نظريّة التعويض في السند

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

بما أنّ نظرية التعويض تنفعنا في كثير من الموارد ممّا يمكن رفع نقص السند بها لا بأس ببيانها في المقام، و أصلها من أُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

فنقول: إنّ تعويض السند الضعيف بسند تامّ يمكن أن يتمّ على عدّة أشكال:

الشكل الأوّل للتعويض: هو الاعتماد على مثل ما جاء كثيراً في كلام الشيخ الطوسي (رحمه الله) في ترجمته للرجال في فهرسته من عبارة: (أخبرني بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان).

فإذا وجدنا عن الشيخ (رحمه الله) رواية وكان في سندها رجل ضعيف، أو غير ثابت التوثيق، وكان قبل ذاك الرجل من الطرف الذي يقرب إلى الإمام ثقة، وكان الشيخ قد ذكر في فهرسته بشأن ذاك الثقة عبارة: (أخبرني بجميع كتبه و رواياته فلان عن فلان)، و كان السند الوارد في هذه العبارة تامّاً، فمن حقّنا أن نبدّل القطعة الأُولى من السند الواقعة بين الشيخ و ذاك الثقة و التي فيها ذاك الإنسان غير ثابت التوثيق بالسند الذي ذكره الشيخ في تلك العبارة في الفهرست.

ومدى تماميّة هذا الذي ذكرناه أو عدمها يرتبط بما نفهمه من معنى قوله: «أخبرنا بجميع كتبه و رواياته» ففي ذاك عدّة احتمالات:

الأوّل ـ أن يكون المقصود بذلك كلّ ما لذاك الثقة من كتب وروايات في علم اللّه، وعندئذ يتمّ هذا الوجه الذي شرحناه للتعويض؛ إذلولم يكن قد وصل هذا الحديث إلى الشيخ عن الطريق الذي ذكره في الفهرست بقوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان» لكان يعلم الشيخ بكذب هذا الحديث؛ إذ لوكان صادراً عنه حقّاً لكان قد وصله بهذا الطريق حسب ما تدلّ عليه تلك العبارة، ولو كان يعلم الشيخ بكذبه لما رواه.

إلاّ أنّ هذا الاحتمال في ذاته واضح البطلان؛ إذ لاسبيل للشيخ عادةً إلى الإحاطة بكلّ روايات هذا الشخص بنحو يقطع بأنّه لارواية له غير هذه الروايات التي وصلته عن طريق هذا السند.

الثاني ـ أن يكون المقصود بذلك كلّ ما نُسبت إلى ذاك الثقة من كتب وروايات، وهذا أيضاً في البطلان كالأوّل، فلا سبيل للشيخ عادةً إلى الإحاطة بكلّ ما نسبت إلى ذاك الثقة من كتب وروايات بحيث ينفي أن يكون قد نسبت إليه رواية عن غير ذاك الطريق.

ولو تمّ هذا الوجه ثبت المقصود؛ لأنّ الرواية التي نحن بصدد تصحيح سندها قد نسبت إليه قطعاً، فهي داخلة في هذا العموم.

الثالث ـ أن يكون المقصود بذلك جميع ما رواه الشيخ عنه من كتب وروايات، وهذا احتمال معقول، وبناءً على هذا الاحتمال يثبت المقصود أيضاً؛ لأنّ هذه الرواية ممّا رواها الشيخ حسب الفرض.

الرابع ـ أن يكون المقصود بذلك جميع ما وصل إلى الشيخ عنه من كتب وروايات، وهذا الاحتمال كسابقه في المعقوليّة، وفي ثبوت المقصود بناءً عليه؛ لأنّ هذه الرواية قد وصلت إلى الشيخ حسب الفرض؛ إلاّ أنّه يختلف عن سابقه في أنّنا لووجدنا كتاباً في مكتبة الشيخ لهذا الثقة بحيث عرفنا أنّه واصل إلى الشيخ، ولكن لم نعرف أنّه رواه عنه، أمكن تصحيح سند هذا الكتاب بهذا الوجه، بخلافه

على الاحتمال الثالث. وعلى أيّ حال، فهذه الثمرة في زماننا غير متحقّقة على أىّ حال، فالاحتمالان عملا متساويان في النتيجة.

الخامس ـ أن يكون المقصود بذلك جميع ما اعتقد الشيخ وجداناً أو تعبداً أنّه صادر عن هذا الثقة من كتاب أو رواية، وبناءً على هذا الاحتمال لايثبت المقصود في المقام؛ إذ اعتقاد الشيخ وجداناً أو تعبّداً بأنّ الرواية المبحوث عنها صادرة عنه أوّل الكلام، فيصبح التمسّك بقوله: «أخبرنا بجميع كتبه و رواياته …»تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة.

إلاّ أنّ هذا الاحتمال في ذاته خلاف الظاهر كما ذكره أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)؛ لأنّ ظاهر قوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته …» هو أنّه يتكلمّ بما هو راو ومتحدّث لا بما هو مجتهد في الأحاديث يحكم بثبوت هذا الحديث عنه وجداناً أو تعبّداً، ولأنّ هدف الشيخ (رحمه الله) من هذه العبارة تزويدنا بسند إلى تلك الكتب والروايات، بينما لو كان المقصود هو أنّ هذا سند لكلّ ما يعتقد هو أنّه لفلان ففي الحقيقة لم يزوّدنا بسند إطلاقاً؛ إذ ما يدرينا أنّ الرواية الفلانيّة داخلة في ما يعتقد الشيخ بصدوره عن فلان أوْلا؟ !.

وأُستاذنا الشهيد (رحمه الله) لم يتعرّض للاحتمال الثالث، وباستبعاد الاحتمال الخامس عيّن الاحتمال الرابع. وعلى أيّ حال فقد عرفت أنّه لا ثمرة عملية فعلا بين الاحتمال الثالث والرابع، وما دمنا قد استبعدنا الاحتمال الخامس فالمقصود ثابت على أيّ حال.

يبقى الكلام في أنّ الشيخ كثيراًمّا ينقل في كتابيه روايةً عن كتاب مسقطاً مالديه من سند إلى صاحب ذاك الكتاب، وتعرّض في آخر الكتابين إلى ذكر السند لغالب ما حذف أسانيده إليه، وحينئذ قد يفترض أنّ الرجل غير ثابت التوثيق وقع ضمن ذاك السند، والرجل ثابت التوثيق ـ الذي كان للشيخ في فهرسته سند تامّ إلى جميع كتبه ورواياته ـ عبارة عن نفس صاحب الكتاب أو عن شخص آخر أقرب إلى الشيخ من صاحب الكتاب، وهنا لا إشكال في التعويض، وأُخرى يفترض أنّ الرجل الثقة ـ الذي كان للشيخ سند تامّ إلى جميع كتبه ورواياته ـ وقع قبل صاحب الكتاب ـ أي كان أقرب إلى الإمام سواء كان الشخص غير ثابت التوثيق قبل صاحب الكتاب أو بعده ـ فهنا هل نطبّق عليه نظرية التعويض أوْلا؟ قد يقال بعدم الفرق بين الفرضيتين تمسّكاً بإطلاق قوله: «أخبرنا بكتبه ورواياته».

ولكن الظاهر عندي هو التفصيل بين الفرضيتين، فنحن إنمّا نقبل بنظرية التعويض هذه حينما يكون ذاك الثقة ـ الذي كان للشيخ إلى جميع رواياته سند تامّ ـ عبارة عن نفس صاحب الكتاب الذي روى الشيخ الحديث عن كتابه، أو من كان واقعاً في السند الذي يصل الشيخ بذلك الكتاب. أمّا إذا كان بين الإمام وصاحب الكتاب فلانطبّق عليه هذا القانون، وهذا الكلام ينشأ من فهمنا لكلمة (رواياته) في قوله: «أخبرنا بكتبه ورواياته»، أو قوله: «أخبرنا برواياته».

توضيح ذلك: أنّه يحتمل في كلمة (رواياته) أمران:

الأوّل ـ أن يشمل الروايات الشفهيّة، فكأنّه حينما قال: «أخبرنا بكتبه ورواياته» قصد بذلك أنّه أخبرنا بما رواه في كتبه وبما رواه في كتب وكتابات الآخرين وبما رواه من روايات شفهية فلان عن فلان، وبناءً على هذا الاحتمال يتمّ 3مامضى من بطلان الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الخمسة، وهو إرادة واقع الكتب والروايات؛ لما قلنا من أنّه لا سبيل للشيخ إلى الإحاطة بكلّ رواياته بنحو يقطع أنّه لم يروِ أيّ رواية أُخرى إلى غير ذاك السند، ويتمّ أيضاً ما ذكرناه من التمسّك بإطلاق جملة (أخبرنا بكتبه ورواياته)، أو جملة (أخبرنا برواياته) لإثبات عدم الفرق بين ما لو وقع الثقة ـ الذي للشيخ إليه سند تامّ ـ بين الشيخ وصاحب الكتاب، أو بين الإمام وصاحب الكتاب. إلاّ أنّ هذا الاحتمال بعيد غاية البعد، فإنّ الشيخ (رحمه الله)قد تكررت منه كثيراً هذه الجملة، وبشأن كثيرين ممّن يكون الفاصل بينه وبين الشيخ متعدّداً، ورواياته الشفهية كثيرة ومتناثرة و واصلة إلى الشيخ ضمن كتب المتأخرين عنه، وعادةً لايمكن للشيخ الشهادة بوصول كلّ رواياته ـ الواقعية أو الواصلة الى الشيخ أو التي يرويها الشيخ ـ بالسند الذي يذكره، وإنّما الشيء المعقول هو الاحتمال الثاني.

الثاني ـ أن يكون المقصود بروايته رواياته لكُتب وكتابات الآخرين، أو لكتبه هو والآخرين دون رواياته[1] الشفهية، وهذا ممّا يمكن الإحاطة به، فكان من المتعارف وقتئذ إخبار شيخ الإجازة لمن يروي عنه بجميع ما يرويه من كتب مؤلّفة لنفسه أو لغيره قراءةً عليه أو سماعاً منه أو إجازةً.

وبناءً على هذا الاحتمال قد يبطل ما ذكرناه في إبطال الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الخمسة من أنّ الشيخ لايستطيع أن يحصر كلّ روايات هذا الثقة في علم اللّه فيما وصله بهذا السند؛ إذ هذا الحصر بالنسبة للكتب والمؤلّفات المروية أمر معقول، إلاّ أنّ الصحيح مع ذلك أنّ التتبّع في فهرست الشيخ ورجال النجاشي يشرف المتتبّع على القطع ببطلان الاحتمال الأوّل؛ إذ كثيراً ما يذكر أحدهما راوياً ذاكتب كثيرة، ويعدّد منها ما هو أقلّ من عدد الكتب ممّا يوحي أنّه لم يصله بمالديه من سند كلّ الكتب، ومع ذلك يقول بالأخير: «أخبرنا بكتبه ـ أو بجميع كتبه ـ فلان عن فلان»، وتوجد أحياناً بعض القرائن الواضحة على عدم وصول كلّ الكتب إليه كقول النجاشي في عليّ بن الحسن بن فضّال: «وقد صنّف كتباً كثيرة منها ما وقع إلينا: كتاب الوضوء، كتاب الحيض …»، وكقول الشيخ بشأن يونس بن عبدالرحمن: «له كتب كثيرة أكثر من ثلاثين كتاباً، وقيل: إنّها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة» ثمّ يعدّد بعضها ثمّ يقول: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته …»، ومن الواضح أنّه لوكان وصله كلّ الكتب لما قال: «قيل: إنّها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة»، وكقول الشيخ بشأن علي بن الحسن بن فضال: «قيل: إنّها ـ يعني كتبه ـ ثلاثون كتاباً: منها كتاب الطبّ، كتاب فضل الكوفة…».

وعلى أيّة حال، فبناءً على هذا الاحتمال ـ وهو الذي نستظهره ـ يتّضح الفصل بين مالوكان ذاك الثقة ـ الذي كان للشيخ إلى كتبه ورواياته سند تامّ ـ واقعاً بين الشيخ و الكتاب الذي روى الحديث عنه، أو بين الكتاب و الإمام، ففي الأوّل يمكن تطبيق نظرية التعويض وفي الثاني لايمكن ذلك؛ إذ لم يثبت لنا أنّ هذا الحديث وارد في كتاب من الكتب التي يرويها هذا الثقة، فلعلّه كان رواية شفهيّة.

هذا. ولا أقلّ من الإجمال، وهو يكفينا لعدم تسرية قاعدة التعويض إلى ما إذا كان ذاك الثقة بين الكتاب و الإمام، ولا إلى ما إذا كان الخبر بكلّ تسلسله شفهيّاً.

ومن هنا يظهر أنّ تطبيق هذه النظرية على عهد الإمام إلى مالك الأشتر في ما لو فرضنا أو احتملنا أنّ الرواة الواقعين في سند الشيخ من ابن أبي جيد إلى الحميري إنّما تناقلوه شفةً عن شفة غير صحيح، نعم بناءً على دعوى الاطمئنان بأنّ العهد كان مكتوباً وموروثاً على شكل الكتاب وكان فيما نقله ـ من الكتب و الكتابات ـ الحميري إلى ابن الوليد، أو ابن الوليد إلى ابن أبي جيد، صحّ التعويض في المقام.

وقبل أن ننتقل إلى الشكل الثاني من أشكال التعويض ينبغي أن نذكر أمرين:

أحدهما ـ أنّ الشيخ (رحمه الله) عبّر بشأن بعض الرواة بقوله: «أخبرني بكتبه ورواياته فلان عن فلان»، وبشأن بعض الرواة بقوله: «أخبرني برواياته فلان عن فلان» كما هو الحال فيما نحن فيه على بعض النسخ، حيث عبّر فيه بشأن ابن الوليد بالتعبير الثاني، وكذلك بشأن الحميري في نسخة القهبائي، وبشأن بعض الرواة بقوله: «أخبرني بكتبه» من دون عطف كلمة (رواياته)، ولاإشكال في صحّة تطبيق نظرية التعويض في مورد التعبير الأوّل و الثاني، ولكن قد يناقش في مورد التعبير الثالث، باحتمال كون المقصود من الإخبار بكتبه الإخبار بعناوين الكتب وأسمائها مثلا لابواقعها. نعم لو كان قد عطف كلمة (رواياته) على كلمة (كتبه) لأمكن أن يقال بمقتضى وحدة السياق: إنّ الكتب بالمعنى الذي يعطف عليه الروايات، إنّما هو واقع الكتب لاعناوينها، ولكن المفروض عدم العطف. إلاّ أنّ مراجعة فهرست الشيخ وتتبّع موارد استعمال الشيخ (رحمه الله) لهذه الجملة لاتدع مجالا للشكّ في أنّ مقصود الشيخ (رحمه الله) من الكتب هو واقع الكتب، وأنّ هدفه هو تقديم سند للكتب لامجرّد تثبيت الأسماء و العناوين. هذا مضافاً إلى أنّ تحويل الشيخ في المشيختين على فهارس الأصحاب، وفي إحداهما على فهرسته هو ـ على ما سيأتي ـ دليل على أنّهم في الفهارس كانوا يقصدون ذكر السند دون تعديد الكتب فحسب، وإذن فلابأس بتطبيق نظرية التعويض في المورد، نعم لا يمكن عندئذ تطبيق النظرية إلاّ حينما يكون سند الشيخ في فهرسته إلى نفس الكتاب الذي روى عنه الرواية. أمّا لوكان سنده إلى ثقة آخر بين الضعيف وصاحب الكتاب مثلا فلا يمكن التعويض؛ لأنّ المفروض أنّ سند الشيخ في فهرسته إنّما هو سند إلى كتبه فقط لا إلى كتبه ورواياته، والمفروض أنّ هذه الرواية غير مأخوذة من كتاب هذا الثقة.

الثاني ـ أنّ هذا الشكل من التعويض كما يمكن تطبيقه على القطعة الأُولى من السند من زمن الشيخ ـ كما شرحناه ـ يمكن تطبيقه على القطعة الثانية من السند، وذلك فيما لو وقع بعد ذاك الضعيف ـ أي أقرب إلى الشيخ مثلا ـ ثقة، وفرض أنّ ذاك الثقة كان له كتاب فيه فهرست لمشايخه وإجازاته، ويكون له طريق إلى جميع كتب وروايات ثقة وقع بعد ذاك الضعيف أو إلى الإمام رأساً؛ بأن يكون له طريق صحيح لجميع ما وصل إليه من الإمام مثلا. وهذه فرضيّة ذكرها أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في المقام، وهي صحيحة في حدّ ذاتها وإن كان المظنون عدم العثور على مورد له معروف لدنيا.

الشكل الثاني للتعويض ـ هو عبارة عن تعويض سند الشيخ مثلا إلى صاحب كتاب في رواية ينقلها عن ذاك الكتاب، بسند النجاشي مثلا إلى ذاك الكتاب ضمن شروط ثلاثة. ونوضّح ذلك عبر مثال، فنقول:

مثاله: أنّنا نفترض أنّ الشيخ روى حديثاً عن علىّ بن الحسن بن فضّال، وسند الشيخ إلى علىّ بن الحسن بن فضّال فيه ضعف، وللنجاشي سند تامّ إلى علىّ بن الحسن بن فضّال، فنعوّض سند الشيخ بسند النجاشي ضمن شروط:

الشرط الأوّل ـ أن يكون الراوي المباشر للشيخ ثقة.

والشرط الثاني ـ أن يكون النجاشي مالكاً أيضاً لنفس السند الذي ملكه الشيخ وهو السند الضعيف، ويمتلك إضافة إلى ذلك سنداً صحيحاً.

والشرط الثالث ـ أن يكون النجاشي و الشيخ لم يكتفيا بالقول بنحو الإجمال: «أخبرنا بجميع كتبه فلان عن فلان»، بل صرّحا باسم الكتب، ورأينا أن الكتب التي سمّاها الشيخ قد سمّاها النجاشي أيضاً. فعند استكمال هذه الشروط يصحّ الاستبدال، وذلك لأنّ ظاهر كلام النجاشي الذي ذكر طريقين إلى كتب عليّ بن الحسن بن فضّال أنّ تلك الكتب نقلت له بالطريقين بنقلين متماثلين في النسخة، وإنّما الفرق بينهما في السند لافي المتن، ولايحتمل عقلائيّاً أنّ النسخة التي نقلت له بالطريق الضعيف تختلف عن النسخة التي وصلت إلى الشيخ بعين ذاك الطريق، فإنّ المفروض أنّ من وقع بعد الشيخ مباشرةً ثقة، فلايحتمل أنّه أعطى نسخة إلى أحدهما وأعطى كذباً نسخة أُخرى إلى الآخر، كما لا يحتمل عقلائيّاً أنّ ذاك الثقة كانت لديه نسختان مختلفتان من ذلك الكتاب لايدري أيّهما حقّ، وغفل ولم ينبّه الشيخ ولا النجاشي إلى اختلاف النسختين، أو لم ينتبه هو إلى ذلك رغم ما كان متعارفاً عندهم من التدقيق في متون الأخبار.

هذا، والشرط الثاني من الشروط الثلاثة قد يمكن التنازل عنه والاكتفاء بأنْ يكون للنجاشي إضافة إلى السند التامّ سند آخر يبتدىء بذلك الثقة المباشر للشيخ، أو أن يكون الشخص المباشر للنجاشي في سنده التامّ هو نفس الثقة المباشر للشيخ بلا حاجة أصلا إلى أن يكون للنجاشي سندان، وذلك على أساس استبعاد عدم إشارة هذا الثقة ـ على أىّ حال ـ إلى وجود نسختين مختلفتين لوكان.

وهذا الفرض الأخير ـ أعني وجود سند صحيح للنجاشي يبتدىء بالثقة المباشر للشيخ ـ يرجع أيضاً إلى ما ذكرناه أخيراً في الشكل الأوّل للتعويض من تطبيقه على القطعة الثانية من السند.

ثمّ المثال الذي ذكرناه هو مثال واقعي إلى حدّ، وليس مثالا خياليّاً بحتاً، فإنّ سند الشيخ (رحمه الله) إلى علىّ بن الحسن بن فضّال ضعيف بابن الزبير، فإنّ سنده إليه عبارة عن: أحمد بن عبدون عن علي بن محمّد بن الزبير عن علىّ بن الحسن بن فضّال. وللنجاشي إليه إضافةً إلى هذا السند سند آخر وهو: (محمّد بن جعفر في آخرين عن أحمد بن محمّد بن سعيد عن علي بن الحسن). ومحمّد بن جعفر وإن لم يكن ثابت التوثيق إلاّ بناءً على وثاقة كلّ مشايخ النجاشي ولانقول به، ولكن لايبعد أن يقال: إنّ كونه شيخاً للنجاشي منضماً إلى أنّه ليس الناقل الوحيد، بل نقل في آخرين ـ على حدّ تعبير النجاشي ـ يكفي في إيجاد الوثوق والاطمئنان، فإنّ الراوي في الحقيقة عبارة عن عدّة من مشايخ النجاشي، ولانحتمل عادة كذبهم جميعاً.

نعم قد توجد عدّة نقاط ضعف في هذا المثال:

الأُولى ـ تخلّف الشرط الثالث في كتاب واحد، فإنّ الكتب التي ذكرها الشيخ (رحمه الله) ذكرها جميعاً النجاشي ولو بفرق مّا نادراً في الاسم، كتعبير الشيخ باسم (كتاب أخبار بين إسرائيل)، وتعبير النجاشي باسم (كتاب عجايب بني إسرائيل) ما عدا كتاب واحد وهو: (كتاب صفات النبي (صلى الله عليه وآله))، حيث لم يأتِ هذا الاسم في الكتب التي عدّها النجاشي، ولكن النجاشي عدّ كتباً عديدة ممّا لم يعدّه الشيخ (رحمه الله)، ومنها: (كتاب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله))، فيأتي احتمال أنّ هذا هو عين كتاب صفات النبي، و إنّما وقع خطأ عند أحدهما، فبدّلت كلمة الوفاة بكلمة الصفات، أو بالعكس، واحتمال أنّ ذاك الكتاب مشتمل على صفات النبي (صلى الله عليه وآله) ووفاته معاً فسمّي هنا باسم وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهناك باسم صفات النبي (صلى الله عليه وآله). وعلى أىّ حال فيمكن التغاضي عن هذه النقطة من الضعف في المقام، لأنّ الشرط لم يتخلّف إلاّ في كتاب واحد من كتب كثيرة، والتخلّف أيضاً احتمالي، وليس جزمياً كما عرفت، وعندئذ يصبح احتمال كون الحديث الذي نريد تصحيح سنده قد أخذه الشيخ من كتاب غير مشمول لسند النجاشي ضعيفاً إلى حدّ يطمأنّ بعدمه، خاصّة حينما لاتكون الرواية واردة بشأن صفات النبي (صلى الله عليه وآله).

الثانية ـ أنّ النجاشي ذكر سنديه إلى كتب علىّ بن الحسن بن فضّال بهذا التعبير:

«قرأ أحمد بن الحسين كتاب الصلاة، و الزكاة، ومناسك الحج، و الصيام، والطلاق، و النكاح، والزهد، والجنائز، والمواعظ، والوصايا، والفرائض، و المتعة، والرجال على أحمد بن عبدالواحد في مدّة سمعتها معه، وقرأت أنا كتاب الصيام عليه في مشهد العقيقة عن ابن الزبير عن علي بن الحسن.

وأخبرنا بسائر كتب ابن فضّال بهذا الطريق.

وأخبرنا محمد بن جعفر في آخرين عن أحمد بن محمد بن سعيد عن علي بن الحسن بكتبه».

ويحتمل في قوله: «أخبرنا بسائر كتب ابن فضّال …» احتمالان:

أحدهما ـ كون هذا إجازة في النقل، وذلك في مقابل عدد من الكتب التي ينقلها قراءة على الشيخ، أوسماعاً لقراءة أحمد بن الحسين على الشيخ.

والثاني ـ كون هذا بمعنى الإخبار بمجرّد أسماء الكتب في مقابل عدد من الكتب التي لم يكن وصولها إليه بمعنى مجرّد وصول الأسماء. وقد يدّعي مدّع على أثر التتبّع في كتاب النجاشي أنّ هدفه من مثل هذه العبارة إعطاء السند لامجرّد سرد أسماء الكتب، كما ادعينا ذلك بالنسبة لفهرست الشيخ، إلّا أنّ هذه الدعوى بالنسبة لفهرست الشيخ أوضح صحّة منها بالنسبة لرجال النجاشي كما يظهر للمتتبّع فيها. وعلى أىّ حال فما أشرنا إليه من إرجاع الشيخ في المشيختين إلى فهارس الأصحاب يؤيّد أيضاً كون مقصود النجاشي ذكرالسند لامجرّد سرد أسماء الكتب، فإنّ كتاب النجاشي داخل في عنوان الفهرست، بل ذكر الشيخ اليوسفي حفظه اللّه في ما كتبه كمقدمة لنسخة من رجال النجاشي طبعت أخيراً ما مفاده: أنّ النجاشي سمّى كتابه في ظهر النسخة بالفهرست حيث كتب على ظهر النسخة: (الجزء الأوّل من كتاب فهرست أسماء مصنّفي الشيعة وما أدركنا من مصنّفاتهم …)، وكذلك كتب على ظهر الجزء الثاني أيضاً.

الثالثة ـ أنّ النجاشي ذكر فيما ذكر في المقام قوله: «ورأيت جماعة يذكرون الكتاب المنسوب إلى علىّ بن الحسن بن فضّال المعروف بأصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويقولون: إنّه موضوع عليه لاأصل له واللّه أعلم، قالوا: وهذا الكتاب ألصق روايةً إلى أبي العباس ابن عقدة و ابن الزبير، ولم نر أحداً ممّن روى عن هذين الرجلين يقول قرأته على الشيخ غير أنّه يضاف إلى كلّ رجل منهما بالإجازة حسب».

فإذا كان جماعة من الأصحاب يشهدون بوضع كتاب الأصفياء أفلا تسقط هذه الشهادة خبر المخبر بهذا الكتاب على أساس التعارض؟! وإذا سقط ذلك أفلا نحتمل بنحو الإجمال في أىّ رواية يرويها الشيخ عن علىّ بن الحسن بن فضّال (أن تكون مأخوذة من هذا الكتاب، واسم هذا الكتاب موجود في القائمة التي عدّدها الشيخ (رحمه الله) إلّا أن يُدعى في الرواية التي نراها في التهذيب أو الاستبصار ـ وهي واردة في الأحكام لا في شأن أصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام) الاطمئنان بأنّها ليست مأخوذة من كتاب أصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام).الرابعة ـ أنّ الشرط الأوّل منتف في المقام؛ لأنّ الراوي المباشر للشيخ هو أحمد بن عبدون ولم يرد توثيق بشأنه.

وهذا الإشكال يمكن تذليله على مبنى السيّد الخوئي القائل بوثاقة مشايخ النجاشي، ولكنّنا لانقول بهذا المبنى.

الشكل الثالث للتعويض ـ وهو أوسع مشرباً من الوجوه الماضية، وحاصله: أنّنا إذا وجدنا طريقاً ضعيفاً للشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى مثلا، ولكن كان طريق الصدوق (رحمه الله) إليه في مشيخة الفقيه صحيحاً، حكمنا بصحّة ذاك الحديث سواء كان الصدوق داخلا في طريق الشيخ أولا، وذلك باعتبار أنّ طريق الشيخ إلى الصدوق صحيح، فيتلفّق من طريق الشيخ إلى الصدوق والصدوق إلى أحمد بن محمّد بن عيسى، طريق صحيح.

ويرد بدواً إلى الذهن الإشكال بأنّ المفروض أنّ هذه الرواية غير موجودة في الفقيه، وإلاّ لتمسّكنابها ابتداءً، ومشيخة الفقيه طريق للروايات التي أوردها في الفقيه، فكيف نصحّح بذلك رواية واردة في التهذيب أو الاستبصار؟!.

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بالتمسّك بما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) من الحوالة في آخر المشيختين على فهارس الشيوخ، فقد قال في آخر مشيخته في التهذيب: (قد أوردت جملا من الطرق إلى هذه المصنّفات و الأُصول، ولتفصيل ذلك شرح يطول، وهو مذكور في الفهارس المصنّفة في هذاالباب للشيوخ (رحمهم الله) من أراده أخذه من هناك إن شاء اللّه ، وقد ذكرنا نحن مستوفىً في كتاب فهرست الشيعة).

وقال في آخر مشيخته في الاستبصار: (قد أوردت جملا من الطرق إلى هذه المصنفات و الأُصول، ولتفصيل ذلك شرح يطول، هو مذكور في الفهارس للشيوخ، فمن أراده وقف عليه من هناك إن شاء اللّه تعالى).

والاستدلال بهذا التعبير الوارد عن الشيخ في المشيختين يتوقّف على افتراض أنّ مقصود الشيخ ليس هو الحوالة على خصوص فهارس الشيوخ التي يذكر فيها طرقهم إلى أصحاب الكتب و الأُصول، بل هو إشارة بنحو القضيّة الخارجيّة إلى ما يكون من أجلى مصاديقه مشيخة الصدوق، وإن كانت بحسب مدلولها اللفظي مشيخة لخصوص الروايات المذكورة في الفقيه، فإطلاق كلام الشيخ شامل لذلك.

وتقريب ذلك: أنّه لم تكن لدى الأصحاب فهارس موسّعة كي يكون كلام الشيخ إشارة إليها فحسب، ويشهد لذلك أنّ الشيخ أشار في أوّل فهرسته في مقام بيان ما دعاه إلى وضع فهرسته إلى: (عدم سعة فهارس الأصحاب عدا فهرستين لابن الغضائري الحسين بن عبيداللّه: أحدهما فهرست للمصنفات، والآخر فهرست للاُصول، ولكنّهما تعرّضا للتلف). وأمّا (رجال النجاشي) الذي هو فِهْرِسْت من فهارس الأصحاب فهو متأخّر في التأليف عن التهذيب و الاستبصار بدليل أنّه ذكرهما في كتابه عند ترجمة الشيخ؛ إذن في ظرف من هذا القبيل تعتبر مشيخة الصدوق المفصّلة نسبياً من أجلى مصاديق ما يمكن أن تشير إليه إحالة الشيخ في المشيختين الى فهارس الأصحاب رغم أنّ مشيخة الصدوق ليست فهرستاً بالمعنى المصطلح، فإن لم نجزم بظهور من هذا القبيل لم يتمّ هذا الوجه. والإنصاف أنّ الجزم بهذا الظهور في غير محلّه.

وقد يقال: إنّ هذا الإطلاق حتى لو تمّ فهو معارض بقوله: «وقد ذكرنا نحن مستوفىً في كتاب فهرست الشيعة»، فإنّ ظاهر هذا التعبير أنّه ذكر جميع طرقه في فهرسته، فالحديث الضعيف في مشيخته إن وجدنا سنداً صحيحاً له في فهرسته فلا حاجة إلى مراجعة مشيخة الصدوق، وإلاّ فمقتضى إخباره باستيفاء طرقه في الفهرست أنّه لايملك طريقاً صحيحاً إليه.

قلت: أوّلا ـ إِنّ هذا الظهور لكلمة (مستوفىً) غير معلوم، ولعلّه يعني بذلك: أنّنا ذكرنا ذلك مفصّلا في الفهرست من دون أن يعطي معنى الاستيعاب الكامل.

وثانياً ـ لو فرض تعارض من هذا القبيل في داخل كلامه في مشيخة التهذيب، فهذا يوجب إجمال العبارة في تلك المشيخة، ونرجع إلى عبارته في مشيخة الاستبصار، لأنّها غير مشتملة على مقطع من هذا القبيل، فلا إجمال فيها.

وثالثاً ـ إِنّ الشيخ ذكر في فهرسته طريقه إلى الصدوق، وهذا كاف لرفع التهافت بين الظهورين، فإنّ ذلك ذكر إجمالي لجميع طرق الصدوق الموجودة في مشيخته بعد حملها ـ بقرينة تحويل الشيخ إليها بالإطلاق ـ على أنّها طرق إلى جميع كتب الرواة المذكورين في الفقيه، وإن كان كلامه في مشيخته لايدلّ ـ من باب ضيق التعبير ـ على أزيد من كونها طرقاً إلى خصوص الروايات المذكورة في الفقيه.

وعلى أىّ حال فالإنصاف أنّ هذا الشكل الأخير من التعويض غير صحيح؛ لما قلنا من أنّ مشيخة الفقيه ليست فهرستاً، ولا معنى لفرض شمول إطلاق إرجاع الشيخ إلى الفهارس لها.

هذا تمام الكلام في نظريّة التعويض.

السيد كاظم الحائري

[1] أو يشمل طائفة من رواياته الشفهيّة، وهي التي أعطاها بالسند الفلاني الوارد في الفهرست، لامطلق رواياته الشفهيّة.