علي المؤمن
الجمهورية الإسلامية الإيرانية
أفرزت مسيرة الإمام السيد محمد باقر الصدر مشروعاً نهضوياً متكاملاً، يجسّد رؤيته لأصل التكامل في الإسلام، فقد كان ينظر للواقع من هذا المنظار الشمولي، الأمر الذي جعل مشروعه مدخلاً أساسياً للبديل الحضاري الذي تتكامل أبعاده ومجلات الفعل فيه. على مستوى النظرية، كان الإبداع العلمي والتجديد الفقهي والتنظير الفكري في مختلف مجالات المعرفة الإسلامية هي التي ميزت مشروعه، فيما كان العمل الثقافي والإسلامي والاجتماعي والفعل السياسي هي مفردات مشروعه في جانب التطبيق. وكان الشهيد الصدر ينطلق في كل هذه الأبعاد من أداء التكليف الشرعي، ولم ينظر إلى أي منها خارج هذا الإطار.
وهكذا في البعد السياسي لمشروعه، فإنه لم يمارس الفعل السياسي كعمل احترافي أو مجرد هواية، بل ظل الفعل السياسي جزءاً لا ينفصل عن مشروعه التغييري الشامل، إذ أن الفعل السياسي في التفسير الإسلامي الذي يطرحه الشهيد الصدر عمل إسلامي دعوي يمارَس بأدوات سياسية، أي أن أدوات هذا الجزء في مشروع البديل الحضاري تعارفت الأدبيات المعاصرة على وصفها بالسياسة.
والحقيقة إن سمة الإبداع وافقت فكره وفعله السياسي، كأي جزء آخر من مشروعه، الأمر الذي دفع كثيراً في المحللين والباحثين إلى التوقف بدهشة عند نوعية العبقرية التي نظّر بها الشهيد الصدر للتحرك الإسلامي في العراق منذ عام 1957م، وقاده منذ عام 1970م وحتى استشهاده، وبالمستوى نفسه من الإبداع في جانب التنظير والبناء الفكري الإسلامي.
تطور حالة النهوض الإسلامي المعاصر في العراق
شكلت حركة الجهاد المناهضة للغزو الاستعماري البريطاني للعراق، ابتداءً من عام 1914م، نقلة نوعية في تاريخ التحرك الإسلامي في العراق، بل لعلها النواة الحقيقية للنهضة الإسلامية الجديدة. وقد استمرت هذه الحركة بفاعلية حتى إخفاق ثورة العشرين في تحقيقه أهدافها الأصلية. ويعود انبثاق هذه الحركة واستمرارها إلى فتاوى علماء الدين وقيادتهم لها، وفي مقدمتهم السيد محمد سعيد الحبّوبي والشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي والشيخ فتح الله الإصفهاني، الذين قاد كل منهم الحركة في مرحلة معينة من مراحل الجهاد.
والحقيقة أن الإنجليز تمكنوا من احتواء الموقف الجهادي وتفتيته من خلال القمع العسكري العنيف والتحرك السياسي والجاسوسي، وبالتالي التفّوا على مطالب ثورة العشرين (عام 1920م) بطريقة مضللة، وطرحوا عنوان (الدولة العراقية) لإخضاعه للانتداب الإنجليزي بديلاً لأهداف الحركة الإسلامية والوطنية الثورية في طرد المحتلين والحصول على الاستقلال الكامل وإقامة حكومة مسلمة.
وحين قامت الدولة العراقية الحديثة وجد الثوّار أنفسهم خارج لعبة السياسة والسلطة، ووجدوا صنائع الأتراك والإنجليز يحتلون معظم مناصب الدولة، وهنا أقرت الغالبية العظمى للشعب العراقي أنها الخاسر الوحيد بعد انهيار الحكم العثماني وقيام النظام السياسي العراقي المحلي، مضيعةً بذلك سنين طويلة من الجهاد من أجل استقلال البلاد وحريتها وإقامة حكم العدل والمساواة.
وابتداءً من عام 1922م، وهي السنة التي شهدت آخر تحرك إسلامي كبير تمثل في مؤتمر كربلاء، دخلت الحالة الإسلامية مرحلة إعادة الحسابات التي تميزت بالقلق والانكفاء، برغم بروز عدد من روّاد الوعي وزعماء الإصلاح، الذين مثلت بعض أعمالهم إنجازات كبرى في الواقع الإسلامي، كالشيخ مهدي الخالصي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ عبدالكريم الجزائري والسيد محسن الحكيم والشيخ مرتضى آل ياسين والشيخ محمدرضا المظفر. كما شهد العقدان الأخيران من هذه المرحلة – الأربعينات والخمسينات – تأسيس عدد من الجماعات والتنظيمات الإسلامية الجديدة في توجهاتها الفكرية ونظرتها إلى واقع الأمة، وكان قسم منها امتدادات للحركات الإسلامية التي أنشئت في بلدان أخرى من العالم الإسلامي، كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير، وما تبقّى جماعات إسلامية عراقية في جذورها، كالشباب المسلم ومنظمة العقائديين وغيرهما.
وكان يقابل ظواهر الوعي الخاصة هذه ظواهر عامة حكمت الواقع الإسلامي، وهي التي وقفت وراء حالة الجزر والتراجع، وأبرزها انكفاء معظم علماء الدين وزعماء الواقع الإسلامي عن الشأن السياسي، بل وامتناعهم عن الشأن الاجتماعي العام، يعززه ضعف الوعي الشعبي على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي، ووجود بعض الانتهازيين في هامش الحالة الإسلامية، وغياب المشروع الإسلامي التغييري الشامل، وعدم فاعلية الجماعات الإسلامية الموجودة إلى مستوى استيعاب الساحة الإسلامية، ويقابل ذلك امتلاء الساحة السياسية بالتيارات العلمانية المعادية للدين، والتي تمكنت من حرف شرائح كبيرة من الأمة عن أصالتها وانتمائها.
الصدر يطرح المشروع البديل
حين بدء السيد محمد باقر الصدر يتدرج في طرح مشروعه، ابتداءً من عام 1957م، وهو شاب لم يبلغ الثالثة والعشرين من عمره، كان قد فرغ من دراسة الواقع الإسلامي على مستويي النظرية والممارسة، وفي المجالات كافة، سواء ما يرتبط بالمرجعية الدينية أو الحوزة العلمية أو الجماعات الإسلامية أو المجتمع ومفرداته، أو ما يرتبط بالعوامل المحيطة بالواقع الإسلامي، كالسلطة والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية الفاعلة، فضلاً عن العامل الدولي وتأثيره في الواقع الفكري والسياسي والاجتماعي المحلي. فجاء مشروعه متكاملاً وشاملاً، وهما الميزتان اللتان حولتا مشروعه إلى بديلٍ حضاري لكلا الاتجاهين السائدين: الواقع الإسلامي المنكفئ، والأيديولوجيات الأرضية القائمة، ولاسيما الشيوعية والقومية والليبرالية.
والحقيقة أن مشروع الشهيد الصدر أحدث ثورة على مستوى منهجية العمل الإسلامي ونظرية البديل الحضاري وآليات الحركة والممارسة، الأمر الذي جعل موقعه متعدد الأبعاد والاختصاصات والمهام، منظّراً مرةً ومخطّطاً أخرى وداعياً ثالثة ومحركاً ومنفّذاً رابعة.
وهذا المستوى من النظرة الإبداعية الشاملة والدراسة العبقرية الواعية، هو الذي أفرد له موقعاً خاصاً بين روّاد الوعي والإصلاح والتجديد في عصر النهضة الإسلامية الحديثة. ونشير هنا إلى خمس مفردات أساسية في مشروع الشهيد الصدر، نفّذها خلال الأعوام عن 1957م وحتى 1963م، وهي التي بدأ بها إنزال مشروعه إلى الواقع:
أسس مع عدد من علماء الدين والمثقفين الإسلاميين تنظيماً إسلامياً، أطلق عليه اسم (الدعوة الإسلامية). وكانت أول قضيته طرحت للنقاش بين المؤسسين، مشروعية قيام حكومة إسلامية في عصر غيبة الإمام المهدي؟عج؟، فكتب الشهيد الصدر دراسة فقهية استدل فيها على شرعية تأسيس دولة إسلامية في عصر الغيبة؛ لتكون القاعدة الفقهية التي يقوم عليها العمل. وقد بدأ التنظيم بنشاطه في أواخر عام 1957م، وكان عمر الشهيد الصدر حينها 23 عاماً.
شرع بتدريس البحث الخارج في الحوزة العلمية عام 1959م، وهي أعلى مراحل الدراسة العلمية الشرعية. وفي خلاله عمل السيد الصدر على إعداد نخبة متميزة من العلماء الملتزمين بمشروعه، إذ لم يكن الصدر مجرد أستاذ لهذه النخبة، بل كان أباً ومربياً وموجهاً.
ساهم مساهمة أساسية في التخطيط لقيام تجمع علمائي عام 1959م، عرف بـ(جماعة العلماء في النجف الأشرف)، التي ضمت ثلّة من العلماء المجتهدين البارزين، وفي مقدمتهم الشيخ مرتضى آل ياسين (رئيس الجماعة) وكان الشهيد محور حركة الجماعة، والمعبِّر عن مواقفها، من خلال البيانات التي كتبها باسم الجماعة أو افتتاحيات المجلة الناطقة بلسانها، رغم أنه لم يكن عضواً في هيئتها الإدارية؛ لاعتبارات السن.
بدأ بتأليف سلسلة في الكتب التي تعبِّر عن الجانب النظري في مشروعه، نشر أولها (فلسفتنا) عام 1959م (وكان عمره 25 عاماً)، ثم كتاب (اقتصادنا) عام 1962م وفي كليهما واجه علمياً التيارات العلمانية والإلحادية التي حرفت شرائح واسعة من الأمة وشغلت الساحة سنين طويلة، وفي مقدمتها الماركسية.
خطط لكثير من النشاطات الإسلامية التي طبعت الواقع الإسلامي بطابعها، كالاحتفالات والندوات وسلسلات الكتب الدعوية والفكرية والمكتبات العامة وغيرها، وذلك في الفترة التي أعقبت قيام الحكم الجمهوري في العراق عام 1958م.
و مثّلت هذه المفردات مواجهة مدروسة للواقع الفكري والديني، والاجتماعي والسياسي برمّته؛ ومن خلال المفردات الأخرى التي توالت تباعاً كان الشهيد الصدر يستشرف الواقع الجديد التي سيقوم مستقبلاً، فعمل على محاولة بنائه بمشروعه الحضاري البديل.
ولا شك أن القيمة التاريخية لهذه الإنجازات لا يمكن تقديرها بدقة إلا من خلال دراسة موضوعية معمّقة لتلك المرحلة ومكوناتها على المستويات كافة، ولاسيما المستويين: السياسي والاجتماعي. ففي أعقاب قيام الحكم الجمهوري بلغ المدّ الشيوعي ذروة قوته، وكان يستهدف مجتمع المسلمين في الصميم، حتى عناصر هذا المدّ الرهيب لم يكونوا يترددون في المجاهرة بعدائهم لله وللإسلام والمؤسسة الدينية، بل وينكلون بعنف وقسوة بكل من يتصدى لهم ويعارضهم، ومن ذلك أنهم حاولوا قتل الإمام السيد محسن الحكيم في كربلاء عام 1959م وحيال ذلك كان رد الإسلاميين مناسباً تارة ومتردداً أخرى. وكان من بين الردود المناسبة العمل على تعرية الشيوعية بكل الوسائل، كالكتب والمجلات والاحتفالات والندوات والمجالس الخطابية والمكتبات العامة وغيرها.
وكان الشهيد الصدر المحرك الأبرز لمعظم هذا التحرك، فيما كانت المرجعية الدينية، ولاسيما المرجعية العليا للسيد محسن الحكيم الذي أفتى عام 1960م بكفر الشيوعية، هي التي تقود هذا التحرك.
واللافت للنظر أن بعض المغفّلين والمدفوعين والمتحجرين في الوسط الحوزوي عملوا بفاعلية كبيرة على محاربة مشروع الشهيد الصدر ومفرداته، وإطلاق الشائعات ضده، ووصف البعد الإصلاحي والتجديدي في المشروع بأنه يشكل بادرة خطيرة على المؤسسة الدينية ونموذج ذلك جماعة العلماء التي أطلقت ضدها مختلف الشائعات.
وكان وقع هذه التهم والشائعات مؤلماً على السيد الصدر، إلا أن دعم الإمام الحكيم له ولمشروعه كان غالباً ما يفتّت هذه الموجات، ومن ذلك الفتوى التي أصدرها السيد الحكيم في دعم جماعة العلماء وتأييد نشاطها، وكذلك عدم سماحه لبعض القوميين والبعثيين الذين تحركوا الزرع بذور الخلاف بين مفردات الساحة الإسلامية من مرجعيات وفعاليات إسلامية.
التحرك الإسلامي يدخل مرحلة القوة
في العام الأخير من حكم عبدالكريم قاسم مؤسس الجمهورية الأولي، بدأ وهج الشيوعيين يخبو تدريجياً؛ لأسباب كثيرة، أبرزها الفجوة التي حدثت بينهم وبين السلطة التي كانت حليفة لهم طوال ثلاث سنوات تقريباً، والحملات المضادة التي قام بها الإسلاميون.
وبعد انقلاب 8 شباط 1963م الذي قاده عبدالسلام عارف بالتعاون مع حزب البعث سقطت آخر أوراق الشيوعيين، وبذلك تخلّص الإسلاميون من عدوهم التقليدي، وبرز عدو جديد هو حزب البعث، الذي قام حرسه القومي بأبشع الجرائم الدموية حينها، والتي كان للإسلاميين نصيب منها.
وعبّر الإمام الحكيم في سفره الاحتجاجي إلي كربلاء والكاظمية وسامراء عن موقف المؤسسة الدينية وعموم الإسلاميين من الواقع الذي خلقه الحكم الجديد، ومن خلال هذا الاحتجاج وصّل المرجع الأعلى رسالة بليغة إلى السلطة، ولاسيما إن مئات الآلاف من الناس كانوا يستقبلون السيد الحكيم عند مداخل المدن، ثم يجددون البيعة في مقرّه أو من خلال اللافتات والهتافات، وكان كل ذلك مخيفاً بالنسبة للسلطة.
ولم يمهل عارف حلفاءه البعثيين للإطاحة به، فانقضّ عليهم بعد حوالي ثمانية أشهر، وفي مقابل إلحاد الشيوعيين وعلمانية البعثيين، أظهر عبدالسلام عارف نوعاً من الالتزام الديني، ولكن هذا الالتزام كان عودة إلى المشروع القومي ۔ الطائفي الذي أسسه الأتراك في العراق عبر مئات السنين وبلوره وقتئذ الإنجليز في مرحلة احتلالهم للعراق، وأضاف إليه عارف ركناً جديداً هو الاشتركية الوطنية.
وخلال ذلك تعرّض أتباع أهل البيت عليهم السلام إلى حملة طائفية وعنصرية شعواء، قادها عارف نفسه وجاهر بها، بهدف كسر شوكة المرجعية والمؤسسة الدينية وإرعاب جماهيرها، وحين فشل في هجومه هذا، ووقف على حقيقة الموقف الإسلامي عاد ليسترضي المرجعية ويخفف من حالة التمييز الطائفي العنصري، إلا هذه المبادرة لم تكن إلا تكتيكاً يهدف من وراءه امتصاص النقمة الجماهيرية.
وتعزز موقف الإسلاميين بمجيء الإمام الخميني إلى النجف الأشرف عام 1964م، مبعداً في إيران، في أعقاب انتفاضة 15 خرداد عام 1963م، إذ أعطى وجود الإمام الخميني وروحه التغييرية الإصلاحية زخماً نوعياً كبيراً للتحرك الإسلامي العراقي، وهيأ كثيراً من أواسط الحوزة العلمية لتقبّل حالة المواجهة مع السلطة، وكان الشهيد الصدر هو الأقرب فكراً وسلوكاً إلى الإمام الخميني ومدرسته في العمل، بل كان مشروعه متطابقاً في المضمون مع مشروع الإمام الخميني وإن اختلفا في الشكل.
واستثمر الإسلاميون حيز الحرية الذي منحته السلطة للعمل الإسلامي، فبادروا في عام 1966م إلى تأسيس (جماعة العلماء) في بغداد والكاظمية، والتي تعدّى دورها الديني والدعوي إلى العمل الاجتماعي والسياسي واتخاذ المواقف النظرية والعملية من الأحداث. وكان الشهيد الصدر يمارس دوره في دعم الجماعة والمساهمة في توجيهها، ككلّ الفعاليات الإسلامية الأخرى التي قامت في سنوات سابقة، كالجماعات الإسلامية، وكذا المؤسسات العلمية، مثل كلية أصول الدين في بغداد التي أسسها في بغداد العلامة السيد مرتضى العسكري، إذ كان السيد الصدر يشارك في الإشراف عليها ويوليها اهتماماً كبيراً؛ لأنها أصبحت ۔ على غرار كلية الفقه في النجف الأشرف التي أسسها الشيخ محمدرضا المظفر عام 1958م ۔ محوراً لبناء النخبة الإسلامية المتعلمة الواعية.
وفي الوقت نفسه باتت كتبه ودروسه العلمية وأسلوبه في التدريس ومنهجه التجديدي في البحث، محور اهتمام الوسط الحوزوي العلمي، بل والوسط الأكاديمي أيضاً، وتعدى ذلك حدود العراق لينفذ إلى البلدان الإسلامية الأخرى.
وتضاعفت مساحة الحريات العامة في البلاد بعد تسلم عبدالرحمن عارف مقاليد السلطة عقب مقتل أخيه عبدالسلام عام 1966م وكانت هذه المساحة متوازنة ومناسبة لقيام واقع إسلامي مختلف، مما أدّى به إلى بلوغ مستوى كبير من القوة، مقابل الظهور الخجول للتيارات السياسية العلمانية، كالشيوعي والبعثي، الذين أُطلق سراح قيادتهما وكوادرهما، وباتا يتحركان بسهولة، ولكنه تحرك لم يكن في الظاهر يمثل أي خطر على السلطة أو على الواقع الإسلامي الذي بلغ ذروة قوته في عامي 1967 و1968م، أي قبل الانقلاب العسكري البعثي.
وكان المراقبون يتوقعون تغييراً شاملاً في الخارطة السياسية في العراق لمصلحة التحرك الإسلامي. بيد أن فرصة استثمار هذا الواقع لم يتأمل الإسلاميون بعمق في استثمارها، وهي فرصة لم تتكرر بعد ذلك أبداً، وقد يكون السبب في القناعات الفقهية بشأن التغيير وإقامة الحكم الإسلامي لدى بعض المرجعيات الدينية، أو عدم الإطمئنان لأي حليف سياسي أو عسكري، أو تقييم الإسلاميون لأنفسم من ناحية الرشد السياسي وتوافر الكادر الكمي والنوعي الذي بإمكانه الإمساك بالمؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية، وهو تقييم لا يخلو من الموضوعية.
وتمثلت أركان القوة في التحرك الإسلامي في كيان واحد هرمي الشكل، في قمته تتموضع المرجعية الدينية المتمثلة بالسيد محسن الحكيم، وفي وسطه الفعاليات الإسلامية على مختلف ألوانها ونوعية نشاطاتها: السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية، فيما مثلت الأمة قاعدة الهرم، وكانت هذه الأركان تتحرك متعاضدة، فالقاعدة تدعم المرجعية بمستوى منقطع النظير، كما تضخّ في جسد الفعاليات الإسلامية ما تحتاجه من إمكانيات مادية وبشرية. وفي الوقت نفسه مثلت المرجعية حماية للفعاليات التي تسير على خطاها، وحماية للأمة في مواجهة مخاطر الحرف الديني والثقافي والسياسي. فيما كانت الفعاليات الإسلامية تمارس دوراً نوعياً متميزاً في بناء الكادر الإسلامي والتخطيط للمشروعات الخاصة والعامة وتنفيذ النشاطات على مختلف ألوانها.
وعبّر مشروع الشهيد الصدر عن نقطة ارتكاز هذه الأركان الثلاثة، فقد كان موضع الثقل في كيان التحرك الإسلامي، من خلال موقعه العلمي والفكري النوعي في الحوزة الدينية، وعلاقته الوطيدة بالمرجعية، وضخّه الفعاليات الإسلامية بالأفكار والمخططات.
البديل الاستعماري في السلطة
عوامل عديدة دفعت الدوائر الاستكبارية لإزاحة عبدالرحمن عارف عن السلطة، أبرزها الصفقات النفطية التي عقدتها الحكومة العراقية، والتي ضربت جزءاً من مصالح الإنجليز والأمريكان في العراق، وكذلك التهديد الإسلامي الذي أصبح يتمتع بقوة كبيرة اجتاحت الشارع العراقي، واقتنعت تلك الدوائر بأن البديل الأفضل الذي يمكنه تحقيق أهدافها هو حزب البعث العراقي؛ بالنظر للنمو الكمي والنوعي للحزب خلال حكم عبدالرحمن عارف، ولاسيما الجناح العسكري للحزب، والذي أصبح مؤهلاً للقيام بأي تحرك مطلوب، وكذلك الالتزام التقليدي لحزب البعث بالمخطط البريطاني، وقدرته على قمع أية حركة معارضة أو جماهيرية تسير بالاتجاه المعاكس، بما في ذلك التيارات الإسلامية الكبيرة في حجمها وتأثيرها، وهو ما يلتقي مع علمانية حزب البعث المعادية للدين.
ومن الأسباب المهمة أيضاً في هذا المجال، هو عدم إدراك الشعب العراقي، ومنه التيارات الإسلامية، لحجم خطر البعثيين، بل كانت الغالبية العظمى تضع الشيوعية في مقدمة الأخطار المحدقة بالبلاد، الأمر الذي سيسمح لحزب البعث بالبقاء في السلطة دون معارضة في الفترة الأولى على أقل التقادير. ولم يخف حزب البعث هذه الأسباب، بل ذكر تقرير مؤتمره القطري السادس بأن من أسباب انقلاب 17 تموز 1968م هو تسلل القوى المرجعية إلى مواقع خطيرة في البلاد. ويقصد به التيار الإسلامي.
وانهمك البعثيون منذ الأيام الأولى لحكمهم برسم الخارطة السياسية المستقبلية للعراق، وكيفية تعاملهم مع الواقع بكل مكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ لأن حزب البعث جاء ليبقي، ليس بقرار منه وحسب، بل بقرار استكباري عالمي، أمّن للحزب الحماية الكاملة حيال أي خطر. وقد أشارت أدبيات حزب البعث على الوجود الطائفي – ويقصد به الفعاليات الإسلامية لأتباع أهل البيت عليهم السلام وعلى رأسها المرجعية الدينية – وهو الخطر الذي يهدد حكمه، وهو التقييم الذي دفع حزب البعث لاتخاذ قراره بتدمير التحرك الإسلامي وضرب المرجعية الدينية وتشويه صوت الدين في ذهن الإنسان العراقي.
وهكذا فقد نص القرار الصادر عن القيادتين: القومية والقطرية للحزب الحاكم على (ضرورة القضاء على المرجعية الدينية، باعتبارها العقبة الكبرى في مسيرة الحزب).
وفي أعقابه بدأ التحرش العملي، وكان الهدف الأول مشروع جامعة الكوفة الذي صودرت جميع أمواله، ثم القيام بحملة شعواء ضد العراقيين من ذوي الأصول الإيرانية أو الإيرانيين المقيمين في العراق، بدأت في نيسان 1969م بتهجير عشرات الآلاف منهم إلى إيران في ظروف قاسية، في إطار قرار السلطة بإبعاد 6% من نفوس [الطرق] وجميعهم من أتباع أهل البيت عليهم السلام إلى إيران تحت ذريعة الخلاف مع حاكم إيران، واشتمل التهجير على أعداد كبيرة من علماء الدين والشخصيات الإسلامية، بعد اعتقالهم ومصادرة معظم ممتلكاتهم، وكان هذا الوضع يربك الحوزة العلمية ويؤثر عليها كماً ونوعاً.
وهنا خطط السيد محمد باقر الصدر لتحرك مضاد يهدف إلى الضغط على السلطة لإيقاف ممارساتها الإجرامية هذه، فاقترح على السيد محسن الحكيم إقامة مؤتمر كبير في صحن الإمام علي عليه السلام بالنجف الأشرف، ولقي مقترحه ۔ كالعادة ۔ قبول المرجعية، فأقيم المؤتمر الحاشد في نيسان 1969م، بحضور معظم علماء الدين في النجف الأشرف وجماهير المدنية، وقرأ فيه السيد مهدي الحكيم كلمة باسم والده، اعترض فيها بشدة على ممارسات السلطة، وهي الكلمة التي كتبها السيد الصدر نفسه.
ولمّا لم تنفع هذه التظاهرة الاحتجاجية النوعية؛ بالنظر لقيام السلطة بشنّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف علماء الدين الناشطين، الذين تعرضوا لأبشع صنوف التعذيب، فقد فكر السيد الصدر بتنظيم مسيرة علمائية احتجاجية يقودها بنفسه، إلا أن المرجعية لم تتبن المشروع؛ حصراً على حياة الشهيد الصدر؛ لأنها كانت ترى فيه أمل الإسلام.
وأعقب ذلك وصول هجوم السلطة على المرجعية ذروته، بعد اتهام نجل المرجع الأعلى بالعمل لحساب إيران وأكراد العراق، ثم فرض الإقامة الجبرية على السيد محسن الحكيم، وتوسيع دائرة الاعتقالات والتهجير، والتي استمرت حتى أوائل عام 1971م.
وحين وجد السيد الصدر أن أي عمل في الداخل لا يمكنه الضغط على السلطة لإيقاف ممارساتها، فقد سافر إلى لبنان، فنسّق مع السيد موسى الصدر في قيادة حملة عالمية للدفاع عن الإسلام والمرجعية في العراق والحوزة العلمية في النجف الأشرف، وعدا عن الحملة الإعلامية في وسائل الإعلام اللبنانية، فقد قام السيد موسى الصدر بالإبراق إلى جميع رؤساء وملوك الدول العربية والإسلامية والفعاليات الإسلامية، يدعوهم للتدخل لدى السلطة العراقية لإيقاف عملياتها القمعية ضد الحالة الإسلامية.
ولم تنته هذه المرحلة بوفاة الإمام السيد محسن الحكيم في أواسط عام 1970م، بل استمر الوضع على ما كان عليه، بل ازداد سوءاً في كثير من المجالات، فبادر السيد الصدر إلى التحرك على كبار الفقهاء المرشحين لموقع المرجعية العليا، بهدف انتزاع مواقف مناسبة منهم حيال الأحداث، إلا أنه لم يوفّق إلا في الحكم الشرعي الذي أصدره الإمام السيد أبو القاسم الخوئي، بحرمة سفر علماء وطلبة الحوزة العلمية خارج العراق.
وفي هذه الفترة الصعبة، كان صوت الإمام الخميني يرتفع في النجف الأشرف بجرأة، محطماً الصمت والجمود الذين فرضتهما بحق علماء الدين القاعدين وغير العاملين، وطارحاً نظريته الفقهية التي تعبر عن مشروع إسلامي كبير يهدف إلى الإطاحة بالحكومات الأرضية وإقامة الحكم الإلهي، وهي النظرية التي أسماها بـ(الحكومة الإسلامية) أو (ولاية الفقيه)، والتي بدأ بتدريسها في الحوزة العلمية في مطلع عام 1970م. ووجد السيد الصدر والتيار المرتبط به في هنا المشروع الفقهي ۔ السياسي الذي طرحه الإمام الخميني، نصراً كبيراً لهم، وهم يعيشون أسوء الظروف، ولاسيما على صعيد مواجهة السلطة أو مواجهة بعض الأوساط الدينية التي تستنكر أي لون من ألوان التفكير في العمل السياسي. ويذكر أن السيد الصدر طلب من بعض تلاميذه البارزين حضور درس الإمام هذا والاستفادة منه، في الوقت الذي قام بعض أنصاره من العلماء بترجمة دروس الإمام ومراجعتها. ويؤكد المحيطون بالسيد الصدر، بأنه في هذه الفترة توصل أيضاً إلى الموقف الفقهي نفسه، وكان يقول بالولاية العامة للفقيه.
السلطة تنفّذ مخططها الكبير
خططت السلطة البعثية لمشروعها الرامي إلى تصفية الحالة الإسلامية في العراق وفعاليتها في إطار ثلاثة محاور رئيسية، وشرعت بتنفيذه ابتداءً من عام 1970م فعلى صعيد المرجعية الدينية العلمية بادرت السلطة إلى منع استمرار الكثير من الطلبة العراقيين وغير العراقيين في الدراسة في الحوزات العلمية، من خلال إسقاط الإقامة عن الطلبة غير العراقيين وتهجيرهم أو فرض أوضاع إدارية وسياسية خاصة بالطلبة العراقيين تحول دون التحاقهم بالحوزة، كما عمدت إلى اعتقال كثير من العلماء وطلبة الحوزة وتعريضهم للتعذيب الوحشي، بتهمة الانتماء للجماعات الإسلامية المنظمة أو ممارسة العمل السياسي أو انتقاد السلطة وسلوكياتها وأفكار حزبها الحاكم، وقد جرت الاعتقالات تحديداً في الأعوام 1971 و1972 و1974 و1975 وشملت المئات من علماء الدين وطلبة الحوزات العلمية. وإلى جانب ذلك أخذ النظام من خلال عملائه الذين دسهم في الحوزات العلمية يبث مختلف الشائعات ضد الحوزة وعلمائها، ولاسيما وسطها الفاعل ثقافياً واجتماعياً وحركياً، ولاسيما دائرة السيد محمد باقر الصدر، الذى تعرض لأنواع الشائعات والتهم، ومنها أنه عالم سياسي وعالم حزبي أو أنه إصلاحي تجديدي، في الوقت الذي اتهمت الحوزة العلمية بعامة أنها حوزة غير عربية وأن الإيرانيين يسيطرون عليها.
وسعى النظام في هذا الإطار إلى زج علماء الدين في منزلقات خطيرة تهدف إلى أحداث بلبلة سياسية واجتماعية، على غرار طلب النظام من السيد الصدر فتوى بتكفير الشيوعيين ووجوب القضاء عليهم، إذ رفض السيد الصدر الطلب لعلمه بأنها لعبة سياسية يهدف في خلالها الإيقاع بأكثر من طرف بضربة واحدة.
وعلى مستوى الوجودات الإسلامية الحركية، فإن السلطة قامت بحملة اعتقالات وملاحقة وتشريد واسعة النطاق ضد العناصر الإسلامية، بدأت مع جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير عام 1969م ثم حزب الدعوة الإسلامية ابتداءً من عام 1971م، وعرّضت المعتقلين الإسلاميين إلى أشد صنوف التعذيب، وأصدرت أحكام الإعدام والسجن المؤبد ۔ دون محاكمة ۔ ضد الكثير منهم وحرمت المشكوك بتعاطفهم مع الإسلاميين من الامتيازات المعاشية والاجتماعية، وفصلتهم من وظائفهم أو نفتهم إلى مناطق نائية.
وعلى الصعيد الثقافي والاجتماعي صادرت السلطة العديد من المكتبات الخاصة التابعة لشخصيات إسلامية أو جمعيات دينية، وأغلقت جميع الصحف والمجلات الإسلامية، ومنعت دخول الصادر منها في الخارج، كما منعت طباعة أو استيراد الكتاب الإسلامي، ونكلت بالكتّاب والمثقفين الإسلاميين، وأغلقت جميع المؤسسات الإسلامية التعليمية الخاصة، كالمدارس والثانويات والكليات، وكذا الجمعيات الخيرية الإسلامية، إضافة إلى منع كثير من الشعائر الإسلامية، كالاحتفالات والمسيرات ومجالس العزاء الحسيني، بل وأصبح كل من يمارس العبادات الدينية ويتمسك بها موضع اتهام وتشكيك، كالاتهام بالرجعية والتخلف، فضلاً عن التشهير والاستهزاء به أو مراقبته وملاحقته. وإلى جانب ذلك أصدرت جملة من القوانين المنافية للشريعة الإسلامية، منها قانون الأحوال الشخصية وغيره.
وفي هذا المخطط الشامل اعتقلت السلطة الإمام محمد باقر الصدر عام 1972م، في إطار اعتقالات واسعة جداً ضد الجماعات الإسلامية، وتحديداً حزب الدعوة الإسلامية، واتهمت السيد الصدر بالتحريض على النظام ودعم أو قيادة الجماعات الإسلامية وغيرها، إلّا أن تدهور الحالة الصحية للسيد الصدر أجبر النظام على إطلاق سراحه، وأبقته تحت المراقبة.
هذه الأحداث التي وضعت الحالة الإسلامية الواعية في العراق بين فكي كمّاشة، وكشفت عن عدم وجود حماية للإسلاميين، بعد أن كانت مرجعية الإمام الحكيم تمثل حماية حقيقية للإسلاميين ولحركة الوعي الإسلامي عموماً، فإن الاتجاهات الإسلامية والرموز الدينية الواعية وعدد من علماء الدين باتت تعيش هاجس المرجعية الأبوية المتصدية الرشيدة. وهنا اتجهت أنظار هؤلاء إلى السيد محمد باقر الصدر، وأخذوا يلحّون عليه بالتقدم لموقع المرجعية الدينية وإصدار رسالته العملية. وامتد الإحساس بهذه الضرورة إلى عدد من البلدان الإسلامية أيضاً.
وكان الشهيد الصدر يرى أن حساسية هذه القضية تستدعي مزيداً من الدراسة والتروّي، رغم قناعته بأن الفراغ الذي يتسببه عدم وجود مرجعية متصدية للأوضاع في العراق لم يعد محتملاً، وأنه يؤدي إلى تصدع حقيقي في كيان المؤسسة الدينية وعموم الحالة الإسلامية والمجتمع المسلم وهكذا بقي الإعلان عن مرجعية السيد الصدر مجرد مسألة وقت، فما إن حلّ عام 1974م حتى كانت رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) في الأسواق، وبذلك يكون قد أعلن رسمياً عن تقدمه لموقع المرجعية الدينية، حتى أصبح بعد فترة غير طويلة المرجعية الشيعية الثالثة في الحوزة العلمية النجفية.
وتزامن هذا التحول في حركة الشهيد الصدر مع استئناف النظام لهجومه الكبير الثاني، ولكنه الأول نوعياً ضد الواقع الإسلامي، ففي منتصف عام 1974م قام النظام البعثي الحاكم باعتقال السيد محمد باقر الصدر للمرة الثانية خلال سنتين تقريباً مع أكثر من سبعين كادراً وقيادياً إسلامياً، بتهمة الانتماء لحزب الدعوة الإسلامية، بينهم عدد من علماء الدين وأساتذة الحوزة العلمية، وتركزت الاعتقالات على تنظيمات النجف الأشرف وكربلاء وبغداد.
وكان السيد الصدر أبرز المستهدفين في هذه الحملة، نتيجة إيقان النظام الحاكم بأن التحرك الإسلامي العراقي بات بمعظم فصائله يرتبط بالسيد الصدر محوراً قيادياً وفكرياً وإرشادياً، فضلاً عن المُعامل الجديد الذي دخل في المعادلة، والمتمثل بالإعلان عن مرجعية السيد الصدر المتصدية الرشيدة.
وهكذا كان معظم المعتقلين من تلامذته ووكلائه ومريده أو ممن عمل معه وتحت إشرافه. وكان هذا الاستهداف واضحاً ليرى القيادات الإسلامية المعتقلة، فأوصت عناصرها داخل المعتقلات بعدم تمكين السلطة من أية معلومة أو اعتراف ضد السيد الصدر، للحؤول دون إعطاء السلطة ذريعة جديدة للتنكيل بالسيد الصدر. ورغم أساليب التعذيب الوحشية، إلا أن السلطة عجزت عن الحصول على أي اعتراف من المعتقلين ضد السيد الصدر. وأطلق النظام سراح السيد الصدر، إلا أنه بقي هدف السلطة الأساس.
وبعد محاكمة صورية صدرت الأحكام ضد المعتقلين، وكان الإعدام نصيب خمسة منهم، أبرزهم الشيخ عارف البصري أحد كبار علماء الدين في بغداد وأحد أبرز قياديي حزب الدعوة، فيما حُكم على مجموعة أخرى بالسجن المؤبد أو السجن بمدد مختلفة. وجرت مساع حثيثة من قبل العلماء والحوزات العلمية في العراق وإيران ولبنان وباكستان وغيرها لمنع تنفيذ أحكام الإعدام، كان أهمها ما قام به السيد الصدر، الذي حصل على تأكيدات من قبل أحد أعضاء القيادة القومية للحزب الحاكم بأن الأحكام لن تنفّذ. بيد أن تأخير التنفيذ كان بهدف امتصاص ردود الفعل. وهكذا تم إعدام الخمسة في أواخر عام 1974م وبعد إعلان النبأ، أصيب السيد الصدر بحالة شبيهة بالغيبوبة، وعطّل الدراسة واعتزل الناس بضعة أيام.
فتصور النظام الحاكم أن إعدامات واعتقالات عام 1974م قد قضت بالكامل على التحرك الإسلامي في العراق، ولكن الذي حدث كان العكس، إذ امتدت الحركة الإسلامية العراقية أفقياً وعمودياً، وأخذ السيد الصدر يؤكد عليها بالاهتمام بالتنظيم العسكري، الأمر الذي حمل صدام حسين نائب رئيس النظام على وصف الإسلاميين بـ(النمل) الذي يخرج من جهة أخرى إذا هدمت بيته من جهة، وطالب صدام بصبّ الزيت على الإسلاميين وحرق الأخضر واليابس دون تراجع. وبالفعل عاودت السلطة حملاتها ضد الإسلاميين في عام 1975م فأبعدت إلى خارج العراق أكثر من (1500) عالم دين وطالب في الحوزة العلمية، واعتقلت المئات، وعرّضتهم لصنوف التعذيب، وحكمت على أعداد منهم بالسجن لمدد مختلفة.
وقد برزت ملامح الواقع الإسلامي الجديد الذي بات الشهيد الصدر يقوده علانية، ولم يعد منظّراً له فقط أو مجرد محرك، في أحداث السنوات اللاحقة، وفي مقدمتها انتفاضة صفر الإسلامية عام 1977م التي انطلقت من النجف الأشرف، وكانت قوتها مربكة للنظام الحاكم ومعادلاته، حتى أنه أعلن النفير العام في صفوف حزبه، كما أعلن حالة الطوارئ القصوى في القوات المسلحة العراقية، وجاءت الأوامر إلى الجيش والجيش الشعبي والشرطة والأمن والمخابرات بسحق الانتفاضة دون رحمة. وكان ميدان الانتفاضة هو الطريق بين النجف وكربلاء (حوالي 70 كم)، الذي اصطدمت فيه الانتفاضة بقوات السلطة، وتم إثر ذلك اعتقال نحو (30) ألف من عناصر الانتفاضة، التي بدأت سلمية، وكانت تهدف إلى الوصول إلى كربلاء مشياً على الأقدام؛ إحياءً لذكرى أربعينية الإمام الحسين بن علي؟عهما؟.
وقد منح السيد الصدر تأييده للانتفاضة منذ بدايتها، وتابع حالة التصعيد فيها، وهو التصعيد الذي وقف النظام خلفه لتسويغ ضرب الجماهير الزاحفة من النجف وسحقهم، بل أن الشهيد الصدر وافق على ذهاب السيد محمد باقر الحكيم أحد أبرز تلاميذه إلى ساحة الانتفاضة لإعلان دعم السيد الصدر لها، ومحاولة إقناع زعمائها بعدم إعطاء النظام مبرراً لقمعها، بعد أن أيقن السيد الصدر من خلال المعلومات التي وصلته بأن السلطة تنوي إبادة المنتفضين، وحينها صوّر مسؤولو الأمن وحزب السلطة في النجف لقيادة النظام في بغداد بأن السيد محمد باقر الصدر هو الذي يقود الانتفاضة، وإن زعمائها يتحركون بأوامره من خلال مبعوثه السيد محمد باقر الحكيم وبعد محاكمات صورية صدر الحكم بإعدام مجموعة من زعماء الانتفاضة، والسجن المؤبد ضد آخرين، بينهم السيد محمد باقر الحكيم، والسجن لفترات مختلفة ضد مجموعة أخرى.
الشهيد الصدر وثورة الإمام الخميني في إيران
منذ اليوم الأول لانتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني في 11 شباط 1979م، خرجت الجماهير العراقية في كثير من مدن العراق وقصباته تتبادل البشرى والتهاني على مرأى ومسمع من السلطة، وأعلن الإمام السيد محمد باقر الصدر عن تعطيل الدراسة في الحوزة العلمية النجفية مدة ثلاثة أيام ابتهاجاً بالانتصار، وخرجت في اليوم نفسه تظاهرة تأييد للثورة في النجف الأشرف، فتصدت لها قوات السلطة، وهي أول مجابهة علنية بين الإسلاميين والسلطة العراقية بعد انتصار ثورة إيران، وهكذا تحوّل العراق إلى وجه آخر للانتصار الإسلامي في إيران، وهو أمر طبيعي؛ لأن العراق كان الأكثر تأثراً بهذا الحدث العملاق؛ لعوامل عدة، أهمها:
1۔ جغرافياً: يشترك البلدان بحدود طولها (1280كم)، كما أنهما يشكلان وحدة جغرافية واحدة تقريباً، من ناحية المناخ والتضاريس والثروات الطبيعية والمياه وغيرها، فضلاً عن المشتركات الكثيرة جداً في حقول الجغرافية السكانية.
2۔ تاريخياً: يرتبط البلدان بأحداث تاريخية كبري، سواء في مرحلة ما قبل الإسلام أو بعد الإسلام، فعاصمة الدولة الفارسية الساسانية كانت في منطقة المدائن، أي في وسط العراق وعلى بعد 35 كم من بغداد، فيما أصبحت بلاد فارس بعد الفتح الإسلامي جزءاً في الدولة الإسلامية التي كان العراق مركزها لعدة مئات من السنين، ثمّ في مراحل أخرى ألحق العراق بإيران أو أنه خضع للحكم الإيراني.
3۔ سكانياً: تبلغ نسبة المسلمين في إيران 98% من عدد السكان، ونسبة الشيعة 93%، وفي العراق يبلغ المسلمون 98% أيضاً من عدد السكان، ونسبة الشيعة 64%، أي أنهم الأغلبية السكانية في كلا البلدين. كما أن القوميات الأساسية، كالعربية والفارسية والكردية والتركية، يشترك فيها البلدان أيضاً، فضلاً عن الاشتراك في كثير من العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والأسرية المتشابكة.
4۔ عقائدياً: يرتبط شعبا البلدين بمراكز ورموز دينية مشتركة، كمراقد أئمة أهل البيت عليهم السلام وذراريهم، وهي منتشرة في كلا البلدين، وكذلك الحوزات العلمية، وخاصة في النجف الأشرف وقم، والمرجعيات الدينية التي تشترك الأغلبية السكانية في كلا البلدين في الولاء الديني لهما.
5۔ موضوعياً: ويختص هذا العامل بالواقع الموضوعي الذي كان العراق وإيران يعيشانه في عام 1979م؛ فالعراق يحظى بوجود المرجعية الدينية الثائرة المتمثلة بالإمام السيد محمد باقر الصدر، والتي تسير باتجاه واحد مع مرجعية الإمام الخميني، وتتبنى أفكارها ونهجها، وتدين بالولاء لها. إضافة إلى وجود حالة إسلامية كبيرة في العراق تتمتع بالامتداد والقوة والشمول، والخلفية الدينية المتجذرة للشعب العراقي، والتي فجّرت الكثير من الأحداث الكبرى منذ أوائل القرن الحالي، هذه الأحداث كان بإمكانها ۔ عند توافر بعض الظروف الموضوعية ۔ أن تتحول إلى دولة إسلامية.
واشتمل التأثر بالثورة الإسلامية، الخارطة السياسية في العراق بأكملها، سلباً أو إيجاباً. فلا شك أن النظام العراقي ظل أكثر الأنظمة تأثراً سلبياً بالثورة الإسلامية في إيران، مما جعله الأكثر عداءً وإساءةً لها من بين أنظمة المنطقة.
أما الحالة الإسلامية العراقية التي يقودها السيد الصدر، فإنها أعلنت ولاءها للإمام الخميني قبل انتصار الثورة الإسلامية، وعملت على دعم الثورة فكرياً وإعلامياً وجماهيرياً، سواء في داخل العراق والدول العربية والأوروبية. وكان السيد الصدر قد أرسل للإمام الخميني وهو في باريس رسالة مسهبة، نيابة عن النجف والمرجعية والشعب العراقي المتعاطف مع حركة الإمام، جاء فيها: (إننا في النجف الأشرف، إذ نعيش مع الشعب الإيراني بكل قلوبنا، ونشارك آلامه وآماله، نؤمن أن تاريخ هذا الشعب العظيم أثبت أنه كان ولا يزال شعباً أبياً شجاعاً وقادراً على التضحية والصمود من أجل القضية التي يؤمن بها ويجد فيها هدفه وكرامته). وبعد الانتصار أعلن السيد الصدر ۔ على الملأ ۔ بيعته الشرعية للإمام الخميني ولياً لأمر المسلمين وقائداً للأمة. وجاء في برقية البيعة:
وإنا إذ نتطلع إلى المزيد من انتصاراتكم الحاسمة، نضع كل وجودنا في خدمة وجودكم الكبير، ونبتهل إلى المولى أن يديم ظلكم ويحقق أملنا في ظل مرجعيتكم وقيادتكم.
وهذا النوع الفريد من البيعة بادر إليه الإمام الصدر انسجاماً مع رؤيته الفقهية لموضوع الولاية العامة وإمامة المسلمين؛ إذ أنه كان يعتقد بوحدة ولاية الأمر واشتمالها على المسلمين كافة، ويقول بأن (المرجعية الرشيدة هي المعبِّر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام (المعصوم) من الناحية الشرعية).
وقد بادر الشهيد الصدر إلى إثراء مشروع دستور الجمهورية الإسلامية الذي طرحه الإمام الخميني، فقدّم إليه قبل طرح مسودة الدستور دراسته الفقهية الفكرية التى لخصت آراءه ونظرياته، وحملت عنوان (لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران). وكان الخبراء الذين دونوا الدستور أوفيا، لهذا الجهد التأسيسي، فضمّنوا الدستور الإسلامي الإيراني أكثر أفكار السيد الصدر، حتى أن كثيراً من المراقبين الغربيين توقف عند هذه العملية، فتقول دراسة أمريكية متخصصة بأن آية الله الصدر يعدّ (أحد الآباء الفكريين لدستور الجمهورية الإسلامية)، وأن آراءه الفكرية والسياسية (عملت على تقوية موقع آية الله الخميني فيما يتعلق بمنصبه كفقيه للحكومة الإسلامية).
وإلى جانب هذه الدراسة كتب الشهيد الصدر بعد شهر واحد تقريباً على انتصار الثورة الإسلامية خمس دراسات أخرى عن الدولة الإسلامية، تمثل جهداً فكرياً لدعم البنية العقيدية والفقهية والفكرية للنظام الإسلامي.
النظام العراقي والمعركة ضد الثورة
أفرزت الثورة الإسلامية الإيرانية العديد من الظواهر السياسية والثقافية والاجتماعية في الشارع العراقي، وفي مقدمة ذلك أنها أوجدت وعياً دينياً وسياسياً وجهادياً في أواسط الأمة، كما أنضجت الوعي الإسلامي الحركي الموجود، ودفعت كثيراً من قطاعات الشعب العراقي نحو ممارسة العمل الإسلامي، وباجتماع هذه المظاهر بات الشعب العراقي المسلم يتطلع إلى ثورة ودولة شبيهتين بإيران الإسلامية، الأمر الذي دفع النظام العراقي إلى فتح جبهتين واسعتين لحسم الصراع ضد حركة الإسلام المتنامية، إحداهما: الجبهة الداخلية التي يقف في جانبها الآخر التحرك الإسلامي العراقي والمد الثوري، والجبهة الثانية في الخارج لمواجهة الثورة الإسلامية الإيرانية مواجهة مباشرة، والتصدي لتأثيراتها في المنطقة العربية برمتها. وفي إطار هاتين الجبهتين شن النظام البعثي العراقي حرباً إعلامية شرسة ضد الثورة، مستغلاً كل وسائل إعلامه في الداخل والخارج، فضلاً عن الوسائل الإعلامية التي استأجرها في أكثر من بلد عربي، وأطلق فيها على الثورة الإسلامية أشنع الأوصاف، كالرجعية والطائفية والعنصرية والشعوبية والمجوسية، فضلاً عن اتهامها بالعمالة للغرب!! كما احتضن النظام العراقي أعداء الثورة الإسلامية من رجالات العهد الشاهنشاهي وغيرهم، ووضع الإمكانات كافة تحت تصرفهم، وسعى لإثارة الفتن والنعرات العرقية والطائفية داخل إيران، وتحديداً في كردستان وخوزستان، بل قام عملاؤه بالعديد من أعمال العنف والشغب والقتل والتفجير في هاتين المحافظتين الإيرانيتين. ثمّ ختم الفصل الأول من معركته ضد الثورة الإسلامية بالتحرش العسكري المباشر، والذي بدأه في 4 نيسان 1979م، أي بعد شهرين تقريباً من انتصار الثورة.
وعلى جبهة الداخل، قام النظام بحملة إفساد اجتماعي وثقافي منظمة للشعب العراقي، لم يشهد تاريخ العراق مثيلاً لها، بهدف تدمير موجة الوعي الديني التي اكتسحت الشارع العراقي. وإلى جانب ذلك أصبح المتدينون عرضة للمراقبة والملاحقة والتضييق والاعتقال.
ولم تكن الحركة الإسلامية العراقية التي يقودها الإمام محمدباقر الصدر تمتلك إمكانات متكافئة لمجابهة هجمات النظام على الجبهتين، فكان السيد الصدر يتحرك في حدود إمكاناته وإمكانات تياره الإسلامي المتنامي، بالاعتماد على قاعدة الأمة، فكان يعمد إلى الدفاع مرة وإلى الهجوم أخرى. فعلى مستوى مواجهة حملة الإفساد والمحافظة على حالة المد الديني في أوساط الشعب، قام السيد الصدر بالعديد من الإجراءات الاستراتيجية والتكتيكية ۔ التي ستأتي عليها لاحقاً ۔ وعلى مستوى إحباط تآمر النظام ضد الثورة الإسلامية، ولاسيما في الوسط العربي داخل إيران، فإن السيد الصدر خطط لهجوم مضاد يهدف إلى إحداث تحول جذري في واقع الشعب العربي في إيران، وبالفعل فقد حرّك بعض عناصر حركته من العراقيين والعرب للتواجد في المنطقة العربية في إيران والقيام بنشاطات ثقافية واجتماعية مركزة. كما كان يخاطب عرب إيران عبر وسائل عدّة، ومنها الرسالة التي بعثها لهم، وحثهم فيها على إحباط الفتنة القومية، وجاء فيها:
إني أخاطبكم باسم الإسلام وأدعوكم وسائر الشعوب الإيرانية العظيمة لتجسيد روح الأخوة الإسلامية التي ضربت في التاريخ مثلاً أعلى في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتقين، الذي لا فضل فيه لمسلم على مسلم إلا بالتقوي… فلتتوحد القولب ولتنصر الطاقات في إطار القيادة الحكيمة للإمام الخميني.
وفي الوقت نفسه كان أنصار الشهيد الصدر في داخل الدولة أو القوات المسلحة العراقية يواجهون بأساليب غير معلنة تآمر النظام العراقي ضد الثورة الإسلامية، ومنها أنهم كانوا يكشفون للقيادة الإسلامية في إيران عن كثير من المخططات التآمرية لحكومة بغداد ضد الثورة، إيماناً في الإسلاميين العراقيين بوحدة القيادة الإسلامية والمصير الإسلامي، وتلبية للواجب العقائدي والشرعي، وهو ما كان الشهيد الصدر يؤكد عليه في كل مناسبة، ومنها وصيته إلى تلاميذه وأنصاره: (ذوبوا في الإمام الخميني بقدر ما ذاب هو في الإسلام).
الإمام الصدر يمهد للثورة في العراق
قبل أن يحل منتصف عام 1979م، كانت الأحداث المتسارعة تدفع بالعراق باتجاه الثورة على النظام البعثي الحاكم، بعد أن توافرت العوامل الموضوعية للثورة، والمتمثلة في قيادة الثورة وأجهزتها وقواعدها. ونتحدث هنا عن هذه العوامل أو الركائز بشيء من التفصيل:
الركيزة الأولى للثورة: القيادة
في هذه المرحلة، أصبح تصدي الإمام السيد محمد باقر الصدر لقيادة الواقع الإسلامي في العراق أمراً واضحاً للجميع، سواءً النظام الحاكم أو المؤسسة الدينية أو الشعب العراقي أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فقد انتشرت أطروحته في المرجعية الموضوعية وتحوّلت إلى واقع عملي، حتى باتت مرجعيته ثاني مرجعية دينية فى النجف الأشرف، ولكنها تختلف عن المرجعيات الدينية التقليدية في الشكل والمضمون؛ إذ سعى الشهيد الصدر إلى تحويل المرجعية الدينية إلى قيادة اجتماعية ونظام ديني مؤسساتي متكامل، متجنباً بذلك الفردية في الممارسة والارتجالية في المواقف، وبالصورة التي يمكن من خلالها تحقيق الأهداف العليا للإسلام، ووضع ثلاثة أسس عملية لمرجعية:
- جهاز مرجعي خاص يتكامل فيه قسمان: الأول علمي تخطيطي، والثاني تنفيذي. ويتم توزيع المسؤوليات في هذا الجهاز على أساس الكفاءة والتخصص. ويضم الجهاز عدة لجان، أهمها: لجنة الشؤون الدراسية في الحوزة العلمية، لجنة الإنتاج العلمي، ولجنة علماء المناطق، ولجنة الاتصالات، ولجنة رعاية العمل الإسلامي، واللجنة المالية.
- التوغل بعمق في شرائح الأمة المختلفة، بهدف إيجاد امتداد حقيقي أفقي للقيادة.
- إيجاد امتداد زمني عمودي للمرجعية تتجاوز حياة المرجع الفرد، أي المحافظة على بقاء أجهزة المرجعية قائمة بعد وفاة المرجع الأعلى المتصدي، ليتسلمها المرجع الحي الجديد.
وفي هذا الإطار عمل السيد الصدر على توسيع دائرة ممثليه ووكلائه في المدن العراقية وفي خارج العراق أيضاً، حتى بلغ عددهم أكثر من 100 وكيل ينتشرون في مدن العراق وقصباته.
الركيزة الثانية للثورة: الأجهزة
وقد تجسدت أجهزة الثورة في التنظيمات والفعاليات الإسلامية العاملة في العراق، ولاسيما الفعاليات التي تكاملت مع قيادة الشهيد الصدر، إذ عمل الصدر على مراقبة أوضاعها وترشيد عملها والتدخل في ترتيب أوضاعها بصورة مباشرة، ودعمها بالمال، وأكد على أجنحتها العسكرية، كجزء من التحضير لمشروع الثورة.
الركيزة الثالثة للثورة: القواعد
وهي الأمة أو الجماهير المسلمة التي تفاعلت مع مشروع الثورة الذي يحضّر له السيد الصدر، فالصراع بين الواقع الإسلامي والنظام الحاكم على كسب تأييد الشعب العراقي، أدى إلى وضعٍ مضطرب جداً في الساحة السياسية والاجتماعية والفكرية، وإلى تمايز فاصل في الولاءات. ورغم أن حالة عدم التكافؤ في الإمكانات بين طرفي معادلة الصراع كانت تميل بقوة لصالح النظام الحاكم، إلا أن ذلك لم يمنع من إعلان شرائح واسعة من الأمة عن ولائها للشهيد الصدر.
وبعد دراسة متأنية للواقع بدأ الشهيد الصدر يتسلسل في الإعلان عن مشروع الثورة، فأقدم في هذا الإطار على الخطوات التالية:
- أفتى بحرمة الانتماء لحزب البعث الحاكم والتعاون معه تحت أي عنوان ولو كان انتماءً أو تعاوناً شكلياً.
- أفتى بحرمة دخول الطالبات الجامعيات إلى مراكزهن التعليمية دون الالتزام الكامل بالحجاب الإسلامي.
- أفتى بحرمة الصلاة خلف رجال السلطة المتلبسين بزي علماء الدين، والذين زرعهم النظام في بعض المساجد.
- استنفر تلامذته وممثليه ووكلاءه للعمل بين الجماهير في مختلف مناطق العراق، بهدف تعبئة الأمة ضد النظام.
- أرسل أحد أبرز تلاميذه – آية الله السيد محمود الهاشمي – إلى خارج العراق؛ ليكون ممثلاً عنه لدى القيادة الإسلامية في إيران، فاستقر في إيران بهدف عمل برنامج موحد للفصائل الإسلامية والجماهير العراقية في المهجر.
وتخلل عن هذه التطورات أحداث نوعية كثيرة، أدخلت الصراع بين الإسلاميين والسلطة منعطفاً جديداً شهدته الفترة من نيسان 1979م وحتى حزيران 1979م، والتي قام فيها النظام بالتضييق الشديد على السيد الصدر وحركته، بما في ذلك مراقبة وكلائه واعتقال قسم منهم، فضلاً عن منع السيد الصدر نفسه من مزاولة بعض نشاطاته العامة، إلى حد محاسبته على مجلس الفاتحة الذي أقامه في النجف الأشرف على روح المفكر والقيادي الإسلامي الشيخ مرتضى المطهري؛ بذريعة أن المطهري شخص إيراني.
انتفاضة رجب
تعدّ انتفاضة 17 رجب (12 حزيران 1979م) علامة مميزة في تاريخ التحرك الإسلامي المعاصر في العراق، لما لها من أبعاد شديدة العمق، من أهمها أنها أدخلت الإسلاميين مرحلة جديدة ۔ في شكلها ومضمونها ۔ في صراعها مع النظام الحاكم، إذ اعتبر الأخير الانتفاضة ثورة حقيقية، قد نجحت لولا الإجراءات القمعية الشديدة التي اتخذتها السلطة.
وقد كانت التطورات التي أدت إلى الانتفاضة تسير بصورة دراماتيكية وعلى شكل أحداث يومية متسلسلة يجرّ بعضها بعضاً. ففي أواخر أيار 1979م سرت شائعة قوية في أوساط المسؤولين الإيرانيين مفادها أن السيد الصدر يعتزم مغادرة العراق. وعلى أثرها أبرق إليه الإمام الخميني طالباً منه عدم مغادرة العراق، إذ جاء في البرقية:
إنني لا أرى من المصلحة مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الدينية، وإنني قلق من هذا الأمر.. آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتكم.
فأبرق السيد الصدر مجيباً:
إني أستمد من توجيهكم الشريف نفحة روحية، كما أشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الأشرف.
وحقيقة الأمر أن السيد الصدر لم يكن ينوي مغادرة العراق، وهو ما صرح به لتلاميذه. وقد انتشر موضوع الشائعة ثم تبادل البرقيتين بين الإمام والشهيد بسرعة مذهلة في العراق، فاستثمرته الفعاليات الإسلامية، ولاسيما وكلاء الشهيد الصدر في المدن والتنظيمات الإسلامية، وحشّدت الجماهير من معظم مدن العراق على شكل وفود كبيرة لزيارة السيد الصدر في النجف الأشرف وإعلان البيعة والولاء له. واستمرت وفود البيعة بالتقاطر على القائد الصدر تسعة أيام متتالية. ولم تكن السلطة تتوقع هذا المقدار من الولاء للمرجعية الدينية. وقد انعكس هذا الولاء على العراقيين في المهجر أيضاً، ولاسيما في دول أوروبا، الأمر الذي دفع السلطة إلى إجراءات أشد قسوة وحزماً، تضع حداً لتطورات الوضع الذي بدا أنه يتجه على نحو مغاير لما تخطط له. فجاء قرارها باستعادة زمام المبادرة من خلال إجراءٍ فاصل تمثل باعتقال الإمام الصدر، ففي فجر 12 حزيران قامت قوة كبيرة من عناصر الأمن المدججة بالسلاح والسيارات العسكرية بمحاصرة بيت القائد، واقتادته إلى بغداد، وكان الهدف واضحاً، ويتلخص في حمل السيد الصدر على المساومة والخضوع لشروط النظام أو قتله.
وبما أن السلطة تعلم باستحالة إذعان الصدر لمطاليبها، فإن الإعدام كان خيارها الأول، ولكنها تريثت بانتظار ردود فعل الشعب، وإثر ذلك فجّرت بنت الهدى الصدر – شقيقة السيد الصدر – الموقف، وأعلنت للناس عن اعتقال أخيها. وخرجت التظاهرات في صباح اليوم نفسه في النجف الأشرف إضافة إلى عشر مدن أخرى، وهي تطالب بإطلاق سراح قائدها الصدر، تخللتها أعمال عنف بين قوات السلطة والجماهير.
وكانت أول نتيجة تمخضت عنها الانتفاضة، اضطرار السلطة للإفراج عن الإمام الصدر وإعادته إلى النجف الأشرف. وأعطت الانتفاضة للنظام الحاكم درساً بضرورة اتخاذ اجراءات احترازية مناسبة في المستقبل قبل الإقدام على عمل مشابه، أي قبل اعتقال الصدر مرة أخرى.
وبعد إطلاق سراحه، بقي الشهيد الصدر محتجزاً في بيته طيلة تسعة أشهر، منعته السلطة خلالها من مزاولة نشاطاته، حتى العادية منها، كالتدريس والصلاة، بل ومنعت حتى الأطباء من زيارته، رغم تدهور حالته الصحية، وأخلت الدور المحيطة ببيته، وزرعت المنطقة برجال الأمن والمخابرات، ونصبت أجهزة التصوير والتنصت داخل بيته، رغم أن الزيارات إليه كانت ممنوعة بالمطلق حتى من قبل أقاربه.
وخلال الانتفاضة والأيام التي تلتها، قامت السلطة بحملة اعتقلات واسعة، شملت ما يقرب من 8000 إسلامي، وأعدمت 86 شخصاً منهم، وحكمت على الآخرين بالسجن المؤبد أو السجن بمدد مختلفة، وكان بين من تم إعدامهم عدد من تلاميذ السيد الصدر البارزين ووكلائه والمقربين إليه. وفي الشهر اللاحق اعتقلت السلطة أكثر من 3000 إسلامي، أعدمت منهم 40 شخصاً، وحكمت على الآخرين بالسجن المؤبد وبمدد مختلفة.
وحيال هذا الهجوم الشامل الشرس الذي يستهدف استئصال الحالة الإسلامية، ويعتمد القتل والتعذيب والإرهاب وسائل أساسية له، لم يكن أمام السيد الصدر سوى الإفتاء بالدفاع عن النفس بالسلاح، أو بكلمة أخرى وجوب الكفاح المسلح وجوباً كفائياً، وهو ما أعلنه للأمة في ندائه الأول الذي أصدره في منتصف حزيران 1979م، والذي دعا فيه الشعب العراقي إلى مواصلة مطاليبه (مهما كلفه ذلك من ثمن؛ لأن هذا دفاع عن النفس.. دفاع عن الكرامة.. دفاع عن الإسلام). وحينها تحركت الفصائل الإسلامية العراقية معلنة الكفاح المسلح، وباتت العمليات العسكرية تمارس يومياً ضد السلطة؛ إلا أن هذه العمليات لم تستطع ردع النظام أو توقفه عند حدود معينة من القمع والإرهاب، بل كانت تستفزه للمزيد من الهستيريا والتوحش.
النظام ينشر رائحة الدم في كل مكان
ظل العراق في هذه الفترة يعيش وضعاً غير مستقر، وكان النظام الحاكم يواجه واقعاً سلبياً، رغم ممارساته القمعية وإرهابه الشامل، الأمر الذي كان يتسبب في قلق الدوائر الاستكبارية التي تخشى من قيام ثورة إسلامية في العراق شبيهة بثورة الجارة إيران، من هنا جاء التغيير في قمة هرم النظام منطلقاً من رؤية بريطانية، وتمثل في حلول صدام حسين محل أحمد حسن البكر، كضرورة تفرضها المرحلة.
واستمرت السلطة في قص أجنحة حركة الصدر؛ لتقضي على أي رد فعل محتمل عند اعتقاله وإعدامه، حتى بلغ عدد الذين تم إعدامهم من الإسلاميين حتى نهاية عام 1979م أكثر من 3000 شخص. ثم تصاعدت حملات التصفية الجسدية بشكل كبير في الأشهر الأولى من عام 1980م، إذ تقول صحافية مصرية عاشت أحداث تلك الفترة بتفاصيلها: (كنت طيلة الشهور قبل إبريل [نيسان] 1980م، أسمع عن الإعدامات الجماعية التي يساق لها الشباب المسلم: 300، 400 شاب يومياً).
وبما أن معظم هؤلاء الشهداء هم من تلاميذ الشهيد الصدر ووكلائه وأنصاره، فقد رافقت حملات الإعدام حرباً نفسية شديدة مارستها السلطة ضد السيد الصدر، إذ كانت تخبره يومياً بأسماء المعدومين من المقربين إليه والمعروفين لديه، إمعاناً في التنكيل به وإيذائه وهو محاصر في بيته.
وبقي تحرك المنظمات الدولية لحقوق الإنسان في محاولة رفع المعاناة عن السيد الصدر مجرد تحرك صوري؛ إذ أن التقارير التي كانت تصدرها هذه المنظمات تحفظ في أرشيف السلطة الحاكمة في بغداد، والتي لم تكن تكلّف نفسها الرد على ما تكشفه منظمات حقوق الإنسان من حقائق. ومن هذه التقارير التي صدرت في تشرين الأول 1979م تقرير منظمة العفو الدولية الذي جاء فيه بأن الماء والكهرباء قد قطعا عن دار آية الله الصدر، وأن الطعام يجلب له مرة واحدة في الأسبوع، ولا يسمح له بمغادرة الدار، حتى للذهاب إلى المسجد، وكذلك لا يسمح له باستقبال الزوار من أصدقائه أو طلابه، ولميسمح أيضاً بزيارة الطبيب له، رغم تدهور حالته الصحية. وتم إشغال الدور المحيطة ببيته بعناصر الأمن. وأصبحت العائلة المحاصرة في حالة يرثى لها حين قطع عنها الطعام نهائياً، وعاشت طيلة الأشهر التي سبقت استشهاد السيد الصدر مأساة إنسانية كبري.
قتل الصدر.. الخيار الأخير
منذ التصاعد الدراماتيكي للأحداث في العراق أواسط عام 1979م، بات تنفيذ قرار السلطة بقتل الإمام محمد باقر الصدر مسألة وقت فقط؛ لأنه كان خيارها الأول والأخير، بل الملفت للنظر أنه كان خيار السيد الصدر أيضاً، ولكل منهما مبرراتهما، فقد كانت السلطة تتعجل التخلص من السيد الصدر والقضاء على حركته، فيما كان السيد الصدر ينتظر أن يتورط النظام البعثي الحاكم بدمه، ويكون دمه محركاً للأمة؛ لأن الحياة مع هؤلاء الظالمين لم تعد تطاق.
وفي هذا الإطار حاولت السلطة عدة محاولات لقتل السيد الصدر دون أن تتورط بدمه علانية، فخلال فترة اعتقاله ومحاصرته في بيته مع عائلته، حفرت مجموعة من قوى الأمن نفقاً تحت البيت في محاولة لهدمه، ولكن انفجار أنابيب المياه حال دون إكمال مشروع القتل، كما أرسلت مخابرات النظام ضابطاً لاغتياله في بيته، إلا أن الضابط ۔ وكان من أسرة متدينة ۔ كشف المخطط للسيد الصدر نفسه وتاب على يديه، فأعدمته السلطة. ولطالما كانت الأخطاء الفنية تحبط هذه الألوان من الاغتيال.
وبعد أن أيقن السيد الصدر أنه مقتول لامحالة، فقد فكر في تشكيل القيادة النائبة التي تتكون من عدد من تلامذته البارزين والشخصيات الإسلامية المعروفة؛ لتأخذ على عاتقها قيادة التحرك الإسلامي في فترة اعتقاله أو بعد استشهاده، إلا أن عوامل معينة ۔ لا مجال للخوض فيها هنا ۔ حالت دون تحقيق هدفه هذا، وكانت هذه العقبات الكأداء تزيد من معاناته من حالة الوعي في الحوزة العلمية التي كان متقدماً عليها بأشواط كبيرة، وهي الفاصلة التي كانت تتسبب في عدم تفاعل كثير من أوساط الحوزة مع مشروعه التغييري النهوضوي، فكان هذا المشروع عبئاً ثقيلاً عليه وعلى المؤسسة الدينية أيضاً. وخيبة الأمل الكبيرة التي كانت تتضاعف لديه فترة حجزه في بيته كانت تظهر عليه بصورة مرارة تاريخية يصعب وصفها، حتى أنه كان في الشهر الأخير الذي سبق استشهاده لا يقوى على صعود السلم في بيته، ليس جراء الضعف الجسدي الذي أصابه نتيجة انقطاع التيار الكهربائي والماء عن بيته أو منع إيصال الطعام إليه، بل من حالة الإحباط التي خلقتها الأحداث المحيطة به وبحركته.
وفي الأيام الأخيرة التي سبقت اعتقاله الأخير واستشهاده، بادرت السلطة إلى التخفيف من حجم الحصار على السيد الصدر وداره، في محاولة لجس نبض الشارع العراقي والوقوف على حقيقة ردود الفعل، بعد أن أطمأنت السلطة خلال فترة الحجز إلى جانب المؤسسة الدينية النجفية، وبأنها لن تقوم بأي رد فعل سلبي فيما لو اعتقل الصدر أو أُعدم.
بيد أن ردود الفعل هذه المرة جاءت على خلاف ما توقع النظام، فقد كانت الجماهير سباقة إلى بيت السيد الصدر، وعلى مرأى ومسمع من السلطة، رغم الإجراءات الإرهابية والقمعية التي كانت تمارسها، وهو الأمر الذي اضطر السلطة ثانية لتشديد الإقامة الجبرية على السيد الصدر في بيته.
وتمهيداً لإعدامه وفقاً لمادة قانونية هذه المرة، فقد أصدر صدام حسين رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي قراراً بتوقيعه في 31 آذار 1980م، ونشر في الجريدة الرسمية، يقضي بإعدام كل المنتسبين إلى حزب الدعوة الإسلامية أو العاملين لتحقيق أهدافه تحت واجهات ومسميات أخرى، وبأثر رجعي. ويعني هذا القرار إبادة التحرك الإسلامى في العراق بمسوغات قانونية. وكان السيد محمد باقر الصدر أبرز المستهدفين في هذا القرار، إذ استخدمته السلطة ۔ ابتداءً ۔ ورقة ضغط جديدة ضد السيد الصدر خلال مفاوضتها معه، فقد دخلت السلطة من خلال بعض الوسطاء المحسوبين عليها في مفاوضات مع السيد الصدر خلال شهر آذار 1980م، وعرضت عليه ثلاثة شروط مقابل عودته إلى الحياة الطبيعية، وإلا فإنه سيقتل.
وتلخصت الشروط في إلغاء فتواه التي أصدرها بحرمة الانتماء لحزب البعث في العراق، والإفتاء بحرمة الانتماء لحزب الدعوة، والبراءة من التحرك الإسلامي في العراق، والبراءة علناً من الإمام الخميني والامتناع عن دعم الثورة الإسلامية في إيران. وحين رفض السيد الصدر هذه الشروط جملة وتفصيلاً، فإن النظام تنازل عن شروطه واكتفى بأحد هذه الشروط، وهو ما يختار السيد الصدر نفسه، وفي المقابل تضع السلطة الحاكمة بين يديه كل ما يريده من إمكانات، ويزوره صدام حسين بنفسه، وتدعمه السلطة ليكون المرجع الديني العربي في النجف الأشرف مقابل المرجعيات الدينية الإيرانية التي تهيمن على الحوزة العلمية ۔ على حد تعبير وسطاء السلطة ۔ فرفض السيد الصدر هذا العرض وطرد مندوبي النظام، وامتنع عن مقابلتهم فيما بعد، وكان يكرر حينها قوله: (إني أتمني وأرجو الله أن يرزقني الشهادة، فإن الدم لم يعدله شيء، فمتى يتورط هؤلاء بدمي).
وبعد ستة أيام على صدور قرار إبادة الإسلاميين قامت السلطة في 6 نيسان 1980م باعتقال الإمام الصدر، وأرسلته إلى بغداد فوراً. وخلالها كان النظام الحاكم يمارس إجراءات مكثفة شملت كل جزء من أجزاء العراق، لهدف خنق أية ردود فعل محتملة تجاه اعتقال السيد الصدر، ولتجنب ما حدث في 17 رجب.
وكان من أبرز هذه الإجراءات: حملات التهجير والنفي الوحشية الواسعة إلى إيران، والتي شملت عشرات الآلاف من العوائل العراقية، بحجة أصولها الإيرانية، هذه الحملات التي بدأت في 5 نيسان، أي قبل يوم واحد فقط من اعتقال السيد الصدر، وقد أحدثت ضجة في كل العراق وشغلت الناس طويلاً.
والإجراء الآخر هو حملات الاعتقال العشوائية التي لم يشهد تاريخ العراق مثيلاً لها، والتي بدأت بصورة واسعة جداً فور صدور قرار إعدام الإسلاميين في 31 آذار، والتي أربكت ذوي المعتقلين بشدة. كما قامت السلطة وبشكل مكثف ببث الإشاعات السلبية ضد السيد الصدر وحركته، إلى جانب التعتيم الشديد على اعتقاله.
ومن هنا فحين اعتقل السيد الصدر كان الشعب في وسط العراق وجنوبه مشغولاً بنفسه، بين معتقل ومهجّر وملاحق، أو مدعو لتسلّم جثة أحد ذويه أو يودّع أقاربه المهجّرين، أو يبحث عن معتقل من أهله. كما أن 90% من تلامذة الصدر والمقربين إليه والشخصيات الإسلامية العاملة كانوا أيضاً إما معتقلين أو متخفين أو مهاجرين خارج العراق أو أنهم قد استشهدوا في السجون أو في المواجهات مع قوات السلطة.
وخلال فترة اعتقاله القصيرة – ثلاثة أيام فقط – تعرّض الإمام الصدر لصنوف التعذيب النفسي والجسدي في الأقبية السرية الرهيبة لمديرية الأمن العام وفي القصر الجمهوري. وقد شارك صدام حسين رئيس النظام في جلسات استجواب السيد الصدر، وكان يعذبه بنفسه، بغية حمله على المساومة، وبعد أن أعيته الحيلة أقدم صدام حسين على تفريغ رصاصات مسدسه في قلب الإمام محمد باقر الصدر ورأسه، فسقط مضرجاً بدمائه في 8 نيسان 1980م.
إن الموت لا يمكن أن يكون خاتمة حياة الرجال العظام الذين صنعوا تاريخ الإنسانية بصوره ومضامينه المشرقة، فهؤلاء يظلون أحياء بأفكارهم ومشاريعهم، وبالأجيال التي أوجدوها وصاغوا حركتها وفعلتها؛ لتحمل هم الفكرة والمشروع من بعدهم، وبالأمة التي أنجبتهم وسيظلون شهداء عليها، والشهيد الصدر أحد الذين يقفون في مقدمة صنّاع التاريخ الإنساني عموماً والإسلامي خصوصاً. ورغم أن النظام البعثي الذي يحكم العراق بالقمع والإرهاب والحروب منذ عام 1968م وحتى الآن، حاول أن يضفي على قتله السيد الصدر تفسيراً سياسياً، يتخلص في تصفية قيادة المعارضة الإسلامية، وبالصورة التي يطرحها مصدر غربي متخصص بقوله: (إن النظام وضع في حسابه أن ما يثيره هذا العمل من امتعاض بين صفوف المسلمين هو أقل بكثير من تحول آية الله الصدر إلى خميني العراق).
إلا أن لقضية قتل السيد الصدر ۔ في حقيقتها ۔ أبعاداً واسعة، تاريخية وحضارية ودينية، فضلاً عن بعدها السياسي، فجذورها الحضارية ضاربة في عمق الصراع بين الإسلام الأصيل وأعدائه، وبعدها التاريخي يمتد إلى المشروع السياسي الطائفي الذي فرضته الدولة العثمانية على العراق، ثم حوّله الإنجليز إلى نظام سياسي ظلّ قائماً في العراق منذ عام 1920م وحتي الآن.
أما الجانب الديني في قضية قتل الشهيد الصدر فهو لصيق بأهداف الحزب الحاكم في إبادة الحالة الإسلامية التغييرية في العراق، من خلال تصفية رمزها الفكري والتنظيري والقيادي والمرجعي.
ومن هنا وضعت السلطة البعثية في بغداد في مقدمة أهدافها تصفية الواقع الذي صنعه السيد الصدر، ومحو مشروعه من ضمير الأمة وذاكرتها، إلا أن الذي حدث هو العكس تماماً. وما انعقاد هذا المؤتمر العالمي الكبير بعد أكثر من عقدين على استشهاد الإمام الصدر إلا دليل واحد على هذه الحقيقة.
وبالتالي فإن استشهاده لا يمكن أن يكون خاتمة للملف السياسي في مشروعه، اللهم إلا من باب الممارسة الواقعية للفعل السياسي، وإلا فإن خطه السياسي لا يزال قائماً في الأجيال التي صنعها، والتي يفاجأ النظام الحاكم ۔ في كل مناسبة ۔ بأنها مزروعة في كل زاوية من زوايا العراق.