د. سمير سليمان[1]
المشروع الحضاري الإسلامي: منهجية التوازن
ينطلق بحثنا من فرضية قوامها أن الإمام السيد الخميني والإمام السيد الشهيد كليهما يصدفان من مشروع حضاري واحد، هو المشروع الحضاري الإلهي ۔ وإن استخدما في التعبير عنه مصطلحات أخرى مختلفة ۔ الذي قدّم للعالم وللإنسان ۔ برأي السيد الصدر ۔ «مفهوماً جديداً بخلاف المشروع الحضاري المادي الذي ابتدعه الإنسان، وقدّم فيه تصوره ومفهومه الدنيويين للأقانيم الثلاثة المنوه بها، أي للعالم والإنسان والحياة، وبالتالي فهو يحمل ويتحمل مسؤولية المأزق الحضاري التاريخي، الذي وقعت في غياهبه وضلالاته الأمم المتعاقبة الكثيرة التي اعتنقته، وأنتج مدنيات وثقافات هي التي تزر وازرة البؤس والآلام والانتكاسات والحروب التي شهدها التاريخ الإنساني.
كما أسس المشروع الحضاري الإلهي بالإسلام أيضاً، واستكمالاً لبشارات الرسل ورسالات الأنبياء للعمران البشري، مفهوماً مغايراً لوجهة النظر المادية، وأقام على قواعد ذلك المفهوم ومبادئه نظاماً ينطلق من اعتبار الإنسان مستخلفاً إلهياً في عمارة الأرض وإدارة العالم، متمتعاً بمجموعة كبيرة ومتنوعة من الحقوق، قبالة منظومة كاملة من الواجبات والمسؤوليات، فلا صغيرة ولا كبيرة تصدر عنه إلا وهي محسوبة بدقة إثابة أو عقاباً، كما أسس نظاماً اجتماعياً لم يجعل الفرد فيه آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الإنسان الفرد، بل وضع لكل منهما حقوقاً متكاملة وواجبات متكاملة.
وبتلك القاعدة الفكرية أوجد الإسلام وفقاً للسيد الصدر، النظرة الصحيحة للإنسان وحياته،[2] باعتبار أن الهدف الذي رسمه الإسلام ۔ كمشروع حضاري شمولي للكائن البشري ۔ هو الرضا الإلهي الذي يسمّيه الصدر (مبدأ الكمال المطلق).[3] وذاك كله في إطار تكامل وتوازن متزامنين، بين الأنا الاجتماعية والأنا الفردية، من غير أن يعني ذلك تغييراً في الطبيعة الإنسانية، ومن غير إنشائه إنشاءً جديداً، تبعاً لمزاعم بعض المدارس الفكرية المادية.[4]
وعلى هذا الأساس وحدّ المشروع الحضاري الإلهي بين المقياس الفطري للعمل وللحياة، وهو حب الذات والسعي إلى منحها أفضليات ومميزات غير متناهية، وبين المقياس الذي ينبغي له أن يقام للعمل وللحياة.[5] فالمدار الضابط للمسيرة البشرية هو التوازن؛ لأن الفرد ليس له القاعدة المركزية للتشريع والحكم في المنظور الإسلامي، كما أن الكائن الاجتماعي الكبير ليس هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتشرّع لحسابه وخدمة مصالحه ومآربه.[6]
هكذا يبدو المشروع الحضاري الإلهي في قراءة الإمامين الخميني والصدر مشروعاً غائياً: (فهو عقيدة معنوية وخلقية ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح، ويضع لها هدفاً أعلى ويعرفها على مكاسبها منه)[7] وهذه الغائية تشكّل أساس (حضارية) المشروع. فالهدف هو وقود الحركة الحضارية ورافعتها وكشّاف رؤيتها ومفجّر ديناميتها.
والحقيقة وفاقاً قراءة السيد الصدر لتاريخ تطور المجتمعات الإنسانية، أن الهدف الوحيد الذي يضمن للتحرك الحضاري للإنسان أن يواصل مسيره وإشعاعه واتّقاد جذوته باستمرار، هو الهدف الذي يقترب به الإنسان دائماً ويكتشف فيه كلما اقترب آفاقاً جديدة وامتدادات غير منظورة تزيد الجذوة اتّقاداً والحركة نشاطاً والتطور إبداعاً واشتعالاً.[8]
وأي هدف جاذب أشد وأقوى وأسمى وأكمل من الله المطلق، والطريق إليه يحفّز دوماً على كشف واكتشاف الجديد والاهتداء إليه، فكل توغّل في اتجاه ذلك المطلق هو جهاد ارتقائي ذو امتدادات وتداعيات في الاتجاهات الفردية والاجتماعية كافة.[9]
لقد كانت الآية السادسة من سورة الانشقاق : <يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاٰقِيهِ> مادة خصبة بين يدي السيد لقراءة المسار الحقيقي للجماعة الإنسانية. فالآية ۔ كما الكثيرات مثلها في القرآن ۔ تنصب الأفق النهائي لذاك المسار، إذ تجعل الله سبحانه هدفاً أعلى ومثلاً أعلى للإنسان.
والإنسان هنا ليس عند السيد الصدر إلا الإنسانية بمجموعها وهي ترتقي إلى قمم كمالها وتكاملها وتطورها إلى الأفضل باستمرار. [10] في تفاؤلية هي بمثابة القانون الحتمي والسنة الإلهية اللذين يحكمان تطور الإنسان وفاقاً للمنظور الإسلامي.
والمسير إلى ذلك الهدف النهائي يفترض بطبيعة الحال طريقاً يمتد بين السائر/ السائرين ومنتهاهم. وهذا الطريق هو نفسه الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة في مواضع شتى من القرآن وسمّته أسماء متعددة، فهو تارة (سبيل الله) وتارة هو (الصراط) أو (صراط الله).[11]
وحينما تتقدم الإنسانية في هذا المفاض واعية هدفها النهائي/ مثلها الأعلى وعياً موضوعياً، يكون التقدم تقدماً مسؤولاً في رأي السيد. وعندما يرتقي التقدم إلى هذا المستوى فإنه يتحول عنده إلى (عبادة) بحسب لغة الفقه. [12]
وفي المقابل يكون تقدم الجماعة البشرية (غير مسؤول) عنده إذا جاء منفصلاً عن الوعي بذلك المثل الأعلى، حتى ولو اعتبر تقدماً وتطوراً على أي حال في رأي الصدر.[13]
وليس الطريق/ المسار بالمحصّلة سوى المشروع الحضاري الذي انضوت فيه أمة اعتنقت ذلك المثال الأعلى وكدحت إلى ملاقاته أو الاقتراب منه، واستدلت بمنظومة شرائعه وأنساق حلاله وحرامه. وبهذه الدلالات تكون (إقامة الدين) بالمصطلح القرآني في قوله تعالى: <شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مٰا وَصّٰى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ وَ مٰا وَصَّيْنٰا بِهِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لاٰ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..>.[14] كما في قوله سبحانه أيضاً : <فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا..>، [15] تكون إقامة الدين تلك بمثابة إقامة للمشروع الحضاري وكدح إلى التطور به، والتغير من خلاله بما يزيد مسافة الاقتراب من الغاية النهائية وسعياً دائباً إلى التكامل فيها.[16]
وليس الاقتراب المستمر نحو الله بطبيعة الحال اقتراباً جغرافياً أو مكانياً. فهو المثل الأعلى أي المطلق الحقيقي بتعبير السيد[17] وبحكم كونه هو المطلق فهو الموجود على طول الطريق وفي كل الجوانب والاتجاهات.[18] لكن الاقتراب المنوه به يبقى نسبياً لأن المتناهي لا يطال اللامتناهي. فالفسحة الممتدة بين الإنسان والمثل الأعلى فسحة لا متناهية ترك للإنسان وللجماعة البشرية مجال فيها للتطور والإبداع الدائمين والكاملين إلى اللانهاية.[19]
وحينما تتبنى المسيرة الإنسانية ذلك المشروع الحضاري المختص للمثل الأعلى الحقيقي والمطلق، فإن السيد الصدر يؤكد أن ذلك سيحدث تغيراً كيفياً وكمياً في هذه المسيرة.[20]
أما التغير الكمي فلأن مجال التطور والإبداع والنمو قائم أبداً ودائماً بقدر ما هو مفتوح للبشر قاطبة وباستمرار، وعندما يجري الكدح من خلال ذلك المشروع بغايته فإن السيد يرى أن ذلك، (سوف يمسح من الطريق كل الآلهة المزوّرة وكل الأصنام التي تقف على طريق الإنسان عقبة بينه وبين وصوله إلى الله سبحانه).[21]
ومن هنا يعتبر الصدر أن دين التوحيد / المشروع الإلهي كان يخوض صراعاً مستمراً ودائماً مع مختلف أشكال الآلهة والمثل (المنخفضة والتكرارية).[22] حيث ضلّت بعض الجماعات الطريق الصحيح وانحرفت باتجاهها. وما تلك المثل والآلهة بالمحصلة سوى ديون المشروع المادي، الذي انتجه البشر أنفسهم وصنعته أيديهم. يقول السيد: (نعم، قد تصنع [تلك المثل المنخفضة وتلك الآلهة المزعومة لهذا المشروع] قوانين، وقد تصنع عادات، وقد تصنع أخلاقاً.. لكن هذه كلها غطاء ظاهري.. فكلما وجد الإنسان الذي يؤمن بها مجالاً للتحلل من تلك العادات والأخلاق والقوانين فإنه سوف يتحلل منها..)[23] حتى لو افترضنا أن هذه جميعها أو بعضها صحيحة ومجدية لخير الجماعة والناس، وما نراه من ذرائعية في المشروع الحضاري المادي بعض من مصاديق ذاك التحلل.
وأما التغير الكيفي في المسيرة البشرية تبعاً للمشروع الإلهي فهو ۔ عند السيد الصدر ۔ في إعطاء الحل الموضوعي لما يسميه بـ (الجدل الإنساني أو التناقض الإنساني)، وبإعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية للإنسان تجاه هذا المثل الأعلى/ الله، ومن خلال إيمانه به ووعيه به والاستمساك بحبل مشروعه. فإذا لم يكن الإنسان مسؤولاً ومؤمناً بأن لديه جهة أعلى يتجه إليها فلا يمكن أن يكون شعوره بالمسؤولية شعوراً موضوعياً وحقيقياً.
وليس هذا الشعور بالمسؤولية ۔ برأي الصدر ۔ أمراً عرضياً في مسيرة الإنسان والجماعة البشرية، بل هو شرط أساسي في إنجاح هذه المسيرة ومشروعها، وفي تقديم الحل الموضوعي للتناقض أو الجدل الإنساني القائم في تركيب الإنسان وخلقته، لأنه هو تركيب من حفنة تراب ونفخة من روح الله كما وصفت ذلك الآيات الكريمة ۔ كما يقول السيد الصدر۔.[24]
أما الحل المنوه به ۔ وهو عند السيد واحد لا ثاني له ۔ فهو الشعور بالمسؤولية، لا الشعور المنبثق من هذا الجدل. لأن الشعور المنبثق من هذا الجدل لا يحل التناقض أو الجدل بل يساهم في إنتاجهما. ولا يكفل ذاك الشعور الموضوعي بالمسؤولية إلا المثل الأعلى الذي (يكون جهة عليا يحس الإنسان من خلالها بأنه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب، ومجاز على الظلم، ومجاز على العدل.. هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية هو التغير الكيفي).[25]
إن الترابي والإلهي، إذن بتناقضهما في النفس الإنسانية وبالإضافة إلى الشعور بالمسؤولية، هي أقانيم الجدل الثلاثة فيما يمكن تسميته بـ(الديالكتيك الصدري)، وذلك رداً من السيد على الديالكتيك الغربي بوجهيه: المثالي إلهيغيلي والمادي الماركسي. فالصراع الترابي/ الروحي، لا يستكين إلا بالتوجه بالمسؤولية نحو المطلق.
على أساس هذين التغيرين الكمي والكيفي، تتنامى حركة الكدح الإنساني وترتقي باتجاه المطلق، وفي مواجهة (تلك الطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيّماً على البشرية وقاطع طريق لمسيرتها التاريخية).[26] وما المواجهة هذه ولا ذاك الارتقاء في حقيقتهما إلا معبّرين عن تحول اجتماعي ( تقدمي) ينضبط في منظومة القيم الإلهية ولا يحيد عنها، فإذا ذاك التحول مفاعل إيجابي يحصن المرتقي، فرداً كان أم جماعة، من الانحراف أو النكوص.
لذلك رأى السيد الصدر أن الأنبياء كانوا دائماً أنظف الثوار وأصلبهم على الساحة التاريخية، فلم يسمع بأن نبياً من أنبياء التوحيد قد انهار أو تململ أو انحرف عن رسالة السماء التي اضطلع بحمل مشروعها والدعوة إليها؛ لأن المثل الأعلى المنفصل عنه والذي فوقه هو الذي منحه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية ذات النمط الخاص، وخصوصيتها أنها تجسدت في كل كيانه ومشاعره وأفكاره، ومن هنا كان النبي معصوماً على مر التاريخ وفاقاً لرأي السيد الصدر. ولم تكن هذه العصمة قط في خدمة شخص النبي بقدر ما كانت مستندة إلى (عصمة) المشروع الذي يضطلع بنشر لوائه وتربية الجماعة به، وبمقتضى ما شرعه من (أخلاق وحكمة) بالتعبير الخلدوني.
وذلك كله كما هو معروف ليس إلا في صميم السياسة وقواعدها، وفي أساس إدارة الحياة والعالم ومأسستها، وفي سنن التاريخ و(طبائع الموجودات). وبهذا المعنى لا يكون الدين عند السيد مجرد تشريع، إنما هو أيضاً سنة من سنن التاريخ التي هي كلمات الله، وحالة تكوينية في الإنسان وفي تركيب مساره الطبيعي والتاريخي.[27]
المشروع الحضاري الإسلامي: كيمياء الفكري والسياسي
من هذه الكيمياء الفكرية والفلسفية والسياسية المتوازنة يستولد المشروع الحضاري الإسلامي مفهومه للدولة ودورها وعلاقتها بمن تدولهم. فهي ذات وظيفتين متلازمتين: (إحداهما هي تربية الإنسان على القاعدة الفكرية الإسلامية وطبعه بطابعها. والأخرى مراقبته من خارج، وإرجاعه إلى القاعدة الفكرية إذا انحرف عنها عملياً) كما يرى السيد الصدر. [28]
وبهذا المنظار لا يعود الوعي السياسي في الإسلام مجرد وعي للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو عملية تربوية خلاقة ومتماسكة، مثبّتة بركائز ومبادئ مرجعية، ترتد كلها بالمحصلة إلى نظرة كلية كاملة مؤسسة للعلاقة بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الكون والحياة والاجتماع والسياسة والأخلاق والقيم.[29]
هذه النظرة الشاملة المتداخلة في نسيج كل موقف إنساني، وكل سلوك، وكل انفعال أو تفاعل، وكل قراءة للوجود وعلاقات البشر.. النظرة هذه هي ما يسميه السيد محمد باقر الصدر بـ (الوعي الإسلامي الكامل)[30] الذي يستحيل فيه ومن خلاله الفصل بين الاعتقادي الفكري وبين السياسي التربوي الُمسيّل في الإجرائي التنفيذي الإجرائي، فيتجسدان في (كائن / مخلوق) منهجي مصنوع من تركيب ثنائيتهما الجدلية، التي من خلالها استحضر الإسلام وجوده في الحقب المتأخرة بفاعلية قطبية ومرجعية، ما عاد ممكناً لأحد شطبها في المعادلات الأيديولوجية والإستراتيجية والدولية المعاصرة والمستقبلية.
هذا الوجود المكثف متجلٍّ كما لا يكون تجلّياً في القول/ الشعار الذي رفعه الإمام الخميني رضوان الله عليه: (الإسلام دين، عبادته سياسة، وسياسته عبادة[31]) ومأسسة هذا الشعار كفيلة بتلبية ما تطلع إليه السيد الصدر على طريق تحقيق المشروع الحضاري الإلهي. إذ به ارتقت السياسة ۔ وهي كذلك في الإسلام حقاً ۔ إلى مستوى العبادة، ما دامت منضبطة بالمعايير القيمية والوظيفية الإسلامية. فكلاهما إسلامياً عبادة.. .
وقد يكون من نافلة القول التذكير بتلازم العقل والشرع في أصول الفقه الشيعي على أساس القاعدة المعروفة: (كل ما حكم به العقل، حكم به الشرع). فمنذ تدوين تلك الأصول اعتُبر العقل واحداً من الأدلة الشرعية الأساسية. فقالت الشيعة: (إن الأدلة الشرعية أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل) في الوقت الذي كان أهل الحديث يحصرون الأدلة الشرعية بالكتاب والسنة والإجماع، ويقصرها أهل الرأي والقياس في الكتاب والسنة والإجماع والقياس.[32]
بهذا التوجه المنهجي يكون كل تفكير بالعقل وعنه سياسياً، وتكون كل سياسة بلا فكر استغراقاً في الأنويّة وغريزة حب الذات التي لا نعرف أعم منها وأقدم. فكل الغرائز فروع هذه الغريزة وشُعبُها[33] بما هي غريزة المعاش؛ أي لأن هذه السياسة فقيرة وقاصرة ومتهافتة.
والسياسة التي علتها الفكر المتوازن ليست ۔ في الإسلام أيضاً ۔ ذرائعية ولا نفعية ولا تجزيئية، إنما عليها أن تخوض كل غماره، خصوصاً وسط كل هذا الصراع الحضاري المحتدم، وعلى أساس كونه مشروعاً استقطابياً شمولياً. وهذا الفكر ليس مجرد حاجة، إنه ما قبلها وما فوقها.. إنه فريضة. وهو فريضة لأنه حاجة اجتماعية وذاتية كما الفرائض كلها.. وبين الحاجة والفريضة فرق كبير في المفهوم والوظيفة.
هذه الشمولية العلمية والمعرفية والفكرية هي المعادلة الإسلامية الجوهرية التي استكنّها السيد الصدر، واستكنهها فأدركها، فقد كان فيلسوفاً متكلماً وفقيهاً ورياضياً وفيزيائياً وكيميائياً واقتصادياً وعالم اجتماع، وسياسياً ثائراً، وحامل مشروع حضاري متكامل ۔ كما الإمام الخميني ۔ في وجهين لحقيقة واحدة. ولكن بأي فكر؟ كما الإمام الخميني تماماً، وكما في كل (العلماء بالقانون الإلهي).[34]
إنه الفكر البشري الذي ينطلق ويتكامل ويحاكي (فكراً) منزّلاً، ولأنه الفكر الذي ينبثق من السماوي المطلق الكامل، ويتقيد بأهدافه وضوابطه ونظام قيمه، ويكدح إلى تثبيت أركانه وبناء الحياة والعالم بهدى تعاليم تلك الأهداف والضوابط والقيم، فتحرر الإنسان من الداخل وتحرر الكون من الخارج في وقت واحد.. التحرير الأول الإنساني بالجهاد الأكبر، والتحرير الثاني الكوني بالجهاد الأصغر.[35]
بهذه المعاني ليس السيد محمد باقر الصدر، أو من هُم في موقعه منظّرين بنظرية بشرية كلاسيكية، بل هم مُسيّلون للإلهي في نسيج العالم الذي لن يعترف بمشروعية المشروع الحضاري الإسلامي إلا إذا أثبت ندّيته في ديناميات المجتمع الكوني. ولا يمكنهم أن يكونوا كذلك إذا لم يكونوا (علماء بالقانون الإلهي) وبمستوى شمولية هذا القانون؛ أي أن فقاهتهم وعلمهم إدراكان حصوليان لمشروع غير بشري. فهم متصدون لبيان أحكام الله وإقامة حدوده وتنفيذ ما أمر به وما نهى عنه، متحققاً فيهم إلى جانب الأعلمية بنسبيتها شرط ضروري آخر هو العدالة، على أساس أن (العلم بالقانون والعدالة هما ركنان من أهم أركان الإمامة).[36]
أما (مفكريّة) العالم العادل، أي (سياسيته) ۔ أعني فكره السياسي ۔ فهي بالمعايير المنوّه بها، إبداعه وقدرته على استنباط وتطوير الكيفيات الآيلة إلى وضع المشروع الإلهي موضع التنفيذ الناجح، واستقطاب الناس للتماهي فيه واعتناق قيادة العالم من خلاله بما هم مستخلفون، ولطالما شدد السيد الصدر على مفهوم الاستخلاف.
بمعنى آخر أن المفكر الإسلامي هو مستنطق للقرآن، وقارئ متقِن لمصاديق سننه المجتمعية والتاريخية والإنسانية. أي: أنه معبّر عن روح مشروع مجتمع التوحيد ونظرته إلى الوجود وعلاقات البشر، بما هو جزء منها ومربٍّ فيها. وبذلك ليست سياسته مجرد إدارة تنظيمية للعلاقات الموجودة، بل هي التزام واعٍ بالمفاهيم والقيم والمبادئ الإلهية التي تحرّك صيرورة المجتمع، لا وجوده.[37] إنها بمعنى آخر: سياسة التقوى لا الدهاء ۔ بعبارة إمام الأئمة سلام الله عليه: (لولا التقى لكنت أدهى العرب).
إن السياسة بهذا البعد المنهجي في معناها الإسلامي، هي إمكانية لتغيير الحياة وتجلٍّ لنظام فكري يريد للدولة أن تكون (مدبّرة) لا (مديرة) كما شاءها المشروع الحضاري المادي، وأن تكون تغييرية وحاضنة، فيقود ذاك النظام الأمة إلى بناء ذاتها وتحقيق مثلها وقيمها وتطلعاتها المنطلقة من مشروعها الحضاري / دينها، بما يضمن (حفظ الدين وسياسة الدنيا) ۔ بالتعبير الخلدوني.
وبذلك تكون الدولة إسلامياً، خارج غائية الاستيلاء على السلطة، إنها وسيلة يراد بها (تنفيذ أمر الله وإقرار النظام العادل الأصلح) وهي وحدها (الدولة الشرعية).[38] وهكذا لا يتخذ السياسي شرعيته إلا من الإلهي، ولا يكون الفكر السياسي شرعياً إلا محمولاً على الإلهي،[39] ولا سلطة شرعية إلا من الله مصدر السلطات الأصيلة التي تتولد منها وتنطلق كل سلطة تفصيلية وتنضبط فيها؛ مما يعني (أن الإنسان حر، ولا سيادة لإنسان على آخر، ولا لطبقة، ولا لأي مجموعة بشرية، وإنما السيادة لله وحده)،[40] كما لا سيادة لأية عقيدة أخرى فوق ذي السيادة.
من هنا تتحدد خيارات الأمة، لا على أساس (المصلحة)، بل على أساس (الحقيقة)[41] أية حقيقة؟ حقيقة التوحيد. وبهذا المعنى نفهم رسالية الأمة، أي حركتها الدائمة الأمامية باتجاه الله: (قُلْ إِنَّمٰا أَعِظُكُمْ بِوٰاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّٰهِ)[42] (وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا).[43] والجهاد الأمامي هنا ببعديه الأكبر والأصغر المتكاملين هو جهاد ارتقائي، أي أنه تغييري ونوعي باتجاه الأكمل، كذلك هو حالة نفي للجمود والسكونية المستمرة، وهو إبداع وتطور دائمان حتى تحقيق السيادة الشاملة للمبدأ، مبدأ الوجود،[44] بما هي تحقيق للحق والعدل المطلقين، بعد توفر الشروط الموضوعية والذاتية لهذا التحقيق، وليس بلا دلالة، من خلال ما قرأناه للسيد الصدر وعنه، أن الإحساس بالظلم الذي طالما هجس به، قد حكم مسيرته الجهادية كلها، منذ صدور كتابه الأول (فدك في التاريخ) (وهو ابن أحد عشر عاماً) على رواية بعض الباحثين[45] (!) إلى استشهاده.
فقضية فدك أكبر من قضية حقوقية أو سياسية، إنها مؤشّر انحراف في قيادة التجربة الإسلامية، وحرف لمشروعها الحضاري/ السياسي الحضاري؛ لأنه يهدد المشروع كله. فبقانون التفاعل بين الأجزاء تنتزع سيطرة الإسلام على بقية الأجزاء، وإذا بالانحراف يشكّل خطراً على المشروع الإسلامي برمّته، وعلى عملية التربية الإسلامية للأمة كلها، وفاق رأي الإمام الصدر.[46]
إن الابتداء المنهجي بحادثة فدك مؤشّر مبكّر إلى وعي تاريخي حاد عند السيد الصدر بحقيقة مظلومية الإسلام بكل جوانبها وبالأخطار التي تهدّده. وقد ترافق هذا الوعي لديه مع معاناة من وجهين: أولهما نَغْب التهم التي تجرّعها حملة الإسلام الرسالي على مدى التاريخ الإسلامي، وثانيهما جهاد لا هوادة فيه، وعلى جميع المستويات، سعياً إلى فتح ثغرات الخلاص للأمة المطحونة بعذابات الأسر التاريخي، وإلى الاجتهاد في إعادة إنتاج المسالك المؤدية إلى تحرير ذاكرتها، وتطلعاً إلى تذليل التحديات الوجودية والحضارية التي تثقل عاتقها، وتجمّد حركتها إلى المستقبل، وارتقاءً إلى استنهاض حوافز ثورتها على ذاتها، والتزاماً بتحريرها من تبعيتها التاريخية على الصُعد كافة، وإعادة وصلها بنقاء هويتها وثقافتها وقيمها واستعادة ثقتها بمشروعها الحضاري، وبعظمة وعنفوان الانتماء إليه.
مهمة بهذا التشعب والتعدد وبهذه الرافعة الجذرية / المشروع الإلهي، لم تكن مهمة سهلة، خصوصاً في حقبتي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وقد ملأ الفكر المادي الدنيا، وشغل الناس في العالم العربي، والمشروع الإسلامي مطوّق بالممانعات الذاتية والموضوعية من كل نوع والمعادلات السياسية وموازين القوى داهمة تنمّ بالقنوط واليأس، فالغالب يكاد يسدّد على المغلوب جميع المنافذ وكوى الخلاص.
فليس عبثاً أن يبذل السيد الصدر جهوداً خارقة في كل اتجاه لاستنهاض الأمة بهدي مشروعها، ولاستنقاذ رسالتها الفكرية والذبّ عنها، والرد على الأفكار الوضعية الخاطئة، استناداً إلى دليل القصد والحكمة، بوصفه الدليل الذي يمثّل المنهج الحقيقي للاستدلال العلمي، وبوعي موسوعي رائع لتاريخ الفكر الإنساني من أقدم العصور إلى أحدث نظريات المعرفة المعاصرة.
لم يكتف السيد الشهيد بموقف الرفض السهل للفكر المضاد لمشروعه الحضاري الذي أطلقه، بل تخصّص بمعرفته ووعيه من الأسس وحتى تفاصيل الخطاب السياسي، فحاوره وساجله ودحضه ونقده مثبتاً حيث ينبغي له، إنه فكر متداعٍ بلا مستقبل. وكان كلما أبطل فيه حجة ثبت للإسلام حججاً، وكلما كسر عنه لأمة وكشفها ركّب لقناة الفكر الإسلامي سناناً، بقناعة اليقين بالحق، بما هو حق الإنسانية قاطبة.
لقد ولج الإمام الشهيد أبواب الفكر المعاصر وأعطاه كل حقه، على قاعدة إعادة الروح إلى المشروع الحضاري والسياسي للإسلام، فحلّ السياسي عنده في الفكري تماماً كما حل الفكري في السياسي، وبذلك كان مفكراً قرآنياً نموذجياً، ولذلك هو باقٍ.
فالفكر الإسلامي عامةً والشيعي منه خاصة، قبله شيء ومعه شيء آخر وبعده شيء آخر أيضاً. أما في خصوصيات تاريخ النجف والعراق، فهي قبله شيء ومعه شيء وبعده شيء آخر أيضاً، وقد صدّق الخُبرُ الخبر.
بالإمامين الخميني والصدر يقين بأن السياسي الذي لا يتذوب في الفكري يُسقط السياسة وقد يسقط الفكر. وإلا فما معنى أن تكون قيادة الأمة إمامة؟ ولعل أخطر إشكاليات الحركة الإسلامية المعاصرة في مرحلة الزلزلة هذه هو استغراق بعضها في السياسي حتى الجُمَام، على حساب الفكري المهجور وتموّهاً به، حتى بتنا لا نعثر على الفكري إلا لِمَاماً، أي أننا ۔ ولو من غير قصد ۔ أصابتنا آفة النظر ببعدٍ واحد حتى غدا الفكري معزولاً أو هامشياً أو عبئاً، وهذا ابتلاء حضاري مقلق؛ لأنه يهدّد الحضاري ومشروعه كليهما، إنه خروج عن خط الإمامين إياهما: الخميني والصدر.
فيا أيها الإمام المعلم
أشهد أنك أدّيت إمامتك شاهداً وشهيداً، وكنت أعظم من التحدي، فهل نحن في حضرتك متهمون أم أبرياء؟
[1]. أستاذ الحضارة الإسلامية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ۔ الجامعة اللبنانية.
[2]. المدرسة الإسلامية، السيد محمد باقر الصدر، ص 87 ۔ 88.
[3]. م. ن، ص 89.
[4]. م. ن، ص 90.
[5]. م. ن، ص 94 ۔ 95.
[6]. م. ن، ص 96.
[7]. انظر في هذا الخصوص كتابنا: الإمام الخميني والمشروع الحضاري الإسلامي. الفصل الأول منه تحديداً.
[8]. انظر: الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر، ص 178.
[9]. انظر: م. ن، ص 178 ۔ 179.
[10]. مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن، السيد محمد باقر الصدر، ص 148 ۔ 149.
[11]. م. ن، ص 149.
[12]. م. ن، ص 150.
[13]. م. ن.
[14]. الشورى: 13.
[15]. النون: 30.
[16]. راجع: مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن، ص 97.
[17]. م. ن، ص 152.
[18]. م. ن، ص 152 ۔ 153.
[19]. م. ن، ص 153.
[20]. م. ن، ص 154.
[21]. م. ن، ص 153.
[22]. م. ن.
[23]. م. ن، ص 155 ۔ 156.
[24]. م. ن، ص 156 ۔ 157.
[25]. م. ن، ص 163.
[26]. م. ن، ص 155 ۔ 156. انظر أيضاً: م. ن، ص 100 و101 و110.
[27]. المدرسة الإسلامية، السيد محمد باقر الصدر، ص98.
[28]. م. ن.
[29]. م. ن.
[30]. م. ن.
[31]. مختارات من أقوال الإمام الخميني، الإمام روح الله الخميني، الترجمة العربية، ج 2، ص 121؛ انظر: أيضاً كتابنا الإمام الخميني والمشروع الحضاري الإسلامي، ص 88.
[32]. الإمام الخميني والمشروع الحضاري الإسلامي، ص 43.
[33]. المدرسة الإسلامية، ص 27.
[34]. الحكومة الإسلامية، الإمام روح الله الخميني، الترجمة العربية، ص 45.
[35]. انظر: الإسلام يقود الحياة، ص 27.
[36]. الحكومة الإسلامية، الإمام روح الله الخميني، ص 45.
[37]. الأمة والإمامة، الدكتور علي شريعتي، ص 40.
[38]. الحكومة الإسلامية، الإمام روح الله الخميني، ص 54؛ وانظر أيضاً المدرسة الإسلامية، ص 37.
[39]. مختارات من أقوال الإمام الخميني، ج 1، ص 197.
[40]. الإسلام يقود الحياة، ص 178 ۔ 179.
[41]. م. ن، ص 9 ۔ 10.
[42]. سبأ: 46.
[43]. العنكبوت: 69؛ راجع: الإسلام يقود الحياة، ص 178۔ 179.
[44]. الإمام الخميني والمشروع الحضاري الإسلامي، ص 66 ۔ 67.
[45]. مجلة العهد، العدد 198، 21 شعبان 1408ق، محمد جعفر شمس الدين، ص 10.
[46]. العصمة في القيادة الإسلامية، السيد محمد باقر الصدر، نشرة لواء الصدر، طهران، جمادى الآخرة، 1403ق، ص 4.