موقف الصدر من الاستقراء الارسطي الناقص

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

اعتقد المنطق الارسطي بوجود نوعين من الاستقراء الناقص، احدهما يفيد اليقين، واطلق عليه اسم (التجربة)، والاخر لا يفيد اليقين ولا يدخل ضمن التجربة حسب اصطلاح هذا المنطق. ولكي نحدد الاستقراء الذي يفيد اليقين وتمييزه عن غيره، لابد ان نستعرض قبل كل شيء الانماط والاعتبارات المختلفة للاستقراء الناقص عموماً، وذلك كما يلي:

1ـ نمط الاستقراءات المثبتة للتعميم، كالاستقراء الذي يثبت ان كل حديد يتمدد بالحرارة، وان الشمس تشرق وتغرب دائماً. وعلى عكسه الاستقراءات المثبتة لحالة خاصة، كالذي يثبت مثلاً ان ضوء القمر مستفاد من الشمس، وان مصدر الارض هو الشمس، وان الله صانع هذا الكون، وان هذه الوردة بيضاء وذات عشر وريقات… الخ.

2ـ نمط الاستقراءات المهتمة بالافراد المتشابهة في الخصائص الاساسية، كما في المثال المتقدم حول تمدد الحديد بالحرارة، حيث ان افراد الحديد وكذا الحرارة، كلها تتشابه من حيث الخصائص الاساسية، اي انها متحدة في عنصر الماهية حسب الاصطلاح المنطقي. وعلى العكس من ذلك الاستقراءات التي تهتم بالجوانب المختلفة للماهية، كالذي يستقرئ التكاثر الجنسي لدى الحيوانات المختلفة، مثل القرد والحصان والفأر والسمك وما الى ذلك، وكالذي يستقرئ حركة الفك الاسفل عند المضغ لدى الحيوانات.

3ـ نمط الاستقراءات ذات النتائج اليقينة او المتاخمة للعلم، كالاستقراء الذي يثبت ان الله تعالى هو صانع هذا الكون، وان الحديد المختبر يتمدد بالحرارة، وان زيداً من الناس سيموت، وان ذلك اليورانيوم سيتحول عبر الزمن الى رصاص، وما الى ذلك من نتائج استقرائية مؤكدة او شبه مؤكدة. وعلى خلافها هناك استقراءات لا تفيد اليقين ولا الاطمئنان، وبعضها قد ثبت بطلانها، مثل التعميم القائل بان كل غراب اسود، فهو تعميم لا يبعث على الاطمئنان، فربما نجد غراباً ابيض، وشبيه بذلك ما ظنه الاوروبيون طوال قرون عديدة من انه لا يوجد غير البجع الابيض، حتى اكتشفوا اخيراً البجع الاسود في استراليا. ومثله التعميم القائل بان كل حيوان يتكاثر جنسياً، فقد يتبادر لنا عند استقرائنا لظاهرة التكاثر لدى عدد كبير من الحيوانات بان التعميم صحيح، في حين انه خاطئ، فهناك طائفة من الحيوانات البدائية تتكاثر بطرق لا جنسية، مثل طريقة الانشطار وما اليها.

4ـ نمط الاستقراءات ذات العلاقة السببية، كالمثال القائل بان غليان الماء ناتج بسبب الحرارة، وان سقوط الاشياء على الارض حاصل بسبب الجاذبية، وغير ذلك مما لا يحصى. وعلى عكسه الاستقراءات غير القائمة على السببية، كاستقراء تتابع الليل والنهار، واستقراء اقتران السواد بالغربان، ووجود العينين فوق الانف لدى الانسان، وما الى ذلك.

ويتفرع عن هذا النمط بعض الاصناف الهامة، من قبيل الاستقراءات التي تتعلق بتوليد ظاهرة معينة بطرق مختلفة. فمع ان الاسباب مختلفة، الا انها متكافئة من حيث القدرة على توليد الظاهرة. فمثلاً رغم انه بالامكان انتاج الحيوانات بطرق جنسية، فانه يمكن كذلك انتاجها باساليب الاستنساخ غير الجنسية.. وكما يمكن توليد الطاقة الحرارية بواسطة النار مثلاً، فانه يمكن توليدها عن طريق الاشعة الضوئية او التيارات الكهربائية او الاحتكاك او غير ذلك. كما يتفرع عن النمط السابق صنف الاستقراءات القائمة على اعتبارات التأثيرين الدوري والمتبادل. فمن امثلة التأثير الدوري علاقة الدجاجة بالبيضة، فالدجاجة تولد بيضة، والبيضة تنتج دجاجة، وكذلك علاقة الكهرباء بالضوء، حيث ان كلاً منهما يمكن ان ينتج الاخر. أما من امثلة التأثير المتبادل، فكما هو ملاحظ بالنسبة للعلاقة بين الانسان والمجتمع من جهة، وبين العامل الاقتصادي من جهة اخرى. فالاقتصاد يعتبر عاملاً من عوامل تغيير الانسان او المجتمع، ولكن هذا الاخير يعتبر بدوره عاملاً مهماً بالنسبة الى التأثير على الاقتصاد.. وبالتالي يمكن ان تتولد من ذلك حركة جدلية متفاعلة بين الطرفين.

5ـ نمط الاستقراءات ذات العلاقات النسبوية، كالذي عليه قانون دوركايم الاحصائي في الانتحار (الاناني)، حيث ينص على ان الانتحار يتناسب تناسباً عكسياً مع التماسك الاجتماعي، فكلما ازداد التماسك كلما قلّت نسبة الانتحار، والعكس بالعكس. ومثل ذلك ايضاً قانون علاقة الضغط بحجم الغاز، حيث ينص على ان حجم الغاز يتناسب تناسباً طردياً مع الضغط المسلط عليه عند ثبوت درجة الحرارة. فهذا النمط يستقرئ علاقات الاطراف من حيث نسبة بعضها الى البعض الاخر، سواء كانت هذه العلاقات تتضمن السببية او لا تتضمنها، وسواء كانت طردية او عكسية.

6ـ نمط الاستقراءات المتعلقة بالاشياء الثابتة الاطراد، كتتابع الليل والنهار، وشروق الشمس وغروبها، وتبدد الطاقة، وحركة الاشياء دائماً. وعلى عكسها الاستقراءات التي تتعلق بالاشياء المشروطة او غير المطردة، من قبيل غليان الماء المشروط بعدد من الظروف كدرجة الحرارة والضغط وما الى ذلك.

7ـ نمط الاستقراءات المناسبة للتفسيرات القائمة على الافتراضات العلمية، كالافتراضات الخاصة بنظريات العلوم الطبيعية مثل الجاذبية والنسبية، والافتراضات المتعلقة بتفسير الظواهر الاجتماعية والتاريخية والسياسية وغيرها.

8ـ نمط الاستقراءات الخاصة بالعلاقات الرياضية، وهي اما ان تعطي تعميمات صحيحة، او انها لا تقبل التعميم رغم ما تحظى به احياناً من تواتر في الحدود المتوالية. ومن مصادفات هذه الحالة الترتيب الرياضي التالي:

9  × 9  + 7  = 8 8

8 9 × 9  + 6  = 8 8 8

7 8 9 × 9  + 5  = 8 8 8 8

6 7 8 9 × 9  + 4  = 8 8 8 8 8

5 6 7 8 9 × 9  + 3  = 8 8 8 8 8 8

4 5 6 7 8 9 × 9  + 2  = 8 8 8 8 8 8 8

3 4 5 6 7 8 9 × 9  + 1  = 8 8 8 8 8 8 8 8

ومن امثلة هذه المصادفات ما يلاحظ في ثلاثية الحدود التالية:

2 + ن + 41)، اذ التعويض في العامل (ن) بأي رقم كان من الواحد وحتى الاربعين يعطينا ناتجاً عدده اولي، اي صفته لا يقسم على عدد صحيح آخر، لكن عندما تبلغ (ن) حد الاربعين فان الناتج سوف لا يكون اولياً، ذلك انه يساوي (1681)، وهو يقسم على العدد (41).

ومن الطريف ان الفيلسوف الرياضي لايبتنز كاد يصل الى تعميم احدى الحالات الرياضية؛ لولا انه استدرك الشذوذ بنفسه، حيث لاحظ في عدة حالات ان العلاقة التالية:

م – ن) تقبل القسمة على (م) حينما تكون (ن) عدداً صحيحاً، و(م) عدداً فردياً. فالعدد (ن3 – ن) يقبل القسمة على (3), والعدد (ن5 – ن) يقبل القسمة على (5), والعدد (ن7 – ن) يقبل القسمة على (7). لكن هذا الاطراد يبطل مع العدد (ن9 – ن)، اذ ان (92 – 2 = 510) لا تقبل القسمة على (9)، كما لاحظ لايبتنز ذلك بنفسه.

وبمثل هذه الحالة ارتكب عالم الرياضيات السوفيتي جرافي خطأً من ذلك النوع، حيث افترض انه اذا كانت (ن) عدداً اولياً فان العدد (2ن-1 -1) سوف لا يقبل على الدوام القسمة على (ن2)، وقد اكد التعويض المباشر صدق هذا الافتراض لجميع الاعداد الاولية الاقل من الالف، الا انه سرعان ما ثبت ان العدد (10922 -1) يقبل القسمة على (1093)2، وبه يبطل الافتراض السابق[i].

الاستقراء الارسطي الصحيح

يمكن ان نتساءل: ماهي الاستقراءات التي اعتمد عليها المنطق الارسطي واعتبرها صحيحة ومنتجة لليقين؟

وكجواب عن هذا السؤال يمكن ان نحدد الشروط التي اشرطها هذا المنطق لحصر الاستقراءات الصحيحة المنتجة لليقين، وهي ثلاثة كالتالي:

اولاً: ان يكون الاستقراء قائماً على التشابه في الخصائص الاساسية للافراد والحالات المستقرأة. فالمنطق الارسطي لم يعتبر الاستقراء القائم على الاختلاف في الخصائص الاساسية – او الماهية – صحيحاً.  فمثلاً انه يُخطّئ التعميم القائل (ان كل حوان يحرك فكه الاسفل)، فهذا التعميم هو نتيجة مشاهدة عدد كبير من انواع الحيوانات التي تحرك فكها الاسفل عند المضغ، والخطأ فيه انه استقراء قائم على الانواع ذات الماهيات المختلفة وليس على افراد النوع الواحد، ومن حيث الواقع نجد انواعاً من الحيوانات تخالف هذه الظاهرة، كما هو ملاحظ لدى التمساح حيث يحرك فكه الاعلى لا الاسفل[ii]. ومن هذا القبيل ايضاً حكمنا بان كل نبات يحترق بالنار، اذ – كما قيل – لعل بعضه لا يحترق بها[iii]. وربما على هذه الشاكلة لا يصح تعميم الحكم القائل: (كل حجر يرسب في الماء)، حيث عدّه الفارابي غير مفيد لليقين[iv].

ثانياً: ان ينشأ الاستقراء وفقاً لملاحظة الظروف. فالمنطق الارسطي يُخطّئ التعميم والحكم الكلي عند عدم اعتبار الأخذ بوحدة الظروف التي تتم فيها العملية الاستقرائية او ما يطلق عليها التجربة. فمثلاً اذا اتضح لك بالاستقراء ان في هذا البلد يولد ناس سود دائماً، لا يحق لك ان تعمم هذه الظاهرة على كل بلد. وهناك قاعدة عامة ذكرها ابن سينا تفيد هذا المعنى، حيث يقول: ان التجربة ليست ‹‹تفيد علماً كلياً قياسياً مطلقاً، بل كلياً بشرط، وهو ان هذا الشيء الذي تكرر على الحس تلزم طباعه في الناحية التي تكرر الحس بها امراً دائماً››[v]. وتكشف هذه القاعدة عن كون الاستقراء لا يفيد حكماً صحيحاً ما لم ينشأ تبعاً لاعتبار الظروف المحددة نسبياً.

ثالثاً: ان يكون الاستقراء متضمناً لحالة السببية، فما لم يحصل بها علم لما كان يمكن له ان يصلح في انتاج الحكم او التعميم الصحيح. فمثلاً لا يصح تعميم السواد على كل غراب لمجرد مشاهدة عدد قليل من الغربان السود، اذ ليس من المعلوم ان تكون هناك علاقة سببية تربط السواد بالغراب. ولهذا اكد المنطق الارسطي بانه لكي يمكن اجراء حالة التعميم الصحيح في هذا المثال لابد من معرفة السبب، كإن يعرف ان للغراب مزاجاً ذاتياً من شأنه احداث صفة السواد على الريش[vi].

على ان المنطق الارسطي يكتفي في تصحيح الاستقراء ان تكون معرفة السببية على سبيل الاجمال. اذ لو حددت ماهية السبب لكانت القضية عنده لا تنعقد تحت عنوان ‹‹المجربات››، وانما تدخل ضمن عنوان آخر يطلق عليه ‹‹الحدسيات››. أما كيف يمكن الكشف عن السببية، فسنعرف ان هذا يتم عن طريق المبدأ القائل: (الاتفاق لا يتكرر أكثرياً ولا دائمياً).

ويلاحظ ان المنطق الارسطي يعد ان ما يدخل ضمن عنوان الاستقراء او التجربة العمليات التي تفضي الى حالة كل من التعميم والحكم الكلي، وما عدا ذلك لا يدخل ضمن العنوان المشار اليه. فمثلاً انه لا يجعل إثبات الحالة الخاصة ضمن الاستقراء او التجربة، لكون النتيجة فيها لا تنطوي على تعميم او حكم كلي، وانما تتضمن حالة خاصة فقط. ولا يعني ذلك انه ينكر الاستدلال على الحالات الخاصة، فعلى العكس انه يعتبر الاستدلال عليها مما يقع ضمن عنوان الحدسيات او المتواترات، وقد تكون الحالة الخاصة ليس مستدلاً عليها، كما في الحسيات. وعنده ان أقرب مبدأ للاستقراء او التجربة هو مبدأ الحدسيات، إذ يعتبره يجري مجرى التجربة وإن كان ليس منها. وكما يقول ابن سينا: ‹‹وما يجري مجرى المجربات الحدسيات، وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس من النفس قوي جداً فزال معه الشك، وأذعن له الذهن… مثل قضائنا بان نور القمر من نور الشمس لهيئات تشكل النور فيه، وفيها ايضاً قوة قياسية وهي شديدة المناسبة للمجربات››[vii].

فالفرق بينهما لدى المنطق الارسطي هو انه في المجربات يعرف وجود السببية لدى علاقات الاشياء دون أن تُعرف ماهيتها بالضبط او على نحو الدقة. فمثلاً ان مشاهدة سقوط المواد على الارض يجعلنا نعرف ان هناك سبباً ما هو الذي أدى الى مثل هذا السقوط، ولكن معرفة ماهية هذا السبب وطبيعته فهي مجهولة لدينا، اذا ما اقتصرنا على ملاحظة ظاهرة السقوط فقط. بينما في الحدسيات يعرف السبب وماهيته معاً. ففي مثال نور القمر ندرك وجود السببية بينه وبين غيره، كما تعرف ماهية هذا السبب، حيث حددت بنور الشمس دون غيره.

كما ان هناك فرقاً آخر، وهو انه في المجربات تكون الملاحظة سارية على سلسلة واحدة من العلاقات المطردة او المشروطة، حتى يمكن ان يحصل التعميم من خلال ملاحظتها بالذات. بينما في الحدسيات ان الملاحظة – او الاختبار – تجري على سلاسل مختلفة لها علاقة بامر واحد يراد اثباته بطريقة تلك الملاحظات المؤدية اليه. فمثلاً يمكن الاستدلال على ان الارض منبثقة من الشمس؛ عبر اثبات عدة امور مختلفة، كمعرفة ان عمق الارض وباطنها ساخن جداً، وان هناك اشتراكاً بين الارض والشمس في العناصر ونسب وجودها، وان حركة الارض حول نفسها تدور بنفس اتجاه حركة الشمس حول نفسها، اي من الغرب الى الشرق، وغير ذلك من المؤشرات التي تتناسب مع افتراض كون الارض ناشئة من الشمس. وهذا التفريق يناسب ويطابق ما ذكره الشيخ نصير الدين الطوسي في شرحه لكتاب (الاشارات والتنبيهات)، اذ يقول: ‹‹ولما كان السبب غير معلوم في المجربات الا من جهة السببية فقط؛ كان القياس المقارن لجميع المجربات قياساً واحداً، والمقارن للحدسيات لا يكون كذلك فانه اقيسة مختلفة حسب اختلاف العلل في ماهياتها››[viii].

واستناداً الى ما علمنا من الافادات الارسطية السابقة، فانه يمكن ان تحصل حالة التعميم في الحدسيات. بل ويمكن ان يتحول الحكم وينتقل مما هو ضمن المجربات الى الحدسيات. فمثلاً قد نعلم ان الحديد يتمدد حين نقربه من الحرارة، نتيجة عدة اختبارات كشفت لنا ذلك، فنستنتج حكماً استقرائياً يقع ضمن المجربات، وهو ان كل حديد يتمدد حين يقترب من الحرارة. لكن لنفترض اننا استطعنا ان نعرف – فيما بعد – هوية السبب في تمدد الحديد، كإن يكون متمثلاً بذات الحرارة، ففي هذه الحالة يصبح الحكم ضمن الحدسيات لا المجربات، حيث انه ينطوي على العلم بماهية السبب، فيصح القول: ان تمدد الحديد كان بسبب الحرارة ذاتها، وهذا الحكم قابل للتعميم والكلية، اذ يمكن ان نقول: ان الحرارة هي سبب تمدد كل حديد.

وبطبيعة الحال، ان هذا الفرق والتحويل يثير اشكالاً ضد المنطق الارسطي، اذ بنظره ان الحكم في المجربات والحكم في الحدسيات هما من الاحكام العقلية الثابتة، في حين لاحظنا – في مثالنا السابق – حصول التغير والتحويل من الحكم الاول الى الحكم الثاني، حتى يمكن القول ان الحكم الاول ليس بمستوى الدقة التي يحظى بها الحكم الثاني. لذا كيف يمكن للمنطق الارسطي ان يبرر التحول في مستوى الدقة للحكمين السابقين، مع انهما يعتبران لديه من القضايا العقلية الثابتة؟!

لكن علينا ان نعترف بان هناك اذواقاً اخرى للتفريق بين التجربي والحدسي قد تكون من فعل متأخري المناطقة، وهي ليست شائعة كالذي ذكرناه. فاضافة الى ان بعض المنطقيين لا يفرق بينهما ويضعهما معاً ضمن التجربي، فان هناك من يفرق بينهما، حيث اذا كان ضمن تجربة الانسان وفعله كأكله وشربه وتناوله للدواء فانه يسمى تجربياً، واما اذا كان خارجاً عن قدرته كتغير اشكال القمر مثلاً فانه يسمى حدسياً[ix]. بل وهناك من يعتبر الحدسيات ليست من القطعيات – كالاوليات والتجربيات والمتواترات – وانما من الظنيات، كما جاء في شرح العضدي للمختصر الحاجبي[x].

عموماً فقد اتضح بان هناك شروطاً ثلاثة لانتاج الاستقراء الارسطي الصحيح (التجربة)، هي باختصار:

1ـ التشابه في الخصائص الأساسية للحالات او الافراد المستقرأة.

2ـ وحدة الظروف او تماثلها.

3ـ معرفة السببية.

هل يقبل التعميم الارسطي الشذوذ؟

نعلم ان من التعميمات ما قد لا نحتمل فيها الشذوذ ضمن الظروف الاعتيادية، كإن نقول: كل حديد الارض يتمدد بالحرارة. وعلى خلافها هناك تعميمات نحتمل فيها الشذوذ، كقولنا: كل انسان له عينان، حيث حتى لو صح هذا الحكم لجميع افراد العالم فانه قد يقوى في النفس ان يشذ عنه بعض الافراد من الاجيال التالية، لاسباب عرضية مجهولة الحدوث عندنا. لكن ما هو موقف المنطق الارسطي من مسألة الشذوذ، فهل يعتبر التجربة تقبل مثل هذا الشذوذ ام لا؟

لا شك ان المنطق الارسطي يعتقد بجواز حدوث الشذوذ، في الوقت الذي يعده لا يدل على خطأ التجربة او خطأ يقينها، وذلك عند توفر شروطها الخاصة، بل يدل على عروض مانع قاوم حصول الاثر بعد وجود المؤثر. فمثلاً انه لما تم التحقق بان نبات السقمونيا يسهل الصفراء[xi]، فان بالامكان التيقن بكلية هذا الحكم في ظل الظروف التي نشأ فيها الاستقراء. لكن هذا لا يمنع من ان يوجد هناك سبب عارض يحيل دون وقوع الاسهال بعد وجود السقمونيا. فذلك الشذوذ لا يبطل كون السقمونيا من شأنه اسهال الصفراء، سواء كان هذا النبات عبارة عن السبب الذاتي للاسهال، او انه مقارن في طبعه لهذا السبب[xii]. ففي كلا الحالين يمكن القول ان من شأن السقمونيا إحداث الاسهال، حتى لو لم يحدث ذلك احياناً بسبب بعض الموانع العارضة. وكما يقول الشاطبي هو أن الأمر الكلي المستنتج بالاستقراء لا يعارض بالجزئيات الشاذة، حيث يظل الكلي صحيحاً ثابتاً[xiii].

وكل ما يشرطه المنطق الارسطي بهذا الصدد هو وحدة الظروف العامة التي عليها يصدق حكم التجربة الكلي. أما مع عدم حصول هذا الشرط فان ذلك لا يحقق صدق التجربة، وفي مثالنا السابق انه لو لم يتحقق ذات الظرف او مثيله الذي نشأ فيه لحاظ كون السقمونيا يسهل الصفراء، فان ذلك لا يبرر هذا الحكم في ظروف اخرى مختلفة. اذ قد يقترن هذا النبات مع ما يمنع من وقوع الاسهال في الظروف الاخرى على الاكثرية او الدوام. وكما يقول ابن سينا: ‹‹يجب ان يكون الحكم التجربي عندنا هو ان السقمونيا المتعارف عندنا، المحسوس، هو لذاته او طبع فيه يسهل الصفراء الا أن يقاوم بمانع››[xiv].

الحلول الارسطية لمشاكل الاستقراء

لقد حصر المفكر الصدر مشاكل الاستقراء في ثلاث: فالمشكلة الاولى تتعلق باثبات مبدأ السببية العامة، حيث بدون هذا الاثبات كان من المحتمل ان تتحقق الظاهرة من دون سبب على الاطلاق، كما من المحتمل ان لا تتحقق رغم وجود السبب.

والمشكلة الثانية تتعلق بتحديد السببية الخاصة، فلو فرضنا اننا تغلبنا على المشكلة الاولى وعرفنا ان الاسباب ترتبط بمسبباتها على الدوام، فستظل معنا مشكلة تحديد الاسباب. فمثلاً عندما نشهد ظاهرة تمدد الحديد، نعرف ان لها سبباً ما لا على التعيين، وفقاً لحل المشكلة الاولى، لكن تظل امامنا معرفة هوية السبب المؤدي الى ايجاد الظاهرة، فهل هي الحرارة او الضغط او الاحتكاك.. او ماذا؟

ولنفترض اننا تمكنا من حل هذه المشكلة، وعرفنا ان تمدد الحديد الذي اختبرناه كان بسبب الحرارة لا غيرها.. الا انه مع هذا تصادفنا مشكلة اخرى تتحدد بالشيء الذي يبرر لنا تعميم ما اختبرناه على الحالات التي لم تخضع للاختبار. وبعبارة اخرى: ما هو المبرر الذي يجعلنا ننتقل في الحكم والاستدلال من الخاص والجزئي الى العام والكلي، او مما هو شاهد الى ما هو غائب؟

وهنا لابد ان نستعرض رأي المنطق الارسطي في كل من هذه المشاكل الثلاث قبل ان نتعرف على موقف المفكر الصدر من الحلول الارسطية.

يعتقد المنطق الارسطي ان هناك ثلاثة مبادئ قبلية (عقلية) تكفي لحل المشاكل السابقة. فحل المشكلة الاولى موقوف على التسليم بمبدأ السببية العامة كمبدأ اولي ضروري ثابت الصدق دون ان يفتقر الى ما يبرهن عليه. وحل المشكلة الثالثة موقوف على مبدأ عقلي اخر مستنتج عن مبدأ السببية السالف الذكر، ويدعى مبدأ التناسب او الانسجام، وهو ينص على ان الحالات المتشابهة تؤدي الى نتائج متماثلة. فمثلاً لما كانت قطع الحديد المختبرة تتشابه مع قطع الحديد غير المختبرة، فلابد ان تتماثل النتائج عندهما، فكما ان الاولى قد تمددت بالحرارة، فان الاخرى لابد ان تتمدد بها ايضاً، طالما انها تشابه القطع الاولى المختبرة. اما حل المشكلة الثانية فهو موقوف على مبدأ اخر، ادعى المنطق الارسطي عقليته وقبليته، وهو يقول: ان الاتفاق والصدفة لا يتكرران اكثرياً ولا دائمياً[xv]. فمثلاً لو كانت العلاقة بين الحرارة وتمدد الحديد علاقة صدفوية غير لزومية لما تكرر الاقتران بينهما خلال كل المشاهدات الملحوظة او اغلبها. فالصدفة اذا حدثت، انما تحدث بشكل نادر او قليل.

هذه هي حلول المنطق الارسطي للمشاكل الثلاث المتقدمة. ويلاحظ من خلالها ان الدليل الاستقرائي وفقاً لهذا المنطق يتوقف على ما يلاحظ من الاقتران بين الاشياء، فاذا ادركنا ان هناك اقتراناً كثيراً بين شيئين جاز لنا ان نحدد السببية بينهما، ومن ثم نعمم هذه السببية على المتشابهات. فالمسألة – اذن – متوقفة على اقتناص حصول الاقتران المستمر بين الظواهر، ليمكن تحديد السببية وتعميمها.

وطبقاً للحلول الارسطية فان الاستقراء ينحو منحى القياس الذي يسير فيه الاستدلال مما هو عام وكلي الى ما هو خاص وجزئي. ففي المثال السابق اذا تعين اقتران تمدد الحديد بالحرارة كثيراً، وحيث ان الصدفة لا تتكرر اكثرياً ودائمياً، فلابد على ذلك ان يكون الاقتران المذكور ليس صدفة، وبالتالي يتعين ان تكون الحرارة هي سبب تمدد الحديد وفق هذا القياس. وكذا الحال بالنسبة لقياس التعميم، حيث يقوم على مقدمة كبرى تقول ان الحالات المتشابهة تؤدي الى نتائج متماثلة، ولما كانت القطع الجديدة تتشابه مع قطع الحديد المختبرة، فلابد لذلك ان تتمدد وفق هذا المنطق. وهذا يعني أن الدليل الاستقرائي ينطوي على قياس برهاني، سواء من حيث تحديد السببية او تعميمها.

أساس قيام الاستقراء الارسطي

ذكرنا فيما مضى ان من الشروط الاساسية لقيام الاستقراء الصحيح عند المنطق الارسطي، معرفة السببية، فما لم تعرف فانه لا يمكن تصحيح الاستقراء. وهنا يمكن ان نتسائل عن كيفية معرفة السببية، فهل هناك قاعدة ثابتة لهذا الامر؟

لقد اعتبر المنطق الارسطي ان اكتشاف السببية ناتج عن المبدأ العقلي القائل بعدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً. فاي استقراء يبدي لنا استمرار الاقتران بين امرين لابد ان يكون كاشفاً عن وجود علاقة السببية، ومنه جاز تعميم هذه العلاقة ضمن ظروفها الخاصة. وكما يقول ابن سينا: ‹‹ان هذا الشيء الذي تكرر على الحس تلزم طباعه في الناحية التي تكرر الحس بها أمراً دائماً، الا أن يكون مانع فيكون كلياً بهذا الشرط لا كلياً مطلقاً، فانه اذا حصل امر يحتاج لا محالة الى سبب ثم تكرر مع حدوث امر (آخر)، علم أن سبباً قد تكرر. فلا يخلو إما أن يكون ذلك الامر هو السبب او المقترن بالسبب، او لا يكون سبب. فان لم يكن هو السبب او المقترن بالطبع بالسبب لم يكن حدوث الامر مع حصوله في الاكثر، بل لا محالة يجب ان يعلم انه السبب او المقارن بالطبع للسبب. واعلم ان التجربة ليست تفيد الا في الحوادث التي على هذا السبيل والى هذا الحد››. فمثلاً ان ولادة السود في السودان من اخرين سود؛ دال على التجربة او الاستقراء المفيد للعلم، وذلك ضمن بلد السودان لا غير[xvi].

فالفارق بين الاستقراء الناقص الذي لا يفيد العلم واليقين، وبين التجربة المفيدة لهما، يتحدد بدور ما يلاحظ من كثرة الاقترانات بين الظواهر او قلتها. فلو ادركنا هذه الكثرة في الاقتران بين ظاهرتين لصح لنا ان نتأكد من وجود التجربة بينهما، ونعتبر ان هناك سببية ما تربطهما، تبعاً لمبدأ عدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً. اما لو كان الاقتران قليلاً ولمرات محدودة لما جاز لنا تصحيح مثل هذا الاستقراء، طالما ان من الممكن ان يكون الاقتران صدفة يجوز تكررها قليلاً[xvii]. وقد اعتبر ارسطو ان البرهان في التجربة يحصل في حالتين: احداهما ان تكون مقدمات القياس البرهاني ضرورية، فتكون النتيجة ضرورية ايضاً. كما قد تكون المقدمات اكثرية، فتكون النتيجة مثلها. لكن كل ما يكون بالاتفاق والصدفة فهو ليس اكثرياً ولا ضرورياً، وبالتالي فانه لا يكون موضعاً للاستدلال والبرهان[xviii]، وهو ما يصدق على الاستقراء الناقص الذي لا يفيد علماً وتجربة.

مطابقة واعتراض

بالرغم من ان الفارابي قد ذكر بان الكثير من الناس يبدلون اسم التجربة بالاستقراء، والاستقراء بالتجربة، واعتبر ذلك ليس مهماً في جريان العبارة[xix]، الا ان التمايز الحاصل بينهما طبقاً لاشارات المنطق الارسطي هو ان التجربة لا تسمى استقراء الا عندما يفيد العلم واليقين، اي ان هناك استقراء ناقصاً لا يفيد اليقين، كما هناك تجربة تتضمن الاستقراء المفيد لليقين. وهو المعنى الذي توصل اليه المفكر الصدر كتحليل لمبنى المنطق الارسطي، لذلك فقد اعترض على شارح المنظومة الذي فهم مصصلح (التجربة) التي تفيد اليقين انها تعني كون الظاهرة تتضمن التأثر والتأثير – اي الفعل والانفعال -، على عكس الاستقراء الذي لا يفيد اليقين، وكما يقول: ‹‹بان التجربيات لا يقال الا في التأثير والتأثر، فلا يقال جربت ان هذا الفأر اسود مثلاً، بل يقال جربت ان النار محرقة وان السقمونيا مسهل››[xx].

وقد فُهم هذا النص بانه يعني حصر مجال (التجربة) بحدود تدخل الانسان ومباشرته في صنع الظاهرة المستقرأة، وذلك في قبال الظواهر الناجزة في الطبيعة[xxi]. ومع ان هناك من سلك هذا المسلك، الا ان النص السابق لا يدل عليه، حتى ان البعض قد نقد ذلك المسلك في الوقت الذى سلّم بكون التجربة لا تصدق الا في دائرة التأثر والتأثير[xxii]، وهي اعم من الحالة الاولى التي مفهومها يناسب – الى حد ما – المعنى الحديث للتجربة.

مهما يكن ان التجربة عند اقطاب المنطق الارسطي تتحقق بشرط واحد هو ملاحظة الاقتران الكثير او الدائم بين ظاهرتين معاً، سواء كان ذلك عن طريق تجريب الانسان وتدخله بذاته، او كان نتيجة التأثر والتأثير بين الظاهرتين، او بدون ذلك. فمثلاً في ظاهرة اقتران الغربان بالسواد، نلاحظ انها من الظواهر الناجزة التي لا تدخل ضمن عنوان الانفعال وتجريب الانسان، ومع ذلك فلو لوحظ ان هذا الاقتران اغلبي، لصحت التجربة لدى هؤلاء الاقطاب وعلى رأسهم ابن سينا.

نعم، هناك نص لابن سينا قد يوهم بان التجربة لا تكون الا تبعاً لكشف الانسان وتأثيره، اذ يقول: ‹‹فإنا انما نقول كل غراب اسود بوجه من الاستقراء والتجربة، وانما يمكننا ان نتيقن بذلك اذا عرفنا ان للغراب مزاجاً ذاتياً من شأنه ان يسود دائماً ما يظهر عليه من الريش. فبيّن ان الشيء او الحال اذا كان له سبب لم يتيقن الا من سببه››[xxiii].

ويفيد هذا النص ان معرفة الظواهر لا تكون الا من خلال معرفة السببية؛ كإن يتم فحص تركيب الغراب والكشف عن العلاقة اللزومية بين سواده وبين مزاجه الذاتي. وهو لا ينفي الطريق الاخر للتجربة الذي يتم عبر المشاهدة الحسية الكثيرة والتي من شأنها الكشف عن الاقتران اللزومي بين السواد والغراب بشكل مجمل. فكلا الطريقين يؤديان الى نفس النتيجة من العلم الكلي. اما لماذا ذكر الطريقة الاولى في النص السابق دون الثانية؟ فذلك يعود الى ان مناسبة الحديث ليست بصدد التجربة والاستقراء، وانما بصدد شيء اعم له علاقة بالمعرفة اليقينة بالقضايا المنطوية على العلاقات السببية عموماً. فابن سينا اراد من ذكره للمثال السابق ان يبين بان التوصل الى اليقين لا يأتي الا من خلال معرفة علاقة السببية، فمثّل لذلك بظاهرة قابلة للاختبار والفحص من قبل الانسان، وهي لا تدل على حصر طريقة التجربة بهذا النوع من الكشف المنطوي على تأثير الانسان.

فالفرق بين الطريقة الاولى (الاختبارية) والثانية (الحسية)، هو ان الاولى بامكانها ان تحدد لنا حدود العلاقة السببية بشكل اقرب مما تفعله الطريقة الثانية. فبحسب الطريقة الثانية (الحسية) لا يمكننا الا ان نقول بان كل غراب من شأنه السواد، ولكن من غير ان ندعي بان السواد له علاقة بالمزاج او الغدد او الدم او غير ذلك، باعتبارنا لم نستكشف الامر عن طريق الفحص، بل كل ما اجريناه هو مشاهدة عدد كبير من الغربان السود، فاخضعناها الى مبدأ عدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً، ثم استنتجنا من ذلك بان للغراب ريشاً اسود، دون ان نتمكن من تحديد ارتباط السواد بوظائف الاعضاء الداخلية له. في حين انه بحسب الطريقة الاولى (الاختبارية) نتمكن من ان نحدد ارتباط السواد بغيره، حيث يمكن ان نكتشف بان للسواد علاقة سببية بالمزاج مثلاً. مع هذا ففي كلا الحالتين تصدق التجربة والحكم الكلي تبعاً للمبدأ الارسطي الانف الذكر.

هكذا يتضح ان اقطاب المنطق الارسطي لم يفرقوا في الاستقراء المفيد لليقين بين الاعتماد على طريقة المشاهدة والملاحظة، وبين الاعتماد على اسلوب الاختبار والفحص، الذي يسمى حديثاً (التجربة)، وذلك اذا ما استثنينا بعض الاتجاهات الشاذة التي عدّت التجربة هي كل ما يكون تحت قدرة الانسان وتصرفه، كالذي مرّ علينا في السابق. ومن ثم فان الاصطلاح الحديث لـ (التجربة) يختلف كثيراً عن الاصطلاح القديم لها – باستثناء ما ذكرنا -، مثلما اشار الى ذلك المفكر الصدر[xxiv]. وعليه فان هناك جملة من الامثلة للقضايا غير الاختبارية وضعها المنطق الارسطي ضمن عنوان (التجربة) المفيدة لليقين، فمثلاً على ذلك ما ذكرناه سابقاً حول ولادة الناس السود في السودان، فهذه الظاهرة موضوعة ضمن المجربات مع انها لم تخضع للاختبار والفحص، وانما هي من المشاهدات المحسوسة. وايضاً الظاهرة التي تنص: ان الشمس تشرق وتغرب[xxv]، حيث اعتبرها الشيخ الرئيس من المجربات مع انها لا تخضع للاختبار سوى الملاحظة الحسية.

نقد المنطق الارسطي

هناك شكلان من النقد للمنطق الارسطي في الاستقراء، احدهما يتعلق بكفاءة هذا المنطق ودقته في الكشف عن الواقع الموضوعي وقوانينه وعلاقاته، وذلك من خلال شروطه ومبادئه المفترضة. والأخر يتعلق بقيمة هذه المبادىء ومؤهلاتها لبناء الاستقراء منطقياً، الامر الذي اولاه المفكر الصدر بالاهتمام، وهو نقد يتصف بالتجريد الشديد مقارنة بالاول.

الشكل الاول من النقد

قبل كل شيء نفترض أن ما يدخل ضمن عنوان المجربات عند المنطق الأرسطي كل ما يعتمد على مبدأ عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً كالحدسيات والمتواترات من غير فصل. كما نتجاوز نقد هذا المنطق بصدد إثبات قضايا المحسوسات الجزئية التي اعتبرها من الاوليات اليقينة، مع أنها في الحقيقة تدخل ضمن الاستدلالات الاستقرائية..

ويتألف نقدنا من عشر نقاط، وهي لا تنظر بعين الاعتبار التبريرات الارسطية حتى وإن كانت مقبولة، ولا تناقش مسألة اليقين والتعميم من الناحية المنطقية، بل يكفيها أخذ إعتبار الدقة في فاعلية المنهج المطروح. والنقاط العشر من النقد هي كالاتي:

اولاً:

ان المشاهدات الحسية لا تكفي وحدها لتحديد العلاقات السببية بدقة. فمثلاً عندما نشاهد اقتراناً أكثرياً للعلاقة بين ظاهرة الصعود على الجبال وحالة نزف الدم من بعض فتحات الجسم المعروفة؛ فان ذلك لا يعطينا نتيجة دقيقة تبعاً للمبدأ الارسطي في عدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً. فكل ما يمكن ان يخبرنا هذا الاقتران هو وجود علاقة سببية بين الظاهرتين. فبالرغم من ان الصعود على الجبال يمثل احدى وسائط حدوث النزف، لكنه على اي حال لا يمثل حقيقة السبب، وإن اقترن به.

كذلك عندما نشاهد ظاهرتين مقترنتين معاً بصورة دائمة، فانه قد يتعذر علينا ان نعرف اياً منهما سبباً في وجود الاخر. فمثلاً ان الاقتران الدائم بين العفونة والجراثيم يجعل المشاهدة عاجزة عن ان تحدد من هو السبب في وجود الاخر. لهذا شهد القرن التاسع عشر جدلاً عنيفاً بين المعتقدين بأن العفونة هي سبب تولّد الجراثيم، وبين القائلين عكس ذلك، ولم يحسم الموقف الا من خلال التجارب الدقيقة التي قام بها باستير وامثاله من العلماء.

اضافة الى ذلك، قد يحصل ان الظاهرة الواحدة ربما يتم انتاجها من خلال عدة عوامل، بعضها تدل عليه المشاهدة الحسية، وبعضها الاخر لا يعرف الا بالتجارب الدقيقة، وبالتالي لو اننا اكتفينا بالاسباب المشاهدة حسياً، فسنكون قد فسّرنا الظاهرة تفسيراً ناقصاً غير دقيق. فمثلاً عندما نشاهد الماء يغلي في درجة حرارية قدرها (100م)؛ قد نتصور ان غليان الماء في هذه الدرجة كان بسبب الحرارة فحسب، اذ لم نشاهد اي عامل اخر غيرها في حدوث الظاهرة. في حين ان الاختبارات الدقيقة تكشف لنا بان هناك عاملاً آخر غير محسوس يتمثل بالضغط الجوي، فلو تغيرت درجة هذا الضغط لأدى ذلك الى تغيير درجة الغليان. وفي هذه الحالة يصبح التعميم القائل بأن كل ماء يغلي في درجة (100م)؛ تعميماً غير دقيق؛ ما لم يؤخذ باعتبار درجة ذلك الضغط.

ثانياً:

في كثير من الاحيان يكون التعميم القائم على المشاهدة خالياً من الدقة، وذلك لحدوث حالات الشذوذ بين الحوادث المتكررة. فمثلاً كم هناك فرق بين ان نقول: كل غراب أسود؛ تبعاً للحاظ عدد كبير من الغربان السود، وان نقول: كل حديد يتمدد بالحرارة؛ استناداً الى عدد من الاختبارات التي كشفت حقيقة هذا التمدد؟ ذلك اننا عادة ما نتوقع الشذوذ في المثال الاول دون الثاني. في حين لا يوجد فرق موضوعي لدى المنطق الارسطي بين الحالتين، وإن كان له تفرقة قائمة على الاعتبارات الذاتية، كما يبدو مما ذكره الشيخ الطوسي، حيث يقول: ‹‹ان التجربة قد تكون كلياً وذلك عندما يكون تكرر الوقوع بحيث لا يعتبر معه تجويز اللا وقوع. وقد يكون حكم واحد مجرباً كلياً عند شخص وأكثرياً عند آخر، وغير مجرب أصلاً عند ثالث››[xxvi].

ثالثاً:

يفترض المنطق الارسطي ان تكون الظروف التي لوحظ فيها الاقتران هي نفسها كي يمكن تحديد دائرة التجربة والتعميم. لكن هذا الافتراض قد يواجه مشكلة تتعلق بعدم الدقة في تحديد دائرة الظروف التي نشأت فيها التجربة والاستقراء. فهناك ظروف تطالها التغيرات دون ان نشعر بها، كما هناك ظروف غير محسوسة لها تأثير حاسم على صحة العملية الاستقرائية. فمثلاً قد نعتبر الحكم القائل بتوقف حياة كل حيوان على ظرف الهواء هو من التجربة الصحيحة، ولنفترض اننا قصدنا بظرف الهواء هو هذا الذي نتحسس به، ففي هذه الحالة لو ان احد عناصر الهواء الاساسية في الحياة – كالاوكسجين مثلاً – اصبح مفقوداً؛ لكان حكم التجربة السابق غير صحيح، رغم وجود الهواء المحسوس الذي يوهم بأنه نفس الظرف السابق.

ولا شك ان هذا الخطأ والاشكال لم يغب عن ذهن ابن سينا الذي ذكر يقول: ‹‹ان التجربة كثيراً ما تغلط أيضاً اذا أخذنا ما بالعرض مكان ما بالذات فتوقع ظناً ليس يقيناً. وانما يوقع اليقين منها ما اتفق إن كان تجربة فيها الشيء المجرب عليه بذاته. فأما اذا أُخذ غيره مما هو أعم منه او أخص، فان التجربة لا تفيد اليقين››[xxvii]. وبذلك فرغم ان ابن سينا قد قيّد التجربة بعدد من الشروط المتعلقة بوحدة الظرف، الا انه يجيز الخطأ، كما يجيز الشذوذ بسبب بعض العوامل الطارئة التي تمنع من حدوث النتيجة عند وجود السبب.

رابعاً:

لقد حصر المنطق الارسطي امكان صدق التجربة في الحدود الظرفية التي ينشأ فيها الاستقراء دون ان يتعدى ذلك  الى الظروف الاخرى. في حين هناك استقراءات صحيحة بامكانها ان تتجاوز الوحدة الظرفية. فمثلاً ان استقراءنا للاختلاف الحاصل في وجهات النظر بين الناس في شتى المجالات الفكرية يبرر لنا تعميم ذلك على مختلف الحضارات القديمة والحديثة، وذلك لاسباب تعود الى وجود عوامل كثيرة تقوي من احتمالات الاختلاف والتباين مقارنة بتماثل الاراء.

خامساً:

ان استنتاج السببية من الاقتران الكثير وتعميمها يفترض كونها لا تتغير في ظل وحدة الظروف، اذ لو تغيرت لبطلت التجربة والتعميم. وحيث ان من الممكن ان تتغير السببية الخاصة بفعل عوامل مؤثرة، وحيث ان هذه العوامل تمثل اسباباً اخرى قابلة لان تتأثر بغيرها من الاسباب، لذا فكل ذلك يكشف عن الطابع غير الحتمي للسببية، ومن ثم بطلان حكم التجربة والتعميم. فمثلاً يمكن بحسب المنطق الارسطي ان نعمم قضية ولادة السود في السودان بفعل الاقتران الدائم في هذه الولادة. لكن السؤال المطروح هو: ما المانع من ان تتدخل عوامل من شأنها تغيير طبيعة المادة الوراثية وإحداث الطفرات فيها؟ الامر الذي يؤدي الى ايجاد أجيال مطردة من البيض في السودان لعدد من الناس، ومن ثم تصبح التجربة والتعميم خاطئين.

سادساً:

لا بد من التفريق بين نوعين من الاستقراءات. فهناك نوع يلاحظ فيه جانب السببية بين ظاهرتين مقترنتين معاً، مثل قولنا: إن تمدد الحديد يحصل بسبب الحرارة. كما هناك نوع اخر لا ينظر فيه الى السببية، بل تقرر فيه الحقائق الثابتة الاطراد، مثل قولنا: ان المادة آخذة في التحول نحو الطاقة، وان الطاقة تنتقل من المستويات العالية لها الى المستويات المنخفضة، وان العادة الانسانية تميل الى التطورين الكمي والكيفي في السلوك، وان الانتحار يتناسب عكسياً مع التماسك الاجتماعي، وان الشمس تشرق وتغرب، وان السمك يعيش في الماء، وان اغلب الناس جاهلون، وما الى ذلك مما لا يحصى.

ويلاحظ في النوع الاول انه ينطوي على العلم بالسببية في العلاقة الاستقرائية، في حين لا يتضمن النوع الثاني هذا المعنى. وتبعاً لهذا التمييز يمكن ايضاح كيف تتدرج المعرفة الانسانية، حيث تبتدئ اولاً بادراك النوع الثاني من الاستقراء، ثم يتحول الامر الى ادراك النوع الاول منه. وعادة ما تتركب العلاقة التكاملية بينهما وفق تأسيس النوع الثاني على الاول. فمثلاً ان الدراسات الاجتماعية تبتدئ أولاً بعملية المسح الاحصائي لدراسة انماط السلوك الفردي والاجتماعي، وذلك قبل ان تشرع في البحث عن الاسباب والدوافع التي لها علاقة بهذه الانماط. وهذا يعني ان العلاقة بين الامرين هي علاقة تتحدد بمستوى الدقة والسعة، حيث ان النوع الاول ادق واوسع من الثاني.

وعليه رغم ان للمنطق الارسطي تمييزاً للعمليات الاستقرائية يشابه ما ذكرناه سلفاً، كتمييزه بين التجريبيات والحدسيات، لكنه – على ما يبدو – لا يميز بينهما من حيث الدقة والسعة المعرفية وطبيعة ما يمكن ان ينشأ بينهما من العلاقة التراكبية، وبالتالي لا يعير لهذه المعرفة من اهمية، خاصة وانه يعدهما من القضايا العقلية.

سابعاً:

في كثير من الاحيان، تتركب القوانين الاستقرائية فيما بينها حتى تؤلف قانوناً عاماً وشاملاً يتجاوز مرحلة الظروف المقترنة باكتشاف القوانين الجزئية؛ كل على حدة، كالذي يوضحه قانون الانتحار الاناني لعالم الاجتماع الفرنسي دوركايم، حيث درس جملة من الظروف المختلفة التي لها علاقة بظاهرة الانتحار، فتوصل الى ان نسبته في المدن تزداد عما عليه في القرى، كما تزداد عند العزاب أكثر من المتزوجين، وعند المتزوجين اكثر ممن لهم اطفال، ولدى هؤلاء اكثر ممن لهم عدد اكبر من الاطفال والعيال. كما تزداد نسبته لدى المنتسبين للمذهب البروتستانتي أكثر من المنتسبين الى المذهب الكاثوليكي، ويزداد أقصى حدّ للانتحار عند من يسمون بالاحرار، في حين إن أقل نسبة لهذه الظاهرة هي لدى اليهود.

فهنا لدينا مجموعة من الدراسات ذات الظروف المختلفة، وكل دراسة تفضي الى قانون استقرائي، ومجموعها يؤلف مجموعة القوانين الاستقرائية، ومنها تم استنتاج القانون العام الذي يضمها جميعاً، والذي يؤكد بان الانتحار يتناسب تناسباً عكسياً مع التماسك الاجتماعي. وواضح ان هذا القانون ليس فيه أثر للظروف التي تمت فيها القوانين المختلفة السابقة. مما يعني انه لا يخضع للشرط الخاص بمراعاة الوحدة الظرفية كما فرضها المنطق الارسطي لاجل انتاج الاستقراء الصحيح.

كما ان عنصر التركيب في قانون الانتحار لا يخضع للمتطلبات التي الزمنا بها هذا المنطق. ذلك انه اذا كان من الممكن الاستفادة من المنطق الارسطي في تطبيق مبدأ (عدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً) على العلاقة الخاصة بين ظاهرة الانتحار والمدينة مثلاً، او بين هذه الظاهرة واي ظرف اخر، فانه من الصعب تطبيق ذلك على العلاقة بين الانتحار والتماسك الاجتماعي، وذلك باعتبار ان هذا التماسك ليس ملحوظاً في الاستقراءات او النسب الاحصائية المختلفة الانفة الذكر.

ولو قيل ان النتيجة في القانون الاخير يمكن استخلاصها عبر مبدأ الحدس وفقاً للمفهوم الارسطي، لقلنا انه يشترط في الحدس – حسب هذا المفهوم – معرفة ماهية السببية، وليس في القانون السابق اي اشارة تدل على هذه الماهية. فعدم التماسك في حد ذاته لا يؤدي الى الانتحار، والا لكانت كل عزلة مفضية اليه لا محالة.

يضاف الى ذلك ان المبدأ الارسطي السابق ليس بوسعه المصادقة على الاستقراءات الجزئية التي يتضمنها قانون دوركايم. فمثلاً لو قدّرنا عدد نفوس احدى المدن بمليون نسمة، وقد اظهرت الاحصاءات ان نسبة الانتحار في هذه المدينة هي بمعدل خمس حوادث في الشهر الواحد. وعليه هل يمكن تطبيق المبدأ السابق على هذا المقدار؟

حقيقة الامر هو ان المبدأ الارسطي يفترض ضرورة حصول الكثرة او الدوام في التكرار والحدوث. في حين ان المقدار المذكور هو في غاية الضآلة مقارنة بعدد نفوس المدينة، وبالتالي فانه يشكل بمثابة الصدف العارضة التي لا اعتبار لها بحسب المنظور الارسطي.

هذا فضلاً عن ان طبيعة التعميم في القانون الاحصائي تختلف عن طبيعة التعميم في القضايا الاستقرائية الاخرى التي يصدق عليها المنطق الارسطي. فالقانون الاحصائي يرتكز على المسحة العامة دون ان يكون له تأثير بالضرورة على العناصر الفردية، فحين نقول ان الانتحار يتناسب طردياً مع العزلة، لا يعني ان كل من يتصف بالعزلة من شأنه الانتحار، وذلك لان طبيعة هذا القانون غير ناظرة للجانب الفردي، بل لها مسحة عمومية. في حين ان القضايا الاستقرائية الاخرى التي اعتمد عليها المنطق الارسطي لا تنطوي على مثل هذه المسحة (العامة)، بل ناظرة الى العناصر الفردية كشرط لا غنى عنه في صحة التجربة والتعميم. فمثلاً حين نقرر بأن السقمونيا يسهل الصفراء، فهذا يعني ان من شأن كل سقمونيا ان يسبب الاسهال. ولو لم تحصل هذه النتيجة احياناً، لكان ذلك على سبيل الشذوذ بسبب تدخل بعض الصدف العارضة. وهذا الحال لا يجري على القوانين الاحصائية كما هو واضح.

ثامناً:

من الصعب على المنطق الارسطي ان يبرر القضايا الاستقرائية المستمدة من العلاقات الاجتماعية، وذلك لان هذه العلاقات كثيراً ما تكون متشابكة ومعقدة وذات تأثيرات متبادلة، كما انها تتأثر بعوامل اخرى مختلفة. فلا يكفي في مثل هذه الدائرة الاعتماد على مبدأ عدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً، حيث لابد من الاستعانة بقرائن اخرى تفيد في الكشف عن تلك القضايا. فمثلاً اذا لاحظنا ظاهرة إقتران التطور الاقتصادي بالتطور الاجتماعي، يمكن أن نستنتج طبقاً للفهم الارسطي ان بينهما سببية ما، والا لما اقترنا بهذا الشكل المستمر، ومن ثم باستطاعته تعميم الظاهرة. الا انه من حيث الدقة يجب ان نميز بين السبب والمسبب في هاتين الظاهرتين المقترنتين، فهل التطور الاقتصادي هو سبب ظهور التطور الاجتماعي، ام العكس هو الصحيح؟

ففي مثل هذا الالتباس الحاصل في القضايا الاجتماعية لا يمكننا استنتاج وتحديد السبب والمسبب تبعاً للمبدأ الارسطي، وذلك ما لم نستعن بقرائن اخرى مختلفة تبين لنا طبيعة الحال بين الظاهرتين، حيث تكشف لنا هذه القرائن عن العلاقة الجدلية من التأثير المتبادل بين الظاهرتين، فكل من التطورين مؤثر في الاخر باستمرار..

تاسعاً:

في الطبيعة هناك جملة من الاقترانات الاكثرية والدائمية رغم انها تخلو من ارتباطات السببية. ومن ذلك ظاهرتا الحياة والموت اللتان تتكرران على الدوام من غير انقطاع، ففي الوقت الذي يموت فيه بعض الناس؛ يحيا غيرهم، ورغم هذا الاقتران الزماني فليس هناك من يزعم ان بين الظاهرتين علاقة لزومية او سببية.

هكذا يمكن ان نعود الى بحث المبدأ الارسطي، فماذا يعني هذا المنطق بقوله: ان الصدفة لا تتكرر اكثرياً ودائمياً؟ ذلك انه يعتبر ان الصدفة او الاتفاق عبارة عن اقتران ظاهرتين معاً بغير لزوم تبعاً لبعض العلل العارضة. فمثلاً قد يقترن وقت زواج احد الاشخاص بموت اخر، وقد يقترن سقوط المطر مع هبوب الرياح، كما قد يقترن حدوث زلزلة مع الاصابة بمرض الطاعون، وغير ذلك من الاقترانات التي لا لزوم لها مطلقاً.. أي ليس يلزم من زواج أحد الأشخاص موت الآخر، ولا يلزم من سقوط المطر هبوب الرياح، كما لا يلزم من حدوث الزلزلة الاصابة بمرض الطاعون، وهكذا… في حين يلزم من اتصال الحديد بالحرارة تمدده، ومن تعرض الثوب للنار احتراقه، ومن دوران الارض حول نفسها وحول الشمس حدوث الليل والنهار والفصول الاربعة، وغير ذلك من الاقترانات اللزومية.

وهنا نعود الى ما كنا عليه من السؤال السابق، اذ يقصد المنطق الارسطي من ان الاقترانات بين الظواهر اذا لم تكن لزومية فانها لا تتكرر اكثرياً ودائمياً. ومنه يستنتج بان الاقترانات لو كان تكررها اكثرياً او دائمياً فانها ستدل على وجود العلاقة السببية، حيث من المحال تكرر الاقترانات الخالية من اللزوم باستمرار.

ولا شك انه لا يمكن حمل هذا المعنى على اطلاقه من غير شروط وقيود، وذلك لان أغلب الاقترانات الحادثة في عالم الطبيعة والحياة تعتبر صدفوية خالية من اللزوم. اذ أي إلزام يربط بين إقتران مجمل الحوادث التي تحصل في بلد ما كافغانستان، واخرى تحدث في افريقيا او فرنسا او غيرها؟ ذلك ان الحوادث جارية في كل مكان وزمان، وهي اذ تحدث في مكان ما لابد من ان تقترن مع غيرها في مكان اخر بذات الوقت، ومع هذا فليس ثمة لزوم بين المجموعتين من الحوادث. وبالتالي كان لابد من تقييد المبدأ الارسطي ببعض الشروط.

اذن لنفترض أن التقييد يندرج ضمن دائرة العلاقة النوعية. بمعنى انه لا يُلتفت الى حالات الاقتران الحاصلة بين مطلق الاشياء، بل يقيد الامر بدائرة إقتران أفراد نوع معين بأفراد نوع اخر، فاذا لوحظ ان هناك تكراراً اكثرياً او دائمياً بين افراد النوعين كان بالامكان استنتاج العلاقة اللزومية والسببية بينهما. فمثلاً يصح اعتبار السقمونيا مسهلة للصفراء، بسبب ملاحظة الاقتران المستمر بينهما. فهذه العلاقة اللزومية مستنتجة من خلال لحاظ الاقتران الحاصل بين افراد نوع السقمونيا وافراد نوع الاسهال.

لكن مع هذا هناك حالات نوعية يحدث فيها الاقتران المستمر رغم انها جارية على مجرى الصدفة والاتفاق وليست لزومية. فمثلاً ايّ علاقة لزومية تربط بين عمل الفلاحين في مزرعة ما من المزارع، وبين عمل افراد خلية للنحل موجودة هناك، رغم ان العملين يمكن ان يكونا مقترنين باستمرار؟ وكذا اي علاقة لزومية تربط الاقتران المستمر بين حدوث حالات الزواج، وبين حالات القتل في العالم؟ او بين تجدد الحياة، وبين حالات الموت المطردتين؟ فلا شك ان مثل هذه الاقترانات المستمرة تعتبر صدفوية لا تقوم على اعتبارات اللزوم والسببية.

وحتى لو قيل انه يشترط في ذلك وحدة الزمان او المكان، او كلاهما معاً، فمع ذلك هناك اقترانات ذات علاقات سببية لا تحتفظ بمثل هذه القيود. فمثلاً نحن نعلم أن اليورانيوم يتحول الى رصاص، وهو يحتاج بذلك الى فترة زمنية طويلة جداً، كما نعلم ان حركة الأجرام في مداراتها تتأثر بقوة الجذب فيما بينها، رغم ان أمكنتها مختلفة وبعيدة للغاية. وعليه اذا قيّدنا المبدأ الارسطي بشرط الزمان او المكان، فسيكون من المحال علينا تبرير مثل تلك القضايا الاستقرائية. بل هناك اقترانات دائمة لظواهر تتفق زماناً او مكاناً رغم أنه لا تربطها علاقات السببية، وذلك مثل ظاهرتي الأكل والشرب اللتين تحدثان كل لحظة باستمرار لدى المعمورة كافة، وكذا اتفاق وجود البحر مع وجود بقعة الارض التي تحته.

ولا ينفع ما قد يقال انه يشترط في ذلك ان يقوم الانسان بنفسه في إقامة التجربة وإثبات العلاقة اللزومية، كالذي شهدناه لدى البعض في تأويله للمبدأ الارسطي، حيث هناك جملة من الظواهر الطبيعية لا تحتاج الى تجارب للكشف عن علاقاتها السببية، بل تكفي المشاهدة الحسية لمعرفة كونها لزومية وليست اتفاقية، ومن ذلك ما يحصل في الظواهر الفلكية.

كما لا ينفع – أخيراً – ما لو فرضنا أن المبدأ الارسطي مقيد بحالات التكرر الفردية ضمن النوع الواحد. فبحسب هذا الشرط لو شهدنا تكرر الحدوث لفرد مع اخر في نوع واحد باستمرار، فان ذلك يخول لنا استنتاج علاقة اللزوم والسببية. لكن حتى في مثل هذه الحالة نرى بعض الظواهر ما لا يصدق عليها تلك العلاقة. فنحن نلاحظ  – مثلاً – ان جزيئات الغاز في حركة دائبة مستمرة، ولنفترض اننا عينا جزيئتين من هذا الغاز لنتحقق فيما لو كانت تربطهما علاقة سببية ما، وذلك اعتماداً على مبدأ عدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً، وفي هذه الحالة سوف تتأكد لنا علاقة اللزوم بسبب حالة الاقتران الدائمة لحركة كل منهما، اذ الاقتران المستمر دال على عدم تكرر الصدفة، الامر الذي تثبت فيه علاقة اللزوم والسببية. مع انه طبقاً لقرائن كثيرة يمكن التأكد بعدم وجود اي علاقة لزومية بين حركتي الجزيئتين.

وبهذا ننتهي الى ان المبدأ الارسطي يحتاج الى صياغة معقولة، وان علاقة السببية لا تستنتج منه، والا لكنا اعتبرنا الكثير من الاقترانات الصدفوية بانها اقترانات لزومية، وهو قلب للحقيقة والواقع.

عاشراً:

هناك إصلاح جذري للمبدأ الارسطي أجراه عليه المفكر الصدر. وينص هذا الاصلاح بالقول انه كلما كانت هناك ظروف وملابسات كثيرة متغيرة ومتحركة، كلما تضاءل احتمال تكرر الظاهرة المتأثرة بهذه الظروف والملابسات. وعلى العكس كلما تضاءلت مثل هذه الظروف التي من شأنها التأثير على حرف الظاهرة، وازدادت في الوقت نفسه الدواعي التي تدعو لايجادها، فانه سيزداد احتمال تكرر الظاهرة. وكما يقول الصدر: ‹‹كلما كان دور الجزء الثابت – أي العوامل الداعية لايجاد الظاهرة – أكبر كان ترقب تكررنفس الظاهرة مرات عديدة أقوى، وكلما كان دور الجزء المتحرك – أي العوامل التي من شأنها حرف الظاهرة عن الحدوث – أكبر كان ترقب اختلاف الظاهرة أقوى››[xxviii]. واستنتج من ذلك إن العوامل المتحركة – التي من شأنها حرف الظاهرة – إن كانت كثيرة، فسوف تختلف الظواهر الناتجة دون أن تتماثل في الوقوع والحدوث. وهذا بمثابة ان الصدفة لا تتكرر باستمرار ما دامت الظروف متحركة وغير ثابتة. وقد سمى هذه الحالة بـ ‹‹قاعدة عدم التماثل›› عوض تسميتها بـ ‹‹مبدأ عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً››، لِما في ذلك من اصلاح وتعديل للمبدأ الارسطي.

فمثلاً على هذه القاعدة لنفترض انه قمنا باحصائية لدراسة ظروف الف شخص مصابين بظاهرة الانعزال او الانطواء، وقد بينت لنا هذه الدراسة أن هؤلاء الأفراد يختلفون في عقائدهم وتقاليدهم وظروفهم الحياتية بشكل كبير. ففي هذه الحالة ما هو احتمال ان ينتحر جميع هؤلاء، وذلك كتطبيق لقانون دوركايم؟

من الطبيعي ان القيمة الاحتمالية للانتحار في هذه الحالة ستكون ضئيلة جداً، وذلك باعتبار ان ظروف كل واحد من هؤلاء الاشخاص متنوعة ومختلفة بشكل كبير، وربما تكون اغلب هذه الظروف غير داعية للانتحار. لكن لنفترض للتبسيط ان ظروف كل واحد منهم تدعوه الى الانتحار بقيمة احتمالية قدرها (1\2)، ففي هذه الحالة تكون قيمة احتمال انتحار الجميع عبارة عن نصف مضروبة في نفسها الف مرة، وهي قيمة في غاية الضآلة، وعملياً انها اقرب الى الصفر. لذلك فهناك مبرر للاعتقاد بنفي حدوث مثل هذه الحالة.

وما يعنينا من ذلك انه لما كانت هناك ظروف مختلفة من شخص لاخر فان اجتماع الصدف التي تجمعهم على الانتحار هي في غاية الضآلة، وهو نفس معنى كون التماثل لا يستمر طالما هناك ظروف متغيرة من شأنها حرف الظاهرة عن التماثل.

وعليه اذا أردنا أن نعرف اذا ما كانت ظاهرة ما من الظواهر تتكرر ام لا، فلابد من دراسة ظروفها الخاصة، حيث كلما علمنا بأن هناك ظروفاً أغلبها متحركة – اي داعية الى حرف الظاهرة عن التماثل – كلما توقعنا ان الظاهرة لا تتكرر باستمرار. وعلى العكس فيما لو علمنا ان أغلب الظروف ثابتة – اي داعية الى ايجاد الظاهرة – حيث سنتوقع تماثل الظاهرة وتكررها. وهذا يعني انه لا بد من معرفة ظروف الظاهرة ودور نسبة تأثير العوامل الثابتة والمتغيرة من تلك الظروف، وذلك بالاعتماد على حسابات الاحتمال التي لم تحض باهتمام المنطق الارسطي.

مع هذا يمكن القول ان الصياغة الجديدة للمبدأ الارسطي لا تنطوي، من حيث ذاتها، على كشف السببية. ذلك انها تتحدث عن احتمالات الترقب ودور العوامل الثابتة والمتغيرة في انتاج الظاهرة، بغض النظر عن وجود السببية وعدمها. وهذا يعني ان هناك حالات تتماثل فيها الظاهرة، ومع ذلك فهي لا تتضمن الكشف عن السببية. فمثلاً لو كانت لدينا الف كرة سوداء مع عشر كرات بيض، واردنا ان نسحب عشوائياً ثلاث منها، فسوف نتوقع ان الكرات التي نسحبها ستكون كلها سوداء. فمع انه ليس بين الكرات المسحوبة اي اثر من اثار السببية، ولا بينها وبين بقية الكرات، الا ان ذلك لا يمنع من ان نتوقع عدم تكرر الصدفة في ان تكون جميع الكرات المسحوبة بيضاء، وذلك لوجود عوامل تدعونا الى خفض القيمة الاحتمالية لهذه الصورة الى ابعد حد ممكن، ورفع القيمة الاحتمالية لصالح سحب الكرات السود.

هكذا لم تكن الصياغة الجديدة كاشفة من حيث ذاتها عن السببية. وبالتالي انها ليست البديل المناسب لانقاذ الموقف الارسطي من اثبات الدليل الاستقرائي.

وبذلك قد انتهينا من تسجيل انتقادات الشكل الاول المتعلق بكفاءة الطريقة الارسطية ودقتها في الكشف عن علاقات الواقع الموضوعي وقوانينه العامة.

الشكل الثاني من النقد

قلنا فيما مضى ان لنقد الطريقة الارسطية شكلاً اخر يرتبط بقيمة المبادئ وعلاقتها ببناء الاستقراء. وهو الذي ركز عليه المفكر الصدر، باعتباره يبحث عن المبررات المنطقية الكفيلة بتأسيس الاستقراء الصحيح. فهل كانت المبادئ الارسطية صالحة لتبرير العملية الاستقرائية؟

ما سنراه ان هناك نقدين رئيسين تعرض لهما المنطق الارسطي من قبل المفكر الصدر، كما ان هناك اعتراضات اخرى ثانوية ستمر علينا فيما بعد..

مع النقد الاول

في هذا النقد ذكر المفكر الصدر ان الدليل الاستقرائي لا يحتاج مطلقاً الى المصادرات التي افترضها المنطق العقلي. فهو لا يحتاج الى افتراض مسبق لمبدأ السببية الموضوع لحل المشكلة الاولى للاستقراء. كما لا يحتاج الى افتراض مبدأ التناسب المستنتج من المبدأ السابق، والموضوع لحل المشكلة الثالثة للاستقراء. وهو ايضاً لا يحتاج الى افتراض مبدأ ‹‹عدم تكرر الصدفة باستمرار›› الموضوع لحل المشكلة الثانية للاستقراء. فالاستقراء في غنى عن كل هذه المبادىء. بل أكثر من هذا اعتقد الصدر أنه يمكن الاستدلال على جميع هذه المبادىء بطريقة الدليل الاستقرائي. فعلى الرغم من إيمانه بالطبيعة العقلية لجملة من المبادىء، فقد اعتقد بامكان الاستدلال عليها استقرائياً.

وهذه من المفارقات الكبيرة بين المنطقين الارسطي والصدري. اذ من المعلوم ان المنطق الاول يعتبر عملية الاستدلال على القضايا العقلية بالطريقة التجريبية تنطوي على استحالة ذاتية، باعتبار أن تلك القضايا تتضمن صورة الضرورة التي لا تخضع لمقاييس التجربة والاستقراء.

وفي المقابل اعتقد المفكر الصدر ان بالامكان اثبات جميع القضايا العقلية او القبلية، عدا مبدأ عدم التناقض والمصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي. وقد طبق هذه المحاولة على إثبات مبدأ السببية عن طريق حسابات الاحتمال، وخلاصتها هو انه لو قمنا بعدد كبير من التجارب الناجحة التي تكشف لنا عن وجود إقتران مستمر بين ظاهرتين معاً، لكان يمكن لنا أن نجمع قيماً احتمالية متزايدة لصالح السببية، اذ لو لم تكن إحدى الظاهرتين مرتبطة بسبب، لكان إقترانها مع الظاهرة الاخرى صدفة في كل تجربة نقيمها، ولا شك أن هذه القيمة الاحتمالية تأخذ بالتناقص اكثر فاكثر كلما ازدادت التجارب الناجحة – اي التي يتحقق فيها الاقتران بين الظاهرتين -. واذا استطعنا ان ننمي قيمة احتمال السببية الى اقصى حد ممكن، فان بالامكان افتراض حالة اليقين كمصادرة قابلة للتبرير والتفسير. فهذه هي خلاصة اثبات مبدأ السببية بما يتضمن الضرورة العقلية. مع انه من الناحية المنطقية يظل هناك امكان لوجود بعض الوقائع التي قد لا تتفق مع ذلك المبدأ. وحالة الامكان تستمر حتى لو استطعنا ان نقيم استقراء كاملاً وتاماً لجميع الوقائع الموجود في العالم. اذ في هذا الفرض سنحصل على نتيجة تقول ان هناك موافقة بين الواقع وبين المبدأ العقلي. اما الضرورة فلا سبيل لاثباتها، لان موافقة الواقع شيء، وضرورة الموافقة شيء اخر، حيث ان لهذه الاخيرة بعدها العقلي، بينما تتضمن الموافقة بعداً واقعياً فحسب.

وبعبارة اخرى، ان الاحتمالات القبلية لعلاقات الظواهر لا تنحصر فقط ضمن التقسيم الثنائي القائل انها إما ان تكون ضرورية السبب، او هي من غير سبب اطلاقاً، ذلك ان هناك احتمالاً اخر يتعلق بكون هذه العلاقات قد تكون حادثة بنحو ما نطلق عليه الانشداد، وعليه فليست هي ضرورية السبب، ولا انها خالية منه. وعن طريق الاستقراء يمكننا ان نضعف ونخفض قيمة احتمال كون تلك العلاقات تخلو من مطلق السببية، حتى نصل الى حالة افناء هذا الاحتمال عن طريق المصادرة القابلة للتبرير والتفسير. ولكن لسنا نستطيع بتلك الطريقة ان ننمي او نضعف اي من الاحتمالين الباقيين.. فلا يمكن بواسطة التجربة والاستقراء ان نعرف فيما اذا كانت الظاهرتان المقترنتان، ترتبطان بالضرورة، ام انهما قائمتان على سبيل الشد. وفي بعض الدراسات قدمنا نتائج هامة تترتب عن الاختلاف الحاصل بشأن اثبات الضرورة ونفيها في العلاقة السببية، سواء على الصعيد الرياضي ام المنطقي للاستقراء.

مع النقد الثاني

في هذا النقد اكد المفكر الصدر على خطأ اعتقاد المنطق الارسطي بعقلية مبدأ (عدم تكرر الصدفة باستمرار). والطريقة التي اتبعها في هذا النقد، هي تفريقه بين ذلك المبدأ وبين القضايا العقلية التي تتميز بعنصر الضرورة المنطقي. حيث الفارق بينهما هو أن القضية العقلية تتصف بالضرورة، بينما لا يتصف المبدأ الارسطي بها. فمثلاً ان مبدأ عدم التناقض يعتبر من القضايا العقلية، وذلك لان العقل يحكم من الناحية المنطقية باستحالة حدوث التناقض ضرورة. ولولا هذه الضرورة لجاز حدوثه من دون مانع ذاتي. في حين ان المبدأ الارسطي لا تحكمه تلك الضرورة، حيث من الممكن منطقياً ان تتكرر الصدفة باستمرار. ولهذا فهو يختلف قطعاً عن مبدأ عدم التناقض وعن المبادئ الاخرى القبلية، وبالتالي فهو ليس من القضايا العقلية لخلوه من عنصر الضرورة.

وفي هذه الحالة لا يمكن ان نعتبر هذا المبدأ صحيحاً ما لم نستند الى الواقع والتجربة، اذ كيف لنا ان نعرف ان الصدفة لا تتكرر باستمرار رغم انه لا توجد استحالة منطقية في التكرر؟

اذن يتبين ان هذا المبدأ مستنتج من الواقع، وبالتالي يصبح من اللازم ان لا يشكل الاساس في بناء الاستقراء، لكونه احد نتاجات هذا الاخير، والا افضت العملية الى الدور الباطل، وذلك ما لم نقل انه نتاج الاستقراء من حيث البدء والاساس لكنه يصبح اساساً لسائر الاستقراءات الاخرى، كالذي يقوله ستيوارت مل في مبدأ السببية.

هكذا رفض المفكر الصدر النزعة العقلية للمبدأ الارسطي وردّه الى الاستقراء تبعاً لمنطق حسابات الاحتمال التي جعلها الركيزة الاساسية للبناء الاستقرائي. لكن قد نتساءل الى اي مدى يعتقد الصدر بصدق هذا المبدأ على الطبيعة؟ فالمتتبع لرأيه حول ذلك يجد اجابتين قد تختلفان بحسب الظاهر، ذلك انه في مكان ما من كتابه يقول: ‹‹النقطة الجوهرية في خلافنا مع المنطق الارسطي، انا وإن كنا لا نرفض بشكل كامل الاعتقاد بالمبدأ (الارسطي).. ولا ننكر صدقه – في حدود ما – على الطبيعة، ولكنا نختلف مع المنطق الارسطي في تقييم هذا المبدأ››[xxix].

فهذا النص يشير بحسب الظاهر الى التصديق بالمبدأ الارسطي في حدود ما من الطبيعة وليس كلها. في حين يأتينا نص اخر صريح بعد ثلاث صفحات من النص الاول، وهو خلاف ما يبدو من المعنى السابق كالاتي: ‹‹وليس كذلك التكرر المستمر في الصدفة النسبية، فانه رغم عدم وقوعه في عالمنا هذا لا ندرك استحالة مطلقة فيه، وبامكاننا من الناحية النظرية ان نتصور عالماً تتكرر فيه الصدفة النسبية باستمرار، وتتعايش فيه تلك الصدف المتكررة بسلام››[xxx].

وهذا النص صريح في نفيه لتكرر الصدفة باستمرار في عالم الطبيعة، وهو مرجح على ظاهر النص السابق، ويؤيده ان المفكر الصدر اصاغ المبدأ الارسطي صياغة منطقية لتبرير صدقه في جميع علاقات الطبيعة[xxxi].

ورغم ما تبين لنا من جواز تكرر الصدف باستمرار في كثير من الحالات المختلفة للطبيعة، الا ان الصياغة الجديدة للصدر بامكانها أن تمنع هذا التكرر باطلاق. وليس ذلك من التناقض، اذ نعتقد ان هذه الصياغة لم تبرر صحة المبدأ الارسطي، بل قامت باصلاحه جذرياً، حيث فيها شرط اساس لم يخطر على ذهنية المنطق الارسطي، اذ ما يشير اليه هذا المنطق لا يتعدى حدود كون علل الاتفاق غير منتظمة ولا محدودة[xxxii]، وهذا لا يكفي في جعل العلاقة تحكمها الضرورة العقلية. هكذا فتبعاً لهذا الشرط تكون الصياغة الجديدة للمبدأ الارسطي عقلية وليست استقرائية. وقبل ان نثبت ذلك علينا ان نعود الى النص السابق ونتساءل: ما المقصود من القول: ‹‹بامكاننا من الناحية النظرية ان نتصور عالماً تتكرر فيه الصدفة النسبية باستمرار، وتتعايش فيه تلك الصدف المتكررة بسلام››؟ فهل المقصود منه الاشارة الى الصياغة الجديدة للمبدأ الارسطي؟ لكن في هذه الحالة ان الصدفة بحسب هذه الصياغة تعبر عن كل ما هو محتمل احتمالاً غير مرجح، وبالتالي كيف يجوز من الناحية المنطقية أن يستمر مثل هذا الأمر المحتمل في الحدوث؟

ونشير هنا الى ان الاحتمال المأخوذ اعتباره في حدوث الصدفة لا ينظر اليه بكونه متأثراً بذاتية الانسان وجهله بالعوامل التي تؤدي الى تكرار الصدفة، انما المنظور اليه هو الجانب الموضوعي. ذلك انه قد يكون الاحتمال كبيراً موضوعياً، لكنه ضئيل ذاتياً. فمثلاً لو قيل لك ان واحداً من بين عشرة افراد متوقع له ان يموت بقيمة احتمالية قدرها (9\10)، فاذا كنت تجهل ظروف هؤلاء العشرة كلياً لكنت تحتمل اي واحد منهم بمقدار (1\10) بانه من تصدق عليه تلك النسبة او توقع الموت. وهذا يعني ان من بين هؤلاء العشرة فرداً – كزيد مثلاً – هو الذي توقعنا له الموت، مع انك احتملت ان يكون هو المعني بمقدار (1\10)، فاذا ضربته بقيمة احتمال حالة توقع الموت لكانت النتيجة ضئيلة وتنافي حقيقة احتمال موته من الناحية الموضوعية، اذ سيصبح احتمالك الشخصي (الذاتي) لموت زيد يساوي: (1\10 × 9\10 = 9\100). وهذه القيمة ضيئلة جداً بالمقارنة مع القيمة الحقيقية (الموضوعية) لاحتمال موت زيد.

لهذا فان المأخوذ باعتبار الصدفة جانبها الموضوعي المتعلق بمعرفة العوامل المختلفة التي يمكن لها ان تؤثر على الظاهرة المحتملة. وكما اكد المفكر الصدر من انه كلما كثرت الظروف والملابسات المختلفة الشديدة التغير، كلما تضاءل احتمال تكرر الظاهرة الشديدة التأثر بتلك الظروف والملابسات[xxxiii]. ولنفترض هنا ان الظاهرة قد تكررت باستمرار على الرغم من وجود مثل تلك الملابسات المتحركة؛ كإن يحدث ان رمينا قطعة النقود مليون مرة، وفي كل مرة يظهر وجه الصورة بشكل مستمر.. ففي مثل هذه الحالة نتوقع ان هناك سبباً مجهولاً يرجع اليه تكرر الحادثة، دون ان نعزوها الى المصادفة من الناحية المنطقية ذاتها.. وهذا يعني نظرياً انه من غير الممكن تصور وجود عالم تتعايش فيه الصدف باستمرار وسلام، فطبقاً لمبادئ الاحتمال ان احتمال وقوع مثل هذا التعايش يشبه ان يكون منفياً مادامت قيمته ضئيلة للغاية.

وقد يُحمل القصد من النص السابق – رغم ما فيه من تكلف لا يساعد عليه السياق – ان المراد هو الاخذ بالامكان المنطقي الذي لا يقبل التحقيق من جهة الواقع. بمعنى أن تكرر الصدفة باستمرار يعتبر ممكناً من الناحية المنطقية، لكنه معدوم ومنفي من جهة الواقع، اي واقع كان، سواء عالمنا الذي نعيش فيه او أي عالم اخر مفترض. والسبب في ذلك هو ان حسابات الاحتمال تعتبر مبادئ ثابتة وغير مشروطة بهذا العالم الذي نعيش فيه، لذا فما تحسب قيمة احتمال حدوث الصدفة هنا، لابد أن تحسب مثلها هناك بلا فرق، وذلك طبقاً لنوعية الظروف وكثرتها وعلاقتها بحدوث الصدفة.

الضرورة ومبدأ عدم تكرر الصدفة

طبقاً لما سبق يمكن مناقشة حقيقة قاعدة عدم التماثل، او الصياغة الجديدة لمبدأ عدم تكررالصدفة باستمرار، ذلك ان المفكر الصدر اعتبرها مستنتجة من الاستقراء لا العقل. ومع ان ما كشفه في رد المبدأ الارسطي الى الاستقراء هو صحيح لا شك فيه، لكن الامر مع الصياغة الجديدة شيء مختلف تماماً، وذلك لكونها تنطوي على عنصر الضرورة التي هي ميزة المبادئ العقلية. ولكي تتضح الصورة لابد من التمييز بين حالتين من القضايا العقلية، احداهما تتصف بمطابقتها للواقع – ضرورة -، والاخرى غير ذلك تماماً.

اختلاف القضايا العقلية

من المعلوم – قبل كل شيء – ان القضية العقلية تعتبر في اصلها كلية وعامة، كما في قولنا (الكل اكبر من الجزء). فهذه القضية عامة وشاملة لكل جزئياتها الفردية، اي انها لا تقتصر على هذا (الكل والجزء) او ذاك.. الخ. وهذا يعني ان من الممكن استنتاج القضايا الجزئية من القضية الكلية بطريقة القياس، مما يعني ان القضايا الاولى تكتسب بدورها الطابع العقلي، وذلك اذا ما كانت مقدماتها مضمونة الصدق، كما في المثال التالي:

ان اي (كل) هو اعظم من (الجزء) بالضرورة. وحيث ان هذا الشيء عبارة عن (كل)، وذلك الشيء عبارة عن (جزئه الخاص)، لذا فان هذا (الكل) اعظم من ذلك (الجزء) بالضرورة.

هكذا في مثل هذه الحالة يحكم العقل ضرورة بأن تكون القضية الجزئية مطابقة للقضية المنطقية الكلية. وان واقع القضية الجزئية او جانبها الاخباري لا يمكنه ان يتخلف عن هذا الحكم العقلي. فلا يمكن ان تجد هناك ظاهرة ما من ظواهر الطبيعة تتنافى مع مبدأ (الكل اكبر من الجزء)، أو مع مبدأ السببية، او مع مبدأ عدم التنافض.. الخ.

هذا بالنسبة للقضايا العقلية ذات الطابع غير الاحتمالي. ولكن في القضايا العقلية الاحتمالية فالامر يختلف، اذ ليس بالضرورة ان يكون هناك تطابق بين القضية العقلية والقضية الواقعية. فمثلاً إن قيمة إحتمال ظهور وجه الصورة لرمية واحدة لنقد متماثل الوجهين تساوي (1\2)، وهذه تمثل قضية ضرورية لا شك فيها. وعليها يمكن استنتاج قضية اخرى جزئية بطريقة قياسية بالشكل التالي:

ان قيمة احتمال ظهور وجه الصورة لكل نقد منتظم تساوي (1\2) بالضرورة، وحيث ان هذه قطعة نقد منتظمة، لذا فقيمة احتمال ظهور الصورة فيها تساوي (1\2) بالضرورة ايضاً، طالما كنا متأكدين من انتظام القطعة. وبالتالي فقد استنتجنا الجانب العقلي للقضية الجزئية. ولكن حين نرمي هذه القطعة النقدية عدداً من المرات، ولنفترض عشر مرات، فسوف نلاحظ ان نتائج ظهور وجه الصورة لا يؤدي بالضرورة الى القيمة الاحتمالية النصفية، فقد تكون اكثر او اقل من ذلك، بل الغالب انها لا تكون نصفاً، لاسباب لسنا بصدد طرحها في هذا البحث. ورغم ان هذا هو حال القضية الواقعية في الحسابات الاحتمالية، الا انه لا يغير شيئاً من ضرورة الحكم العقلي السابق. فالقضية المنطقية في المبادئ الاحتمالية ضرورية، وذلك على خلاف القضية الواقعية المستندة اليها. والسبب في هذا الاختلاف يرجع الى طبيعة القضايا الاحتمالية ذاتها، حيث تقتضي ان تكون القضايا الواقعية فيها غير محتمة، كما تقتضي ان تكون قضاياها المنطقية ذات صبغة ضرورية.

ولا شك ان هذا الحال ينطبق على قاعدة عدم التماثل او الصياغة الجديدة لمبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار. اذ يمكن ان نفترض في هذه المسألة قولين كالاتي:

الاول: يستحيل منطقياً ان تتكرر الصدفة باستمرار.

الثاني: من المستبعد جداً ان تتكرر الصدفة باستمرار.

ولا شك انه لو كان القول الاول صحيحاً لكان حكمه من الاحكام العقلية باعتباره منطوياً على الضرورة.

اما القول الثاني فانه على الرغم من كون مفاده الواقعي لا ينطوي على الضرورة، اذ لا استحالة في تكرر الصدف.. لكن مع هذا نجد في حكمه المنطقي عنصراً عقلياً (ضرورياً)، وهو العنصر المنطقي القائل ان من المستبعد ان تتكرر الصدفة باستمرار، اذ الصدفة هنا منطوية على وجود قيمة احتمالية ضئيلة، لذا يكون الحكم الضروري الذي يستبعد تكرر الصدفة مشابهاً للحكم الضروري القائل بان ظهور الصورة في قطعة النقد له قيمة احتمالية بقدر النصف. ففي الحكم الاخير نلاحظ انه على الرغم من عدم حتمية ظهور وجه الصورة – في الواقع – بما يطابق الاحتمال المنطقي (1\2)، الا ان من المحتم أن يظل الحكم المنطقي – كما هو – ثابتاً بالضرورة. وكذا هو الحال في حالة استنتاج القضية الجزئية من الحكم الضروري للمبدأ السالف الذكر، كما هو واضح من القياس الاتي:

من المستبعد جداً أن تتكرر الصدفة باستمرار، ولما كانت هذه الظاهرة التي امامنا تتوفر فيها شروط الصدفة، لذا فمن المستبعد على هذه الظاهرة ان تتكرر باستمرار.

وواضح ان الحكم الاخير يظل حكماً عقلياً مادام انه مستنتج – مباشرة – عن المبدأ العقلي العام، حتى لو صادف واقعاً ان تكررت تلك الظاهرة باستمرار. فهذا التكرر في الظاهرة او الصدفة لا يخدش في الحكم المنطقي المستنتج عقلياً، ذلك انه على شاكلة مثال رمية قطعة النقد، حيث عرفنا ان الجانب المنطقي من هذا المثال يحظى بقيمة ضرورية، حتى لو لم يطابق ما يحدث في الواقع.

هكذا لابد من التفريق في القضايا العقلية بين الاحكام التي لها صفة الثبات الدائم مع الواقع، وبين الاحكام التي ليست كذلك. فالمبادئ الاحتمالية وحساباتها تحمل طبيعة خاصة، وهي انها لا تنطوي على ضرورة المطابقة مع الواقع، ورغم ذلك فان احكامها تعتبر من الاحكام العقلية. وكذلك الحال مع الصياغة الجديدة لمبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار، حيث انها تتضمن حسابات احتمالية منطقية ثابتة، ولهذا فحكمها كحكم اي مبدأ اخر من مبادئ الاحتمال وقضاياها المنطقية. وعلى العكس من ذلك الاحكام العقلية غير الاحتمالية، حيث تتصف بانها ذات طبيعة حتمية في مطابقتها للواقع، كما رأينا..

هل القضايا الاستقرائية عقلية؟

لما كانت القضايا الاستقرائية تعتمد على حسابات الاحتمال، فهل يعني هذا انها من القضايا الضرورية (العقلية)؟ هذا ما سنكشف عنه من خلال التحليل الاتي:

قد نستنتج – مثلاً – عن طريق حسابات الاحتمال قضية من القضايا الموضوعية كتمدد الحديد بالحرارة، وذلك بان نحصل على درجة احتمالية كبيرة جداً لصالح سببية الحرارة. ففي هذا المثال لدينا فرضان لابد من التمييز بينهما كالاتي:

في الفرض الاول ان تجميع قيم الاحتمالات، التي حصلنا عليها عن طريق التجارب الخاصة بتمدد الحديد في الواقع، تستند الى ملاحظاتنا الذاتية.

اما الفرض الثاني فهو يتعلق بجمع وحساب القيم الاحتمالية التي حصلنا عليها من خلال ملاحظاتنا الذاتية، طبقاً للفرض الاول.

وتبعاً لهذا التمييز تكون النتيجة التي نحصل عليها من الفرض الثاني ضرورية، باعتبارها تتعلق بالحساب المنطقي للقيم الاحتمالية، وذلك على خلاف النتيجة التي نحصل عليها من الفرض الاول، اي انها غير ضرورية، حيث ليس من الضروري ان نحصل على هذا العدد من القيم الاحتمالية، باعتبار ان هذا الامر رهين ما تكشفه لنا التجارب في الواقع، وبالتالي فهو محكوم بملاحظاتنا الذاتية تجاه الكشوف الواقعية. ولتوضيح المسألة اكثر، عليك بالمثال التالي:

لنفترض انه اعدت لك قائمة باسماء طلاب احدى المدارس. ففي هذه الحالة يمكنك ان تجمع عددهم بصورة دقيقة، وتكون نتيجة الحساب التي تحصل عليها ضرورية، ان كان الجمع صحيحاً، لانها مرتبطة مباشرة باحاد العدد المحسوب. لكن لو اتفق ان عدد الطلاب في الواقع كان اكثر مما استنتجته، فهذه النتيجة لا تغير من الحكم الضروري الذي حصلت عليه بالحساب والجمع الصحيح. فالحكم الضروري الثابت يقر بان نتيجة هذا الحساب او الجمع هو هكذا، سواء كانت مفردات الجمع لها نفس المصاديق في الواقع ام لا. اما معرفتنا بالمصاديق الواقعية وما يترتب عليها من تجميع لاحادها فهي ليست من القضايا والاحكام الضرورية، لانها ليست حتمية الثبوت، بل يمكن ان تتغير وتكون غير صحيحة.

هكذا كلما كانت النتيجة مستنتجة مباشرة من الاحكام العقلية، فلابد ان تكتسب صفة الضرورة من تلك الاحكام. ولما كانت مبادئ الاحتمال بحسب بعض الشروط هي من القضايا العقلية، لذا فاي حساب يستند اليها يعتبر بالنظر الى ذاته من الاحكام الضرورية. ففي مثالنا السابق افترضنا ان سببية الحرارة لتمدد الحديد تحظى بقيمة احتمالية عالية، لذا فانه يمكن تحليل هذه المسألة الى ثلاث قضايا كالاتي:

الاولى هو اننا حصلنا على عدد من القيم الاحتمالية بواسطة التجارب الخاصة بتمدد الحديد. والثانية اننا جمعنا حساب هذا العدد فتكونت لنا نتيجة معينة ثابتة ومرتبطة بما توفر لدينا من مفردات ذلك العدد. والثالثة هو اننا بالاعتماد على القضيتين الاوليتين يمكن ان نرتب المصادرة القائلة: ان سببية الحرارة لتمدد الحديد تحظى بنفس الدرجة التي حصلنا عليها في القضية الثانية. لذا فان هذه القضية ستحدد لنا قيمة احتمالية معينة لصالح سببية الحرارة.

وليس في هذه القضايا أي حكم ضروري سوى القضية الثانية. فالقضية الاولى ليست ضرورية باعتبار ان من الممكن الحصول على عدد من القيم الاحتمالية أكثر من أي عدد نحصل عليه واقعاً، فكلما إزدادت التجارب كلما ازداد العدد في القيم الاحتمالية. وعليه ليس هناك عدد ثابت مخصوص يمكننا ان نرتكز عليه. والنتيجة النهائية في القضية الثالثة لما كانت تعتمد في وجودها على القضية الاولى – فضلاً عن الثانية – لذا فانها قابلة للتغير بالتبعية. فكلما تغيرت الاولى فان النتيجة في القضية الثالثة تتغير تبعاً لها. ولهذا فهي ليست من القضايا الضرورية، والا لما كان بوسعها التغير. في حين ان القضية الثانية لما كان جوهرها عبارة عن علاقة منطقية للحساب، لذا فهي ضرورية، لان النتيجة لا يمكن ان تتخلف عن مقدماتها المفترضة. وعليه فان الحكم في هذه القضية هو من الاحكام العقلية. بينما الحكم الذي يقول ان سببية الحرارة تحظى بقيمة احتمالية عالية جداً؛ لا يمكن اعتباره من الاحكام العقلية، رغم أن هذه القيمة مساوية للقيمة التي حصلنا عليها في القضية الثانية. والسبب في ذلك – كما قلنا – هو ان الحكم المتعلق بسببية الحرارة متأثر بالقضية الاولى التي تقبل التغيير، بينما الحكم في القضية الثانية ليس متاثراً بها، اذ يعتمد مباشرة على مبادئ الاحتمال المنطقية، دون ان يكون له علاقة بالواقع. لهذا نقول إن قضية تمدد الحديد بالحرارة هي ليست من القضايا العقلية، سواء صدقت في الواقع ام لم تصدق. الا ان الحكم الاحتمالي المستند مباشرة الى مبادئ الاحتمال؛ هو من الاحكام العقلية الثابتة.

الفرق بين المبدأ الارسطي والصياغة الجديدة

سبق ان اوضحنا بان هناك فرقاً كبيراً بين القضايا العقلية الاحتمالية وبين القضايا العقلية غير الاحتمالية. فالاولى تحمل طبيعة خاصة تجعلها لا تنطوي على ضرورة المطابقة مع الواقع، ورغم هذا فان أحكامها ثابتة وضرورية. أما الثانية فهي تنطوي على ضرورة المطابقة مع الواقع، بخلاف الاولى. وحين نريد أن نحلل قاعدة عدم التماثل او الصياغة الجديدة لمبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار، سنجد انها مستنتجة استنتاجاً مباشراً من حسابات الاحتمال ذاتها، لذا فان حكمها لا يختلف عن حكم أي قضية اخرى تعتمد على مبادئ الاحتمال وقضاياها المنطقية. في حين ان مبدأ ارسطو القديم عبارة عن قضية من قضايا الاستقراء، اي انه ليس من المبادئ الضرورية (العقلية).

وهذا يعني أن هناك فرقاً جوهرياً بين المبدأ الارسطي، وبين الصياغة الجديدة له. فالمبدأ الارسطي يتحدث عن الصدفة بما تعبر عن علاقة إقتران غير لزومية بين ظاهرتين معاً، في حين ان الصياغة الجديدة تتحدث عن الصدفة بكونها عبارة عن وقوع حادثة او مجموعة حوادث ضعيفة الاحتمال. مما يعني ان هناك فرقاً كبيراً بين المفهومين، كالذي يوضحه التحليل التالي:

لنبدأ اولاً بمعرفة المبدأ الارسطي ونتساءل: كيف اعتبرناه مستنتجاً من الاستقراء والواقع؟

وللجواب نلاحظ ان علاقات الواقع لا تخرج عن احدى ثلاث اطروحات ممكنة كالاتي:

1ـ إفتراض كون علاقات الواقع لزومية كلها. بمعنى أن أي ظاهرة حين تقترن باخرى فلابد ان ترتبط معها بعلاقة السببية. وعلى هذا الفرض ان هذه العلاقات إما ان تكون عبارة عن سلسلة لزومية واحدة ممتدة من الطرف الاول الى آخره، او هي عبارة عن مجموعة من السلاسل التي تتشابك فيما بينها بالعلاقات اللزومية المتبادلة.

2ـ افتراض كون جميع العلاقات صدفوية او غير لزومية. بمعنى ان السبب الاعلى – واجب الوجود – لم يجعل العلاقات بين الاشياء قائمة على السببية، بل اجرى الحوادث بشكل مباشر من غير ان يكون بينها علاقات. مما يعني ان جميع الاقترانات بين ظواهر الواقع صدفوية.

3ـ افتراض كون بعض العلاقات لزومية، والبعض الاخر صدفوية غير لزومية. مما يعني انه قد تقترن العلاقات الصدفوية بشكل مستمر، وقد لا تقترن الا قليلاً.

هذه ثلاث اطروحات ممكنة، وليس للعقل ان يحدد اي منها يصدق في الواقع، ما لم يتم ذلك عن طريق الكشف الاستقرائي، وبه تتعين الاطروحة الثالثة بانها الصحيحة، حيث يشهد الواقع بوجود علاقات لزومية واخرى صدفوية.

كما ان بالاستقراء يمكن ان نعرف فيما اذا كانت العلاقات الصدفوية تقترن باستمرار ام لا.. كما ونعرف ايضاً ان العلاقات اللزومية الذاتية متى ما توفرت شروطها فانها تقترن مع بعض بشكل دائم او اكثري، حسب وجود الموانع العارضة التي قد تمنعها احياناً، الامر الذي ينطبق عليها مبدأ عدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً.

لكن هذا الحال الذي حدد لنا طبيعة مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار، يختلف عن تحديد حقيقة الصياغة الجديدة بصورة جذرية. اذ ان هذه الصياغة ليست مستندة في حقيقتها الى الواقع، بل هي مبنية على اصل منطقي ذي صبغة عقلية، وذلك لانها تحدد جوهر الصدفة بالحادثة او الحوادث الضئيلة الاحتمال. وعليه يصبح من المنطقي ان نستبعد – بالاستنتاج – تكرر هذه الحادثة باستمرار، وذلك لتناقص القيمة الاحتمالية الى ادنى حد ممكن.

فهناك قاعدة منطقية اعتمدت عليها هذه الصياغة، وهي كما علمنا تتضمن المعنى التالي: كلما كان دور العوامل الداعية لايجاد الظاهرة اكبر، كان توقعنا لتكررها اقوى. في حين اذا كان دور العوامل التي من شأنها حرف الظاهرة أكبر، فان توقعنا لعدم تكررها يزداد. ولا شك ان حقيقة هذه القاعدة هي منطقية ضرورية وليست مستمدة من الواقع والاستقراء. ذلك انها تتضمن حكم الضرورة وتعتبر أنه اذا وجدت عوامل متغيرة كثيرة ومؤثرة على ايجاد الظاهرة، بحيث تلعب دوراً كبيراً في القدرة على حرفها، فلابد عندئذ أن نتوقع عدم تكررها. وعلى العكس من ذلك فيما لو وجدت عوامل ثابتة كثيرة لصالح ايجاد الظاهرة.

فالحكم هنا لا يقبل الشك والخطأ منطقياً، وذلك باعتباره قائماً مباشرة على حسابات الاحتمال العقلية، والمفكر الصدر يؤكد بكون القاعدة مستمدة من هذه الحسابات[xxxiv] 4 9 . صحيح ان جميع القضايا الاستقرائية مستندة بدورها الى هذه الحسابات رغم انها غير عقلية، مثل علمنا بتمدد الحديد بالحرارة، لكن الفرق بين تلك القاعدة وبين القضايا الاستقرائية، هو ان هذه القضايا مستندة مباشرة الى الواقع، وليس لها أي بعد من ابعاد الضرورة المنطقية، إذ ليس بمقدورالعقل القبلي ان يحكم او يتوقع سببية الحرارة لتمدد الحديد، بل لابد من تحكيم التجربة في مثل هذه القضية. في حين تفترض تلك القاعدة اعتمادها المباشر على حسابات الاحتمال. مما يعني انه يمكن للعقل ان يحكم بضرورتها قبلاً ودون الاستناد الى الواقع، اذ يكفيه تصور اطراف القاعدة ذاتها.

فلو جاءك شخص وقال لك ان هناك ظروفاً عشوائية تتشابك وتتفاعل بحرية تامة دون ان يكون بينها لزوم، فهل تتوقع ان مثل هذه الظروف سوف تنتج لك ظاهرة معينة باستمرار؟

لا شك انك لا تتوقع ذلك، حتى لو لم تجرب ولم تستند الى الواقع، بل يكفيك مفاد تلك القضية لترتب عليها النتيجة المنطقية التي لا ينحصر مفعولها في عالمنا هذا، بل وفي كل عالم ممكن!

وعلى خلاف ذلك لو تصورت كلاً من الحرارة والحديد واقترابهما معاً، فهل تتمكن بمحض عقلك من غير الاستناد الى التجربة او الاستقراء ان تستنتج او تتوقع ان الاولى تمدد الاخير؟

الجواب هو النفي بالتأكيد!

هكذا نخلص الى ان الفرق بين المبدأ الارسطي وصياغته الجديدة، يتحدد بكون الاول مستنتجاً من الواقع بالاستقراء وليس من المبادئ العقلية. بينما تعتبر الصياغة الجديدة عقلية، لانها مستمدة من المنطق الاحتمالي مباشرة، دون ان يكون لها علاقة بالواقع الخارجي. وبهذا نكون قد انتهينا من عرض وتحليل النقد الثاني الموجه للمنطق الارسطي.

يمكن تلخيص نتائج النقدين السابقين كالاتي:

اولاً: ان الدليل الاستقرائي لا يحتاج الى مصادرات عقلية كتلك التي سلم بها المنطق الارسطي. بل على العكس ان باستطاعة هذا الدليل ان يثبت تلك المصادرات التي اعتمدها ذلك المنطق. وقد عرفنا ان من المحال اثبات المصادرات العقلية بطريقة الاستقراء.

ثانياً: ان مبدأ (عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً) صحيح، لكنه ليس من القضايا العقلية، بل مستنتج من  الاستقراء ذاته، وبالتالي فانه لا يصلح اساساً لبناء الاستقراء كما ظن المنطق الارسطي.

وبالفعل عرفنا ان المبدأ الارسطي مستنتج استقرائياً وإن لم يصح في جميع الاحوال، لكن الصياغة الجديدة له هي صياغة ذات صبغة عقلية وليست مستنتجة بالاستقراء.

تبقى هناك اعتراضات ثانوية اجراها المفكر الصدر بالاعتماد على النقد الثاني الانف الذكر، وهي تصب في محور علاقة المبدأ الارسطي بمفهوم العلم الاجمالي، وذلك كالاتي:

المبدأ الارسطي والعلم الاجمالي

ينقسم العلم من جهة الى علم تفصيلي وعلم إجمالي. والمقصود بالعلم التفصيلي انه علم تكون فيه المعرفة محددة، كما ان تقول: هذه الشجرة مثمرة، والارض تدور حول الشمس، وكل انسان يموت.. الخ. أما العلم الاجمالي فهو علم لا تكون فيه المعرفة محددة، كما أن تقول: أحد هذين الانائين متنجس، فأنت هنا لا تعلم بالتحديد من هو المتنجس منهما،  فقد يكون الاول، كما قد يكون الثاني.. وكذا لو قلت: ان أخي إما في البيت وإما في المدرسة، فلم تحدد في هذا المثال إن كان اخوك في البيت او في المدرسة، فعلمك بوجوده يصبح علماً اجمالياً غير محدد.

وتبعاً لهذا التقسيم، من البساطة بمكان أن نعرف أي علم يندرج تحته المبدأ الارسطي القائل بأن الصدفة لا تتكرر أكثرياً ودائمياً. فلا شك أنه من العلم الاجمالي لا التفصيلي، وذلك لانه لم يحدد لنا المواضع التي لا تتكرر فيها المصادفات. فلو قمنا باستقراء يشمل عشرة اختبارات، واردنا ان نطبق المبدأ الارسطي عليها، لكان هذا المبدأ يخبرنا بأنه من الممكن أن تحدث الصدفة بشكل نادر، كإن تحدث في اختبار او اختبارين، ولكنها على أي حال لا تتكرر أكثرياً ودائمياً. وفي هذه الحالة يمكن أن نستفسر عن الاختبارات التي لم تحدث فيها الصدفة، فهل هي عبارة عن الاختبار الاول والثالث والخامس والسادس.. الخ؟ أو أنها عبارة عن الاختبار الاول والثاني والثالث والرابع والسادس.. الخ؟ أم ماذا؟

نجد في مثل هذا المثال ان المبدأ الارسطي لم يحدد لنا اي الاختبارات التي لا تحدث فيها الصدفة. ولهذا فانه علم بنفي غير محدد، حيث ينفي تكرر الصدفة من دون ان يحدد مواضع هذا التكرر. فهو على اي حال علم اجمالي يفيد النفي.

وهنا تساءل المفكر الصدر حول نشأة العلم الاجمالي لنفي تكرر الصدفة باستمرار؟

ولاجل ان يجيب عن هذا التساؤل قسم العلم الاجمالي الذي يفيد النفي – أي العلم بنفي غير محدد – الى قسمين من حيث المنشأ، وهما كالاتي[xxxv] 5 9 :

الاول: هناك علم ناشئ عن التمانع او التضاد، فبسبب علمنا بهذا التمانع او التضاد يمكننا أن نحصل على علم اجمالي غير محدد، كإن نقول: تلك الكتابة ليست سوداء وزرقاء في الوقت نفسه، فقد تكون سوداء، وقد تكون زرقاء، وقد تكون غير هذه وتلك، ولكن لا يمكن أن تكون سوداء وزرقاء معاً. فهذا العلم ناشئ من علمنا باستحالة اجتماع المتضادات والمتناقضات، كاجتماع السواد والزرقة في المكان ذاته، ولهذا نفينا اجمالاً أن تكون الكتابة سوداء وزرقاء معاً.

الثاني: هناك علم اجمالي للنفي يقوم على أساس الاشتباه او التشابه، كإن تقول: ان احد طلاب الصف غائب، من دون ان تعلم بوجه التحديد من هو الغائب بالذات، فهل هو زيد أم عمر او خالد؟ فهذا العلم يستند الى كون معرفتك قاصرة مما سبب لها حالة الاجمال وعدم التحديد.

والفرق بين القسمين، هو ان العلم الاول قائم على معرفة عقلية تعلن باستحالة اجتماع المتناقضات والمتضادات، بينما العلم الثاني ليس قائماً على هذه المعرفة، اذ ليس من المستحيل ان يكون ثمة اجتماع، فيمكن – مثلا ً- ان يجتمع الطلاب في الحضور من غير غياب، فليس في هذا الاجتماع اي تمانع، كما ان غياب الكل ليس فيه تمانع ايضاً، وكذلك فان المعرفة – هنا – يمكن لها ان تتحول الى معرفة كاملة، فيزول عندها العلم الاجمالي وينحل الى علم تفصيلي، كإن تعلم بالضبط من هو الغائب من الطلاب. اذن، ان هذا العلم قائم على معرفة الواقع معرفة قاصرة تبعاً للتشابه او الاشتباه، بخلاف العلم الاول القائم على المعرفة الضرورية الثابتة.

بعد التقسيم السابق سعى المفكر الصدر الى التعرف على حقيقة المبدأ الارسطي؛ إن كان ينتمي الى العلم الاجمالي القائم على التمانع والتضاد، او الى العلم الاجمالي القائم على التشابه والاشتباه. وقد توصل من ذلك انه ليس قائماً على ايّ منهما. فهو ليس ناشئاً على التمانع والتضاد، باعتبار ان بالامكان ان تجتمع الصدف دون استحالة او ممانعة ذاتية. اذ يمكن افتراض تكرر الصدفة باستمرار طالما كانت القضية لا تنطوي على استحالة عقلية. كما انه ليس ناشئاً على مبدأ التشابه او الاشتباه، باعتبار ان هذا المبدأ يفترض انه لو تمت المعرفة لتحول العلم الاجمالي الى علم تفصيلي محدد. بينما في حالتنا هذه انه مهما فتشنا عن المواضع الحقيقية لاقتران عدم تكرر الصدفة، فسوف نجد انفسنا عاجزين عن تحديد مثل هذه المواضع، وبالتالي يظل مثل هكذا علم غير قابل للتحديد. لذا فانه ليس من العلم الاجمالي القائم على اساس ذلك المبدأ.

وعليه اثبت ان المبدأ الارسطي ليس قائماً على كلا النوعين السابقين للعلم الاجمالي[xxxvi]. وكشف عن هذه الحقيقة من خلال توجيه عدة اعتراضات الى المبدأ الارسطي، حيث تبين انه ليس من العلم القائم على التمانع، ولا من العلم القائم على التشابه. ومع ان من الصحيح اعتبار المبدأ الارسطي لا ينتمي الى العلمين الانفي الذكر، لكن الطريقة التي عُرضت تبدو – في حقيقتها – خالية من جوهر الاعتراض الموجه الى ذلك المبدأ.

اذ يمكن ان نتساءل: هل ان العلم الاجمالي ينقسم فقط الى القسمين المشار اليهما سلفاً، وهما التمانع والتضاد، والتشابه والاشتباه؟ وبعبارة اخرى: ألا توجد اقسام اخرى غير هذين القسمين؟ ذلك انه اذا كان العلم الاجمالي ينقسم الى القسمين السابقين، فكيف لا يكون المبدأ الارسطي – وهو من العلم الاجمالي – لا يمت بصلة الى كل منهما؟ واذا كان هناك قسم اخر للعلم الاجمالي ينتمي اليه المبدأ الارسطي، فلماذا لم يُذكر مع ان البحث مرتبط به ارتباطاً صميماً؟!

ذلك ان عدم التعرض الى تحديد ما عليه المبدأ الارسطي من علم اجمالي، يجعل الاعتراضات عليه في هذا الخصوص، غير واردة.

لكن ما نعتقده هو ان العلم الاجمالي ينقسم الى اربعة اقسام كالاتي:

1ـ علم اجمالي جزئي ناشئ عن التشابه او الجهل والقصور المعرفي.

2ـ علم اجمالي عقلي ناشئ عن التمانع والتضاد.

3ـ علم اجمالي كلي ناشئ عن الدليل الاستقرائي، مثل المبدأ الارسطي في عدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً.

4ـ علم اجمالي عقلي وشرطي ناشئ عن حسابات الاحتمال مباشرة، مثل قاعدة عدم التماثل او الصياغة الجديدة للمبدأ الارسطي.

واذا كنّا قد علمنا مفاد العلم الاجمالي القائم على التشابه، وكذا نظيره القائم على التمانع والتضاد، كالذي افادهما المفكر الصدر، فان العلم الاجمالي الثالث يعد علماً كلياً من نتاج الاستقراء، كالمبدأ الارسطي، حيث انه ليس من العلم الاجمالي الناشئ عن التشابه، ذلك لانه مهما امتدت معرفتنا فسوف لا تحول هذا العلم الى علم محدد تفصيلي، كما انه ليس ناشئاً عن التمانع، اذ لا تمانع من اجتماع الصدف وتكررها باستمرار. اما العلم الاجمالي الرابع فهو يختلف عن جميع ما تقدم، مثل قاعدة عدم التماثل، وذلك لان هذه القاعدة هي من العلم الذي لا يقوم على التشابه ولا على الاستقراء لكونها عقلية، كما انها لا تقوم على التمانع، حيث ليس ما يمنع من جهة المنطق ان تجتمع المتماثلات من الظواهر صدفوياً، وبالتالي فان ميزتها وما يبررها هو كونها ناشئة عن حسابات الاحتمال مباشرة.

مع الاعتراضات السبعة

بقي معنا أن نتعرف على الاعتراضات المطروحة ضد المبدأ الارسطي، وهى سبعة كالاتي..

مع الاعتراض الاول

غرض هذا الاعتراض ان اثبات العلم الاجمالي لنفي تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً لا يمكن تفسيره على التمانع والتضاد. بمعنى، ان اي عدد نفترضه لاقتران الصدف لا يجعلنا نشعر بتمانع يحول دون تكرر الصدف واقترانها باستمرار[xxxvii]. وجاء في هذا الاعتراض حالتان، احداهما تتعلق بامكان تكرر الصدف من دون اي شرط يتعلق بوجود الظرف، والاخرى تتعلق بأخذ اعتبار وجود هذا الظرف.

في الحالة الاولى نفترض أننا لاحظنا بطريقة عشوائية عدداً من الغربان السود لم يبلغ حداً أكثرياً، بل هو دون ذلك بقليل. وعلى هذا الفرض اذا كان هناك اقتران صدفوي بين الغربان والسواد، فقد جاز للمنطق الارسطي تبريره، وذلك باعتبار ان تكرر هذا الاقتران لم يبلغ حداً اكثرياً او دائمياً تبعاً لمبدأ (الصدفة لا تتكرر اكثرياً ودائمياً). اذن لكي يبلغ هذا الحد ويكون اكثرياً لابد من المجيء بعدد آخر ضئيل. وفي هذه الحالة نحن بين أمرين: اما ان نجد امتناعاً للحصول على هذا العدد الضئيل من الغربان السود كي لا ينخرق المبدأ الارسطي، لانه في مثل هذه الحالة قد وصلنا الى الاقتران الاكثري للصدفة. واما ان لا يكون هناك مانع من ايجاد العدد الضئيل لهذه الغربان. وبحكم العقل ليس هناك مانع من ايجاد العدد الضئيل للغربان السود، وبالتالي من الممكن ان نصل الى الحد الاكثري لاقتران تكرر الصدفة.

هذا هو مضمون الاعتراض على المبدأ الارسطي في حالة عدم وجود شرط يتعلق بالظرف الذي تتم فيه الملاحظة او الاختبار. وهو بلا شك اعتراض صحيح فيما يتعلق بعدم وجود ممانعة ذاتية لامكان تكرر الصدفة باستمرار. ولكن عيبه هو عدم اخذ اعتبار وجود الظرف الذي اكد عليه المنطق الارسطي، لذا كان لابد من هذه الخاصية كما هو مفاد الحالة الاخرى من الاعتراض، حيث يفترض وجود اقتران ثالث يضاف الى الاقترانين السالفي الذكر -السواد والغرب-.

فمثلاً يمكننا ان نتتبع الغربان الموجودة في المناطق الجبلية فقط، ولنفترض اننا حصلنا على عدد من الغربان السود دون الحد الاكثري بقليل، ففي هذه الحالة اذا لم تكن هناك علاقة سببية بين السواد والغراب، فسوف لا نجد ممانعة ذاتية لاجتماع الصدف والحصول على العدد الضئيل الذي يحقق لنا الحد الاكثري لاقتران السواد بالغربان صدفة.

لكن لنفترض اننا استقرأنا جميع الغربان في المناطق الجبلية، ووجدناها سوداً كلها، وكنا نعلم مسبقاً بأن ليس للمناطق الجبلية تأثير على السواد.. فمن الناحية المنطقية قد يكون الاقتران في هذا الاستقراء المستوعب صدفة، وقد يكون متضمناً لوجود السبب المؤثر من نفس الغربان. ولما كان هذان الاحتمالان ممكنين من الناحية المنطقية، فقد يكون من الصعب دحض الافتراض القائل بأن هناك ممانعة ذاتية لاجتماع الصدف باستمرار. اذ في هذه الحالة لا يمكن ان نجد شاهداً واحداً ضد هذا الافتراض، مادام الاستقراء مستوعباً لكافة افراد الغربان، اذ كيف يمكن ان نحصل على غراب ليس اسود اللون؟!

هكذا ينتهي الامر الى ان الحالة التي لا نستطيع فيها أن ندحض فكرة امتناع اجتماع الصدف باستمرار، تتحقق فيما لو تم وجود شرطين معاً كالاتي:

1ـ أن يكون هناك اقتران مستوعب بين الغراب والسواد في ظرف ما، كالمنطقة الجبلية.

2ـ ان يكون لدينا علم بان لا تأثير للظرف على سواد الغراب[xxxviii].

والواقع ان هذين الشرطين لا يخلو كل منهما الى شيء من المناقشة كالاتي:

ان الشرط الاول ناقص، اذ ان فرضية امتناع اجتماع الصدف لا يبررها الاقتران المستوعب فقط، وانما الاقتران الاكثري ايضاً، وذلك باعتبار ان المنطق الارسطي يحدد دائرة مبدئه في حالتي الاقتران الدائم – المستوعب – والاقتران الاكثري. وقد سبق ان عرفنا كيف انه اعتبر حدوث الصدفة بشكل ضئيل لا يضر بالاستقراء المفيد للعلم (التجربة). وعليه لو كنا نستقرئ حالات اكثرية للاقتران، لكان ذلك مما لا يمكن ان يدحض فرضية امتناع اجتماع الصدف. اذ حتى لو لاحظنا وجود عدد ضئيل من الاقترانات الصدفوية، لكان هذا لا يتناقض مع القول بفرضية امتناع اجتماع الصدف اكثرياً ودائمياً، باعتبار ان هذه الفرضية مشروطة إما بالاكثرية او الاستيعاب.

واذا كان الشرط الاول ناقصاً كما سبق، فان الشرط الثاني غير لازم بالمرة. اذ حتى لو لم يكن لدينا علم بعدم تأثير الظرف او المنطقة الجبلية على السواد، لما كان بامكان ذلك ان يدحض فرضية امتناع اجتماع الصدف. ولتوضيح هذه المسألة نلاحظ ان علاقات الاقتران بين العوامل الثلاثة – الغراب والسواد والمنطقة الجبلية – تتضمن اربعة احتمالات منطقية ممكنة كالاتي:

1ـ احتمال ان يكون السواد لا علاقة له بالغراب، ولا بالظرف او المنطقة الجبلية.

2ـ احتمال ان يكون للسواد علاقة ما بالغراب فقط.

3ـ احتمال ان يكون للسواد علاقة ما بالظرف فقط.

4ـ احتمال ان يكون للسواد علاقة بالغراب والظرف معاً.

والاحتمال الثالث يمكن ان ينفيه المنطق الارسطي، وذلك لانه لو كان للسواد علاقة ما بالظرف فقط؛ لكانت جميع الاشياء في حدود هذا الظرف تبدو سوداء اللون، كالنباتات والحيوانات وغيرها مما هو في دائرة المنطقة، وذلك ما لم تكن هناك موانع عرضية تمنع إحداث السواد على الاشياء، لكن هذه الموانع لا تكون بنظر هذا المنطق اكثرية او دائمية. لذا لا مجال للأخذ بالاحتمال الثالث.

وهذا لا يعني انه ليس هناك علاقة تأثير للمنطقة الجبلية على السواد في الغراب. فقد يكون هناك نوع من التأثير المزدوج لكل من الغراب والمنطقة على السواد، كما ينص عليه الاحتمال الرابع السالف ذكره. وفي هذه الحالة يصبح من غير الممكن دحض فرضية امتناع اجتماع الصدف باستمرار.

وواضح ان المنطق الارسطي قد اعطى للظرف اعتباره في العملية الاستقرائية[xxxix] 9 9 ، مما يعني ان له شيئاً من التأثير الثانوي على النتيجة. وبالتالي قد يتأثر وجود السواد بالمنطقة الجبلية، رغم ان علاقة السببية تعود في الاساس الى الغراب المقترن معه باستمرار. هكذا لو احتملنا ان يكون للمنطقة الجبلية تأثير ما على حدوث السواد، لكان هذا لا يدحض فرضية المنطق الارسطي.

اذن ان تلك الفرضية لا يمكن دحضها سواء علمنا بأثر المنطقة الجبلية، او بعدم أثرها، او احتملنا ذلك. انما الذي يدحضها حالة واحدة فقط، وهي ان نعلم مسبقاً بان لا أثر للغراب، ولا للمنطقة الجبلية على السواد.. ولكن كيف يتهيء لنا هذا العلم اذا كان لابد لنا من الالتزام بأخذ اعتبار وحدة الظرف الذي يتم فيه الاستقراء؟

وبهذا نخلص الى ان عدم امكان دحض فرضية امتناع اجتماع الصدف باستمرار، يحصل في حالة وجود هذين الشرطين:

الاول: ان يكون هناك اقتران مستوعب او اكثري، لا ان نقف عند دائرة الحد الاول.

الثاني: ان نتمسك بأخذ اعتبار وحدة الظرف الذي لوحظ فيه الاقتران، سواء علمنا بعدم تأثير هذا الظرف، او احتملنا ذلك.

فبحسب هذين الشرطين هناك مبرر لفرضية امتناع اجتماع تكرر الصدفة باستمرار، ولا يمكن دحضها. لكن الوقوف عند حدود هذين الشرطين سوف يجعل المنطق الارسطي لا يصلح لتفسير الدليل الاستقرائي في حالات كثيرة اخرى مختلفة[xl].

ننتهي الى ان نتيجة هذا الاعتراض هو انه يمكن دحض فرضية اجتماع الصدف باستمرار إن لم نشترط في ذلك وحدة الظرف كما في الحالة الاولى السابقة. أما في الحالة الثانية التي اشترطنا فيها هذه الوحدة الظرفية فانه لا يمكن للعملية الاستقرائية دحض تلك الفرضية. واذا علمنا ان الحالة الثانية هي التي تناسب فرضية المنطق الارسطي، لكونها تشترط الوحدة الظرفية، كالذي مر علينا سابقاً، فان ذلك يعني ان الاعتراض السابق ليس بوسعه ان يثبت عدم قيام العلم الاجمالي للمبدأ الارسطي على التمانع والتضاد.

مع الاعتراض الثاني

الغرض من هذا الاعتراض اثبات انه اذا توفرت الدواعي والمقتضيات، التي من شأنها ان تدعو الى تكرر الصدف باستمرار، فان تكررها ليس بممتنع[xli]. ولاجل ذلك لابد من التمييز بين القضية التي يمتنع حدوثها رغم وجود الدواعي والمقتضيات، وبين القضية التي لا تحدث رغم ان حدوثها ليس بممتنع اذا ما توفرت هذه الدواعي والمقتضيات.

فمثلاً على الحالة الاولى، لو كانت هناك غرفة لا تسع عشرة أفراد، ففي هذه الحالة حتى لو توفرت الدوافع والمقتضيات لدخول كل واحد منهم الى الغرفة لما كان بالامكان ان يدخلوها جميعاً مجتمعين، وذلك بسبب حالة التمانع والتضاد الحاصلة نتيجة ضيق مساحة الغرفة. فعلى الرغم من توفر دواعي الدخول الى الغرفة لكل من اولئك الافراد العشرة، الا انه من المحال ان يجتمعوا فيها جميعاً.

أما في الحالة الثانية، فعلى الرغم من ثقتنا عادة بعدم اجتماع الصدف باستمرار، الا انه لو كانت مقتضيات وجود هذه الصدف متوفرة لكان الاجتماع ممكناً دون تمانع او تضاد. فمثلاً على ذلك لو اختبرنا مجموعة من الافراد واعطينا كل واحد منهم شراباً من اللبن، وقد حدث ان اقترن هذا الشراب مع ظهور حالة الصداع لكل منهم.. فهذه النتيجة يمكن ان يقال عنها بانها لم تحدث بفعل تكرر الصدفة، لثقتنا بانها لا تتكرر باستمرار. ولكن في الوقت نفسه يمكن القول بانه لا توجد اي ممانعة ذاتية لاجتماع الصدف باستمرار، وذلك فيما لو توفرت الدواعي والمقتضيات لحدوث كل منها.

اذن تبعاً للدواعي والمقتضيات يمكن التمييز بين قضية ممتنعة كتلك التي عرضناها في الحالة الاولى، وبين قضية ممكنة كتكرر الصدفة باستمرار، رغم الثقة – عادة – بعدم حدوث هذه القضية.

ولا شك ان هذا الاعتراض يتمكن من اثبات كون المبدأ الارسطي ليس ناشئاً عن الامتناع والتضاد.

مع الاعتراض الثالث

غرض هذا الاعتراض اثبات ان المبدأ الارسطي ليس ناشئاً عن التشابه والجهل بالمواضع التي تقترن فيها الصدفة باستمرار[xlii]. ويستند الاثبات الى حالة التمييز بين العلم الجمالي القائم على التشابه وقصور المعرفة، والعلم الاجمالي للمبدأ الارسطي. فالعلم الاجمالي الاول ينطوي على وجود قضية تتضمن حادثة محددة في الواقع، رغم اننا لا نعلمها بالتحديد، الا ان من الممكن التأكد منها، فيتحول العلم الاجمالي الى علم تفصيلي.

فقد نعلم اجمالاً ان زيداً قد انتسب الى كلية الطب او الهندسة. فهذا العلم يعبر عن وجود حادثة محددة في الواقع هي انتساب زيد الى احدى الكليتين، رغم اننا لا نعلم بالضبط ايهما التي انتمى اليها، ولكن من الممكن ان نعلم ذلك بطريقة ما، كإن نسأل زيداً نفسه عما انتسب اليه، فيتحول العلم الاجمالي الى علم محدد تفصيلي.

اذن في هذا العلم توجد هناك حادثة ما، نشير اليها اشارة غامضة (اجمالية). في حين ان العلم الاجمالي للمبدأ الارسطي لا ينطوي على وجود صدفة محددة في الواقع يمكن ان يشار اليها اشارة غامضة او اجمالية. اذ ان هذا العلم لا يفترض تحديد موضع الصدفة في الواقع، وبالتالي لا يمكنه ان يتحول الى علم تفصيلي كالذي لاحظناه بالنسبة الى العلم الاجمالي الناشئ عن التشابه، حيث عرفنا انه يتضمن وجود حادثة محددة في الواقع نجهلها من حيث التفصيل، الا انه بالامكان معرفتها معرفة محددة (تفصيلية).

كما هناك فرق اخر، وهو انه بامكان العلم الاجمالي الناشئ عن التشابه ان ينتفي فيما لو شككنا بوجود الحادثة. في حين ان العلم الاجمالي للمبدأ الارسطي لا ينتفي مهما شككنا بوجود حادثة الصدفة في الواقع. فلو شككنا في حادثة انتساب زيد الى الكلية، لأدى الى انتفاء العلم الاجمالي القائل بان زيداً قد انتسب إما الى كلية الطب او الهندسة. بينما لا ينتفي العلم الاجمالي للمبدأ الارسطي مهما شككنا في وجود الصدف الممكن حدوثها.

اذن فهذا الاعتراض ينجح في الكشف عن كون المبدأ الارسطي يعتبر علماً اجمالياً لا يمت صلة بالعلم الاجمالي الناشئ عن التشابه والجهل المعرفي.

مع الاعتراض الرابع

وغرض هذا الاعتراض اثبات بان عدم وقوع الصدف في المبدأ الارسطي اذا كان علماً اجمالياً قائماً على التشابه، فلابد أن لا يكون عقلياً، حيث كل علم اجمالي من هذا النوع لا يمكن ان يكون من العلوم العقلية[xliii]. والاختلاف بين هذا الاعتراض وما سبقه، هو ان الاعتراض السابق اثبت ان المبدأ الارسطي ليس قائماً على التشابه. بينما يفترض هذا الاعتراض انه لو كان قائماً على التشابه، فسوف لا يكون علماً عقلياً.

فالعلم الاجمالي القائم على التشابه يتحدث عن حادثة محددة في الواقع، لكننا نجهلها بوجه التفصيل، ونعلمها بصيغة الغموض والاجمال. ومع هذا فان وقوع مثل تلك الحادثة ليس ضرورياً. فلو أُخبرنا بأن زيداً انتسب إما الى كلية الطب او الى كلية الهندسة، فهذا العلم الاجمالي الذي يتحدث عن انتساب زيد لا يمثل علماً اجمالياً ضرورياً، وذلك لانه ليس من الضروري لزيد ان يدخل كلية الطب او الهندسة. وعليه نعرف ان عدم وقوع الصدف في المبدأ الارسطي اذا كان قائماً على التشابه، فلابد ان لا يتضمن صيغة الضرورة. اذ ليس من المستحيل على اي صدفة خاصة ان تقع ما دامت ممكنة، واذا كان من الممكن لها ان تقع، فعدم وقوعها ليس من الضرورات. وبهذا يثبت ان عدم وقوع الصدف اذا افترض كونه من العلم الاجمالي القائم على التشابه؛ فلابد ان لا يكون عقلياً.

ويجدر التنبيه الى ان هذا الاعتراض يتحدث عن الصدفة الخاصة إن كانت تتضمن ضرورة عدم الوقوع ام لا، وهو لا يتحدث عن خصوصية اقتران الصدف اكثرياً ودائمياً إن كانت تنطوي على الضرورة ام لا. اذ ترتبط المناسبة هنا بالعلم الاجمالي الناشئ عن التشابه، ومعلوم ان هذا العلم يتحدث عن الحوادث المحددة واقعاً، ولا يتحدث عما هو من القضايا الشرطية والمنطقية. وبين هاتين الحالتين فرق كبير، فقد يحصل ان يكون وقوع حادثة – وعدم وقوعها – ليس من الضرورات، مع انها ترجع الى مبدأ من المبادئ الضرورية، كما هو الحال بالنسبة لقوانين الاحتمالات وحساباتها. لذلك فان نفي الضرورة بخصوص عدم وقوع الصدفة الخاصة لا يبرهن من هذه الناحية على نفي الضرورة بالنسبة للمبدأ الارسطي. لذلك يقر المنطق الارسطي بامكان وقوع الصدف على مستوى ضئيل، لكنه في الوقت نفسه يعد مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار من القضايا العقلية.

مع الاعتراض الخامس

غرض هذا الاعتراض اثبات كون المبدأ الارسطي ليس مبدأً قبلياً سابقاً على الاستقراء والتجربة كما يزعم المنطق الارسطي الذي جعل منه اساساً عقلياً لبناء العملية الاستقرائية[xliv].

والفكرة الاساسية لهذا الاعتراض، انه لو كان المبدأ الارسطي من المبادئ القبلية السابقة للاستقراء، لما امكن ان يتزعزع اعتقادنا القائم عليه في اكتشاف العلاقة السببية لبعض الحالات.

فمثلاً اذا كان هناك عشرة افراد مصابين بالصداع، واردنا ان نختبر فيهم تأثير مادة معينة على الصداع، وقد تبين لنا انه ارتفع بعد ذلك مباشرة.. فطبقاً للمبدأ الارسطي يمكن ان نستنتج بأن هذه المادة هي السبب في رفع الصداع. ولنفترض – سلفاً – ان الاختبارات العشرة السابقة تمثل الحد الادنى من الوصول الى مستوى الاكثرية في المبدأ الارسطي، بمعنى أننا لو اختبرنا تسع حالات لكان ذلك لم يبلغ حداً اكثرياً، وبالتالي جاز ان تكون جميع هذه الحالات التسع صدفاً، في حين لو كانت الاختبارات الناجحة عشرة، لكنا قد بلغنا الحد الاكثري، وبالتالي تصبح هذه الحالات غير صدفوية طبقاً للمبدأ المشار اليه[xlv]. ولكن اذا عرفنا ان احد الافراد العشرة قد استخدم قبل الاختبار مادة اخرى من شأنها رفع الصداع، ولم نعلم ذلك حين التجربة والاختبار.. ففي هذه الحالة سوف يتزعزع اعتقادنا بالسببية؛ لانه لم تعد تبلغ الحد الاكثري من عدم تكرر الصدفة.

والنتيجة المستخلصة من ذلك هو ان المنطق الارسطي لم يعد قادراً على تفسير زوال علمنا بالسببية لمجرد علمنا بان صدفة ما قد حدثت، وهذا يعني انه لا يصلح ان يكون اساساً لبناء الاستقراء، والا لما تزعزع علمنا في مثل هذه الحالة.

وحقيقة الامر ان المنطق الارسطي يعترف بان الاستقراء او التجربة ليس معصوماً عن الخطأ، كما عرفنا سابقاً. وهذا يعني انه لا ينكر امكان ان يتزعزع علمنا بالسببية. فمثل هذا الشذوذ لا يتنافى – عنده – مع افتراض كون المبدأ السابق أساساً للاستقراء، حيث المنظور في المبدأ هو الجانب الموضوعي، وليس للباحث الا الكشف عنه، فاذا اخطأ في كشفه فلا يعني بالضرورة ان لا يصلح المبدأ أساساً للاستقراء.. اذ الخطأ في تزعزع العلم يرجع الى عدم دقة اكتشاف الحالات الموضوعية لمبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار.

وعليه فهذا الاعتراض لا يثبت سوى كون الاعتماد على المبدأ الارسطي ليس دقيقاً في كشفه عن الحالات الموضوعية، وذلك على خلاف الطريقة المستندة الى الحسابات الاحتمالية التي يمكنها ان تفسر تلك الحالة تفسيراً مناسباً كالذي نبّه عليه المفكر الصدر آخر هذا الاعتراض. اذ في هذه الحالة يمكن ان نستنتج ان عدم تكرر الصدفة في الاختبارات العشرة عبارة عن نتيجة حاصلة من جمع عدد من الاحتمالات، هي احتمال عدم الصدفة في الحالة الاولى، واحتمال عدم وجودها في الحالة الثانية، وفي الحالة الثالثة والرابعة وهكذا..، ولكن اذا تبين لنا اكتشاف صدفة في حالة معينة من الحالات، فان ذلك سيحيل العلم الناتج عن جمع تلك الاحتمالات ويزعزعها.

مهما يكن فان الخطأ وعدم الدقة كما يمكن ان يحصل في الحالات المنتسبة الى المبدأ الارسطي، فانه يمكن ان يحصل ايضاً في الحالات العائدة الى الحساب الاحتمالي، حيث اذا لم تكن التجارب دقيقة فانه يتزعزع العلم الاحتمالي ويتحول الى حالة اخرى منافية له. ومع ان هذا ممكن فنحن لا نشك في كون الحساب الاحتمالي يمثل الاساس المناسب للاستقراء. اذن لابد من التفريق بين الخطأ الذى ينتج بسبب عدم الدقة في الكشف، وبين الخطأ الموضوعي المتضمن في المبدأ ذاته. وان الاعتراض الوارد على الاول لا ينسحب على الثاني.

مع الاعتراض السادس

غرض هذا الاعتراض اثبات ان المبدأ الارسطي لا يتمكن من تفسير تأثر التجربة والاستقراء بتدخل عوامل اخرى محتملة الوجود والسببية[xlvi]. فمثلاً اذا أقمنا تجارب كثيرة أظهرت لنا ان هناك اقتراناً مستمراً بين تمدد الحديد وبين الحرارة، فقد نميل للاعتقاد بسببية الحرارة للتمدد، ولكن هذا الميل والاعتقاد يتأثر كثيراً باحتمالات وجود عامل آخر غير الحرارة، قد يكون هو الاخر يقترن مع التمدد، كما قد يكون السبب في ذلك.

وعلى العموم فانه كلما ازداد احتمال وجود هذا العامل في التجارب المقامة، كلما تضاءل بالمقابل احتمال سببية الحرارة للتمدد، والعكس بالعكس، اي كلما تضاءل احتمال وجود العامل المجهول، كلما ازداد احتمال سببية الحرارة. كذلك هناك حالة نكون فيها على علم مسبق بوجود بعض العوامل او الاسباب – غير الحرارة – التي يمكنها ان تمدد الحديد كما تمدده الحرارة، ولكنّا لا نعلم بوجودها خلال التجارب المقامة، فكل ما نعلمه هو وجود الحرارة فقط. كما هناك حالة اخرى لا ندري فيها إن كانت توجد عوامل اخرى بامكانها ان تمدد الحديد ام لا.

ويلاحظ ان احتمال سببية الحرارة لتمدد الحديد في الحالة الاخيرة اعظم مما هو في الحالة الاولى. ذلك انه في الحالة الاخيرة يتأثر هذا الاحتمال – لسببية الحرارة – باحتمال وجود العامل الاخر واحتمال سببيته معاً. اذ قد يكون بامكان العامل الاخر ان يمدد الحديد، واذا كان بامكانه ذلك، فقد يكون موجوداً في التجارب المقامة. وبسبب وجود هذين الاحتمالين معاً، فان النتيجة الحاصلة لاحتمال سببية العامل الاخر لتمدد الحديد في التجارب المقامة تصبح ضئيلة اكثر، اذ في هذه الحالة يضرب الاحتمالان مع بعض، وحينها يتضاءل الاحتمال في النتيجة. اذ كلما ازدادت عوامل الضرب في القيم الاحتمالية، كلما ازداد العدد نقصاناً في النتيجة. واذا تناقصت النتيجة بهذا الشكل، فانه سيزداد احتمال سببية الحرارة للتمدد في التجارب بشكل يتناسب عكسياً مع ذلك النقصان. في حين هناك احتمال واحد فقط في الحالة الاولى، وهو الاحتمال الخاص بوجود العامل الاخر الذي يمكنه ان يمدد الحديد خلال التجارب المقامة. ولا شك ان هذه الحالة ذات قيمة احتمالية اكبر من الحالة الاخيرة، ولهذا ستؤثر على احتمالية الحرارة لتمدد الحديد، بحيث تصبح اقل مما هو الحال مع افتراض الحالة الثانية.

هكذا يستنتج المفكر الصدر بحق، ان حالة تأثر قيمة احتمال سببية العامل المقترن بقيم احتمالات العوامل الاخرى المجهولة؛ لا يمكن ان تفسر على ضوء المبدأ والمنطق الارسطي. فهذا المبدأ لا يتحدث مطلقاً عن احتمالات التأثر بالعوامل الاخرى المجهولة، بل يتحدث فقط عن العلاقة بين ظاهرتين معاً باستمرار. الامر الذي يدل على النقص الذي ينتاب المبدأ الارسطي في علاقته بالاستقراء والكشف عن السببية.

مع الاعتراض السابع

غرض هذا الاعتراض اثبات ان المبدأ الارسطي ليس علماً عقلياً ضرورياً، بل هو وليد جمع عدد كبير من الاحتمالات[xlvii]. والطريقة الموظفة لهذا الغرض هي البرهنة على كون المبدأ الارسطي ليس من القضايا العقلية، حيث لو ثبت ذلك لتعين انه نتاج الاستقراء عبر حسابات الاحتمال.

وتعتمد طريقة البرهان على مقدمة تقول: ان كل علم عقلي لابد ان ينطوي على ملازمة بين القضية التي يقرها هذا العلم وبين قضية اخرى شرطية تمثل تطبيقاً واقعياً للقضية الاولى العقلية. فاذا عرفنا ان القضية القائلة (الكل اكبر من الجزء) هي قضية عقلية، كان بالامكان ان نرتب عليها قضية اخرى شرطية تلازمها، حيث تقول: ان هذا لما كان (كلاً)، وذلك (جزءاً)، فلابد ان يكون هذا (الكل) اكبر من ذلك (الجزء).

ويترتب على هذه المقدمة النتيجة التالية:

ان المبدأ الارسطي القائل بعدم تكرر الصدفة باستمرار، لو كان عقلياً لصحت القضية الشرطية التي تقول: انه لما كانت هذه صدفة، فلابد ان لا تتكرر باستمرار حتماً، وذلك من اجل ان تطابق القضية العقلية وتلازمها. الا ان هذه القضية (الشرطية) ليست صحيحة، وإن كنّا نعتقد ونثق بعدم تكرر تلك الصدفة باستمرار.

هكذا لما كانت القضية الشرطية ليست صحيحة، فهذا يثبت ان المبدأ الذي تفرعت عنه ليس عقلياً، وذلك لضرورة الملازمة بين الامرين السابقين. وبعبارة اخرى وطبقاً للتلازم، انه اذا كانت احدى القضيتين ضرورية؛ كانت الاخرى مثلها أيضاً، واذا لم تكن الاولى ضرورية؛ فان الاخرى تكون غير ضرورية تبعاً لها. وعليه يثبت كون المبدأ الارسطي ليس من المبادئ الضرورية العقلية. وبالتالي فانه يكون نتاج الاستقراء وذلك عبر جمع الحساب الاحتمالي.

مع انه يمكن ان يقال بان الطريقة المتبعة في البرهنة لم تكن صحيحة. ومصدر الخطأ في المقدمة التي تقول ان كل علم عقلي لابد ان تلازمه قضية شرطية واقعية تتفرع عنه. فلا شك ان هذا التعميم غير صحيح، وذلك انه ينطبق على العلوم العقلية غير الاحتمالية، اما هذه الاخيرة فان المطابقة فيها غير لازمة كما اتضح لنا من قبل.

وعليه لو ان قائلاً اعتبر المبدأ الارسطي يعبر عن قضية عقلية قائمة على مبادئ وحساب الاحتمال مباشرة؛ لما صدق عليه الاعتراض السابق. ذلك ان القضية الشرطية المتفرعة عنه لا تتطابق معه بالضرورة، رغم انه يظل عقلياً. فهناك شرطان يتوقف عليهما صدق هذه الحالة:

الاول: كون المبدأ يتضمن الحديث عن المضامين الاحتمالية لا اليقينة، مثل الصيغة القائلة: ان من المستبعد جداً تكرر الصدفة باستمرار.

الثاني: كونه يقوم مباشرة على حسابات الاحتمال دون ان يتأثر بالواقع اطلاقاً.

ولهذا اعتبرنا قاعدة عدم التماثل او الصياغة الجديدة للمبدأ الارسطي من القضايا العقلية التي تنطوي على الضرورة، وان القضايا الشرطية الواقعية المتفرعة عنها لا تطابقها بالضرورة.

النتائج الاخيرة لقيم الاعتراضات

اتضح لنا مما سبق ان هناك جملة من الاعتراضات الصحيحة الموجهة ضد المنطق الارسطي، وهي باختصار كالاتي:

الاعتراض الثاني: حيث يثبت ان تكرر الصدفة باستمرار ليس ممتنعاً، وذلك فيما لو توفرت الدواعي والمقتضيات التي من شأنها احداث هذا التكرر.

الاعتراض الثالث: حيث يثبت ان المبدأ الارسطي ليس ناشئاً عن التشابه والجهل المعرفي بالمواضع التي لا تقترن فيها الصدفة باستمرار.

الاعتراض الرابع: وهو يثبت ان عدم وقوع الصدف اذا افترض كونه من العلم الاجمالي القائم على التشابه؛ فلابد ان لا يكون عقلياً، وذلك لكون هذا العلم لا يملك صفة القضايا العقلية.

الاعتراض السادس: ويثبت ان المبدأ الارسطي ليس بمقدوره ان يفسر تأثر التجربة والاستقراء بعوامل اخرى محتملة الوجود والسببية.

هذه هي الاعتراضات الصائبة التي يصدق توجيهها ضد المنطق الارسطي. لكن ما تبقى من الاعتراضات فقد كانت موضع نقد ونقاش. وهي كما مرت معنا كالاتي:

الاعتراض الاول: حيث تبين ان هناك عجزاً عن اثبات عدم قيام المبدأ الارسطي على التمانع والتضاد، وذلك تبعاً لاخذ اعتبار عامل الوحدة الظرفية التي أكد عليها هذا المنطق.

الاعتراض الخامس: وفيه انه لم تتم البرهنة على نفي اسبقية المبدأ الارسطي على الاستقراء والتجربة، وذلك بطريقة زوال العلم الحاصل نتيجة خطأ بعض الاستقراءات القائمة على ذلك المبدأ.

الاعتراض السابع: وفيه لم يتم التمكن من اثبات عدم عقلية وضرورة المبدأ الارسطي عن طريق الملازمة بين مضمون هذا المبدأ وبين القضية الواقعية المتفرعة عنه.

هكذا هناك اربعة اعتراضات صائبة من مجموعها السبع. ولو حددنا طبيعة العلم الاجمالي الذي ينتمي اليه المبدأ الارسطي لكانت جميع الاعتراضات التي وجهت اليه – في هذا الصدد – ليست جوهرية. والاعتراضات التي ستفقد قيمتها عندئذ تتمثل بالاربعة الاولى من المجموع الكلي. واذا اضفنا الى ذلك ما تبقى من الاعتراضات الاخرى غير الصائبة – وهي الخامس والسابع – فستكون المحصلة عبارة عن وجود اعتراض واحد صحيح، هو السادس الذي يقر عدم استطاعة المنطق الارسطي من تفسير تأثر التجربة والاستقراء بعوامل اخرى محتملة الوجود والسببية.

لكن تظل القضية الجوهرية هي ما سبق ان اثبته المفكر الصدر من ان المبدأ الارسطي ليس من المبادئ الضرورية، وبالتالي لا يصح اعتباره من القضايا العقلية.

نستخلص مما سبق ان طبيعة الاستقراء عند المنطق الارسطي تنطوي على صبغة حتمية، اذ انه يتعامل مع القضايا الاستقرائية كتعامله مع القضايا الاستنباطية (القياسية)، فكلاهما ينشآن عنده بطريقة الاستنتاج المنطقي. وهي نقطة خالفه عليها المفكر الصدر، وذلك انه اعتبر المعرفة الاستقرائية لا تعتمد على الاستنتاج المنطقي او اللزوم الموضوعي، بل فيها تتحول المعرفة ذاتياً الى معرفة اخرى اتم منها دون ضرورة او لزوم. وبعبارة اخرى، يوجد اسلوبان لنمو المعرفة لدى المفكر الصدر، يتعلق الاول منهما بالقضايا الاستنباطية، ويدعى بالتوالد الموضوعي. وهو عبارة عن نمو المعرفة الذي ينتج عن تلازم قضيتين أو اكثر لها جوانب موضوعية، وتكون بعض هذه القضايا مولدة والاخرى متولدة. فقولنا بان (كل انسان فان، وزيد انسان)؛ يتولد منهما معرفة ان (زيد فان). وفي هذه المعرفة هناك تلازم بين جانبين موضوعيين من المعرفة المولدة (المقدمات) والمعرفة المتولدة (النتيجة). وهذا الاسلوب هو ما توقف عنده المنطق الارسطي. اما الاسلوب الاخر فيتعلق بالقضايا الاستقرائية التي تتولد منها اغلب معارفنا، ويدعى بالتوالد الذاتي، اذ هو عبارة عن توالد ينتج من تلازم جانبين ذاتيين هما نفس المعرفة او مضمونها. فمثلاً على ذلك حالة التعميم الاستقرائي الناتجة من استقراء عدد معين من التجارب، إذ يلاحظ انه لا يوجد فيها تلازم موضوعي بين المعرفة المحدودة الحاصلة باستقراء التجارب، وبين تعميم هذه المعرفة، بدلالة انه لو كان التعميم باطلاً لما حصل تناقض في تضارب المعرفتين. اذ يمكن افتراض كذب التعميمات الاستقرائية من غير ان يتناقض ذلك مع صدق المقدمات او المعارف التي نحصل عليها من التجارب المحدودة. مما يعني ان صحة التعميمات الاستقرائية هي بسبب وجود التلازم الذاتي بين تينك المعرفتين. او ان المعرفة التي نحصل عليها من التجارب المحدودة هي التي تؤدي الى حالة التعميم ذاتياً.

والدليل الاستقرائي لدى المفكر الصدر يحتضن كلا التوالدين الانفي الذكر. فاذا كان المنطق الارسطي لا يرى فيه الا توالداً موضوعياً هو نتاج تحكم المبادئ القبلية العقلية التي تجعل الاستقراء يسير من العام الى الخاص، فان الصدر يرى هذا الدليل يجتاز مرحلتين، اولاهما عبارة عن مرحلة التوالد الموضوعي، حيث فيها يستند الدليل الاستقرائي الى النهج الاستنباطي (الارسطي) لينمي القضية الاستقرائية الى اعلى درجة احتمال ممكنة. أما الثانية فهي مرحلة التوالد الذاتي التي فيها تتحول المعرفة بالقضية الاستقرائية، مما هي احتمالية الى درجة اليقين. وعند ذلك يكون الدليل الاستقرائي قد تمت له القفزة من الاحتمال الى اليقين، ومن الخاص الى العام[xlviii]. فهذه هي النقطة الحاسمة في التفريق بين المنطق الارسطي والمذهب الذاتي للمفكر الصدر.

اذن يمكن ان نلخص بعض الاختلافات الجوهرية بين المنطقين الارسطي والذاتي كالاتي:

1ـ يعتقد المنطق الارسطي ان هناك اسلوباً واحداً لنمو المعرفة، هو اسلوب التوالد الموضوعي. بينما يعتبر المذهب الذاتي وجود اسلوبين يتضمنهما الدليل الاستقرائي.

2ـ ان التعميم لدى المنطق الارسطي يحصل بطريقة لزومية حتمية. حيث يوجد هناك قياس يتحكم فيه العام بالخاص عبر مبدأ التناسب القائل ان الحالات المتشابهة تفضي الى نتائج متماثلة. في حين ان التعميم لدى المذهب الذاتي لا يحصل بطريقة اللزوم الحتمي، بل بطريقة ذاتية لا يعتمد فيها على حالات الاستنتاج الموضوعي.

3ـ ان اثبات السببية في القضية الاستقرائية يحصل لدى المنطق الارسطي بطريقة الاستنتاج القياسي او اللزوم الحتمي التي يتحكم فيها العام بالخاص عبر مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار. في حين ان اثبات السببية لدى المذهب الذاتي لا يحصل بطريقة الاستنتاج واللزوم الحتمي، وإنما بطريقة التوالد الذاتي الذي تتحول فيه المعرفة ذاتياً من الدرجة الاحتمالية الكبيرة الى اليقين.

4ـ اذا كان اليقين الاستقرائي لدى المنطق الارسطي مستنبطاً ومستدلاً عليه من المقدمات التي ادت اليه موضوعياً، فان الحال لدى المذهب الذاتي غير ذلك. فهو ليس مستدلاً ولا مستنبطاً من مقدماته المتمثلة بالقضايا الجزئية التي كونت الاستقراء، ولا مستنتجاً من قضية عقلية قبلية كالذي يدعيه المنطق الارسطي، بل انه درجة اولية من التصديق، بمعنى انه ليس مبرهناً عليه بتصديقات سابقة ولا مستنبطاً منها، وذلك على عكس درجات التصديق التي تقل عن اليقين، حيث انها مستنبطة من هذه التصديقات السابقة التي تتطلبها المرحلة الاستنباطية للاستقراء، لكن في الوقت نفسه ان اليقين لا يتكون الا بسبب وجود تلك التصديقات السابقة التي تمثل تراكم الاحتمالات في محور واحد. واذا كان اليقين غير مستنتج من الدرجة الاحتمالية التي ادت اليه ذاتياً، فانه على ذلك يكون مفترضاً كمصادرة تقبل التبرير والتفسير[xlix]. وبذلك يكون اليقين (الاستقرائي) يختلف عن اليقين المنطقي الذي اعتمد عليه المنطق الارسطي. وبالتالي فقد ميزه المذهب الذاتي عن ذلك اليقين، كما ميزه عن نوع اخر من اليقين، هو اليقين النفسي الذي يتأثر بالعوامل النفسية من دون ان يكون له مدرك موضوعي يستند اليه.

يحيى محمد

الهوامش

[i]  لاحظ هذه الحالات واشباهها في: سومينسكي وجولوفينا وياجلوم: الاستقراء الرياضي، ترجمة احمد صادق القرماني، دار مير، موسكو، ص7ـ11 .

[ii] ابن سينا: منطق الاشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، الطبعة الثانية، 1958م، ص231.

[iii] الفارابي: الجمع بين رأيي الحكيمين، تقديم وتحقيق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت،1960م، ص82.

[iv] الجمع بين رأيي الحكيمين، ص82.

[v] البرهان، ص96.

[vi] المصدر السابق، ص86.

[vii] منطق الاشارات والتنبيهات، ص218.

[viii] منطق الاشارات والتنبيهات، ص218.

[ix] لاحظ: ابن تيمية: الرد على المنطقيين، مطبعة شرف الدين الكتبي واولاده، بومباي، ص93.

[x] امين الاسترابادي: الفوائد المدنية، طبعة حجرية، ص130.

[xi] السقمونيا هو نبات له اغصان كبيرة، وله زهر ابيض مستدير ثقيل الرائحة، متى ما اعطي منه اكثر من ثلثي درهم اسهل اسهالاً عنيفاً جداً (عن: مفردات ابن البيطار. انظر: عيون الحكمة، حاشية المحقق، ضمن رسائل الشيخ الرئيس، تصدير وتحقيق عبد الرحمن بدوي، انتشارات بيدار، قم، ص25).

[xii] البرهان، ص96ـ97.

[xiii] الشاطبي: الموافقات في اصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ ـ 1975م، ج3، ص9ـ10، كذلك: ج4 ، ص174.

[xiv] البرهان، ص97.

[xv] ارسطو: الطبيعة، ترجمة اسحاق بن حنين، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، الدار القومية بالقاهرة، 1384هـ ـ 1964م، ج1 ، ص117. كما لاحظ: ابن رشد: السماع الطبيعي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الطبعة الاولى، 1366هـ ـ 1947م، ص19. من جهة الاصطلاح يفرق ارسطو بين الاتفاق والصدفة، فمعنى الاول عبارة عن علة عرضية غير محدودة. اما الصدفة فهي ايضاً علة عرضية، الا انها تحقق ايضاً غاية انسانية ليست بالحسبان (محمود امين العالم: فلسفة المصادفة، دار المعارف، 1970م، ص64ـ65).

[xvi] البرهان، ص96.

[xvii] تجدر الاشارة الى ان الفارابي تجاوز احياناً هذا المعنى، ذلك انه سمح لنفسه ان يعمم بعض الحالات من خلال فرد واحد فحسب، ذلك انه قام بتبرير بقاء حياة الجن الى يوم القيامة اعتماداً على ملاحظة فرد واحد من هذا النوع، وهو ابليس الذي وردت بحقه الاية الكريمة ‹‹رب انظرني الى يوم يبعثون، قال فانك من المنظرين›› (رسالة في مسائل متفرقة، ضمن رسائل الفارابي، دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الاولى، 1344هـ، ص3).

[xviii] منطق ارسطو، ج2 ، 1949م، ص397.

[xix] الفارابي: المنطقيات، تحقيق وتقديم محمد تقي دانش بزوه، نشر مكتبة المرعشي النجفي، قم، الطبعة الاولى، 1408هـ، ج1 ، ص271.

[xx] شرح منطق منظومة السبزواري، طبعة حجرية، ص91.

[xxi] الاسس المنطقية للاستقراء، ص37.

[xxii] التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، مكتبة الخيام بطهران، 1967م، ص190.

[xxiii] البرهان، ص86.

[xxiv] الاسس المنطقية للاستقراء، ص25.

[xxv] عيون الحكمة، ضمن رسائل الشيخ الرئيس، ص25.

[xxvi] منطق الاشارات والتنبيهات، ص217.

[xxvii] البرهان، ص96.

[xxviii] الاسس المنطقية للاستقراء، ص396.

[xxix] لاحظ المصدر السابق، ص45.

[xxx] لاحظ، ص48.

[xxxi] لاحظ، ص397ـ399.

[xxxii] ارسطو: الطبيعة، ج1 ، ص117ـ125. وارسطو: علم الطبيعة، مقدمة وتفسير وتعليق بارتلمي سانتهلير، ترجمة احمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية، 1353هـ ـ 1935م، ص137 وما بعدها. وابن رشد: السماع الطبيعي، ص19ـ20.

[xxxiii] الاسس المنطقية للاستقراء، ص396.

[xxxiv] لاحظ المصدر السابق، ص397ـ398.

[xxxv] لاحظ، ص51ـ52.

[xxxvi] لاحظ، ص52.

[xxxvii] لاحظ، ص54ـ59.

[xxxviii]  لاحظ، ص58.

[xxxix] البرهان، ص96ـ97.

[xl] الاسس المنطقية للاستقراء، ص59.

[xli] لاحظ المصدر السابق، ص60.

[xlii]  لاحظ، ص61ـ62.

[xliii] لاحظ، ص62ـ64.

[xliv] لاحظ، ص64ـ66.

[xlv] يلاحظ ان استخدام التحديد العددي لعدم تكرر الصدفة ليس دقيقاً، لكن المفكر الصدر اضطر اليه لتبسيط المطلب.

[xlvi] الاسس المنطقية للاستقراء، ص67ـ68.

[xlvii] لاحظ المصدر السابق، ص68ـ69.

[xlviii] لاحظ، ص133ـ142

[xlix] لاحظ، ص425.