الشيخ علي الحكيم
تعرّض السيد الشهيد(قده) في محاضراته التي ألقاها في السنة الأخيرة من حياته الشريفة إلى أحد أنماط المجتمعات الإنسانية، واصطلح عليه بـ(مجتمع الظلم) أو (المجتمع الفرعوني) وكان(قده) يتكلم عنه في ذيل شرحه عن العلاقات الإنسانية ۔ علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، وعلاقة الإنسان مع الطبيعة ۔ بعد تحدثه عن المثل العليا مقارنة بالمثل المنخفضة.
والملاحظ أن كلامه(قده) أريد منه أن يلتقي مع الواقع ويتماس مع الظروف الزمانية والمكانية المحيطة آنذاك بتلك المحاضرات التي سُجّلت صوتياً ثم طبعت بعد ذلك، مرة بدون تحقيق إما على شكل كتيب باسم (المدرسة القرآنية) أو تحت عنوان (مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)[1]، ومرة أخرى محققة باسم (التفسير الموضوعي والفلسفة الاجتماعية في المدرسة القرآنية)[2]. ولعله(قده) لو كان بصدد التعرض إلى أنماط المجتمعات كافة وفق النظرية القرآنية لكان قد أبدع أكثر مما أفاضه علينا في بحثه المتواضع آنذاك.
وربما كان هذا الأمر هو السبب في اشتباه بعضهم أو عدم اتضاح الصورة لديه، نتيجة عدم تفصيل آرائه الشريفة. ولنأخذ كلاماً من بعض المعلّقين في تعليقه على كلامه حينما يتعرض السيد الشهيد(قده) في أول كلامه عن مجتمع الظلم، إذ يقول:
لأن مجتمع الظلم مجتمع الفراعنة على مر التاريخ هو مجتمع ممزّق ومشتت، فالفرعونية على مر التاريخ حينما تتحكم في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع وتشتيت فئاته وبعثرة إمكانياته، ومن الواضح أن تشتيتاً وبعثرة وتفرقة وتجزئة من هذا القبيل لا تتيع لأفراد المجتمع أن يحشدوا قواهم الحقيقية ويسيطروا على الطبيعة[3].
وحينئذ نرى أن المعلق يقول:
إن هذا الأمر لا يتنافى ۔ بطبيعة الحال ۔ مع ما يلحظ من تسلط الحضارة المعاصرة ۔ ويقصد الحضارة الغربية ۔ حضارة المثل المنخفضة على الطبيعة وسيطرتها عليها، حيث إن هذا التسلط والسيطرة حينما يلحظ من خلال معاييره الخلقية والقيم التي تتحكم فيه تتبدئ حينئذ الصورة البشعة لهذه السيطرة والتسيد، وما الفزع النووي الذي يتملك أبناء البشرية إلا أنموذج واضح على بشاعة وقذارة هذه السيطرة[4].
وهذا التعليق كما ترى لم يستطع أن يبرر التناقض بين ادعاء السيد الشهيد(قده) التناسب الطردي وبين كل هذا التطور في السيطرة على الطبيعة على صعيد خط علاقات الإنسان مع الطبيعة، مع ادعائه ۔ حسب المفهوم من كلامه ۔ أن هذه المجتمعات هي مجتمعات ظلم أو مجتمعات فرعونية وفق اصطلاحه(قده). وهذا المسألة توضّح لنا سبب الإجمال في طرحه، ذلك أن هدف السيد الشهيد(قده) كان شرح الواقع الذي تعيشه الجماعة المؤمنة معه في خضم المواجهة مع النظام القائم والمخيِّم على رؤوس الشعب المظلوم كله من منظور القرآن الكريم، وهذا الأمر بطبيعة الحال لا ينفي وجود أنماط أخرى من المجتمعات وفق المنظور القرآني، وسنحاول في دراستنا هذه استعراض أنماط المجتمعات الإنسانية وفق النظرية القرآنية.
المجتمع يمكن أن يختلف بحسب اختلاف قيادته، وطبيعة المرحلة التي يعيشها، ومدى تأثير القيادة فيه وتفاعلهما معاً، بلحاظ علاقتهما بالمبدأ السماوي السليم ومحاولة تطبيقه على الأرض، ولهذا يمكننا تقسيم المجتمعات وفقاً لذلك إلى أربعة أنماط:
النمط الأول: مجتمع العدل المطلق
النمط الثاني: مجتمع العدل النسبي
ويقود كلا هذين النمطين قيادة عادلة. ونريد بالعدالة هنا اتباعها لرسالة السماء ومحاولة تطبيقها على الأرض.
النمط الثالث: مجتمع الظلم المطلق.
النمط الرابع: مجتمع الظلم النسبي.
ويقود كلا هذين النمطين قيادة غير عادلة. ونريد بعدم العدالة هنا عدم اتباعها لرسالة السماء ويترتب على ذلك محاولة رفض تطبيقها أو استبعاد اسمها على أرض الواقع في أقل تقدير.
وفي بحثنا الحاضر لا نريد التحدث عن مجتمع الظلم المطلق ولا عن مجتمع العدل المطلق، والأول هو الذي شرح طبقاته السيد الشهيد(قده) فيما اصطلح عليه بالمجتمع الفرعوني ضمن محاضراته في التفسير الموضوعي، إذ لا داعي للتكرار. كما لا نريد الخوض في الثاني ۔ أعني في تفاصيل مجتمع العدل المطلق ۔ وتكفينا الإشارة إلى ما كتبه الشهيد الصدر الثاني(قده) في كتابه (اليوم الموعود) واصطلح عليه بـ(المجتمع المعصوم) بدءاً من القسم الثالث من كتابه إلى نهايته[5]، وإنما سنقصر بحثنا على الكلام عن النمط الثاني ۔ الذي سيكون الأول حسب تسلسلنا في هذا البحث ۔ والنمط الرابع ۔ الذي سيكون الثاني حسب تسلسل البحث ۔ ونحاول استنباط خصائصهما وسنن التاريخ بلحاظهما وأنواع الطبقات فيهما.
النمط الأول: مجتمع العدل النسبي
لقد ذكرنا أن قيادته لابد لها أن تكون عادلة، وقد تكون معصومة بالعصمة المشترطة في الأنبياء والأئمة(ع) متمثلة بشخص النبي(ص)، أو قد لا تكون كذلك. ونريد بالعدالة هنا معناها بحسب اصطلاح الفقهاء في باب الاجتهاد والتقليد، ولا نقصد بها معناها الإنساني الواسع الذي قد يستوعب البشر العادل مع عدم كونه مسلماً لاتّباعه لأحكام الحسن والقبح العقليين وعدم تعدّيه وتجاوزه أو ظلمه للآخرين.
إن هذا المجتمع يمكن الاصطلاح عليه بمجتمع (الإسراء) استيحاءً من الآية القرآنية من سورة طه: <وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهمْ طَرِيقاً في الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى>[6]، أو نصطلح عليه بـ(مجتمع الهجرة) وهو الأوفق بمذاق اصطلاحات الثقافة الإسلامية، لأن أوضح مصداق لهذا المجتمع هو مجتمع (المدينة) الذي هاجر إليه المسلمون، وهو وإن كان يتشكل من فئتي المهاجرين والأنصار لكن هذا النشوء والتشكل قد تبلور بوضوح وتميزت ملامحه وطبقاته بعد هجرة الرسول(ص) وأصحابه وأتباعه إليه، كما أن أغلب مجتمعات العدل النسبي لابد أن تتشكل من جماعة مهاجرة إلى مجتمع آخر، كما هو الملاحظ في مثال مجتمع المدينة، أو مجتمع بني إسرائيل الذي عبر البحر مع موسى(ع) إلى الطرف الآخر من البحر لتبدأ لهم بداية جديدة في مجتمع هجرة جديد، ولكننا لم نصطلح عليه بذلك؛ لأن الأمر أغلبي وليس دائمياً، فكان الأوفق ما اخترناه.
هذا المجتمع مع أن قيادته الصالحة التي تمثلت في مثالنا الأول في شخص سيد الأنبياء والرسل النبي الاكرم(ص) لكنه لا يمكن أن يكون مجتمعاً معصوماً أو من قبيل ما اصطلحنا عليه بمجتمع العدل المطلق، ومن هنا نشأ اختيارنا لاصطلاح العدل النسبي، فهو مجتمع مع ما سنتطرق إليه من طبقات النفاق والانحراف أو الضلال عن سبيل الله تعالى، لكن قيادته الحكيمة والمؤمنة العادلة تحاول أن تقود دفّته إلى شاطئ الأمان لتنجيه من الوقوع في المهالك أو الوقوع في قبضة العدو الذي يلاحقه، ولهذا لا تتحقق فيه خصائص المجتمع المعصوم لعدم نفوذ العدل بين جميع طبقاته.
سنن التاريخ بلحاظ مجتمعات العدل النسبي
ومن خصائص هذا المجتمع هي:
أولاً: أن المجتمع يعيش مرحلة انتقالية، مرحلة سير من الشر إلى الخير، ومرحلة خروج من الظلمات إلى النور؛ ذلك لأن قيادته إلهية تدعو إلى الحق والنور، قال الله تعالى: <اللّٰهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ>.[7]
ثانياً: أن المجتمع نتيجة للخصيصة الأولى غالباً ما يعيش في حالة صراع واستنفار ضد عدو خارجي يستهدف دعاة الخير فيه وحرف مسيرته، أو على الأقل أن يكون أفراده في تمرّدهم ملاحقين من قبل عوامل الظلم والفراعنة. والحالة الأولى هي بالضبط ما عاشه مجتمع المدينة بعد هجرة الرسول(ص) إليها، والحالة الثانية تتمثل فيما عاناه بنو إسرائيل من ملاحقة فرعون وأعوانه لهم، حتى عبورهم البحر ونجاتهم بمعجزة إلهية.
ثالثاً: أن المجتمع لا يعيش حالة استقرار أو توازن طبقي، فهو من جهة يتشكل من مجموعة من الأفراد الغرباء الوافدين عليه، الذين دخلوا عليه وأصبحوا جزءاً منه وتأقلموا في طبيعة أرضه، إضافة إلى أفراده الأصليين، ومن جهة أخرى هناك تناقض واضح بين أهداف وغايات قيادته العادلة التي تريد أن تقودهم إلى المثل الأعلى وبين رواسب الجاهلية التي تعيشها نفوس الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع وأبنائه، التي لها اقتضاءاتها المضادة لأهداف الإلهيين.
مستقبل مجتمع العدل النسبي
مما تقدم نصل إلى نتيجة منطقية هي حصيلة ما تقدم من النقاط الثلاث خلاصتها: أن نتيجة هذا التطور والمسيرة للمجتمع مجهولة، وعلى أقل تقدير غير مضمونة النصر، لارتباطها بأسبابها وبطبيعة المعطيات والشروط الموضوعية المحققة للنصر أو النافية له على أرض الواقع. والقاعدة العامة هي أن تكامل هذا المجتمع وتطوره نحو الأفضل يبقى مرهوناً بمدى تفاعله مع قيادته، وانصياعه لأوامرها واتّباعه الدقيق لتوجيهاتها ونصائحها، وتكون النسبة بينهما دائماً طردية على المستوى الكمي والكيفي، قال الله تعالى: <يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللّٰهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>[8].
ولهذا فمن ناحية سنن التاريخ تعدّ وفاة هذه القيادة الصالحة فيما تمثله ضمن حياة الأمة ۔ أي أمة ۔ دائماً منعطفاً خطراً ومقطعاً حساساً من تاريخ هذه المجتمعات الإنسانية، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في أروع تعبير، إذ قال عز من قائل: <وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ>[9].
تبرير وجود طبقات مجتمع العدل النسبي
عرفنا أن الفراعنة تمارس عليه التجزئة أو تفرقة المجتمع إلى شيعٍ وطبقات، وإلى هذا أشارت الآية القرآنية الكريمة: <إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ>[10].
ومن هنا كان لزاماً علينا أن نلاحظ هذه الطبقات والشيع كنتيجة طبيعية لعملية التجزئة الفرعونية، لكننا في مثل هذا المجتمع الذي يفترض أنه تقوده قيادة صالحة تريد توحيد المجتمع وصبّ جميع طاقاته في إطار واحد، قد طرح علينا السؤال: لماذا توجد طبقات؟ ولماذا هذا التجزّؤ والتشكل ضمن جماعات وطوائف؟ أو ليس القرآن الكريم يدعو إلى توحيد الصفوف وتعبئة الطاقات في اتجاه الهدف الواحد؟
يقول القرآن الكريم: <إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ>[11]. وأيضاً: <وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللّٰهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقوا>[12]وأيضاً: <إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ>[13].
إذن لابد أن هناك مجموعة من المبررات التي تفسّر لنا كيفية نشوء هذه الطبقات التي سيتمّ استعراضها، ومنها:
المبرر الأول: عدد من هذه الطبقات موروث من الماضي، بمعنى أن هذه القياده الصالحة والعادلة استلمت الوضع في المجتمع على هذه الحالة من الانقسام والتشتت أو التبلور في شكل طوائف متميزة.
ومن الصحيح أن يتساءل: لماذا لا تحاول هذه القيادة ۔ والمفروض أنها قيادة صالحة ۔ أن تلغي هذا التمحور وتصهر جميع هذه الطوائف المتوارثة ضمن بوتقة واحدة؟
والجواب: هو أن التعامل مع هذه الطوائف لا يمكن أن يكون بالحديد والنار حتى يتمّ صهرها ضمن بوتقة واحدة؛ لأن سيرة العدل وسياسة الحكمة تقتضي في بعض الأحيان أن يتم التعامل مع هذه الوجودات بروح التسامح والليونة؛ لأن سياستها غير المرنة يمكن أن تقود إلى نتائج عكسية وخيمة، وهنا ما لا تريده أي قيادة حكيمة عادلة.
المبرر الثاني: طبيعة ظروف هذا المجتمع الذي يعيش حالة استنفار أو مواجهة وحرب مع عدو خارجي لها إفرازات، منها ظهور بعض هذه المجموعات، ويمكن أن نذكر كمثال لذلك مجموعة الأسرى (أسرى الحرب).
المبرر الثالث: أن أصل تشكّل هذا المجتمع ۔ كما ذكرنا ۔ هو نتيجة هجرة والتحام لمجموعة من الناس مع أفراد مجتمع آخر، ومن ثم فإن تبلور طبقتين في المجتمع من مهاجرين وأصليين أمر واقعي وحتمي.
ومع عدم ارتباط هذا التمحور بمحل كلامنا بشكل مباشر لكنه تشكّل لا يمكن غض النظر عنه لكونه أمراً حاصلاً.
المبرر الرابع: كون المجتمع في مرحلة انتقالية وسير من الظلمات إلى النور يفرض أن هناك باطلاً ينبغي الترحيل عنه، وحقاً يتم حثّ التوجه إليه من قبل القيادة، وبطبيعة الأمر أن الحق يقسّم الأمة إلى فئتين على أقل تقدير: فئة تؤيد هذا التحرك، وفئة تعارضه وتجابهه.
ثم إن اختلاف قدرات الناس ومواهبهم وتنوع قابلياتهم وتباين مستويات أعمالهم يفرض اختلاف درجاتهم، وقال الله تعالى: <يَرْفَعِ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ>[14] وأيضاً: <وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا>[15]. هذا ولكن يمكن القول: إن هؤلاء يمكن أن يشكّلوا درجات ضمن الطبقة الواحدة، فهذا تفسير لظاهرة اختلاف درجات لا تبرير لنشوء الطبقات.
طبقات مجتمع العدل النسبي
نحاول فيما يلي أن ندرس طبقات مجتمع الهجرة، وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن تقسيم أي مجتمع إلى طبقات، مرة بلحاظ أصول أفراده العرقية، وأخرى بلحاظ انتماءاتهم المذهبية، وثالثة بلحاظ حالتهم الاقتصادية.. . ومن هنا فإن انقسام هذا المجتمع إلى طائفتي المهاجرين والأصليين ۔ أعني الذين اصطلح عليهم في مجتمع المدينة بالأنصار ۔ أمر ضروري، لكننا لا نتطرق الآن إلى هاتين الطائفتين إلا ضمن إطار باقي الطبقات لاعتبارين:
الأول: أن الرسول(ص) حاول منذ دخوله المدينة المنورة أن يزيل هذا الفارق بين الجماعتين بإشاعة مبدأ الأخوة، فتآخى المهاجرون والأنصار وأصبحوا كأبناء عائلة واحدة، فكانوا يتوارثون ويتقاسمون أموالهم، وحينئذ يمكننا أن نتغاضى عن وجود هاتين الطبقتين.
الثاني: أنه لا يرتبط بمحل البحث كثيراً، لكوننا لا نلحظ في هذا التقسيم الطبقات بلحاظ انتمائها الجغرافي أو جذورها القبلية، بل بلحاظ قربها أو بعدها من الرسالة التي تحملها القيادة ضمن معاييرها وموازينها الخاصة، كما ذكرنا في مقتبل البحث.
كما أن هذا المجتمع ۔ في ما ذكرنا ۔ في مرحلة تغير مستمر، ومن هنا فحتى بعض طبقاته يمكن لفترة أن لا تكون موجودة، أو أن تكون موجودة ثم تتلاشى؛ ولهذا سنتطرق أولاً إلى الطبقات المتحركة وبعدها إلى الطبقات الثابتة.
[الطبقات المتحركة]
الآن نتطرق إلى طبقتين فقط من الطبقات المتحركة وهما:
طبقة الأسرى: إن من طبيعة اقتضاءات هذا المجتمع الذي هو في حالة حرب، أن تكون فيه طبقة من الأسرى، قال تعالى: <يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن في أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللّٰهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّٰهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللّٰهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ>[16].
يقول العلامة الطباطبائي(قده) في تفسيره لهذين الآيتين <يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ>:
الذين تسلطتم عليهم وأخذت منهم الفداء، إن ثبت في قلوبكم الإيمان وعلم الله منكم ذلك، يؤتكم خيراً مما أخذ منكم الفداء ويغفر لكم والله غفور رحيم. وإن أرادوا خيانتك والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد، فإنهم خانوا الله من قبل فأمكنك منهم وأقدرك عليهم وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً[17].
يعني أن سنة الله تعالى فيهم تريد أن تعلمهم أنه لا مناص من الاهتداء وإصلاح القلوب في السر، والله غفور رحيم، وأما إن حاولوا الخيانة مرة أخرى فعليهم أن يتعظوا بالماضي حيث أمكن الله تعالى منهم.
طبقة المهاجرين إليه الممنوعين من الالتحاق به: إن أوضح مثال على هذه الجماعة التي تنتمي أيديولوجياً إلى مجتمع العدل النسبي مع أنها قد لا تكون جزءاً عضوياً منه، هم الأفراد الذين هاجروا مسلمين إلى الرسول(ص) بعد صلح الحديبية، وبمقتضى أحد بنود الصلح كان يجب على الرسول تسليمهم إلى مبعوث قريش إذا طالبت بهم. وكما يحدثنا التاريخ أن الرسول(ص) سلّم المهاجرين الأوائل منهم إلى مبعوث قريش، فتمكّن هذا في طريق العودة من الفرار والانفلات من يد صاحبه بعدما قتله، ثم فرّ إلى الجبال بعد ما يئس من حماية الرسول(ص) له إذا رجع، وبمرور الأيام وازدياد عدد المسلمين الفارّين إلى الجبال شكّلوا جماعة مسلمة قوية بدأت تهاجم قوافل المشركين.
وحينما بدأ أمن قوافل قريش يتهدد بفعل هجوم هؤلاء، ضاقت قريش ذرعاً بهم وطلبوا من الرسول(ص) أن يمنعهم، وكان جوابه(ص) أنهم ليسوا من أفراد مجتمع المدينة، وأنه قام بتسليم كل مسلم فارّ إليه إلى مبعوثهم طبقاً لبند صلح الحديبية، فتنازلت قريش عن ذلك ووافقت على التحاقهم بمجتمع المدينة.
أما الطبقات الثابتة في هذا المجتمع فهي
فالطبقة الأولى: القيادة الصالحة والمقرّبون إليها والمؤمنون بها من مهاجرين وأنصار وأعراب، وكأي عمل سياسي إذا أرادت أي قيادة أن تنجح في قيادة مجتمع ما فلابد لها من قاعدة تؤمن بها وتناصرها وتقاتل دونها.
وقد أكد القرآن الكريم على ضرورة إطاعة الرسول(ص) وأهمية ذلك في الآية الكريمة: <أَطِيعُوا اللّٰهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ>[18] وأيضاً: <وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ عَزيزٌ حَكيمٌ>.[19]
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الطبقة بشكل عام بقوله: <لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّٰهُ لَهمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ>[20].
قال العلامة الطباطبائي(قده) تعقيباً على الآيتين السابقتين:
لما ذم الله المنافقين في الآيتين السابقتين بالرضا بالقعود مع الخوالف والطبع على قلوبهم، استدرك بالنبي(ص) والذين آمنوا معه، والمراد بهم المؤمنون حقاً الذين خلصت قلوبهم من رين النفاق، بدليل المقابلة مع المنافقين ليمدحهم بالجهاد بأموالهم وأنفسهم، أي أنهم لم يرضوا بالقعود ولن يطبع على قلوبهم، بل نالوا سعادة الحياة والنور الإلهي الذي يهتدون به في مشيهم كما قال تعالى: <أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ>[21].[22]
وأشار القرآن الكريم أيضاً إلى الجماعة الأولى المؤمنة بالقيادة الصالحة من المهاجرين بقوله: <الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّٰهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ>[23].
وقال تعالى: <الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللّٰهُ.. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ>.[24]
يقول الفخر الرازي في تفسيره للقرآن ۔ عند تعرضه إلى تفسير الآية ۔ ما لفظه:
اعلم أنه تعالى لما بيّن أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا فبيّن ذلك الظلم بقوله: <الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللّٰهُ> فبيّن تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين: أحدهما أنهم أخرجوا من ديارهم، والثاني أنهم أخرجوا بسبب أنهم قالوا ربنا الله، وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم ۔ حتى يقول: ۔ المراد بذلك هم المهاجرون؛ لأن قوله: <الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ> صفة لمن تقدّم وهو قوله: <الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم>[25].
أما الجماعة الثانية من المؤمنين بالقيادة الصالحة من الأنصار فقد يكون أشار إليهم القرآن الكريم بقوله: <فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ>[26]، يقول في مختصر الميزان: (التعزير هو النصرة مع التعظيم)[27] ويبدو من سياق هذه الآيات أن المقصود بهم من آمنوا بالرسول(ص) من اليهود.
والآية الصريحة في حق الأنصار هي الشطر الثاني من قوله تعالى: <إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ>[28]. وقوله تعالى: <وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللّٰهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّاً>[29]. ويمكن بوضوح استفادة كون المقصود هم الأنصار بقرينة المقابلة مع المهاجرين في كلتا الآيتين.
أما الجماعة الثالثة فهم المؤمنون من الأعراب، وقد أشار إليهم القرآن بقوله: <وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّٰهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّٰهُ في رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ>[30]، فالله تعالى لما بيّن أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً، بين أيضاً أن فيهم قوماً مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنماً، وهو تعالى وصف هذا الفريق بوصفين:
الأول: كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر، والمقصود التنبيه على أنه لابد في جميع الطاعات من تقدم الإيمان، وفي الجهاد أيضاً كذلك.
والثاني: كونه بحيث يتخذ ما ينفقه قربات عند الله وصلوات الرسول، والمعنى: أن ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله تعالى وصلوات الرسول، لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم[31].
فهذه الجماعة مع كونها من الأعراب ۔ وسيأتينا تفسير الأعرابي ۔ لكنهم مؤمنون صادقون بخلاف أغلبية باقي أفراد الأعراب، الذين في الغالب تكون الصورة المتلقاة عنهم صورة سلبية، والشاهد عليه ما يبدو من بعض الأجواء التي عاشها المؤمنون التي كانت تستقبح الأعرابي وتتصور عدم قبول أي عمل منهم، إذ ينقل العياشي في تفسيره عن داود بين الحصين عن أبي عبدالله(ع) قال: (سألته عن قول الله: <وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..> أيثيبهم عليه؟ قال: نعم)[32].
ولا يخفى أنه ضمن هذه الطبقة ۔ الجماعة المؤمنة ۔ يمكن أن يحصل تفاوت في الدرجات، ومن هنا تتصور مراتب داخل هذه الطبقة، فمنهم السابقون السابقون أولئك المقربون، ومنهم الأبرار، وقد أشارت إليهم الآيات القرآنية معتضدة بالروايات، ففي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيدي عن أبي عبدالله(ع) قال:
إن الله سبق بين المؤمنين كما سبق بين الخيل يوم الرهان. قلت: أخبرني عما ندب الله المؤمن من الإسباق إلى الإيمان؟ قال قول الله تعالى <سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَرُسُلِهِ> وقال: <وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ>[33] وقال: <وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ>[34]. فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم، ثم ثنّى بالأنصار ثم ثلّث بالتابعين وأمرهم بالإحسان، فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده[35].
وقال تعالى: <وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ>، قال في مختصر تفسير الميزان:
ليس مدلول الآية أن من صدق عليه أنه مهاجر أو أنصاري أو تابع، فإن الله قد رضى عنه رضاً لا سخط بعده أبداً، وأوجب في حقه المغفرة والجنة سواء أحسن أو أساء، اتقى أو فسق، فالحكم بالآية مقيد بالإيمان والعمل الصالح، بمعنى أن الله سبحانه إنما يمدح من المهاجرين والأنصار والتابعين من آمن به وعمل صالحاً[36].
ويمكن أن يلحق بهم: المعترفون بذنوبهم من الأعراب، وهم الخالطون للعمل الصالح بالسيّء، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الطبقة بقوله: <وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً>[37].
في الكافي بإسناده عن موسى بن بكر عن رجل قال: قال أبو جعفر(ع):
الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فأولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون ويكرهونها، فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم[38].
الطبقة الثانية: المنافقون، وهذه الطبقة هي نقيض الطبقة التي سبقتها؛ ذلك لأن السابقة تمثّل الإيمان الصادق، وأما هذه فتمثل الإيمان الكاذب، وأما الكافرون ۔ مع كفرهم الصريح ۔ فهم صادقون مع أنفسهم ومع الناس، والصادق مع نفسه يمكن أن يجد نفسه يوماً في طريقه إلى الهداية، وأما المنافق فهو يظهر خلاف ما يبطن، ويتلوّن تلوّن الحرباء، ومثل هؤلاء من الصعب جداً لو لم يكن من المستحيل أن يجدوا طريقاً إلى الهداية، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بتعبير لطيف، إذ قال عز من قائل موجهاً خطابه إلى الرسول(ص): <اسْتَغْفِرْ لَهمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَرَسُولِهِ وَاللّٰهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ>[39].
وقال تعالى: <وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ>[40] فهذه الجماعة كما يصفها القرآن الكريم قد اعتادت على النفاق ومرنت عليه. وهؤلاء المنافقون قد وصفهم القرآن الكريم بمجموعة من الصفات الباطنية والظاهرية، وسنتعرض فعلاً إلى أهمها وبشكل سريع كما يلي:
1 ۔ متثاقلون عن الجهاد، فهم يحلفون أنهم لو استطاعوا لخرجوا: <لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ>[41].
ومن ثم فهم متخلفون وقاعدون وقد رضوا بأن يكونوا مع الخوالف: <وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّٰهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ>[42].
2۔ يبتغون الفتنة ويقلّبون الأمور: <لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّٰهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ>[43].
3 ۔ إذا تصب المؤمنين حسنة تسؤهم وأن تصبهم سيئة يتولوا وهم فرحون، لكونهم أخذوا حذرهم: <إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ>[44].
4 ۔ عدم تقبل الصلاة منهم لكونهم لا يقومون إلا وهم كسالى، وعدم تقبل النفقات منهم بكونهم لا ينفقون إلا وهم كارهون: <وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ>[45].
5 ۔ يحلفون أنهم من المؤمنين وما هم منهم: <وَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ>[46].
الطبقة الثالثة: الأعراب، وهذه الطبقة يصفها القرآن الكريم بقوله: <الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً>[47]، وفي مفردات الراغب الإصفهاني: أن العرب ولد إسماعيل، والأعراب جمعه في الأصل، وصار ذلك اسماً لسكّان البادية. ويبدو أن القرآن يستعمله في هذا المعنى بعد التوسع فيه والتركيز على مسألة الجهل بأحكام الدين والمحرومية من بركات الثقافة والحضارة الإنسانية، ولهذا ورد في فتاوى فقهائنا كراهية الصلاة خلف الأعرابي، إذ ليس المراد منه جمع العربي كما قد يتصوره بعض السذّج.
يقول الرازي في تفسيره:
رجل أعرابي بالألف إذا كان بدوياً، يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب، فالأعرابي إذا قيل له عربي فرح، والعربي إذا قيل له أعرابي غضب له، فمن استوطن القرى العربية فهو عربي، ومن نزل البادية فهم أعراب[48].
ويقول العلامة الطباطبائي(قده):
يبيّن الله تعالى حال سكّان البادية وأنهم أشد كفراً ونفاقاً؛ لأنهم لبعدهم عن المدينة والحضارة وحرمانهم من بركات الإنسانية من العلم والأدب أقسى وأجفى فهم أجدر وأحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من المعارف الأصلية والأحكام الشرعية من فرائض وسنن وحلال وحرام[49].
هذه الجماعة منهم المؤمنون والخالطون للعمل الصالح بلا عمل السيء ۔ كما تقدم ذكرهم ضمن الطبقة الأولى ۔ ومنهم المنافقون، وقد مر ذكرهم قبل قليل، لكنهم هنا حسب الوصف القرآني أشد كفراً ونفاقاً، لكونهم جمعوا من كل شيء شرّه، فعلاوة على انحرافهم وفسقهم وجهلهم بأحكام الدين والإسلام، لا يعون شيئاً من أصول الأدب والحضارة الإنسانية، ولهذا جعلوا أشد كفراً ونفاقاً.
الطبقة الرابعة: أهل الكتاب والمشركون، وهذه الجماعة ليست على حد سواء، وقد ذكر القرآن الكريم في موارد عديدة أنهم متفاوتون، ولا يصح الحكم عليهم بحكم واحد، يقول القرآن الكريم: <لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ>[50] ثم تشير بعض الآيات إلى أمانة بعضهم وإلى عدم أمانة البعض الآخر، ثم يؤكد القرآن الكريم على ضرورة إيمانهم وأن إيمانهم هو خير لهم، قال تعالى: <وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ>[51].
لقد مدحهم القرآن مرة بشكل عام حينما أشار إلى ذلك بقوله: <أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّٰهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ>[52] وأخرى بكونهم يؤمنون أيضاً بما أنزل على المسلمين فقال: <وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّٰهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّٰهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّٰهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ>[53]، ثم ذكر في آيات أخرى حتمية إيمانهم بالمسيح(ع) كما هو حقه وبلا غلوّ، وتشير بعض الروايات إلى حتمية تحقق هذا الأمر على عصر الإمام الحجة القائم المنتظر(عج)، قال تعالى: <وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ>[54].
وقد وبّخهم القرآن الكريم على غلوّهم، فقال: <قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ>.[55]
ثم وصفهم في آيات أخر أنهم يكفرون بآيات الله ويلبسون الحق بالباطل، قال تعالى: <يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّٰهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ>[56]، ثم ينقل القرآن الكريم مقالة بعضهم الموصية بالتلوّن والتردد والتذبذب بقوله: <وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ>[57].
وقد حشرهم الله تعالى مرة مع الكافرين في كراهيتهم أن يصيب المؤمنين خير، قال تعالى: <مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ>[58]، ثم ذكّر المسلمين أنهم يريدون أن يردوهم كفاراً بعد إيمانهم، قال تعالى: <وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهمُ الحَقُّ>[59]، وفي آية أخرى أنهم يريدون إضلال المسلمين: <وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ>[60].
أظن أن في ما نقلناه عن القرآن الكريم في وصف أهل الكتاب ۔ سواء اليهود أم النصارى أم غيرهم ۔ كفاية لمن اعتبر، ولن نتعرض إلى شرح المزيد عنهم من الروايات كي لا نخرج عن إطار هذا البحث.
وقد يقال: إن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم بعض الجماعات والطبقات فلماذا لم يتم التعرض لهم؟
الجواب: هو أن هذه الجماعات لابد أن تدخل تحت أحد الطوائف السابقة التي تم شرحها، فمنهم العابدون لله على حرف، قال تعالى: <وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّٰهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ>[61] وهؤلاء لابد أن يندرجوا تحت طبقة المنافقين، لأن شيمة المنافق التردد، قال الرازي في ذيل شرحه للآية:
اعلم أنه تعالى لما بيّن حال المظهرين للشرك المجادلين فيه على ما ذكرنا عقبه بذكر المنافقين فقال: <وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّٰهَ عَلَىٰ حَرْفٍ>[62].
والمستبطئون للنصر، وهؤلاء كما وصف تعالى كلامهم: <أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللّٰهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللّٰهِ قَرِيبٌ>[63] فيدخلون تحت عنوان طبقة المؤمنين الأولى.
أو النافون للنصر، وهم ۔ على قول بعض المفسرين ۔ الحاقدون الذين لا يريدون للرسول والمؤمنين أن ينتصروا، قال تعالى: <مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللّٰهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ>[64] وهؤلاء لابد أن يدخلوا تحت طبقة أهل الكتاب إن كانوا من أهل المدينة، أو من مشركي مكة.
قال العلامة الطباطبائي(قده):
قيل: إن المعنى من كان يظن من المشركين أن لن ينصر الله تعالى نبيه(ص) في الدنيا والآخرة… إلى آخره[65].
وإنما لم نتطرق إلى طبقة خاصة تحت عنوان (الكفار) لأن مجتمع العدل النسبي لا يطيق وجود كفرة ملحدين يجهرون بكفرهم وإلحادهم من غير شبهة ولا طلب للتفحص.
النمط الثاني: مجتمع الظلم النسبي
وقد ذكرنا فيما سبق أن قيادته غير عادلة ونريد بالعدالة نفس الاصطلاح السابق، وعليه فلا يتنافى هذا مع كون من يحكمه قد يتعامل مع أفراد الشعب بمقتضى أصول العدالة الإنسانية بمعناها الواسع التي أشار إليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) بقوله: (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به) وهذه قاعدة أخلاقية يتفق عليها كل عاقل بغض النظر عن انتمائه الديني أو اعتقاده الأيديولوجي، كما أن أحكام العقل بحسن العدل وقبح الظلم لا يختلف في إثباتها أي مفكر يحترم عقله.
ومن هنا فلا نتعجب من سيرة الملوك بالعدل والإنصاف مع رعيتهم، واشتهارهم بحسن السياسة وعدالتهم في إدارة شؤون الرعية كبعض الملوك الذين سبقوا ظهور الإسلام من مملكة الساسانيين ۔ أردشير ۔ الذي اشتهر عنه ما عرف به (عهد أردشير)، أو ممن عاصر صدر الإسلام وتنزيل القرآن الكريم على صدر الرسول الأكرام(ص)، وأقصد بالتحديد النجاشي الذي صلّى عليه الرسول(ص) وترحّم عليه عند وفاته واشتهر عنه(ص) نصيحته للمسلمين خلال فترة الاضطهاد المكّي بالهجرة إلى الحبشة؛ إذ قال(ص) لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلَم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله تعالى لكم فرجاً مما أنتم فيه).[66]
سنن التاريخ بلحاظ مجتمع الظلم النسبي
ويمكن تلخيص خصائص المجتمع كالتالي:
أولاً: أن اعتقاد عامة الشعب قائم على أساس رؤية كونية غير صائبة، أو ديانة محرّفة قد تبتني على نظرة فلسفية للعالم غير منطقية لا يقبلها العقل القويم وتأباها الفطرة السليمة وقد ذكر القرآن الكريم استقباح عقائدهم حتى من قبل الحيوانات، قال الله فيما حكاه على لسان الهدهد في قصة سليمان(ع):
<وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقٰالَ مٰا لِيَ لاٰ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كٰانَ مِنَ الْغٰائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذٰاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقٰالَ أَحَطْتُ بِمٰا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَ لَهٰا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهٰا وَ قَوْمَهٰا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاٰ يَهْتَدُونَ * أَلاّٰ يَسْجُدُوا لِلّٰهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مٰا تُخْفُونَ وَ مٰا تُعْلِنُونَ * اللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ>[67].
ثانياً: أن هذا المجتمع مجتمع ظلم، لكن الظلم فيه نسبي، فلا يمكننا أن نصنّف كل عمل أو كل واقعة فيه ضمن خانة الظلم، بل إن في بعض ممارسات طبقاته نموذجاً واضحاً للعدل، ومن هنا قد نرى العدل متجسداً في بعض تفاصيل مفرداته، ومطبّقاً في بعض جزئياته.
فمن مثال الحياة السياسية نرى في موقف بلقيس نموذجاً رفيعاً للقيم الخلقية في ميدان إدارة البلاد سياسياً واتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن القومي، وذلك باتباع الشورى ومحاولة اختيار الأفضل دوماً، قال الله تعالى في كتابه الكريم:
<قٰالَتْ يٰا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتٰابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمٰانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ * أَلاّٰ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ * قٰالَتْ يٰا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي في أَمْرِي مٰا كُنْتُ قٰاطِعَةً أَمْراً حَتّٰى تَشْهَدُونِ>[68].
ومن مثال الحياة الاجتماعية قد نتصفح في التاريخ لنتعرف طبيعة الحياة التي عاشها المسلمون على أرض الحبشة مع النصارى، إذ تقول أم المؤمنين أم سلمة (رضوان الله عليها) التي تحكي مقالة النجاشي للمسلمين المهاجرين إليهم: (اذهبوا فأنتم آمنون، مَن سَبّكم غرم، وما أحب أن لي دبراً من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم..) حتى تقول: (وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار)[69].
ثالثاً: أن ما ذكرناه عن قيادة المجتمع وكونها غير عادلة وأن اعتقاد عموم الناس في ضلال، لا يعني استمرارية هذا الضلال ودوامه بالضرورة، فقد قصَّ علينا القرآن الكريم في الآيات التي ذكرناها في النقطة الأولى أن بلقيس وقومها كانوا يسجدون للشمس، ولكنها بعد ذلك أسلمت لله رب العالمين، قال تعالى:
<وَ صَدَّهٰا مٰا كٰانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّٰهِ إِنَّهٰا كٰانَتْ مِنْ قَوْمٍ كٰافِرِينَ * قِيلَ لَهَا اُدْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمّٰا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ سٰاقَيْهٰا قٰالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوٰارِيرَ قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمٰانَ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ>[70].
وفي الرواية أيضاً عن قصة النجاشي: قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا. فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيّأ لهم سفناً وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحقَّ الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة. قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبدٌ! قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ فقالوا: نقول هو ابن الله. فوضع يده على صدره على قبائه وقال: هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئاً.. ۔ وهو يعني ما كتب ۔ فرضوا وانصرفوا عنه)[71].
هذان النصان ۔ الآية والرواية ۔ يفيدان بوضوح اهتداء كل من بلقيس والنجاشي إلى الدين الحق وإسلامهما بعد ماض ۔ لقومهم ۔ في عبادة الشمس أو ديانة محرفة.
من خلال هذه النقاط نصل إلى نتيجة هامة هي أنه من غير الضروري أن تكون نتيجة هذه المجتمعات الاستمرار في الضلال وعبادة الأوثان، بل من الممكن أن تصل بهم الخاتمة إلى الاهتداء إلى الدين الحق والإسلام لله رب العالمين؛ وذلك لأن سيرة العدل وحسن تدبير أمور البلاد بالعقل والكياسة، إن استمرا يقودان إلى شاطئ الأمان وبرّ الإيمان.
مستقبل مجتمعات الظلم النسبي
إن نهاية مجتمع الظلم النسبي يمكن أن تتصور على أنحاء ثلاثة:
فتارة يتم التحول فيه إلى الصراط المستقيم تحولاً سلمياً. وأخرى لا يحصل فيه هذا التحول السلمي، بل يكون التحول فيه دراماتيكياً. وثالثة: أن يتطرق إليه التآكل من الداخل أو يهاجم من الخارج.
وقد حدثنا القرآن الكريم عن كل واحد من هذه الأنحاء الثلاثة من تحولات مجتمعات الظلم النسبي، فيما قصّه علينا من قصص الأنبياء الذين وصف تعالى لنا قصصهم: <لَقَدْ كٰانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبٰابِ>[72]:
النحو الأول: نموذج التحول الطبيعي، في أمثال هذه الحالات وبعد مدة طويلة من المعاناة يتم انتقال السلطة انتقالاً سلمياً، وهذا النموذج حدثنا عنه القرآن الكريم في سورة يوسف(ع)، فإنه استطاع ۔ بعد تحمل كل تلك المشاقّ في أن يتهم مع براءته وعفته فيسجن ويتحمل مصاعب السجن ۔ أن يتبوأ منصب الأمين على خزائن الأرض ثم منصب العزيز، قال تعالى عن لسان يوسف والعزيز: <وَ قٰالَ الْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّٰا كَلَّمَهُ قٰالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنٰا مَكِينٌ أَمِينٌ * قٰالَ اِجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ>[73]، فأصبح الأمين على الخزينة، وعندما جاءه إخوته يستعطفونه، خاطبوه بلقبه فقالوا: <يٰا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنٰا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنٰا بِبِضٰاعَةٍ مُزْجٰاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنٰا إِنَّ اللّٰهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ>[74].
النحو الثاني: نموذج التحول الدراماتيكي، وفي مثل هذه الحالات يحصل التغيير بشكل دراماتيكي وغالباً ما يكون مصحوباً بإراقة الدماء، وفي هذه الصورة نتطرق إلى حالة الهجوم عليه من الخارج، لقد قص علينا القرآن الكريم ذلك في قصة بلقيس، حيث إنها بعدما أرسلت إلى سليمان بهدية قالت:
<فَنٰاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمّٰا جٰاءَ سُلَيْمٰانَ قٰالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمٰالٍ فَمٰا آتٰانِيَ اللّٰهُ خَيْرٌ مِمّٰا آتٰاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاٰ قِبَلَ لَهُمْ بِهٰا وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهٰا أَذِلَّةً وَ هُمْ صٰاغِرُونَ * قٰالَ يٰا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهٰا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قٰالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قٰالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قٰالَ هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قٰالَ نَكِّرُوا لَهٰا عَرْشَهٰا نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاٰ يَهْتَدُونَ * فَلَمّٰا جٰاءَتْ قِيلَ أَ هٰكَذٰا عَرْشُكِ قٰالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهٰا وَ كُنّٰا مُسْلِمِينَ * وَ صَدَّهٰا مٰا كٰانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّٰهِ إِنَّهٰا كٰانَتْ مِنْ قَوْمٍ كٰافِرِينَ>[75].
النحو الثالث: في هذه الصورة نتطرق إلى حالة تآكل المجتمع من الداخل، وذلك كما في قصة النجاشي وأهل الحبشة، فقد لاحظنا خروج أهل الحبشة عليه في رواية نقلنا شطراً منها فيما مضى، وقد شرحها صاحب موسوعة التاريخ الإسلامي ضمن فصل (خروج الحبشة على النجاشي)[76] فلاحظ.
طبقات مجتمع الظلم النسبي
إن طبقات هذا المجتمع يمكن استفادتها من القرآن الكريم وهي كالتالي:
الطبقة الأولى: طبقة الملوك والأسرة الحاكمة
هذه الطبقة الحاكمة تتميز بالصفات التالية:
أولاً: استشارة الملأ ومراعاة المظاهر ومماشاة الرأي العام. لاحظنا ذلك في أسلوب استشاره بلقيس للملأ عند ورود كتاب سليمان، إذ قالت: <يٰا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي في أَمْرِي مٰا كُنْتُ قٰاطِعَةً أَمْراً حَتّٰى تَشْهَدُونِ>[77]، ومثله تساؤل العزيز عن تأويل رؤياه، وهكذا استشارة النجاشي للملأ الذين حوله.
أما مراعاة المظاهر فقد لاحظنا أن زليخا مع طلبها الفجور ولكنها تغلق الأبواب خلفها، كي لا يطّلع أحد على فعلها.
أما مراعاتهم للرأي العام فيمكن استفادته بوضوح من قصة يوسف أيضاً، حيث إن العزيز بعد ذلك البرود والفعل اللامبالي، وبعدما شاع الخبر في المدينة أن <اِمْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرٰاوِدُ فَتٰاهٰا عَنْ نَفْسِهِ>[78]، يحدثنا القرآن الكريم عنهم: <ثُمَّ بَدٰا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا رَأَوُا الْآيٰاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّٰى حِينٍ>[79]، ومن الظاهر أن رد الفعل هذا ليس إلا لإسكات أفواه الناس، وذلك بإلقاء اللوم عليه؛ لأن الحقيقة المرّة وطهارة يوسف أمر لا يعرفه إلا الأسرة الحاكمة، والنسوة اللاتي دعتهن امرأة العزيز، والحاشية المقرّبة جداً منهم، وسجنه يجعله في قفص الاتهام، ويبرئ ساحة زليخا على الأقل في أعين الناس السذّج.
ثانياً: اللاأبالية. فلا يهمها شيء من القضايا الأخلاقية، هذا إذا كانت تدرك لها معنى محصّلاً. يمكننا أن نلاحظ هذا بوضوح في عمل زليخا مع يوسف، وردود فعل عزيز مصر تجاه الفضيحة الأخلاقية التي جرت في قصره، إذ لم يملك أكثر من القول لها وليوسف المتهم ظلماً: <يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخٰاطِئِينَ>[80]. لكنهم يعيشون في قصور فارهة وبيوت كبيرة، وقد نبّه القرآن الكريم على ذلك بقوله: <وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوٰابَ>[81] مما يعني أن هذا البيت كان كبيراً إلى درجة اضطرت معها زليخا إلى أن تغلقها جميعاً حتى تستطيع الاختلاء بيوسف لإغرائه.
ثالثاً: إعزاز الذليل وتحقير العزيز: إن هذه القيادة اللاأبالية لما كانت لا تعرف القيم الأخلاقية ولا تعطيها الوزن الذي تستحقه، فهي تقدّم الذليل وتؤخّر العزيز لا على أساس معايير التقوى، بل على أساس معيار القوة ۔ أي قوة كانت ۔ وهي تارة ما تكون في الغنى، وتارة أخرى في الأتباع والأنصار، وثالثة في العلم، أو في السمعة والشهرة وأمثالها من النظائر، فقد لاحظنا في مثال قصة يوسف أنه كان الضحية في كل مراحل حياته حتى أصبح العزيز، فحينما كان غلاماً جعلوه عبداً ليباع بعدها في سوق النخاسة بثمن بخس دراهم معدودة على حد تعبير القرآن الكريم، ولما اشتد ساعده أرادت امرأة العزيز اتخاذه آلة لإرضاء شهواتها ونزواتها، حتى إذا لم يخضع لها محتجّاً بأن ربه الذي أكرم مثواه لا يرضى منه الخيانة وضعوه في السجن، قال الله تعالى ۔ وهو يحكي لنا كلام زليخا ۔: <وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مٰا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصّٰاغِرِينَ>[82]ويلاحظ تعبيرها عنه <مِنَ الصّٰاغِرِينَ>.
وقد نبّه القرآن الكريم على ذلك أيضاً في إشارة لطيفة على لسان بلقيس حيث قالت: <إِنَّ الْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهٰا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهٰا أَذِلَّةً وَ كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ>[83]، حيث إن بلقيس ۔ وهي الصادقة فيما تقول ۔ كانت ترى في سليمان ملكاً مثلها، ومن ثم فالقيم الأخلاقية التي يكافح لأجلها التي هي في جوهرها إصلاح النفوس وتهذيبها، تسمّيها هي إفساداً، ولكنه ۔ أعني سليمان ولشدة صفاء نفسه كالمرآة ۔ نبي من أنبياء الله لا يعزّ إلا العزيز في نفسه ولا يذلّ إلا من ذلت نفسه، فهو يضع الأمور في محلها الطبيعي، وإنما هي وأمثالها يعزّون الذليل ويذلّون العزيز، فهذه الكلمات إدانة من فمها لها وللملوك الذين هم على شاكلتها.
رابعاً: إخفاء الحقيقة العقائدية؛ يبدو أن الطبقة الحاكمة غالباً ما تعرف أن الحق هو غير ما آمنت به الناس، ولكنها تخفي ذلك ولا تصرّح به ولكن يمكن بوضوح استشفاف ذلك من طريقة تعاطيها مع الأمور التي تواجهها، فمن جهة نرى بلقيس تصف كتاب سليمان الذي وصلها. <إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمٰانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ>[84]، يقول العلامة الطباطبائي(قده):
أي الكتاب باسمه تعالى فهو كريم لذلك، والوثنيون جميعاً قائلون بالله سبحانه يرونه رب الأرباب وأن لم يعبدوه، وعبدة الشمس منهم وهم من شعب الصابئين يعظّمونه ويعظّمون صفاته وإن كانوا يفسّرون الصفات بنفي النقائص والأعدام[85].
ونطالع في التاريخ أن النجاشي بعد التجاء جعفر وأصحابه إليه وحينما طالبه مشركو قريش بتسليمهم رفض، مع احتجاجهم عليه بأنهم لا يؤلّهون عيسى بن مريم(ع)، ويمكننا أن نستشهد مرة برواية طلب صديق النجاشي منه، أعني عمرو بن أمية الضمري، حينما طلب منه تسليمه أحد المسلمين (قال: فغضب ثم مدّ يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فلو أنشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه. فقلت له: والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟! قلت: أيها الملك، كذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده)[86]، ومثلها في الرواية عن عمرو بن العاص، إذ فيها أن النجاشي حينما سمع تلاوة جعفر بكى بكاءً شديداً، فراجع[87].
هذا ويبدو أيضاً من الروايات أن الملأ حوله لم يسمعوا ذلك منه بصراحة، ففي بعض الروايات أن المسلمين لما دخلوا عليه للمرة الثانية سئلوا: (ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه بالذي جاء به نبينا(ص): هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، وكلمته ألقاها إلى عيسى بن مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله، فقال لهم: وإن نخرتم والله)[88].
الطبقة الثانية: طبقة المستشارين
هذه الطبقة كما وصفهم القرآن الكريم بـ (الملأ) عبارة عن مجموعة من الناس أو الحواشي والبطانة تريد أن تفرض نفسها بأنها تشير على الحاكم ما هوالصالح أو الواجب اتباعه، اسمهم مستشارون لكنهم لا يشيرون بشيء ولا يعلمون شيئاً كثيراً، بل قد لا يشيرون على القيادة إلا بما هو خلاف مصلحة البلاد.
لقد لاحظنا ذلك مرة في قصة بلقيس، إذ قالوا: <نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ>[89] وجوابهم هذا لا يعدو إخباراً عن واقع وليس إشارة من عقلاء؛ لأن العاقل لا يتبجح بقوته، وإذا استشير يدرس الأمر من جوانب عديدة وهنا لا نرى أثراً لهذا، على أنهم أرجعوا الأمر إليها مرة أخرى فقالوا: <وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ>.
ومرة أخرى في قصة يوسف: <يٰا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي في رُءْيٰايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيٰا تَعْبُرُونَ * قٰالُوا أَضْغٰاثُ أَحْلاٰمٍ وَ مٰا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلاٰمِ بِعٰالِمِينَ>[90] فهم علاوة على ذلك لا ينفون عن أنفسهم الجهل المطلق، بل كانوا يصوّرون أنفسهم على أنهم عالمون حتى قالوا لعزيز مصر: <أَضْغٰاثُ أَحْلاٰمٍ> مما يعني أنهم في عين نفيهم لمعرفتهم بمعرفة تأويل الأحلام، أضفوا على رؤية العزيز الصادقة صفة أضغاث أحلام حتى ينزعوا عنها قيمتها، وهم بنزعهم القيمة عن هذا الحلم قد خيّبوا آمال العزيز في الشيء المهم الذي كان بصدده، ويبحث جاهداً لمعرفته، وهو الأمر الذي قد أدرك بفطرته من أن لرؤياه معنى، ولابد من فاتح لشفرات هذا اللغز، ولهذا حاول بقدر ما وسعه أن يتعرف تأويل الرؤيا.
ومرة ثالثة مع حاشية النجاشي، حينما جاء مبعوثا قريش لهم أولاً وذكرا لهم أنهم ۔ أعني المسلمين ۔ قد التجأوا إلى بلادهم، فقد كانا يتوقعان أن يساعدوهما في تسليمهم مباشرة، تقول الرواية التاريخية:
فخرجا حتى قدما على النجاشي.. فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلّما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد لجأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدَع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا ولا يكلّمهم، فإن قومهم أعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهما: نعم.
ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلّماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد لجأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردّهم إليهم، فهم أعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
فقالت بطارقته من حوله: صدقا أيها الملك، فإن قومهم أعلم بما عابوا عليهم، فسلّمهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي وقال: لا هاالله إذن لا أسلّمهم إليهما، ولا يكاد لقوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كان كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومه، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني[91].
من هذا النص التاريخي نفهم كيف أن الملأ ۔ هذه الجماعة ۔ كثيراً ما يخالف عملُها وضعها، فمع أن دورها هو المشورة لكنها كثيراً ما تتمسك نتيجة جهلها بمسلّمات متوارثة، وتحاول عندما تجد نفسها مخالفة للملك أن تضرب على الوتر الحساس.
هذا هو الواقع الذي لاحظناه في قصة النجاشي معهم حينما طرحت قضية عبودية عيسى بن مريم(ع)، لأن هذه القضية وتر حساس بالنسبة إلى العوام بحسب تقدير الحاشية التي توارثت هذه القضايا مع جهلها بكونها غير صحيحة، فهذه الطبقة تكون جاهلة جهلاً مركباً بحسب اصطلاح المناطقة، وهم غالباً ما يفلسون ولا يستمرون، لكونهم جهلة كما قلنا، وهكذا رأيناهم حينما فشلوا في الإجابة عن أسئلة العزيز وتأويل رؤياه، فأصبح العزيز مولعاً بعلم يوسف(ع) وجعله مقرّباً لديه وأصبح عنده مكيناً أميناً، وأصبح فيما بعد هو الأمين على خزائن الأرض عنده مع كونه حديثاً بالمقارنة بأولئك المخضرمين الذين عاشوا على موائد العزيز مدة طويلة.
الطبقة الثالثة: طبقة الظلمة وأعوان الظلمة
وتتمثل هذه الطبقة في مختلف أصناف الناس في حِرَفهم المختلفة، فهم تارة حاشية وخدم وحشم للطبقة الحاكمة، فتتملق لها ولا تخالف آراءها، وأخرى قواد عسكريون يمارسون الظلم فعلاً تحت عنوان واحد (أنهم يؤدون واجبهم فقط) ولا يهمهم بعد حتى وإن كان المأمور به هو إلقاء قنبلة ذرية أو هيدروجينية ليقتل (170) ألفاً من البشر، ومثلهم طبقة الجنود في هذا الانقياد الأعمى. وهناك أيضاً جماعة السجّانين ۔ الذين كانوا على رأس سجن يوسف ۔ وجماعة النخّاسين وهم الذين ابتاعوا يوسف ليبيعوه بثمن بخس، وهم الذين لا يرون في الإنسان إلا يداً عاملة لابد من تسخيرها، وبيعها رقيقاً في سوق النخاسة، أو سوق اليد العاملة، كما تباع الأوراق المالية أو الأسهم في أسوق البورصة. وهناك طبقة من العاطلين عن العمل، ونريد بالعاطلين عن العمل تلك الجماعة التي لا تقوم بدور حقيقي في عملية الإنتاج على مختلف المستويات الإنسانية، حتى وإن كان لهم عمل رسمي ومنصب معترف به عند حكوماتهم، فهم طبقة من البطّالين الذين لا شغل لهم سوى أنهم يتناقلون الشائعات والأحاديث، وقد حدثنا القرآن الكريم عن بعضهم في قصة يوسف(ع)، وسماهم (نسوة المدينة).
وهم قد يلعبون دوراً خبيثاً في هذه الأيام مع تطور وسائل الارتباط، حتى أصبحنا نعيش ظاهرة العولمة، في هذه الأيام يمكن لهؤلاء أن يتستروا تحت أغطية وعناوين متطورة من قبيل الصحفيين والمراسلين والمحللين الخبريين وأمثالها، هؤلاء قد يلعبون دوراً خفياً في تزوير الحقائق والتكتم بالرأي العام وإثارة الشبهات والافتراءات، وألوان التشهير والقذف والغيبة والغمز واللمز والنميمة، وقد ذمّهم القرآن الكريم ذماً قوياً بقوله: <وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ>[92].
وإنما جعلنا كل هؤلاء ضمن طبقة واحدة رغم اختلاف حِرفهم ومهنهم؛ فلأن القاسم المشترك الذي يجمعهم هو الظلم سواء كان ظلماً لأنفسهم أو للآخرين، فهم ظلمة أو أعوان الظلمة.
الطبقة الرابعة: المظلومون والمستضعفون
هذه الجماعة من الناس غالباً ما تكون ضحية لظلم الطبقات المشار إليها قبل قليل، فتارة يمكن أن يكونوا مستعبدين ليباعوا من قبل الذين استعبدوهم من النخّاسين في سوق النخّاسة، أو أيدي عاملة رخيصة ليستغلهم الرأسماليون في إنجاح مشاريعهم الاقتصادية، وأخرى يكونون غلماناً في بيوت الطبقة الحاكمية التي تريد أن تجعلهم آلة لتحقيق رغباتهم ونزواتهم، وثالثة كبش الفداء لتحقيق مآرب سياسية معينة ليكونوا سجناء بلا ذنب اقترفوه سوى أنهم استعصموا بالله ورفضوا الخيانة، ورابعة ضحايا الافتراءات والإشاعات المغرضة من قبل أولئك البطّالين والعاطلين عن العمل.
هذه الجماعة مكلفة بنصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة أن تدافع عن نفسها وترفض الظلم بأي طريقة ممكنة ومقبولة شرعاً وعقلائياً، ولا داعي لشرحها هنا.
هذا غاية ما أسعفنا الوقت لتحريره في هذه العجالة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1]. راجع المدرسة القرآنية، الإمام الشهيد الصدر(قده)، طبعة دار التعارف، وطبعة أخرى بالاسم المذكور أعلاه من إحدى دور النشر في بيروت، لبنان.
[2]. راجع التفسير الموضوعي والفلسفة الاجتماعية في المدرسة اللقرآنية، تحقيق وتعليق وتنقيح الشيخ جلال الدين الصغير، ط الدار العالمية، بيروت، لبنان.
[3]. م. ن، 178
[4]. م. ن.
[5]. راجع: اليوم الموعود، السيد الشهيد الصدر الثاني(قده)، ص 393 وما بعدها.
[6]. طه: 77.
[7]. البقرة: 257.
[8]. محمد: 7.
[9]. آل عمران: 144.
[10]. القصص: 4.
[11]. الأنعام: 159.
[12]. آل عمران: 103.
[13]. الأنبياء: 92.
[14]. المجادلة: 11.
[15]. الأنعام: 132.
[16]. الأنفال: 70 و71.
[17]. مختصر تفسير الميزان، سليم الحسني، ص 186.
[18]. النساء: 59
[19]. التوبة: 71.
[20]. التوبة: 88 و89.
[21]. الأنعام: 122.
[22]. تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج 9، ص 361.
[23]. التوبه: 20.
[24]. الحج: 40 و41.
[25]. تهذيب التفسير الكبير للإمام الرازي، حسين بركة الشامي، ج 5، ص 107۔ 108، ط دار الإسلام، لندن.
[26]. الأعراف: 157.
[27]. مختصر تفسير الميزان، سليم الحسني، ص 170.
[28]. الأنفال: 72.
[29]. الأنفال: 74.
[30]. التوبة: 99.
[31]. تهذيب التفسير الكبير، حسين بركة الشامي، ج 3، دار الإسلام، لندن.
[32]. راجع: تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج 9، ص 381.
[33]. الواقعة: 10.
[34]. التوبة: 100.
[35]. نقلناه عن تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج 9، ص 381.
[36]. مختصر تفسير الميزان، سليم الحسني، ص 203، دار الإسلام، لندن.
[37]. التوبة: 102.
[38]. راجع: تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج 9، ص 383.
[39]. التوبة: 80.
[40]. التوبة: 101.
[41]. التوبة: 42.
[42]. التوبة: 86 و87.
[43]. التوبة: 48 و49.
[44]. التوبة: 50.
[45]. التوبة: 54.
[46]. التوبة: 56.
[47]. التوبة: 97.
[48]. تهذيب تفسير الفخر الرازي، حسين بركة الشامي، ج 3، ص 599، دار الإسلام، لندن.
[49]. تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج 9، ص 370 ۔ 371.
[50]. آل عمران: 113.
[51]. آل عمران: 110.
[52]. آل عمران: 113.
[53]. آل عمران: 199.
[54]. النساء: 159.
[55]. المائدة: 77.
[56]. آل عمران: 70 ۔ 71.
[57]. آل عمران: 72.
[58]. البقرة: 105.
[59]. البقرة: 109.
[60]. آل عمران: 69.
[61]. الحج: 11.
[62]. تهذيب تفسير الفخر الرازي، حسين بركة الشامي، ج 5، ص 80، دار الإسلام، لندن.
[63]. البقرة: 214.
[64]. الحج: 15.
[65]. مختصر تفسير الميزان، سليم الحسني، ص 333، دار الإسلام، لندن.
[66]. راجع: موسوعة التاريخ الإسلامي، العصر النبوي، العهد المكي، الشيخ اليوسفي، ص 563، ط مجمع الفكر الإسلامي.
[67]. النمل: 20 ۔ 26.
[68]. النمل: 29 ۔ 32.
[69]. سيرة ابن هشام، ج 1، ص 362.
[70]. النمل: 43 و44.
[71]. موسوعة التاريخ الإسلامي، الشيخ اليوسفي، ص 585.
[72]. يوسف: 111.
[73]. يوسف: 54 و55.
[74]. يوسف: 88.
[75]. النمل: 35 ۔ 43.
[76]. موسوعة التاريخ الإسلامي، ج 1، ص 585.
[77]. النمل: 32.
[78]. يوسف: 30.
[79]. يوسف: 35.
[80]. يوسف: 29.
[81]. يوسف: 23.
[82]. يوسف: 32.
[83]. النمل: 34.
[84]. النمل: 30.
[85]. تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج 15، ص 358.
[86]. موسوعة التاريخ الإسلامي، ج 1، ص 569 ۔ 570.
[87]. م. ن، ص 579.
[88]. م. ن، ص 585.
[89]. النمل: 33.
[90]. يوسف: 43 و44.
[91]. موسوعة التاريخ الإسلامي، ج 1، ص 581.
[92]. الهمزة: 1.