تطور نظرية المعرفة عند الإمام الشهيد الصدر

حسن جابر النوري

أهمية البحث عن نظرية المعرفة

كيف تريد أن ترى العالم؟ هل تريد أن تراه مادياً فقط أو أوسع من المادة؟ إن ذلك مرتبط بما تملكه من أدوات للمعرفة والاكتشاف؛ هل بإمكانك أن تحكم باستحالة مربع له ثلاث أضلاع فقط؟ إن هذا أيضاً ممكن في حالة ولا يمكن في حالة أخرى، وهل من الضروري لتكوين المعرفة أن تعتقد بمبادئ ومسائل قبل التجربة والإحساس؟ وقد يعين الإحساس على إدراكها في مراحل مقبلة للذهن كمبدأ عدم التناقض وأن الوجود والعدم يستحيل اجتماعهما. وهل أن بحث الإدراك وتفسيره سيؤثر على مدى قدرتنا على المعرفة؟ وهل سيوسّعها في حالة ويضيّقها في حالة أخرى؟ نعم هذه هي الحقيقة التي أشبعها بحثاً كتاب فلسفتنا (وجاء كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ليكمل) النتائج الصحيحة في الكتاب السابق عليه ولتناقش في بعض نتائجه.

موضوع نظرية المعرفة

في ضوء هذا البحث يتحدد مصير الفكر والتفلسف وترى (الموسوعة الفلسفية المختصرة) أن مجموعة جدُ متنوعة من المشكلات الفلسفية ليس بينها رباط وثيق تتعلق بالأفكار، من قبيل المعرفة والإدراك والتيقن والتخمين والوقوع في الخطأ والتذكر والتبيين والإثبات والاستدلال والتأكيد والتعزيز والتساؤل والتأمل والتحليل ورؤية الأحلام وهلم جراً، وكثيراً ما يسمى هذا الجزء من الفلسفة بـ(نظرية المعرفة) أو الإبيستمولوجيا.[1]

أما الدكتور عبد الرحمن بدوي[2] فيرى أن نظرية المعرفة تبحث في مدى ما تستطيع عقولنا الوصول إليه في إدراك حقيقة الكون والطبيعة والإنسان، وما هي أدوات المعرفة الصحيحة، وما قيمة هذه الأدوات وأدوارها في تحصيل المعرفة البشرية.

والإمام الشهيد الصدر يقول بأن البحث في المقياس العام للمعرفة البشرية والمبادئ الأولى لهذه المعرفة هو الذي يقدّم للفلسفة مبررات وجودها أو يحكم عليها بالانسحاب والتخلي عن وظيفتها للعلوم الطبيعية. وقد أوضح السيد الصدر المقصود بهذا البحث وما هي فائدته وثمرته على مجمل التفكير البشري وعلى السلوك الاجتماعي. ولأول مرة يطبّق فيلسوف نظريته على الواقع الاجتماعي ويجعل المسألة الاجتماعية هدفاً وغاية للبحث الفلسفي، وحين يحدّد الهدف من الفلسفة تكون الفلسفة علماً نافعاً وهادفاً ويكون الفيلسوف عنصراً فعالاً ومؤثراً، وبالتالي يزول من الأذهان التصور المعقّد والسلبي نحو الفلسفة والفيلسوف، ويحل محله تصور جديد وفهم إيجابي لدور الفلسفة والفيلسوف في تكوين الرؤية الأيديولوجية للبشرية.

ونلاحظ في تاريخ أغلب الفلاسفة حدوث تحول خطير يستهدف نفع المجتمع؛ ففي البيئة المسيحية يظهر (أوغست كونت) ليأسس ديناً بعد عجزه عن قبول أفكار المسيحية. وفي البلاد الإسلامية يجرّد عبد الرحمن بدوي سلاحه الفلسفي والفكري ليدافع عن الإسلام وهذا ما فعله قبله زكي نجيب محمود.

إن عودة هؤلاء الفلاسفة إلى هويتهم الإسلامية سوف يسهم إسهاماً بالغاً في تقريب كثير من الشباب إلى الفلسفة؛ لأن مواقع البطولة هي المؤثرة في أذهان الشباب وحين يكون الفيلسوف مقاتلاً وبطلاً، فإنه يتحول إلى قدوة وأنموذج يُحتذى، وتحمّل المسؤولية من قبل الفيلسوف لا يعني فقط أنه يتعامل مع الأذهان والعقول بالشرح والتحليل، بل يضيف إلى ذلك الإقناع والتدليل بالقول والعمل، وهل هناك أنفع للفلسفة من أن يقع الفيلسوف شهيداً دفاعاً عن منهج اكتشفه وخدم به دينه ورسالته كما فعل السيد الشهيد الصدر، ولا عجب أن يستشهد الفيلسوف كما يقع المقاتل شهيداً، فكلاهما يدافع عن عقيدته ورسالته.

نظرية المعرفة وقيمتها عند الشهيد الصدر

انفرد السيد الصدر(قده) من بين فقهاء المسلمين وعلمائهم بتكوين نظرية في المعرفة جديدة على التفكير المنطقي والفلسفي الكلاسيكي والحديث، حيث اكتشف النواقص في المدرسة القديمة والحديثة فتداركها لينتهي إلى نظرية تجمع بين حسنات المدرستين، ولا يمكن من خلال بحث واحد ولكاتب واحد الإلمام بتفاصيل رؤيته الجديدة نحو المعرفة، خصوصاً إذا لاحظنا التطور الحاصل في نظريته المطروحة في (فلسفتنا) والمتكاملة في (الأسس المنطقية للاستقراء)؛ وهذا يعني أن الباحث لابد له من المرور على نظرية فلسفتنا في المعرفة ليقارنها بما جاء في الأسس، كما أن السيد الصدر لم يُشر هو بنفسه إلى كل المفردات التي تخالف فيها الكتابان، ثم إن هناك من يرى أن السيد الصدر لم يأت ببحث مستقل تحت هذا العنوان (نظرية المعرفة) في غير كتاب فلسفتنا، ولكن هذا لا يضير بالبحث عن نظريته في المعرفة؛ لأن خلاصة آراءه الأخيرة في المعرفة استوعبتها (الأسس المنطقية للاستقراء) وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن السيد الصدر أقرّ ما جاء في (فلسفتنا) مما لم يغيّره في الأسس. وسنجد أن الصدر لن يشير في الأسس إلى نظريته في التصورات ومصدرها؛ أي أنه أبقى نظرية الانتزاع كمصدر للتصورات على ما هي عليه، كما أنه سيشير إلى أن مصدر التصديقات المطابقة للواقع ليس هو نفس المصدر المذكور في فلسفتنا.

كما أن إثبات حقيقة أن للعلم والصور الذهنية مطابق في عالم الخارج أو الواقع ليس دليله قانون العلية؛ لأن هذا القانون لا يثبت إلا وجود علة لتولد الصور، أما المصدر الأساسي فلا يحدده هذا القانون. ويرى البعض أن السيد الصدر لم يمهَل الوقت الكافي لإشباع البحث في النظرية وتكميله، ولكننا نعلم أن السيد كان بعد تأليفه للأسس يشير باستمرار إلى نظريته الجديدة في المعرفة ومذهبه الذي أبدعه (المذهب الذاتي)، مما يعني أنها تكاملت في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء.

يمكننا عرض نظرية المعرفة للشهيد الصدر بالشكل التالي:

النظرية في (فلسفتنا).

النظرية في (الأسس المنطقية للاستقراء).

تطبيقات النظرية في المجالات المختلفة.

العقائد، ونأخذ مثالاً لذلك تفسير المعجزة وكيفية الاستدلال بها.

والإمامة والولاية.

نظرية المعرفة في فلسفتنا

منهج البحث

تحديد الموضوع وعرض مختلف النظريات ومناقشتها

اختيار الصحيح منها

تحديد الموضوع

ما هي مصادر الفكر ومقاييسه؟

مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية

الركائز الأولية للكيان الفكري، المصدر الممون لسيل الفكر والإدراك

الخيوط الأولية للتفكير.

الينبوع العام للإدراك بصورة عامة.

تقسيم الإدراك.

تقسيم الإدراك إلى قسمين:

التصور وهو الإدراك الساذج والتصديق هو الإدراك المنطوي على حكم وهنا يتفرع البحث إلى فرعين:

الأول: ما هو المصدر الأساسي للتصور؟ ما هو المصدر الحقيقي للتصورات والإدراكات البسيطة كتصور الكتاب والنار؟ وما يعالج هنا هو مصدر المفردات التصورية لا مركبات التصور كالجبل من الذهب.

يستعرض السيد أربع نظريات ليبطل الثلاثة الأولى ويختار الرابعة وتعتمد منهجيته هنا على ذكر مشاكل فكرية تواجه النظريات الثلاثة الأولى ولا تعجز الرابعة عن حلها والتغلب عليها، وكان عرضه كما يلي:

نظرية الاستذكار الأفلاطونية التي ترى أن الإحساس استرجاع واستذكار للتصورات العامة التي أدركتها في عالم المجردات والمثل وهو عالم حافل بالحقائق الكلية، وعلى هذا فالعالم والإدراك العقلي لا يتعلق بالجزئيات بل بالأمور العامة والكلية. وقد ناقش أرسطو هذه النظرية بإثبات أن الكلي لا يوجد في الذهن إلا بعد إدراك الجزئيات وتجريدها عن خصوصياتها أو بانتزاع المعنى الكلي من الجزئيات.

النظريات العقلية (ديكارت، كانت)

هناك منبعان للمعرفة هما الإحساس والفطرة. لماذا اختاروا هذه النظرية؟ لأن بعض التصورات والمعاني لا يمكن إرجاعها إلى الحس؛ لأنها غير محسوسة. إذن هي مستنبطة من النفس استنباطاً ذاتياً.

الرد عليها بأسلوبين:

١. تحليل الإدراك: بحيث يرجع برمته إلى الحس. جون لوك، باركلي وديفيد هيوم.

٢. الأسلوب الفلسفي: كيف يتولد كمّ هائل من المعارف من النفس وهي عنصر بسيط.

هذا الرد غير تام إذا ملكنا كمية المعارف الفطرية.

ويمكن أن تبيّن النظرية العقلية بشكل آخر تكون مقبولة فيه ولا يرد عليه كلا الردين؛ لأن التصور الفطري يحتويه الوجود النفسي لا شعورياً، وبتكامل النفس يغدو شعورياً واضحاً، كالمعلومات التي يتذكرها الإنسان.

النظرية الحسية

التي ترى أن الإحساس هو الممون الوحيد للذهن البشري بالتصور والمعاني، والذهن مجرد عاكس للإحساس، وظيفة الذهن إذن التصرف في صور المعاني المحسوسة بالتركيب والتجزئة أو التجريد والتعميم.

نظرية جون لوك

شاعت بين فلاسفة أوروبا وقضت إلى حد ما على نظرية الأفكار الفطرية ونتائج هذه النظرية الخطرة، كما سيظهر في فلسفة باركلي وهيوم، والمعروف أن الماركسية اختارت هذه النظرية؛ لأنها ترى في الشعور البشري أنه انعكاس للواقع الموضوعي وكان دليلها التجربة. فإن من حرم لوناً من ألوان الحس فلا يتصور المعاني ذات العلاقة بذلك الحس الخاص. هذه التجارب تبرهن على أن الحس هو المصدر الأساسي للتصور ولا تنفي قدرة الذهن على توليد معاني جديدة غير محسوسة من المعاني المحسوسة.

الرد على الحسيين

نعرض هذه الطائفة من التصورات على الحسيين وهي ما يلي:

العلة والمعلول والجوهر والعرض والإمكان والوجوب والوحدة والكثرة والوجود والعدم؛ هل يمكن إرجاع هذه المفاهيم إلى الحس؟

فالمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحس لنفس العلية واعتبارها مبدأ حسياً، تقوم على تجنب العمق والدقة في معرفة مبدأ أن الحس وما يتسع له من معاني وحدود؛ لأن التجربة العلمية لا تكشف بالحس إلا الظواهر المتعاقبة، وديفيد هيوم فيلسوف دقيق أنكر العلية وأرجعها إلى عادة ذهنية هي تداعي المعاني.

رد الشهيد الصدر على هيوم

إنكار العلية كحقيقة موضوعية يعني عدم تصديقنا بكونه قانوناً خارجياً، ولسنا نتكلم عن التصديق بل عن التصور. وهل ينفي هيوم تصوره للعلية؟ وهل ينفي الإنسان شيئاً لم يتصوره؟ ولا يمكن لهيوم أن يقول إن تصور العلية تصور مركب من تصور الحرارة والغليان، بل العلية فكرة ثالثة تقوم بينهما أو صلة خاصة بينهما، فإذا لم يكن للذهن خلاقية وقدرة على الإبداع فكيف حصلت هذه الفكرة.

نظرية الانتزاع

وتقوم على تقسيم التصورات إلى قسمين: التصورات الأولية والتصورات الثانوية.

والأولية هي الأساس التصوري للذهن البشري، وهي تتولد من الإحساس، وتشكّل المعاني المحسوسة والمتصورة. القاعدة الأولية للتصور والذهن ينشأ بناء على قاعدة تلك التصورات.

أما التصورات الثانوية وهنا يبدأ دور الابتكار والإنشاء، فيولد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأولية، وهي خارجة عن طاقة الحس لكنها مستنبطة ومستخرجة من المعاني المحسوسة.

تقييم نظرية الانتزاع

١. البرهان والتجربة يساعدان على إثبات هذه النظرية.

٢. يمكنها تفسير جميع المفردات التصورية تفسيراً متماسكاً.

فالعلة والمعلول والجوهر والعرض تولّدا بابتكار الذهن لها.

الثاني: التصديقية

أصل المعرفة التصديق والركائز الأساسية التي يقوم عليها صرح العلم الإنساني.

ما هي الخيوط الأولية التي نسجت منها تلك المجموعة الكبيرة من الأحكام والعلوم؟ وما هو المبدأ الذي تنتهي إليه المعارف البشرية في التعليل وتعتبر مقياساً أولياً عامة لتمييز الحقيقة عن غيرها؟ هناك مذهبان: المذهب العقلي، المذهب التجريبي.

المذهب العقلي يقسّم المعلومات التصديقية إلى قسمين: أولية وهي البديهيات، وثانوية وهي المعلومات المستنتجة من الأولى، حيث إن المعارف ضرورية ونظرية، والضرورية تضطر النفس للإذعان بها من غير المطالبة بدليل أو برهان، بل تجد من طبيعتها ضرورة الإيمان بها إيماناً غنياً عن كل بينة وآيات، والحجر الأساس للعلم هو المعلومات العقلية الأولية وعلى ذلك الأساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الإنساني والتي تسمى بالمعلومات الثانوية.

التفكير هو العملية التي تستنبط بها معرفة نظرية من معارف سابقة ويؤمن المذهب العقلي بقيام علاقة السببية في المعرفة البشرية بين بعض المعلومات وبعض.

فإن كل معرفة إنما تتولد من معرفة سابقة، وهكذا تلك المعرفة، حتى ينتهي التسلسل الصاعد إلى المعارف العقلية الأولية التي لم تنشأ من معارف سابقة، ولهذا السبب تعتبر هذه المعارف القبلية العلل الأولى للمعرفة. وهي على نوعين:

ما تكون شرطاً أساسياً لكل معرفة إنسانية بصورة عامة وهو مبدأ عدم التناقض.

ما يكون سبباً لقسم من المعلومات كمبدأ العلية.

نتائج

١. المقياس الأول للتفكير هو المعارف العقلية الضرورية.

٢. السير الفكري يتدرج من العام إلى الخاص ومن الكليات إلى الجزئيات حتى التجريبيات.

المذهب التجريبي يرى أن التجربة هي المصدر الأول لجميع المعارف البشرية والإنسان يولد وهو خالي الذهن من كل معرفة نظرية، ولا يملك الإنسان حكماً يستغني عن التجربة في إثباته.

ومن النتائج المترتبة على هذا المذهب:

١. تحديد طاقة الفكر البشري بحدود الميدان التجريبي.

٢. السير الفكري ينطلق من الخاص إلى العام ومن الجزئيات إلى الكليات.

وبهذا يعتمد المذهب التجريبي على الاستقراء.

الرد على المذهب التجريبي

١. نفس القاعدة التي يعتمد عليها التجريبيون إما أن تكون تجريبية أو غير تجريبية. فلا يمكن للتجربة أن تعطي قيمة لنفسها، وإن لم تكن تجريبية فالقاعدة المتقدمة لا تشملها أي أنها باطلة.

٢. المادة والجوهر لا يمكن كشفهما بالتجربة.

٣. لن يستطيع المذهب التجريبي الحكم باستحالة شيء أو بضرورة شيء آخر، ومع سقوط مفهوم الاستحالة يكون التناقض ممكناً ومع إمكانه تنهار العلوم.

۴. العلية لا تثبت عن طريق التجربة.

ومع انهيار مبدأ العلية تنهار قاعدة إثبات العلوم. لهذا حاول هيوم إرجاع عنصر الضرورة إلى طبيعة العملية العقلية.

يمكن للمذهب العقلي تفسير الضرورة في الرياضيات وغيرها من العلوم.

لماذا لم تكن البديهيات موجودة عند الإنسان منذ نشأته؟

إن المعارف الأولية وإن كانت تحصل للإنسان بالتدريج، إلا أن هذا التدريج ليس معناه أنها حصلت بسبب التجارب الخارجية، بل التدريج إنما هو باعتبار الحركة الجوهرية والتطور في النفس الإنسانية، فهذا التطور والتكامل الجوهري هو الذي يجعلها تزداد كمالاً ووعياً للمعلومات والمبادئ الأساسية، فيفتح ما كمن فيها من طاقات وقوى.

إذن هناك وجود بالقوة وباللاشعور لهذه المعارف.

أي أن النفس الإنسانية تنطوي على ما بالقوة على تلك المعارف الأولية، وبالحركة الجوهرية يزداد وجودها شدة حتى تصبح تلك المدركات بالقوة مدركات بالفعل.

وبدون تصور الوجود والعدم والاجتماع لا يمكن الحكم باستحالة اجتماع النقيضين، فإن تصديق الإنسان بشيء لا يحصل بدون تصوره.

والتصورات الذهنية ترجع جميعاً إلى الحس بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فيجب أن يكتسب الإنسان مجموعة التصورات التي يتوقف عليها مبدأ عدم التناقض عن طريق ما، ليتاح له أن يحكم بهذا المبدأ ويصدق به. وتأخر ظهور المبدأ لا يعني كونه تجريبياً، إن التصورات الخاصة هي شروط وجوده وصدوره عن النفس.

المفهوم الفلسفي للعالم

طرح السيد الشهيد نظرية المثاليين ومفهومهم عن العالم وقابله بمفهوم الواقعيين، الذين يرون أن وراء الفكر والأحكام الذهنية حقائق واقعية خارجية؛ فكرتنا عن حرارة النار لها مطابق خارجي، والواقعيون: ماديون وإلهيون.

والماديون يعتقدون أن لا وجود واقعي لغير ما هو مادي، بينما يرى الإلهيون وجود أشياء واقعية وراء عالم المادة، ونفس التصنيف يرد في مسألة الإدراك، حيث إن وجهتي النظر المادية والإلهية انطبقت على الإدراك، فالمادية ترى أن الفكر عمل مادي في عضو مادي، بينما ترى الإلهية أن الفكر عمل خلاق للعقل لا يقع في العضو المادي كالدماغ. واستدل الإلهيون بأدلة لهذا الأمر، منها ظاهرة الثبات في الأفكار بينما لا ثبات لما هو مادي، ومنها ظاهرة المطابقة الكاملة للفكر مع الواقع الخارجي بمساحاته وأشكاله الهندسية مع سعتها بينما العضو المادي مهما كبر لا يتسع لهذه المساحات.

ويؤيد الإمام الصدر مفهومه الإلهي عن العالم ببحوث عن المادة في مختلف الأصعدة العلمية والفلسفية، لينتهي إلى نتيجة هي عدم قدرة المفهوم المادي على تفسير ظهور الحياة من غير صانع ومبدع وأن المادة ليست أزلية. ولنقارن كلام السيد الصدر بكلام لعالمين كبيرين حول الموضوع؛ يقول العالمان (روبرت أغروس) و(جورج ستانسيو) في كتابهما العلم في منظوره الجديد ص 64 ۔ 65.

يبدو إذن أن المادة ليست أزلية بالرغم من كل شيء. وكما يعلن عالم الفيزياء الفلكية جوزف سلك (Joseph Silk) فإن (بداية الزمن أمر لا مناص منه). كما يخلّص الفلكي روبرت جاسترو (Robert Jastrow) إلى أن (سلسلة الحوادث التي أدت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة).

فهل من مكان لإله فيكون كهذا؟ الفيزيائي إدموند ويتيكر (Edmund Whittaker) يعتقد كذلك. فهو يقول: (ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الإنفجار العظيم وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم). وينتهي الفيزيائي إدوارد ميلن (Edward Milne) بعد تفكره في الكون المتمدد إلى هذه النتيجة، أما العلة الأولى للكون في سباق التمدد فأمر إضافتها متروك للقارئ، ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله).

أما النظرة العلمية الجديدة فترى أن الكون بمجموعه ۔بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان۔ حدث وقع في وقت واحد وكانت له بداية محددة. ولكن لابد من أن شيئاً ما كان موجوداً على الدوام؛ لأنه إذا لم يوجد أي شيء الذي كان موجوداً على الدوام لما كان للمادة بداية. وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل 12 إلى 20 مليار سنة. وبمعنى ذلك أن أي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي، ويبدو أن الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل. فإذا كان العقل هو الشيء الذي وجد دائماً فلابد من أن تكون المادة من خلق عقل أزلي الوجود. وهذا يشير إلى وجود كائن عاقل وأزلي خلق كل الأشياء. وهذا الكائن هو الذي نعنيه بعبارة (الله).

نظرية المعرفة في فلسفتنا

نستطيع أن نستخلص الخطوط العريضة لمذهبنا في المعرفة وتتلخص فيما يأتي:

الخط الأول: أن الإدراك البشري على قسمين: أحدهما التصور والآخر التصديق. وليس للتصور بمختلف ألوانه قيمة موضوعية؛ لأنه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا، وهو لا يبرهن ۔إذا جرّد عن كل إضافة۔ على وجود الشيء موضوعياً خارج الإدراك، وإنما الذي يملك خاصية الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي هو التصديق أو المعرفة التصديقية. فالتصديق هو الذي يكشف عن وجود واقع موضوعي للتصور.

الخط الثاني: أن مردّ المعارف التصديقية جميعاً إلى معارف أساسية ضرورية، لا يمكن إثبات ضرورتها بدليل أو البرهنة على صحتها، وإنما يشعر العقل بضرورة التسليم والاعتقاد بصحتها، كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية والمبادئ الرياضية الأولية، فهي الأضواء العقلية الأولى، وعلى هدي تلك الأضواء يجب أن تقام سائر المعارف والتصديقات، وكلما كان الفكر أدق في تطبيق تلك الأضواء وتسليطها كان أبعد عن الخطأ. فقيمة المعرفة تتبع مقدار ارتكازها على تلك الأسس ومدى استنباطها منها، ولذلك كان من الممكن استحصال معارف صحيحة في كل من الميتافيزيقا والرياضيات والطبيعيات على ضوء تلك الأسس، وإن اختلفت الطبيعيات في شيء وهو أن الحصول على معارف طبيعية بتطبيق الأسس الأولية يتوقف على التجربة التي تهيء للإنسان شروط التطبيق، وأما الميتافيزيقا والرياضيات فالتطبيق فيها قد لا يحتاج إلى تجربة خارجية.

وهذا هو السبب في أن نتائج الميتافيزيقا والرياضيات نتائج قطعية في الغالب، دون النتائج العلمية في الطبيعيات، فإن تطبيق الأسس الأولية في الطبيعيات لما كان محتاجاً إلى تجربة تهيء شروط التطبيق، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جميع الشروط، فلا تكون النتيجة القائمة على أساسها قطعية.

ولنأخذ لذلك مثالاً من الحرارة. فلو أردنا أن نستكشف السبب الطبيعي للحرارة، وقمنا بدراسة عدة تجارب عملية، ووضعنا في نهاية المطاف النظرية القائلة: (إن الحركة سبب الحرارة)، فهذه النظرية الطبيعية في الحقيقة نتيجة تطبيق لعدة مبادئ ومعارف ضرورية على التجارب التي جمعناها ودرسناها، ولذا فهي صحيحة ومضمونة الصحة بمقدار ما ترتكز على تلك المبادئ الضرورية. فالعالم الطبيعي يجمع أول الأمر كل مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث، كدم بعض الحيوانات والحديد المحمى والأجسام المحترقة وغير ذلك من آلاف الأشياء الحارة، ويبدأ بتطبيق مبدأ عقلي ضروري عليها وهو مبدأ العلية القائل (إن لكل حادثة سبباً). فيعرف بذلك أن لهذه المظاهر من الحرارة سبباً معيناً، ولكن هذا السبب حتى الآن مجهول ومردد بين طائفة من الأشياء، فكيف يتاح تعيينه من بينها؟

ويستعين العالم الطبيعي في هذه المرحلة بمبدأ تلك الطائفة من الأشياء التي يوجد بينها السبب الحقيقي للحرارة، فيستبعد عدة من الأشياء ويسقطها من الحساب، كدم الحيوان ۔مثلاً۔ فهو لا يمكن أن يكون سبباً للحرارة؛ لأن هناك من الحيوانات ما تكون دماؤها باردة، فلو كان هو السبب للحرارة لما أمكن أن تنفصل عنه ويكون بارداً في بعض الحيوانات. ومن الواضح أن استبعاد دم الحيوان عن السببية لم يكن إلا تطبيقاً للمبدأ الآنف الذكر الحاكم بأن الشيء لا ينفصل عن سببه، وهكذا يدرس كل شيء مما كان يظنّه من أسباب الحرارة، فيبرهن على عدم كونه سبباً بحكم مبدأ عقلي ضروري. فإن أمكنه أن يستوعب بتجاربه العلمية جميع ما يحتمل أن يكون سبباً للحرارة، ويدلل على عدم كونه سبباً، كما فعل في دم الحيوان، فسوف يصل في نهاية التحليل العلمي إلى السبب الحقيقي ۔حتماً۔ بعد إسقاط الأشياء الأخرى من الحساب، وتصبح النتيجة العلمية حينئذ حقيقة قاطعة، لارتكازها بصورة كاملة على المبادئ العقلية الضرورية، وأما إذا بقي في نهاية الحساب احتمالان أو أكثر ولم يستطع أن يعيّن السبب على ضوء المبادئ الضرورية، فسوف تكون النظرية العلمية في هذا المجال ظنية وليست قطعية.

وعلى هذا نعرف:

أولاً: أن المبادئ العقلية الضرورية هي الأساس العام لجميع الحقائق العلمية، كما سبق في الجزء الأول من المسألة.

ثانياً: أن قيمة النظريات والنتائج العلمية في المجالات التجريبية موقوفة على مدى دقتها في تطبيق تلك المبادئ الضرورية على مجموعة التجارب التي أمكن الحصول عليها؛ ولذا فلا يمكن إعطاء نظرية علمية بشكل قاطع إلا إذا استوعبت التجربة كل إمكانيات المسألة واحتمالاتها، وبلغت إلى درجة من السعة والدقة بحيث أمكن تطبيق المبادئ الضرورية عليها، وإقامة استنتاج علمي موحد على أساس ذلك التطبيق.

ثالثاً: في المجالات غير التجريبية ۔كما في مسائل الميتافيزيقا۔ ترتكز النظرية الفلسفية على تطبيق المبادئ الضرورية على تلك المجالات، ولكن هذا التطبيق قد يتم فيها بصورة مستقلة عن التجربة. ففي مسألة إثبات العلة الأولى للعالم ۔مثلاً۔ يجب على العقل أن يقوم بمحاولة تطبيق مبادئه الضرورية على هذه المسألة، حتى يضع بموجبها نظريته الإيجابية أو السلبية، وما دامت المسألة ليست تجريبية فالتطبيق يحصل بعملية تفكير واستنباط عقلي بحت وبصورة مستقلة عن التجربة.

وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها، ونقول (في كثير من مجالاتها) لأن استنتاج النظرية الفلسفية أو الميتافزيقية من المبادئ الضرورية في بعض الأحايين يتوقف على التجربة أيضاً، فيكون للنظرية الفلسفية حينئذ نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.

الخط الثالث: عرفنا أن المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصور ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا. وعرفنا أيضاً أن هذه المعرفة التصديقية مضمونة بمقدار ارتكازها على المبادئ الضرورية. فالمسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية ۔فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة۔ والواقع الموضوعي الذي صدّقنا بوجوده من ورائها.

والجواب على هذه المسألة هو أن الصورة الذهنية التي نكوّنها عن واقع موضوعي معين فيها ناحيتان: فهي من ناحية تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافاً أساسياً؛ لأنها لا تملك الخصائص التي تمتّع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء، ولا تتوفر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعالية والنشاط. فالصورة الذهنية التي نكوّنها عن المادة أو الشمس أو الحرارة ۔مهما كانت دقيقة ومفصلة۔ لا يمكن أن تقوم بنفس الأدوار الفعالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصور الذهنية في الخارج، وبذلك نستطيع أن نحدّد الناحية الموضوعية للفكرة.

والناحية الأخرى وهي الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي والتي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص. فالفكرة موضوعية باعتبار تمثّل الشيء فيها لدى الذهن، ولكن الشيء الذي يمكث لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كل فعالية ونشاط مما كان يتمتع به في المجال الخارجي بسبب التصرف الذاتي، وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية والوجود.[3]

نظرية المعرفة في الأسس المنطقية

اعتمد البحث على هدم النظرية الأرسطية حول الاستقراء وإرجاع المعرفة إلى الاستقراء والطريقة الاستقرائية لا الاستنباطية.

طرح نظرية جديدة تبيّن أن الأسس المنطقية للاستقراء لا تزيد على الاعتقاد ببداهة مبدأ عدم التناقض وبديهيات ومصادرات نظرية حساب الاحتمال.

حتى العلية والسببية كمبدأ ضروري لتكوين كل معرفة تصديقية في كل المجالات التجريبية حسب فلسفتنا أصبح مبدأ يمكن الاستدلال عليه على ضوء نظرية أستاذنا الشهيد الصدر الجديدة. فهو وإن لم ينكر كون مبدأ العلية ضرورياً وبديهياً لكنه أنكر كونه ضرورياً لعملية الاستدلال بواسطة التجربة والاستقراء.

حتى يكون الاستدلال صحيحاً في رأي المذهب العقلي، لابد أن تكون طريقة التوالد فيه موضوعية لا ذاتية، وأن تكون القضايا أو المقدمات المولّدة صادقة.

وعلى هذا الأساس اضطر المنطق الأرسطي ۔نتيجة لإيمانه بالدليل الاستقرائي۔ إلى القول بأن طريقة التوالد في الاستدلالات الاستقرائية موضوعية لا ذاتية، وأن كل استدلال استقرائي مردّه إلى قياس يشتمل على كبرى عقلية قبلية تقول: إن الصدفة النسبية لا تتكرر باستمرار على خط طويل، وصغرى مستمدة من الخبرة الحسية تقول: إن (أ) و(ب) اقترنا باستمرار على خط طويل كما شرحناه.

وأكد المنطق الأرسطي بهذا الصدد: أن الأمثلة المستمدة من الاستقراء والخبرة الحسية ۔التي تكون الصغرى في القياس۔ لا تكفي وحدها لاستنتاج أي تعميم استقرائي؛ إذ لا تلازم بينها وبين التعميم موضوعياً، فلا تكون طريقة التوالد في الاستقراء موضوعية ما لم ندخل في الاستدلال الاستقرائي تلك الكبرى العقلية القبلية التي تنفي تكرر الصدفة النسبية على الخط الطويل.

وبكلمة مختصرة: إن المذهب العقلي الذي يمثّله المنطق الأرسطي، حاول أن يفسّر جميع العلوم والمعارف التي يعترف بصحتها من الناحية المنطقية بأنها إما أن تكون معارف أولية تعبّر عن الجانب العقلي القبلي من المعرفة البشرية، وإما أن تكون مستنتجة من تلك المعارف على أساس طريقة التوالد الموضوعي، وخلافاً لذلك يؤمن المذهب الذاتي في المعرفة بأن الجزء الأكبر من تلك العلوم والمعارف ۔التي يعترف المنطق الأرسطي بصحتها من الناحية المنطقية۔ مستنتج من معارفنا الأولية بطريقة التوالد الذاتي لا الموضوعي.

فهناك في رأي المذهب الذاتي معارف أولية تشكّل الجزء العقلي القبلي من المعرفة وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم.

وهناك معرفة ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي.

وهناك معرفة ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي.

ومثال المعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي: نظريات الهندسة الأقليدية المستنتجة من بديهيات تلك الهندسة بطريقة التوالد الموضوعي.

ومثال المعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الذاتي: كل التعميمات الاستقرائية، فإن التعميم الاستقرائي مستنتج من مجموعة أمثلة وشواهد لا يوجد أي تلازم بينها وبين ذلك التعميم، فالعلم بالتعميم ينشأ عن طريق العلم بتلك الأمثلة والشواهد على أساس التوالد الذاتي.

وإذا أخذنا القضايا الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي ودرسنا طريقة استنتاجها، وجدنا أن قضية من هذا النوع تستند في استنتاجها بطريقة التوالد الموضوعي إلى فئتين من القضايا: الفئة الأولى قضايا ترتبط بإنتاج تلك القضية المعنية بالذات، والفئة الثانية قضايا تقرر ثبوت التلازم بين الفئة الأولى والقضية المستنتجة بالتوالد الموضوعي.

وقضايا التلازم هذه عامة بطبيعتها ولا تختص بإنتاج قضية دون أخرى، ففي مثال (خالد إنسان وكل إنسان فانٍ) توجد لدينا ثلاث قضايا تولدت منها بصورة موضوعية القضية القائلة: (إن خالداً فان). والقضايا الثلاث هي: أولاً (خالد إنسان)، ثانياً (كل إنسان فان). ثالثاً: (كلما كان شيء عنصراً من فئة وكانت كل عناصر تلك الفئة بصفة فان، ذلك يستلزم أن يكون ذلك الشيء متصفاً بتلك الصفة).

والأولى والثانية من هذه القضايا الثلاث تدخلان في الفئة الأولى؛ لأنها قضيتان مرتبطتان بإنتاج قضية معينة، وأما القضية الثالثة فهي تدخل في الفئة الثانية؛ لأنها تقرّ تلازماً عاماً بين شكلين من القضايا مهما كان محتواها.

ونلاحظ في هذا الضوء أن الخطأ في إدراك قضية ثانوية مستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي، يستند دائماً إلى الخطأ في إحدى القضايا (المقدمات) التي ساهمت في توليد تلك القضية الجديدة، فإما أن يكون الخطأ في قضايا من الفئة الأولى أو في قضايا التلازم التي تتمثل في الفئة الثانية.

فإذا قلنا: (النفط سائل، وكل سائل يتبخر في درجة مائة في الحرارة، وكلما كان شيء عنصراً من فئة وكانت كل عناصر تلك الفئة تتصف بصفة، فإن ذلك يستلزم أن يتصف ذلك الشيء بتلك الصفة) واستنتجنا من ذلك: أن النفط يتبخر في درجة مائة، كانت النتيجة خطأ؛ لأن القضية الثانية من القضايا الثلاث التي ساهمت في التوليد خطأ.

وإذا قلنا: (إن خالداً إنسان، وبعض الناس علماء، وكلما كان شيء عنصراً من فئة، وكانت بعض أفراد تلك الفئة تتصف بصفة، فإن ذلك يستلزم أن ذلك الشيء يتصف بتلك الصفة)، واستنتجنا من ذلك: أن خالداً عالم، كانت النتيجة خطأ؛ لأن القضية الثالثة خطأ، حيث إن الشكل الأول من القياس لا يستلزم النتيجة إلا إذا كانت الكبرى كلية.

ودراسة قضايا الفئة الأولى التي ترتبط في مجال الاستنتاج بمحتوى القضية المستنتجة ومضمونها من وظيفة العلوم المختلفة، فكل عالم يتناول من تلك القضايا ما يندرج في نطاق اختصاصه.

وأما دراسة قضايا التلازم التي تتمثل في الفئة الثانية وترتبط بشكل القضية دون مضمونها ومحتواها، فهي من وظيفة المنطق الصوري الذي يعتبر المنطق الأرسطي ممثلاً له. فهو الذي يحدّد صيغ التلازم بين القضايا من ناحيتي الصور والشكلية بقطع النظر عن مادتها ومحتواها.

ولنأخذ الآن ۔بعد هذا۔ القضايا والمعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الذاتي.

إن الجزء الأكبر من المعرفة التي يعترف المذهب العقلي والمنطق الأرسطي بصحتها يعود إلى قضايا مستنتجة بطريقة التوالد الذاتي. وهو التعميمات الاستقرائية التي يؤمن العقليون بأنها معرفة عقلية صريحة من الناحية المنطقية، ويشعرون بعدم إمكان الشك فيها.

وعلى هذا فقد برهنّا في القسم الأول من هذا الكتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) على أن العلم الاستقرائي التجريبي ۔أي العلم بالتعميم القائم على أساس الاستقراء والتجربة۔ لا يمكن أن يفسّر بطريقة التوالد الموضوعي، وأن المحاولة التي قام بها المنطق الأرسطي لإعطاء الاستدلال الاستقرائي شكلاً قياسياً لكي يقوم على أساس التوالد الموضوعي لم تكن ناجحة.

وهكذا نستطيع أن نبرهن لأنصار المذهب العقلي ۔الذي يمثّله المنطق الأرسطي۔ على أن طريقة التوالد الموضوعي ليست هي الطريقة الوحيدة التي يستعملها العقل في الحصول على معارفه الثانوية، بل يستعمل إلى جانبها أيضاً طريقة التوالد الذاتي؛ لأن العقليين ما داموا يعترفون بالعلم الاستقرائي وما دمنا قد برهنا على أن العلم الاستقرائي لا يمكن أن يكون نتيجة للتوالد الموضوعي، فلابد أن يعترفوا إلى جانب ذلك بطريقة التوالد الذاتي، وهذا هو ما يدّعيه المذهب الذاتي للمعرفة.

ويترتب على هذا أن من الضروري الاعتراف بأن هذه الطريقة الجديدة للتوالد ذاتياً التي تختلف عن طريقة التوالد الموضوعي، لا يمكن إخضاعها للمنطق الصوري أو الأرسطي الذي يعالج التلازم بين أشكال القضايا؛ إذ لا تقوم طريقة التوالد الذاتي على أساس التلازم بين القضية المستنتجة والقضايا التي اشتركت في إنتاجها؛ لأن التوالد ذاتي وليس موضوعياً.

ولكن هذا لا يعني فسح المجال لاستنتاج أي قضية من أي قضية أخرى على أساس التوالد الذاتي دون تقيد بالتلازم بين القضيتين، فنستنتج مثلاً أن زيداً قد مات من (أن الشمس طالعة)، وأن حجم الأرض أكبر من حجم القمر من (أن الأرض تشتمل على معادن كثيرة)، فإن هذا يؤدي إلى جعل طريقة التوالد الذاتي مبرراً لأي استدلال خاطئ، وليس هذا ما نقصده عندما نقرّر هذه الطريقة إلى جانب طريقة التوالد الموضوعي.

إن ما نقصده الآن هو أن جزءً من المعرفة التي يؤمن بها العقليون على الأقل لم يتكون على أساس التوالد الموضوعي كما برهنا سابقاً، وإنما تكون على أساس التوالد الذاتي. وهذا يعني أنّا ما دمنا نودّ الاحتفاظ بذلك الجزء من المعرفة وبطابعه الموضوعي السليم، فلابد أن نعترف بطريقة التوالد الذاتي، وبأن العقل ينتهج هذه الطريقة في الحصول على جزء من معرفته الثانوية.

ومن ناحية أخرى نجد في كثير من الحالات أن استنتاج قضية من قضية أخرى لا تستلزمها موضوعياً يعتبر خطأ لا يقرّه العقليون ولا أي عقل سليم، من قبيل أن نستنتج أن زيداً مات من طلوع الشمس، أو أن خالداً جاء من إخبار المخبر بأن شخصاً ما قد جاء.

والمسألة الأساسية في هذا الضوء هي: كيف يمكن أن نميّز بين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا أخرى بدون تلازم موضوعي بينهما صحيحاً، وبين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا أخرى بدون تلازم موضوعي بينهما خطأ؟

وحينما نطرح المسألة بهذه الصيغة في ضوء ما توصلنا إليه من نتائج حتى الآن يبدو بوضوح: أن المنطق الأرسطي لا يكفي للجواب على هذا السؤال وتمييز الشروط التي تكسب التوالد الذاتي المعقولية والصحة؛ لأن طريقة التوالد الذاتي أساساً لا تنطبق على المنطق الأرسطي.

ومن أجل ذلك نلاحظ إذا انطلقنا من وجهة نظر المذهب الذاتي، فسوف نجد أنفسنا بحاجة إلى منطق جديد، إلى منطق ذاتي يكتشف الشروط التي تجعل طريقة التوالد الذاتي معقولة، كما احتجنا إلى المنطق الصوري لاكتشاف صيغ التلازم بين أشكال القضايا التي تجعل طريقة التوالد الموضوعي معقولة.

وأنا أعتقد أن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين؛ إذ تبدأ أولاً مرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال، غير أن طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين.

والتعميمات الاستقرائية كلها تمر بهاتين المرحلتين، ففي المرحلة الأولى ۔أي مرحلة التوالد الموضوعي۔ يتخذ الدليل الاستقرائي مناهج الاستنباط العقلي، وينمي باستمرار درجة احتمال القضية الاستقرائية على أساس موضوعي. وفي المرحلة الثانية يتخلى الدليل الاستقرائي عن منهجه الاستنباطي وطريقته في التوالد الموضوعي، ويصطنع طريقة التوالد الذاتي لتصعيد المعرفة الاستقرائية إلى درجة اليقين.

وفي هذا الصدد تقرير رائع كتبه أحد أبرز تلاميذ الإمام الشهيد الصدر حول بعض ما يتعلق بنظرية المعرفة من نتائج وآثار، رغم أنه كان بصدد بحث في أصول الفقه، وهو حرفياً كما يلي:

طريقة تولّد المعارف البشرية ۔ حسبما يصوّرها المنطق الصوري ۔ أن الفكر يسير دائماً من معارف أولية ضرورية ۔ هي أساس المعرفة البشرية ۔ إلى استنباط معارف نظرية جديدة بطريقة البرهان والقياس التي يحدّد صورتها علم المنطق. فأي خطأ يفترض: إن كان في الصورة فعلم المنطق هو العاصم منه، وإن كان في مادة القياس: فإن كانت تلك المادة أولية فلا مجال لوقوع الخطأ فيها، وإن كانت ثانوية مستنتجة فلا محالة تكون مستنتجة من برهان وقياس، فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى خطأ يكون في الصورة؛ لأن المعارف الأولية لا خطأ فيها بحسب الفرض لكونها ضرورية. وقد اصطلح على المعارف الأولية في الفكر البشري بمدركات العقل الأول وعلى المعارف المستنتجة منها بمدركات العقل الثاني.

وقواعد علم المنطق إما أن تكون جيمعها ضرورية كبرى وتطبيقاً أو بعضها ليس ضرورياً. أما الأول فواضح البطلان؛ إذ لو كانت كذلك لما وقع خطأ خارجاً، إذ لا يوجد من يخالف البديهة والضرورة ولا خطأ فيها بحسب فرض هذا المنهج. وعلى الثاني فإن قيل بعدم البداهة في الكبريات فسوف يقع الخطأ في نفس العاصم لا محالة، وإن قيل بعدم البداهة في التطبيق احتجنا إلى عاصم في مرحلة التطبيق، ولم تكف مراعاة الكبريات المنطقية في عصمة الذهن عن الخطأ وعلم المنطق لا يعطي إلا الكبريات، وهذا الكلام بناءً على التصور المدرسي للمعرفة البشرية وطريقة التوالد فيها.

وهذا البحث كان منشأ لانتقالنا إلى نظرية جديدة للمعرفة البشرية استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة البشرية، لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال ألفي سنة.

وفيما يلي نذكر مجمل تلك النتائج التي انتهينا إليها في نقطتين:

الأولى فيما يتعلق بالعقل الأول ومدركاته. وهي المدركات التي حدّدها المنطق الصوري في قضايا ست اعتبرها مواد البرهان في كل معرفة بشرية؛ وهي الأوليات والفطريات والتجريبيات والمتواترات والحدسيات والحسيات.

وقد ادّعى المنطق الصوري أن هذه القضايا كلها بديهية ونحن نسلّم معهم في اثنين منها هما الأوليات ۔ كاستحالة اجتماع النقيضين ۔ والفطريات وهي التي قياساتها معها، ولم نقل برجوعها إلى الأوليات على ما هو التحقيق، فهاتان قضيتان قبليتان. وأما غيرهما أي القضايا الأربع الباقية فليست المعرفة البشرية فيها قبلية، بل بعدية أي تثبت بحساب الاحتمالات وبالطريقة الاستقرائية، التي يسير فيها الفكر من الخاص إلى العام حسب القوانين وأسس شرحناها مفصلاً في ذلك الكتاب، بعد إبطال ما حاوله المنطق الصوري من تطبيق قياس خفي فيها بمناقشات عديدة مشروحة في محلها.

وقد أثبتنا هنالك أنه حتى المحسوسات التي هي أبده القضايا الحسية على قسمين:

أن يكون واقع المحسوس فيه أمراً وجدانياً كالإحساس بالرجوع والألم، وهذا لا إشكال في أوليته ولا يقوم على أساس حساب الاحتمالات والطريقة الاستقرائية؛ لأن الإدراك في هذا النوع يتصل بالمدرك بصورة مباشرة حيث يكون المدرك بنفسه ثابتاً في النفس؛ لأنه أمر موضوعي خارجي له انعكاس على النفس ليراد الكشف عن مدى مطابقة ذلك الانعكاس مع واقعه.

الإحساس بالواقع الموضوعي خارج عالم النفس كإحساسك بالسرير الذي تنام عليه وصديقك الذي تجلس عنده وزوجك التي تسكن إليها، وهذا هو الذي لا يتعلق إحساسنا به مباشرة. فكيف يمكن إثبات واقعيته من مجرد انطباع حاصل في النفس أو الذهن؟ وكيف نثبت مطابقة ذلك الانطباع للخارج؟ وهذه المسألة من ألغاز الفلسفة. والاتجاه المتعارف عند فلاسفتنا في حلها أن المحسوسات قضايا أولية، وإن كانت المسألة غير معنونة بهذا الشكل وإنما عنونت كذلك عند فلاسفة الغرب، وقد ظهر لدى بعض المحدثين[4] عندنا أن معرفتنا بالحسيات لا يمكن أن تكون أولية، لوقوع الخطأ فيها مع أنه لا خطأ في الأوليات، ولكنه عاد وزعم أن معرفتنا الحسية بالواقع الخارجي إجمالاً أولية، وإن كانت معرفتنا بالتفاصيل ليست كذلك. فكان هذا اتجاه يفصل في المعرفة الحسية بين الإيمان بأصل الواقع الموضوعي في الجملة وبين الإيمان بتفاصيل المعرفة الحسية. ونحن في كتاب فلسفتنا حاولنا إرجاع المعرفة الحسية إلى معارف مستنبطة بقانون العلية؛ لأن الصورة الحسية حادثة لابد لها من علة، وقانون العلية قضية أولية أو مستنبطة من قضية أولية. وفي قبال هذه الاتجاهات الثلاثة المثاليون الذين أنكروا الواقع الموضوعي رأساً. وكل هذه الاتجاهات الأربعة التي تذبذب الفكر الفلسفي بينها غير صحيحة، وإنما الصحيح ۔بناءً على ما اكتشفناه من الأسس المنطقية للاستقراء۔ أن معرفتنا بالواقع الموضوعي جملة وتفصيلاً في المدركات الحسية قائمة على أساس حساب الاحتمال، الذي يشتغل بالفطرة لدى الإنسان وبعقل رزقه الله له سميناه بالعقل الثالث قبال العقلين الأول والثاني.

وقد أوضحنا ذلك مشروحاً في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، وبيّنا هنالك في ضمن ما بيّناه أننا حينما نقارن بين إحساساتنا في عالم الرؤية مع إحساساتنا في عالم اليقظة لا نشك بأن الأولى لا واقع موضوعي لها، بخلاف الثانية ۔ إذا استثنينا شيخ الإشراق الذي كان قائلاً بعالم الأمثال في الأحلام ۔ مع أنه لا فرق بين القسمين من ناحية وجدانية الإحساس عند النفس، وهذا دليل عدم بداهة المعرفة في الحسيات وأن الإيمان بموضوعية الثانية قائم على أساس حسابات الاحتمال المبتنية على قرائن وخصوصيات مكتنفة بالثانية مفقودة في الأولى، التي تكون إحساسات زائلة متقلبة بمجرد كف الذهن عنها وغير متشابهة إلى غير ذلك من خصائص ونكات تقوم على أساسها حساب الاحتمالات شرحناها في ذلك الكتاب. إذن فليست المحسوسات قضايا أولية، كما أنها لا يمكن أن تكون مستنتجة بقانون العلية؛ لأن هذا القانون غاية ما يقتضيه وجود علة لحصول الصورة في النفس. وأما هل هي خارجية أو حركة جوهرية في النفس فلا يعيّن أحدهما، هذا مجمل الحديث عما سمّوه بالعقل الأول ومنهجنا في طريقة تفسير المعرفة البشرية فيه.

الثانية فيما يتعلق بالعقل الثاني ۔ والمنطق الصوري بعد افتراضه للعقل الأول بالنحو المتقدم ذكر أن كلما يستنبط من العقل الأول من المعارف بطريقة الاستدلال المنطقي الصحيح ۔الراجع بالأخير جميعاً إلى الشكل الأول الضروري والبديهي الإنتاج۔ فهو مضمون الحقانية ويسمّى بالعقل الثاني، والقياس يحتوي على حد أصغر وأوسط وأكبر وفي القياس الأول لا تكون بين المحمول وموضوعه واسطة؛ لأنها قضية أولية وإنما المستنبط ثبوت الثالث للأول، وعلى هذا الأساس يكون مشتملاً على قائمتين: قائمة للمحمولات الثابتة بالضرورة لموضوعاتها، وقائمة أخرى للمحمولات الثابتة بالضرورة على تلك المحمولات، وفي كل منهما القضية أولية ضرورية وليست مستنبطة لعدم حد أوسط. نعم ثبوت المحمول الثاني للموضوع الأول يكون نظرياً؛ لأنه مستنبط بالحد الأوسط الذي هو موضوع في القائمة الثانية ومحمول في الأولى. ومن هنا لا يخلو الكلام المعروف من صحة ببعض المعاني، من أن المعرفة إذا كانت حسب هذه الطريقة فليس هناك نمو وزيادة حقيقية في المعرفة، وإنما هو مجمل وتطبيق لما هو عام وكلي.

وأياً ما كان فالمنطق الصوري بعد أن افترض حقانية القضايا الست ۔التي تشكّل مواد الأقيسة والمعارف النظرية۔ وكان استنتاج المعارف النظرية في العقل الثاني من تلك المواد حسب المقياس البديهي الإنتاج، من هنا حكم بحقانية مدركات العقل الثاني أيضاً كحقانية مدركات العقل الأول.

وهذا الكلام ينحل إلى جزئين:

١. إن كل معرفة أولية تكون مضمونة الحقانية.

٢. إن المعارف النظرية في العقل الثاني إنما تستنتج من المعارف الأولية في العقل الأول بطريقة التوالد الموضوعي القائم على أساس التضمن أو التلازم المنطقي المضمون الحقانية أيضاً.

وكلا هذين الجزئين محل نظر؛ أما الأول فلأن بعض المعارف الأولية قد لا تكون مضمونة الحقانية بالرغم من كونها أولية، بل قد تكون مضمونة أو مشكوكة أو خاطئة، ومن ذلك ينشأ ينبوع للأخطاء في العلوم النظرية، فإن الخطأ فيها لا ينشأ من خطأ الاستدلال عادة، بل من الخطأ في أوليات الاستدلال حيث تطرح فكرة بتوهم صحتها وهي خاطئة فيبنى عليها. والحاصل: كون الفكرة أولية لا تحتاج إلى الاستدلال واستنباط شيء، وكونها مضمونة الحقانية شيء آخر، ولا تلازم بين الأمرين. ويشهد على ذلك وقوع الخطأ أو الشك في المعارف الوجدانية المحسوسة ۔المحسوس بالذات۔ التي قلنا إنها أولية لعدم توسيط شيء بينها وبين إدراكها، بل ينصبّ الإدراك عليها مباشرة وأولاً وبالذات، ومع ذلك قد يشكك فيها أو يخطأ، كمن يشك في أنه هل يسمع الصوت أم لا، إذا ما ابتعد عن مصدره تدريجاً. وهذا دليل على إمكانية وقوع الخطأ والاشتباه أو الشك في الوجدانيات الأوليات، فكيف بقضايا أولية غير وجدانية. وقد كان قديماً يبرهن على استحالة التسلسل ببرهان التطبيق أي تطبيق العلل على المعلومات، فكأنه يقال إنه إن تساويا لزم تساوي الجزء مع الكل؛ لأن سلسلة المعلولات هي سلسلة العلل بإضافة واحد، والكل لابد وأن يكون أكبر من الجزء. وإن لم يتساويا كان معناه تناهي أحدهما على الأقل. وقد كان هذا برهانهم على استحالة التسلسل فترة طويلة من الزمن، اعتماداً على بديهية أن الكل لابد أن يكون أكبر من الجزء، حتى جاءت الرياضيات الحديثة فأنكرت بداهة هذه القضية في الكميات اللامتناهية وجعلتها مختصة بالكميات المتناهية؛ إذ ينعدم في غيرها معنى الكل والجزء، وهذا خلاف قضية أولية. وقد قال بعض الحكماء في التسلسل إن كل مقدار من السلسلة عندما نفترضه بنحو العام الاستغراقي نجده محصوراً بين حاصرين. فالعقل يحدس أن مجموع السلسلة أيضاً محصور بين حاصرين، مفترضاً أنها قضية أولية حدسية في نظره. ومن هنا امتاز المنطق والرياضيات البحتة على ساير العلوم النظرية في قلة الخطأ فيها، نتيجة أن مصادرات العلوم الأولية منهما محدودة وواضحة لدى الجميع، ومن هنا قل الخطأ فيهما؛ إذ لا منفذ له حينئذ إلا الغفلة عن قواعد الرياضة والمنطق التي تتفادى بالدقة والممارسة والتطبيق.

وأما الثاني: فالمعارف الأولية يتولد منها معارف على قسمين: معارف يقينية بملاك التلازم الموضوعي بين متعلق المعرفتين ومعارف ظنية بدرجة من درجات الاحتمال حسب قواعد حساب الاحتمالات، وهذا هو الذي يدخل فيه أكثر معارفنا حيث يندرج فيه جميع المعارف المستمدة من التجربة والاستقراء. فإن حساب الاحتمالات لا توجب اليقين مهما امتدّ، وإنما ينشأ اليقين نتيجة ضعف الاحتمال إلى حد كبير، حيث تتحول الظنون في نهاية المطاف إلى يقين وجزم بقانون ذاتي لا موضوعي ضمن مصادرات مشروحة في أسس الدليل الاستقرائي.[5]

الثابت غير المتغير في الكتابين[6]

١. الانتزاع هو مصدر التصورات التي لا يمكن إرجاعها إلى الحس بشكل مباشر.

٢. مبدأ عدم التناقض مبدأ عقلي بديهي.

٣. البديهيات الرياضية وفي حدود ما يحتاجه المستدل بالدليل الاستقرائي ضرورية لكل استدلال.

۴. الإدراك عمل مجرد عن المادة.

۵. لا يمكن الاستدلال على نفي مبدأ العلية.

۶. الدليل الفلسفي على وجود الله لا يتزعزع وإنما أضيف إلى الأدلة على وجود الله دليل جديد هو الدليل العلمي.

٧. خصوصيات المسألة البديهية لم تتغير.

٨. التجربة والدليل الاستقرائي لابد له من تجاوز مشاكله الثلاث وهي كيف يثبت أصل السببية ومصداقها والتعميم.

٩. الموقف من الوضعيين لم يتغير.

١٠. الموقف من الفلسفة الماركسية والديالكتيك لم يتغير، ولأجل فهم الرد على الديالكتيك بنظرية السيد الشهيد الجديدة يراجع كتاب المرسل الرسول الرسالة.

نتائج وتطبيقات

١. من ينكر البديهيات جميعاً لا يمكنه تكوين معرفة تصديقية.

٢. يكفي لتكوين معرفة تصديقية الاعتقاد ببداهة ثلاثة أمور:

_ بداهة نفس الظاهرة الإدراكية.

_ بداهة مصادرات حساب الاحتمال.

_ بداهة مبدأ عدم التناقض.

  1. من ينكر مبدأ العلية كبديهة يمكنه الاستدلال عليها بحساب الاحتمال حين لا يعتقد باستحالة هذا المبدأ، وذلك بتجميع القيم الاحتمالية التي تصبّ في صالح إثبات العلية ومن يجعل العلية أمراً مستحيلاً لا يمكنه تكوين معرفة تصديقية.
  2. ستكون المعرفة متصاعدة من الجزئيات إلى الكليات، وبذلك تنحل المشاكل الثلاث التي تواجه الدليل الاستقرائي، وهي إثبات اللزوم ونفي الصدفة المطلقة.

إثبات العلية ونفي/الصدفة النسبية.

إثبات التعميم في الحكم المستقرأ.

أهم نتائج نظرية المعرفة

العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي والاستقرائي، وهذا الارتباط المنطقي بين مناهج الاستدلال العلمي والمنهج الذي يتخذه الاستدلال على إثبات الصانع بمظاهر الحكمة، قد يكون هو السبب الذي أدّى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين ألوان الاستدلال المتنوعة على إثبات الصانع، تأكيداً للطابع التجريبي والاستقرائي للدليل على إثبات الصانع(عز).

فإن القرآن الكريم بوصفه الصيغة الخاتمة لأديان السماء قد قدّر له أن يبدأ بممارسة دوره الديني مع تطلّع الإنسان نحو العلم، وأن يتعامل مع البشرية التي أخذت تبني معرفتها على أساس العلم والتجربة وتحدد بهذه المعرفة موقفها في كل المجالات. فكان من الطبيعي على هذا الأساس أن يتجه القرآن الكريم إلى دليل القصد والحكمة بوصفه الدليل الذي يمثّل المنهج الحقيقي للاستدلال العلمي، ويقوم على نفس أسسه المنطقية ويفصله على سائر الصيغ الفلسفية للاستدلال على وجود الله تعالى.

هذا إضافة إلى أن الدليل التجريبي على وجود الله أقرب إلى الفهم البشري العام وأقدر على ملء وجدان الإنسان ۔ أي إنسان ۔ وعقله بالإيمان من البراهين الفلسفية ذات الصيغ النظرية المجردة، التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وأفكارهم <سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ>.[7]

وبهذا يضع الصدر كل مفكر أمام حقيقة هي أنه إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككل، وإما أن يقبل الاستدلال العلمي، ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي. ولكن لماذا يرفض الأوروبيون تطبيق هذا المنهج في مسألة وجود الله والجواب على لسان السيد الصدر.

والذي لاحظته بعد تتبع وجهد (أن السبب) هو عدم قدرة هؤلاء المفكرين على التغلب على نقطتين هما:

١. تصور أن البديل المحتمل هو كون المادة العمياء هي الخالقة.

٢. مشكلة تحديد الاحتمال القبلي للقضية المستدلة استقرائياً.[8]

وقد يقول قائل إن الأدلة الفلسفية ليست بأكثر تعقيداً من الأسس المنطقية للاستقراء، التي يحتاج هضمها إلى دراسة كل تلك المعادلات والمسائل الرياضية المعقدة. فلماذا المفاضلة وترجيح الدراسة الاستقرائية على الأدلة الفلسفية؟

والجواب أن معرفة كيفية الاستدلال وكيفية حصول اليقين لا علاقة لها بتكوين هذا اليقين، كما أن عملية الهضم لا تتوقف على أن نعلم بكيفية حصول الهضم، وما جاء في الأسس شرح للعملية الذهنية الاستقرائية وبيان لكيفية حصول العلم والمعرفة بواسطتها. والذهن البشري صمّم بالشكل والطريقة التي تراها الأسس، كما أن المعدة صمّمت وأبدعت بالشكل الذي تؤدي فيه دورها في عملية الهضم.

فأي المعرفتين الفلسفية والاستقرائية تحتاج إلى جهد كبير في الذهن؟ إنها الفلسفة بطبيعة الحال، وبتعبير آخر أن الفلسفة تعقيدها في مسائلها وصغرياتها. أما الدليل العلمي والاستقرائي فإن كان فيه تعقيد فهو في أسسه المنطقية لا في تطبيقاته.

تفسير المعجزة على ضوء المنهج الجديد

استعرض السيد الصدر ما ذكره التاريخ من كثير من القوانين الطبيعية التي عطّلت لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الأرض؛ ففلق البحر لموسى، وشبّه للرومان أنهم قبضوا على عيسى ولم يكونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبي محمد(ص) من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلت ساعات تتربص به لتهجم عليه، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم. كل هذه الحالات تمثّل قوانين طبيعية عطّلت لحماية شخص، كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.

وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهوم عام وهو أنه كلما توقف الحفاظ على حياة حجة لله في الأرض على تعطيل قانون طبيعي، وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمته التي أعدّ لها، تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك، وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمته التي أعدّ لها ربانياً فإنه سيلقي حتفه ويموت أو يستشهد، وفقاً لما تقرّره القوانين الطبيعية.

ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: كيف يمكن أن يتعطل القانون، وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلا مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدّد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية واستقرائية؟

والجواب: أن العلم نفسه قد أجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي. وتوضيح ذلك: أن القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطّرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يستدل بهذا الاطّراد على قانون طبيعي، وهو أنه كلما وجدت الظاهرة الأولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أن العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها؛ لأن الضرورة حالة غيبية، ولا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإن منطق العلم الحديث يؤكد أن القانون الطبيعي ۔كما يعرّفه العلم۔ لا يتحدث عن علاقة ضرورية بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.

والحقيقة أن المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية. فقد كانت وجهة النظر القديمة تفترض أن كل ظاهرتين اطّرد اقتران إحداهما بالأخرى، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أن من المستحيل أن تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى، ولكن هذه العلاقة تحوّلت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطّرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية.

وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أو تؤدي إلى استحالة.

وأما على ضوء الأسس المنطقية للاستقراء فنحن نتّفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في أن الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولكنا نرى أنه يدل على وجود تفسير مشترك لاطّراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار. وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظّم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة.[9]

تطبيق نظريته في المعرفة على مسألة من مسائل الإمامة

يبيّن السيد الصدر تطبيقاً لنظريته في المعرفة على مسألة من مسائل الإمامة في عقيدة الإمامية يقول(ره):

والإمامة المبكرة ظاهرة تحتاج إلى تفسير. فالإمام محمد بن علي الجواد(ع) تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره، والإمام علي بن محمد الهادي تولى الإمامة وهو في التاسعة من عمره، والإمام أبو محمد الحسن العسكري والد القائم المنتظر تولى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره، ويلاحظ أن ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي(عج)، ونحن نسمّيها ظاهرة لأنها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهدي(ع) تشكّل مدلولاً حسياً عملياً، عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن نطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أمة. ونوضّح ذلك ضمن النقاط التالية:

أ ۔ لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ويدعمها النظام الحاكم كإمامة الخلفاء الفاطميين وخلافة الخلفاء العباسيين، وإنما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام وقيادته على أسس روحية وفكرية.

ب ۔ إن هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق(ع)، وأصبحت المدرسة التي وعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشكّل تياراً فكرياً واسعاً في العالم الإسلامي، يضمّ المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذ، حتى قال الحسن بن علي الوشّاء: إني دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخ كلهم يقولون حدّثنا جعفر بن محمد.

ج ۔ إن الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تمثّله من قواعد شعبية في المجتمع الإسلامي تؤمن بها وتتقيد بموجبها في تعيين الإمام والتعرف على كفاءته للإمامة شروط شديدة؛ لأنها تؤمن بأن الإمام لا يكون إماماً إلا إذا كان أعلم علماء عصره.

د ۔ إن المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدّم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة؛ لأنها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكّل خطاً عدائياً، ولو من الناحية الفكرية على الأقل، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذ وباستمرار تقريباً حملات من التصفية والتعذيب، فقتل من قتل وسجن من سجن ومات في ظلمات المعتقلات المئات. وهذا يعني أن الاعتقاد بإمامة أئمة أهل البيت كان يكلّفهم غالياً، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتقد أو يفترضه من التقرب إلى الله تعالى والزلفى عنده.

هـ ۔ إن الأئمة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها ولا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلا أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدثين عن كل واحد من الأئمة الأحد عشر، ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه، وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية، وما كان يبثّه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخرى، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمّون الديار المقدسة من كل مكان لأداء فريضة الحج، كل ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة بين الإمام وقواعده الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.

و ۔ إن الخلافة المعاصرة للأئمة(ع) كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية والإمامية بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدّراتها، وعلى هذا الأساس بذلت كل جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة، وتحملت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّ تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرة للأئمة أنفسهم، على الرغم مما يخلّفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.

إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار ۔وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشك۔ أمكن أن نخرج بنتيجة وهي: أن ظاهرة الإمامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وهماً من الأوهام؛ لأن الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين، ويدين له بالولاء والإمامة كل ذلك التيار الواسع، لابد أن يكون على قدر واضح وملحوظ بل وكبير من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمكن من الفقه والتفسير والعقائد؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته، مع ما تقدّم من أن الأئمة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم، وللأضواء المختلفة أن تسلّط على حياتهم وموازين شخصيتهم.

فهل ترى أن صبياً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للإسلام وهو على مرأى ومسمع من جماهير قواعده الشعبية، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبي الإمام؟

وهب أن الناس لم يتحركوا لاستطلاع الموقف، فهل يمكن أن تمر المسألة أياماً وشهوراً بل أعواماً دون أن تتكشف الحقيقة، على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبي الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول أن يكون صبياً في فكره وعلمه حقاً، ثم لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟

وإذا افترضنا أن القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يتح لها أن تكتشف واقع الأمر، فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبي صبياً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان، وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدّم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحية والفكرية. فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلّم الإمامة، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبي اعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذ.

إن التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة هو أنها أدركت أن الإمامة المبكرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً. والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع، والتاريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها، بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكرة، أو واجه فيه الصبي الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.

وهذا معنى ما قلناه من أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت(ع) وليست مجرد افتراض، كما أن هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربانية، ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكرة في التراث الرباني لأهل البيت(ع) يحيى(ع)؛ إذ قال الله(عز): <يٰا يَحْيىٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنٰاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً>.[10]

بعد هذه الاقتباسات من أفكار وآراء الإمام الشهيد الصدر في تفسير المعجزة وتطبيق نظريته في المعرفة نقارن رأي الشهيد الصدر في تفسير المعجزة بالآراء التالية التي تبنّاها جملة من عباقرة الفكر والفلسفة الأوروبية، والتي أخذناها من الموسوعة الفلسفية للدكتور بدوي:

١. لايبنتس: إن المعجزة تندرج في النظام العام للكون، وبالتالي لا تختلف عن الحادث الطبيعي إلا في الظاهر وبالنسبة إلينا نحن.

٢. إرنست رينان: إن مجرد قبول الخوارق هو خروج على العلم.

٣. ديفيد هيوم: إن قوانين الطبيعة تقررت وثبتت بالتجربة الثابتة المطردة، لكن القول بالمعجزات معناه إنكار القوانين الطبيعية، إذن المعجزات مستحيلة.

٤. جون ستيوارت ميل: إن اطّراد مجرى الطبيعة وهو أمر مشاهد بالتجربة يدل على أن الكون محكوم بقوانين عامة لا بتدخلات خاصة، فثم إذن ضد المعجزات (عدم احتمال) لا يمكن موازنته إلا باحتمال قوي جداً ناجم عن ظروف خاصة للحالة موضوع البحث.

٥. جون لوك: المعجزة عملية محسوسة، لكنها لما كانت فوق فهم المشاهد وفي رأيه مضادة للمجرى المقرر للطبيعة، فإنه يعتقد أنها إلهية.

٦. سبينوزا: المعجزة هي فعل للروح التي تستفيد على نحو أكمل من المعتاد، وتعزز مؤقتاً شطراً من ثرواتها ومواردها العميقة، المعجزة حادث لا نستطيع تفسيره ومعرفة علته الطبيعية بواسطة مثال آخر معروف.

[1]. الموسوعة الفلسفية المختصرة.

[2]. الموسوعة الفلسفية، عبد الرحمن بدوي.

[3]. وهذه الناحية الذاتية ۔التي تنطوي عليها الصور الذهنية في رأينا۔ تختلف عن الناحية الذاتية التي يقول بها (كانت) والتي ينادي بها النسبيون الذاتيون. فليست الذاتية في رأينا باعتبار الجانب الصوري من العلم كما يزعم (كانت) وباعتبار كون الإدراك حصيلة تفاعل مادي، والتفاعل يستدعي التصرف من الجانبين، بل هي على أساس التفرقة بين لوني الوجود: الذهني والخارجي. فالشيء الموجود في الصورة الذهنية هو الشيء الموجود في الخارج خلافاً للنسبيين، ولكن لون وجوده في الصورة يختلف عن لون وجوده الخارجي.

[4]. السيد محمد حسين الطباطبائي(قده) في روش رآليسم.

[5]. السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، ج4.

[6]. الكتابان هما: فلسفتنا والأسس المنطقية للاستقراء.

[7]. فصلت: 53.

[8]. مقدمة الفتاوى الواضحة، ص 36.

[9]. الإمام الشهيد الصدر، بحث حول المهدي(عج).

[10]. مريم: 12.