بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد البشرية الصالحة أبي القاسم محمد وعلى آله الهداة الميامين.. أما بعد… فلقد شاءت الأقدار أن تخرج هذه الأسفار الجليلة من تقريرات سيدنا الشهيد آية اللَّه العظمى السيد الصدر (قدس) في مثل هذه الظروف العصيبة، التي ألمت بعالمنا الإسلامي، بعد قيام الثورة الإسلامية المباركة في إيران الإسلام بقيادة امام الأمة آية اللَّه العظمى السيد الخميني (مد ظله).
هذه الظروف التي جاءت نتيجة تكالب قوى الكفر والاستكبار العالمي، وتحالفها في التصدي، والمواجهة للمدد الإسلامي الظافر، الّذي كان لسيدنا الشهيد (قده) الدور الأساس في ترسيخ دعائمه، وإرساء قواعده على الصعيدين الفكري والعملي في العالم الإسلامي أجمع، وفي العراق على وجه الخصوص. حتى توج حركة الإسلام ببذل دمه الزاكي، الّذي كان أغلى دماء هذا العصر. أريق في سبيل إعلاء كلمة الحق ومواجهة الطغاة والظالمين. فكان بحق سيد شهداء عصره، أسوة بجده سيد الشهداء (عليه السلام).
والحقيقة ان استيعاب أبعاد عظمة هذا العالم الرباني العامل لا يتيسر لأحد في مثل هذه الدراسة العاجلة ولكن ذلك لا يعفينا من التعرض لأبرز معالم مدرسته العلمية والفكرية، التي أنشأها، وخرج على أساسها جيلا من العلماء الرساليين والمثقفين الواعين
والعاملين في سبيل اللَّه المخلصين.. رغم قصر حياته الشريفة التي ابتلاه اللَّه فيها بما يبتلي به العظماء من الصديقين والشهداء والصالحين.. وفيما يلي أهم مميزات هذه المدرسة، التي ستبقى رائدة وخالدة في تاريخ العلم والإيمان معا.
1- الشمول والموسوعية
اشتملت مدرسة شهيدنا الراحل على معالجة كافة شعب المعرفة الإسلامية والإنسانية. فهي متعددة الأبعاد والجوانب، ولم تقتصر على الاختصاص بعلوم الشريعة الإسلامية من الفقه والأصول فحسب، رغم ان هذا المجال كان هوالمجال الرئيس والأوسع من إنجازاته وابتكاراته العلمية. فاشتملت مدرسته على دراسات في الفقه، وأصول الفقه، والمنطق، والفلسفة، والعقائد والعلوم القرآنية، والاقتصاد، والتاريخ، والقانون، والسياسة المالية والمصرفية، ومناهج التعليم والتربية الحوزوية، ومناهج العمل السياسي وأنظمة الحكم الإسلامي، وغير ذلك من حقول المعرفة الإنسانية والإسلامية المختلفة.
وقد جاءت هذه الشمولية نتيجة لما كان يتمتع به إمامنا الشهيد من ذهنية موسوعية وعملاقة، يمكن اعتبارها فلتة، يحظى بها تاريخ العلم والعلماء بين الحين والآخر، والتي تشكل كل واحدة منها على رأس كل عصر منعطفا تاريخيا جديدا في توجيه حركة العلم والمعرفة وترشيدها. فلقد كان رحمه اللَّه آية في النبوغ العلمي، واتساع الأفق، والعبقرية الفذة. وقد سطعت منذ طفولته، وبداية حياته، وتحصيله العلمي، كما شهد بذلك أساتذته، وزملاؤه، وتلاميذه، وكل من اتصل به بشكل مباشر، أوالتقى به من خلال دراسة مصنفاته وبحوثه القيمة.
2- الاستيعاب والإحاطة:
من النقاط ذات الأهمية الفائقة في اتصاف النظرية، أية نظرية، بالمتانة والصحة مدى ما تستوعبه من احتمالات متعددة، وما تعالجه من جهات شتى مرتبطة بموضوع البحث. فان هذه الخصيصة هي الأساس الأول في انتظام الفكر والمعرفة في أي باب من الأبواب، بحيث يؤدي فقدانها إلى أن تصبح النظرية مبتورة، ذات ثغرات ينفذ من خلالها النقد والتفنيد للنظرية. وهذه الميزة أيضا كان يتمتع بها فكر السيد الشهيد (قده) بدرجة عالية، فانه لم يكن يتعرض لمسألة من المسائل العلمية سيما في الأصول والفقه، إلا ويذكر فيها من الصور والمحتملات ما يبهر العقول. وهذا هوجانب الاستيعاب والإحاطة المعمقة في فكره.
وقد ظهرت هذه السمة العلمية، وهذه الخصيصة، حتى في أحاديثه الاعتيادية. فكان عند ما يتناول أي موضوع، ومهما كان بسيطا واعتياديا، يصوغه صياغة علمية، ويخلع عليه نسجا فنيا، ويطبعه بطابع منطقي مستوعب لكل الاحتمالات والشقوق، حتى يخيل لمن يستمع إليه انه امام تحليل نظرية علمية تستمد الأصالة والقوة والمتانة من مبرراتها وأدلتها المنطقية.
3- الإبداع والتجديد:
ان حركة العلوم والمعارف البشرية وتطورها ترتكز على ظاهرة التجديد، والإبداع، التي تمتاز بها أفكار العلماء، والمحققين في كل حقل من حقول المعرفة. وقد كان سيدنا الشهيد (قده) يتمتع في هذا المجال بقدرة فائقة على التجديد وتطوير ما كان يتناوله من العلوم والنظريات، سواء على صعيد المعطيات، أوفي الطريقة والاستنتاج. ولقد كان من ثمرات هذه الخصيصة انه استطاع أن يفتح آفاقا للمعرفة الإسلامية لم تكن مطروقة قبله.
فكان هورائدها الأول، وفاتح أبوابها، ومؤسس مناهجها، وواضع معالمها، وخطوطها العريضة، وستبقى المدرسة الإسلامية مدينة لهذه الشخصية العملاقة في هذه الحقول.
وخصوصا في بحوث الاقتصاد الإسلامي، ومنطق الاستقراء والتاريخ السياسي لأئمة أهل البيت عليهم السلام.
4- المنهجية والتنسيق:
ومن معالم فكر سيدنا الشهيد منهجيته الفنية الفريدة، والمتماسكة لكل بحث كان يتناوله بالدرس والتنقيح. ومن هنا نجد ان طرحه للبحوث الأصولية والفقهية يمتاز عن كافة ما جاء في دراسات وبحوث المحققين السابقين عليه من حيث المنهجية والترتيب الفني للبحث. فتراه يفرز الجهات والجوانب المتداخلة والمتشابكة في كلمات الآخرين، خصوصا في المسائل المعقدة، التي تعسر على الفهم ويكثر فيها الالتباس والخلط، ويوضح الفكرة، وينظمها، ويحللها بشكل موضوعي وعلمي لا يجد الباحث المختص نظيره في بحوث الآخرين. كما كان يميز بدقة طريقة الاستدلال في كل موضوع، وهل أنها لا بد وان تعتمد على البرهان أوانها مسألة استقرائية ووجدانية؟. ولم يكن يقتصر على دعوى وجدانية المدعى المطلوب إثباته فحسب، بل كان يستعين في إثارة هذا الوجدان وإحيائه في نفس الباحثين من خلال منهج خاص للبحث، وهومنهج إقامة المنبهات الوجدانية عليه.
وهذه نقطة سوف نواجهها بوضوح في دراساتنا الأصولية القادمة.
5- النزعة المنطقية والوجدانية:
ومن معالم فكر سيدنا الشهيد نزعته المنطقية والبرهانية في التفكير والطرح في الوقت الّذي كانت تلك المعطيات البرهانية تنسجم وتتطابق مع الوجدان وتحتوي على درجة كبيرة من قوة الإقناع وتحصيل الاطمئنان النفسيّ بالفكرة، فلم يكن يكتفي بسرد النظرية بلا دليل أوكمصادرة، بل كان يقيم البرهان مهما أمكن على كل فرضية يحتاج إليها البحث حتى ما يتعسر صياغة برهان موضوعي عليه كالبحوث اللغوية والعقلائية والعرفية، وهذه السمة جعلت آراء ومعطيات هذه المدرسة الفكرية ذات صبغة علمية ومنطقية فائقة، يتعذر توجيه نقد إليها بسهولة. كما جعلتها أبلغ في الإقناع والقدرة على افهام الآخرين وتفنيد النظريات والآراء الأخرى. وجعلتها أيضا قادرة على تربية فكر روادها وبنائه بناء منطقيا وعلميا، وبعيدا عن مشاحة النزاعات اللفظية أوالتشويش والخبط واختلاط الفهم، الخطر الّذي تمني به الدراسات والبحوث العلمية والعقلية العالية في أكثر الأحيان.
وفي الوقت نفسه لم يكن يتمادى هذا الفكر البرهاني المنطقي في اعتماد الصياغات والاصطلاحات الشكلية، التي قد تتعثر على أساسها طريقة تفكير الباحث فيبتعد عن الواقع ويتبنى نظريات يرفضها الوجدان السليم. خصوصا في البحوث ذات الملاك الوجداني والذاتي، التي تحتاج إلى منهج خاص للاستدلال والإقناع. فكنت تجده دوما ينتهي من البراهين إلى النتائج الوجدانية، فلا يتعارض لديه البرهان مع مدركات الوجدان الذاتي السليم في مثل هذه المسائل، بل كان على العكس يصوغ البرهان لتعزيز مدركات الوجدان، وكان يدرك المسألة أولا بحسه الوجداني والذاتي ثم كان يصوغ في سبيل دعمها علميا ما يمكن من البرهان والاستدلال المنطقي. ومن هنا لا يشعر الباحث بثقل البراهين وتكلفها أوعدم تطابقها مع الذوق والحس والوجداني للمسألة، الأمر الّذي وقد استطاع هذا الفكر العملاق على أساس التوفيق بين خصيصته المنطقية والعلمية في الاستدلال وبين مراعاة المنهجية الصحيحة المنسجمة مع كل علم أن يتناول في كل حقل من حقول المعرفة المنهج العلمي المناسب مع طبيعة ذلك العلم من دون تأثر بالمناهج الغريبة عن ذلك العلم وطبيعته. وهذه خصيصة أساسية سوف نواجهها بجلاء أيضا في الدراسات الأصولية القادمة.
6- الذوق الفني والإحساس العقلائي:
الذوق حاسة ذاتية في الإنسان يدرك على أساسها جمال الأمور وتناسقها. والذهنية العقلائية هي الأخرى التي يدرك بها الإنسان الطباع والأوضاع والمرتكزات التي ينشأ عليها العرف والعقلاء، ويبني على أساس منها الكثير من النظريات والأفكار في مجال البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية والقانونية والأدبية. وهي في الأعم الأغلب البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية والقانونية والأدبية. وهي في الأعم الأغلب مجالات للبحث لا يمكن إخضاعها للبراهين المنطقية أوالرياضية أوالتجريبية، وانما تحتاج إلى حاسة الذوق الفني والذهنية العقلائية والحس العرفي الأدبي. ونحن نجد في مدرسة السيد الشهيد الصدر (قده) التمييز الكامل بين هذه المجالات وغيرها في العلوم والمعارف ونجد أنه (قده) كان يتناول المسائل في المجال الأول بالاعتماد على الذوق الموضوعي والإدراك العقلائي المستقيم حتى استطاع ان يضع المنهج المناسب في هذه المجالات وأن يؤسس طرائق الاستدلال الذوقي والعقلائي، ويؤصل قواعدها ومرتكزاتها، خصوصا في البحوث الفقهية التي تعتمد الاستظهارات العرفية أوالمرتكزات العقلائية، فأبدع نهجا فقهيا موضوعيا في مجال الاستظهار الفقهي خرجت على أساسه الاستظهارات من مجرد مدعيات ومصادرات ذاتية إلى مدعيات ونظريات يمكن تحصيل الإقناع والاقتناع فيها على أسس موضوعية.
وتحسن الإشارة إلى انه قلما تجتمع النزعة البرهانية المنطقية في الاستدلال، مع الذوق الفني والحس العقلائي والذهنية العرفية في شخصية علمية واحدة. فاننا نجد ان العلماء الذين مارسوا المناهج العقلية والبرهانية من المعرفة وتفاعلوا مع تلك المناهج وطرائق البحث قد لا يحسون بدقائق النكات العرفية والذوقية والعقلائية، ولا يبنون معارفهم وأنظارهم إلا على أساس تلك المصطلحات البرهانية، التي اعتادوا عليها في ذلك البحث العقلي. وكذلك العكس فالباحثون في علوم الأدب والقانون وما شاكل نجدهم لا يجيدون صناعة البرهنة والاستدلال المنطقي، ولكن نجد ان مدرسة سيدنا الشهيد قد امتازت بالجمع بين هاتين الخصيصتين اللتين قلما تجتمعان معا وتمكنت من التوفيق الدّقيق فيما بينهما، واستخدام كل منهما في مجاله المناسب والسليم، دون تخبط أوإقحام ما ليس منسجما.
7- القيمة الحضارية المدرسة السيد الشهيد الصدر:
لقد كان سيدنا الشهيد الصدر تحديا حضاريا معاصرا، وكانت من مميزات مدرسته انها استطاعت التصدي لنسف أسس الحضارة المادية لإنسان العصر الحديث، وان يقدم الحضارة الإسلامية شامخة على إنقاض تلك الحضارة المنسوفة. وعلى أسس علمية قويمة وضمن بناء شامل ومتماسك ومتى استطاع سيدنا الشهيد من خلاله أن ينزل إلى معترك الصراع الفكري الحضاري كأقوى وأمكن من خاص غمار هذا المعترك ووفق لتفنيد كل مزاعم ومتبنيات الحضارة المادية المعاصرة، وان يخرج من ذلك ظاهرا مظفرا وبانيا لصرح المدرسة الإسلامية العتيدة والمستمدة من منابع الإسلام الأصلية والمتصلة بوحي السماء ولطف اللَّه بالإنسان.
هذه نبذة مختصرة عن معالم مدرسة هذا المرجع والفيلسوف والعارف الرباني والمجاهد الشهيد التي أسسها وأشادها لبنة لبنة بفكره ونماها مرحلة مرحلة بجهوده العلمية المتواصلة وهي تعبر بمجموعها عن البعد العلمي، الّذي هوأحد أبعاد هذه الشخصية العظيمة الفريدة في تاريخنا المعاصر.
أجل سيدي الأستاذ فان لساني ليكل عن استيعاب كل أبعاد شخصيتك وان قلمي ليعجز عن رسم مناقبك وفضائلك القدسية، التي تفوق آفاق ذهني الضيق وقدرتي المحدودة.
فعذرا سيدي إن اقتصرت على جانب واحد من جوانب عظمتك، ذلك الجانب الّذي عشت معه ردحا طويلا من الزمن وعرفته معرفة مباشرة وتغذيت من ينبوعه الثر ما وسعني التزود العلمي والفكري والروحي. ولعل اللَّه يوفقني لعرض ما يمكنني استعراضه من الجوانب الأخرى من حياتك المباركة وجهادك المقدس وتقواك وخصالك الحميدة وزهدك في دنياك واستعدادك للتضحية في كل وقت من أجل رسالتك وأمتك ودورك القيادي في حمل أعباء الإسلام الّذي ختمته ببذل دمك الزاكي في سبيل رسالتك، فكم كنت عظيما سيدي وكم كنت موفقا من قبل اللَّه سبحانه وتعالى لكل منقبة ولكل بطولة وعظمة فسلام اللَّه عليك أيها الإمام الشهيد يوم ولدت، ويوم نشرت الحق وأسست أصول العلم والإيمان، ويوم جاهدت ودافعت عن كرامات هذه الأمة، ويوم استشهدت بيد أرذل خلق اللَّه في هذا العصر ويوم تبعث حيا مع جدك الحسين وسائر الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
واما ما يأتي من البحوث فهي مجموعة الدراسات، التي ألقاها سيدنا الشهيد الصدر في علم الأصول حسب منهج الدراسات العليا لبحوث هذا العلم خلال ما يقارب اثني عشر عاما كنا قد طبعنا منها في النجف الأشرف جزءين يرتبط أحدهما بمباحث (تعارض الأدلة الشرعية) والآخر (بمباحث الألفاظ) إلى مبحث الأوامر. وقد رأينا ان نعيد طباعتها مع سائر أجزاء الدورة الكاملة حسب ما تلقيناها من دروس ومحاضرات أستاذنا الشهيد (قدس سره الشريف)، وبتوفيق من اللَّه سبحانه وتعالى وتسديده لتكون رائدة لحركة هذا العلم ينتفع بها العلماء والمحققون، الذين سيجدون من خلال هذه الدراسات الكثير من التجديد والإبداع والتطوير في المعطيات والطريقة معا.
وسوف تستوعب الأجزاء الثلاثة الأولى كل مباحث الألفاظ والتي سميناها بمباحث الدليل اللفظي كما نأمل ان نوفق لإعداد وتنقيح بحوث الأدلة والأصول العملية خلال أجزاء أربعة.
وختاما أسأل اللَّه سبحانه وتعالى ان يوفقني لإكمال طباعة هذه الدورة وان يتغمد سيدنا وشهيدنا الراحل بعظيم أجره ويجمعه في مستقر رحمته مع الأنبياء والأئمة والصالحين وان يوفقنا للسير على نهجه واتباع خطه ويلحقنا به انه قريب مجيب.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
محمود الهاشمي قم المقدسة 1405 هجرية