لمحات من كتاب آية اللّه العظمى الإمام الشهيد محمّد باقر الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مقدمة:

الحمدللّه؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه اللّه فلا مضلّ له ومن يضلله فلا هادي له. ونصلّي ونسلّم على سيدنا محمّد وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى صحبه الميامين الأبرار.

وبعد…

يطيب لي ويسعدني أن اُشارك في هذا المؤتر العالمي للشهيد العلامة آية اللّه العظمى السيد محمّد باقر الصدر (قدّس اللّه سرّه) ـ المقام بمدينة قم المشرفة بجمهورية ايران الإسلامية ـ بمقال، وهو عبارة عن وقفة وتلخيص لنظرية الشهيد الإمام الصدر حول منابع القدرة في الدولة الإسلامية، والتي جاءت في سفره الكبير وفي كتابه القيّم المطبوع والمنشور. وللشهيد الإمام الصدر كتب كثيرة في اُصول الفقه وفي الفقه والتفسير والحديث والعقائد والسيرة والتاريخ، وفي الفلسفة والمنطق، وفي العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية. ومهما كتب العلماء والباحثون والمؤلفون فلا يستطيعون سبر أغوار شخصية السيد الشهيد كاملة، وعرض آرائه ونظرياته وأفكار بصورة أتم وأشمل، ولكن كل ذلك محاولات من أجل الذكرى والعبر والدروس، والاستفادة من علمه الجم وأفكاره النيّرة.

إنّ الجانب الذي رأيت الوقوف عنده من نظريات السيد الشهيد جانب يتعلق بالفكر السياسي الفلسفي لمعطيات وقدرات الدولة الإسلامية الهائلة التي تتميز بها تلك المعطيات التي تفجر الطاقات الكامنة لدى الفرد والدولة والتي تحقق الانتصارات الباهرة العظيمة بالإسلام.

فالتاريخ القديم يحدثنا عن الانتصارات الهائلة التي حققها المسلمون بالإسلام في فجر التاريخ الإسلامي على الشرك العالمي القديم الذي تمثّله أكبر دولتين عملاقتين هما الفرس والروم.

والإسلام الان يواجه الشرك العالمي الحديث، فلا بد من تفجير طاقات الفرد والدولة لمواجهة تلك التحديات العظام، والشرك العالمي يتفنن في تدبيره ويحيك المؤامرات حينما شعر بقوة الإسلام وانتصاره على أكبر طاغوت مدعوم منه ومن الكفر العالمي عامة حينما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران.

هذا، ولقد رأى الشهيد العلامة السيد الصدر أن يشير ويذكّر الاُمة الإسلامية بأنّ لها من الطاقات والقدرة الهائلة القوية إذا تفجرت فسوف تحقق الهدف الأسمى؛ وهو قيام الدولة الإسلامية العالمية، وانتصارها على الكفر عامة والطواغيت عامة. وإنقاذ المظلومين والمستضعفين؛ ولهذا كان كتابه (منابع القدرة في الدولة الإسلامية).

إنّ الباحثين والدارسين ـ عادة ـ يتناولون في أبحاثهم ودراستهم عن الدولة الإسلامية الجانب المتعلق بالحكم، وإقامة شرع اللّه على الأرض، ودور الإنسان في خلافة الأرض، وآخرون من الباحثين يتناولون الجانب الحضاري والمعطيات والقدرات الهائلة التي تتميز بها الدولة الإسلامية عن أي تجربة اجتماعية اُخرى. ولقد تناول الشهيد الصدر في كتاباته ومؤلفاته تلك الجوانب كافة، سواء المتعلقة بإقامة الشرع وحكم اللّه تعالى في الأرض، أو الجانب المتعلق بالبعد الحضاري ومعطيات الدولة الإسلامية وقدراتها الهائلة إلخ.. وهذا الجانب الأخير وقف عنده الإمام الشهيد الصدر، وألف كتابه الكبير؛ ليستنهض الهمم، ويحرّك أفراد الاُمة حتى يلعبوا الدور الكبير المنوط بهم؛ لإنقاذ أنفسهم والبشرية جمعاء من حالة التمزق والشتات والفوضى والظلم والطغيان.

يقول العلامة الإمام الشهيد الصدر في فاتحة كتابه: «… وهذا ما نريد التحدث عنه في هذه الحلقة؛ لنعرف بوضوح أنّ الدولة الإسلامية ليست ضرورة شرعية فحسب، بل هي ـ إضافة إلى ذلك ـ ضرورة حضارية؛ لأنها المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلامي، والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الإنسانية، وإنقاذه مما يعانيه من ألوان التشتت والتبعية والضياع».

هذا، ولقد تناول الشهيد الصدر في كتابه مميزات الدولة الإسلامية، وتناولها في نقطتين:

الاُولى: التركيب العقائدي الذي يميز الدولة الإسلامية.

الثانية: التركيب العقائدي والنفسي للفرد المسلم في واقع عالمنا الإسلامى اليوم.

وبعون اللّه تعالى وتوفيقه سوف اُوضح في هذا المقال هاتين النقطتين وما يتفرع منهما في نقاط؛ من مبحثين:

المبحث الأول: التركيب العقائدي للدولة الإسلامية.

المبحث الثاني: تركيب الفرد المسلم في الواقع المعاصر.

ونحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى هذا الطرح العلمي الذي أشار إليه العلامة آية اللّه العظمى الشهيد الصدر في كتابه هذا ونحن نؤسس لقيام دولة إسلامية حضارية تكثر أمامها التحديات في الداخل والخارج؛ فتحديات الداخل كثيرة وعلى رأسها فتنة السلطان والمال، ولقد أشار الشهيد العلامة الباقر إلى ذلك، ووضع من الحلول القوية لتفادي هذه الفتنة الكبرى، وسنشير إلى ذلك في هذا البحث.

ولقد تناول كذلك تحديات الخارج المتمثلة في الكفر العالمي الحديث، وأشار إلى الحلول لتفادي هذا التحدي الكبير بتحريك كو تقلل الفاصلة من الاُمة وإيقاظها؛ لأنّ لها من القدرات والمعطيات الحضارية في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية لمواجهة حضارة الغرب الهشّة الضعيفة، والتي سرعان ما تنهار أمام الحضارة الإسلامية العملاقة، وسنشير إلى ذلك بعون اللّه تعالى وتوفيقه في هذا البحث.

المبحث الأول

التركيب العقائدي للدولة الاسلامية

أشار العلامة الشهيد الصدر في مؤلفه الكبير إلى التركيب العقائدي للدولة الإسلامية في نقاط علمية رائعة، وهذه النقاط هي:

(أ) هدف المسيرة.

(ب) أخلاقية التركيب العقائدي، وتحرير الإنسان من الانشداد إلى الدنيا.

(ج) المدلولات السياسية في التركيب العقائدي للدولة الإسلامية.

النقطة الاُولى: هدف المسيرة:

يقول الشهيد الصدر: «كل مسيرة واعية لها هدف، وكل حركة حضارية لها غاية تتجه نحو تحقيقها، وكل مسير وحركة هادفة تستمد وقودها وزخم اندفاعها من الهدف الذي تسير نحوه وتتحرك إلى تحقيقه…».

ولقد أشار العلامة الصدر إلى أنّ مسيرة الأمة الإسلامية إلى اللّه تعالى وهي مسيرة قاصدة ومتجهة نحو المولى عزّوجلّ ولذلك ياتى دور الدولة الإسلامية لتضع اللّه تعالى هدفاً للمسيرة الإنسانية وتطرح صفات اللّه تعالى وأخلاقه كمعالم لهذا الهدف الكبير، فالعدل والعلم والقدرة والقوة والرحمة والجود تشكل بمجموعها هدف المسيرة للجماعة البشرية الصالحة وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئاً منه انفتحت أمامها آفاق أرحب وازدادت عزيمة وجذوة لمواصلة الطريق لإنّ الإنسان المحدود لا يمكن أن يصل إلى اللّه المطلق ولكنه كلما توغل في الطريق إليه اهتدى إلى جديد وامتد به السبيل سعياً نحو المزيد. يقول اللّه تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا) سورة العنكبوت آية (69).

ويقول الشهيد الصدر إنّ التركيب العقائدي للدولة الإسلامية يقوم على أساس الإيمان باللّه وصفاته وأنه يجعل من اللّه تعالى هدفاً للمسيرة وغاية للتحرك الحضاري الصالح وهو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمد الحركة الحضارية للإنسان بوقود لا ينفد.

ولهذا كان إنسان الدولة الإسلامية في مسيرته القاصدة نحو اللّه تعالى في قوة ونشاط وشعلة من نور لا تنطفى مستمداً من العدل المطلق قوته وحركته ومدده ووقود معركته لتحرير الإنسان من عبادة الأوثان إلى عبادة اللّه تعالى الواحد الأحد وتحرير الإنسان من ظلم الظالمين وجبروت الطغاة في كل أنحاء الدنيا.

ولهذا كما أشار العلامة الشهيد الصدر إلى أنّ كسرى اهتزّ على الرغم من جبروته وقوته حينما سأل عبادة بن الصامت مستهزئاً عمّا دعا المسلمين إلى التفكير في غز وامبراطوريته فرد عليه بأنّ الجيش الإسلامي جاء لتحرير المظلومين وهذا يعني أنّ العدل المطلق لا ينفد وأنّ الهدف المطلق يظل دائماً قادراً على التحريك والعطاء.

النقطة الثانية: أخلاقيات التركيب العقائدي:

إنّ إقامة الحق والعدل وتحمل مشاق البناء الصالح بحاجة إلى دوافع تنبع من الشعور بالمسئولية والإحساس بالواجب الربّاني ولكن هنالك عقبات كما يقول الشهيد الصدر تواجه هذه الدوافع ومن هذه العقبات الإنشداد نحو الدنيا وزينتها والتعلق بمتاع الدنيا وحطامها.

إنّ أخلاقيات التركيب العقائدي تقوم على أساس تربوي يكون الفرد سيداً للدنيا لا عبداً لها ومالكاً للطيبات لا مملوكاً لها ولقد أبان الشهيد الصدر ذلك وأفاض وأجاد في ذلك.

هذا ولقد حدد القرآن الكريم المعالم العامة لأخلاقيات التركيب التعاقدي:

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم وأولادكم عن ذكر اللّه ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) سورة المنافقون الآية(9).

وقوله تعالى: ( واعلموا أنّما اموالكم وأولادكم فتنة).

فالتعلق بالدنيا والإنشداد إليها أساس كل انحراف ويعتبر تخلياً عن دور الخلافة الرشيدة على الأرض كما يقول الشهيد الصدر هذا ولقد وضع الإسلام التعامل مع طيبات الدنيا وحدد التعبير العلمي (وهل لك من مالك إلاّ ما تصدقت فأبقيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت).

ويستمتع الإنسان المسلم بالحلال من طيباتها بقدر حاجته لأنّ الدنيا وضعت في الأساس لسد الحاجة لا للإكتناز والتكاثر ولقد وضح الشهيد الصدر ذلك في أسلوب علمي رائع مبيناً أنّ الإنسان المسلم يرتفع عن الهموم الصغيرة التي تفصله عن اللّه تعالى ويتطلع للمهام العظام والأمور الكبيرة ليواجه المسئوليات الضخمة بصدر رحب وقلب مطمئن ونفس راضية.

النقطة الثالثة: المدلولات السياسية في التركيب العقائدي للدولة الإسلامية:

هذا ولقد تناول الشهيد الصدر بعض المدلولات السياسية في كتابه القيم ومن هذه المدلولات:

  1. استئصال الدولة الإسلامية لكل علاقات الاستغلال التي تسود مجتمعات الجاهلية وبتحرير الإنسان من استغلال أخيه الإنسان في كل مجالات الحياة السياسية الاقتصادية والفكرية. وفي استئصال النزعة الإستغلالية يكون الإنسان حراً له عزته وكرامته ولذلك تتفجر فيه طاقة البناء والعمل ولقد أبان الشهيد الصدر ذلك بالأمثلة الحية الواقعية في التاريخ الإسلامي.
  2. ومن المدلولات السياسية مساواة الحاكم والحاكمون بأفراد الرعية وتواضعهم وزهدهم فلا تمايز ولا ترفع ولا رفاهية على حساب المستضعفين باسم الجاه والسلطان والحكم. فالإسلام يعلم الحاكم بأنّ الحكم ليس وسيلة للاستمتاع بملاذ الدنيالا أداة للتميز عن الآخرين في مظاهرة الحياة وزينتها وأنما هو مسئولية وخلافة ومشاركة المستضعفين في همومهم.

هذا ولقد أوضح العلاّمة الإمام الشهيد الصدر بالأمثلة الحية في تاريخ التجربة الإسلامية موضحاً مساواة الحاكم بالمحكوم أمام منصة القضاء وزهد الحاكم. فذاك رئيس الدولة الإسلامية الإمام علي عليه السلام يقف بين يدي القاضي مع مواطن عادي شكاه إلى القاضي وذاك الإمام الخميني قدّس سره الذي قاد كفاح  شعبه تحت راية الإسلام حتى نصره اللّه سقطت في يده امبراطورية الشاه بكل خزائنها ورجع إلى بلده رجوع الفاتحين لم يؤثر على بيته القديم بيتاً بل عاد إلى نفس البيت الذي نفاه الجبارون عنه قبل عشرين سنة ليبين أنّ خط الإسلام واحد لا ينتهى. فالحكم ليس وسيلة للإستمتاع بملذات الدنيا وليس وسيلة للتفاخر والترفع.

  1. ومن المدلولات السياسية للدولة الإسلامية التعامل على أساس الحق والعدل ونصرة المتضعفين في الأرض.

إنّ تعامل الدولة الاسلامية في الساحة الدولية لا يكون على أساس الاستغلال امتصاص الشعوب الضعيفة كما تصنع الحضارة الغربية ولا على أساس المصالح المتبادلة كما تدعي حضارة الغرب.

إنّ الدولة الإسلامية دولة رسالية قامت لتحقيق العدل والحق على وجه الأرض ولم تكن هذه المعاني مجرد شعارات بل كانت واقعاً ملموساً والتاريخ الإسلامى يزخر بالأمثلة الحية في تحقيق العدل الرباني هذا ولقد أبان العلامة الشهيد الصدر كل معاني هذا المدلول السياسي موضحاً انّ اساس تعامل الدولة الإسلامية في الساحة الدولية يجسده قول الحق تبارك وتعالى:

(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين للّه شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقواللّه إنّ اللّه خبير بما تعملون). سورة المائدة الآية(8).

المبحث الثانى

تركيب الفرد المسلم العقائدي في الواقع المعاصر

أشار العلامة الشهيد الصدر في هذا المبحث إلى أعراض وأمراض التخلف والتمزق والضياع التي تعاني منها مجتمعات العالم الإسلامي وأنّ استئصال جذور هذا التخلف يحتاج الى مركب حضاري قادر على تحريك الامة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف.

ثمّ أشار الإمام الصدر إلى أنّ الدولة الإسلامية التي تتخذ من الإسلام أساساً لعملية البناء وإطاراً لنظامها الإجتماعي هي التي تقدم المركب الحضاري لإنسان العالم الإسلامي.

ولقد ذكر العلامة الشهيد الصدر عدداً من النقاط الهامة الجوهرية كأداة لقدرات التحريك والبناء والتي توفرها الدولة الإسلامية وهي بإيجاز في النقاط الآتية:

النقطة الأولى: الإيمان بالإسلام:

يقول المؤلف الإمام الشهيد الصدر إنّ إنسان العالم الإسلامي يؤمن بالإسلام بوصفه ديناً ورسالة من اللّه تعالى أنزلها على خاتم أنبيائه ووعد من اتبعها وأخلص لها بالجنة وتوعد المتمردين عليها بالنار وهذا الإيمان يعيش في الجزء الأعظم من المسلمين عقيدة باهتة فقدت عبر عصور الانحراف كثيراً من اتقادها وشعلتها ولقد أشار العلامة الشهيد الصدر إلى أنّ قيام الدولة الإسلامية يحرك كوامن الإيمان والعقيدة في الفرد فتعي الأمة المسلمة دورها الرسالي الرباني في هذه الأرض ومسئوليتها الضخمة تجاه العالم كله بحكم كونها أمة وسطاً وشهيدة عليه. يقول اللّه تعالى: (وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) سورة البقرة الآية (143).

ولهذا فإنه في ظل أطروحة الدولة الإسلامية والنظام الإسلامي وفي ظل الإيمان باللّه تعالى إيماناً حياً مسئولا فسرعان ما تتحول تلك العقيدة الباهتة من عامل سلبي إلى عامل إيجابي في عملية البناء الحضاري الجديد ولذلك فإنسان العالم الإسلامي في ظل هذه العقيدة المشعة الممتلئة حيوية وحركة ونشاطاً يؤدي دوره الكبير في البناء الحضاري مهما كانت المتاعب والمشاق والإبتلاءات.

النقطة الثانية: وضوح التجربة الإسلامية والارتباط العاطفي بتاريخها:

أشار المؤلف في هذه النقطة إلى أنّ الايدلو جيات الغربية أ والشرقية من ديموقراطية أو مادية أو اشتراكية أو شيوعية أو غيرها من المذاهب والاتجاهات الاجتماعية كفر بها أهلها لأنها زائفة فلا ديمقراطية حقيقية بل كانت دكتاتورية ولا إشتراكية للتمايز وعدم المساواة.

وأشار العلامة الصدر إلى أنّ الدولة الإسلامية تقدم للفرد المسلم مثالا واضحاً وقريباً من نفسه مندمجاً مع أعمق مشاعره وعواطفه وأشار إلى أنّ الدولة الإسلامية تسير بالناس في النور وتلوح بيدها إلى القمة التي لا يوجد مسلم لا يراها ولا يملك صورة محددة عنها وهذا يحول الفرد المسلم في إطار التبعية الحضارية الإسلامية مطمئناً إلى طريقه. إنّ وضوح التجربة وارتباطها العاطفي جعل الفرد المسلم يستجيب لعملية البناء الكبرى.

النقطة الثالثة: نظافة التجربة وعدم ارتباطها بالاستعمار:

إنّ المنهج الإسلامي يتمتع بنظافة مطلقة لعدم ارتباطه بالاستعمار قديماً كان أو جديداً ولهذا يشعر الفرد المسلم بنظافة الإسلام وأنه التعبير الذاتي له وعنوان شخصيته التاريخية كل ذلك له دوره وأثره الفعال في البناء الحضاري. فيلعب انسان العالم الاسلامي دوره في هذه التنمية والبناء الحضاري. هذا وعلى الرغم من أنّ الأمة في العالم الإسلامي عانت من الاستعمار ألواناً من الغدر والمكر مما جعل الامة تنكمش وتنحرف وأدت إلى تكتلات قومية عنصرية وبالإسلام وقيام الدولة الإسلامية تزول تلك الإنحرافات ويكون الفرد المسلم قوياً ومسلحاً بالنهج الإسلامي. هذا ولقد أجاد العلامة الصدر فيما لخصناه من أفكار نيرة وآراء دقيقة في منهج التجربة ونظافتها وفي تحليله الفكري العميق لمواضع الداء وفي تحديد الدواء والعلاج الشافي.

النقطة الرابعة: امتصاص المحافظين لحركة البناء الجديد:

تناول العلامة الشهيد الصدر في هذه النقطة الرابعة حركة التجديد في العالم الإسلامي واصطدامها بالأعراف والسنن  الاجتماعية والتقاليد السائدة والتي أدت إلى مواجهة وصدام وتوتر نفسي. وهذه الحركة التجديدية المطلقة والتي تكون في بيئة لا تتجسد فيها الدولة الإسلامية أمام خيارين كلاهما صعب ويعقد الأمر فالخيار الأول استئصال الجذور النفسية لهذا التحفز الرافض باقتلاع العقيدة الدينية باعتبارها الأساس التقليدي لمشاعر المحافظين وهذا الخيار بالطبع يؤدي أن تطرح الحركة التجديدية نفسها كدين وهذا يؤدي إلى أخطاء جسيمة. والخيار الثاني أن تحاول الحركة فصل الدين عن هذه التقاليد وتوعية الجماهير على حقيقة الدين ودوره في الحياة وهذا الخيار ليس عملياً بالنسبة إلى حركة التجديد التي تقوم على أسس علمانية وترتبط بايد ولوجية لا تمت إلى الإسلام بصلة لأنّ حركة من هذا القبيل لا هي قادرة على تفسير الإسلام تفسيراً صحيحاً ولا هي قادرة على إقناع الجزء الأعظم من الناس بوجهة نظرها في تفسير الإسلام ما دامت لا تملك أي طابع شرعي يبرر لها أن تكون في موقع التفسير للإسلام ومفاهيمه وأحكامه.

ثم أبان العلامة الصدر بأنّ الحركة التجديدية التي تقوم على أساس الإسلام وتربط به ارتباطاً وثيقاً بمصادره الحقيقية وتجسد هذا الإسلام في دولة تقيم الدين كله فإنّ هذه الحركة قادرة على امتصاص الجزء الأعظم من المحافظين لمصلحة البناء والتجديد وقادرة على تصحيح القيم الخلقية الدينية التي اكتسبت طابعاً سلبياً من خلال أوضاع التخلف.

النقطة الخامسة: التطلع إلى السماء ودوره في البناء:

في مقارنة رائعة أشار العلامة الشهيد الصدر إلى إنسان الغرب المتأثر بالمادة ونظرته للأرض إذ أصبحت المادة والثروة والتملك همه ثم تفنن وأجاد فيها ونظرته العميقة للأرض والتي أدت إلى ألوان وأشكال من التنافس المحموم على الأرض وخيراتها والذي انقلب إلى استغلالية عنيفة جعلت الإنسان يضحي بأخيه الإنسان ويحوله من شريك  إلى أداة.

وأشار العلامة الشهيد الصدر إلى إنسان الشرق الذي ربته رسالات السماء وعاشت في بلاده ومرّ بتربية دينية مديدة على يد الإسلام ينظر بطبيعته إلى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض يؤخذ بعالم الغيب قبل أن يؤخذ بالمادة والمحسوس. وأشار العلامة الصدر إلى أنه مع قوة إغراء المادة للإنسان ودوافعه الدينية قادته إلى موقف سلبي تجاه المادة يتخذ شكل الزهد تارة والقناعة أخرى والكسل ثالثة.

وإزاء هذه المقارنة أشار العلامة الصدر إلى أنّ المواقف السلبية تأتي إذا انفصلت الأرض عن السماء وأما إذا ألبست الأرض إطار السماء وأعطى العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع مستوى الحياة وهذا بالضبط ما تصنعه الدولة الإسلامية.

ولذلك يكون إعمار الأرض بوصفه جزاءاً من السماء التي يتطلعون إليها ويساهمون في تنمية الثروة باعتبار هم خلفاء عليها أبعد ما يكونون عن الزهد السلبي الذي لا يعقد بالإنسان دوره في الخلافة وأقرب ما يكونون إلى الزهد الإيجابي الذي يجعل منهم سادة للدنيا لا عبيداً لها ويحصنهم ضد التحول إلى طواغيت لاستغلال الآخرين.

واختتم العلامة الكبير الشهيد الصدر حديثة بقول الحق تبارك وتعالى (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللّه عاقبة الأمور) سورة الحج الآية (41).

وفي خاتمة هذا المقال والحق يقال بأنّ آية اللّه العظمى الشهيد السيد محمّد باقر الصدر قد وقف وأبان محل ومكان مصدر القوة في الدولة الإسلامية وكشف للعالم القدرة الهائلة التي تكمن في قلوب المسلمين والتي لاتهاب الموت ولا تخشى الحرب والقتال.

اللهم اغفر وارحم لشهيدنا الصدر واجعل هذا العمل الكبير الذي قام به في ميزان حسناته يوم القيامة.

وما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكلت وإليه أنيب.

منابع القدرة في الدولة الإسلامية

بحث مقدم للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر

مدينة قم المقدسة

جمهورية إيران الإسلامية

بقلم الدكتور: المكاشفي طه الكباشي

السودان ـ الخرطوم

1420 هـ ـ 1999م