الدليل الاستقرائي عند المفكر الصدر

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

يعرف الدليل الاستقرائي عادة بأنه استدلال يعتمد على حالات خاصة قليلة لينتهي بالنتيجة إلى حالة عامة، وكما هو الحال القانون الاستقرائي القائل: (كل حديد يتمدد بالحرارة)، فلا شك أنه ناتج عن اختبار عدد محدود من قطع الحديد بالحرارة. والحقيقة أن الاستقراء لم تقتصر وظيفته على اثبات الحالة العامة. إذ لا شك أنّ له دورا آخر في اثبات الحالة الفردية من خلال ملاحظة القرائن وتجميع الاحتمالات حتى يصل إلى درجة الاثبات او اليقين.

فمثلا كيف نعرف أن ذلك القدح مملوء بالماء لا بالخمر، لولا عملية الاستقراء الكاشفة عن عدة قرائن احتمالية تتراكم لتصل إلى مرحلة الجزم واليقين. ومن الواضح أن هناك مشكلة أساسية في الاستقراء، ففي مثالنا الانف الذكر (كل حديد يتمدد بالحرارة) علمنا أنه جاء نتيجة عدة اختبارات لقطع محدودة من الحديد، وبالتالي كيف جاز لنا أن نعمم النتيجة ونعتبر كل حديد يتمدد بالحرارة؟ وبعبارة أخرى كيف نحكم بما هو شاهد على ما هو غائب؟ وكيف نحول ما هو خاص جزئي إلى ما هو علم كلي؟ ومن ثم كيف نبرر عملية اليقين في التعميم، بل وكيف نبرر كذلك اليقين في اثبات القضايا الفردية؟ وكيف يسوغ لنا أن نحول الاحتمال مهما بلغت قوته إلى يقين جازم مطلق؟

وهكذا فإنّ مشكلة الاستقراء في جوهرها هي مشكلة اليقين والتعميم. وإذا ما علمنا أن اغلب المعارف البشرية هي معارف استقرائية أدركنا قيمة الجهود التي تبذل لتفسير عملية الاستقراء. فتفسير هذه العملية هو في حد ذاته تفسير لأغلب المعارف التي يتزود بها الفكر البشري. من هنا جاءت دراسة الصدر وهي تعبر عن هذا المعنى، وذلك في كتابه اللامع (الاسس المنطقية للاستقراء). فهي ليست مجرد تفسير للاستقراء بما هو اتستدلال فحسب، بل أنها تمثل تفسياً لأغلب معارف الفكر البشري، سواء كانت علمية او حسية أو ميتافيزيقية أو غير ذلك من المعارف الأخرى.

والمتتبع للمذاهب التي عالجت مشكلة الاستقراء، سيجد أنها تفترق من الناحية الرئيسية إلى موقفين متناقضين. أحدهما قديم يمتد إلى ارسطو واتباعه من القعلييين ومَن سار على شاكلتهم، والآخر حديث يبدأ من فيلسوف الشك التنويري دفيد هيوم. فبينما كان المنطق العقلي يرى أن التستقراء محلول أمره من أوله إلى آخره دون أن يعي أي مشكلة يمكن أن يشار إليها بالبنان جاء الفكر الحديثث وهو يرى أن مشكلة التعميم واليقين مستعصية مبدياً عدم تفاؤله بأي أمل لأنقاذ المعرفة البشيرية من براثن الشكوك والظن. ووسط هذا الضباب، بين عدم الوعي بالمشكلة والوعي بها, وبين حل القضية والتعذر عن حلها، جاء دور السي الصدر الريادي ليدشن طريقاً جديداص في المعرفة البشيرية. لقد وقف السيد الصدر موقفاً مزدوجاً تجاه كل من المنطق الارسطي والمنطق الحديث، فهو مع المنطق الأرسطي أخذ ينعى عليه حلوله الساذجة، ويكشف عما فيها من وافقه على وجود مشكلة منطقية في الاستقراء، لكنذه انفرد في الاعتقاد بالقدرة على تذليل المشكلة والقضاء عليها. فهو يتفق مع المنطق الحديث ويعي أن البرهنة على قضايا التعميم واليقين في قضايا الاستقراء إنما هو ضرب من المستحيل، لكنه مع ذلك سلك سبيلاً آخر لم يسبق له مثيل، حيث انه افترض اليقين في العملية الاستقرائية وقام بتبريره منطقياً.

ومن الناحية التاريخية ان أقدم المصادر التي تطلعنا على الاعتراف بوجود مشكلة في الاستقراء هي تلك التي تعود إلى جابر بن حيان الكوفي خلال القرن الثني للهجرة، حيث أنه لا يرى ما يبرر اليقين في التنبؤ بالحوادث والتعميمات الاستقرائية. ويعتبر أن الدلالة عليها لا تزيد عن محض الحتمال[1].

لكن يظل أن الفضل في الكشف عن طبيعة المشكل المنطقي الذي يتضمنه الدليل الاستقرائي يعود إلى الفيلسوف الانجليزي ديفيد هيوم (1711 ـ 1776) المعروف بنقده للمعرفة ورده على النزعة العقلية. فهو في مواقفه النقدية أثار مشاكل جديدة كان لها الأثر البالغ على نضج التفكير الفلسفي لدى الذين خلفوه سواء من التجريبيين كالوضعية المنطقية أو من العقليين كالفيلسوف عمانوئيل كانت الذي أعلن قوله صراحة: (انني لاعترف صادقا ان ما استذكرته من تعليم ديفيد هيوم كان هو على وجه التحديد العامل الذي أحدث ـ منذ اعوام كثيرة ـ أول هزة ايقظتني من سبات جمودي الاعتقادي، ووجّه أبحاثي في مجال الفلسفة التأملية وجهة جديدة)[2]. لذا كان كتابه الموسوم (نقد العقل المجرد) يهدف إلى إنقافذ المعرفة البشرية من خطر الانتقادات التي أحدها هيوم.

وعلى العموم أن ظهور هيوم والرد عليه من قبل (كانت) ثم مجيء الوضعية المنطقية التي نقدت ما قبلها؛ كل ذلك قد أدى إلى بلورة المشاكل الأساسية المتعلقة بالدليل الاستقرائي.

فما من أحد يشك في أن هيوم هو اول من وجد في الاستقراء مشكلة منطقية. هذه المشكلة التي تتحدد بمسألة وجود المبرر المنطقي للتعميم اعتماداً على فهم السببية بشكل خاص. لذلك كانت هناك مواقف مختلفة اتجاه الدليل الاستقرائي؛ بعضها ينفي المشكلة من الاساس، وبعض آخر يرى أنها ثابتة لا تزول، كما توجد هناك مواقف أخرى لا تصل إلى هذين الحدين المتطرفين، وتبتغي سبلاً متباينة من الوسط.

وقد ارتبطت بهذه المشكلة مشكلة منطقية أخرى تتعلق بمبرر اليقين في القضايا الاستقرائية، حتى تلك التي لا تكون لها علاقة بالتعميم؛ كمعرفتنا بوجود واقع موضوعي حولنا، وبوجود زيد وموت سقراط ونشوء الأرض.

ولأجل التعرف الاولي على معالجة المفكر الصدر للاستقراء لابددّ من لحاظ النقطتين التاليتين:

1 ـ ان نظرية المعرفة يتجاذبها اتجاهان متعاكسان لمذهبين ظلا على خلاف تأريخي قائم إلى يومنا هذا؛ احدهما يدعى بالمذهب العقلي وخير من يمثله ارسطو واتباعه من المناطقة والفلاسفة، اما الآخر فهو المذهب التجريبي، وخير من يمثله التيارات الوضعية والتجريبية الحديثة. والمعرفة لدى المذهب العقلي قائمة اساساً على مبادئ اولية عقلية ليست مستمدة من التجربة والحس، وعليه كانت الطريقة المتبعة في انتاج المعرفة الجديدة هي دائماً قياسية تتجه من ما هو عام وكلي إلى ما هو خاص وجزئي. فحتى الاستقراء ذاته يصبح منطوياً على قياس خفي لكونه يرتكز على بعض المبادئ العقلية التي تبرر له مشروعية الاتجاه من العام إلى الخاص. أما لدى المذهب التجريبي فعلى العكس لأنّ المعرفة الاساسية لديه قائمة بطريقة استقرائية على التجربة، وبالتالي فإن عملية انتاج المعرفة تتجه ـ في الاساس ـ من الخاس إلى العام وليس العكس. وكانت مهمة الصدر قبال هاتين النزعتين المتعارضتين هو الجمع بينهما حتى في العملية والواحدة، كما هو الحال في الاستقراء ذاته، إذ الاستقرار لديه ينطوي على عمليتين معاً. حيث يبدأ على شكل قياس باتجاه الفكر من العام إلى الخاص، وذلك بتجميع قيم الاحتمالات الرياضية إلى اقوى درجة ممكنة من الاحتمال لصالح القضية المستقرأة؛ اعتماداً على مبادئ الاحتمال ومصادراته التي تبرر الشكل القياسي من المعلية الاستقرائية. وقد أطلق الشهيد على هذه العملية بالمرحلة الاستنباطية. لكنه لم يتوقف عندها، إذ أضاف إليها عملية اخرى غاية في الاهمية، وهي التس سماها (المرحلة الذاتية). فبعد ان تنتهي المرحلة الاستنباطية باتجاه الفكر من العام إلى الخاص، يأتي دور المرحلة الذاتية الأخيرة باتجاه الفكر من ذلك الخاص إلى عام آخر يتمثل القضية المستقرأة.

ان هذه التشكيلة من الجمع بين عمليتي تنقل الفكر البشري في القضية الواحدة، من العام إلى الخاص، ومن الخاص إلى العام، هي الطريقة الجديدة التي صاغها السيد الصدر ليفسر من خلالها غالب المعرفة بالبشرية. فمن المعلوم أن العملية القياسية في انتاج المعرفة هي عملية منطقية بحتة. الأمر الذي يعني ان الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية الاولى، حينما يقوم اساساً على مبادئ الاحتمال، فانما ينطلق طبقاً لعملية منطقية خالصة ليس للذهن البشري فيها أي دور من أدوار التدخل الذاتي. لكن المشكلة تتحدد في العملية المعاكسة، إذ الاستقراء في مرحلته الثانية او الأخيرة لا يعتمد على الطريقة القياسية، بل يتجه مما هو خاص إلى ما هو عام، او مما هو محتمل إلى ما هو يقين. فإذا كان من الواضح أن هذه العملية ليست قياسية كما هو الحال مع الأولى، فكيف يمكن تبرير مثل هذا التحول والانتقال؟ وكيف يمكن تفسير مثل هذه العملية؟ وهل يا ترى ان لهذه العملية منطقاً خاصاً أو لا؟

حقيقة الأمر أن دور الصدر يبدأ من هذه النقطة بالذات، فهو يرى أن عملية الانتقال مما هو خاص إلى ما هو عام، ومما هو احتمال إلى ما هو يقين، يتم عبر طريقة خاصة في المعرفة هي تلك التي اطلق علهيا بالتلازم الذاتي. فتوليد المعرفة لا يتم هنا عبر شكل منطقي كما هو الحال مع القياس، بل يتم ذاتياً من معرفة أخرى تلازمها. فحين تتراكم القرائن الاحتمالية في الذهن البشري باتجاه محور قضية ما؛ تحصل للذهن حالة إذعان للتسليم (ذاتياً) بصحة هذه القضية، فيخلع لباس اليقين او التعميم. وتعتبره هذه الخاصية من سمات الطفرة للذهن البشري. فما قام به الصدر في مرحلته الذاتية هو أنه قد أفنى القيمة المتضائلة عملياً كما هي فانية نفسياً لدى عموم الذهن البشري. لكنه مع افنائه اياها عملياً طبع عليها طابعاً منطقياً، وذلك لضمان سلامة الاستقراء كي يظل حاملاً لما هو (جامع مانع) من خلال وضع الشروط المنطقية، اللازمة، والتي على رأسها شرط التراكم الاحتمالي بشكل مطرد دون شذوذ.

بهذا فان الدور الرائد للسيد الصدر هو ليس البرهنة على اليقين والتعميم في القضية الاستقرائية، وإنما هو تبرير الصفة السايكولوجية لعملية التلازم المعرفي الذاتي بطريقة منطقية. فهو بذلك أراد أن يجعل للطبيعة منطقاً لا يتناقض مع كونها لا تقوم على أساس منطقي، لهذا اطلق الصدر على أطروحته بالمذهب الذاتي.

2ـ ان المحاولة المبتكرة للمفكر الصدر أرادت أن تمد جسراً منطقياً بين عالم الشهادة وعالم الغيب، فاعتبرت الاستقراء كفيلاً بحل القضية الميتافيزيقية المعبّر عنها بالمسألة الالهية. وهو أمر لم يسبق للمذاهب الفلسفية أن طرقته، بل عُد مستحيلاً لدى الفكر الحديث ومنه التيار العلمي. فقد توصل المفكر الصدر من خلال محاولته الرامية لتأسيس الدليل الاستقرائي إلى اثبات المسألة الالهية بنفس القدر الذي تثبت فيه أي قضية علمية أخرى. فكما سبق أن عرفنا بانّ هناك أساساً مشتركاً لاثبات كل من العلوم الطبيعية والمسألة الإلهية، وأنه ليس أمام الإنسان أن يختار إلا طريقاً بين طريقين لا ثالث لهما، فاما الايمان بالعلم والمسألة الالهية، او الفكر بهما معاً، وأي سبيل آخر فهو بلا ريب متناقض، إذ الشروط التي تثبت القضية العلمية هي ذاتها التي تثبت القضية الالهية بلا فرق، مشيراً إلى الدور الذي مارسه القرآن الكريم في التنبيه إلى فحوى الدليل الاستقرائي للكشف عن الاصل العقائدي من خلال النظر إلى الخلق والعالم لاستكشاف ما يبديه من قصد وحكمة.

تلك كانت فكرة عامة استعرضناها للتعريف بمذهب الشهيد الصدر. أمّا من حيث النقد والتحليل فيلاحظ ان اطروحة الصدر تتقوم بعدد من الركائز الاساسية، سواء في مرحلتها الاستنباطية او في مرحلتها الذاتية. ففي المرحلة الاستنباطية ان الدليل الاستقرائي لا يؤدي دوره في اثبات اليقين والتعميم إلا بعد احراز محورين أساسيين كالآتي:

1 ـ الكشف عن السببية في القضية الاستقرائية وترجيح الضرورة فيها، ليتسنى بعد ذلك اثباتها.

2 ـ اثبات الوحدة المفهومية لدى كل طرف من طرفي العلاقة السببية في القضية الاستقرائية.

فبحسب المفكر الصدر أن القضية الاستقرائية التي يراد لها التعميم تنطوي على ثلاث مشاكل تستدعي الحل والعلاج:

فأولاً: مشكلة اثبات مبدأ السببية العامة، إذ به يمكن أن نثق من أن تمدد الحديد ـ مثلاً ـ كان بسبب ما. وبدون هذا الشرط فإنّه من غير الممكن أن نصل إلى تأسيس الدليل الاستقرائي؛ لأنّه قد لا يكون بين الظواهر أي رابط سببي مطلقاً.

وثانياً: مشكلة تعيين السببية الخاصة، فإذا عرفنا أن كل حادثة لابد أن ترتبط بسبب ما عن طريق تذليل المشكلة الأولى، يبقى ان نتعرف عن ماهية السبب المرتبط بالحادثة، فتمدد الحديد ـ مثلاً ـ له سبب يرتبط به، والمفروض ان نتعرف على ماهية هذا السبب كي نثق بالرابطة الحقيقية التي تربطه مع الحادثة (تمدد الحديد). على هذا تتحدد المشكلة كالآتي: كيف يمكن أن نتعرف على ماهية السبب، ونثق بأن سبب تمدد الحديد هو الحرارة لا الضغط مثلاً.

وثالثاً: مشكلة التعميم، فإذا تغلبنا على المشكلة الثانية (فضلاً عن الأولى). وعرفنا ان السبب الذي يرتبط بتمدد الحديد في التجارب التي اقمناها هو الحرارة. ففي هذه الحالة، ما الذي يجعلنا نثق من ان الحرارة هي دائماً تعمل على تمدد كل حديد؟

هذه هي مشاكل الاستقراء الاساسية التي اولاها المذهب الذاتي جل اهتمامه ومعالجته. وهو يف محاولته لبناء الدليل الاستقرائي طبقاً لحل المشاكل الآنفة الذكر؛ اشتراط ان تحل المشكلتين الاوليتين طبقاً لاثبات محورين أساسيين: الاول اثبات الضروة في العلاقة السببية، سواء تلك المناطقة بالمشكلة الاولى (السببية العامة)، أو تلك التي تتعلق بالمشكلة الثانية (السببية الخاصة). فالقضية الاستقرائية بنظره ليست قابلة للتيقن ما لم تترجح وتثبت السببية الضرورية لكلا العلاقتين العامة والخاصة، وذلك اعتماداً على اقامة التجارب والحساب الاحتمالي لها. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، وإنّما يعتمد على اثبات محور آخر هو المطلق عليه بالوحدة المفهومية لكل من السبب والمسبب. وتعني هذه الوحدة بأن التعامل مع السبب أو مع المسبب لا يتم مع مشخصاتها الفردية؛ فلا يكون التعامل مع هذه الالف مستقلاً عن تلك الالف ـ مثلاً ـ، وإنما يكون مع الصفة العامة للالفات، وكذا الحال مع الباءات. فعندئذ يمكن حل المشكلتين الأولى والثانية بالتجربة والاستقراء، كما تتطلبها المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، ويتهيأ الأمر إلى الدخول في حل المشكلة الثالثة وتبرير مسألة التعميم واثبات اليقين، وذلك استناداً إلى ما تقوم به المرحلة الذاتية من الدليل الاستقرائي. وهي مرحلة لا تقوم لها قائمة من غير اتمام ما على المرحلة الاستنباطية من المهمتين الآنفتي الذكرز.

على أن الدور في المرحلة الذاتية يختلف عمّا عليه في سابقتها. فهي لا تقوم بأي على استقرائي وتجريبي، ولا تبني أي حساب احتمالي، وإنّما تحوّل هذه الانجازات إلى شكل آخر من المعرفة هي المعرفة الذاتية التي فيها يثبت اليقين والتعميم، فتحل بذلك المشكلة الأخيرة من مشاكل الاستقراء. والركيزة الاساسية في هذه المرحلة هي المصادرة الموضوعة والتي غرضها تبرير النقلة من الترجيح الاحتمالي في المرحلة الاستنباطية إلى حالة اليقين (الموضوعي) فزيادة التجارب الناجحة في المرحلة الاستنباطية تعمل على تنمية قيمة احتمال السببية إلى أقوى درجة ممكنة من الترجيح، وعندها يبدأ دور المرحلة الذاتية وذلك من خلال المصادرة التي تقر بأنهّ كلما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد، فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على قيمة احتمالية كبيرة، فانّ هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحول ـ ضمن شروط معينة ـ إلى يقين، في الوقت الذي تتحول فيه القيمة المضادة لها إلى درجة الصفر[3]. وقد أُحيطت هذه المصادرة بشروط خاصة تحدد دائرة الوظيفة التي تقوم بها.

تلك هي اجمالاً الركائز الأساسية لأطروحة المفكر الصدر في حلّه لمشكلة الدليل الاستقرائي. وسيقتصر تحليلنا ونقدنا ـ هنا ـ على المحورين الأساسيين اللذين يقومان المرحلة الاستنباطية. لذا نتساءل: كيف أمكن للمذهب الذاتي أن يحقق حله للمشاكل الثلاث المناطقة باثبات المحورين الآنفي الذكر استقرائياً؟ فأولاً كيف استطاع ان ينمي الضرورة في العلاقة السببية؟ ثم كيف تمكن من اثبات الوحدة لاطراف العلاقة السببية؟

1 ـ الدليل الاستقرائي واثبات السببية الضرورية

تمتاز السببية التي تفترض الضرورة كما يعول عليها المذهب العقلي بنوعين من العلاقات احدهما وجودية، وهي تعني أنه كلما وجد السبب (أ) حدثت (ب)، والاخرى عدمية لانها تعني أنه كلما انعدم وجود (أ) فان (ب) تنعدم تبعاً له مما يقتضي ان يكون وجود (ب) من دون (أ) مستحيلاً، وهو عبارة عن نفي الصدفة المطلقة التي تتضمن استحالة وجود المسبب من دون سبب. وبحسب الشهيد الصدر انه لكي نثبت صحة الدليل الاستقرائي في سيره المعرفي من الخاص إلى العام لابدّ من اثبات هذين المنطقين من السببية الضرورية، فهما يعبران عن السببيتين الخاصة والعامة.

فبخصوص اثبات السببية الضرورية الخاصة. تارة يُفترض ان هناك مبرراً للاعتقاد باستحالة الصدفة المطلقة، وأخرى يفترض عدم وجود مثل هذا المبرر، أي ان من الجائز حدوث مثل هذه الصدفة، فسواء بهذا أو بذاك ان من الممكن تنمية احتمال هذه السببية بين (أ) و (ب).

ففي الحالة الاولى أنه إذا كانت (أ) موجودة ووجدت معها (ب)؛ فإمّا ان يكون وجود (أ) هو السبب في حدوث (ب)، أو أنه لا علاقة له بذلك، لكن حيث انه بحسب الفرض يستحيل ان يكون وجود (ب) من غير سبب؛ لذا يحتمل بادئ الأمر ان يكون السبب في جودها هو عنصر آخر غير (أ)، ولنفترض انه (ت). على ان من الواضح انه لو لم تكن (ت) موجودة لتحتمت سببية (أ) لـ(ب)، لكن احتمال وجودها قد يعطيها بعض القيمة الاحتمالية لأن تكون هي السبب لـ(ب)، ولا شك ان هذه القيمة تظل ضئيلة بالقياس إلى قيمة احتمال سببية (أ)، وذلك لأن اخراج قيمة احتمال سببيتها يفرض علينا ضرب احتمال كونها موجودة في احتمال كونها هي السبب على افتراض وجودها، وبعلمية الضرب تتضاءل القيمة.

وهذه التقديرات تظل كما هي في حالة اجراء أي عدد ممكن من التجارب، إلا انه مع زيادة التجارب يلاحظ ان قيمة احتمال سببية (أ) تزداد، في الوقت الذي تتضاءل فيه احتمال سببية (ت).

أما في الحالة الاخرى التي نفترض فيها ما يسوغ لنا الاعتقاد بجواز حدوث الصدفة المطلقة، فانّ من الممكن ايضاً احتمال سببية (أ) لـ(ب) باطراد، وذلك عن طريق القضية الشرطية التالية: إذا كان صحيح أن (أ) هي السبب في وجود (ب) فلابدّ أن يقترنا مع بعض في جميع التجارب المختبرة. وبالعكس فيما لو لم تكن (أ) هي السبب لـ(ب). وفي هذه الحالة إذا افترضنا ان (أ) ليست سبباً لوجود (ب)؛ فسوف تكون لدين بعض الاحتمالات التي تتعلق بظهور (ب) حين ايجاد (أ).

كان ذلك فيما يتعلق باثبات علاقة السببية الضرورية الخاصة. أمّا بخصوص اثبات السببية الضرورية العامة، فيتعلق الأمر هنا باثبات استحالة الصدفة المطلقة، فلو افترضنا ان (أ) هي الوحيدة المحتملة لسببية (ب) فانّ بالامكان تنمية احتمال الناجحة التي تكشف عن اختفاء (ب) حين انعدام (أ).

ومن الواضح أنّه لو صحت هذه الطريقة لكان يعني ان من الممكن البرهنة استقرائياً على نقطة تعد في غاية الاهمية، إلا وهي استحالة الصدفة المطلقة التي تمثل جوهر السببية العامة، وبالتالي فان ذلك يعني انه لا حاجة للدليل الاتسقرائي إلى أي مصادرة قبلية تتعلق بالسببية. لكن رغم عمق المحاولات المبتكرة التي أسسها استاذنا الشهيد في تنمية احتمال السببية طبقاً لنظريته الخاصة بالعلم الاجمالي؛ إلا ان النتيجة التي استخلصها منها، عليها بعض الملاحظات كالآتي:

1ـ ليس من شك أن المحاولات السابقة للتنمية الاحتمالية تصلح لأثبات السببية عموماً في قبال الصدفة، لكنها تفشل في البرهنة على اثبات الضرورة التي تتضمنها علاقة السببية. فمن الواضح ان الاقتران بين ظاهرتين حاصتين اما من يعبر عن ضرورة محضة أو عن صدفة محضة أو عن علاقة مشدودة تقبل الانفكاك، ومع كثرة التجارب ومشاهدة التكرار في الاقتران يمكننا بطريقة الاحتمال ان نضعف من قيمة احتمال الصدفة ومن ثم نفيها عملياً، لكن يظل لدينا افتراضان احدهما لصالح الضرورة والآخر لصالح علاقة الشد. ومن المعلوم ان كثرة التجارب لا أثر لها في تأييد أي فرض من الفرضين السابقين ما لم يتدخل عامل آخر جديد، كالعامل الفلسفي أو الشرعي، مثلما تنبّه إليه استاذنا الشهيد في كتابه (بحث حول المهدي).

هكذا ان التجارب المتكررة بامكانها أن تساعد على تنمية احتمال نفي الصدفة المطلقة، لكنها لا تساعد على تنمية احتمال استحالتها؛ للفارق بين نفي الشيء ونفي استحالته، أو لأنّ اثبات علاقات الشد لا يدل على استحالة فكها.

ولا يختلف هذا الموقف من اثبات السببية العامة بواسطة الاحتمال والاسقراء عن الموقف السابق مع السببية الخاصة. إذ أن نجاح التجارب يمكن أن يساعد على تنمية احتمال سببية ظاهرتين مقترنتين مع بعض، دون أن يعني ذلك انها تنمي قيمة احتمال الضرورة في العلاقة المفترضة بينهما، طالما يحتمل أن تكون هذه العلاقة هي مما سميناه علاقة الشد.

ويلاحظ ان الفكر الإسلامي ثلاثة مواقف أزاء طبيعة العلاقة السببية الخاصة، وان اتفقوا على ما تتميز به السببية العامة من وجود العلاقة الضرورية. فهناك الموقف الذي يرى ان العلاقة السببية تتحكمها الضرورة. وهو ما يمثل وجهة النظر الفلسفية. كما هناك الموقف الذي يرى العلاقة هي علاقة اطراد ناشئة بفعل (الخلق المستمر)، مثلما تقول بذلك الاشاعرة. كذلك فهناك الموقف الذي يرى العلاقة تتحكم بها الصور الطبيعية كسنة شاء الله تعالى ان يطبع بها مخلوقاته، وهي بالتالي ثابتة لكنها ليست ضرورية الثبات، بدلالة ان خرقها جائز للانبياء كي يبرهنوا على صدق دعواهم، كما هو رأي ابن حزم. هكذا أمام ثلاث نظريات عن السببية الخاصة، وهي باختصار عبارة عن:

1 ـ السببية الضرورية (الفلاسفة).

2 ـ السببية الخلقية (الاشاعرة).

3 ـ السببية الطبيعية (ابن حزم).

وعليه فاننا لاجل البرهنة استقرائياً على السببية الاولى لابدّ من أن نضعف في المقابل السببيتين الأخريين. ولو اننا اعتبرنا السببية الثانية (الخلقية) تفترض سلفاً الرجوع إلى المبدأ الميتافيزيقي الخاص بالمسألة الالهية، وجوزنا تسامحاً عدم الاذعان إلى الاعتبارات الميتافيزيقية، فإنّه مع ذلك تظل أمامنا السببية الطبيعية، إذ كيف يمكن القضاء على فرض قائل بأنّ علاقات الطبيعة يسود فيها نمط من الطبائع وان لم يتحتم تأثيرها؟ وهو الفرض الذي يتسق مع ما اطلقنا عليه بعلاقة الشد، وذلك لنزع عنه الاعتبارات الميتافيزيقية، كما هو الحال مع الظواهر الاحصائية. اما لو أخذنا باعتبار التأثير الخاص بالمسألة الميتافيزيقية فاننا نعجز عن أن نضعف الافتراض القائل بالسببية الخلقية، وهو الافتراض الذي يجعل من العلاقات بين السبب والمسبب لا يسود بينها أي نمط من انماط التأثير، إنما جرت سنة الله أن يجعل بينهما هذا الارتباط من التعاقب والاضطراد. مع ذلك فليس هناك ما يضطرنا للأخذ بهاذ الافتراض طالما ان من الممكن تفسير تلك العلاقات بشكل قريب ومتسق.

2 ـ على العموم أن فرض الضرورة لا يصلح التمسك به في تقييم تعميماتنا لقضايا الاستقراء حتى مع افتراض صدقه في الواقع، وذلك باعتبار اننا لا نتعامل مع الظواهر بحدود العامل الواحد كي نعرف أن هذا ضروري الوجود وذلك ضروري العدم، بل يلاحظ أن كل ظاهرة تخضع للعديد من العوامل المختلفة التي تشكل فيما بينها ما يسمى بالعلة التامة. واذ لا يمكن الاحاطة بكافة تلك العوامل والشروط فاننا لا نأمن نجاح الظاهرة على سبيل الاطلاق. فقد تنعدم هناك عوامل اساسية خافية عنا، كما قد تتدخل عوامل أخرى جديدة تعمل على حرف الظاهرة.

هكذا لكون الظواهر في الواقع ذات بينة تركيبية خاضعة للتغيير باستمرار؛ فانّ الطبيعة تصبح مسرحاً لنوعين من العلاقات المثبتة بالاستقرار، هما علاقات الشد الوظيفية والمصادفة العرضية (النسبية). أما علاقات الضرورة فهي على فرض وجودها ينبغي أن تكون ضيقة بالحدود التي تصير فيها العوامل ثابتة من دون أن يطرأ عليها أي تأثير خارجي، لهذا كان بحثها يختص بالدراسات الفلسفية المجردة.

2ـ الدليل الاستقرائي واثبات الوحدة المفهومية

ان فهم العلاقة السببية طبقاً للمفهوم الماهوي يعود بنا إلى المنطق الارسطي. فالعلاقة الضرورية بين السبب والمسبب لدى هذا المنطق قائمة على أخذ اعتبار الماهية في طرفي هذه العلاقة، أو ان الضرورة المعتبرة هي تلك التي تقوم بين ماهية السبب وماهية المسبب. أمّا العلاقة الخارجية للسببية فقد تتأثر بعض مشخصاتها أحياناً بما يطرأ عليها من بعض العوارض ويجعلها غير محتمة الحدوث، أي ان العلاقة بوصفها الشخصي لا يتحتم فيها الارتباط الضروري على الدوام؛ طالما انها قد تتأثر بعوامل أخرى طارئة على ذاتيتي السبب والمسبب؛ مما قد لا يتمكن العقل البشري الكشف عنها بدقة. وهذا الفصل بين الماهية أو المفهوم الكلي من جانب، وبين الواقع الموضوعي للعلاقة السببية من جانب آخر، جعل المنطق الارسطي لا يحتم مسألة التعميم ولا يعيرها أهمية (الماهوي) من العلاقة السببية، ولا يضيره شيء إن أفضت القضية الاستقرائية إلى عدم تحقيق الأمر الدائم (التعميم) وانتابها بعض الشذوذ والمستثنيات نتيجة التعقد الحاصل بين الظواهر في الواقع الموضوعي. وبالتالي فانّ ما يكفيه هو ان يتحقق الاقتران الاكثري أو الغالب ليعد الدليل الاستقرائي ـ أو ما يسميه بالتجربة ـ صحيحاً في نهجه.

بهذا يتخذ المنطق الارسطي مسلكاً مزدوجاً، فهو من جانب يعتقد بامكانية الكشف عن السببية الضرورية المؤطرة ضمن الاطار الكلي الماهوي، لكنه من جانب آخر لا يجعل ذلك مبرراً للتعميم، بل يكفي تحقق الاقتران الاكثري بين السبب والمسبب ليستكشف منه صبغتها الطبعية في التحقق، حتى لو لم يؤدِ ذلك إلى الاقتران الدائم، طالما ان هذه الظاهرة قد تتلبس بعوامل متعددة تمنعها من أن تتحقق وتعبّر عن كامل شكلها الكلي من الماهية.

وهذا الأمر يختلف تماماً عمّا لجأ إليه الاتجاه التجريبي الذي رفض المصادرات القبلية ذلك ان هذا الاتجاه لا يتجاوز النظر إلى العلاقة المحسوسة بين وقائع الظاهرتين المتعاقبتين، وهما من حيث ذلك لا يدلان على الضرورة بين السبب والمسبب، كما لا يدلان على المفهوم الماهوي للعلاقة بينهما، وبالتالي فانّ التعامل معهما يظل ضمن الاطار الشخصي من العلاقة لا المفهومي أو الكلي. وكلا الأمرين يجعلانه لا يجد ما يبرر حالة شذوذ الشاهد الواحد مما يبطل الدليل الاستقرائي، مثلما يؤكد على ذلك الفيلسوف المعاصر كارل بوير، الأمر الذي دعاه إلى رفض الاعتماد على الاستقراء واللجوء إلى المذهب الاستنباطي القائم على أساس التكذيب، أي السعي وراء اكتشاف شاهد مضاد يكفي أن يكذب القضية الكلية والتنبؤ بالحوادث الجديدة، الأمر الذي جعله ينظر عادة إلى الدليل الاستقرائي بما يحمل من هذه الخاصية التنبؤية، رغم أن في بعض أشكال هذا الدليل ما ليس له علاقة بالتنبؤ والتعميم، كما هو الحال فيما يتعلق بدوره في تفسير الظواهر الطبيعية واثبات وجودها.

أمّا المفكر الصدر فواقع الأمر أنه سلك سلوكاً جامعاً بين ما أراده المذهبان العقلي الارسطي والتجريبي الغربي، فهو من جانب يعوّل على الطابع الماهوي للعلاقة السببية لكنه من جانب آخر سعى نحو إفادة الدقة في الوصول إلى التعميم، أي أنه لم يعتمد على مجرد الأمر الكلي مثلما هو الحال لدى المنطق الارسطي، وانّما سلّم باعتبار طابع الوقائع الخارجية، حيث أخذ يدقق في فئة محددة من الطابع الماهوي ليستعين بها في أمر التعميم، فأكد على ضرورة أن يأخذ المستقرئ في عين الاعتبار ما يمكن ملاحظته من تمييز بين فئات الالفات ـ مثلاً ـ حتى لا يعمم الحكم على جميعها، بل يكتفي بخصوص الفئة التي جرب علاقتها بالسببية ـ والتي أطلق عليها خاصة الوحدة المفهومية ـ رغم انها تشترك مع غيرها بخاصة الوحدة النوعية أو الماهوية. فالغرض من هذا التعريج في لحاظ الواقع هو لأجل اسناد المرحلة الاستنباطية وتبرير التعميم بلا شذوذ ولا استثناء وعليه فانّه بذلك يختلف عن المنطق العقلي الأرسطي في عدم اعتباره للاستقراء القائم على الحد الاكثري وتبرير الشذوذ. كما انّه يختلف عن المنطق التجريبي لكونه يعتبر ان باستطاعة العقل البشري أن يحد سبيله في تبرير حالة التعميم حتى مع الأخذ بالمصادرات القبلية.

هكذا يتبين لنا الشكل المميز الذي اتخذه استاذنا الشهيد لبناء وتبرير مسألة التعميم في الدليل الاستقرائي، وذلك استناداص إلى الوحدة المفهومية ضمن الوحدة الكلية أو الماهية. ولنا على ذلك عدد من الملاحظات كالآتي:

أولاً: إن ضرورة أخذ اعتبار الخاصية المشتركة والوحدة المفهومية للالفات والباءات المقترنة يفضي بالبحث إلى أن يتأطر في دائرة الاستقراءات البسيطة ذات العلاقات المطردة، فيصاب بالعجز عن تفسير الفروض العلمية التي تتجاوز حالات الانواع والتي لا نرى ثمة تماثلاً في الظواهر المتعلقة بتفسير هذه القوة، فكما نلاحظ ان هناك فروقاً نوعية شاسعة بين ظاهرة المد والجزر وحركة الكواكب وانحراف كوكب يورانوس وسقوط الاشياء على الأرض واكتشاف كوكب نبتون، فمع ان هذه الظواهر مختلفة نوعاً لكنها جميعاً تنساب نحو تأييد ذلك الافتراض، ولعل اكتشاف (نبتون) يعبر عن حالة خاصة تختلف اختلافاً جذرياً عما سواه من الظواهر الاخرى، ذلك انه يتأطر باطار القالب المعرفي، وبعبارة أخرى، أنه إذا كانت سائر الظواهر الاخرى تعبر عن قرائن احتمالية مصداقية، فان اكتشاف ذلك الكوكب لا يعبر إلا عن قرينة احتمالية معرفية تؤيد القوة المفترضة كتأييد البقية، وهو في ذات الوقت مستلهم من الفرض الانف الذكر، وعند اكتشافه حقيقة اصبح قرينة زادت في القوة الاحتمالية للفرض السابق.

ومعلوم أن الحظ لا يحالفنا بالتوفيق لو أردنا تطبيق الخاصية المشتركة والوحدة المفهومية لاقترانات (أ) و (ب) على ذلك الفرض، فلو اعتبرنا (أ) بمثابة القوة الجاذبة فان (ب) ستكون ذات أنواع متمايزة ومفككة، فبعض أفرادها يعبر عن المد والجزر، وبعض آخر عن سقوط الاشياء على الأرض، وبعض ثالث عن انحراف (يوارنوس) واربع عن اكتشاف (نبتون) المستلهم من روح الجاذبية ذاتها، وكل ذلك مما لا يستق مع شرط الوحدة المفهومية.

وعليه كان لابدّ من ان نشخص بحث الاستقراء على منوالين، فتارة يبحث في قرائن متماثلة نوعاً، وأخرى خلاف ذلك، ويعتبر النوع الأخير من البحث أهم وأشد ارتباطا بالفروض العلمية من الاول. كما أنّه يتأسس عليه، إذ أساس التماثلات إنما يستدل عليه بالختلاف والتباينات كما سيتضح لنا ذلك. وكثير من الاحيان نلاحظ امكانية بحث ظاهرة واحدة بالطريقتين معاً، رغم أن القيم الاحتمالية المعطاة لكل منهما تكون مختلفة تبعاً لذلك. فاعتبار ان البحث الثاني يعطي قرائن مختلفة كيفاً، لذا فانّ القيم الاحتمالية المتجمعة منه يتوقع لها أن تكون مختلفة عن قيم احتمال البحث الاول، فيما لو حافظنا على ثبات العدد من التجارب بشكل كلي في كلا النوعين.

ثانياً: يلاحظ اننا حتى لو عولنا على الأخذ بمنطق الوحدة المفهومية، فرغم ذلك سوف لا نتجح في تعميم الاحكام التنبؤية ما دمنا نتعامل مع فئات هي غاية في التركيب والاشتراط والتعقيد، فأي ظاهرة نختارها لا يمكن تحصينها عما يمكن ان يطرأ عليها من زيادة أو نقصان دون أن يشعر، وهي النقطة التي اولاها المنطق الأرسطي ـ على لسان  ارسطو وابن سينا ـ أهمية خاصة في جواز خطأ النتيجة وبطلان الحكم الكلي والتعميم، والتي عبّر عنها بمشكلة أخذ ما في العرض مكان ما في الذات. فحيث اننا لا نملك قدرة لمعرفة عناصر الظاهرة المركبة إلا اجمالاً؛ فإن أي حادثة جديدة نصادفها ونتصور انها تنتمي إلى هذه الظاهرة ـ تبعاً لادراك التماثل بينهما ـ قد تخيب ظننا، فنتصور انها ستفرز نفس الاثر الذي يترتب على تلك الفئة، وإذا بها تعصف بآمالنا ادراج الرياح، مما يعني ان الجسر الذي يوصل الوحدة المفهومية من عالم الافتراض الذهني إلى الواقع لا يملك القوة الكافية إلى الدرجة التي يستعد فيها لأن يتحمل الدفعات الجديدة كلها.

ثالثاً: كما يلاحظ ان الاستدراك الذي عوّل عليه استاذنا الشهيد في اكتفائه بمنطق الوحدة المفهومية دون الأخذ بمطلق الوحدة المشتركة للماهية؛ هو في حد ذاته يدل على وجود المبرر الكافي للاستغناء عن الضرورة فيما يخص الفئات المشتركة العامة. فلو اننا لم نرَ وجود الفات أُخر لا تخضع إلى نفس الحكم، فيبطل بذلك مبرر التعميم، في حين لا يرد هذا الاشكال على مبدأ علاقة الشد.

رابعاً: أخيراً ما هو الدليل على وجود الصفة العامة لماهية الافراد؟ فلو أنا سألنا استاذنا الشهيد عن ذلك لوجدنا الجواب جاهزاً، وهو انّه مستمد من الاستقراء أيضاً.

فقد اعتقد ان اثبات الماهية المشتركة هو أيضاً ممّا يتم عبر استقراء آخر يكشف عن طبيعة التماثل بين أفراد تلك العناصر، لكنّه لم يفصل الحديث في هذا الأمر على أهميته[4]. على أن تحليل هذه القضية من اعتبار الاستقراء يقوم على أساس الوحدة المفهومية، وان هذه الوحدة تُردّ إلى استقراء آخر؛ سيفضي إلى أن نجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة من الدور. وهو تهديد صارخ للاساس الذي يقوم عليه الدليل الاستقرائي فيما لو أسند إلى مثل هذه الدائرة. ومن حيث التفصيل نلاحظ في النص الآنف الذكر ما يلي من القضايا:

1 ـ قضية اثبات التشابه بين الشيء الخارجي وصورته الذهنية.

2 ـ قضية اثبات التماثل للصور حين تكون هناك أشياء خارجية متماثلة.

3 ـ الاستدلال استقرائياً على تماثل الاشياء الخارجية من خلال وجود التماثل الصوري. لنترك مؤقتاً القضية الأولى وننتقل إلى الثانية لنتساءل: ما الذي يدعونا إلى الاعتقاد بوجود تماثل بين الصور؟ والجواب على ذلك كما ذهب إليه استاذنا الشهيد بحق هو أن هذه القضية مدركة ادراكاً مباشراً دون اتكاء على أي استدلال، تظل لدينا القضية الثالثة، وفيها اننا إذا توصلنا كما في القضية الثانية ان هناك صوراً متماثلة؛ كيف يجوز لنا أن نعكسها على التماثل بين الأشياء الخارجية المقابلة لها؟

والملاحظ أن علاج استاذنا الشهيد لهذه القضية بالخصوص كان مجملاً، فهو لم يقل شيئاً سوى أن رد التماثل إلى الاستقراء، أي اننا نملك استقرائين، أحدهما يرتكز على التماثل أو الوحدة المفهومية، والآخر يثبت هذه الوحدة، وسؤالنا هو كيف يثبت الاستقراء ذلك التماثل؟

لنعلم أولاً اننا حين ندرك التماثل بين عدد محدود من الصور يمكننا أن نعكس ذلك على التماثل بين نفس العدد المقابل من الاشياء الخارجية، وإذا جاز لنا تبرير القفزة التصورية من الجزئي الذهني إلى الكلي باعتبارها قضية مدركة مباشرة تماماً، لكن كيف يجوز لنا أن نعكس ذلك على الواقع الخارجي، فنعمم على كل ما لا يدخل ضمن تجربتنا الإدراكية؟

ليس لدينا تردد في اننا سندخل مرة أخرى في صلب ذات الاستقراء المعالج طبقاً لقضايا السببية، ذلك لاننا عرفنا في السابق استاذنا الشهيد لا يجيز اثبات اليقين والتعميم ما لم يثبت السببية سلفاً. لكنه حين أقام السببية على أساس الوحدة المفهومية عاد هنا من جديد متكأً على مصادرة السببية ذاتها، مما يعني أن كلاً منهما يصبح مشروطاً ومتوقفاً على الآخر، فالسببية من خلال الوحدة، وهذه الوحدة تحتاج إلى مصادرة السببية، وهكذا نقع في حلقة مفرغة من الدور.

وفي الحقيقة اننا في هذه الحلقة المفرغة نكون قد اصطدمنا بكل من السببية الخاصة والعامة، وذلك لاننا لكي نثبت بالاستقراء التماثل بين الانبياء نحتاج إلى أن نعرف بأن أي صورة ذهنية لا يمكن لها الوجود ما لم ترتبط بوجود مؤثر ما أوجدها، وهو اتكاء على مصادرة السببية العامة، وكذلك نحتاج إلى تشخيص هذا المؤثر واثبات العلاقة الضرورية القائمة بين الصورة والشيء المقابل لها في الخارج، مع اننا عرفنا كيف ان الفكر الصدر قد سبق له أن أكّد على شرطية اثبات الوحدة المفهومية كي تثبت علاقة السببية الضرورية، مما يعني اننا لاجل اثبات الوحدة المفهومية بين الصورة والشيء الخارجي سنحتاج إلى وحدة مفهومية أخرى فنقع في التسلسل، ونكون قد فسرنا الوحدة بالوحدة والسببية بالسببية والماء بالماء!

بعد هذه الجولة من التحليل نعود إلى القضية الاولى التي تركناها خلفنا والتي تتعلق باثبات التشابه بين الشيء الخارجي وصورته الذهنية، فنعلق على ذلك بما يلي:

1 ـ لقد استدل استاذنا الشهيد استقرائياً على ذلك التشابه بالاستفادة من مبدأ السببية وهو ان كان في القضية الثالثة لم يفصل في الأمر، حيث الوقوع كما رأينا في الدور والتسلسل، فانّه في هذه القضية بالخصوص قد وقع في ذلك من غير شك؛ لاتكائه صراحة على السببية[5] .

2 ـ إن اثبات التشابه بين الصورة والشيء الخارجي الذي يمثل اساس اثبات الوحدة المفهومية؛ يعتمد في دوره على افتراض كون الجهاز الحسي للادراك لم يطرأ عليه أي تغيير. ما انّا في هذه الحالة سنرتد مرة أخرى للوقوع في الدور والتسلسل من جديد[6]. ذلك اننا حين نتكئ على اثبات سلامة الجهاز الحسي للادراك كي نثبت من خلاله التماثل بين الصورة والشيء الخارجي؛ إنما سنستخدم صورة ذهنية أخرى لواقع الجهاز الخارجي، وحيث ان هذه الصورة تخضع إلى نفس الخطورة من حيث كونها يحتمل ان لا تطابق حقيقة ذلك الجهاز، فلابدّ أن نرجع مرى أخرى إلى تأمين اثبات الجهاز وهكذا يتسلسل الأمر ويدور بين اتكاء اثبات التطابق للصورة والواقع وبين اثبات سلامة الجهاز العصبي، إذ ان كلاً منهما يعتمد على الآخر، وهو عين الحلقة المفرغة من الدور.

ولهذه النتيجة المؤسفة دلالتان، احداهما ان هذه المشكلة تقف حاجزاً امام اثبات الوحدة المفهومية ومن ثم التعميم ذاته. أما الاخرى فهو ان المحاولة السابقة لاثبات التماثل بين الصورة والشيء الخارجي تتصف بالفشل، بل يمكن القول إن العقل البشري يعز عن ان يقيم أي دليل على وجود مثل ذلك التطابق، شأنه في ذلك شأن اثبات الواقع الخارجي الاجمالي. ذلك ان من الواضح ان جهازنا العصبي والحسي له دخل كبير على تحديد شكل الصور الذهنية، إذ لو اختلف تركيب هذا الجهاز لبدت لنا الصور بشكل آخر مختلف. كالذي يولد وفي عينيه نظارة زرقاء ـ على حد تصوير عمانوئيل كانت ـ حيث ليس بوسعه رؤية العالم إلا بشكل أزرق، ولا يمكنهه أن يعرف حقيقة ما عليه العالم تماماً، مما يعني أن ادراكاتنا الحسية لكيفيات الاشياء الخارجية متأثرة تماماً بما عليه جهازنا الحسي، وبالتالي جاز أن تظهر بأشكال شتى بحسب طبيعة الأجهزة الحسية، يظل أن ما يبدو لنا من كيفيات الاشياء هي كالرموز بالنسبة لنا، لكن ذلك لا يضر بمسألة اثبات التماثل بين الاشياء، إذ اثباته ليس متوقفاً على التطابق ما بين شكل الصورة وشكل الوجود الخارجي للشيء.

كذلك اننا حتى لو تجاوزنا ورطة القضية الثالثة التي مرت علينا، وصادرنا علاقة السببية العامة كمبدأ قلبي، باعتباره لم يثبت بالاستقراء، فانّه مع ذلك سنعجز عن أن نفعل شيئاً بخصوص السبية الخاصة ما لم نتنزع عنصر الضرورة عنها، فنكون قد دخلنا إلى حضيرة علاقة الشد التي تتلاءم واطروحة المفكر الصدر في كتابه (بحث حول الولاية).

ومن جهة نظرنا أنه يمكن علاج التماثل بين الشيئين الخارجيين بالشكل التالي:

انّ وجود صورتين ذهنيتين متماثلتين لا يعني بالضرورة وجود شيئين خارجيين متماثلين أيضاً، فقد تكون الصورتان وهميتين دون أن تعبرا عن حقيقة موضوعية، الأمر الذي لابدّ فيه من اثبات كل من الشيئين الخارجيين على حدة، وذلك من خلال العلاقة بين الصورة والشيء الخارجي لها. وفي عملية اثبات وجود الشيء من خلال الصورة الذهنية يلاحظ انّه لابدّ من ممارسة استقراء من النوع التبايني القائم على القرائن التي تختلف فيما بينها من الناحية النوعية، فلا يمكن للدلي الاستقرائي ان يتم بمجرد الاستقراء التماثلي المعتمد على تماثلات القرائن والافراد.

لنفترض مثلاً ان احساسنا قد نقل لنا صورة ذهنية عن كرة تبدو أمامنا لكنا نشك في وجودها، ففي هذه الحالة علينا ان نتوسط بعدد من القرائن المختلفة لنثبت فيما لو كانت هذه الكرة حقيقية أو وهمية، وكذا فيما إذا كانت بالفعل عبارة عن كرة أو انها شيء آخر. ومع اننا بسبب تضخم الخبرات التي نمارسها في التعامل مع الاشياء الخارجية سوف لا نحتاج عادة إلى الاختبار أو المزيد منه، لكنا نفترض كما لو كنا نمارس عملاً استدلالياً اولياً. مثلما هو الجاري في الممارسات الاستدلالية للعلوم الطبيعية. لهذا فحيث ان من المحتمل ان يكون ما نراه عبارة عن وهم من الاوهام، كان لابدّ من مزاولة قرينة أخرى. كأن نتحرك من زاوية أخرى وننظر من خلالها ان كنا سنرى شيئاً ما كالسابق، وكذلك نذهب لنتلمس الشيء الذي نراه، إذ لو كان وهماً بصرياً لكان من المستبعد ان نتحسس بلمسه، لذا فهذا الاحساس يزيد الظن بأنّ هناك شيئاً خارجياً يحمل صفات تبدو انها دالة على الكرة، ولأجل التأكد أكثر يمكننا ان نقوم بضرب ودحرجة ما لمسناه، كما يمكننا ان نأتي بآخرين ليخبرونا عما يرونه ويلمسونه من شيء، وكذا يمكننا ان نأخذ له صوراً فوتوغرافية تبين حقيقة وجوده ومعالمه.

هكذا ان اغلب ما فعلناه من استلادل استقرائي على وجود الكرة انما كان بفعل القرائن المختلفة من الناحية النوعية، ولولا هذه القرائن ما قام للدليل الاستقرائي قائمة. وحينما نفعل نفس الشاكلة من الاستدلال الناجح على وجود كرة أخرى؛ إنما يعني اننا نحتفظ بصورتين ذهنيتين متماثلتين لهما وجود حقيقي، لذلك فانّهما متماثلان. فالمتماثل الصوري يدرك مباشرة، في حين ان التماثل الوجودي وان قام على التماثل الصوري إلا انه لا يكفي من غير الاستدلال على وجود كل فرد عبر الاستقراء التبايني كما رأينا. وان هذا الاستقراء هو اساس قيام الاستقراء التماثلي. فالتماثل مستدل عليه التباين. وإن التباين من حيث الاساس يدرك مباشرة بالاحساس، كادراكنا البصري للصورة الذهنية للكرة مقارنة بادراكنا اللمسي لها، حيث كلاهما مدركان مباشرة مع انهما يعدان قرينتين مختلفتين يعملان على تقوية الاحتمال وتنميته. لهذا كان التباين لا التماثل هو الاساس في الاستدلال الاستقرائي دون أن يحتاج ـ من حيث الاصل ـ إلى ما يدل عليه باعتباره يدرك مباشرة.

قد يقال انه يمكن احياناً بناء الدليل الاستقرائي عن طريق الاستقراء التماثلي المحض. فمثلاً لنفترض اننا اردنا ان نتحقق من وجود التماثل بين وجهي قطعة نقد. حيث يمكننا ان نعرف ذلك عن طريق اجراء مجموعة من الرميات الكبيرة العدد، وهي عبارة عن رميات متماثلة لا تباين فيها، فلو ان عدد ظهور احد الوجهين كان يقارب الآخر لكنا قد اعتبرنا ذلك ناتجاً عن التماثل بينهما. وبالتالي فانّ ذلك يعني ان من الممكن أن نقيم الدليل الاستقرائي طبقاً للاستقراء التماثلي المحض.

لكن واقع الأمر اننا حتى في مثل هذه العملية التماثلية ليس بوسعنا التخلي عن استخدام الاستقراء التبايني. ذلك لأنه قد يكون التقارب الحاصل في عددي ظهور الوجهين ليس لوجود التماثل بينهما، وإنما لتدخل عاملين ذوي قوتين متضادتين ومتساويتين، أحدهما يعمل لحساب أحد الوجهين بسبب عدم التماثل، مما يجعل إمكانية ظهور الوجه الذي يعمل لصالحه أقوى من امكانية ظهور الوجه الآخر. أما العامل الآخر فهو على العكس، يعمل لصالح الوجه المقابل وذلك إذا ما افترضنا وجود ظروف خارجية منحازة لها قوة تقارب قوة امكانية ما يعمل به العامل الاول، الأمر الذي يمكن من خلال ان يفسر تقارب العدد بمثل ما يمكن أن يفسره الافتراض القائم على التماثل، لكن لكي نعرف أن العدد المتقارب بين الظهورين كان نتيجة التماثل بين الوجهين وليس بسبب العاملين المذكورين؛ لابدّ من معرفة مسبقة لطبيعة الظروف الخارجية المؤثرة واثبات كونها غير منحازة، بل في كلا الحالين سواء ثبت انها منحازة وبالتالي يستنتج منه عدم التماثل، أو انّها غير منحازة مما يستنتج منه التماثل؛ فانّ ذلك لا يتم إلا من خلال الاستقراء التبايني، فلولاه لما كان باستطاعتنا استنتاج التماثل أو عدمه.

كما قد يقال ان معرفة نفس الظروف ان كانت منحازة أو غير منحازة يمكن ان تتم عبر الاستقراء التماثلي، وذلك من خلال الرميات الكبيرة لبعض قطع ألعاب المصادفة، كقطعة النقد، حيث لو ظهر هناك ميل للاقتراب من الاحتمال القبلي لوجوه القطعة لكنّا نميل إلى اعتبار الظروف غير منحازة، والعكس بالعكس. وبالتالي أن بوسع الاستقراء التماثلي أن يبني الدليل الاستقرائي بشكل منفصل ومستقل عن الاستقراء التبايني.

لكن واقع الحال ان الاستقراء التماثلي لا يمكنه ان يشكل اساساً لمعرفة طبيعة الظروف ما لم يتم التأكد أوّلاً من التماثل في وجوه القطعة المعدة للاختبار ـ كقطعة النقد في مثالنا ـ، وإن هذا التماثل لا يثبت إلا من خلال الاستقراء التبايني كما اوضحنا. ولو قيل ان اثبات التماثل انما يتم عبر الرمي ذاته لأفضي الأمر إلى الدور، حيث يتوقف اثبات التماثل على معرفة الظروف، كما تتوقف معرفة هذه الظروف على التماثل.

هكذا نخلص إلى انّه لولا (الاحتمالات غير السوية) لما أمكن للاستقراء التماثلي ان يكون منتجاً لاثبات قضايا الواقع.

وعلى العموم هناك ملاحظة جديرة بالذكر تخص علاقة الدليل الاستقرائي بحسابات الاحتمال، وهو ان هذا الدليل إنما يعتمد على اكتشاف التماثل ليطبق عليه (الاحتمالات السوية)، على الاقل بالنسبة لأفراد السبب والمسبب، كما يفترض أن يكون التماثل قائماً بين التجارب ليُطبق عليها الحساب الحتمالي (الكمي)، لكن يلاحظ ان التماثل لا يمكن ان يكتشف أو يثبت إلا من خلال (الاحتمالات غير السوية) للقرائن المتباينة، كما ان التجارب التي ينمو فيها الدليل الاستقرائي هي تجارب مختلفة ليس بوسعها ان تحقق العد الاجتماعي القائم على (الاحتمالات السوية)، وذلك لكونها ليست متماثلة كي يمكن أن توزع الحصص الاحتمالية بشكل متساوٍ، وعليه يصبح الدليل الاستقرائي قائماً على (الاحتمالات غير السوية)، الأمر الذي يمنع العد الحسابي الكمي إلا بنوع من المسامحة والتجوز في تسوية الحصص، لكن مع هذا ان من الممكن تنمية الدليل من الناحية الكيفية، دون أن يمنع ذلك من تهيئته للمرحلة الذاتية بافتراض اليقين، مما لا يسعنا بحث هذا الأمر هنا.

على انا نذكّر بانّ كل ما ابديناه من نقد للدليل الاستقرائي انما يتسق مع وجهة نظر الشهيد الصدر اللاحقة التي أثارها في كتاب (بحث حول المهدي) خلافاً لما جاء في كتابه السابق (الاسس المنطقية للاستقراء).

الاستاذ يحيى محمد

[1] ـ مختار رسائل جابر بن حيان، تصحيح كراوس، مكتبة الخانجي، 1354 هـ، ص 419ـ 421.

[2] ـ محمود، زكي نجيب: ديفيد هيوم، دار المعارف، 1958م، ص13.

[3] ـ الأسس المنطقية للاستقراء، ص468.

[4] ـ لاحظ ص468.

[5] ـ لاحظ ص 465.

[6] ـ لاحظ ص469.