من خلال النهج الجديد الرائد في التفسير القرآني الذي يعتمد التفسير الموضوعي بدلاً من التفسير التجزيئي.. نعرض كيفية معالجة السيد الشهيد الصدر لموضوع سنن التاريخ وعناصر المجتمع من خلال القرآن الكريم، مقارنة بالأطروحات الفكرية والاجتماعية الوضعية. وفي عرضه هذا نتناول للعنصر المرن والمتحرك من عناصر المجتمع، وهو العلاقة الاجتماعية.
موقع العلاقة الاجتماعية من عناصر المجتمع
العلاقة الاجتماعية هي العنصر الثالث في تركيبة عناصر المجتمع الثلاث، وهي: الإنسان، الطبيعة أو الأرض، والعلاقة الاجتماعية. وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه العناصر الضرورية لقيام المجتمع الإنساني من خلال النص القرآني الشريف الذي تحدث فيه عن خلق الإنسان الأول، حيث قال تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك﴾ (البقرة-3).
ففي هذه الآية الكريمة نجد أن الله سبحانه وتعالى يخبر الملائكة بأنه قرّر إنشاء مجتمع على الأرض، وهذا المجتمع يقوم على العناصر الثلاثة الآنفة.
وبينما نجد أن جميع المجتمعات تشترك بالعنصرين الثابتين الأساسين الأول والثاني، أي الإنسان والطبيعة، فإن هذه المجتمعات تختلف بالعنصر الثالث المرن والمتحرك، أي في العلاقة الاجتماعية، فكلُّ مجتمع يبني هذه العلاقة بشكل قد يتفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الآخر لها.
والتعبير القرآني الوارد في النص عن هذه العلاقة هو الاستخلاف الذي يتضمن الأطراف التالية: المستخِلف وهو الله تعالى، والمستخلَف وهو الإنسان وأخوه الإنسان، والمستخلف عليه وهو الأرض.
العلاقة الاجتماعية.. ماذا تتضمن؟
العلاقة الاجتماعية تتضمن علاقتين، علاقة الإنسان مع الطبيعة، وعلاقته مع أخيه الإنسان، وهذان الخطان كل واحد منهما مستقل عن الآخر ومختلف عنه.
الخط الأول: خط علاقة الإنسان بالطبيعة، وهذا الخط يواجه مشكلة التناقض بين الإنسان والطبيعة، وذلك لتمرد الطبيعة وعصيانها عن الاستجابة للطلب الإنساني. والحل الموضوعي لهذا التناقض يكمن في قانون موضوعيّ، وهو التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة بشأن الطبيعة، فكلما ازداد الإنسان خبرةً بلغة الطبيعة وقوانينها ازداد سيطرةً عليها، وكلما ازداد ممارسةً في مجالها ازداد خبرة بقوانينها. وهذا القانون بنموِّه وتطبيقاته التاريخية يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة. ولعل في الآية الكريمة: ﴿وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها﴾ (ابراهيم: 34)، إشارة إلى هذا القانون الموضوعي، لأن الآية الكريمة لا تعني السؤال اللفظي الذي هو الدعاء، لأنها تتكلم عن الإنسان ككل، الذي يؤمن والذي لا يؤمن.
الخط الثاني: خط علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وهو الخط الذي يواجه مشكلة التناقض بين الإنسان وأخيه الإنسان، وهو التناقض الذي ينشئ صيغاً مختلفة ولكنَّ له روحاً عامة، هي التناقض ما بين القوي والضعيف. والقوي قد يكون فرداً فرعوناً، وقد يكون طبقة، وقد يكون شعباً أو أمة، والصراع هو نتيجة هذا التناقض، لأن القويَّ يعمل على استغلال الضعيف.
وفي نظر القرآن، هذه التناقضات ناشئة عن تناقض رئيسي، وهو ذلك الجدل الإنساني بين حفنة التراب وبين أشواق الله سبحانه، وما لم ينتصر أفضل النقيضين فسوف يظل الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة، حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة لدى الإنسان والمجتمع. والنظرة الإسلامية للمشكلة نظرة واسعة منفتحة ومعمقة، فهي لا تكتفي بالنظر إليها من زاوية واحدة، بل تنفذ لتكشف روحها وحقيقتها الواحدة.
من هنا يؤمن الإسلام بأنَّ الرسالة الوحيدة القادرة على حلِّ هذه المشكلة هي تلك الرسالة التي تعمل على مستويين في وقت واحد، تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على الساحة، وفي نفس الوقت تعمل على تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية، وإلاّ فإن العمل على تصفية التناقضات على الساحة الاجتماعية وحدها فقط يُعَدُّ نصف العمل، لذا علينا أن نؤمن بجهادين: (الجهاد الأكبر)، جهاد النفس الذي فرضه الإسلام وسماه لتصفية التناقض الناشئ عن الجدل الداخلي، وهو جهاد في وجه كل صيغ الاستئثار والسيطرة، وهذا خلافاً للنظرة المادية الضيقة التي فسرت بها المادية وفسر بها الثوار الماديون التناقض الحاصل في المجتمع، فماركس على رغم ذكائه، لم يستطع تجاوز النظرة التقليدية الأوروبية التي ترى أن العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الأوروبية، كما لم يتخلص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دوراً في أفكار المادية التاريخية، ولذا ردّ كل التناقضات إلى هذا التناقض الطبقي الحاصل بين طبقة تملك وسائل الإنتاج وطبقة لا تملك شيئاً وإنما تعمل من أجل مصالح الطبقة الأولى، فإذا أزيل التناقض الطبقي زالت كل التناقضات الفرعية والثانوية.
والسيد الصدر (ره) هنا يلفت النظر إلى أن هذا التحليل والوصف لا ينطبق على تيار الأحداث في التاريخ، إذ ليست الآلة هي التي صنعت استغلال الرأسمالي للعامل، وليست هي التي خلقت النظام الرأسمالي، وإنما الإنسان الأوروبي الذي وقعت هذه الآلة بيده هو الذي أفرز هذا النظام الذي يجسد قيمه في الحياة، في حين أن كل أشكال التناقض على الساحة الاجتماعية هي وليدة تناقض رئيسي، وهو جدل الإنسان المخبوء داخل محتواه، وهو الذي يولّد التناقض لا غيره.. إذ لو كان التفكير الماركسي صحيحاً ماذا كنا نتوقع على صعيد الواقع الذي نعيشه؟! نتوقع أن يزداد التناقض الطبقي والصراع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في المجتمعات الغربية الصناعية مثل الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وألمانيا، وأن يشتدّ إيمان عمال هذه البلدان بالثورة لتصفية هذا التناقض، ولكن ما وقع كان العكس تماماً، فإن النظام الرأسمالي يزداد ترسخاً يوماً بعد يوم، مع الأسف، في هذه البلدان ولا تبدو عليه بوادر الانهيار السريع، بينما تحققت النبوءات الماركسية بالنسبة إلى بلاد لم تعش تناقضاً طبقياً بالمعنى الماركسي، مثل روسيا القيصرية والصين، وبالمقابل، فإن العمال لم يزدادوا بؤساً في الدول الرأسمالية، بل أصبحوا مدللين لدى الرأسماليين، وتحولت هيئاتهم إلى هيئات ذات طابع شبه ديمقراطي وتركوا هموم الثورة وطرحوا شعار تحقيق حقوق العمل عن طريق النقابات والبرلمانات.
ويتساءل السيد الصدر (ره): لماذا حدث هذا الوضع في أميركا أو أوروبا مثلاً، بحيث إن أوضاع العمال المعيشية تتحسن بدل أن تسوء حسب التحليل الماركسي، هل هو شبح الخوف من الشيوعية الذي دفع بالرأسماليين إلى هذا الاتجاه، أم أن التقوى دخلت قلوبهم كما دخل الإسلام قلوب المسلمين الأوائل؟!.. لا، ليس هذا كله.. إذاً ما تفسير ذلك؟.. إن الذي وقع في البلدان الرأسمالية كان نتيجة تناقض آخر عاش مع التناقض الطبقي فطغى عليه، هذا التناقض هو تناقض الإنسان الأوروبي نفسه، فلقد وجد الرأسمالي الأوروبي والأميركي المستغل أن يتحالفا مع العامل من أجل رفع التناقض، وتحالف هذين القطبين مع العمال كوّنا قطباً أكبر، لكن من هو القطب الآخر في هذا التناقض؟
.. إنه أنا وأنت، هم الشعوب الفقيرة فيما يسمى بالعالم الثالث، شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، هذه الشعوب هي التي تمثل القطب الثاني في هذا التناقض، وقد انعكس هذا التناقض من خلال صيغ الاستعمار المختلفة منذ خرج الإنسان الأوروبي والأمريكي من دياره لنهب كنوز البلاد والشعوب الفقيرة. هذا التناقض غطَّى على التناقض الطبقي، لأن جدل الإنسان من وراء هذا التناقض كان أقوى من التناقض الطبقي.
وهذا الثراء الهائل الذي تكدس في أيدي الطبقة الرأسمالية ثم في الدول الرأسمالية، لم يكن كله ولا معظمه نتاج عرق جبين العامل الأوروبي والأميركي، بل نتيجة نهب الإنسان الأبيض للبلاد الفقيرة.. هو من نفط آسيا وأميركا اللاتينية وألماس تنـزانيا، ومن قطن مصر ومن تنباك لبنان، ومن خمر الجزائر التي حولها المستعمرون إلى بستان عنب ليسكروا ويسكر العمال بخمره!.. ولم يسكروا من عرق جبين العامل الفرنسي أو الأمريكي.
فالتناقض الذي جمّده التناقض الطبقي، هو التناقض الأكبر بين المحور الرأسمالي بكلتا طبقتيه وما بين الشعوب الفقيرة في العالم.
من خلال هذا التناقض الأكبر، وجد الرأسمالي الأوروبي والأميركي أن مصلحته في أن يقاسم العامل شيئاً من هذه الغنائم التي نهبها من الشعوب الفقيرة والمستضعفة. وبهذا نرى أن العامل بدأت حياته تختلف عن نبوءات ماركس، ليس لكرم الرأسمالي وتقواه، ولكن لما تقدم للمشاركة في الغنيمة الكبرى.!!
فالحقيقة التي يثبتها التاريخ إذاً، هي أن التناقض لا يمكن حصره في صيغة واحدة، فله صيغ متعددة، لأن هذه الصيغ تنبع من منبعٍ واحد، وهو التناقض الرئيسي، الجدل الإنساني الذي لا تعوزه صيغة، بحيث إذا حلّت صيغة وضعت صيغة أخرى مكانها. فالتناقض لا يمكن حصره في هذه الصيغة (التناقض الطبقي)، بل في الصيغة الأساس، أي التناقض الحاصل من استغلال القوي للضعيف.
فخط علاقات الإنسان مع الطبيعة مختلف إذاً شكلاً وقانوناً عن خطِّ علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، ولكنَّ هناك تأثيراً متبادلاً بين هذين الخطين يمكن إبرازه ضمن علاقتين قرآنيتين لهذين الخطين.
العلاقة الأولى: التي تبرز تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة على الخطِّ الآخر، ومؤداها، هو أنه كلما نمت قدرة الإنسان على الطبيعة وسيطرته على وسائل إنتاجها، تحققت بذلك إمكانية أكبر للاستغلال على خطِّ علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿كلا إنَّ الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى﴾(العلق:6-7). ففي حياة الإنسان البدائية عندما كانت أداة الإنتاج هي اليد والحجارة، هذا المجتمع لا يمكن أن يقوم فيه استغلال، ولكن في المجتمع الجديد، حيث صنع الإنسان الآلة البخارية والكهربائية المعقدة، توفرت عند الإنسان أداة الاستغلال لأخيه الإنسان، فالإنسان هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل، والآلة فقط تهيئ له الفرصة وتفتح شهيته، وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية التي اعتقدت بأن الآلة هي التي تصنع الاستغلال وتضع النظام المتناسب لها. إن دورها هو دور الإمكانية والقابلية، والإنسان وفقاً لمحتواه الداخلي، لمثله الأعلى، هو الذي يضع النظام.
وأما العلاقة القرآنية الثانية، التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة، فمؤداها أنه كلما جسّدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة وقيمها، كلما ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، فأظهرت كنوزها وثرواتها. وهذا ما شرحته نصوص قرآنية متعددة.. ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا﴾ (الجن: 16).
﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ (المائدة: 66).
﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون﴾ (الأعراف: 96).
من هنا نفهم بأنه كلما ازدهرت العدالة وتحكمت في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، ازدهرت علاقاته بالطبيعة والعكس صحيح. وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبـي فقط كما نؤمن به، ولكنها سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم.
فمجتمع الفراعنة – أي مجتمع الظلم والاستعباد والاستئثار – على مر التاريخ، مجتمع ممزق مشتت، طاقاته ممزقة، لذلك لا يستطيع حشد قواه الحقيقية للسيطرة على الطبيعة، وهذا هو الفرق بين المثل العليا الفرعونية المنخفضة وبين مثل التوحيد لله سبحانه الذي يوحد البشرية ويصهرها في وحدة متكافئة، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾ (الأنبياء: 92).
الفرعونية تقسم المجتمع إلى فئات وطوائف:
مقابل هذا، أشار القرآن الكريم إلى أصحاب المثل الفرعونية المنخفضة بقوله: ﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً﴾ (القصص:4).
ولذلك يمكن تقسيم هذه الشِيَّع إلى ست طوائف:
– الطائفة الأولى: هم طائفة الظالمين الرئيسيين، وهم رأس النظام الظالم، والظالمون الثانويون، وهم (أعوان الظلمة) الذين يشكِّلون حمايةً لفرعون وللفرعونية، وهؤلاء يحشرون في زمرة الظالمين يوم القيامة. يقول تعالى: ﴿إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين﴾ (سبأ:31).
– الطائفة الثانية: في عملية التمزيق الفرعونية للمجتمع: ظالمون يشكلون حاشية ومتملقين يلتقون مع نزوات فرعون ورغباته، قال تعالى: ﴿وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك، قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون﴾ (الأعراف:127).
– الطائفة الثالثة: هم الذين عبَّر عنهم الإمام علي (ع) (بالهمج الرعاع)، وهم مجرد آلات مستسلمة للظلم، لا تدرك أنها مظلومة وأن في المجتمع ظلماً، قد سلب فرعون منها عقلها، وهذه الفئة طبعاً تفقد كل قدرة على الإبداع في التعامل مع الطبيعة. ويصف تعالى هؤلاء بقوله: ﴿قالوا ربنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل﴾ (الأحزاب:67).
يذكر السيد الصدر (ره) أن الإمام علي (ع) كان يرى ضرورة تحويل هذه الطائفة إلى المتعلمين على سبيل نجاة، ليواصل المجتمع إبداعه، بعكس الفرعونية التي تحاول توسيع هذه الطائفة، وبتوسيعها يزداد خطر فناء المجتمع، وبهذا تموت المجتمعات، حيث إن المجتمع في مفهوم القرآن له موتتان، موت مخروم، وموت طبيعي عن طريق توسيع فئة الهمج الرعاع.
– الطائفة الرابعة: هم أولئك الذين لم يفقدوا لبهم، فهم يستنكرون الظلم في أنفسهم ولكنهم يهادنونه عملياً، فيعيشون حالةً من التوتر والقلق تبعدهم عن الإبداع في مجال علاقتهم بالطبيعة. وهؤلاء يسميهم القرآن بالظالمي أنفسهم. وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها﴾ (النساء: 97).
الطائفة الخامسة: في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع، هي الطائفة التي تهرب من مسرح الحياة، فتتخذ الرهبانية طريقاً لها. وهذه الطائفة تتخذ صيغتين لعملها، صيغة الرهبانية الجادة التي لا تريد أن تتلوَّث بأوحال المجتمع، وقد عبر عنها القرآن الكريم ﴿ورهبانية ابتدعوها﴾ الحديد: 27. وهذه الرهبانية يشجبها الإسلام، لأنها موقف سلبي من الظلم والحياة. والصيغة الأخرى، رهبانية مفتعلة، تلبس مسوح الرهبان وهدفها تخدير الناس وشغلهم عن فرعون وظلمه، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله﴾ (التوبة: 34).
الطائفة السادسة والأخيرة: هم المستضعفون الذين يدركون الظلم ويعملون على إزاحته، وهم الفئة التي يستضعفها فرعون ويقمعها، لأنه يحس بأنها تشكِّل إطار التحرك ضده.
قال تعالى: ﴿وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم﴾ (البقرة: 49).
وقد علّمنا القرآن الكريم ضمن سنّة من سنّن التاريخ، أن موقع أي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكسياً مع موقعه بعد انحسار الظلم. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ونـريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئـمة ونجعلـهم الوارثين﴾ (القصص:5).
وخلاصة القول، أن المجتمع يتناسب مدى الظلم فيه تناسباً عكسياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة، ويتناسب مدى العدل فيه تناسباً طردياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة، وأن مجتمع (الفرعونية) مهدور الطاقات والقابليات، ولذا تحبس السماء قطرها وتمنع الأرض بركاتها عنه. وعكس ذلك هو مجتمع العدل، حيث الفرص والإمكانات، هذا المجتمع الذي تحدّثنا عنه الروايات مع ظهور الإمام المهدي عليه السلام، حيث تحتفل به الأرض والسماء بالخيرات والبركات.