وكربلاء احتفالاً ومهرجاناً سنويّاً ضخماً يقام في الأولى في الثالث من شعبان حول الإمام الحسين(ع)، وفي الثانية في الثالث عشر من رجب حول الإمام علي(ع)، وكان يتمّ ـ قبل الموعد المقرّر لإقامة المهرجان ـ استكتاب علماء المسلمين لتقديم مقالاتهم في المؤتمر، وكانت تؤلّف بهذه المناسبات الكتب وتُمنح الجوائز في مهرجانات حافلة تحتشد فيها وفود العلماء؛ إذ كانت العادة أن يتواجد أساتذة الجامعات وعلماء النجف الأشرف من ذوي المكانات والمراكز الخاصّة. وكان احتفال النجف يُعقد في مركزٍ من مراكزها العلميّة، بينما يقام احتفال كربلاء في حسينيّة أهالي طهران، فكان الاثنان يعقدان بالقرب من حرم النجف وكربلاء اللتين كانتا تعيشان في هاتين المناسبتين أجواء خاصّةً وتشهدان ظروفاً استثنائيّة.
ما تصفونه شبيهٌ باحتفالات الخامس عشر من شعبان التي تشهدها إيران؟
تماماً كما تفضّلتم، ولكن بشكل أعظم وأبهى، فقد كانت المدينة تزدان بثياب بهائها كما تزدان العروس ليلة عرسها، وكانت الشوارع تُكسى بأجمل الحلل والأقمشة وأجملها، لقد كانت ظاهرةً عظيمة وفريدة من نوعها. كان السيّد الصدر واحداً من مؤسّسي هاتين الظاهرين ـ ظاهرة المكتبات وظاهرة المهرجانات ـ وكان له عادةً في هذه المهرجانات كلمةٌ وبحثٌ يُلقى، وكان هذا جزءاً من الأعمال السياسيّة والاجتماعيّة التي كان مهتمّاً بإنجازها والتصدّي لها.
والذي أريد أن أخلص إليه من النقاط التي قمت باستعراضها هو أنّ أستاذنا الشهيد كان يسعى بجدٍّ إلى تربية طلاّبه وتنشئتهم نشأةً صالحة وفي بيئة فكريّة متينة، متماسكة وغير ضحلة، مُعملاً في ذلك الرويّة ومعتمداً سياسةَ التأنّي والتريّث وعدم إثارة الضجيج. وعندما تلتقي خصالٌ من هذا القبيل وتلتئمُ في أستاذٍ يفوح منه أريج العاطفة الجيّاشة، فمن الطبيعي أن يتحوّل إلى قبلة عشقٍ تؤمّها أفئدة الطلاّب والمريدين. لقد كان بحقٍّ يتمتّع بجاذبية خاصّة.
لماذا طرح السيد الصدر مرجعيّته؟!
ليس من شكٍّ في أهميّة الأحاديث المختزنة لديكم حول جهود الشهيد الصدر وعطاءاته العلميّة، إلاّ أنّ ضيق الوقت من ناحية، ومحاولتنا التركيز على الجوانب التاريخيّة لهذه الشخصيّة من ناحية أخرى يدفعانا إلى استئذانكم في تخطّي هذا المحور والانتقال إلى محور جديد. وقد وجدنا أنّ خير سبيلٍ لمعالجة الفصول الأخيرة من حياة الشهيد الصدر السياسيّة هو أن نعود أدراجنا إلى زمن وفاة المرحوم آية الله العظمى السيّد محسن الحكيم، لنسلّط الضوء على الدوافع التي وقفت خلف دخوله ساحة النشاط المرجعي: هل كانت المرجعيّة الرشيدة التي دعا إليها الشهيد الصدر غير مترجمة على أرض الواقع، فأراد من خلال تصدّيه لها شخصيّاً تحقيقها بنفسه؟ أم أنّ وراء ذلك دوافع أخرى؟
الحقيقة أنّ هناك عاملين وقفا معاً وراء بلورة هذا القرار لدى أستاذنا الشهيد؛ فقد مال في بداية الأمر إلى المرجعيّة الرسميّة للحوزة، وعلى وجه الخصوص إلى السيّد الخوئي، فأقدم على دعمه والاصطفاف إلى جانبه؛ لاعتقاده وطلاّبه بأعلميّته. ولكن وقف خلف قراره بالتصدّي سببان رئيسيّان:
أـ العلاقة بمرجعية السيد الخوئي
أحدهما: زوال أثر الانطباع الذي كان يخامره إزاء السيّد الخوئي؛ إذ سرعان ما انقشعت الغبرة وأبدت الرغوة عن الصريح، وما حصل معه في هذا الصدد شبيهٌ بما حصل سابقاً مع الإمام الخميني في علاقته بالسيّد البروجردي. فأنتم تعلمون أنّ الإمام هو الذي استقدم السيّد البروجردي من بروجرد ليستقرَّ به المقام في حوزة قم. إلاّ أنّ تقادم الزمن كشف له عن أنّ مرجعيّة السيّد البروجردي ـ وعلى الرغم من الخصال الإيجابيّة التي توافرت لديها ـ لم تجارِ بشكلٍ كافٍ الأهدافَ التي رسمها الإمام، بل إنّها نقضت غزلها وانقلبت على هذه الأهداف؛ ففي ساحات ومناسبات عدّة ـ من قبيل قضيّة (فدائيّي الإسلام) والشهيد نوّاب صفوي ومقارعة النظام الحاكم و… ـ كان الإمام يلاحظ بوضوح أنّ تدخّل السيّد البروجردي لا يرقى إلى المستوى المطلوب، وإنْ بقي جدار الاحترام المتبادل قائماً بينهما.
إذا نقلنا هذه الصورة إلى العراق، نجدها تتطابق مع علاقة السيد الصدر بالسيّد الخوئي؛ ففي البدايات كان أستاذنا يعلّق على مرجعيّة السيّد الخوئي آمالاً عظيمة. ولستُ أدري ما مدى اطلاعكم على تاريخ السيّد الخوئي وماضيه، والحقُّ يقال: إنّنا لو قطعنا النظر عن حواشيه وتأثره بهم، فسنجد أنّه كان شخصاً منفتحاً وصاحبَ ذهنيّة غضّة ونضرة؛ ففي أحداث الخامس عشر من خرداد على سبيل المثال، نجده المرجع الأكثر فعاليةً وتفاعلاً مع ما عصف بالساحة يومذاك، حيث أصدر العديد من التصريحات الخطيرة إلى جانب تكفيره الشاهَ في حكمٍ أصدره بهذا الصدد. لقد أقضَّ اعتقال الإمام الخميني مضجعه وسلبَ النومَ من عينيه، الأمر الذي جعله يخرق صمت الليل في جولانه على المراجع محذّراً من احتمال إعدام الإمام. في ذلك الحين، لم يكن السيّد الخوئي مطروحاً في عداد المراجع، شأنه في ذلك شأن الإمام نفسه، وإن كان قد تربّع داخل الحوزة على كرسيّ الأستذة والتدريس وحاز المقام العلمي الرفيع، مستقطباً عدداً كبيراً من أهل العلم والفضل الذين التأموا حول مائدة درسه.
لقد كان السيّد الخوئي في ذلك الحين ينتقد مراجع عصره، حيث كان يعتبر أنّ المرجعيّة خيرُ وسيلة يمكن التوسّل بها لخدمة الإسلام وأهدافه، وكانت تجري على لسانه أحاديث تفوح منها بنحوٍ من الأنحاء رائحةُ الدعوة إلى تجسيد معنويات الإسلام الكبرى وإقامة أحكامه على الأرض، وقد صبّت فتاواه المتناثرة في شتّى المجالات في هذا المصبّ وعزّزت هذا الاتجاه، وكان له فتاوى جيّدة ترتبط بالمسائل الحكوميّة. وليس ذلك إلاّ بسبب ما كان يتحلّى به من فكر رحب ومنطلق، ولهذا نجد أنّ أفكاره كانت ـ قبل تسنّمه سدّة المرجعيّة ـ عبارة عن فتاوى منفتحة وحرّة. لقد كان جليّاً لكلّ من يتداول معه أطراف الحديث أنّه يتمتّع بثقافة حقوقيّة واسعة، وأنّ مفاهيم الإسلام مشبعة لديه بحيث كان يطرح الإسلام بوصفه نظاماً.
ولنمثّل لهذا الأمر بفتاواه المتعلّقة بأموال الأنظمة غير الإسلاميّة، التي خلع عنها رداء الشرعيّة ولم يقل بملكيّتها طالما أنّها لم تتجلبب بجلباب الإسلام ولم تحظَ بإمضاء الشارع، الأمر الذي انعكس سلباً على مقلّديه الذين يتقاضون رواتب حكوميّة وأوقعهم في الحرج، بينما نجد أنّ الإمام الخميني ـ الذي نادى بالحكومة الإسلاميّة وقعّد مبانيها ـ قد ذهب إلى ملكيّة هذه الأنظمة. إنّ فتاوى السيّد الخوئي في هذا المجال تبعث على العجب، وهي في الواقع تعتلي سلّم الرقي. لقد كانت ثقافته العامّة رحبة الجوانب، وكان يتمتّع بذاكرة حديديّة.
على كلّ حال، يراودني اعتقادٌ بأنّ السيّد الصدر ـ الذي تتلمذ عليه لسنوات ـ قد تجاذب معه أطراف الحديث حول هذه المسائل، ولهذا كان يعقد عليه الآمال الجسام، خاصّة بعد استفحال الصدام بين النظام الحاكم ومرجعيّة السيّد الحكيم؛ ولهذا كان أستاذنا ينضحُ أملاً في أن يقتفي السيّد الخوئي أثر السيّد الحكيم ويكمل طريقه، الأمر الذي دفعه إلى التأكيد على الرجوع إليه، بعد أن أبرما اتفاقاً بهذا الصدد[6].
لقد كان السيّد [مرتضى] الحكمي ـ الذي أتى لاحقاً إلى إيران وشغل فيها منصب القضاء في ديوان العدالة الإداريّة ـ صهراً للسيّد الخوئي، وكان قد انخرط في ذلك الحين في مجموعة من الأعمال الثقافيّة وتصدّى لها، وكان في بداية الأمر مدرّساً في كليّة الفقه التي زرع دعائمها وشيّد بنيانها المرحوم [الشيخ محمّد رضا] المظفّر، ولكنّه ما لبث أن ترك التدريس بعد أن طرحت مرجعيّة السيّد الخوئي، والتحق بالبرّاني[7]. كان السيّد الحكمي شخصاً مثقّفاً مطّلعاً يعيش هموم عصره، وكان صاحب قلمٍ جيّد، وقد أبرم مع السيّد الصدر ومعنا اتفاقات تقضي بالسعي نحو إمضاء وكلاء السيّد الحكيم المناهضين للنظام وإقرارهم على وكالاتهم، وفي المقابل حرمان الأشخاص المرتهنين للنظام أو المشبوهين منها، وقد أبرم هذا الاتفاق إبراماً قويّاً، الأمر الذي دفع بالسيّد الصدر إلى تعليق آماله على مرجعيّة السيّد الخوئي.
ولكن سرعان ما خاب رجاء السيّد الصدر وخذلته آماله بعد أن تبيّن له أنّ الاتفاق لم يترجم على أرض الواقع، وأنّ ما يحصل يناقضه تماماً، فقد منحت وكالة المرجعيّة لأشخاص كانوا من روّاد الماركسيّة ذات يوم، أو ممّن رفعوا لواء مناهضة الدين، كما منحت في البصرة وغيرها لأشخاص مشهورين بعناوين خاصّة. ومع مرور الأيّام تكشّف لأستاذنا الشهيد أنّ جهاز السيّد الخوئي قد خرج عن نطاق السيطرة والتحكّم، واتّضح له أنّ سعة الأفق الفكري شيء وإدارة الأمور شيءٌ آخر تماماً، ولهذا لم يتمكّن السيّد الخوئي من إدارة جهازه والتحكّم به.
وإذا بالسيّد الصدر بعد هذه الحالة قد تقلّص ظلُّ أمانيه وانفضّت علاقته ببيت السيّد الخوئي وجهازه، لكن بقيت بينهما علاقة السلام وردّ السلام إذا التقيا من حينٍ لآخر.
إذن، ضعفت علاقة أستاذنا بجهاز السيّد الخوئي، فانتثر عِقدُهم وصدع البينُ شملهم، ولم يستغرق هذا التحوّل سوى سنتين من حين إبرام الاتفاق المذكور بينهما، ولم تقتصر آثار هذا التحوّل على السيّد الصدر، بل طالت حتّى السيّد الحكمي ـ [صهر السيّد الخوئي] ـ صاحب الفكر المنفتح، حيث أخرجه السيّد عباس نجل السيّد الخوئي بأسلوبٍ يجافي قواعد اللباقة، الأمر الذي دفعه إلى الانتقال إلى إيران، وهو شوشتريُّ الأصل. وفي نهاية المطاف تسلّم زمامَ مرجعيّة السيّد الخوئي أشخاصٌ لا يولون أهميّة للمسائل الجهاديّة والاجتماعيّة بل يعيشون في جوٍّ مباينٍ تماماً. هذا هو السبب الأوّل الذي وقف خلف تصدّي أستاذنا الشهيد للمرجعيّة.
ب ـ الضغط المستمر من جانب الجماهير
والسبب الآخر: عبارة عن الطلب المتزايد الذي كان يتلقّاه من الناس للتصدّي للمرجعيّة؛ ففي العراق ـ وعلى الصعيد الفكري والسياسي والاجتماعي ـ لم يكن ليُدرَكَ شأوُ الشهيد الصدر ولا ليشَقَّ غبارُه، بل قلَّ له نظيرٌ في العالم الإسلامي عموماً، فقد امتازت كتبه ومقالاته ومحاضراته بعمق عجيبٍ ولافت، الأمر الذي مدّ بينه وبين الكثيرين في داخل العراق وخارجه جسور العلاقة وأواصر التلاقي. خذوا على سبيل المثال الإيرانيّين الموجودين في الخارج الذين كانوا يتردّدون على العراق، أو مناهضي النظام الذين كان بعضهم من أرحام السيّد الصدر وأقاربه كالسيّد صادق الطباطبائي، أو من قبيل أعضاء الجمعيّات الإسلاميّة الذين كانوا يتردّدون عليه كـ[الدكتور إبراهيم] اليزدي وأمثاله، هؤلاء كانوا يذهبون إلى لبنان ويلتقون بالسيّد موسى الصدر، ويأتون إلى العراق ويلتقون به ويتأثّرون بأفكاره العلميّة والسياسيّة.
لم تكن العين تُفتح على مثله، وكان له في المجالات كافّة القدحُ المعلّى، وعليكم أن تشاهدوه في جلساته، فبمجرّد أن تتحرّك شفتاه لينهدر منهما الجواب حتى يقع السامع أسيرَ سحره وجاذبيّته ومنطقه، لقد كان شخصاً استثنائيّاً.
على كلّ حال، كان لأستاذنا درسٌ في الأصول وآخر في الفقه، وتربّى على يديه ثلّة من الطلاّب الذين كانوا يسوحون في العالم العربي ويجوبون أرجاءه، وخاصّة في العراق ولبنان، وقد أصرّ هؤلاء مع تقادم الأيّام على تقليد السيّد الصدر والرجوع إليه، وكانوا بادئ الأمر يستنسخون حاشيته على (العروة الوثقى)[8] و(منهاج الصالحين) بمئات النسخ. لقد كانت أعلميّته ثابتةً لدى الكثيرين ممّن رغبوا في تقليده، وقد جذّر لديهم هذا الشعور تلك الروحيّة العالية التي تمتّع بها إلى جانب توجّهه الثوري والحب والعاطفة الجيّاشة التي كانت تتدفّق من جنبيه.
لقد أخذت النزعة إلى تقليده بالتنامي والانتشار خاصّة في أوساط الشباب، إضافةً إلى بعض كبار العلماء المتواجدين في محافظات العراق المختلفة، من قبيل السيّد [مير] محمّد القزويني، وهو أحد الفضلاء والمجتهدين في البصرة، فقد طلب إلينا في ذلك الحين أن نوفّر له دفاتر الفقه وغيره من أبحاث السيّد الصدر، فكان يقارنها بأبحاث السيّد الخوئي التي كان كثيرٌ منها قد أبصر النور ـ من قبيل (التنقيح) ـ إلى جانب (مستمسك العروة الوثقى) للسيّد الحكيم، ولكن حيث إنّ السيّد الحكيم كان وقتئذٍ على قيد الحياة، وكان السيّد القزويني قد أرجع الناس إليه بعد ثبوت أعلميّته لديه، فقد كان يقول بأنّنا مكلّفون من الناحية الشرعيّة بالإرجاع إلى السيّد الحكيم ولا يمكننا الدعوة إلى غيره، ولكنّه أوفد إلى أستاذنا الشهيد أنجاله وعشائر البصرة عدّة مرّات. وبعد رحيل السيّد الحكيم أصبح السيّد القزويني في مرمى مضايقات البعثيّين، فغادر إلى الكويت التي كان يحمل جنسيّتها، وهناك انتقل إلى رحمة الله تعالى، ولا يزال أحد أبنائه هناك يمارس القضاء وإمامة المسجد.
وعلى كلّ حال، وكما سبق أن ذكرتُ، فقد أرسل السيّد القزويني أنجاله إلى السيّد الصدر عدّة مرّات، ولم تكن تأكيدات السيّد الصدر المبرمة على عدم تصدّيه للمرجعيّة وعلى الإرجاع إلى السيّد الخوئي لتمنعهم من الترويج له، وذلك من خلال نشرهم ما يلتقطونه من منثور مجلسه، أو من خلال استفتائه وإلجائه إلى الجواب.
هذان هما العاملان الرئيسيان اللذان دفعا السيّد الصدر إلى اتخاذ قراره المصيري بالتصدّي للمرجعيّة، حيث واجهَ من ناحيةٍ الرغبة العامّة في ذلك لدى الشعب العراقي بأطيافه المختلفة، خاصّةً الشباب وطلبة العلوم الدينيّة والمطّلعين على تفوّقه العلمي الراسخ، وهم ليسوا بقلّة. ومن ناحية أخرى واجه موقف جهاز السيّد الخوئي تجاهه. هذا علماً أنّه أقدم على خطوته هذه بكثيرٍ من التأنّي والاحتياط؛ وممّا يشهد لذلك أنّه امتنع مثلاً عن طبع حاشيته على (منهاج الصالحين) في العراق، كما أوفدني إلى لبنان من أجل طباعة أوّل تقريراته الأصوليّة بعنوان (تعارض الأدلّة الشرعيّة)، والذي يحتلّ بحسب ترتيب الدورة المجلّدَ الأخيرَ منها، وكان ذلك عام [1394هـ]، حيث ساعدنا السيّد موسى الصدر على طباعته لدى دار الكتاب اللبناني، وهي دار نشر معروفة جدّاً في لبنان وكان نشاطها يقتصر على طباعة كتب المدارس والجامعات، ولكنّ صاحب الدار ـ وهو الأستاذ حسن الزين ـ كان من مريدي السيّد موسى خصوصاً وآل الصدر عموماً، فوافق على طباعة كتابنا بعد توصية من السيّد موسى، وأخرج لنا الكتاب بحلّة قشيبة.
ثمّ إنّكم تعلمون أنّ للسيّد الصدر طلاّباً عديدين في لبنان، ومن هناك كتبتُ له لأُعلمَه بأنّ طلاّبه في لبنان يقومون باستنساخ تعليقته على (منهاج الصالحين)، وطلبتُ منه الإذن بطباعتها، إلاّ أنّه لم يمنحنا الضوء الأخضر، فتعاونت مع طلاّبه اللبنانيّين ـ ومنهم الشيخ [محمّد جعفر] شمس الدين ـ وقمنا بطباعتها في طبعتها الأولى في دار التعارف لصاحبها الحاج [حامد] عزيزي، ولكنّنا أودعنا كافّة النسخ في المستودع. وبعد عودتي إلى النجف قلت له: إنّ الكتاب قد طبع في نهاية المطاف، فأنتم لم تقولوا لنا بوضوح وصراحة بأن لا نطبعه، وقد طبعناه فضوليّاً[9]، فإن كان ذلك خلاف رغبتكم فليبقَ في المستودع إلى حين الحاجة، حيث يتمّ توزيعه للمكتبات بالتدريج. واقترحتُ عليه أن نعمد إلى توزيعه مجّاناً وأن لا نعمدَ إلى بيعه.
ما أريد قوله هو أنّ الشهيد الصدر قد وافق على موضوع الكتاب وطبعه على مضض، واشترط أن لا تُحشد له الألقاب على الغلاف، وأن يكتب عليه «السيّد محمّد باقر الصدر» مجرّداً من لقب «حجّة الإسلام» أو «آية الله»، تماماً كما حدث سابقاً مع الإمام الخميني عندما طبع الشيخ [علي] المشكيني رسالته العمليّة دون موافقته، فما كان من الإمام إلاّ أن أمرهم بشطب الألقاب التي وضعوها على الغلاف بالحبر الأسود، ولا زالت بعضُ هذه النسخ شاهدة على ذلك حتّى اليوم.
خلاصة الكلام: إنّ الحاجة إلى مرجعيّته تفاقمت مع الأيّام، خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار التمايز المتزايد الذي سجّله على الصعيد السياسي والاجتماعي والنضالي مقارنةً بمرجعيّة السيّد الخوئي، الأمر الذي صيّره قبلةً يؤمّها الناس، فحمل نفسه على مكروهها وقبل بالمرجعيّة بكثيرٍ من الاحتياط.
مرجعية السيد الصدر بين الشباب والجامعات وبين الحوزات العلمية
يعتقد بعض طلاّب الشهيد الصدر ومقرّبيه أنّ مرجعيّته لاقت إقبالاً في أوساط شباب الجامعات وناشئة الحوزة العلميّة، وبالخصوص من قبل الطلبة اللبنانيّين وعشائر العراق، بينما لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى الحوزة العلميّة التي لم تعبأ بهذه المرجعيّة كثيراً ولم تتفاعل معها؛ وذلك ـ وبحسب تحليل بعض المطّلعين ـ بسبب تخييم عامل الحسد. كيف تنظرون أنتم إلى هذه المسألة؟
إنّ أكثر الذين تفاعلوا مع مرجعيّته وأقبلوا عليها كانوا من الطلاّب العرب واللبنانيّين، أضيفوا إليهم مجموعة من الطلاّب الإيرانيّين الذين تمّ تسفيرهم إلى إيران في أحداث التسفير المعروفة. لم يكن مقامه العلمي الرفيع إلى حين تصدّيه للمرجعيّة محلَّ خلافٍ ونزاع، وكان الإيرانيّون يشكّلون أعلى نسبة من طلاّبه، وكان الأشخاص الذين حرموا من حضور درسه مراعاةً للنظام البعثي الحسّاسِ تجاهه ـ حيث كان وضعه في علاقته مع النظام البعثي شبيهاً بوضع المرحوم السيّد الحكيم ـ يتجرّعون غصص الندم ويعضّون أناملهم أسفاً. أضيفوا إلى ذلك المسائل المتعلّقة بحزب الدعوة والتنظيم، فقد كانت هذه المسائل برمّتها تثير الحساسيّة والترقّب في نفوس الطلاّب. ولكن مع ذلك، وكما سبق وأن أشرت، فإنّ غالبيّة طلاّبه كانت من الإيرانيّين، وكانوا كذلك الأوفر حظّاً في الفضيلة العلميّة، ولم يكن بين اللبنانيّين من يضاهيهم فضلاً، وكان بنفسه يولي الإيرانيّين مزيداً من الأهميّة.
بعد ذلك، برزت مسألة التصدّي للمرجعيّة وطرح الرسالة العمليّة، وذلك تزامناً مع بلوغ درجة الحساسيّة بين جهاز السيّد الخوئي وجهاز الإمام الخميني درجاتها العُلى، خاصّةً أنّ عدداً كبيراً من الطلاّب الإيرانيّين لم يصادقوا على تقدّم السيّد الخوئي على الإمام في ميزان الأعلميّة، وقد شكّلت هذه المسألة في الحقيقة أولى بوادر الافتراق التي سعى السيّد الصدر إلى حلّها وتمييعها من خلال تردّده على الإمام، وترحيبه بدرس ولاية الفقيه، وتوصيته بكتاب [الحكومة الإسلاميّة] الذي كان يمدحه كثيراً ويعتبره نقطة تحوّل في مسار المرجعيّة. وعلى كلّ حال، فقد حاول الشهيد الصدر أن يجبر الكسر ويرتق الفتق من خلال لقاءاته وأحاديثه مع الذين كانوا يتردّدون عليه.
وعلى صعيدٍ آخر، وبعد أن تبلور الجهاز التقليدي للسيّد الخوئي ـ الذي لم يكن متماهياً مع مشروع مقارعة النظام بهذا النحو ـ تجذّرت أسباب الشقاق ووصل الأمر إلى منعطف طرق، وقد جعل ذلك الحوزةَ تنأى عن الشهيد الصدر يوماً بعد يوم. إلاّ أنّ خلاف الطرفين معه لم يكن لينسحب على الاعتراف بمستواه العلمي والفقهي والفكري، ولكنّ السؤال الذي أثير مثلاً لدى جهاز السيّد الخوئي كان يتمحور حول السرّ في تبدّل موقفه، وأنّه لماذا لا يُرجع اليوم إلى السيّد الخوئي بعد أن كان بالأمس قد دعا الجميع إلى تقليده؟ ولهذا اتّسم تعاطي جهاز السيّد الخوئي معه بالشدّة، وقد اجتمع السيّد [جلال] فقيه إيماني ـ صهر السيّد الخوئي الذي كانت إدارة الجهاز بيده، والذي يصارع اليوم المرض ـ بالسيّد الصدر وعقد معه اجتماعاً مطوّلاً حول هذا الموضوع وطرح عليه هذا التساؤل.
ولكن قبل ذلك دعوني أذكر لكم أنّ السيّد [جلال] فقيه إيماني إصفهانيُّ الأصل، وهو شقيق السيّد كمال الذي كان وكيلاً للإمام الخميني، بينما كان السيّد جلال وكيلاً وصهراً للسيّد الخوئي، وكان في أيّام الدراسة رفيقاً للسيّد الصدر، ولذلك تلقّى السيّد الصدر منه عتاباً شديداً على ما آل إليه موقفه، خاصّةً مع متانة علاقته بالسيّد الخوئي، ومع أخذ موقفه السابق بعين الاعتبار.
وهنا لا يفوتني ذكر حادثة ظريفة كان يذكرها لنا السيّد الصدر، حيث قال: عند مجيء السيّد جلال من إيران واستقراره في النجف لم يكن متزوّجاً، وقد التحق بدرس المرحوم الشيخ حسين الحلّي، وكان الشيخ حسن والشيخ سعيد وبعض الطلاّب الإيرانيّين الذين يحضرون درس السيّد الخوئي يحضرون في درسه أيضاً، وكان الشيخ الحلّي من طلاّب الميرزا النائيني، وكان عالماً فاضلاً زاهداً عابداً، ينأى بنفسه عن الادعاءات، وكان على علاقة خاصّة بالإيرانيّين ويلقي دروسه بالفارسيّة على غرار أستاذه النائيني، وكان درسه قبل مجيء الإمام إلى النجف يلي درس السيّد الخوئي من حيث الأهميّة، إلى أن افتتح الإمام درسه واستقطب إليه الطلاّب. إذاً إلى ذلك الحين كان درس الشيخ الحلّي من الدروس المهمّة التي يحضرها فضلاء الطلاّب. في البدايات التحق السيّد جلال بدرس السيّد الخوئي، ولم تمضِ بضعة دروس حتّى تركه، وعندما سأله السيّد الصدر عن السبب أجابه بأنّ الشيخ الحلّي أدقّ وأفضل، فاقترح عليه السيّد الصدر أن يحضر الدرسين معاً، ولكنّه أجاب بأنّه يكتفي بحضور درس الشيخ الحلّي. وبعد مدّة لاح في الأفق موضوع مصاهرته للسيّد الخوئي، وبعد أن تمّت المصاهرة رجع إلى الدرس، وترك درس الشيخ الحلّي. هنا يقول السيّد الصدر إنّه قال ذات مرّة للسيّد جلال ممازحاً: «لقد اتّضح لنا الآن أنّ أحد أدلّة الأعلميّة هو المصاهرة، ما برحنا ندعوك إلى درس الخوئي فلم تستجب، ولمّا صاهرته أتيت».
نرجع إلى صلب الموضوع: ما أردت قوله هو أنّ السيّد جلال كان شديد الحساسيّة تجاه تبدّل موقف السيّد الصدر، وكان يسأله عن سبب ذلك، وقد قدّم له السيّد الصدر مجموعة من الأجوبة.
لقد كان موقف الحوزة من السيّد الصدر موقفاً سياسيّاً ولم يكن مبدئيّاً، وكان الطلاّب الإيرانيّون يتخوّفون على أنفسهم من التسفير، وقد حصل ذلك بالفعل لمرّتين أو ثلاث مرّات. أذكر بهذا الصدد السيّد [محمّد باقر] السلطاني [الطباطبائي] عديل السيّد الصدر، والذي كان قد عزم على الاستقرار في النجف، وقد تكبّد السيّد الصدر عناءً بالغاً في سبيل تأمين مسكن له. في إحدى الليالي شنّ البعثيّون حملة من الاعتقالات بين النجف وكربلاء وتمّ إرسال المعتقلين إلى الحدود، ولم يمضِ أسبوع واحد على سكنى السيّد سلطاني وعائلته في منزله الجديد الذي أحسن تجهيزه حتى عدل عن قراره بالاستقرار حذراً من اعتقاله أو اعتقال أحد من أفراد أسرته من قبل البعثيّين الذين وصفهم بالمجرمين، فعاد أدراجه إلى إيران باعتبار أنّ العراق ليس مكاناً مناسباً للاستقرار.
هكذا كان الوضع في النجف، وقد أفاد هؤلاء بشدّة من قضيّة التسفير، فقد كانوا يضغطون من خلالها على الطلاّب، محذّرين إيّاهم من أنّ من حضور درس فلان[10] عاقبته الاعتقال، وذلك بسبب حالة الصدام القائمة بينه وبين النظام الحاكم، فقد كانوا يعترفون له بالدقّة العالية والفضيلة الواسعة، إلاّ أنّه على أيّ حال رجل سياسة، وكان التدخّل في الشأن السياسي في بيئة الحوزة التقليديّة أمراً غريباً وغير مألوف، وعلى وجه الخصوص بين الطلاّب الإيرانيّين من غير المحسوبين على خطّ الإمام، حيث كانوا يتحسّسون للغاية من هذه الظاهرة، ويعتبرونها لا تنسجم مع شأن الحوزة، وكان الاعتقاد في ذلك الحين بانفصال الدين عن السياسة أمراً عاديّاً، وخاصّة كيان الحوزة الذي ينبغي ـ بنظرهم ـ أن ينأى بنفسه وبشدّة عن ميادين العمل السياسي.
لقد كان هؤلاء يستفيدون من الجو السائد لِلَيِّ ذراع السيّد الصدر، ولكنّ سياستهم هذه لم تؤتِ أكلها مع الطلاّب اللبنانيّين لكونهم متورّطين أساساً، ناهيك عن طبقة الشباب الذين كانوا مؤمنين بمشروع النهضة والنضال. لقد كان السيّد الصدر يملك أهليّة عظيمة لتولّي زمام المرجعيّة، فقد كان صاحب مَلَكَة فقهيّة راسخة وضاربة في الأرض، إلى جانب ثقافة فكريّة مترامية الأطراف، وقد اجتمعت فيه العديد من الإمكانيّات والطاقات. وإذا نظرت إلى المرحوم الشهيد مرتضى المطهّري مثلاً، لوجدت أنّه صاحب رأي في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع، وكان الشهيد الصدر يكنّ له احتراماً خاصّاً، إلاّ أنّه لم يخلّف في الفقه كتاباً ولم يربِّ فيه تلميذاً، بينما نجد أنّ آثار الشهيد الصدر الفقهيّة مرجعٌ لأهل الرأي والفن، حتّى أنّ فضلاء الطلبة في قم يعتبرون الآن أنّ الدرس الذي لا يأخذ نظريّات الشهيد الصدر بعين الاعتبار ليس درساً كاملاً، وقد بدأت تقريراته وأبحاثه تحتلُّ اليوم مكانتها في الحوزة، وقد بدأت آراؤه الأصوليّة تشقُّ طريقها في دروس أساتذة الحوزة وفضلائها في قم، والذين بدأوا في الفترة الأخيرة يحتلّون كراسي التدريس بدل الطبقة الأولى المتقدّمة في السن.
فلو كان أفاضل طلاّب الميرزا جواد التبريزي مثلاً يهملون آراء السيّد الصدر ولا يتعرّضون لها لما احتشد حولهم الطلاّب، ولطولبوا بالتعرّض للآراء الجديدة وعدم إهمال نظريّاته، تماماً كما هي الحال مع السيّد الخوئي مثلاً في الفقه والرجال؛ فلو أنّ أحدهم أراد التحقيق في علم الرجال ـ الذي كان للسيّد الخوئي فيه يدُ تحقيق ونظر ـ ولم يأخذ بعين الاعتبار (معجم رجال الحديث) لسئل عن سبب هذا الإهمال. وكذلك الأمر في الفقه، فلو أنّ أحدهم أراد تدريس الفقه ولم يتعرّض لشرح السيّد الخوئي على (العروة الوثقى) لأثار ذلك التساؤل نفسه. وهذا ما حصل مع السيّد الصدر بالنسبة إلى أبحاثه الأصوليّة التي صدر منها دورة كاملة، حيث كان قد درّس دورتين. وقلنا: «الأصوليّة» لأنّه لم يخلّف من الآثار الفقهيّة سوى ثلاثة أو أربعة مجلّدات في باب الطهارة.
على كلّ حال، لقد كان السيّد الصدر ملتقىً للعديد من الخصال والمزايا، وكان ذلك ليشكّل أرضيّة ملائمة جدّاً ليكون مرشّحَ الحوزات العلميّة في التصدّي لأمور المرجعيّة، إلاّ أنّ الأوضاع السياسيّة التي عصفت به غيّرت مجرى سفنه، ونحن في الوقت الذي تختلجنا فيه أعظم مشاعر الأسى لفقدانه من ساحات العلم والمعرفة، نحتسبه عند الله تعالى الذي قدّر له أن يسلك سبيل الجهاد والإيثار، وقد انتهى به المطاف بنيل مقام الشهادة الرفيع.
السيد الصدر والإمام الخميني، العلاقات والمشتركات
من الواضح أنّنا إذا قيّمنا الشهيد الصدر وفق قناعاته الاجتماعيّة والسياسيّة، فسنجده أقرب فكريّاً إلى خطّ الإمام الخميني منه إلى أساتذته ورفاقه السابقين، وهذا ما يدعو إلى التريّث لدى تقييم الأشخاص وعدم سحب قناعات ومواقف أساتذتهم عليهم، هل لديكم من خواطر تدلون بها حول بداية تقارب السيّد مع الإمام؟
لقد كنت على الصعيد الشخصي شديد التوق إلى تعميق التقارب وتجذيره بين أستاذنا الشهيد وبين الإمام، فقد بدا لي واضحاً من أوّل الأمر أنّ مدّ جسور هذا التقارب سيكون في صالح الاثنين معاً. ولمّا أرجع السيّد الصدر في التقليد إلى السيّد الخوئي كنتُ من أشدّ المعترضين على هذه الخطوة التي لم يستشرني فيها، ولو فعل لحاولتُ صرفه عنها.
إذن، لم تكونوا على علمٍ بها؟
بالضبط، فقد أتى أحد الأشخاص من لبنان ليأخذ بيان السيّد الصدر حول الموضوع ويعود، وهو أخو الشيخ شمس الدين.
كلامكم هذا من الأهميّة بمكان..
نعم، اطلعتُ على البيان بعد انتشاره، فسألت أستاذنا عمّا دعاه إلى الإقدام على هذه الخطوة، فأجاب بأنّ السيّد الخوئي أستاذه وأنّه رأى أنّ الحفاظ على وحدة الكلمة في الدول العربيّة يقتضي الإرجاع إليه، ولكنّني أجبته بأنّه لم يكن هناك مصلحة في هذه الخطوة، إضافةً إلى أنّ الاتجاه الذي سينحوه جهاز السيّد الخوئي لم يكن متبلوراً بعد، وأقصد من كلامي حاشيته، وإلاّ فإنّ السيّد الخوئي نفسه شخص عظيم، ونحن لسنا بصدد التعريض كثيراً بالمراجع.
وكما ذكرتم في كلامكم، فإنّ السيّد الصدر كان شديد القرب من الإمام، وكان الإمام بدوره ـ في البدايات وفي حياة السيّد الحكيم ـ يحيل مناهضي نظام الشاه الذين كانوا يتوافدون عليه من أوروبا وغيرها من المناطق على السيّد الصدر، وأذكر أنّنا كنّا كثيراً ما نشارك في جلسات السيّد الصدر التي يعقدها عند وفود السيّد صادق الطباطبائي من ألمانيا، فقد كان السيّد صادق ينزل في بيته باعتباره من محارم زوجته، فالسيّد الصدر زوج خالته، وذات مرّة نقل لي السيّد صادق أنّهم استعرضوا أمام الإمام وضع المسائل والقضايا الإسلاميّة التي يقومون بطرحها وأنّها استنفذت مداها، وطلبوا منه إحالتهم إلى شخصٍ يمكنهم الرجوع إليه في هذا المجال من أجل الاستمرار في هذا الاتجاه، فما كان من الإمام إلاّ أن أحالهم ـ ولمرّتين ـ على السيّد الصدر وطلب منهم الإفادة منه.
لقد كان الإمام يعقد عليه الآمال، إلاّ أنّ الحوادث التي أعقبت وفاة السيّد الحكيم وإرجاع السيّد الصدر إلى السيّد الخوئي قلبت الأمور رأساً على عقب، وقد فاقم الأمور ما جرى في لبنان من تصنيف السيّد موسى الصدر للإمام الخميني بعد السيّد الخوئي. وقد أثارت هاتان الخطوتان من السيّدين الصدرين حفيظة الكثيرين، والحقُّ معهم في عدم تقبّل ذلك؛ لأنّ السيّدين انطلقا من منطلق علاقة التلميذ بأستاذه ورفاقه. وممّا ساعد على إبهام الأمور الانطباعُ الذي كان يحمله السيّد الصدر حول السيّد الخوئي وكونه منفتحاً من الناحية الفكريّة، فقد سبق أن ذكرت أنّ من يجالسه يستهويه كلامه حول لزوم تشكيل الحكومة الإسلاميّة وإقامة الحدود، حتّى أنّه أفتى بعدم اختصاص إقامة الحدود بزمان المعصوم وحضوره، وأنّ المسألة من بديهيّات الإسلام التي ينبغي إقامتها في كلّ زمان.
إنّ هذا الفكر المنفتح كان يجعل السامع يعتقد بأنّه وبمجرّد أن تذعن المرجعيّة له رقبتها فسيعمل على إقامة الحكومة الإسلاميّة. وممّا عزّز هذه القناعة أنّه كان قد أفتى بكفر الشاه وعدم شرعيّة الحكومات الفعليّة التي اعتبر أموالها مجهولة المالك وأنّ ملكيّتها لها فاقدة للشرعيّة. والذي يعلن على الملأ وبكل شفافية فتاوى من هذا القبيل من الطبيعي أن تعقد عليه الآمال بأنّه وبمجرّد أن يستلم زمام المرجعيّة فسيعمل على إقامة الحكومة الإسلاميّة، والحال أنّ الذي حصل هو خلاف ذلك تماماً، فتلقّى السيّد الصدر ضربة قاصمة حيث أُسقط بيده وخابت آماله، خاصّةً وأنّ السيّد الخوئي لم يملأ حتى الفراغ الذي خلّفه رحيل السيّد الحكيم على صعيد التصدّي الاجتماعي.
وممّا زاد في الطين بلّة ما تعرّض له الإيرانيّون من حملات تسفير شنّها النظام البعثي، حيث كان أكثر طلاّب السيّد الصدر منهم فتلقّى ضربةً موجعة، ولم يعد ترميم الوضع بالأمر الهيّن على الإطلاق. ثمّ توالت الأحداث وتراكمت القضايا التي فاقمت الأمور وراحت تزيدها تعقيداً يوماً بعد آخر. أذكر على سبيل المثال حملات التسفير التي شنّها النظام البعثي ضدّ الإيرانيّين، والتي تزامنت مع سفر السيّد الخوئي إلى بريطانيا [لندن]، الأمر الذي أزعج السيّد الصدر كثيراً، وعندما زاره في بغداد [قبل سفره إلى لندن] طالبه بمبرّر سفره في هذا الظرف، وذكر له أنّ مكتبه في النجف قد أعلن أنّ من أراد السفر فليسافر، وأنّ نتيجة هذا التدبير ستكون زوال الحوزة. فطلب منه السيّد الخوئي أن يرجع أدراجه إلى النجف وينقل عنه عدم رضاه بسفر أيٍّ من الطلاّب، فرجع السيّد الصدر إلى النجف معلناً عن موقف السيّد الخوئي، ولم يطلع صباح اليوم التالي حتّى كذّب مكتب السيّد الخوئي ذلك، حيث قال السيّد جمال [الخوئي]: إنّ هذا الكلام لم يصدر من والده.
والنتيجة أنّ السيّد الخوئي سافر إلى بريطانيا [لندن]، ولولا وقوف الإمام الخميني والمرحوم السيّد محمود الشاهرودي وثبات موقفهما لزالت الحوزة، ولكن مع ذلك فقد هاجر الكثيرون إلى قم، وكان فضلاء الحوزة العلميّة في النجف من الإيرانيّين، وقلّما تجد فيها فاضلاً عربيّاً، أمّا اللبنانيّون فقد كان عددهم محدوداً؛ إذن لقد برزت قضيّة التسفير من ناحية، وملابسات الحوزة من ناحية أخرى.
هل تحتفظون بذكريات ترتبط بعلاقة المرحوم السيّد الصدر بالإمام الخميني؟
لقد كان تواصل السيّد الصدر مع الإمام يتمّ عبر طريقين اثنين: أحدهما عبر المرحوم السيّد أحمد الخميني الذي كان يحضر درس السيّد الصدر. والآخر من خلال الوافدين عليه من الخارج ومن خلال الطلاّب الذين كانوا على علاقة به، خذوا على سبيل المثال السيّد [محمود] دعائي الذي لعب دوراً لا يُستهانُ به في هذا المجال، وكان على تواصل مع الجمعيّات الإسلاميّة ومع أطراف عديدة خارج البلد.
هكذا كان حالهما في الجانب السياسي والاجتماعي. وكان السيّد الصدر يستغلُّ أدنى مناسبة لزيارة الإمام، وقد رافقته لمرّات عديدة في زياراته تلك، وكان الإمام في المقابل يكنّ له احتراماً بالغاً، خاصّة في الفترة الأخيرة من إقامته في النجف عندما ضرب عليه الحصار ووضع تحت المراقبة، فقد كان السيّد الصدر الشخص الوحيد الذي كسر طوق الحصار وأقدم على زيارته وتفقّده، وفي ذلك الظرف لم يجرؤ أحدٌ على فعل ذلك؛ فالجميع قد تخاذلت أرجلهم من الفَرَق ونَزَت قلوبهم من الخوف. وفي اليوم التالي قصد الإمامُ الحدودَ العراقيّة الكويتيّة، وفي اليوم الذي يليه سافر إلى باريس.
في الأيّام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة من إقامة الإمام في النجف وضع النظام البعثي منزل الإمام ومحيطه تحت السيطرة والمراقبة، وقبل ذهابه إلى الحدود الكويتيّة بقي لما يقرب من أسبوعٍ محاصراً في منزله، وكان السيّد الصدر ـ كما قلت ـ هو الشخص الوحيد الذي أقدم على زيارته وأحجم عن ذلك الجميع، من عربٍ وغيرهم. علماً بأنّ تعاطي السيّد الصدر مع الإمام كان على هذا النحو منذ السابق، ففي حادثة وفاة المرحوم الحاج السيّد مصطفى الخميني ذهب السيّد الصدر للقاء الإمام ما يقرب من أربع مرّات، وكان الإمام يُقابله بكثيرٍ من اللطف.
الخلاصة أنّ الأمور كانت تسير في الفترة الأخيرة نحو التحسّن والتعافي، ولكنّ الوقت كان قد تأخّر بمعنى أنّ الفرصة كانت ضيّقة جدّاً لذلك، فقد واجه الإمام في تلك الفترة قضايا إيران والغليان الذي عاشه الشارع الإيراني، إضافةً إلى ما يرتبط بالبعثيّين الذين أعدموا من أعدموا، فقد كانوا خشني الجانب ولا عهد لهم بالرقّة. يُذكر هنا أنّه في بداية الأمر كان السيّد مصطفى الخميني يكنّ للسيّد الصدر معزّة خاصّة، ولكنّ إرجاع الأخير إلى السيّد الخوئي بعد وفاة السيّد الحكيم قد عكّر صفو هذه العلاقة إلى حدٍّ ما، وكذلك الأمر بالنسبة إلى علاقة السيّد مصطفى بالسيّد موسى الصدر. ولكنّنا حاولنا تليين الموقف من خلال التردّد عليهم وشرح الموقف بوصفه جزءاً قد ولّى من التاريخ. والذي يبعث على الأسى أنّ المصائب كانت تتوالى الواحدة تلو الأخرى، بحيث لا تدع للإنسان مجالاً للتفكير والتخطيط، فتارةً يسفّر طلاّب السيّد الصدر، وأخرى طلاّب الإمام، وهكذا.
أذكر الآن الميرزا جواد التبريزي الذي اعتقلوه وهو في طريق كربلاء واحتجزوه لليلةٍ في خان النصف بين النجف وكربلاء، وهو الخان الذي أنشأ في عهد [الوالي العثماني سليمان عام 1774م]، حيث لا يوجد أيّةُ غرفة أو شيء آخر، سوى أسقف مظلِّلة، ثمّ وضعوا أمامه حفنةً من التمر المجفّف. لقد كان هذا الوضع صعباً على الميرزا جواد والميرزا كاظم التبريزي والسيّد [أبو القاسم] الكوكبي وغيرهم ممّن رحل إلى إيران، والتي استقبلت شريحة واسعة من زعماء الحوزة. وبهذا استطاع صدّام أن يقضي على حوزة النجف ويُخليها من الفضلاء والعلماء؛ فلم يبقَ من الإيرانيّين سوى عدد قليل، أمّا أكابر العرب واللبنانيّين فبين راحلٍ وسجين. نعم، بقي فيها مجموعة من البعثيّين.
لقد تلقّت الحوزة من صدّام ضربة قاصمة لم تتعافَ منها حتّى يومنا هذا. واليوم وبعد مرور أربع أو خمس سنوات على زوال حكم صدّام قد يتحدّث القادم من هناك عن وجود حوزة في ذلك البلد، ولكنّ الحقيقة أنّه لا وجود لحوزةٍ هناك، فقد استأصلها صدّام من جذورها وأتى على أساسها.
هل كان السيد الصدر يريد الخروج من العراق حقاً؟!
يعتبر إيفادكم إلى إيران مظهراً من مظاهر عزم السيّد الصدر على ترميم علاقته بالإمام، أليس كذلك؟
دعونا هنا لا ننسى الرسالة التي وجّهها السيّد الصدر إلى الإمام عندما كان في (نوفل لو شاتو)، فقد كانت رسالةً عظيمةً وهي في الواقع تحكي عن عظمة هذه الثورة[11].
هل لديكم ذكريات تتعلّق بكم حول مجيئكم إلى إيران وأحاديثكم مع السيّد الصدر بهذا الصدد وفي المرحلة التي انتُدبتم فيها لتمثيله هنا في إيران؟
أذكر أنّه في مساء اليوم الذي ولّى فيه الشاه هارباً لم يلقِ درسه المعتاد، فقد كان يطفر من الفرح ويميد بعطفيه السرور، وبدأ حديثه بكلامٍ رائع وأسلوبٍ ساحر.
لقد كان يتمتّع بأدبيّات راقية، صحيح؟
بالفعل، لقد كان عجيباً جدّاً؛ فقد كان بيانُه طوعَ لسانه وقلمُه أسيرَ بنانه، وقد قال في تلك اللحظة بعد البسملة: «اليوم تحقّقت آمال الأنبياء»، فقد استنشى في هذا الحدث نسيم الأمل. وبعد أن قامت التظاهرات عقيب تلك الأحداث قلت له: إنّ المنطقة ستشهد تحوّلاً ومنعطفاً مصيريّاً بسبب الأوضاع الأخيرة، ومن المؤكّد أنّ صدّام حسين لن يدعكم تتفيّؤون ظلال الراحة وتتقلّبون بين أعطاف الدعة، بعد أن شاهد بأم عينه سقوط نظام الشاه وعدم نجاحه في الحفاظ على ملكه، ولذا فلابدّ أن تخرجوا من العراق بأيّ شكلٍ من الأشكال، فكان رأيه أن أذهب أنا في الوقت الراهن.
إلى أين؟
إلى بغداد، فقد أخذت من النجف إلى بغداد حيث تواريت عن الأنظار، وبسبب معرفتي بحقيقة البعثيّين ومدى وحشيّتهم وكونهم جرثومة الفساد قلت للسيّد الصدر بأنّهم سينغّصون عليه عيشه؛ لأنّهم كانوا يستهدفون القضاء على من كان خلف الأحداث الأخيرة التي جرت في العراق، الذي هو السيّد الصدر. ولهذا السبب سارعتُ بالرحيل بمجرّد أن اشتعل فتيل الأمور، كما أنّ السيّد الصدر نفسه أوعز لي بذلك، وقال لي بأنّنا سنبحث لاحقاً من خلال تواصلنا كيف يمكن أن يخرج هو من العراق. فالسيّد الصدر لم يكن في الواقع يرفض فكرة الخروج؛ لأنّ الأوضاع كانت في غاية الخطورة.
هذا يعني أنّه كان يرغب في الخروج؟
نعم، كانت لديه رغبة في الخروج في أوائل الأمر، وقد طلب منّي الخروج والتواصل معه لنر إلى أين ستقودنا الأمور. بالمناسبة، لو كنتُ قد أخّرت سفري لأسبوع واحد لاحتضنتني جدران المعتقل، ولكنّي سافرت إلى الكويت، ومنها إلى إيران، وربّما كان ذلك في أوائل (فروردين) من العام 1358هـ.ش [آذار/1979م]؛ لأنّني شاركت في انتخابات الجمهوريّة الإسلاميّة، وكان الإمام في ذلك الحين في قم فزرته هناك وقد استغرب من وجودي.
استعرضتُ أمام الإمام الخميني أوضاع العراق وما آلت إليه الأمور، وذكرتُ له أنّ الخطر محدق بالسيّد الصدر، وأنّ البعثيّين سيقتلونه، ولكنّه كان يرى أنّهم لا يتورّطون في إعدام مرجع، والحرب العراقيّة الإيرانيّة لم تكن قد بدأت بعد، فلم يكن واضحاً لدى الإمام مدى إجرام صدّام حسين، ولذلك قال: إنّ من البعيد أن يقدموا على هذه الخطوة.
الحلقة المهمّة هي أنّه من قال للإمام بأنّ السيّد الصدر عازمٌ على الهجرة إلى إيران؟
يبدو أنّ وكالة الأنباء الإيرانيّة (فارس) كانت أوّل من أعلن الخبر وطيّرت ذكرَه في الآفاق، ثمّ تناقلته بعضُ الصحف، وقد أدّى ذلك إلى شيوع الخبر وانتشاره.
نطرح هذا السؤال لأنّه قيل: إنّ السيّد الصدر لم يكن عازماً على الهجرة في بادئ الأمر.
هذا صحيح؛ فإنّ مجيء السيّد الصدر لم يكن متداولاً في البداية، وقد تمّ إفشاؤه هنا، ولستُ أدري ما الذي سبّب ذلك؟! في ذلك الحين كان السيّد محمود دعائي سفيرَ إيران في بغداد، وكان على ارتباطٍ غير مباشر بالسيّد الصدر، فأتاني وطلب منّي صورةً للسيّد الصدر، فسألته عن الأمر فقال: إنّه يريد أن يُصدر له جواز سفر إيراني، وأنّ إدخاله إلى إيران أمرٌ ممكن، فأعطيته الصورة وتمّ إصدار الجواز.
في العراق كان النظام يحمّل السيّد الصدر مسؤوليّة كلّ ما يجري، ولم يكن السيّد الصدر في المقابل مكتوفَ اليدين، فمن دعمه الثورةَ الإسلاميّة في إيران مروراً بتطيير الرسائل الرسميّة ـ من قبيل رسالته إلى الشيخ الخاقاني ـ وصولاً إلى إقامة الفاتحة للشهيد مرتضى المطهّري، إلى غير ذلك من الأعمال… لقد كان الوحيد الذي أقام للشيخ المطهّري مجلساً في النجف، كما أنّه وقف بنفسه ليتقبّل التعازي. وقد اعتبرت السلطة هذه الأعمال بمثابة التحدّي لها، وقد حاول بعض أصدقائه ومريديه أن يزيلوه عن خوض المعركة ويثنوه عنها، وكنتُ منهم، وكان هذا رأي الخواص. ولستُ أدري كيف شاع أمر خروجه عبر وكالة الأنباء والصحف، وقد اطّلع الإمام على ذلك وكتب في ذلك [رسالته المعروفة]، معتقداً أنّ البعثيّين لن يقدموا على قتله.
بعد انتشار الخبر وشيوعه ازداد حنق البعثيّين على السيّد الصدر، وكان مأمولاً أن يُساهم هذا الحنق في الحفاظ على حياته، ولكنَّ الأمور اتخذت مساراً مغايراً تماماً. وبعد نشوب الحرب العراقيّة الإيرانيّة اتّضح بشكل كامل أنّ صدام حسين لن يتلكّأ في إبادة شعبه من أجل الحفاظ على كرسيّه ومنصبه، ولم يكن ليراعي ما يقف وراء هذه الآمال والتعويلات ويأخذه بعين الاعتبار.
عندما كنتم في إيران: إلى أيّ حدٍّ تمكّنتم من التواصل مع السيّد الصدر؟
لقد تمّ ذلك كثيراً؛ إذ كنتُ قد أحضرت إلى منزلي هاتفاً، وكان هناك هاتفٌ في الطرف المقابل في أحد البيوت غير المعروفة في النجف الأشرف، فكنّا نتّصل بذلك المنزل ونتحدّث معهم بشكل مباشر، وقد استمرّ تواصلنا عبر هذا الطريق إلى حين ضرب الحصار على بيت السيّد الصدر، وبعدها انقطع. كما أنّني أرسلتُ عائلتي إلى النجف مرّتين أو ثلاث قبل نشوب الحرب، ورجعت حاملةً لنا الرسائل. لقد كانت هذه الأعمال محفوفة بالأخطار، ولكنّنا كنّا نقدِم عليها.
نريد الآن أن نستفسر في سؤالنا الأخير عن الرسالة الأخيرة غير المنشورة التي تلقيتموها من السيّد الصدر، والتي أشبه ما تكون بالوصيّة؟ هل لديكم ما تتفضّلون به في هذا الشأن؟
الواقع أنّها لم تكن وصيّة، بل هي شبيهة بالنداءات الثلاثة التي سجّلها السيّد الصدر مخاطباً فيها عامّة الشعب، ولكنّ النداءات كانت عامّة بينما خصّ بهذه الرسالة خواصّه وطلاّبه، وقد ذكر فيها أنّه يستبعد أن يدعه البعثيّون على قيد الحياة، وأنّه مصمّمٌ على الشهادة. لقد كان السيّد الصدر قد تعرّض سابقاً ضمن أبحاثه التاريخيّة عن كربلاء إلى نظريّة (الشهيد الخالد) ورفضها، وتبنّى نظريّة أخرى كان بنفسه أحدَ مصاديقها، وقد ظهر له مؤخّراً أنّه سيتوجّب عليه أن يفعل ما فعله [الإمام الحسين(ع)]، وإلى جانبه أخته المظلومة [بنت الهدى]، وقد قسم الله تعالى ذلك وقدّره له. وفي هذه الرسالة ذكر بعض الأمور من قبيل: من هم الأشخاص الذين ينبغي علينا مداراتهم، ومن هم الذين ينبغي علينا الاستفادة منهم، وماذا علينا أن نفعل… وطابع الرسالة كما وجدته شخصيٌّ لا يصحُّ نشره، وأنا شخصيّاً لا أؤيّد تداول ما يرتبط بالسيّد الصدر بحيث يُستفاد منه في المصالح الشخصيّة، وهذه الرسالة من هذا القبيل، ووضعها شبيهٌ بإجازة الاجتهاد التي منحني إيّاها الأستاذ، وهي إجازة الاجتهاد الخطيّة اليتيمة التي صدرت عنه، ولكنّني لم أشأ يوماً أن تنشر، ولكن قبل خمس سنوات أراد أحد الأشخاص الاطلاع عليها، فأخذها دون علمي وقدّمها لمؤتمر الشهيد الصدر الذي قام بدوره بنشرها. وكان السيّد [كاظم] الحائري قد طلب منّي ـ قبل سبع أو ثماني سنوات ـ الاطلاع عليها أثناء إعداده مقدّمة المجلّد الأوّل من كتابه (مباحث الأصول) والتي خصّصها للحديث عن السيّد الصدر، فأطلعته عليها، ثمّ وجدتُ أنّه قد أشار إليها في موضعٍ من الكتاب.
أنا لا أحبّذ نشر ما يتعلّق بي من أمور لأستفيد منه في الدعاية الشخصيّة، ولا أوافق على ما يقوم به بعضهم من نشر رسائلهم الشخصيّة.
عندما استُئذِن السيّد الصدر في ترجمة كتاب (فلسفتنا) تمّت الإحالة إليكم باعتبار أنّه يكفي مصادقتكم على الترجمة..
هذه الأمور يكثر نظيرها، ولكنّ فداحة الخسارة التي منينا بها بفقدان السيّد الصدر تخلّف في المرء مسّاً أليماً ومضّاً موجِعاً وكمداً باطناً، وتجعل لسانه كلاًّ عن الحديث عنه.
الهوامش
(*) فقيه بارز في إيران، ومن أبرز تلامذة السيد الصدر، رئيس السلطة القضائية في إيران، وقد نشر الحوار في مجلّة (شاهد ياران) العدد (18) ارديبهشت 1386ش/2007م.
[1] يُشار إلى أنّ السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي من مواليد 6/9/1948م، وما سيأتي في المتن بين عضادتين [ ] إضافةً إلى كافّة هوامش المقال من المترجم (المترجم)، أمّا العناوين الفرعية فهي من التحرير.
[2] وهو التقرير المعروف بـ (دراسات في علم الأصول).
[3] يكتب السيّد الصدر إلى السيّد محمّد الغروي: «وأمّا محاضراتنا حول الأئمّة فلا ينبغي أن تطبع الآن؛ لأنّ في نيّتي أن أكتبها على شكل بحوث صغيرة تدريجاً من قبيل بحث حول الولاية وحول المهدي إن شاء الله تعالى» انظر: أحمد عبد الله أبو زيد، محمّد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق 3: 382، دار العارف، بيروت، 2007م.
[4] نشرت هذه المحاضرات مؤخّراً في العدد 1 و2 من مجلّة (الاجتهاد والتجديد) تحت عنوان (شبكة الملكيّات.. تحليل البنيات العقلائيّة لأنظمة المال والملك والحق)، تدوين السيّد عبد الغني الأردبيلي، صياغة وتحقيق الشيخ حيدر حب الله، وتنشر قريباً بإذن الله في المجلّد الحادي والعشرين من موسوعة (تراث الشهيد الصدر) عن المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر.
[5] نشرت هذه الأبحاث مؤخّراً في مجلّة (المنهاج)، الأعداد: 41، 42، 43، بصياغة وتحقيق مترجم هذا المقال.
[6] الاتفاق كان يقتضي: أوّلاً: أن يكمل السيّد الخوئي نشاط مرجعيّة السيّد الحكيم من حيث انتهت إليه. وثانياً: بأن يكون تسيير وكلاء السيّد الخوئي إلى المناطق بيد السيّد الصدر، وذلك من خلال لجنة شكّلها في سبيل هذا الغرض. انظر: محمّد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق 2: 363 وما بعد.
[7] تعني هذه الكلمة في أمثال المقام حاشية المرجع وجهازه الخاص.
[8] لم ينشر للسيّد الصدر حاشية فتوائيّة على (العروة الوثقى)، لكن ورد في إحدى رسائل السيّد عبد الغني الأردبيلي إلى السيّد الصدر طلبٌ بطباعتها.
[9] يقصد المعنى الفقهي لا الأخلاقي، والفضول هنا صفة تلحق بالعمل الذي لا يكتسب إذن صاحب الإجازة إلاّ بعد وقوعه.
[10] يقصد الإمام الشهيد الصدر.
[11] راجع الرسالة في: محمّد باقر الصدر، مرجع سابق 4: 10 وما بعد.