نظرة في الكتاب الخالد «بحث حول المهدي(ع)»

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ محمد باقر الصدر عالم متبحر وشخصية لامعة يعتز بها الفكر المعاصر وهو في كتبه وأبحاثه ومقالاته يتميز بالموضوعية البعيدة عن التحيز والانطواء تحت لواء العاطفة والمصالح الشخصية لذلك جاءت أبحاثه في كل ما كتب أشبه بالقيم الفكرية إن صح هذا التعبير.

وهو من العلماء القلائل الذين يجمعون في أسلوبهم بين دعامتي الأصالة في التعبير:

التصوير الفني.

الأسلوب العلمي القريري.

وهو حين يكتب في موضوع خطير كالمهدي فإنما يضيف رصيداً جديداً لهذا المبحث الجليل لأنه موضوع المهدي في حساب العقيدة في مجال الغيبات والسمعيات شأنه شأن ذلك، شأن نزول عيسى وخروج الدجال وظهور الدابة وغيرها من القضايا التي لاتعالج فكرتها باستخدام التجارب المحسوسة في معامل الطبيعة مختبرات الكيمياء وإنما تخضع للون آخر من البراهين يتفق مع طبيعتها الروحية، أو بمعنى آخر تعتمد في البرهنة عليها على التجربة الروحية إن صح هذا التعبير.

وإذا استثنينا الصدر الأول من الإسلام وهو ما يقابل آخر القرن الثالث الهجري. انقسم رجال الفكر من هذه القضية إلى فريقين: فريق يؤمن إيماناً جازماً بخروج المهدي رائدهم في ذلك التسليم بما جاءت أحاديث المغيبات وما أثر عنه صلوات الله عليه من قضايا سمعية وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى.

وهذا الفريق ـ وهو الكثرة الكاثرة من الأمة ـ في غناء عن الهروع إلى الأدلة والبراهين لإثبات ـ موضوع المهدي ـ ذلك لأن الإيمان بلغ من قلوب أفراده درجة التصديق ـ وعلى المدى العميق الذي فيه يصدق الإنسان المؤمن بالمغيبات وكأنها ماثلة أمامه عياناً. وهذا الموقف العقدي يهبه فيهبه الله من يشاء من أمة سيد الأنبياء وهم الذين عرفهم الله وميزهم على سائر الأمم بقوله لم تعط أمة من اليقين ما أعطيت أمتي.

وفريق آخر ـ وهم قلة والحمد لله ـ أشبه بمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، وأمثال هؤلاء يريدون أن يقيسوا أمور الدين قياساً محدوداً بمنطق عقولهم، وكأن المعتقدات السمعية وسائر المغيبات تقاس على غيرها من الأمور الكونية، فلا يصدقوه إلا بما أثبتته التجربة في المعمل ويكذبون مما عدا ذلك.ونحن لا نستطيع أن ننعت هؤلاء بالجهل فإن منهم المثقفين بل والمتخصصين في الثقافات المختلفة، كما لا نستطيع أن ننعتهم بالغباء فإن منهم الأذكياء والنوابغ، ولكن أمثالهم ـ ما أخالهم إلا كما عبر الحديث النبوي: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع.

وإن ما بلغوه من ذكاء وحصلوه من علم وتجربة لا يجدي فتيلاً لأنهم لا ينعمون بالعقل المدبر، أو العقل القادر على حل قضايا الفكر ومشكلات الحياة، وهو لعقل الذي أميل إلى تشخيصته بالعقل الشرعي الذي وهبه الله الفاعلية والقدرة على التوفيق بين المنقول والمعقول.

ومن ثم وقف هؤلاء ـ مهما بلغوا من تخصص في معارفهم ـ عند المستوى الذي وقف فيه الفلاسفة الماديون فحرموا بسبب ذلك نعمة الاعتقاد بهذه الخارقة وخوارق الدين.

ومن ثم كان (العقل الفلسفي) عاجزاً عن تحقيق هذه المدارك الروحية على حين ارتقى إليها (العقل الشرعي) كما أوضحنا.

وفي العصر الحديث عظمت هذه البلبلة وتفاقم خطبها حين بهر الناس بتقدم العلوم الطبيعية، وشاهدوا ما حققه علماء الطبيعة من خطوات كثيرة نحو كشف المجهول من أسرار الكون، وما بلغه العلماء الماديون من تطوير في وسائل العلوم المختلفة حين ظهر تطبيقها واضحاً في المجالات التكنولوجية.

بحيث وصل الإنسان إلى مستوى يستطيع فيه تحقيق كل مطالبه الحيوية ويصل إلى ما يريد من مرافق المعيشة في سهولة ويسر لا تكلفه شيئاً أكثر من الضغط على أزرار معينة تكفل له كل ما يريد في السلم أو في الحرب.ومن ثم انعكست هذه المعايشة للعلوم الطبيعية في البيت والمصنع والشارع وظهر أثرها في عقيدة الإنسان المعاصر في صورة الشك القاتل في كل ما سوى الماديات: وتسرب إلى نفسه وقلبه الذي لم ينعم بنعمة اليقين. فأنكر مثل هذه الخوارق وكفر بكل ما يماثلها من معجزات.

وهكذا أصبح الحديث عن المغيبات والسمعيات التي جاء ذكر بعضها، في القرآن وذكر بعضها الآخر في السنة السمحاء من القضايا الفكرية التي يصعب على العالم مهما بلغ من تخصص وتحصيل من موسوعية أن يطويها في نفوس هؤلاء القلة من المعاصرين.

لقد أجمع القدماء من شقي هذه الأمة (السنة والشيعة) على حقيقة المهدي وأنه من بيت النبوة، وأنه من آل الحسين، وأن الله يصلحه في يوم أو ليلة، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وأنه يحكم الأرض سبع سنوات أو تسع سنوات ـ على اختلاف في الرواية ـ وأنه يقود الناس إلى السعادة بعد أن عمهم الشقاء، وأنه يستقبل نزول عيسى بن مريم، وأن عيسى يصلي خلفه، إلى آخر ما جاء من نعوته التي أشارت إليها أحاديث المغيبات، وقد بلغت نحو تسعة وثلاثين حديثاً عند السنة وقاربت الثلاثمائة حديث عند السادة الإمامية.

فالإجماع في وجود المهدي وفي خروجه حين تتأزم الحياة وتضطرب أحوال العباد لا شك فيه عند الفريقين. إلا أن الإمامية يرونه اختفى بعد سنوات معدودة من مولده المبارك من والده أبي الحسن العسكري سلام الله عليه.

وأهل السنة لا يشكون في حقيقة المهدي، غاية ما في الأمر أنهم يعتقدون أن الله يخلقه في زمانه قبيل الساعة ويظهر على يديه هذه الخوارق في الأحاديث المروية عنه.

ولعل النص على أنه هو محمد المهدي ابن الإمام الحسن العسكري هو الذي حمل العلامة الكبير الأستاذ محمد باقر الصدر، أن يتخذ من المنهج العلمي طريقاً يسلكه ليثبت للقارئ المسلم ـ مهما اختلف مذهبه ومعتقده ـ أن هذا الاعتقاد لا يتعارض مع الجائز عقلاً ولا يتعارض مع الجائز علماً، وإن تعارض مع الجائز عادة.

وحيث كان الأمر كذلك فطريق الاستدلال على وجوده وحياته منذ القرن الثالث الهجري إلى اليوم ليس من الأمور التي يرتضيها عقل الإنسان ولا سيما من الناحيتين الفلسفية والعلمية، وإن كان ذلك يصعب استساغته من الوجهة العملية.

فالخلاف بين السادة السنة والسادة الإمامية ليس خلافاً على جوهر القضية من حيث كونه من أشراط الساعة، ومن حيث أن الله يصلح به فساد الأمة بعد طول المعاناة والاضطهاد الذي يعتصر المسلمين اعتصاراً ولا سيما أصحاب المنهج المثالي الذين اقتبسوا من آل البيت أخلاقهم وسلوكهم وتأدبوا بآدابهم في إيثار المثل المحمدية والقيم الإسلامية على الفلسفات الواقعية المادية التي يؤثر فيها الأفراد مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة للأمة.

فهذه المعاني المتجسدة في شخصية الهدي من الأمور المتفق عليها بين الفريقين العظيمين، متواترة عن الراسخين في العلم من سائر المذاهب الإسلامية: سياسية كانت أو فقهيةٍ. ولو حاولنا أن نحصى أقوال الثقات وهم أهل اليقين في نظرنا ـ لخرجنا عن الخط الذي أردناه من كتابة هذا التقديم ويكفى أن نذكر من هؤلاء الراسخين المجلسي والطوسي من الجعفرية، والسفاريني من الحنابلة، والشوكاني من الزيدية، وصديق حسن خان، ومحمد ابن الحسين الآبري، وهؤلاء جميعاً إنما يلتمون في علمهم بشخصية الإمام المهدي إلى ما انتهى إليه أئمة الاجتهاد المطلق من أصحاب المذاهب الفقهية الثمانية وفي مقدمتهم الخمسة المعتمدون قبل غيرهم: وهم الإمام الصادق وتلميذاه مالك وأبو حنيفة، فالشافعي فأحمد بن حنبل وكذلك بقية المذاهب الثمانية وهم: الزيدية المنسوبون إلى الإمام زيد، والأباضية المنسوبون إلى أباض، والظاهرية المنسوبون إلى داود الظاهر، فإننا لا نعرف قولاً لأحد هؤلاء الثلاثة ينكر فيه هذه الحقيقة من المغيبات والسمعيات.

حتى هؤلاء الذين تطرفوا في مباحثهم الفقهية كالخوارج وابن حزم وابن تيمية وابن عبد الوهاب يجمعون على القول به، وكل واحد من هؤلاء يعتبر في نظرنا «مجتهد مذهب» وإن كانوا لا يقاسون بالطبقة الأولى من أهل الاجتهاد المطلق.

ويبقى الخلاف في قضية شكلية للغاية لا أحسبها مصدر خلاف حقيقي من فريقي السنة والشيعة. (فالسنة) يرون أن الله يخلق المهدي في أوانه وفي آخر الزمان حين تشتد الأزمات وتبلغ القلوب الحناجر وأنه من بيت النبوة من ولد فاطمة وأنه من الأشراط الكبرى للساعة كما نص على ذلك الحديث الشريف.

«والشيعة الإمامية» يرون أنه هو ـ الإمام محمد بن الحسن العسكري الذي دخل السرداب في سر من رأى عام 255 وأن الله سيخرجه في آخر الزمان ليحكم بين الناس على النهج الأسمى الذي سار عليه علي وابناه سلام الله عليهم فهذه الخلافات تعتبر شكلية في نظرنا، لأن خارقة المهدي ليست محصورة في كونه يعيش ألفاً وثلاثمائة عام فقط بل الخارقة العظمى هو انقياد أهل الثقلين له وإذعانهم له بالاتباع والسير على منهجه ومثله وقيمه الموروثة عن النبي والأئمة الهادين المهديين من آله.

ولعل العقيدة التي أخذ بها الإمامية أدل في هذا المقام على خارقة المهدي وأعمق في الدلالة على كرامته ومنزلته في هذه الأمة. لكن هذا الاعتقاد في الصورة الثانية لا يرفع أحد الطرفين على الآخر لأن المقياس الذي تقاس به العقيدة هنا تنحصر في جوهر الخارقة وفي الرسالة يؤهله الله لها.

والعلامة محمد باقر الصدر حين نظر إلى هذه الخارقة من وجهها الثاني إنما يريد أن ينظر إليها من جميع أبعادها الجوهرية والشكلية الدالة على جلال صاحبها.

ولما كان هذا الأمر من الأمور المتعلقة بالقضايا الروحية العقدية فإن الأخذ في البرهنة عليه يعتبر من أشق الأمور حتى على الراسخين في العلم.

وأعنى بكلمة البرهنة في هذا الصدد «البرهنة العلمية» التي تقنع المفكرين المعاصرين ولا سيما الواقعيين والتجريبيين والبراجماسيين وسائر المنطوين تحت لواء الفلسفة المادية.

وقد استطاع سيادته بمهارة العالم الأصيل الذي جمع الله له بين الاستعداد والأداة:

وأعنى بالاستعداد الملكة الفطرية المعينة على الغوص على تحليل القضايا الدينية. وأعنى بالأداء جمعه بين أشتات المنقول والمعقول من العلوم الشرعية والعلوم الكونية في صورة موسوعية نادرة المثال. أقول استطاع بفضل ما وهب من استعداد وما اكتسب من أدوات العلم أن يبحث هذه الخارقة في صورة علمية تشبه تماماً ما يفعله العالم الطبيعي أو الكيميائي في المعمل ليقنع الخصوم والمنكرين بتجربته.

وإني أشد على يديه مهنئاً بهذا النجح العظيم الذي أحرزه في تفسير هذه الخارقة المهدوية حين أوضح للباحثين المنطقيين مراتب التصديق ووارن بمهارة العالم الراسخ بين الإمكان الواقعي، والإمكان العلمي، والإمكان المنطقي، وذلك حين تعرض لمدى العمر الذي بلغه الإمام المهدي من لدن القرن الثالث الهجري إلى هذا العصر وأوضح أن هذا التصور لئن كان مما ينكره الواقع، فإنه من الناحية الفلسفية يعتبر جائر الوقوع. ولئن كان العلم يأبى هذا التصور لهذه الحياة الممتدة نحو الألف والثلاثمائة عام ـ إلا أنه ليس من المستحيل علمياً أن تكون هناك حالات شاذة تتغلب فيها الخلايا الحية على عوامل الهدم والفناء عامل…

أقول: وقد دلت تجارب علماء الأحياء وما يقومون بإجرائه على بعض الحيوانات من إطالة أعمار بعضها ما يدل على أن الفروض التي ذهب إليها العلامة الصدر فروض علمية وممكنة الوقوع في نظر «العلم».

لكن هذا المعنى الجميل الذي حقق فيه هذا النجح من إقناع المنكرين وخصوم الدين له دون شك ـ كما أعتقد ـ ما يؤيده في مجال «المنقول».

فقد جاء في الأحاديث المتواترة عن سيد الأنبياء قوله: «لتتبعنا سنن من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». والمقصود ـ في نظرنا ـ من هذا الحديث أن أمنه عليه السلام تلخيص لكل ما مرت به الأمم السالفة من حيث المعجزات والخوارق ـ وليس كما يظن البعض أن الحديث مقصور على الآثام والابتلاء بدليل أن أمنه لم يحدث فيها خسف ولا نسف ولا فسخ إحقاقاً لكرامته عند الله وبذلك يتعين أن المقصود هو ما جرى في الأمم السالفة من خوارق كقصة أهل الكهف وقصة العزير.

وإذا كان العزير مات وحماره إلى جواره مائة عام ثم أحياه الله تعالى وأحيا حماره، وحدث مثل ذلك مع أهل الكهف حين لبثوا ثلاثمائة عام في سبات عميق لم يتخلله يقظة أو طعام أو شراب؛ فإن الله فعل مثل ذلك في أمة حبيبه محمد وذلك في شخص المهدي المنتظر.

وبذلك يثبت الدليل بالمنقول في القرآن، ويكون استدلال العلامة الصدر من باب تأييد المنقول بالمعقول.

وأعمق من ذلك أن الحياة ـ في نظر العلماء الكاملين الجامعين بين الشريعة والحقيقة والطبيعة ـ لا تنقضي ـ شرعاً ـ بسبب انتهاء مقاومة الجسم لعوامل الهدم الداخلية والخارجية، وإنما تنقضي بسبب انقضاء الأجل نفسه.

وفي هذا السر الذي لا يدركه إلا الراسخون في العلم قال جد الأئمة علي بن أبي طالب: (إنما يحفظ المرأ أجله) ولم يقل صحته أو ما فيه من عوامل البناء التي تقاوم عوامل الهدم.

وقبل أن أختم كلمتي لا أستطيع أن أكتم ثنائي على ما دبجه يراع السيد الصدر في الدفاع عن خارقة الإمام المهدي ذلك الدفاع المنهجي العلمي الذي صاغه في الصورة العلمية التي تلائم روح الفكر المعاصر. في الوقت الذي لم أكن أتصور فيه أن أحداً من علماء الإسلام سيحاول تصوير هذه الخوارق في الصورة العلمية التي عالجت فيها بنفسي منذ عشرين عاماً معجزة الإسراء والمعراج في صورة علمية قريبة الشبه من هذا الاتجاه الذي سلكه هذا العالم الجليل، فشجعني على ما حاولت بالأمس القريب. وكم للعلامة محمد باقر الصدر من أياد بيضاء على البحث العلمي، شرعياً كان أو إنسانياً.

القاهرة: 5 / 8 / 1978.

د. حامد حنفي داود