د. ماجدة حمود
نبذة عن حياة بنت الهدى
بنت الهدى اسم مستعار للشهيدة العلوية آمنة بنت آية الله الفقيه المحقق السيد حيدر الصدر أحد كبار العلماء في العراق، أمها من عائلة علمية معروفة، فهي أخت المرجع الديني آية الله محمدرضا آل ياسين.
ولدت في مدينة الكاظمية سنة 1356ق/1937م ترعرعت في أحضان والدتها وأخويها: السيد إسماعيل الصدر وآية الله العظمى المرجع الديني والمفكر الإسلامي الشهيد السيد محمد باقر الصدر؛ إذ فارق والدها الحياة وعمرها سنتان، تعلمت القراءة والكتابة في بيتها دون أن تدخل المدارس الرسمية، فدرست النحو والمنطق والفقه والأصول وباقي المعارف الإسلامية، واطّلعت على المناهج الرسمية التي تُدرّس في المدارس ودرستها في بيتها، وبذلك تكون قد اطّلعت على المناهج الحديثة إلى جانب دراسة المعارف الإسلامية.
يلاحظ أنه لم يقتصر ولَعُها بالمطالعة على الكتب الإسلامية، بل نجدها تقرأ كتباً غير دينية، ولأنها من عائلة فقيرة كانت تستأجر الكتب مقابل مبلغ زهيد، كما كانت تستغل فراغ السيد الصدر وتنهل من علمه.
عاصرت بنت الهدى عدة أحداث هامة، منها اعتقال الحكومة لأخيها الإمام الصدر 1972 والانتفاضات التي حدثت في مدينة النجف، وفي عام 1979 شهد العراق تحركاً سياسياً واسعاً، إذ جاءت الوفود من شتى أنحائه لبيعة الإمام الصدر، فأحسّت الحكومة العراقية بخطورة الموقف، لذلك أقدمت على اعتقال الإمام فجراً فخرجت بنت الهدى مع صلاة الفجر إلى مرقد الإمام أميرالمؤمنين(ع)، وهناك نادت: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الظليمة الظليمة، أيها الناس هذا مرجعكم قد اعتقل، فعلم الناس الخبر وسرعان ما انتشر، فخرجت تظاهرة كبرى في النجف معلنة عن سخطها واستنكارها لاعتقال السيد الصدر، فسارعت الحكومة لإطلاق سراحه خوفاً من توسّع رقعة المظاهرات.
وما إن وصل الخبر إلى بقية المدن العراقية حتى خرجت جميعها في تظاهرة واسعة، بالإضافة إلى حدوث تظاهرات في بلدان إسلامية أخرى مثل لبنان والبحرين وإيران.
عندما عرفت السلطة خطورة الموقف فرضت الإقامة الجبرية على السيد وعائلته، بهدف منعه من الاتصال بالحركة الإسلامية، وتمهيداً لتصفية أقطاب التحرك الإسلامي، وفعلاً أقدمت حكومة العراق على اعتقال الإمام وأخته بنت الهدى في 19 جمادى الأولى 1400، الموافق 5/4/1980 وبعد أيام قليلة تمّ تنفيذ حكم الإعدام بالأخوين.[1]
القصة لدى بنت الهدى
نستطيع أن نعدّ بنت الهدى من أوائل الكاتبات اللواتي انتبهن إلى أهمية الكلمة في حياة الإنسان، فكانت داعية للإسلام، لم تكتف بالخطابة والتوجيه المباشر للنساء والإشراف على مدارس الزهراء،[2] وإنما حاولت أن تمارس دورها التوجيهي عن طريق القصة، كي يشمل أكبر عدد من النساء المسلمات.
ويبدو لنا هذا الدور التوجيهي هو الأساس في الإبداع القصصي لديها، لهذا نجدها تعترف في مقدمة مجموعتها القصصية الأولى بأنها ليست كاتبة للقصة، كما أنها لم تحاول كتابة القصة من قبل، وأن ما تقدّمه لا يعدو أن يكون (صورة من صور المجتمع الذي نعيش فيه وأنموذجاً من واقع الحياة التي نحياها، حيث تتصارع قوى الخير والشر وتلتحم العقيدة بجيشها الفكري والروحي في معركة مع حضارات الاستعمار وأخلاق المستعمرين).[3]
إن غايتها إبراز جوهر الصراع بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، لذلك تحاول تجسيد هذا الصراع في حياة كل مسلم ومسلمة في هذا العصر.
يمكننا أن نلاحظ ۔ هنا ۔ وعي الكاتبة بكونها لا تقدّم قصة فنية بالمعنى الكامل للمصطلح، لذلك تعلن في إحدى قصصها عبر العنوان أنها تقدّم مجموعة رسائل فتجعل عنوانها (رسائل وخواطر) وتجعل البطلة زهراء التي هي لسان حال المؤلفة تقول: (لست أديبة ولا أريد أن أقحم نفسي على الأدب إقحاماً).[4]
إن الغاية الدينية هي الدافع الأول للإبداع القصصي، لذلك تقول في مقدمة المجلد الثاني من مجموعتها القصصية مبيّنة هذه الغاية:
إن تجسيد المفاهيم العامة لوجهة النظر الإسلامية في الحياة هو الهدف من هذه القصص الصغيرة؛ لأنني أؤمن بأن إعطاء المفهوم على المستوى النظري لا يمكن أن يحدث من التغيير والتأثير ما يحدثه إعطاؤه مجسداً ومحدوداً في أحداث وقضايا من واقع الحياة، ومن أجل ذلك اهتمّ القرآن الكريم بإعطاء المثل والقيم عبر صور قصصية من حياة الأنبياء.[5]
إن الكاتبة بنت الهدى تتخذ من القرآن الكريم قدوة لها، فتستعين بالقصص لمخاطبة الناس، فتجعل أفكارها والقيم التي تؤمن بها متجسدة في قصة، فيزداد تأثرهم بها وهذا ما تسعى إليه الكاتبة.
لا شك أن القضايا النظرية التي يقدّمها المفكر عبر مقالات تتّسم بالتجريد لن تلقى إقبالاً من القراء، وستكون متوجهة في أغلب الأحيان إلى المختصين، في حين نجد أن المفاهيم النظرية بارتدائها لبوس القصة تصبح أكثر جاذبية، فيزداد إقبال القراء عليها.
ومن أجل ضمان تفاعل المتلقي مع قصصها اختارت الكاتبة أبطالها من واقع الحياة، صحيح أن أحداث القصة وحبكتها من نسج الخيال، لكنها حاولت أن تقدّم ما يدور في الواقع من أفكار وتسلّح الفتاة المسلمة بالفكر الإسلامي، لذلك تبيّن لها معالم الطريق الذي يتوجب عليها أن تسلكه، فتجد فيه خلاصها في الحياة الدنيا والحياة الأخرى، كما تبيّن لها مساوئ حياة تبتعد عن هذا الفكر وتلهث وراء أفكار الغربيين.
ولهذا يمكننا أن نقول كما قال الأستاذ جعفر حسين نزار بأن بنت الهدى كانت (امرأة روحانية أكثر منها كاتبة، وهي داعية أخلاقية أكثر من كونها مؤلفة أدبية.. وهي زاهدة عقائدية قبل أن تكون ثائرة سياسية)[6] وإن كنا نختلف معه في جعلها زاهدة قبل أن تكون ثائرة، فقد انسجم لديها الإيمان بالثورة والرغبة في تغيير الواقع وخاصة واقع المرأة المسلمة، وقد رأت في الكتابة القصصية إحدى وسائل التغيير لديها.
وبناء على ذلك سنحاول أن نبيّن النواحي الفكرية التي قدّمتها في قصصها أولاً باعتبارها إحدى جماليات القصة الأساسية لديها، ثم نتحدث عن عناصر القصة الفنية لديها، فنبرز ما لها وما عليها.
الفكر والعقيدة في قصص بنت الهدى
بدت لنا بنت الهدى مفكرة أكثر منها كاتبة، وقد تميزت بشخصية المرأة الرسالية التي قلّما نصادفها في مجتمعنا، لذا وجدنا الفكر الإسلامي بكل مبادئه وروحانيته متجلياً في قصصها.
إن الهاجس الأساسي الذي يسيطر على بنت الهدى هو بناء مجتمع إسلامي والعودة بالإنسان المسلم إلى نقاء الإسلام وفطرته التي باتت بعيدة عن متناول الكثيرين من أبناءه، لذلك تحاول أن توقظ ما كان خافياً في أعماقه من قيم روحية ومبادئ إسلامية تنهض بدنياه وتسعده في آخرته. وهي تتوجه إلى الإنسان المسلم سواء كان امرأة أم رجلاً، وإن بدا لنا أنها تخصّ في خطابها القصصي المرأة المسلمة أكثر من الرجل، نظراً لمعاناة المرأة من بؤس التقاليد والأفكار الجامدة أو المستوردة، فهي تريد النهوض بواقع المرأة المتردي، وهذا يعني النهوض بالأسرة وبالتالي النهوض بالمجتمع بأسره.
إنها تسعى إلى بزوغ المرأة المجاهدة التي تسير على خطى المرأة في صدر الإسلام، لذلك نسمعها تقول في قصة الفضيلة تنتصر: (في وسع كل امرأة أن تكون كذلك) وحين تسأل (نقاء) خطيبها (إبراهيم) عن الكيفية التي تصبح فيها المرأة مجاهدة في سبيل عقيدتها وإيمانها، نجده يجيبها:
إن صمودك عن الإغراءات، وثباتك أمام التيارات، ودفعك كلام الباطل بالحق، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، يعتبر جهاداً.. إن جهاد النفس هو من أقدس وأكمل ألوان الجهاد، وكما قال الإمام أميرالمؤمنين(ع) تطهير النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد.[7]
بدأت الكاتبة المفكّرة ببناء الإنسان من الداخل، فركّزت على اللبنة الأولى في بناءه وتحصينه: الإيمان، فبيّنت أن الإيمان ليس باللسان وإنما ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إنها تدعو المرأة إلى ذكر الله في كل أوقاتها، دون أن تعطّل أعمالها الدنيوية، لهذا تقول:
فكل يد معونة تسديها المرأة ولو لأقرباءها الأقربين إذا كانت خالصة لله تكون ذكراً لله سبحانه، وكل لفتة طيبة تبديها تجاه الآخرين دون أية غاية دنيوية تكون ذكراً لله تعالى، وكل سحابة ضيق تتحملها بصبر، وكل فكرة صالحة تفكّر فيها لأجل الخير، دون أي شيء آخر، وأي نعمة تحدثت بها لا مباهية ولا متعالية.. كل هذه تكون ذكراً لله تعالى.[8]
إن إيمان المرء ينعكس على حياته الشخصية الداخلية، فيبدو إنساناً قوياً في مواجهة أعباء الحياة، كذلك ينعكس على حياته الاجتماعية فيبدو أكثر عطاء للآخرين وأكثر فاعلية في مجتمعه.
كذلك نجدها تتوجه ۔ عبر قصصها ۔ إلى المرأة المأخوذة بالمظاهر الاجتماعية الجوفاء التي تستهلك أموالاً طائلة وأوقاتاً كثيرة، ففي قصة (زيارة العروس) تبيّن أن الاستعدادات التقليدية لزيارة العروس (ملابس جديدة، تصفيف شعر، هدايا باهظة..) أمور لا تمتّ بصلة إلى المبادئ الإسلامية، كذلك ركّزت على ضرورة البساطة في تأسيس بيت الزوجية، وفي قصة (صافرة إنذار) تصوّر لنا تفاهة بعض الاجتماعات النسائية (الاستقبال) التي تقوم على المظاهر الاستهلاكية، وتحمّل الزوج أعباء مادية تصل حد الاستدانة!! فهي تطلق صافرة إنذار للمرأة كي تتعرف على مسؤوليتها في الحياة، إنها تريد من المرأة أن تقف إلى جانب الرجل في تحمل أعباء الأسرة، فلا تكون أحد أعباءها.
يسجّل للكاتبة أنها انتبهت إلى الإنسان العاصي، ففتحت أبواب الإيمان أمامه، ليعود إلى مجتمعه المسلم إنساناً فاعلاً، لذلك نجد كثيراً من الشخصيات العاصية في قصصها تعود إلى عالم الإيمان الرحب كشخصية محمود في قصة (الفضيلة تنتصر) ورحاب في قصة (امرأتان ورجل).
وقد وضّحت لنا في قصتها الأولى خطوات التوبة التي تبدأ بطلب العفو من الله تعالى أولاً ثم من الروح ثانياً؛ لأن الإنسان العاصي قد سجنها داخل جسده، لذلك عليه مراجعة نفسه التي طمستها يد النزوات والهفوات، وبإمكان الإنسان العودة إلى الطريق القويم وإصلاح ذاته؛ لأن هذه النزوات مهما عظمت ليست سوى أحداث مندثرة وعابرة، وعوامل الخير ثابتة وراسخة في الأعماق، لهذا فإن الأخطاء تمحى لمن كان صادق التوبة فيعود كمن ولدته أمه.
اهتمت الكاتبة بقضايا وهموم تؤرّق الإنسان وخاصة الشباب، كقضية الزواج، فنجدها تبيّن أن الأساس في نجاح العلاقة الزوجية أن تعتمد على القيم الدينية والأخلاقية لا على الغنى المادي، لذلك نسمع (مقداد) يخاطب أمه في قصة (اختيار زوجة) يقول: (أريد شريكة حياة ولا أريد شركة تجارية) وبناء على ذلك يفضّل ابنة البقّال الفقيرة (أفنان) لكونها مؤمنة على الفتاة الغنية غير الملتزمة دينياً.
وفي قصة (لقاء في المستشفى) نجد الفتاة المؤمنة (ورقاء) ترفض ابن عمها الذي لا يملك من الصفات التي تؤهّله للزواج سوى صفة تراها ثانوية هي الغنى، فنسمعها تقول له:
الزواج وحدة روح وفكر ومصير، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق مع اختلاف السلوك وتباين وجهات النظر، وما دمنا لا نستطيع أن نلتقي فكرياً فلن نستطيع أن نلتقي عاطفياً، وعدم الالتقاء العاطفي هو أوضح دليل على فشل الحياة الزوجية.[9]
وكذلك نجدها تتناول همّاً ينغّص حياة الإنسان هو اليأس الذي يغلق منافذ الحياة أمامه، ويبعده عن الفاعلية فيها، فتناقش هذه المشكلة في عدة مواضع وخاصة في قصة (ليتني كنت أعلم) و(امرأتان ورجل)، وفي قصصها القصيرة التي هي أشبه بمذكّرات تحمل عناوين متعددة (قلب يتعذب)، (فكر في مهب الريح) و (حشرجة روح) نسمع صوت الفتاة اليائسة (بيداء) التي كانت حياتها سلسلة من الآلام لا نهاية لها، لذلك تتقاذفها الأفكار السوداء، فتعيش القلق وحشرجة الروح، فنرى أمامنا بقايا كيان يفتقد الإرادة والشخصية.
وضّحت أن طريق الخلاص لن يكون إلا بالإيمان، لذلك تتكرر هذه الآية الكريمة في قصصها على لسان شخصياتها أو عن طريق المقرئين <فَلاٰ تَعْلَمُ نَفْسٌ مٰا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ> لذلك نسمع الشخصية اليائسة تقول بعد سماعها لهذه الآية:
فانجذبت نحو هذه الآية ووجدت من خلالها منافذ نور كشفت عن غطاء الحيرة والتيه، وعرفت أنه الإيمان.. سلاح الصمود والاطمئنان إلى الرحمة الإلهية العاجل منها والآجل، وهو من أهم مقومات الاعتدال في المشاعر والسلوك، فالإيمان يحيل اليأس إلى رجاء والعسر إلى رخاء، والخوف إلى أمن ورضاء، ما دام الإنسان المؤمن يعلم أن جميعها في عين الله.. .
ثم توصلت إلى نتيجة حتمية لطبيعة الإنسان المؤمن وهي أن يكون التفاؤل من صفاته ما دام واثقاً من الله، متّكلاً عليه قانعاً بما لديه.
وبذلك يصبح الإنسان بفضل الإيمان بالله ومبادئ الإسلام متميزاً بحيوية وفاعلية، واثقاً بنفسه وبقدراته، لا يسمح للضعف أن يسيطر عليه، فهو مسلّح من الداخل مما يجعله متجاوزاً ضعفه.
تسعى الكاتبة الرسالية إلى تربية الإنسان تربية روحية تضمن عبرها توازنه النفسي وفاعليته الاجتماعية، فيعيش سعادة الدنيا والآخرة.
جسّدت بنت الهدى العبادات عبر قصصها، باعتبارها أحد الأسلحة النفسية التي يواجه بها المسلم ضعفه، فبدت لنا منبع الأمان والقوة لا طقوساً تؤدّى، وبذلك أبرزت روحانيتها وقدرتها على مخاطبة أعماق الإنسان، ومساندته في لحظات الشدة والضعف، فحين يحين موعد صلاة الفجر والفتاة (وفاق) مؤرّقة تحسّ بـ(الفجر.. ينتزعها من فراشها ليستنقذها مما هي فيه، وليدعوها إلى ترك اليأس المرير، ويفتح أمامها أبواب الأمل والرجاء، في الصلاة والدعاء واتجاه الروح وقربها من الرحمن، وفعلاً اندفعت بلهفة إلى تهيئة مقدمات الصلاة، وكأنها تستعد لموعد يقرّبها ممن تحب، ويفتح أمامها أبواب الرجاء وسرعان ما اندمجت مع صلاتها تاركة وراءها آلام الحياة ومآسيها، منصرفة إلى خالقها الذي تتجه إليه..).[10]
وهكذا تتحول العبادات إلى منابع قوة داخلية تستطيع إنقاذ الإنسان من حالات ضعفه وبؤسه، فالصلاة ليست هروباً من الأزمة أو الشدة النفسية، وإنما هي قوة يكتسبها الإنسان حين يحسّ بأن هناك قوة عظمى تقف إلى جانبه، هي القوة الإلهية.
مواجهة الغرب الأوروبي في قصصها
تتأمل الكاتبة المفكرة أوضاع المرأة المسلمة في العصر الحديث، فترى أن أحد أسباب ضياع عدد كبير من النساء اليوم هو لُهاثهنّ وراء الفكر الغربي، وانخداعهن بمقولات الحضارة الغربية، لذلك كانت هذه الحضارة ۔ في نظرها ۔ مبعث الشر والدمار في حياة الإنسان المسلم.
لم تعن الكاتبة بالفضاء المكاني لأحداث قصصها، ولعل المكان الوحيد الذي تردّد ذكره لديها هو (أوروبا) فوجدناها مكاناً للفسق والرذيلة، قلّما نجدها مكاناً للعلم، وهي مفسدة للمرأة دائماً، فقد كان سفر بشرى إلى الغرب للتحصيل العلمي سفراً غير موفّق من الناحية العلمية والأخلاقية! إذ اجتثّ آخر غرسة صالحة قد تكون مختفية في ثنايا نفسها.
وقد استطاعت أن تجسّد أفكارها هذه عبر شخصيات قصصية سلبية، عاشت في الغرب تطبّعت بطباعه وتبنّت أفكاره، فعادت إلى الوطن مجردة من الحس والعاطفة. شخصيات ملحدة، عاقّة للوالدين، مخادعة، حاقدة، مثلاً: شخصية سعاد في قصة (الفضيلة تنتصر) وشخصية رحاب في قصة (امرأتان ورجل) تسمعنا الكاتبة صوت الغرب ووجهة نظره بالإسلام عن طريق (سعاد ورحاب) وأمثالهما ممن عاشوا فيه، أو تأثّروا بثقافته دون أن يزوروه. نسمع سعاد تقول للفتاة المؤمنة (نقاء) بأن الزواج الناجح يكون مبنياً على أساس من مفاهيم الحضارة الحديثة، وأن الرجل المسلم يخدع المرأة بأساليب منها الدين والعفة والفضيلة فيحتجزونها في الدار بحجة العفة، ثم تقول لها: (إن أبشع جريمة اجتماعية هي أن تخضع فتاة مثلك لرجل.. أي دين هذا الذي يجعل من المرأة أداة مستعبدة في أيدي الرجال!) نسمع هنا وجهة النظر الغربية في قضية المرأة المسلمة، فهي أكثر المآخذ التي يأخذها الغرب على الإسلام، لذلك تنطلق سعاد قائلة لنقاء:
وهل قوانين الإسلام إلا قيود تشدّك بأغلالها القاسية! وهل آدابه سوى أغوار سحيقة تحجبك عن المجتمع تحت سجوفها!؟ أنت تقفين على أبواب الحياة فلا تمكّني الأفكار الرجعية أن تشوّه مستقبلك السعيد.[11]
لا تترك الكاتبة هذا الرأي دون ردّ مقنع في القصة على صعيد الحوار النظري وعلى صعيد الأحداث في القصة، فنجد (نقاء) الفتاة الملتزمة دينياً تردّ عليها قائلة: (عجيب أمرك يا سعاد هل خدعتك أوروبا؟ أنا لست محكومة لأحد، ولم يفرض الدين عليّ أن أُحكم لأحد أياً كان حتى زوجي، فليس الزواج في الإسلام ختم ملكية المرأة للرجل، ولا تخضع فيه المرأة المسلمة إلى أي حدود أو التزامات غير طبيعية، إن الإسلام يعطي الزوجة المسلمة امتيازات لم تحصل عليها الزوجة في أي نظام وقانون غير الإسلام، ولكنك مخدوعة، ولا تفقهين ما تقولين!!)[12] إنها تؤكّد حريتها وإنسانيتها، فهي لا تخضع لأحد سوى الله تعالى، وإن المرأة التي تخضع لواضعي الموضة ومصممي الأزياء ومقترحي الأصباغ على الوجه هي الأسيرة للرجال وللأشياء على السواء! أما في أحداث القصة فنجد فيها رداً عملياً على الفكر الغربي، إذ يفشل زواج سعاد من محمود الذي يتبنى مثلها الأفكار الغربية، في حين ينجح زواج نقاء من إبراهيم الذي يتبنى الأفكار الإسلامية، وبذلك تعطي الكاتبة مثالاً واقعياً على تفوق الفكر الذي تؤمن به، وفشل الفكر الغربي، فهي تجعل الفكر الإسلامي على نقيض الفكر الغربي، وتبرز إساءة هذا الفكر للمرأة مع ادعائه إنصافها.
وهي لا تلمّح إلى هذه الأفكار بل نجدها تصرّح بها على لسان الشخصية (نقاء) التي هي لسان حالها، فنسمعها تقول:
أرثي لحال هذه المسكينة [سعاد]، وأرى أحد أسباب انحرافها يعود إلى المجتمع المنحرف وإلى انعدام القيم الإسلامية فيه، ولو أنها كانت في مجتمع فاضل ونشأت نشأة إسلامية صحيحة، وهُذّبت تهذيباً روحياً حقيقياً، لما وصلت إلى هذا الدرك، فالمجتمع الفاسد يقدّم كثيراً من الضحايا وأكثر ضحاياه من النساء، لأنهن أعجل تأثراً وأسهل انقياداً…
تحذّر الكاتبة في قصصها من المظاهر البراقة الخادعة للحضارة الغربية، لهذا تصفها في قصة (مقاييس) بالحضارة (المبطّنة بالمآسي والأهوال.. تخفي وراءها عوامل الشر والنزعات الحيوانية والأغراض الشخصية).
ونجدها تقدّم مقارنة بين صورة المرأة الغربية والمرأة المسلمة، على لسان شخصية عاشت في الغرب واقتنعت بضرورة العودة إلى الشرق المسلم، كما فعل أخو (وفاق) في قصة (صمود) فقد تأكد له زيف هذه الحضارة وتضليلها للشباب، ورأى المرأة الغربية ليست (سوى سلعة بين أيدي الرجال، يتحكم فيها كما يريد ويبرزها بالشكل الذي يهوى).
تتضح المقارنة في قصة (الفضيلة تنتصر) إذ تأتي الكاتبة بتفاصيل تمسّ المرأة الغربية والمسلمة على السواء (المرأة الأوروبية لم تحصل ضمن قوانين أوروبا على بعض ما حصلت عليه المرأة المسلمة في ظل شريعة الإسلام، بل إنها لم تتمكن حتى من الاحتفاظ بأنوثتها، فالمرأة الغربية ليست سوى أداة طيّعة في يد الرجال، لا تملك شيئاً ولا تستقل في أمر من الأمور، في الوقت الذي تتمتع فيه المرأة المسلمة بكيان مستقل وشخصية ثابتة، لها حقها الكامل في التصرف بمالها وكيانها في الحياة..).[13]
ما زالت المرأة الغربية إلى اليوم تتقاضى راتباً أقل من راتب الرجل، في حين امتلكت المرأة المسلمة استقلالها المادي، وحرية إدارة ممتلكاتها، والمساواة في الحقوق والواجبات. والكاتبة بنت الهدى تحاول عبر قصصها أن تبرز النظرة الراقية للمرأة في الإسلام، وأن هذه النظرة ليست من بُنات أفكارها وإنما مستقاة من مصادر التشريع الإسلامي: القرآن الكريم والأحاديث الشريفة (فالإسلام هو أول من جعل من المرأة شريكة الرجل في بنيان الأمة كما جاء في الآية الكريمة <وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّٰالِحٰاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ نَقِيراً> وكما قال نبي الإسلام: النساء شقائق الرجال).
ثم تعود في القصة نفسها (مذكّرات) إلى سرد حوادث تاريخية تبرز (دور المرأة المسلمة في حياة الأمة ومساواتها مع الرجل، وكيف أنها كانت تشهد الغزوات مع الرسول، تداوي الجرحى وتسقي العطشى، حتى أنها كانت تحمل السلاح في بعض الحالات بمرأى ومسمع الرسول(ص) وكان(ص) يسهم للنساء من الغنائم كما يسهم للرجال).[14]
لذلك لا يعني الحجاب حجب المرأة عن الحياة العامة في نظر بنت الهدى؛ إذ نجدها تأتي بدليل قرآني، ففي قصة (امرأتان ورجل) نسمع (حسنات) تحدّث أختها (رحاب) عن هذا الفهم المنفتح للحجاب، فتقف عند (الآية المباركة التي تقول: <قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ> إلى أن تقول: <وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ> فلماذا هذا الأمر بالغض من البصر إذا كان في الستر الذي فرضه الإسلام عزلاً للمرأة عن الحياة؟ إن الغض من بصر الرجل يعني إمكان وجود المرأة إلى جواره، والغض من بصر المرأة يعني إمكان وجود الرجل إلى جوارها، ]ولكي[ يعيش كل من الرجل والمرأة إلى جوار بعضهما في المجتمع أمر الإسلام بالستر، كتنظيم وقائي للمرأة والرجل سواء بسواء، ألا ترين أن أكثر الويلات والمشاكل الاجتماعية نشأت من نتيجة الاختلاط المطلق بين الجنسين؟)[15]
تدافع بنت الهدى عن مكانة المرأة المسلمة، وتردّ على الغربيين الذين يرون في الحجاب أحد عوامل قهرها، فتقدّم لنا عن طريق الآية القرآنية فهماً حيوياً للحجاب الذي لا يعني عزلاً للمرأة عن المشاركة في الحياة العامة، وقد تجلّى هذا الفهم من خلال تفسيرها لبعض الآيات القرآنية، والأحداث التاريخية التي شاركت فيها المرأة في زمن الرسول(ص)، كما تجلّى هذا الفهم الحيوي لدور المرأة في الحياة العامة في سيرتها الذاتية حيث وصلت المشاركة لديها إلى حد مواجهة السلطة الظالمة، الأمر الذي أدّى إلى اعتقالها ومن ثم استشهادها.
كما نجد الكاتبة تدافع عن رجال الدين المسلمين، الذين صوّرهم أولئك المتغربون بصورة مشوّهة (فهم حاقدون على كل شيء: الشباب، الجمال، الثقافة، المال..) فتأتي برجل دين شاب لا يتجاوز الأربعين من عمره مشرق الوجه، جميل الطلعة، حسن الزي، نظيف المسكن والملبس، يستقبل ضيوفه بكلمات ترحيب حديثة مهذّبة، وبصوت هادئ رصين، وحينما أعطى (فؤاد) يده للمصافحة وجدها يداً نظيفة مترفة، تبتعد كل البعد عن تلك اليد المعروفة ذات الأظافر السمراء التي كنت أتصوّرها لرجل الدين.[16]
بالإضافة إلى حرصها على تقديم صورة خارجية مشرقة لرجل الدين، نجدها حريصة على تقديم أفعاله الخيرة وعطائه غير المحدود، فهو لا يفكّر بالمتاجرة بالدين، هدفه الثواب من الله تعالى، لهذا نجده دائب العطاء لا يفكّر بالأخذ، فقد منح الشاب (فؤاد) والشابة (سندس)، التي تنتمي إلى دين غير الإسلام الكثير من وقته، شارحاً لهما مبادئ الإسلام وأصوله، حتى في أيام مرضه لم ينقطع عن العطاء، وبذلك تقدّم لنا صورة حقيقية ومشرقة لرجل الدين، فتردّ عبر أحداث قصتها (الباحثة عن الحقيقة) رداً عملياً ونظرياً على أولئك المتغربين الذين يصوّرون رجل الدين المسلم بصورة غير واقعية، تبعده عن جوهر الدين، وتجعله أشبه بمرتزق.
جماليات القصة لدى بنت الهدى
إن الحديث المنفصل عن جماليات الفكرة وجماليات الأسلوب أمر غير مقنع على صعيد الدراسات الأدبية الحديثة، لكن الضرورة المنهجية اقتضت هذا الفصل الذي يساعدنا على توضيح أفكار الكاتبة، باعتبارها أحد أبرز دوافع الكتابة لديها وأولياتها، فقد اعتمدت بنت الهدى على نبل الفكرة باعتبارها إحدى الجماليات الأساسية لديها، وقد رأينا في المقدمة وعي الكاتبة إلى أنها لا تكتب قصة فنية، وإنما تقدّم صورة للمجتمع بما يعانيه من بؤس واستلاب من قبل الآخر الغربي؛ لذلك اعتمدت في أغلب الأحيان على تقديم صورتين للإنسان: الإنسان المنحرف اللاهث وراء الفكر الغربي، والإنسان الملتزم بالعقيدة الإسلامية، فنسمع عبر قصصها تعدد أصوات: صوت يمثّل الجانب السلبي في الحياة، وصوت يمثّل الجانب الإيجابي فيها.
الشخصية
اعتمدت في إبراز وجهتي النظر المتناقضتين على شخصيات متعددة الاتجاهات بين الإيمان والإلحاد والشك، فتبدو لنا الشخصية المؤمنة إيجابية معطاءة ثابتة لا يخالطها الشك أو التغيير، وبالتالي لا تعاني صراعاً داخلياً، لكنها تعيش صراعاً مع أولئك الذين يتبنون وجهة النظر الغربية في الحياة، وينتهي صراعها مع هذه الشخصيات غير المؤمنة بالنصر دائماً، فهي مستقرة على مبادئها، تقابل السيئة بإحسان، لا تحقد على من يحاول تدميرها، بل تمد له يد العون، إنها شخصيات مثالية تتحرك على أرض الواقع، ذات نقاء مطلق لا يلوّثها طموح دنيوي ولا تقهرها رغبة، فهي تتحلى بأجمل الصفات وأكمل الأخلاق، بغض النظر عن جنسها، فالكاتبة لا تميّز بين ذكر وأنثى في مجال الالتزام الديني والأخلاقي، ولا تحمل حقداً على الرجل باعتباره أحد مضطهدي المرأة في مجتمعنا، كما ترى بعض الكاتبات العربيات، فمعركتها مع الآخر الغربي بما يمثّله من قيم تدميرية لمجتمعنا هي الأساس؛ لذا نجدها تريد أن يشارك كل من الرجل والمرأة في معركة المواجهة.
جنّدت الكاتبة لهذه المعركة بعض الأسلحة الفنية إلى جانب الأسلحة الفكرية التي لحظناها سابقاً، فكانت تنتقي أسماء شخصياتها، وهي ذات دلالات فنية تسهم عبرها في توضيح صورتها ومعالم شخصيتها، فتختار للمرأة المؤمنة اسماً يحمل دلالة على الإيمان، أو على الصفات الإيجابية (نقاء، عفاف، وفاء، وفاق، حسنات، دعاء) أو يحمل اسم شخصية ذات علاقة إيجابية بالرسالة الإسلامية (فاطمة، خديجة) كذلك اختارت للرجل المؤمن اسماً ذا دلالة إيمانية، فوجدناها تختار أسماء الرسل لتدلّ على التزام الشخصية بالقيم الإسلامية (مصطفى، إبراهيم..) في حين وجدنا الشخصية غير الملتزمة دينياً تحمل اسماً تراثياً لا يمتّ بصلة إلى التراث الإسلامي (سعاد) أو اسماً ذا صفة غير دينية (رحاب).
اعتمدت أيضاً في تقديم وجهتي النظر المتناقضتين للشخصيات على المشاهد الحوارية، كي تضفي الحيوية على النص السردي من جهة وتبرز الصراع بين ما تؤمن به من أفكار يتحتم نصرها، وما ترفضه من أفكار يتحتم هزيمتها عبر مشاهد واقعية تتحاور فيها الشخصيات، فتعطي بذلك مصداقية للفكرة التي تؤمن بها فتقرّبها من التجسيد وتنأى بها عن التجريد.
إن الكاتبة لم تفلح في أغلب الأحيان في الابتعاد عن التجريد والإغراق الفكري، مما جعل الشخصية لديها هي شخصية أفكار، بعيدة عن نبض الحياة، أي لم تتجلّ لنا شخصية من لحم ودم، تعيش هموم الحياة كما تعيش هموم الفكر، فلم نتعرف على نقاط ضعفها كما تعرفنا على نقاط قوتها، قد تلمح إلى بعض نقاط الضعف في الشخصية السلبية، لكنها لا تسترسل في وصفها، فهي تدينها قبل أن تشرّحها، أو تبرز ملامحها الإنسانية، كما أن تعصّب الشخصية للفكرة التي تؤمن بها يلغي إنسانيتها ويضعها في قالب جامد أحياناً، ففي قصة (الخالة الضائعة) تلجأ بشرى المرأة غير الملتزمة دينياً مستنجدة بابنة خالتها المتدينة خديجة بعد أن طردها زوجها، فتهمس في أذن خالتها (أرجو أن تطلبي منها الحجاب ما دامت في بيتنا)[17] كأنها تشترط لإغاثتها أن تلتزم أولاً بالحجاب، ومثل هذا الشرط يلغي نبل الموقف باعتقادنا، الذي يتوجب على الإنسان المؤمن اتخاذه، فلا يستغل حاجة أخيه المسلم إليه فيفرض عليه مبادئ إسلامية كشرط للإغاثة!!
إذن يعدّ مثل هذا القالب الجامد أحد أسباب ثبات الشخصية وعدم حيويتها مما أوقع الكاتبة في تكرار أنماط شخصياتها أيضاً، فشخصية سعاد في قصة (الفضيلة تنتصر) وهي امرأة غير متدينة تتكرر معظم صفاتها وتصرفاتها الشرّيرة في شخصية (رحاب) في قصة أخرى بعنوان (امرأتان ورجل).
يبدو لنا صوت المؤلفة هو الصوت الطاغي على الشخصية الفنية، لهذا لا نجدها شخصية مستقلة وإنما ترسمها الكاتبة باعتبارها تابعة لأفكارها وناطقة بلسانها، وبناء على ذلك يتوحد صوت المؤلفة مع صوت الشخصية، فمثلاً نسمع صوت الكاتبة المتصوفة عبر صوت بطلتها رجاء يناجي:
إلهي ما الدنيا إلا ساعة شوق إلى لقائك، ما الحياة إلا لحظات كفاح من أجلك وفي سبيلك، فاجعل حياتي يا رب كلمة رضا واجعل أعمالي يا إلهي ساعة جهاد، واجعل روحي يا سيدي خفقة أمل ورجاء ترنو إلى عفوك وتشتاق إلى رفدك وتحنّ إلى رضاك…[18]
قد يبدو لنا هذا التوحد بين صوت المؤلفة وصوت البطلة مقنعاً حين تكون للشخصية ملامح فكرية ونفسية متطابقة مع ملامح المؤلفة، فبدت لنا اللغة هنا حارّة تنطق بوجدان صادق، يطمح للعلو ومرضاة الله تعالى.
لكن هذا التوحد يسيء إلى رسم الشخصية حين تقدّم المؤلّفة شخصية مراهقة غير ناضجة، فتجعلها تنطق بلسانها، أي نسمع لغة تفوق إمكانيات الشخصية، كما حدث في قصة (مذكّرات) إذ أسقطت المؤلفة صوتها على صوت الشخصية دون أي اعتبار لقدراتها الفكرية.
أما بالنسبة إلى الشخصية التي تنطق بوجهة نظر مخالفة فتبدو شخصية باهتة الملامح، متهافتة المنطق في معظم الأحيان، سريعة السقوط، لا تحمل بذرة الخير إلا إذا غيّرت موقفها؛ لذلك اكتسبت ملامح ثابتة كالشخصية الخيرة، وإن بدت لنا هذه الشخصية أكثر تطوراً، فتغيّر معتقداتها من الشك أو الاستهتار إلى الإيمان والالتزام بتعاليم الدين. نستطيع أن نقول: إن الكاتبة قدّمت لنا عبر قصصها سيرة ذاتية لأفكارها بعد أن وصلت مرحلة النضج، لذلك لن نجد تطوراً في فكرها، كما لن نلمح خصوصيات سيرتها الشخصية.
الأسلوب
إلى جانب المشاهد الحوارية اعتمدت الكاتبة في تقديم أفكارها على السرد، وقد لاحظنا تنوعاً في تقديمه، فتارة تعتمد الكاتبة أسلوب السرد البسيط (بضمير المفرد الغائب) وهذا ما لحظناه في معظم قصصها، وتارة تعتمد أسلوب المذكرات أو الرسائل، كما في قصة (مذكرات)، (فيتم السرد بضمير المفرد المتكلم) فتبدو لنا الشخصية عبر صوت أعماقها تعاني صراعاً داخلياً بين رغباتها الدنيوية التي تلمح إليها الكاتبة إلماحاً، فلا نتعرف معالمها، وبين التزامها بأوامر دينها، فتتنازعها الرغبة بين مرضاة الله وبين الاستجابة إلى مغريات الحياة؛ لذلك تبدو لنا هذه القصة أكثر قصصها حيوية وجمالاً، لأننا استطعنا أن نلمح إنسانية الإنسان، إذ لمحنا الصراع الكامن في أعماقه بين نواحي الضعف البشري ونواحي القوة، وبذلك ابتعدت الكاتبة عن العالم المثالي الذي أطّرت فيه شخصياتها.
وقد لجأت إلى هذا الأسلوب أيضاً في قصة أخرى بعنوان (آخر هدية) نسمع فيها صوت زوجة الشهيد الذي استشهد في (معركة الكرامة) مع العدو الصهيوني، لكن الحوار في هذه القصة يبدو مفتعلاً؛ إذ نرى المرأة في لحظات قوتها دون أن نلمس لحظات ضعفها، فهي تتحدث عن صفات زوجها الشهيد وعن انتظارها لهديته حين تبدو لنا الشخصية مرسومة من الخارج كما يجب أن تكون، أي كما ترغب الكاتبة لا كما نجدها في واقع الحياة تضعف عند بداية المصيبة، ثم تقوى إذا كانت إنسانة مؤمنة عاقلة.
الفضاء الزماني
هجست بنت الهدى بهموم الزمن الحاضر والمستقبل، رغم أن الكاتبة كانت معنيّة ببعث قيم يراها البعض تنتمي إلى الماضي؛ لذلك لن تستحضر شخصيات من الماضي، وإنما نجدها تقدّم شخصيات تعيش الزمن الحاضر بكل همومه، وتسلّط الضوء على زمن مخلّص لنا من أزماتنا؛ لذلك تسترجع زمناً مضى حتى حين تستشرف المستقبل.
لا تهتمّ الكاتبة بالتحديد الدقيق للفضاء الزمني الذي تجري فيه أحداث القصة، وإنما تختار أحياناً لحظة تتأزم فيها الشخصية، وتعاني من محاسبة لذاتها ولأفعالها، هي لحظة اقترابها من الموت، تلك اللحظة الحرجة في حياة الإنسان، حيث يواجه المرء حقيقة الرحيل عن دنياه التي أسرف في التمتع بها ناسياً أو متناسياً لحظة سيتوجب عليه فراقها، والمثول بين يدي الله، عندئذ سيكتشف تفاهة حياته وأنه أضاعها في المظاهر الجوفاء، هذا ما حصل فعلاً لـ(فيافي) بطلة قصة (ليتني كنت أعلم) إذ يخبرها الطبيب أنها مصابة بالسرطان، فنجدها تحاسب ذاتها وتسترجع حياتها الماضية العابثة فترى مدى تفاهتها، إنها في لحظة دقيقة من حياتها تتمنى فيها لو سلكت سبيلاً غير الذي سلكته؛ لذلك نسمعها تردد الآية الكريمة مرتين <حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قٰالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ كَلاّٰ إِنَّهٰا كَلِمَةٌ هُوَ قٰائِلُهٰا وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ>.[19]
إذن لولا لحظة الاقتراب هذه لما تغيرت حياتها، بعد أن تكتشف أن هناك خطأً في التحليل، وأنها معافاة تقرّر أن تعيش تعاليم الآية الكريمة.
نجد هاجس الرحيل واللحظات الأخيرة التي يعيشها المرء في عدة قصص (الأيام الأخيرة)، (فترة ركود)، (الساعات الأخيرة) بالإضافة إلى قصة (ليتني كنت أعلم).
يبدو لنا الهدف الديني التربوي في اختيار اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان، إنها تجعل المتلقي يحاسب نفسه كما تحاسب الشخصية المشرفة على الهلاك نفسها فتعيد حساباتها وتقترب من الله أكثر.
اللغة القصصية
ومن أجل الغاية التعليمية أيضاً نجد الكاتبة قد اعتمدت لغة السرد البسيطة والبعيدة عن التصوير تقريباً؛ لذلك افتقدنا جمالية اللغة التي تجعل المتلقي يستمتع ويستفيد في الوقت ذاته.
إن طغيان الغاية التعليمية التربوية على خطابها القصصي أساء إلى جمالية اللغة وفنيتها! فبدت اللغة السردية جافة مجردة تسترسل الكاتبة في أفكارها، فتمعن في لغة المنطق والتحليل، وتغضّ الطرف عن لغة المشاعر والانفعالات؛ لذلك افتقدنا اللغة الحيوية التي تجسّد عوالم ذات صلة بأعماق الشخصية وبأزماتها الداخلية وصراعاتها الخارجية، قد نجد لديها هذه اللغة أحياناً، لكن عدم إمعان الكاتبة في لغة التشخيص، أدّى إلى تقديم عالم فني باهت الملامح، مما انعكس سلباً على الغاية النبيلة التي تتوخاها من كتابة القصة؛ إذ أن الهدف النبيل يزداد نبلاً كلما اعتنى الكاتب بأسلوبه فقدّم الفكرة الجميلة عبر لغة تخييلية تخدم الفكرة أكثر وتجعلها جذابة للمتلقي، إذ تجتمع فيها الفائدة والمتعة معا.
حاولت الكاتبة أن تقدّم لغة متنوعة عن طريق الاستفادة من إمكانات اللغة الدينية التي تضفي قوة معنوية على السرد القصصي، فتزيد فكرتها مضاءً وشرعية، كما تضفي بعض الحيوية على لغتها التي اعتراها الجفاف بسبب طغيان التجريد.
وقد وجدنا لديها ۔ في كل قصة تقريباً ۔ استفادة من التناصّ القرآني، حيث تدعّم وجهة نظرها التي تطرحها عبر السرد القصصي بشاهد قرآني، فالإنسان المشرف على الموت يتذكر قوله تعالى <وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّٰادِ التَّقْوىٰ[20]>[21] كما يتذكر هول يوم القيامة <يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ[22]>[23] والإنسان اليائس الذي افتقد الرغبة في متابعة حياته يسمع صوت المقرئ يتلو قوله تعالى: <فَلاٰ تَعْلَمُ نَفْسٌ مٰا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ>[24] فنجد الشخصية بعد ذلك أكثر انسجاماً مع الحياة وأكثر فعالية.
اعتمدت الكاتبة أيضاً على تناصّ الأحاديث الشريفة، لتسعف وجهة نظرها كما أسعفها التناصّ القرآني، فتزداد الشخصية قوة وإيماناً، لذلك نسمع صوت إبراهيم يقول لـ(نقاء) الحديث الشريف: (من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد) لذلك يزداد المؤمن تمسكاً بدينه، ومقاومة للتيارات الفكرية التي تسلب الإنسان إيمانه وشخصيته، ومن أجل أن يزداد المتلقي المسلم تمسكاً بهذا الإيمان نجد الكاتبة في موضع آخر تذكر الحديث الشريف الذي يقول: (من تقدّم نحو الله خطوة تقدّم الله نحوه عشر خطوات).[25]
إن الداعية الرسالية لا تكتفي بإيراد التناصّ القرآني أو تناص الحديث الشريف وإنما نجدها تأتي لبعض أقوال الأئمة(ع) وخاصة لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب وهذه الأقوال في جملتها تؤكد القيم الإيمانية في حياة المسلم الدنيوية وارتباطها بآخرته؛ إذ لا انفصال بين الدنيا والآخرة، لذلك تستشهد بقوله كرّم الله وجهه (أصلح آخرتك يصلح لك أمر دنياك) وكما قال أيضاً: (أصلح ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس)
ولا تنسى الكاتبة أن تستعين بلغة الحكمة المتداولة الفصيحة، لتؤكد الوجهة الإيمانية التي تؤمن بها، وتقنع المتلقي أنها الوجهة التي يؤمن بها الناس ويردّدونها أيضاً، فتعزّز بذلك وجهة النظر الإيمانية وتضفي عليها مصداقية الواقع فهي الحكمة المتداولة، والتي أنضجتها عقول العامة بعد أن عانت تجارب الحياة ومفاجاءات الموت، فنسمعها تقول: (تب قبل موتك بيوم، ولما كانت لا تعرف متى تموت فكن تائباً على الدوام).
وكي تكتمل غايتها التعليمية الدينية في قصصها نجدها تأتي بكتب على لسان شخصياتها المؤمنة كي تهدي بها الشخصيات المتغربة التي على شفا الإلحاد، مثل: (الشيطان يحكم) لمصطفى محمود، وكتاب (الدين) لمحمد عبدالله درّاز، وكتاب (نشأة الدين) لعلي النشّار.
كذلك نجد الكاتبة تستعين بالتناصّ الشعري لتؤكد القيم الدينية والمثل التي ترقى بالحياة الإنسانية في الدنيا والآخرة، فزوجة الشهيد تسترجع قول زوجها قبل استشهاده:
فإما حياة تسرّ الصديق | وإما ممات يغيظ العِدا |
هنا تستفيد من قول الشاعر الفلسطيني عبدالرحيم محمود الذي استشهد في فلسطين 1948، لتؤكد على قيم الفداء والعزة في حياتنا.
كما نجدها تؤكد عبر التناصّ الشعري رسوخ القيم الإيمانية، إذ تأتي بشعر لأبي العتاهية في الزهد، كما تأتي بشعر يرسخ إيمان الفقير وقناعته.
هب الدنيا تساق إليك قسراً | أليس مصير ذاك إلى زوال |
إن الكاتبة الرسالية تختار ما يضفي القوة الداخلية على النفس البشرية التي تتمنى الحصول على أكبر متع الحياة وأكثر وسائل تحقيق هذه المتع هي الحصول على المال، لكن الكاتبة تدعو الإنسان إلى التفكير والتأمل: ماذا يعني هذا الحصول، وما نتيجته؟ أليس كل ما يملكه الإنسان إلى زوال ما دام الإنسان نفسه سينتهي إلى الموت؟
يمكن للمرء أن يلاحظ توظيف الكاتبة للتناص الغربي كما وظفت التناص التراثي، وإن بدا لنا بنسبة أقل، لكنه يحمل دلالة على انفتاح الكاتبة على الثقافة الغربية التي تحمل قيماً إنسانية ترقى بإنسانية الإنسان وحياته، فمثلاً نجد (نقاء) بطلة قصتها (الفضيلة تنتصر) تقرأ رواية لفكتور هوغو بعنوان (عاصفة وقلب) ثم نجدها تخاطب محمود بعد أن اهتدى إلى الطريق القويم (إذا أردت أن تطالع قصة فاقرأ قصة البؤساء لفكتور هوغو فهي مدرسة إنسانية رائعة).
أما في قصة (الباحثة عن الحقيقة) فنجد رجل الدين المسلم يستعين بمعجم (لاروس) للقرن العشرين ليخاطب الشاب (فؤاد) المسلم غير الملتزم بتعاليم دينه و(سندس) الشابة غير المسلمة الباحثة عن الحقيقة، فيؤكد لهما أهمية الدين على لسان معجم غربي، فيقول مبرزاً ما جاء في القاموس (إن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى أشدها همجية وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية..).[26]
وبذلك يبيّن رجل الدين للباحثين عن الحقيقة أن الحاجة إلى الدين حاجة إنسانية ملحّة لا تقتصر على فئة معينة أو دين معين، ويؤكد على كلامه هذا بمقولات الآخرين الذين لا يعتقدون بالدين الإسلامي، وبذلك يقنع الشابين بأهمية الإيمان بشكل أفضل.
وبذلك نجد الكاتبة قد رسخت عبر التناص ۔ بأنواعه الديني، الشعري، الغربي ۔ أفكارها التي دعت إليها وجسّدتها عبر أحداث قصصها، جنّدت بنت الهدى كل ثقافتها الدينية والمعرفية، من أجل خدمة رسالتها في النهوض بالإنسان المسلم، لجعله إنساناً مؤمناً فاعلاً في حياته راضياً بقناعاته واثقاً بنفسه قوياً في مواجهة الآخر المعتدي.
دلالة العنوان
انتبهت الكاتبة إلى جمالية العنوان في قصصها، فلم تستخدم الكاتبة عنواناً مجانياً في أغلب الأحيان، إذ حاولت أن تختار عنواناً يسعفها في تأكيد أفكارها ورسالتها، لذلك تركّز فيه على الصفات التي يتوجب على المسلم أن يتحلى بها، ففي قصة (صمود) تعاني البطلة (وفاق) أزمة داخلية بين الحفاظ على دينها وبين مسايرة عمها الذي يبدو لنا غير ملتزم دينياً، ويطالبها بالزواج برجل على شاكلته، فتقرّر الصمود ورفض هذا الزواج غير المتكافئ مهما كانت النتيجة.
في قصة (ثبات) نجد المرأة الصالحة (خديجة) تثبت في محنتها، وتصبر على حالة الفقر بعد أن ترك زوجها القمار ولم يجد عملاً، ولا تكتفي بثباتها، وإنما تحاول أن تثبّت زوجها وتصبّره أيضاً، حتى يتجاوز فترة الامتحان، ليصلا إلى ما تبغيه النفس من العمل الحلال.
كذلك عنوان (الفضيلة تنتصر) يبيّن لنا أن الفضيلة هي الأساس الذي علينا أن نؤسس عليها حياتنا، عندئذ لن يستطيع الشر مهما تسلّح بأسلحة أن يؤثّر علينا فيدمّر حياتنا.
إن هذه العناوين (ثبات)، (صمود) و(الفضيلة تنتصر) جزء من القيم التي تحرص عليها الكاتبة، وترغب في بناء إنسان مسلم يتمثّلها في حياته فتظهر في سلوكه اليومي، ليغيّر واقعه نحو الأفضل.
رأينا الكاتبة أحياناً تختار عنواناً يمثّل حدثاً هاماً في القصة (صافرة إنذار) ويصلح رمزاً للتغير الذي يحصل في حياة الشخصية إثر وروده في القصة، فنجد المرأة (إقبال) تعيش تفاهة العلاقات الاجتماعية بكل مظاهرها الجوفاء الاستهلاكية، إذ تسمع إحدى المدعوات لديها في بداية حفلة الاستقبال (عن طريق هاتف زوجها) بأن هناك غارة تسبقها صافرة إنذار بعد قليل، لذلك تهرع المدعوات إلى منازلهن، تاركة إقبال في غاية الضيق بسبب خسارتها المعنوية والمادية بسبب صافرة الإنذار هذه.
إن هذه الصافرة التي تفسد عليها حفلة الاستقبال، تستطيع أن تغير حياتها، إذ اكتشفت عدم مبالاة صديقاتها بما تكبّدته من تكاليف مادية ومعنوية، فأرهقت زوجها كما أرهقت نفسها، لذلك تحاسب نفسها، وتقرّر الاستغناء عن هذه الحفلات بفضل هذه الصافرة التي أنذرتها بتفاهة حياتها وضرورة تغييرها.
تختار الكاتبة أحياناً عنواناً ذا دلالة ساخرة، إذ نجدها تسلّط الضوء على تصرف إحدى شخصيات القصة تصرفاً غير منطقي أو بالأحرى غير إنساني، كعنوان (صفقة خاسرة) إذ نجد الخطيب يريد أن يؤسّس لزواجه المقبل من خطيبته على ما تملكه من مال، وحين يكتشف أن خطيبته لا تملك مالاً حتى راتبها ستسدد به ديْناً لوالدها، يحسّ أن صفقة الزواج خاسرة، فيقرّر فسخ هذا الزواج، تسخر الكاتبة هنا من أولئك الذين يريدون أن يؤسسوا لحياتهم الزوجية على أسس تجارية؛ لذلك تبدو صفقتهم خاسرة، تختار الكاتبة عنواناً ۔ أحياناً ۔ يلخّص أحداث القصة مثل (الخالة الضائعة)، (اختيار زوجة)، (زيارة العروس)، (آخر هدية).
وقد لحظناها في قصة واحدة تختار عنواناً يدلّ على الأسلوب الذي انتهجته في كتابتها للقصة، فنجدها تدعو قصتها (رسائل وخواطر).
تختلط لدى الكاتبة القصة القصيرة بالقصة الطويلة، بسبب وضعها عناوين فرعية للفصول التي تبدو أشبه بقصص قصيرة (قلب يتعذب)، (فكر في مهب الريح)، (حشرجة روح)، (بقايا كيان) دون أن تضع عنواناً يشمل جميع فصول قصتها، مما يخيّل للمتلقي أنه يقرأ قصة قصيرة، مع أنها قدّمت شخصية واحدة في جميع هذه الفصول!
كذلك يمكننا أن نلاحظ أن عنوان (بقايا كيان) غير مناسب؛ إذ يوحي لنا بأن الشخصية (بيداء) ما زالت محطّمة، فلا يجسّد دور (رباب) في إنقاذ (بيداء) من يأسها وتحطّم كيانها، أي لا يوحي بتغير حياة الشخصية، وإنما بثبات حياتها، وهذا نقيض لما حدث في القصة.
الخاتمة
قامت القصة في أدبنا العربي على أسس وتفاصيل واقعية دنيوية في أغلب الأحيان، حتى حين يلجأ الكتّاب إلى عالم المثل، فإن هذه المثل لا تستمد من تراثنا، وإنما من تراث الآخر الغربي؛ لذلك بدا لنا الإنجاز الأساسي لبنت الهدى هو تقديم الفكر الإسلامي بصورة مشرقة، كي تجعله فاعلاً في حياتنا على صعيد الواقع، وبذلك تستمد الكاتبة من فكرنا الأصيل الذي يهبنا هوية متميزة أفكاراً لقصصها من صلب وجودنا وكياننا، وبذلك يكون مجدياً وفاعلاً بالنسبة للمتلقي المسلم.
صحيح أننا لحظنا طغيان نبل الفكرة على النواحي الفنية لقصة بنت الهدى، مما أثّر على جمالية القصة، لكننا لا نستطيع أن نغفل عما قدّمته من إنجاز فكري عبر قصتها، حين عادت إلى الينابيع الأصيلة لتمتح منها أفكار قصصها، لتربّي الإنسان المسلم وفق منهجها.
[1]. أعلام النساء المؤمنات، محمد الحسون، أم علي مشكور، انتشارات أسوة، مطبعة صدر، ط1، 1411.
[2]. مدارس الزهراء من أعمال جمعية الصندوق الخيري الإسلامي وهي أكبر المؤسسات الجهادية التي تشكلت في العراق عام 1958، متبنية أهداف الإسلام، وقد أصبحت بنت الهدى 1967 مشرفة على مدارس الزهراء في مدينة النجف والكاظمية، وفي عام 1972 استقالت من عملها بعد صدور قانون التأميم.
[3]. المجموعة القصصية الكاملة، بنت الهدى، دارالتعارف، بيروت، دون تاريخ، ج1، ص11.
[4]. م. ن، ج2، ص299.
[5]. م. ن، ص7.
[6]. عذراء العقيدة والمبدأ الشهيدة بنت الهدى، جعفر حسين نزار، ص191.
[7]. المجموعة القصصية الكاملة، ج1، ص13.
[8]. م. ن، ج2، ص54.
[9]. م. ن، ص188.
[10]. م. ن، ص17.
[11]. م. ن، ج1، ص16.
[12]. م. ن، ص90۔91.
[13]. م. ن، ص36.
[14]. م. ن، ج2، ص44.
[15]. م. ن، ج1، ص408.
[16]. م. ن، ج 3، الباحثة عن الحقيقة، ص15.
[17]. م. ن، ج 2، الخالة الضائعة، ص222.
[18]. م. ن، ص332.
[19]. المؤمنون: 99۔100.
[20]. البقرة: 197.
[21]. انظر: المجموعة القصصية الكاملة، ج1، ص238.
[22]. النور: 24.
[23]. انظر: المجموعة القصصية الكاملة، ج1، ص265.
[24]. السجدة: 17.
[25]. المجموعة القصصية الكاملة، ج1، ص336.
[26]. م. ن، ص38.