الشيخ خالد الغفوري
فقه النظرية هو عملية استنباط واكتشاف الإطار العام للموقف الفقهي تجاه مجال معين من مجالات الحياة، كالمجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو القضائي أو السياسي أو الإعلامي وغير ذلك، وبلورة المعالجة الإسلامية وصياغتها بصورة نظرية كلية محكمة تكون بمثابة قاعدة جامعة لشتات الأحكام الفرعية وصالحة لأن تنبثق عنها الأبنية العلوية من الأحكام والقوانين لتنظيم الحياة.
وهذا الاتجاه التنظيري يعتبر جديداً نسبياً في أجوائنا الإسلامية، سيما في مراكز العلوم الإسلامية، فإن تاريخ ظهورها على الساحة الفكرية قد لا يتعدى خمسة أو ستة عقود، فقبل ذلك لم تكن هذه الرؤية متداولة ولا واضحة المعالم.
وتعدّ ۔ بحق ۔ أطروحة آية الله العظمى الشهيد محمد باقر الصدر(قده) في بلورة النظرية الإسلامية في المجال الاقتصادي التجربة الرائدة والناضجة في هذا المضمار، حيث قام بمحاولة موفّقة لكيفية اكتشاف مباني وقواعد المذهب الاقتصادي في الإسلام وفق منهجية مبتكرة ومحددة، بعد أن خاض معركة فكرية حادّة مع أهم المدارس الاقتصادية وأكثرها اقتداراً وهيمنة على الساحة، وهما الاتجاه الاشتراكي والاتجاه الرأسمالي.
ولا نبالغ إذا قلنا بأن هذه الأطروحة القيمة ظلّت يتيمة لم تشفع بأخرى رغم مرور حقبة من الزمن ليست بقصيرة، فلا غرو أن تعتبر أحد الفتوحات الفكرية الكبرى في تاريخنا المعاصر، وأحد الإنجازات الهامة في عصرنا الحاضر، والتي كان لها بالغ الأثر في تغيير الخطاب الإسلامي شكلاً ومضموناً وأبعاداً، وفتحت للعقل الإسلامي آفاقاً رحيبة للتجديد الأصيل، وشقّت الطريق أمام الرسالة للمنافسة المتكافئة مع الآخر، بل ساهمت مساهمة مؤثرة في قلب مركز الاقتدار الفكري لصالح الاتجاه الإسلامي في الصراع الثقافي المحتدم بينه وبين الاتجاهات الوضعية.
ولا زالت في ذاكرتنا تلك الأيام العجاف حين كان خصماؤنا الوضعيون يتبجحون بملء أفواههم بامتلاكهم منهجية تامة حول برنامج الحياة؛ لزعمهم أن سرّ تفوّقهم هو انطلاقهم من نظرية عامة كأساس تصوري تقف عليه بناءاتهم التفصيلية المتكثرة كافة. وكنا يومها نتوارى من القوم تحاشياً للإحراجات؛ إذ لم يكن باستطاعتنا أن نقدّم وقتئذ أكثر من إجابات سريعة ومرسلة ومتناثرة حول ما يكتنف الشريعة الحنيفة من إبهامات وفراغات متوهمة على أصعدة حساسة وخطيرة لا يمكن الغض عنها أو تأجيل البحث فيها إلى وقت سيأتي.
من هنا ندرك حجم الانعطاف المبين الذي حدث في مسار الفكر ومدى التوسع الكبير في أفق الذهنية الإسلامية ببركة فقه النظرية وما رافق ذلك من نقلة ملحوظة وتحول بارز من موقع الدفاع الغاضب إلى موقع السباق الحضاري الواعي، ولا نزال نحن نستصحب المنهج ذاته في حالات الزهو والتألق الفكري، وما نفتأ نسترجع مفرداته بعينها في أوج الخطاب الثقافي.
معطيات فقه النظرية
أجد من اللازم البحث حول مدى جدوى النظريات العامة، وهل ثمة فوائد وآثار عملية يمكن أن تترتب على ذلك أو لا؟ فقد يظن الظانون والذين يلقون الكلام بغير حساب أن ذلك لا يعدو أن يكون تحليلاً صرفاً لا طائل تحته.
لذا ينبغي فهرسة الثمرات العملية وتشريح الانعكاسات الواقعية والآثار الناشئة من تلك النظريات وعلى أصعدة شتى، فإن لفقه النظريات العامة بركات كثيرة وفوائد جمّة، وسنبوّب بعض هذه الثمرات حسب الأبعاد المتوقعة لفقه النظرية.
- الفكر والثقافة
تشكّل النظرية العامة رقماً صعباً في المعادلة الثقافية والفكرية، وتوفر أمامنا فرصاً ذهبية للامتداد والزحف نحو اقتحام وفتح الساحة الثقافية المناوئة، وتقصّر المسافات للوصول إلى الأهداف الرسالية وتقرّب البعيد؛ حيث يتم بواسطة الصياغات العامة ضغط الكم الهائل من الأحكام الممتدة أفقياً، والتي يتعذر عادة الإحاطة بها تصوراً من قبل الملأ العام فضلاً عن القناعة بها ضمن قوالب ناجزة وقواعد معدودة يسهل دركها ولا يصعب تصديقها، ففرق كبير بين الخطاب المنفوش والبيانات الموزّعة وبين الخطاب المركّز والحاوي لعصارات المنهج الإسلامي وخلاصات البرنامج الحضاري المتبنّى.
ولا ريب في رجحان الأسلوب الثاني باعتباره يخلق في الأذهان وضوحاً وانكشافاً، ويرفع النفوس إلى مستوى الشهود الرسالي، ونحن وإن استطعنا أن نزرع في الساحة الثقافية جواً من الوضوح في الإطار العقائدي أو في الإطار الأخلاقي أو المعنوي إلا أن ذلك وحده غير كافٍ؛ فإنه يدفع الجمهور إلى نصف الطريق حيث يمدهم برؤية كونية ويعرّفهم هويتهم الوجودية ويقف عند هذا الحد، ولا يعرّفهم هويتهم الحضارية، مما يجعل الحاجة إلى مكمل لهذه الرؤية أكثر إلحاحاً.. .
وهذا المتمم للوعي يتمثل بتحصيل الرؤية الحياتية ووعي الموقف، وإن فقه النظرية بتأمين ذلك لجدير، فمن خلاله يمكن تقديم صورة متجانسة لوجهي الواقع، أي الواقع الموجود والواقع المطلوب، فيزيد المؤمنين إيماناً مع إيمانهم ويكسبهم الثقة العالية بدينهم والاطمئنان الراسخ برسالتهم، وتثبت بذلك أقدامهم على الحق المبين ولا يهنوا تجاه أمواج الغزو الثقافي، بل يمكنهم حينئذ الانطلاق لخوض المنافسة والنزال مع الغير، فإن للنظرية العامة لبهاءً وسحراً وإن عليها لطلاوة تأخذ بمجامع العقول وتجتذب الأفئدة.
ولا نريد أن نبالغ في تصوير مدى الأثر الإعلامي والثقافي للنظريات العامة، فإن بعض الأباطيل والاتجاهات الهزيلة استطاعت أن تجد لها مكاناً في الساحة الثقافية وتسبغ على نفسها سمة المسلك؛ لأنها تسربلت بزيّ النظرية العامة. وهذه حقيقة لا ينكرها إلا مكابر، فإن النظرية العامة هي العملة الرائجة في سوق الأفكار، وهي اللغة المفضّلة في عصرنا الراهن، وهي الموضة الراقية بنظر المثقف.
وأعرب الشهيد الصدر(قده) عن أهمية فقه النظرية بقوله:
.. تكون الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام حاجة حقيقية ملحّة، خصوصاً مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي، بكل ما يملك من رصيد كبير وثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية، حيث وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة، فكان لابد لكي يحدّد موقف الإسلام من هذه النظريات، كان لابد وأن يستنطق نصوص الإسلام، لابد وأن يتوغل في أعماق هذه النصوص؛ لكي يصل إلى مواقف الإسلام الحقيقية سلباً وإيجاباً، لكي يكتشف نظريات الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عالجتها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة.[1]
- الإدارة والحكم
مقدمة نقول: إن التكاليف الشرعية على قسمين: فردية واجتماعية، ولا يُعرف الفرق بينهما من خلال لحاظ صيغة الإفراد أو الجمع في الخطاب، بل إن الفرق أبعد من ذلك وأعمق، فهو ناشئ في مرحلة المبادئ والملاكات ويستمر إلى مرحلة الامتثال، بل يتجاوز ذلك ويمتدّ إلى الآثار واللوازم، والعلة في ذلك تعود إلى الاختلاف بين طبيعة الفرد والمجتمع، فالمجتمع ليس هو حصيلة تصاعد كمي وعددي مسبب عن ضم فرد إلى آخر وإضافته رياضياً، بل هو مركب ذو ماهية مستقلة وشخصية ذات كيان خاص وإن كان غير خارج عن الأفراد، إلا أن الفارق بين الوجود الفردي والاجتماعي ۔ مضافاً إلى الفارق الكمي ۔ فارق كيفي ينشأ من عنصر العلاقات المتشابكة التي تربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض. وإن شئت قلت: إن للفرد حيثيتين وعنوانين: أحدهما من حيث هو، والآخر من حيث هو جزء من كل.
وهذا الفرق ليس فرقاً اعتبارياً، بل هو فرق واقعي ينسحب ويترتب عليه جملة من الآثار، كاختلاف السنن التي تحكم كل منهما، واختلاف طبيعة الدور الذي يلعبه الفرد والمجتمع، ومجال حركة كل منهما في الحياة.
واستدل السيد الشهيد(قده) على الفرق بين كيان الفرد وكيان المجتمع بالآيتين الكريمتين، وهما:
أولاً قوله تعالى: <لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ فَلاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ>.[2]
ثانياً قوله تعالى: <وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ>.[3]
وقرّب الاستدلال بقوله:
نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين أن الأجل أضيف إلى الأمة، إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد أو ذاك الفرد بالذات. إذن هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي، أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي للأفراد، للأمة بوصفها مجتمعاً ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعة من القوى والقابليات. هذا المجتمع الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بالأمة له أجل، له موت، له حياة، له حركة، كما أن الفرد يتحرك فيكون حياً ثم يموت، كذلك الأمة تكون حية ثم تموت، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل وقانون، كذلك الأمم أيضاً لها آجالها المضبوطة وقوانينها. وهناك نواميس تحدد لكل أمة هذا الأجل..[4].
وهذا الفرق ينسحب إلى أحكام ووظائف كل منهما، فإن التفاوت بين الأحكام والتكاليف الفردية جوهري. من هنا نلمس البون الشائع بين خطاب <أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ>[5] وبين خطاب <وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا>[6] رغم اتحاد الصيغتين لفظاً، فإن الخطاب الأول موجه إلى فرد أو مجموعة أفراد لا يصدق عليهم أي جامع حقوقي، فكل مكلف يمكنه امتثال هذا الأمر، بينما الثاني يقصد به الكيان والجهة. فالأمة من حيث هي كيان ذات شخصية حقوقية مسؤولة عن إقامة الدين وحدوده، لا أن كل مكلف يسوغ له إجراء ذلك وتنفيذه.
وليس من الصحيح تصوير الفرق بين النحوين على أساس العينية والكفائية في التكاليف، فإن صلاة الأموات من الأحكام الكفائية إلا أنها ليست حكماً اجتماعياً. كما أن العكس صحيح أيضاً، فربّ تكاليف وأحكام اجتماعية تكون عينية يوكل أمرها إلى طائفة معينة بل إلى شخص واحد كالأحكام المرتبطة بولي الأمر.
وعلى أية حال فإن الكتب الفقهية عكفت على تشخيص التكاليف الفردية ۔ وربما بعض التكاليف الاجتماعية أحياناً ۔ بصورة مفصّلة وبيان كيفية تطبيقها وامتثالها وتفصيل شرائطها، في حين أن وظيفة فقه النظرية التصدي لمعالجة وبحث التكاليف في دائرة أوسع من الفرد، أي بحث التكاليف الاجتماعية، فإن هذا المجال الفقهي الواسع بمستوى من الخطورة والضرورة يفوق فقه الفرد بمراتب ما دمنا نعتقد بأن قيادة الإسلام للمجتمع من المسلمات اليقينية فقهياً؛ إذ من الواضح أن رسم الصورة الإسلامية في طريقة حكم وإدارة المجتمع لا يكفي فيه استعراض أو استنباط الأحكام الفردية أو بعض الأحكام الاجتماعية المتناثرة هنا وهناك.
ونحن نجد الفقيه لا يدّخر جهداً في استنباط الموقف الشرعي تجاه مسألة جزئية تطرح من قبل شخص واحد أو اثنين، فنراه لا يقرّ له قرار حتى يعرف حكم الله ليعرفه السائل والمستفتي. فالمأمول بالفقيه أن يبذل قصارى ما في وسعه لاستخراج الموقف الشرعي تجاه الحركة الاجتماعية العامة وكيفية توجيهها وإدارتها، ولا ريب في أن من جملة الحلول ۔ إن لم نقل أقربها وأقواها ۔ هو النظرية العامة، ولا أقل من القول بأن التوفر على رؤية شاملة وامتلاك قاعدة عامة للانطلاق في معالجة قضايا حكم المجتمع وإدارته وما يكتنف ذلك من ملابسات وتعقيدات خير من المعالجات المقطعية، والتي تؤدي إلى الهرج والمرج وإشاعة الفوضى قطعاً سواء على صعيد الحاكم الشرعي الأعلى ۔ ولي الأمر ۔ أو على مستوى أجهزته المتعددة ودوائره المختلفة، فإن مثل هذه الأجهزة تصدر يومياً عشرات القرارات.
إنه من المسلّم فقهياً أن هناك جملة من الحوادث تركت الشريعة أمر معالجتها إلى ولي الأمر سواء آمنّا بتمامية أدلة ولاية الفقيه أو ناقشنا في ذلك وتمسكنا بحبل الحسبة، فإنه لا شك من وجود مساحة مرنة لكي يتحرك فيها المتصدي ويحدد فيها الموقف. ومن المعلوم أن تحديد الموقف مشروط أولاً بمراعاة المصلحة العامة، وثانياً بما يكون منسجماً مع مذاق الشارع.
والقيد الأول إحرازه عن طريق دراسة الظروف داخلاً وخارجاً ووعي المرحلة والتقديرات المستقبلية.
وأما إحراز القيد الثاني فهو أمر صعب مستصعب؛ لأنه ما من حكم ولائي إلا ويتزاحم مع بعض الأحكام، سواء كانت واقعية أو ظاهرية ترخيصية أو إلزامية، وإن كانت الترخيصية أخف إشكالاً وأهون ۔ من قبيل التصادم مع مبدأ سلطنة الناس على نفوسهم وأموالهم وشؤونهم الخاصة بهم، ولا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بتوفر ولي الأمر على رؤية واضحة ومحيطة بالاتجاهات العامة للشريعة ومذاقها ۔ الذي هو بمثابة ملكوت الأحكام الشرعية وأمّ الكتاب لها ۔ فحينئذ يمكن تحديد الخطوط الحمراء التي لا يمكن تخطّيها بحال.
إذن فإن تطبيق الشريعة كنظام يتوقف على تحديد الاتجاهات العامة للتشريع.. وإلا تكون التجربة ساذجة ومتعثرة تحكم على نفسها بالفشل.
يقول(قده):
لابد من أن يتوغل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه ليصل إلى النظريات الأساسية، لا أن يكتفي بالبناءات العلوية والتشريعات التفصيلية، بل ينفذ من خلال هذه البناءات العلوية إلى النظريات الأساسية والتصورات الرئيسية التي تمثّل وجهة نظر الإسلام؛ لأننا نعلم أن كل مجموعة من التشريعات في كل باب من أبواب الحياة ترتبط بمثل تلك النظريات والتصورات.
ففي مجال الحياة الاقتصادية ترتبط تلك الأحكام بنظرية الإسلام، بالمذهب الاقتصادي الإسلامي، وفي مجال النكاح والطلاق وعلاقات المرأة مع الرجل ترتبط بنظرياته الأساسية عن المرأة والرجل ودور كل منهما. هذه النظريات الأساسية تشكّل القواعد النظرية لهذه الأبنية العلوية، لابد من التوغل عمودياً أيضاً إليها، ومحاولة اكتشافها بقدر الإمكان.[7]
ونحن نلمس الحاجة الماسة إلى فقه النظرية في عدة مجالات عملية، منها ما يلي:
المجال الأول: التقنين، وهذا ما يمكن أن نتصوره على مستويين:
المستوى الأول: تحديد الأسس الكلية للقوانين بصورة إجمالية، أو ما يصطلح عليه بالدستور. ومن المعلوم أننا لو قصرنا النظر على دائرة الأحكام الفرعية والفردية، ولم نتقدم خطوة إلى الأمام في اقتناص النظريات العامة، فسوف نعجز عن إرائة الحل الأصيل، ولا نهتدي إلى تحصيل الاتجاهات والبُنى التحتية التي تقف عليها كل التفاصيل والفروع، فمثلاً كيف يمكن تحديد الرؤية الإسلامية تجاه تحديد وظائف كل من القوى الثلاث العليا: وهي القوة المقننة والقوة القضائية والقوة التنفيذية، وهل إنها تعمل مستقلة أو غير مستقلة بعضها عن بعض؟
إن الرؤية الشاملة أي فقه النظرية سيعين كثيراً في تقديم الإجابة المتينة ۔ وبشكل محدد ۔ تجاه هذه المسائل وأشباهها.
المستوى الثاني: سنّ القوانين والأنظمة التفصيلية اللازمة لإدارة المجتمع: فمع رفضنا للفقه الوضعي وما يتبنى من تقنينات. كيف يمكن تأمين هذه الحاجة وملء الخلأ؟! فهل من المعقول الاستغناء عن نظام التربية والتعليم أم هل يمكن غض النظر عن نظام البلديات أم هل من المعقول إغفال التخطيط الصحي أو الاقتصادي أو الأمني، أم هل يمكن إهمال تنظيم الجيوش والقدرات الدفاعية وسائر الدوائر؟! فهل إن الدولة الإسلامية شرعاً مسؤولة عن تعليم أفراد المجتمع وتوفير إمكانات ذلك؟
هل إن من واجب الدولة تقديم الخدمات الصحية، وبأي مستوى وكيف؟
هل إن للدولة الإسلامية جهازاً أمنياً، وما هي حدود صلاحياته وكيف يمارس نشاطه؟
هل إن سنّ الخدمة العسكرية الإجبارية أمر سائغ شرعاً أو لا؟
وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة المنبثقة من صميم الواقع الاجتماعي.
إن كثيراً من هذه الظواهر والأسئلة لا نمتلك أجوبة واضحة عنها، وأنى لنا بالإجابة مع عدم امتلاك صورة محيطة على الموقف العام والنظرية العامة؛ فإن ما لدينا من الأحكام الفرعية والفردية ۔ مع قلتها وعدم نظرها إلى هذه الزوايا ۔ سرعان ما تتآكل بسبب ما تبتلى به من تزاحم، فلو تصدينا مثلاً لمعالجة النظام المصرفي من خلال ما نمتلك من أحكام فرعية فقط كحرمة الربا، فيا ترى هل يحالفنا التوفيق في تقديم النموذج الناضج؟! الحق أننا ما لم نكتشف التكييف الشرعي للمعاملات المصرفية على ضوء النظرية الاقتصادية العامة وفي ظل التصور التام حول الثروة وحقيقة المال وسائر العناصر المقومة لحركة الاقتصاد، فستنحسر الحلول في عمليات الترقيع والترميم.
وربما سعى بعض الفقهاء لحل المشكلة من زاوية النظر إلى الفرد، فيتفنن في تصيّد طريق شرعي ولو صوري ومتكلف غير ملتفت إلى أن هذه مجرد عمليات تسكين لا ترقى إلى مستوى الحل؛ ولذا نرى المكلف يستلم فتاوى لا ترضي وجدانه؛ لأنها معالجات مقطعية تنظر إلى المراد الشرعي بعين واحدة ومن أفق ضيّق.
المجال الثاني: النظام القضائي والحقوقي، فإن التعامل مع باب القضاء والحقوق طبقاً للأحكام الجزئية والحدود والديات وبعض الأبواب المتفرقة لا يؤمّن لنا العدالة المنشودة، بل ربما يؤول الأمر إلى إشاعة الفوضى واختلال النظم العام؛ لأن كل مجتهد يقضي وفق اجتهاده، فتجد الحالة الواحدة لها أكثر من معالجة؛ نتيجة لاختلاف في الاجتهاد. وكذلك الحال بالنسبة إلى الموقف تجاه وسائل الإثبات وطرق التحقيق والاستجواب. وهل هناك مجال لإعطاء حق الدفاع وجعل الوكيل الحقوقي من قِبل الفرد؟ وكيفية التعامل مع نظام العقوبات البدنية أو المالية أو الحقوقية أو السياسية. وعشرات المسائل الأخرى التي لو لوحظت مستقلة لانتهينا إلى نتائج غير متّسقة وإذا لوحظت كأجزاء من كل أو جزئيات لكلي لأعطت نتائج ليست مقصودة وغير مُرضية للشارع.
هذا كله بالنسبة إلى الجانب التشريعي من عملية القضاء، وأما بالنسبة إلى تحديد كيفية إجراء الأحكام وسير الدعاوى والجانب التشريفاتي فهذه أيضاً حاجة أخرى ترجع إلى مجال التقنين.
المجال الثالث: التنفيذ، فإن طريقة تطبيق النظرية الإسلامية على أرض الواقع قد يكون بطرق عديدة، فإن انتخاب أي طريق من هذه الطرق قد يتم على ضوء النظرية العامة، فهي قد تلقي بإشعاعاتها على طريقة الإجراء أيضاً.
ففي إطار تحديد النظام البنكي نلمس مدى التأثير الذي تتركه النظرية العامة على ذلك، يقول الشهيد الصدر(قده):
من الواضح أن الإسلام لا يقرّ البنك الرأسمالي بصورته التي شرحناها؛ لأنه:
أولاً: يتناقض مع أحكام الشريعة الإسلامية والقانون المدني للفقه الإسلامي التي حرّمت الإقراض بفائدة.
وثانياً: يتناقض مع أسس الاقتصاد الإسلامي وروحه العامة في توزيع الثروة واستثمارها.. فلا يكفي فقط التخلص من التناقض الأول، بل لابد من حل كلا التناقضين بين البنك الرأسمالي والإسلام لكي نحصل على بنك إسلامي حقيقي يشكّل جزءاً أصيلاً في الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلامي، وليس مجرد عملية ترقيع للبنك الرأسمالي.. وبدلاً من استخدام وسائل رأسمالية في إنجاز المهمة الموضوعية يستخدم البنك في المجتمع الإسلامي وسائل ذات طابع إسلامي في هذا المجال، وبذلك يحصل المجتمع على المكاسب الموضوعية للنشاط المصرفي في الحياة الاقتصادية، ولكن في إطار المذهب الاقتصادي الإسلامي ووفقاً لمقولات الحياة الإسلامية، ويعبّر ذلك في الحقيقة عن تحول عظيم في طبيعة النشاط المصرفي.
ويمكن تلخيص هذا التحول في النقاط التالية:
أولاً: أن عملية تجميع الأموال وتوظيفها تتولاها في المجتمع الإسلامي الدولة نفسها عن طريق بنك رسمي، ولا يسمح بالاستثمارات المصرفية في القطاع الخاص، وبهذا ينفصل الهدف التنموي لهذه العملية عن مغزاها الرأسمالي؛ إذ تصبح عملية تجميع الأموال عملية اجتماعية تنوب فيها الدولة ۔ بمعنى من المعاني ۔ عن أصحاب الأموال أنفسهم. وأي قدرة جديدة يخلقها هذا التجمع لن تكون ملكاً لفرد أو أفراد محدودين، كأولئك الذين يسيطرون على النشاط المصرفي ويمسكون بزمام الحياة الاقتصادية كلها في المجتمعات الرأسمالية.
ثانياً: أن الدولة لا تعتمد في تجميع الأموال والكميات المبعثرة أو المدخرة من النقود على الإغراء بدخل ثابت تحت اسم فوائد، كما تصنع البنوك الرأسمالية، وإنما تنطلق في رسم سياستها في هذا المجال من التركيب بين حقائق أو قضايا مستمدة من مذهبها الاقتصادي ومستوحاة من الروح العامة للتشريع الإسلامي.[8]
وبعد أن أوضح الشهيد(قده) تلك القضايا والحقائق المستمدة من المذهب الاقتصادي قال:
بعد أن حدّدنا في الفقرة السابقة المركب النظري الذي يعتمده البنك في المجتمع الإسلامي أساساً لممارسة مهمته الموضوعية ودوره في الحياة الاقتصادية، نستطيع أن نتعرف على الطريقة التي تمكّن البنك الإسلامي من تجميع الكميات المتفرقة من النقد بدون إغراء بالفائدة الربوية ولا استعمال للأساليب الرأسمالية..[9].
المجال الرابع: القرارات المصيرية، إذ لا ريب في تعرّض الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي إلى حالات عصيبة وأزمات داخلية أو خارجية على أصعدة مختلفة، وفي مثل هذه الحالات إما يكون الموقف من ولي الأمر موقفاً متخذاً على أساس المصالح الدنيوية والخبرة الخاصة والمهارة الذاتية، وأخرى أن يضاف إلى ذلك الخطوط العريضة التي تعيّن أو ترجّح موقفاً معيناً على غيره.
- الاجتهاد والافتاء
إن فقه النظرية بمقدار ما يساهم في تكوين نظرة متكاملة وتحصيل رؤية شاملة سوف يدخل بنفسه كعنصر مؤثر في استنباط الأحكام الفرعية أيضاً؛ فإن النظريات العامة تعطي للأدلة الشرعية بعداً جديداً، شأنها في ذلك شأن أية قاعدة فقهية أخرى لكن بأفق أرحب وأوسع، وبذلك يتطور لدينا مفهوم القاعدة الفقهية، وتبرز موارد جديدة لها.
هذا من جانب ومن جانب آخر إن فقه النظرية سينفع باتجاه تفعيل عملية الاجتهاد وإدخال عنصري الزمان والمكان في الاستنباط. وأنت خبير بأن إخضاع عملية الاجتهاد لتأثير الزمان والمكان مطلقاً ومن دون وضع حدود يعني مسخ الشريعة ومحقها، إلا أننا يمكننا تحصين الاجتهاد من تلك الأخطار بفقه النظرية الذي هو بنيان مرصوص وحصن واقٍ.
وأيضاً من جملة الآثار التشريعية معرفة مدى الموافقة أو المعارضة مع الروح العامة للكتاب، فقد ذكر الفقهاء في بعض الأبواب كالشروط والأصوليون في باب التعارض مقياساً، وهو عدم مخالفة الشرط أو الحديث مع الكتاب الكريم، وإلا فيسقط الشرط وكذلك يسقط الحديث عن الاعتبار عند المخالفة.
والتفسير المشهور لذلك: إن كل حديث لا يكون في القرآن دلالة _ ولو بالعموم أو الإطلاق_ توافق مدلوله وتشهد عليه لا يكون مقبولاً.[10]
وفي قبال ذلك اختار الشهيد الصدر(قده) بأنه ليس المراد من المخالفة والموافقة المضمونية الحدّية مع آيات الكتاب، بل إنها تشمل حالات المخالفة مع الروح العامة للقرآن الكريم، وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه. ويكون المعنى حينئذ أن الدليل إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجة، فمثلاً لو وردت رواية في ذم طائفة من الناس وبيان خسّتهم في الخلق أو أنهم قسم من الجن، قلنا: إن هذا مخالف مع الكتاب الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً ومساواتهم في الإنسانية ومسؤولياتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم. وأما مجيء رواية تدل على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً فهي ليست مخالفة مع القرآن الكريم وما فيه من الحث على التوجه إلى الله والتقرب منه عند كل مناسبة وفي كل زمان ومكان. وهذا يعني أن الدلالة الظنية المتضمنة للأحكام الفرعية فيما إذا لم تكن مخالفة لأصل الدلالة القرآنية الواضحة تكون بشكل عام موافقة مع الكتاب وروح تشريعاته العامة، خصوصاً إذا ثبتت حجيتها بالكتاب نفسه.[11] ولا ريب في أن النظرية العامة تكشف النقاب عن هذه الروح العامة للقرآن.
منهجية الاستنباط في فقه النظرية
تجدر الإشارة إلى أن المنهج الذي ابتكره السيد الشهيد(قده) كان في حدود اكتشاف النظرية العامة في مجال الاقتصاد. وبما أننا بصدد دراسة المنهج العام لفقه النظرية لذا حاولنا تجريد هذا المنهج عن تلك الخصوصية وطرحه بشكل عام بقدر الإمكان، ثم نذكر التطبيق الخاص بعد ذلك، وقد سعينا قدر المستطاع إلى المحافظة على متن عباراته(قده) الواردة في بحثه القيّم في كتاب (اقتصادنا).
وفي البدء أكد(قده) على ضرورة التمييز بين المذهب والقانون؛ فإن المذهب هو: مجموعة من النظريات الأساسية التي تعالج مشاكل الحياة على مستوى الاتجاه العام. والقانون هو التشريع الذي يعالج مشاكل الحياة وينظّمها على مستوى التفاصيل. وعلى هذا لا يصح الخلط بين المذهب والقانون وعدّهما أمراً واحداً. فإنك ترى دولاً كثيرة في العالم تتبنى مذهباً معيناً كالرأسمالية، ولكنها قد تختلف في تشريعاتها القانونية؛ لأن تلك التشريعات القانونية ليست من المذهب الرأسمالي.
ثم إننا لابد أن ندرك باستيعاب الروابط التي تشدّ أحدهما إلى الآخر باعتبارهما مندمجين في مركّب عضوي نظري واحد. فالمذهب بنظرياته وقواعده يشكّل قاعدة لبناء فوقي من القانون، ويعتبر عاملاً مهماً في تحديد اتجاهه العام.
وكون المذهب قاعدة نظرية للقانون لا ينفي اعتبار المذهب بدوره بناء علوياً لقاعدة يرتكز عليها، فإن البناء النظري الكامل للمجتمع يقوم على أساس نظرة عامة. ويضم طوابق متعددة يرتكز بعضها على بعض، ويعتبر كل طابق متقدم أساساً وقاعدة للطابق العلوي المشاد عليه، فالمذهب والقانون طابقان من البناء النظري، والقانون هو الطابق العلوي منهما الذي يتكيف وفقاً للمذهب، ويتحدد في ضوء النظريات والمفاهيم الأساسية التي يعبّر عنها ذلك المذهب.
وعلى ضوء ذلك تتحدد حركة البحث في الشريعة الإسلامية، فإن الباحث ۔ هنا ۔ دوره دور المكتشف، فإنه أمام تشريع منجز تم وضعه، وهو مدعو إلى تمييزه بوجهه الحقيقي وتحديد هيكله العام والكشف عن قواعده الفكرية، وإبرازه بملامحه الأصيلة ونفض غبار التاريخ عنها، والتغلب بقدر الإمكان على كثافة الزمن المتراكم بالمسافات التاريخية الطويلة وإيحاءات التجارب غير الأمينة التي مارست _ ولو اسمياً _ عملية تطبيق الإسلام، والتحرر من آخر الثقافات غير الإسلامية التي تتحكم في فهم الأشياء، وفقاً لطبيعتها واتجاهها في التفكير. ووظيفة الباحث هي محاولة التغلب على كل هذه الصعاب واجتيازها للوصول إلى النظرية العامة.
وبهذا يتعين على عملية الاكتشاف أن تبدأ الطريق من البناء العلوي إلى القاعدة، وتنطلق من جمع الآثار وتنسيقها إلى الظفر بصورة محددة للمذهب.
مراحل وخطوات المنهج
يتألف هذا المنهج من مرحلتين أساسيتين:
الأولى: هي استيعاب البناء العلوي من التصميم الإسلامي.
والثانية: هي اكتشاف القواعد والنظريات العامة التي يقوم على أساسها البناء العلوي، ويرتكز عليها ذلك الحشد من الأحكام.
وهذا هو النصف الثاني من عملية الاكتشاف التي تنطلق من البناء العلوي إلى القاعدة، ومن التفصيلات التشريعية إلى العموميات النظرية.
ومن الجدير بالذكر أن هذا لا يعني أن يتم إنجاز كل مرحلة بخطوة واحدة، بل غالباً ما يتم السير في عدة خطوات تضمّنية، وسوف يتبين بعض هذه الخطوات عند ذكر النموذج والتطبيق الذي قدّمه السيد الشهيد(قده).
المرحلة الأولى: البناء العلوي
الخطوة الأولى: عملية تجميع الأحكام التي تعتبر بناءً فوقياً والتي تساهم في إلقاء الضوء على عملية الاكتشاف، ففي المجال الاقتصادي لابد من جمع الأحكام المرتبطة بالمعاملات والحقوق التي تنظّم العلاقات المالية بين الدولة والأمة وتحديد موارد الدولة وسياستها العامة في إنفاق تلك الإيرادات. وأما الأحكام التي لا تساهم في ذلك فهي خارجة عن مجال البحث.
يقول(قده):
فعلى سبيل المثال: نذكر الربا، والغش، وضريبة التوازن، وضريبة الجهاد؛ فإن الإسلام قد حرّم الربا في المعاملة كما حرّم الغش أيضاً، غير أن تحريم الربا والمنع عن القرض بفائدة يساهم في عملية الاكتشاف؛ لأنه جزء من بناء علوي لنظرية توزيع الثروة المنتجة، فهو يكشف عن القاعدة العامة للتوزيع في الإسلام.. وأما حرمة الغش فليس لها إطار مذهبي؛ ولذلك قد تتفق عليها قوانين جميع البلاد المختلفة في مذاهبها الاقتصادية.
وكذلك الأمر في ضريبتي التوازن والجهاد، فإن الضريبة التي يشرّعها الإسلام لحماية التوازن كالزكاة مثلاً تدخل في عملية الاكتشاف دون ضريبة الجهاد التي يأمر بها الإسلام لتمويل جيش المجاهدين؛ فإنها تتصل بدور الدعوة في الدولة الإسلامية، لا بالمذهب الاقتصادي في الإسلام.[12]
إذن فعملية التجميع هذه ليست عشوائية، بل هي عملية انتقاء موضوعي، وهذا يتوقف على إحاطة بأحكام الشريعة واطلاع واسع على قوانينها.
الخطوة الثانية: استحضار العناصر الأخرى التي تساهم في عملية الاكتشاف إلى جانب الأحكام، وهي:
المفاهيم، والمراد كل رأي للإسلام أو تصور إسلامي يفسّر واقعاً كونياً أو اجتماعياً أو تشريعياً، وهي وإن كانت لا تشتمل على أحكام بصورة مباشرة، ولكن قسماً منها بالرغم من ذلك ينفعنا في عملية الاكتشاف.
ولكي يتضح بشكل عام الدور الذي يمكن أن يؤديه هذا النمط من المفاهيم نأخذ مثالاً لمفهومين إسلاميين دخلا في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي. فأحد هذين المفهومين هو مفهوم الإسلام عن الملكية القائل بأن الله تعالى استخلف الجماعة على المال والثروة في الطبيعة، وجعل من تشريع الملكية الخاصة أسلوباً يحقق ضمنه الفرد متطلبات الخلافة، من استثمار المال وحمايته، وإنفاقه في مصلحة الإنسان فالملكية عملية يمارسها الفرد لحساب الجماعة، ولحسابه ضمن الجماعة.
والمفهوم الآخر هو: رأي الإسلام في التداول بأنه شعبة من شعب الإنتاج؛ لأن الإنتاج دائماً هو إنتاج منفعة، والتاجر بجلبه للسلعة المنتجة وإعدادها في متناول المستهلكين يحقق منفعة جديدة، بل لا منفعة للسلعة بالنسبة إلى المستهلكين بدون ذلك الإعداد.
ففي ضوء هذين النموذجين لمفاهيم الإسلام نستطيع أن نستوعب ونحدد الدور الذي يمكن أن يؤدّيه أمثال هذه المفاهيم على صعيد البحث وفي عملية الاكتشاف.
فهناك من المفاهيم ما يقوم بدور الإشعاع على بعض الأحكام، وتيسير مهمة فهمها من نصوصها الشرعية والتغلب على العقبات التي تعترض ذلك، فالمفهوم الأول يهيّء الذهنية الإسلامية ويعدّها لتقبّل نصوص شرعية تحدّ من سلطة المالك وفقاً لمتطلبات المصلحة العامة للجماعة؛ لأن الملكية بموجب ذلك المفهوم وظيفة اجتماعية يسندها الشارع إلى الفرد ليساهم في حمل أعباء الخلافة التي شرّف الله بها الإنسان على هذه الأرض، وليست حقاً ذاتياً لا يقبل التخصيص والاستثناء، فمن الطبيعي أن تخضع الملكية لمتطلبات هذه الخلافة، ومن اليسير في هذا الضوء تقبّل نصوص تحد من سلطة المالك وتسمح بانتزاع المال من يد صاحبه في بعض الأحايين، كالنصوص الإسلامية في الأرض التي تؤكد أن الأرض إذا لم يقم صاحبها باستثمارها ورعايتها وفقاً لمتطلبات الخلافة تنتزع منه ويسقط حقه فيها وتعطى لآخر.
وبعض المفاهيم الإسلامية يقوم بإنشاء قاعدة يرتكز على أساسها ملء منطقة الفراغ الذي أعطي لولي الأمر حق ملئها، فالمفهوم الإسلامي عن التداول يصح أن يكون أساساً لاستعمال الدولة صلاحياتها في مجالات تنظيم التداول، فتمنع في حدود الصلاحيات كل محاولة من شأنها الابتعاد بالتداول عن الإنتاج وجعله عملية لإطالة الطريق بين المستهلك والسلعة المنتجة، بدلاً عن أن يكون عملية إعداد للسلعة وإيصال لها إلى يد المستهلك.
منطقة الفراغ: وليس المراد بهذا الاصطلاح أن هناك جملة من الأمور قد أهملت وأغفلت في الشريعة، بل المراد المساحة التي أوكلت الشريعة ۔ تعمداً ۔ أمر تحديدها بيد ولي الأمر، نظير ما يقال بالنسبة إلى المباحات التي تركت الشريعة تحديد الموقف فيها إلى الفرد المكلّف، فقد يختار الفعل فيقدم عليه، وقد يختار الترك فيحجم عنه، وإن كان المثال يقرّب من جهة ويبعّد من جهة أخرى كما يقال.
من هنا نشير إلى تعسّف البعض في الاستشكال على هذا الاصطلاح قائلاً: (يستحدث باقر الصدر مقولة وجود الفراغ في التشريع الإسلامي) إلى أن قال: (ونحن لا نقدر أبداً على التسليم بوجود فراغ في التشريع؛ لأن الأمور المستحدثة التي لا نص فيها قد بلغنا أمر المشرّع بالاجتهاد في معرفة أحكامها..).[13]
ومن الطريف أن السيد الشهيد(قده) كان يحدس أن مثل هذا الوهم ربما يطرأ على بعض الأذهان، لذا فقد بادر إلى دفعه قائلاً:
ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبّر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة؛ لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنما حدّدت للمنطقة أحكامها بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية حسب الظروف.
فإحياء الفرد للأرض مثلاً عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها، ولولي الأمر حق المنع عن ممارستها وفقاً لمقتضيات الظروف.[14]
والأكثر طرافة هو أنه(قده) كان قد جعل عنوان الفصل (منطقة الفراغ ليست نقصاً)، فهل يبقى مجال للإشكال بعد هذا التوضيح كله، أفلا يبصرون؟!
فعلى صعيد الاقتصاد يبيّن السيد الشهيد أن المذهب الاقتصادي في الإسلام يشتمل على جانبين:
أحدهما: قد مُلئ من قبل الإسلام بصورة منجّزة لا تقبل التغيير والتبديل.
والآخر: يشكّل منطقة الفراغ في المذهب قد ترك الإسلام مهمة ملئها إلى الدولة ۔ ولي الأمر ۔ يملؤها وفقاً لمتطلبات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي ومقتضياتها في كل زمان.
وقد أطلق على الأول اسم (العناصر الثابتة)، وعلى الثاني اسم (العناصر المرنة والمتحركة)، ويمكن تشخيص النوع الثاني من خلال المؤشرات الإسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة، فالعناصر الثابتة تلقي ضوءاً على العناصر المتحركة.[15]
إذن فالمذهب الاقتصادي يرتبط ارتباطاً كاملاً بنظام الحكم في مجال التطبيق، فما لم يوجد حاكم أو جهاز حاكم لا يتاح ملء منطقة الفراغ في المذهب الاقتصادي بما تفرضه الأهداف الإسلامية وفقاً للظروف، وبالتالي يصبح من المتعذر تطبيق المذهب الاقتصادي كاملاً بنحو نقطف ثماره ونحقق أهدافه.[16]
وهكذا الحال عندما نمارس اكتشاف أية نظرية من نظريات الإسلام المرتبطة بنظام الحياة؛ فإننا لابد وأن نأخذ بعين الاعتبار نظام الحكم الذي يراه الإسلام، فهذا يعدّ ركناً أساسياً في تطبيق الشريعة، وبالتالي فلا يمكن إغفاله في عملية اكتشاف النظرية العامة في المجالات المختلفة.
ولا شك بأن التمييز بين العناصر الثابتة التي لا يطالها التبدل وبين العناصر المتحركة التي يحدّدها الحاكم وولي الأمر مسألة في غاية الأهمية، ولها دور كبير في تحديد الاتجاه العام للتشريع؛ فإن الخلط بين النوعين من العناصر يقود إلى الاشتباه في تعيين ذلك الاتجاه العام.
المرحلة الثانية: اكتشاف النظرية العامة
وهي عملية التركيب بين الأحكام، أي أن ندرس كل واحد منها بوصفه جزءاً من كل وطرفاً من صيغة عامة مترابطة لننتهي من ذلك إلى اكتشاف القاعدة العامة التي تشعّ من خلال الكل أو من خلال المركّب وتصلح لتفسيره وتبريره.
يقول(قده):
فإلغاء فائدة رأس المال في عقد القرض، والسماح بالكسب الناتج عن إيجار وسيلة الإنتاج في عقد الإجارة، ومنع المستأجر عن أن يتملك بسبب عقد الإجارة المادة الطبيعية التي يحوزها أجيره.. كل هذه الأحكام لابد _ بعد التأكد من صحتها شرعاً _ أن تدرس مترابطة، ويركّب بينها ليتاح لنا الخروج منها بالقاعدة الإسلامية لتوزيع الثروة المنتجة التي تميّز موقف الإسلام من التوزيع عن موقف المذهب الاشتراكي الذي يقيم توزيع الثروة المنتجة على أساس العمل وحده، وموقف المذهب الرأسمالي الذي يقيم توزيعها على أساس العناصر المشتركة في تكوين الثروة المنتجة المادي والبشري..[17].
ثم إنه بعد إنجاز الخطوات السابقة في المرحلة الأولى تصبح أمام الباحث مجموعة من العناصر التي يمارس اجتهاده في ضوئها. وهذه الخطوة من أهم الخطوات وأصعبها، فكل ما تقدم بمثابة المقدمة والوظيفة الأساسية للباحث تتمثل في عملية الاستنتاج، فإن عملية تجميع العناصر وإن كانت في كثير من الأحيان لا تتم بسهولة إلا أن الصعوبة تكمن في كيفية الاستفادة من هذه العناصر باتجاه النظرية العامة؛ لأن النصوص لا تُبرز ۔في الغالب مضمونها التشريعي أو المفهومي_ الحكم أو المفهوم إبرازاً صحيحاً محدّداً لا يقبل الشك في أية جهة من جهاته، بل كثيراً ما ينطمس المضمون أو تبدو المضامين مختلفة وغير متسقة، وفي هذه الحالات يصبح فهم النص واكتشاف المضمون المحدد من مجموع النصوص التي تعالج ذلك المضمون عملية اجتهاد معقّدة لا فهماً بسيطاً.
وعلى أية حال، فإن طبيعة العملية تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب أن ينطلق منها، وتحتّم أن تكون نقطة الانطلاق مجموعة متسقة ومنسجمة من الأحكام، فإن استطاع أن يجد هذه المجموعة فيما يضمّه اجتهاده الشخصي من أحكام، وينطلق منها في عملية الاكتشاف لفهم الأسس العامة للنظرية الإسلامية دون أن يمنى بتناقض أو تنافر بين عناصر تلك المجموعة، فهي فرصة ثمينة تتحد فيها شخصية الممارس بوصفه فقيهاً يستنبط الأحكام مع شخصيته بوصفه مكتشفاً للنظريات.
وأما إذا لم يسعد بهذه الفرصة ولم يسعفه اجتهاده بنقطة الانطلاق المناسبة، فلا يؤثّر ذلك على تصميمه في العملية، ولا على إيمانه بأن واقع التشريع الإسلامي يمكن أن يفسّر تفسيراً نظرياً متسقاً شاملاً، وسوف لن يصل إلى طريق مسدود. والسبيل الوحيد الذي يتحتم على الممارس سلوكه في هذه الحالة: أن يستعين بالأحكام التي أدت إليها اجتهادات غيره من المجتهدين؛ لأن في كل اجتهاد مجموعة من الأحكام تختلف إلى حد كبير عن المجاميع التي تشتمل عليها الاجتهادات الأخرى.
وليس من المنطقي أن نترقب اكتشاف نظرية عامة وراء كل مجموعة من تلك المجاميع، وإنما نؤمن بنظرية عامة واحدة تقوم على أساسها أحكام الشريعة الموجودة ضمن تلك المجاميع، ففي حالة التنافر بين عناصر المجموعة الواحدة التي يتبناها الممارس، يتعين عليه في عملية الاكتشاف أن يزيل العناصر القلقة التي تؤدي إلى التناقض على الصعيد النظري، ويستبدلها بنتائج وأحكام في اجتهادات أخرى أكثر انسجاماً وتسهيلاً لعملية الاكتشاف، ويكوّن مجموع ملفّقة من اجتهادات يتوفر فيها الانسجام، لينطلق منها ويخرج في النهاية باكتشاف الرصيد النظري لتلك المجموعة الملفقة من الأحكام الشرعية.
وأقل ما يقال في تلك المجموعة: إنها صورة من الممكن أن تكون صادقة كل الصدق في تصوير واقع التشريع الإسلامي. وليس إمكان صدقها أبعد من إمكان صدق أية صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يزخر بها الصعيد الفقهي الاجتهادي. وهي بعد ذلك تحمل مبرراتها الشرعية؛ لأنها تعبّر عن اجتهادات إسلامية مشروعة تدور كلها في فلك الكتاب والسنة؛ ولأجل ذلك يصبح بالإمكان للمجتمع الإسلامي أن يختارها في مجال التطبيق من بين الصور الاجتهادية الكثيرة للشريعة التي يجب عليه أن يختار واحدة منها.
وعملية الاختيار هذه هي عملية اجتهاد، لكن في حدود انتخاب صورة من الصور الاجتهادية؛ فيختار المجتهد هنا لا بشكل عشوائي أو مزاجي، بل ينتقي في كل مجال أقوى العناصر التي يجدها وأكثر الفتاوى انسجاماً وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام؛ فإنه من المستحيل في بعض الأحيان اكتشاف النظرية الإسلامية والقواعد العامة شاملة كاملة منسجمة مع بنائها العلوي وتفصيلاتها التشريعية وتفريعاتها الفقهية إلا على أساس المجال الذاتي للاختيار.
وهذا كل ما يمكن إنجازه في عملية الاكتشاف للاقتصاد الإسلامي عندما يعجز الاجتهاد الشخصي للممارس عن تكوين النقطة المناسبة للانطلاق، بل إن هذا هو كل ما نحتاج إليه تقريباً بهذا الصدد. وماذا نحتاج بعد أن نكتشف مذهباً اقتصادياً يتمتع بإمكان الصدق والدقة في الصياغة، بدرجة لا تقل عن حظ أي صورة اجتهادية أخرى، وتتوفر فيها مبررات النسب الإسلامي؛ باعتبار انتسابها إلى مجتهدين أكفاء، وتحمل من الإسلام رخصة التطبيق في الحياة الإسلامية؟![18]
أضــواء
- لقد نبّه(قده) أن الممارس لفقه النظرية بإمكانه أن يدرس النظرية على الصعيد التطبيقي؛ فإن التطبيق يحدد ملامح النظرية الإسلامية وخصائصها، كما تحددها نصوص النظرية في مجالات التشريع، باعتبار أن الإسلام قد دخل حياة المجتمع بوصفه النظام السائد في عصر النبوة، وقد جسّد عملياً آنذاك.
ولكن النصوص التشريعية للنظرية أقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي؛ لأن تطبيق نص تشريعي في ظرف معين قد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النص، ولا أن يصوّر مغزاه الاجتماعي كاملاً، فيختلف إلهام التطبيق ومعطاه التصوري للنظرية عن المعطى الفكري.[19]
- كما وحذّر(قده) من خطر العنصر الذاتي وتسرّب الذاتية إلى عملية الاجتهاد القائمة على أساس من فهم الأحكام والمفاهيم من النصوص، ويشتد الخطر ويتفاقم عندما تفصل بين الشخص الممارس والنصوص التي يمارسها فواصل تاريخية وواقعية كبيرة، وحين تكون تلك النصوص بصدد علاج قضايا يعيش الممارس واقعاً مخالفاً كل المخالفة لطريقة النصوص في علاج تلك القضايا، كالنصوص التشريعية والمفهومية المرتبطة بالجوانب الاجتماعية من حياة الإنسان، ولأجل هذا كان خطر الذاتية على عملية اكتشاف النظرية العامة أشد من خطرها على عملية الاجتهاد في أحكام أخرى فردية: كالحكم بطهارة بول الطائر أو حرمة البكاء في الصلاة.
وبالنظر لأهمية هذا البحث وخطورته وتأثيره على العملية الاجتهادية لابد من عرضه بشكل واضح ووافٍ؛ فإن وعي هذه المسألة تقرّب حالة استنباط الأحكام الفرعية إلى الموضوعية وتحصّنها من التورط في المخالفة للواقع، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى تجعل عملية التعامل مع الفتاوى والآراء الفقهية لأي فقيه، وتقويمها وتفعيلها في استنباط النظرية العامة عملية منطقية؛ إذ لا يمكن التعويل على وجهة نظر فقهية خاصة ما دامت مهدّدة بخطر الذاتية.
من هنا تصدّى(قده) إلى تحديد منابع هذا الخطر، وقد أشار بهذا الصدد إلى أربعة أسباب بوصفها أهم المنابع لخطر الذاتية:
أ ۔ تبرير الواقع: إن عملية تبرير الواقع هي المحاولة التي يندفع فيها الممارس بقصد أو بدون قصد إلى تطوير النصوص، وفهمها فهماً خاصاً يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها، نظير ما قام به بعض المفكرين المسلمين ممن استسلم للواقع الاجتماعي الذي يعيشه، وحاول أن يخضع النص للواقع، بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النص، فتأول أدلة حرمة الربا والفائدة، وخرج من ذلك بنتيجة تواكب الواقع الفاسد، وهي أن الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة، وإنما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً يتعدى الحدود المعقولة.
ب ۔ دمج النص ضمن إطار خاص: وأما عملية دمج النص ضمن إطار معين فهي دراسة النص في إطار فكري غير إسلامي، وهذا الإطار قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش، وقد لا يكون، فيحاول الممارس أن يفهم النص ضمن ذلك الإطار المعين، فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره الفكري أهمله، واجتازه إلى نصوص أخرى تواكب إطاره، أو لا تصطدم به على أقل تقدير.
ومن الإطارات الفكرية التي تلعب دوراً فعالاً في عملية فهم النص: الإطار اللغوي، كما إذا كانت الكلمة الأساسية في النص لفظاً مشحوناً بالتاريخ، أي ممتداً ومتطوراً عبر الزمن، فمن الطبيعي أن يبادر الممارس بصورة عفوية إلى فهم الكلمة، كما تدل عليه في واقعها، لا في تاريخها البعيد. وقد يكون هذا المدلول حديثاً في عمر الكلمة، ونتاجاً لغوياً لمذهب جديد أو حضارة ناشئة، ولأجل ذلك يجب عند تحديد معنى النص الانتباه الشديد إلى عدم الاندماج في إطار لغوي حادث، لم يعش مع النص منذ ولادته.
وقد يتفق أن تساهم عملية الإشراط الاجتماعي للملكية في تضليل الممارس للنص عن الفهم الصحيح. فالكلمة حتى إذا كانت محتفظة بمعناها الأصيل على مر الزمن، قد تصبح خلال ملابسات اجتماعية معينة بين مدلولها فكر خاص أو سلوك معين مشروطةً بذلك الفكر أو السلوك، حتى ليطغى أحياناً مدلولها السيكولوجي على أساس عملية الإشراط التي ينتجها وضع اجتماعي معين على مدلولها اللغوي الأصيل، أو يندمج على أقل تقدير المعطى اللغوي للكلمة بالمعطى الشرطي النفسي، الذي هو في الحقيقة نتيجة وضع اجتماعي يعيشه الممارس، أكثر من كونه نتيجة للكلمة ذاتها.
ج ۔ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه: إن تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه هو عملية تمديد للدليل دون مبرر موضوعي. وهذه العملية كثيراً ما ترتكب في نوع خاص من الأدلة الشرعية وهو ما يطلق عليه فقهياً اسم (التقرير) ونظراً إلى أن هذا النوع من الأدلة له أثر كبير على عملية الاجتهاد في الأحكام والمفاهيم، التي تتصل بالمذهب الاقتصادي، فمن الضروري أن نبرز الخطر الذي يتهدد هذا الدليل نتيجة لتجريده عن ظروفه وشروطه.
ولنشرح أولاً معنى (التقرير): إن التقرير مظهر من مظاهر السنة الشريفة، ونعني به سكوت النبي(ص) أو الإمام عن عمل معين يقع على مرأى منه ومسمع، سكوتاً يكشف عن سماحه به وجوازه في الإسلام. والتقرير على قسمين:
لأنه تارة يكون تقريراً لعمل معين يقوم به فرد خاص، كما إذا شرب أحد الفقاع أمام النبي(ص)، فسكت عنه، فإن هذا السكوت يكشف عن جواز شربه في الإسلام.
وأخرى: يكون تقريراً لعمل عام، يتكرر صدوره من الناس في حياتهم الاعتيادية، كما إذا عرفنا من عادة الناس في عهد التشريع الإسلامي قيام الأفراد باستخراج الثروات المعدنية، وتملّكها بسبب استخراجها، فإن سكوت الشريعة عن هذه العادة وعدم معارضتها يعتبر تقريراً منها ودليلاً على سماح الإسلام للفرد باستخراج المادة الطبيعية وتملّكها. وهذا ما يطلق عليه في البحث الفقهي اسم (العرف العام) أو (السيرة العقلائية).
وعملية التجريد هذه تتخذ شكلين:
ففي بعض الأحيان يجد الممارس نفسه يعيش واقعاً عامراً بسلوك اقتصادي معين، ويحسّ بوضوح هذا السلوك وأصالته وعمقه، إلى درجة يتناسى العوامل التي ساعدت على إيجاده، والظروف الموقتة التي مهّدت له. فيخيل له أن هذا السلوك أصيل، وممتد في التاريخ إلى عصر التشريع، بينما هو وليد عوامل وظروف معينة حادثة، أو من الممكن أن يكون كذلك على أقل تقدير.
وأما الشكل الآخر من عملية التجريد في دليل التقرير فهو ما يتفق عندما ندرس سلوكاً معاصراً لعهد التشريع حقاً، ونستكشف سماح الإسلام به من سكوت الشريعة عنه. فإن الممارس في هذه الحالة قد يقع في خطأ التجريد، عندما يجرّد ذلك السلوك المعاصر لعهد التشريع عن خصائصه، ويعزله عن العوامل التي قد تكون دخيلة في السماح به، ويعمم القول: بأن هذا السلوك جائز وصحيح إسلامياً في كل حال. مع أن من الضروري لكي يكون الاستدلال بدليل التقرير موضوعياً أن ندخل في حسابنا كل حالة من المحتمل تأثيرها في موقف الإسلام من ذلك السلوك، فحين تتغير بعض تلك الحالات والظروف يصبح الاستدلال بدليل التقرير عقيماً.
د ۔ اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص: ونقصد باتخاذ موقف معين تجاه النص: الاتجاه النفسي للباحث، فإن للاتجاه أثره الكبير على عملية فهم النصوص. ولكي تتضح فكرة الموقف، نفترض شخصين يمارسان دراسة النصوص، يتجه أحدهما نفسياً إلى اكتشاف الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة من أحكام الإسلام ومفاهيمه، بينما ينجذب الآخر لاتجاه نفسي نحو الأحكام التي تتصل بالسلوك الخاص للأفراد. فإن هذين الشخصين بالرغم من أنهما يباشران نصوصاً واحدة، سوف يختلفان في المكاسب التي يخرجان بها من دراستهما لتلك النصوص، فيحصل كل منهما على مكاسب أكبر فيما يتصل باتجاهه النفسي وموقفه الخاص، وقد تنطمس أمام عينيه معالم الجانب الإسلامي الذي لم يتجه إليه نفسياً.
وهذا الموقف النفسي الذي تفرضه ذاتية الممارس لا موضوعية البحث، لا يقتصر تأثيره على إخفاء بعض معالم التشريع، بل قد يؤدي أحياناً إلى التضليل في فهم النص التشريعي، والخطأ في استنباط الحكم الشرعي منه، وذلك حينما يريد الممارس أن يفرض على النص موقفه الذاتي الذي اتخذه بصورة مسبقة، فلا يوفق حينئذ إلى تفسيره بشكل موضوعي صحيح.
- ونحن نضيف هنا ملاحظة أخرى، وهي أنه عند تجميع الأحكام والنصوص ينبغي أن لا نهمل الأحكام والنصوص الدالة على الآداب والسنن مستحبة كانت أو مكروهة؛ فإن ذلك قد يكون مؤثراً جداً في البعد التطبيقي والتنفيذي.
- كما ونؤكد على أنه لا فرق في تطبيق هذا المنهج سواء كان على صعيد اكتشاف المذهب والبنى التحتية أم على صعيد اكتشاف النظرية الفوقية ذاتها، فإن الممارس في كلا الصعيدين يحاول اكتشاف النظرية العامة؛ إذ قد يتكون التشريع من عدة طوابق يُبنى بعضها على بعض.
- ضرورة الانفتاح على الواقع، بمعنى معرفة حجم وأبعاد الحاجة البشرية في المجال الذي يراد استنباط نظرية عامة فيه، بل لابد من الاطلاع والإلمام إلى حد ما بالحلول البشرية المقدمة.
فلو أردنا أن نكتشف النظرية الاقتصادية في الإسلام لابد من الرجوع إلى الواقع لنرى منشأ المشكلة الاقتصادية ما هو، وكيف فهمت المدارس الاقتصادية الأخرى تلك المشكلة؟ فالرأسمالية تعتقد أن المشكلة الاقتصادية الأساسية هي قلة الموارد الطبيعية نسبياً، نظراً إلى أن الطبيعة محدودة، فلا يمكن أن يزاد في كمية الأرض التي يعيش عليها الإنسان، ولا في كمية الثروات الطبيعية المتنوعة المخبوءة فيها، مع أن الحاجات الحياتية للإنسان تنمو باطراد، وفقاً لتقدم المدنية وازدهارها، الأمر الذي يجعل الطبيعة عاجزة عن تلبية جميع تلك الحاجات بالنسبة إلى الأفراد كافة، فيؤدي ذلك إلى التزاحم بين الأفراد على إشباع حاجاتهم، وتنشأ عن ذلك المشكلة الاقتصادية.
فالمشكلة الاقتصادية في رأي الرأسمالية هي أن الموارد الطبيعية للثروة لا تستطيع أن تواكب المدنية، وتضمن إشباع جميع ما يستجد خلال التطور المدني من حاجات ورغبات.
والماركسية ترى أن المشكلة الاقتصادية دائماً هي مشكلة التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع، فمتى تم الوفاق بين ذلك الشكل وهذه العلاقات ساد الاستقرار في الحياة الاقتصادية مهما كانت نوعية النظام الاجتماعي الناتج عن التوفيق بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع.
والسؤال المطروح هو هل إن المشكلة بنظر الإسلام هي قلة الموارد الطبيعية؟ أم إن المشكلة نابعة من التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع؟ أو شيء آخر لا هذا ولا ذاك؟[20]
فلابد من تحديد المشكلة في مرحلة سابقة قبل التفكير في حلها. وهكذا الحال عندما نريد بحث النظرية السياسية في الحكم، فهل إن المشكلة نابعة من إعطاء الفرد دوراً أساسياً وكونه هو الأصل وإلغاء دور المجتمع؟ أم أن المشكلة نابعة من إعطاء الدور الأساسي للمجتمع وإلغاء دور الفرد وكون المجتمع هو الأصل؟ أم أن المشكلة بنظر نابعة من أمر آخر غيرهما؟
إذن فتشخيص ماهية المشكلة والقضية التي يراد بحثها يجب أن يكون أولاً على أساس الواقع، لا على أساس التحليل الذهني المجرد.
هذا من جانب، ومن جانب آخر ضرورة الوقوف على التجارب التي عاشتها البشرية، لمعرفة النتائج التي انتهت إليها والأسباب التي أدت إليها، قال تعالى: <قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا في اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ>؛[21] فقد أكدت هذه الآية على ضرورة التتبع لأحداث التاريخ من أجل استكشاف ما تنطوي عليه من أسباب ومنعطفات، ومن ثم الاعتبار بذلك. ولا داعي لحصر الاعتبار في حدود الانعكاسات الأخلاقية أو العقيدية فحسب ۔ كما هو المتعارف ۔ حيث يقال عادة بأن الإنسان والأمم التي كذّبت الأنبياء ورسالاتهم انتهوا نهاية تعسة ولم تبق لهم باقية، بل إن دائرة الاعتبار من أحداث التاريخ أوسع من ذلك، بحيث يشمل عملية تحليل الحضارات السابقة، وما مر على الأمم الماضية من ظروف، لكي نوظّف هذا الوعي في عملية اكتشاف خط السير الصحيح وتشخيص جهة الحركة فعلاً ومستقبلاً.
القيمة الأصولية لفقه النظرية
إن كل ما ذكر عن معطيات فقه النظرية هو جيّد ونافع، وربما تكون آثارها أوسع من ذلك، ولكن هذا كله لا يقتضي أن نسترسل مع الإيقاع الخلّاب لشعارات فقه النظرية ما لم يتضح لنا التبرير الشرعي لهذا النمط من الطرح وما ينطلق منه من أساس، فلابد إذن من تثبيت المباني أصولياً أولاً ثم البدء بتشييد معالم فقه النظرية في مجال معين. ويتحتم علينا البحث عن مدى إمكان إثبات حجية هذه الأطروحة والسعي الجاد لفذلكة التخريج الفني لها.
إن أمامنا طريقين لبيان القيمة الشرعية لهذا السنخ من الاستنتاج والاستنباط، وتختلف النتيجة المترتبة على كل واحد من الطريقين سعة وضيقاً:
الطريق الأول: محاولة تحصيل الأدلة الشرعية المتعارفة في أية عملية استنباط فقهية، فمن المعلوم أن الاستدلال الفقهي على نوعين:
النوع الأول: الاستناد إلى دليل لبّي. وتقريبه بأننا من خلال التأمل في حيثيات الأدلة الشرعية وتقليبها ظهراً لبطن، والنظر إليها من زاوية الواقع الخارجي والتطبيقي للشريعة كنظام عام وبلحاظ اتجاهاتها العامة يمكننا انتزاع نكات تشكّل مفاصل لبنود النظرية، خصوصاً إذا أدركنا أن الشريعة مهما تكثرت أحكامها فهي مترابطة فيما بينها، بل قد تتداخل وتشترك جميعاً في تحقيق أهداف كلية وأغراض عامة مقصودة للمولى(عز).
وهذه النكات المتصيدة من الأدلة ربما تكون احتمالية أو ظنية بدواً، إلا أن تجميع القرائن سواء أكانت لفظية أم غيرها متصلة أم منفصلة، وتحكيم الارتكازات العقلائية والمتشرعية في هذا الإطار، يقود إلى تصعيد القيمة الاحتمالية إلى درجة اليقين أو إلى مستوى الاطمئنان على الأقل، سيما إذا صاحب ذلك استبعاد وتضعيف للفرضيات والاحتمالات المخالفة. وكم لهذه المنهجية في الفقه من نظائر، وكم لهذا الدليل من أشباه، وما هو بعزيز؛ إذ أن الفقيه كثيراً ما يسلك الطريق نفسه في تحصيل القطع بأن هذا الحكم أو ذاك مما لا يرضى بتفويته الشارع، فيفتي من هذا المنطلق جازماً دون أي تردد بضرورة التصدي لتنفيذه وحتمية تحقيقه خارجاً. وكـذا القناعة بكون هذا الحكم أهم من ذاك فيقدّم عليه في الامتثال، أو الجزم بإلغاء الخصوصية في موضوع لتعدية الحكم منه إلى آخر، بل إننا لو كشفنا النقاب عن أغلب الارتكازات المتشرعية والتي كثيراً ما يلجأ إليها المجتهد في تبرير بعض استنباطاته لوجدنا أنها نشأت من تراكم الاحتمالات وعلوقها في صفحة اللاشعور تدريجاً حتى تنقلب قضية يقينية مسلّمة لا يعتريها أي شك.
وحركة العقل هنا وهناك واحدة؛ فإنها تتم طبقاً لقوانين الاستقراء وقواعده، سواء كانت هذه الحركة متعمدة أو دون التفات. وكذا ما نحن فيه؛ فإنه عبارة عن محاولة تبيين وتجلية نكات لازمة غير بيّنة، نظير ما يسمّى في اصطلاح علماء القرآن بعملية التأويل للمتن القرآني، فالتأويل في حقيقته استنباط لنكات غير ظاهرة من اللفظ نقطع بكونها مرادة في الخطاب وإن صعب استفادتها مباشرة، والتأويل ممارسة علمية ومنطقية وليست كما يتصور البعض رجماً بالغيب. كذلك الغوص في الأدلة الشرعية لاكتشاف الملاكات الكبروية واستنباط نظرية عامة في أحد الأصعدة عبر تقصّي الموارد الجزئية من خلال تتبّع الأحكام الفرعية وأدلتها الموضعية، بل إن بعض هذه النكات التي نصل إليها بعد لَأْيٍ لعلها كانت مرتكزة في أذهان الرساليين في العصر الأول، إلا أنه قد عفا عليها الزمن على أثر غياب الحالة التطبيقية وبعد أفول المعايشة اليومية للشريعة كنظام عام يملأ كل مشاعر الإنسان وأحاسيسه.
النوع الثاني: الاستناد إلى الدليل اللفظي؛ فإنه لا خلاف بينهم ولا إشكال عندهم في كبرى حجية ظهور الخطابات الشرعية في الجملة، وأن المعاني المستكشفة من ظاهر الأدلة اللفظية هي مقصودة للشارع المقدس وإن وقع بحث صغروي أثارته طائفة في خصوص ظهورات الكتاب العزيز لشبهة تصدّى الأصوليون لردها.
والظهور على نوعين: ظهور مقطعي وهو المتعارف بحثه في علم أصول الفقه مفصلاً. والثاني هو الظهور المجموعي.
بيان ذلك: أن المتكلم الملتفت يبيّن مراده الجدي عادة ضمن عبارة أو عبارتين مع الاتصال أو ما هو بحكمه، لكن ربما يتعذر عليه ذلك لسبب من الأسباب، فيلجأ إلى الكشف عن تمام مراده من خلال مجموع بيانات يقولها في مناسبات عديدة وفي أوقات مختلفة قد تكون طويلة نسبياً، ففي كل فرصة يبيّن بعضاً مما يريد ويكشف عن شيء من مقصوده، حتى إذا أكمل كلماته كلها تجلّى للمخاطب المعنى المكنون في نفسه على التمام. كما هو الحال بالنسبة إلى الأستاذ الذي يريد تدريس النظرية النسبية لتلاميذه الناشئين؛ فإنه لا يستطيع إيصال فكرته بدقة دفعة واحدة، بل يضطر إلى استدراج أذهان التلاميذ شيئاً فشيئاً بعد التمهيد وطي بعض المقدمات، فإذا قضى معهم وطراً تهيأت عقولهم لإدراك النظرية بصورة تامة، فهنا اعتمد الأستاذ لأجل بيان تمام مراده على مجموعة من البيانات.
وهذا طريق عقلائي قد يسلكه المتكلم لأسباب معينة مرتبطة به أو بالمخاطب أو بالخطاب ذاته، ولا يستبعد من الشارع أن يتخذ هذا السبيل لوجود مبررات كثيرة؛ فإنه لا يخفى على أحد عمق النظريات ودقة المفاهيم ومتانة المباني الفقهية التي لم تكن تتناسب والعقلية الساذجة للمخاطبين آنذاك. وهذا ما يدعو إلى اعتماد سبيل البيانات التدريجية التي تلحظ بلحاظين: اللحاظ الاستقلالي واللحاظ الارتباطي، لكن يكون من جهتين مختلفتين.
وبعبارة أخرى: إن للفظ عدة دلالات، الدلالة التصورية الوضعية، والدلالة التصديقية الاستعمالية، والدلالة التصديقية الجدية، ثم قد تنعقد في طول الدلالات الثلاث دلالة رابعة وهي دلالة تصديقية أيضاً، ولكن لمجموع الخطابات لا لكل واحد منها تكون كاشفة عن المراد الغائي بالرغم من انحفاظ تلك الدلالات المتقدمة كل في رتبتها، ويشهد لذلك بل يدل عليه ما ورد من كون خطابات الشرع كتاباً وسنة متحدة ويفسّر بعضها بعضاً.
وتجدر الإشارة إلى أن تحصيل الظهور المجموعي وحشد رعيل كبير من الأدلة اللفظية ليس بالمتيسر في كثير من الأحيان؛ لذا فإن إمكانية الاستناد إلى الوجه الأول أقرب إلى واقع الأدلة الشرعية المتوفرة لدينا.
وهنا نودّ الإشارة إلى ما وقع فيه بعض الكتّاب من جعله (فقه النظرية) في قبال (فقه النص) وكأنه توهّم أن عملية استنباط النظرية العامة هي عملية تحرّر من قيود النص والأدلة النقلية اللفظية، ومحاولة لإلغاء المنهجية الفقهية التقليدية. بل الصحيح أن هذا النحو من الاستنباط بالإمكان أن يعتمد على الأدلة اللفظية التي ترتبط بموضوع البحث، بل لا يسوغ إغفالها في حالة وجودها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أن فقه النظرية يقع في طول فقه الأحكام الفرعية، ومن الواضح أن الأحكام الفرعية غالباً ما تستند إلى النص، وبالتالي فإن فقه النظرية يستند إلى النص، لكن تارة بصورة مباشرة وأخرى مع الواسطة.
وبعبارة أخرى: أن فقه النظرية هو عملية الاستفادة من النص وتفعيله إلى أقصى ما يمكن من آفاق في عالم الدلالة.
الطريق الثاني: هو أن يقال بأنه لا داعي للإصرار على ضرورة تحصيل الحجية لفقه النظرية من خلال الأدلة الشرعية التقليدية، بل يمكن التوصل إلى نتائجها التطبيقية من خلال أدلة الولاية العامة؛ فإنها تدل على أنه من حق الولي الفقيه الجامع للشرائط أن ينتخب أي طريق يراه منسجماً مع الشريعة في مجال إعمال ولايته وإدارته للمجتمع والدولة. ولا شك بأن هذا الطريق إن لم يكن مقطوعاً أو مطمئناً بنسبته إلى الشارع فلا أقل من كونه مظنوناً بنسبته ظناً قوياً، فإن اكتشاف النظرية لا يقوم على أساس الاحتمال الضعيف، فإن مثل ذلك لا يُعتنى به علمياً ومنطقياً؛ إذ لا يمكن ادّعاء نظرية عامة على مثل هذا الأساس الهشّ.
ومن هنا يمكن القول بأن النظرية العامة إن لم يكن أقوى احتمالاً من سائر الاجتهادات الفقهية الفردية فليس بأقل.
يقول الشهيد الصدر(قده):
وأقل ما يقال في تلك المجموعة: إنها صورة من الممكن أن تكون صادقة كل الصدق في تصوير واقع التشريع الإسلامي، وليس إمكان صدقها أبعد من إمكان صدق أي صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يزخر بها الصعيد الفقهي الاجتهادي. وهي بعد ذلك تحمل مسوّغاتها الشرعية؛ لأنها تعبّر عن اجتهادات إسلامية مشروعة تدور كلها في فلك الكتاب والسنة، ولأجل ذلك يصبح بالإمكان للمجتمع الإسلامي أن يختارها في مجال التطبيق من بين الصور الاجتهادية الكثيرة للشريعة التي يجب عليه أن يختار واحدة منها.[22]
بل في بعض الموارد التي نفتقد فيها إلى الموقف الشرعي الواضح قد يتعين الأخذ بالنظرية العامة، بناء على تمامية مقدمات الانسداد.
وليعلم أن هذه الموارد كثيرة جداً ومحل ابتلاء الولي الفقيه، فهو عند ممارسته لولايته في ملء منطقة الفراغ قد يستعين بكل ما له كاشفية عن حكم الله.
ولا ينبغي الاستيحاش كثيراً من العمل طبقاً لفتوى أخرى مخالفة لفتوى المجتهد نفسه، فقد ذكروا إمكانية ذلك بالنسبة للقاضي إذا احتكم إليه متخاصمان مقلدان لمن فتواه يخالف فتوى هذا القاضي، فإنه يحكم طبقاً لفتوى مجتهدهما، بل ربما يُظهر بعض الفقهاء تعين ذلك عليه.
ومن هنا حاول بعض المحققين أن يحل ما يذكر من إشكال حول مشروعية حكم القاضي طبقاً للقوانين القضائية للدولة الإسلامية وإن خالفت نظره وفتواه، ولا يكون ذلك حكماً بغير ما أنزل الله؛ لأن اجتهاد المجتهد الآخر صحيح حتى عند المجتهد المخالف نظره معه، وحجيته ثابتة عند مقلديه حتى في نظر المجتهد الآخر.[23]
الفرق بين الطريقين
إن سلوك أي من الطريقين يختلف من حيث النتائج سعة وضيقاً كالتالي:
بناء على اعتماد الطريق الأول، فإنه يمكن ترتيب كل الثمرات المذكورة آنفاً، أما بناء على سلوك الطريق الثاني فلا يمكن ترتيب جملة من الثمرات، من قبيل الإفتاء في مسألة فرعية بالاستناد إلى نظرية عامة، فإنه في مثل هذه الحالة يرجع إلى الأدلة الخاصة مُحرزة أو غير محرزة، وإلا إلى الأصول العملية، فلا أثر للنظرية العامة في مثل هذا الفرض.
بناء على الطريق الثاني يمكن الإفادة من الاجتهادات الفقهية المتنوعة، بخلاف الأول، فهو يعبّر عن اجتهاد فقيه واحد على فرض إمكانه.
نوع الأدلة المستخدمة
إن عملية استنباط النظرية العامة وعملية استنباط الحكم الشرعي الخاص يشتركان في بعض الأدلة ويختلفان في أخرى، وهذا الاختلاف نابع من الطبيعة والهدف من كل من العمليتين؛ فإن الممارس لفقه النظرية إنما يحاول اكتشاف النظرية الإسلامية فهو مكتشف، فلا تسعفه في مهمته هذه غير الأدلة الكاشفة كالأدلة القطعية والأمارات، أما الأصول العملية محرزة كانت أو غير محرزة فباعتبار افتقارها للكاشفية فلا تسمن ولا تغني من جوع، بخلاف الممارس لفقه الأحكام الخاصة فإنه يريد تحديد الموقف للمكلف بأية وسيلة كانت ولو من خلال الأصل العملي.
مناقشـات
إتماماً للبحث حاولنا الإشارة إلى بعض الإيرادات التي قد تورد على فقه النظرية والتصدي للإجابة عليها. وننبّه على أننا لم نذكر الإشكالات الواردة على بعض الاستنتاجات أو الاستفادات التي ذكرها السيد الشهيد(قده) في محاولته لاكتشاف النظرية الاقتصادية في الإسلام؛ لكونها إيرادات صغروية، لا ترد على أصل المنهج؛ فلذا لم نتعرض لها، واقتصرنا على ذكر الإشكالات الكبروية المطروحة على أصل هذا النحو من المنهجية، وهي:
المناقشة الأولى: ربما يظن أحد أن فقه النظرية لا ربط له بالفقه بالمعنى المتداول ولا علاقة له بالاجتهاد المعروف في الأوساط العلمية. وليس بين الأمرين إلا مجرد التشابه الاسمي، فبإمكان أي مفكّر وإن لم يكن فقيهاً أن يخلص إلى فرضية واحدة تفسّر طائفة من الأحكام الفرعية. ولا حاجة إلى إعمال قواعد الاستنباط كتطبيق الأصول اللفظية أو إجراء الأصول العملية أو إعمال ضوابط التزاحم بين الأحكام أو الاستفادة من قوانين التعارض بين الأدلة، فكل من يتمتع بذهنية عصرية ومرونة عقلية وذوق منهجي يتسنى له التصدي لهذا النمط من البحث، ويتمكن من استنباط نظرية عامة في مجال معين، فلا خصوصية للفقيه هنا ما دام دوره دور التنظير الصرف، بل ممارسة الفقيه لفقه النظرية يعدّ متعبة له ومشغلة عن وظيفته الأصلية، وربما يدّعى أن غيره قد يكون أقدر على ذلك وقد يتحمس لهذه المناقشة رعيل من الكتّاب والمفكرين الذين مارسوا بشكل صريح أو غير صريح استنباط النظريات العامة في دراساتهم وقاموا بمحاولات بهذا الصدد.
المناقشة الثانية: قد يستبعد البعض فقه النظرية من دائرة البحث العلمي بذريعة أن طريقة البحث تفتقد الضابطة التي يتم على ضوئها حركة العقل من المعلوم إلى المجهول، فلا يدرى كيف يتم انتخاب وانتقاء الفرضية ابتداءً دون سائر الفرضيات؟! ولماذا تُغفل الفرضيات الأخرى طرّاً حتى يخلو الجوّ للنظرية المحظوظة وحدها لا شريك لها؟! وما هو الضمان لعدم التحيز المقصود أو غير المقصود من قِبل الباحث. ومن أين لنا أن نحرز الموضوعية في بحثه؟!
المناقشة الثالثة: ربما ينطلق بعض الاستصحابيين في رفضه وعدم قبوله هذا المنهج من شبهة الحداثة، وتوهّم عدم الأصالة، وكونه منهجاً دخيلاً؛ إذ من يتخذ هذا السبيل لا ضمان لصحة ما ينتهي إليه من النتائج، فهو لا ينجو من الوقوع في أحد محذورين خطيرين:
إما محذور المخالفة الدينية وتقليد الأفكار المستوردة، ومحاكاة ما ابتدعه الوضعيّون من قوانين ونظريات لتنظيم الحياة، انطلاقاً من توجهاتهم المادية وتصوراتهم الخاصة، وإلا فلا عين ولا أثر لذلك فيما بين أيدينا من كتب ومصنفات علماء الإسلام رضوان الله عليهم.
أو محذور المخالفة المذهبية والتخلي عن بعض المباني المسلّمة عندنا وانتحال مباني المدارس الفقهية الأخرى كمدرسة الرأي والقياس والاستحسان، وهل هذا إلا قضاء على أصول المذهب وقواعده؟!
هذا، وقد تحامل بعض من كتب متهجماً، فقدّم تقييماً لكتاب (اقتصادنا) وما تضمنه من أطروحة جديدة، وقد خالف فيه الإنصاف والمنطق قائلاً: (فليس هنا جديد، لا في العرض ولا في الاكتشاف ولا في البناء حسب تعبيره، والكتاب بهذه الطريقة ينزع العقل المسلم من جذوره، ويسلمه إلى متاهات لا ضابط لها..).[24]
المناقشة الرابعة: لماذا اقتصر المعصومون على إعطاء الأحكام بهذا الشكل المقطّع والمتراكم، ولو كانت ثمة حاجة إلى ذلك لبيّنوها لنا؟ فنحن نجد النبي(ص) رغم أنه أسّس دولة لم يكن يبيّن الإسلام النظري على شكل نظريات عامة.
المناقشة الخامسة: أن استنباط الخط النظري يعني الوصول إلى اللازم العام عرفاً أو عقلاً لهذه الأحكام. ومن المعلوم أن بعض تلك الأحكام قد تم التوصل إليها من خلال تطبيق الأصول العملية [= الدليل الفقاهتي] من قبيل: (الاستصحاب، التخيير، الاحتياط، البراءة) بعد فقدان الدليل الاجتهادي عليها.
ومن المسلّم به أن لوازم الأصول ليست بحجة، بل حتى لو افترضنا أن تلك الأحكام الكاشفة قد استنبطت كلها من الأمارات التي تعدّ لوازمها حجة فإن هناك شكاً حقيقياً في كون لازم الجمع بين الحكمين من الأمور المعترف بحجيتها في التصور العرفي الممضى من قبل الشارع، وتكون النتيجة هي الشك في حجية اللازم، وهو هنا هذا الخط المذهبي المستنبط، والشك في الحجية كافٍ للقطع بعدمها، كما هو تعبير الأصوليين أيضاً، فكيف الخلاص؟[25]
المناقشة السادسة: أن استنباط النظرية العامة لا ينتج الحجية القطعية، بيان ذلك:
إن عملية الاستنباط هذه تنحلّ إلى تطبيقين للاجتهاد:
التطبيق الأول: ويتم في مجال استنباط الأحكام الفرعية من مظانّها الأصلية (الكتاب والسنة)، وعلى أساس من علم أصول الفقه، وهو اجتهاد مشروع لا غبار عليه يؤدّي إلى حجية النتيجة المستنبطة حتى مع احتمال مخالفتها للواقع الإسلامي؛ وذلك بعد حصول الظن المعتبر المنتج للحجية، والتي تؤدي للمعذرية عند مخالفة النتيجة للواقع الشرعي تماماً كما تعني التنجيز للأحكام على المكلف.
التطبيق الثاني: ويتم في مجال استنباط الخطوط النظرية من الأحكام والمفاهيم، وهنا يكمن الإشكال في عملية الاجتهاد هذه، فيقال: إنها لا تنتج الحجية القطعية؛ لأن بعض هذه الأحكام الكاشفة قد لا يقبلها هذا المجتهد نفسه، وإنما اختارها من مجتهدين آخرين؛ لكونها أكثر انسجاماً مع باقي الأحكام التي أريد أن تعبّر عن خط نظري عام.[26]
ردود
وفي مواجهة هذه التشكيكات وغيرها يتحتم علينا التزام الموضوعية التامة، وأن نعدّ كامل العدة للإجابة المقنعة لوجداننا قبل الآخرين:
- لا يخفى أن مهمة استنباط النظريات العامة عملية علمية وفنية تفتقر إلى التخصص الفقهي بأرقى درجاته، ولا يكفي في صلاحية الباحث في هذا الصعيد الاطلاع الإجمالي والعام على الفقه، بل لا محيص من تحلّيه بالاستعداد التام وتوفره على معدات تؤهّله للورود في البحث؛ لذا فإن الفقه ومؤسساته لا يتحمل مسؤولية المحاولات التي صدرت من بعض المفكرين الإسلاميين الذين يتمتعون بثقافة فقهية عامة لا تصل إلى مستوى التخصص والخبروية؛ وذلك لأن مهمة اكتشاف النظرية العامة في ميدان معين يتوقف بالضرورة على توفر مجموعة عناصر في الباحث، أحدها: الإحاطة الكاملة فعلاً لا قوة بشتى الأحكام الفرعية والهيمنة على قواعد الشريعة وأساسياتها، ولا يلقّاها إلا من سبر غور الأدلة على تنوعها، وأشرب في قلبه الفقه وذاق عسيلته، واطّلع على معاريض الكلام، سيّما إذا لاحظنا أن الفقيه في مثل هذه الأبحاث ينهض بأعباء مسؤولية التأسيس ويعالجها فرداً، يجرّب فيها مهارته بكل ما أوتي من قوة ملتقطاً الأدلة من هنا وهناك.
وبعبارة أخرى أن الفقيه في أثناء بحثه عن النظرية العامة يواجه مركّباً معقّداً يتألف من عدة عمليات استنباط طولية وعرضية:
فعليه أولاً: أن يجتاز مهمة استنباط الأدلة وتحديد مظانّها وجمعها.
وثانياً: استنباط ذات النظرية من تلك الأدلة وبمرّ الصناعة.
وثالثاً: محاكمة النظرية على ضوء الأهداف الكبرى والاطمئنان من مدى انسجام النظرية المكتشفة مع الاتجاهات العامة للشريعة والتأكد الكامل من عدم ابتلائها بالمعارض الفوقاني، والذي يعبّر عنه في كلمات فقهائنا بمذاق الشارع الذي يتطلب إدراكه شامة فقهية خاصة.
ورابعاً: تقويم النظرية ومحاكمتها من خلال الواقع العملي، لا بمعنى الاستسلام، بل بمعنى الإفادة من التجارب السابقة والمعاشة من أجل التكميل والإحكام، والتثبت من عدم وجود فراغ أو خلل أو أية نقطة ضعف في البين، والتأكد من إمكانية إجرائها وعدم شذوذها.
وواضح أن كل واحدة من هذه العمليات لها مشكلاتها وصعوباتها. فإذن الخوض في دراسة واستنباط النظريات العامة وظيفة شاقّة في غاية الصعوبة، وهو في حقيقته وواقعه استنباط مركّب لا بسيط.
من هنا يمكن القول بأننا حتى لو سلمنا صلاحية الفقيه المتجزي ۔كما يرى البعض۔ للإفتاء ببعض الفروع أو للقضاء في الخصومات بأي معنى فسّرنا التجزي، فلا يمكن التسليم بصلاحيته هنا وقابليته على اكتشاف النظرية العامة. ولا يمكن قياس المقام عليه.
أضف إلى ذلك أن اكتشاف النظرية يتوقف على عناصر أخرى أيضاً، من قبيل المعرفة القانونية الواسعة والاطلاع على الفقه الوضعي والنظريات الحقوقية الحديثة ومبانيها، ويتطلب إشرافاً كافياً على المجال الذي يريد استنباط النظرية فيه كالاقتصاد أو السياسة أو الإدارة وغير ذلك، وكذلك ضرورة تحلّي المستنبط بذهنية مرنة قادرة على الابتكار بحيث لا تعوق حركتها مخلّفات ما مضى، ولا يدفعها تطلّعها للمستقبل إلى العجلة وارتجال الرأي.
ومن الواضح أن هذه الخصال كلها لا تجتمع إلا في الأوحدي من الفقهاء وما أدري كيف يبرّر ممارسة ذلك من قِبل غير المتخصص ومن لم يكن واجداً للشرائط التي يندر اجتماعها في فرد، وهل يكون مثَله في ذلك إلا كحاطب ليل أو زارع في غير أرضه؟ ولعل إثمه أكبر من نفعه وإن كان ذلك منه عن حسن نية وقصد القربة.
- وأما دعوى عدم أصالة هذا المنهج فيدفعها أن المعيار في الحكم على أمر بكونه أصيلاً أو لا هو صحة الإسناد والنسبة إلى الشريعة، فبعد قيام الدليل المحكم على قضية من القضايا يصح وصفها بالأصالة وكونها منتمية إلى الشريعة، ولا عيب في إسنادها وإضافتها للدين الحنيف، فليست الأصالة مساوقة للقدم، ولا الحداثة تساوق الابتداع، فكم من بدعة قديمة عاشت بين الناس دهوراً، وكم من فكرة حقة التفت إليها المتأخرون، وكم ترك الأول للآخر؟
فإننا لو رجعنا إلى الشريعة واستنطقناها وأمكننا تحصيل بعض الخيوط لنسيج نظرية مستقاة من معين الأدلة الشرعية فأية غضاضة في ذلك؟! وهل إن التصدي لاكتشاف عناصر القوة في الفقه المعطاء يعدّ أمراً مستهجناً؟! وهل هذا إلا رجوع إلى تلك المقولة المشؤومة الداعية إلى غلق باب الاجتهاد بمغاليق التحجر وأقفال الذيلية غير المشروعة؟! وتعطيل العقل ومنعه عن الكدح لتحصيل اليقين بفراغ الذمة أمام البارئ(عز) والخروج من عهدة التكاليف الشرعية والفوز بمرتبة الامتثال والطاعة.
صحيح أن الأفكار الوافدة من الغرب كان لها دور ملحوظ في إثارة البحث والتساؤل عن النظريات العامة في الإسلام، مما فتح باب التفكير في ذلك على مصراعيه، فكانت حيثية تعليلية لهذا النمط من البحث العلمي في داخل الإطار الإسلامي، وهذا غير دعوى عدم أصالة هذا المنهج وكون فقه النظريات قالب دخيل ومستورد.
أجل، إنه مجال خطير يمكن أن تزلّ فيه الأقدام فلا يسوغ لكل أحد إعطاء الرأي كما تقدمت الإشارة إلى ذلك مفصلاً، بل لابد للباحث من التوفر على ما يعصمه من الانزلاق، فعليه الاحتياط التام كما يحتاط في الفتيا في الفروع الجزئية، بل إن الأمر هنا أخطر وأهم.
ونذكّر بأنه قد تبنّى هذا المسلك وبشّر به بعض كبار فقهائنا الأعلام ممن كان في قمة التخصص الفقهي، ألا وهو آية الله السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قده)، فهي مشروع وأطروحة نابعة من صميم المؤسسة الفقهية ولم يعرض عليها من خارجها.
- وأما عدم بيان النبي(ص) والأئمة من بعده للنظرية العامة فقد أجاب عنه السيد الشهيد(قده) بالنفي، قال:
إذ أن النبي(ص) كان يعطي هذه النظريات، ولكن من خلال التطبيق ومن خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبنيه في الحياة الإسلامية، فكان كل فرد مسلم في إطار هذا المناخ يفهم هذه النظرية ولو فهماً إجمالياً ارتكازياً؛ لأن المناخ والإطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي الذي وضعه النبي(ص) كان قادراً على أن يعطي النظرة السليمة، والقدرة السليمة على تقويم المواقف والمواقع والأحداث.[27]
ثم قال:
إذن، الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول(ص) إذا كانوا لم يتلقوا النظريات بصيغ عامة فقد تلقّوها تلقياً إجمالياً ارتكازياً، انتقشت في أذهانهم وسرت في أفكارهم.[28]
4 و5. وأما الإشكالان الأخيران فيظهر جوابهما من خلال مراجعة ما ذكرناه من محاولة لإثبات حجية النظرية العامة المستنبطة.
تطبيقات لهذا المنهج
لقد طبّق السيد الشهيد(قده) هذا المنهج في سبيل اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام، وقد عقد لذلك بحثاً موسّعاً في كتابه (اقتصادنا) وانتهى إلى اكتشاف نظرية عامة محكمة في المجال الاقتصادي.
كما نرى شبح هذا المنهج في بيانه لمعالم السياسة المصرفية منطلقاً في هذا المجال من التركيب بين حقائق أو قضايا مستمدة من المذهب الاقتصادي ومستوحاة من الروح العامة للتشريع الإسلامي، قال(قده):
وهذه القضايا هي كما يأتي:
أ۔ إن الفائدة محرمة؛ لأنها في حقيقتها نوع من الأجر يتقاضاه الرأسمالي على انتفاع المقترض بماله، والنظرية الإسلامية للأجور تربط شرعية الأجر بوصفه لقاء ما يتفتت من العمل المختزن في الشيء المستأجر خلال الانتفاع به، ورأس المال النقدي لا يتفتت شيء من العمل المختزن فيه عند إعادته على صورة وفاء للقرض، فلا يوجد إذن مبرر للأجر من وجهة النظر الإسلامية.
ب ۔ إن الإسلام حرّم اكتناز الذهب والفضة وعدم إنفاقهما في سبيل الله تعالى، قال الله: <وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا في سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ> وليس الذهب والفضة إلا مثالين للنقد، والنقد هو الذي من شأنه أن ينفَق، فهذا يعني أن إكثار النقد محرّم، والاكتناز مفهوم مرن يتحدد وفقاً لدرجة إمكانات تحرك المال في الحياة الاقتصادية ومدى القدرة المتوفرة بصورة نوعية على توظيف المال واستثماره، فكلما كانت إمكانات التحرك أكبر والقدرة على التوظيف أوسع نطاقاً كان تجميد المال في فترة قصيرة نسبياً اكتنازاً، بينما إذا تضاءلت إمكانات التحرك وقدرات التوظيف وكانت الحياة الاقتصادية خاملة بدرجة وأخرى لم يصدق الاكتناز إلا على فترة زمنية أطول، وقد يكون هذا هو السبب في اعتبار ركود المال لدى صاحبه سنة كاملة شرطاً في ثبوت زكاة النقدين، على أساس أن الحياة الاقتصادية وقتئذ لم تكن توفّر شروطاً أفضل لتحرك المال، فلكي يكون تجميد النقد اكتنازاً لابد أن يظلّ المال راكداً في حوزة صاحبه سنة كاملة.
وتقوم الفكرة في حرمة الاكتناز على أساس النظرية الإسلامية عن النقد، فإن الإسلام يؤمن بأن التبادل في الأصل إنما هو تبادل الطيبات، أي تبادل سلعة بسلعة كما هي الحالة في عصر المقايضة قبل ظهور النقد؛ لأن هذا هو الأسلوب الوحيد الذي يكفل لكل منتج في المجتمع أن يبادل منتوجه بما يسدّ حاجته، ولم يكن ظهور النقد للقضاء على جوهر المقايضة، بل لتيسيرها، فبدلاً من المعاوضة بين الحنطة والقطن يبيع زارع الحنطة حنطته بنقد ويشتري بذلك النقد قطناً، فالمبادلة بين الحنطة والقطن ثابتة ولكن من خلال عمليتين.
وأما إذا حوّل النقد إلى أداة اكتناز وأصبح زارع الحنطة يبيع الحنطة بنقد ويدّخر النقد ولا يشتري به قطناً، فإن هذا يعني أن القطن أو بتعبير أعم أن جزءاً من المنتوج الكلي للمجتمع سوف يظلّ عاجزاً عن دخول السوق وإكمال دورته بالتحول إلى نقد لكي يستأنف الإنتاج من جديد، وبالمقابل يخلق الاكتناز للمكتنز قدرات جديدة للاستثمار وغزو السوق لم يكن بالإمكان أن تتواجد لو استمر تطبيق روح المقايضة بصورة أمينة.
ج ۔ إن مبدأ الزكاة في الإسلام يحتوي على فرض ضريبة على اكتناز النقد؛ لأنه يفرض نسبة معينة على المال المدّخر سنة من النقود الذهبية أو الفضية، وإذا لاحظنا ما ذكرناه سابقاً من أن تحديد السنة قد يرتبط بشروط الحياة الاقتصادية المعاصرة للتشريع، ولاحظنا ما أوضحناه في بحوثنا عن الاقتصاد الإسلامي من أن الزكاة كمبدأ قابل للتوسعة والتطبيق على مختلف الثروات وفقاً لما يراه ولي الأمر الشرعي، أمكننا أن ننتهي إلى فكرة إسلامية في جذرها وروحها العامة، وهي أن الاكتناز يمكن مقاومته عن طريق وضع ضريبة على النقد المكتنز، وتدخل هذه الفكرة في المؤشرات الإسلامية العامة التي تُملأ على أساسها منطقة الفراغ، ويضع ولي الأمر العناصر المتحركة في الاقتصاد الإسلامي في حدود صلاحياته، وعلى هذا الأساس يمكن لولي الأمر أن يضع وفقاً لصلاحيته الضريبة المذكورة.
وليس من الضروري أن تتخذ هذه الضريبة شكل الجباية، بل بالإمكان استحصالها بأشكال أخرى أحدث، كالطريقة التي تستحصل بها كثير من الضرائب أو الأجور الحكومية عن طريق الإلزام بإلصاق طابع مالي على العريضة أو الوثيقة ونحو ذلك، فيمكن استعمال نفس الطريقة بالنسبة إلى ضريبة الاكتناز.
د ۔ إن التربية الإسلامية للفرد في المجتمع الإسلامي على الإحسان والإيثار وخلق منطق للمعاوضة مختلفٍ عن منطق المعاوضة المالية والمادية _ وهي التجارة التي لا تبور في مصطلح القرآن الكريم _ والحث الفائق على مساعدة المستضعفين والإقراض للمحتاجين بروح الأخوة والمحبة وطلباً للثواب والمغفرة. إن ذلك كله يشكّل أرضية روحية ونفسية فريدة تنمو في مناخها الخاص دوافع الخير وتتوفر لدى كثير من الناس الرغبة في الإقراض من أجل الخير، وليس هذا فرضاً مثالياً في المجتمع الإسلامي، بل هو حقيقة وهناك مؤشرات عديدة على هذه الحقيقة، ومنها صناديق القرض الحسن التي نشأت قبل قيام المجتمع الإسلامي ونمت من خلال مشاعر الإحسان والإيثار التي جعلت عدداً كبيراً من الناس يتبرعون بجزء من أموالهم للإقراض بدون فائدة، فإذا كان هذا هو أثر التربية الإسلامية على فرد لم يعش في ظل مجتمع إسلامي فما ظنك بأثرها في إطار المجتمع الإسلامي المتكامل.
ثم قال(قده):
بعد أن حددنا في الفقرة السابقة المركّب النظري الذي يعتمده البنك في المجتمع الإسلامي أساساً لممارسة مهمته الموضوعية ودوره في الحياة الاقتصادية نستطيع أن نتعرف على الطريقة التي تمكّن البنك الإسلامي من تجميع الكميات المتفرقة من النقد بدون إغراء بالفائدة الربوية ولا استعمال للأساليب الرأسمالية؛ فإن البنك يعلن أنه حاضر لتلقّي أية كمية من النقود يرغب صاحبها في إيداعها لديه ويحدد شكلين لهذا التلقي..[29].
هذا، وتجدر الإشارة إلى أنه(قده) قد استفاد من بعض خصوصيات هذا المنهج وإن لم يكن بصدد اكتشاف نظرية عامة، وهو إمكانية انتخاب أي اجتهاد من بين الاجتهادات المشروعة؛ وذلك ما نراه في ورقة العمل التي قدّمها تحت عنوان لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الدولة الإسلامية في إيران، عندما اقترح إمكانية الاستفادة من جميع الاجتهادات لملء منطقة الفراغ في مختلف المجالات.
قال(قده):
إن أي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظلّ اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكولاً إلى السلطة التشريعية التي تمارسها الأمة على ضوء المصلحة العامة.[30]
والباب مفتوح على مصراعيه لاستقبال تطبيقات جديدة، سيما بعد أن مكّن الله عباده في الأرض وأخذوا يمارسون الحكم والسلطة، فنحن أحوج من أي وقت مضى لتقديم النظريات العامة في مختلف المجالات لإسناد الدولة الإسلامية، والذي يترقب منه المبادرة مدرسة الشهيد الصدر(قده) فهي مدعوّة قبل غيرها لمواصلة منهجية أستاذها ومؤسسها.
ومهما يكن من أمر فلكي يتضح منهج استنباط فقه النظرية العامة بصورة مفصلة وما تضمّنه من خطوات ينبغي تسليط الضوء على النموذج الفذّ الذي عرضه الشهيد الصدر(قده) في اكتشافه للنظرية الاقتصادية في الإسلام.
استنباط النظرية الاقتصادية في الإسلام[31]
إن الأطروحة التي قدّمها السيد الشهيد(قده) تتألف من عدة فصول، وسنقتصر على استعراض القسم الأول من النظرية بصورة مختصرة، وهي نظرية توزيع ما قبل الإنتاج.
نظرية توزيع ما قبل الإنتاج
وقد تقدم بيان أن اكتشاف النظرية يمرّ بمرحلتين:
المرحلة الأولى: تجميع الأحكام
لقد بدأ ببحث التوزيع بدلاً من الإنتاج؛ لأن توزيع مصادر الإنتاج يسبق عملية الإنتاج، وكل تنظيم يتصل بنفس عملية الإنتاج أو السلع المنتجة يصبح في الدرجة الثانية.
وحصر مصادر الإنتاج في الطبيعة، واستبعد من البحث عنصري العمل ورأس المال؛ باعتبار أن العمل عنصر معنوي وليس ثروة مادية، وأما رأس المال فهو في الحقيقة ثروة منتجة وليس مصدراً أساسياً للإنتاج، ثم قسّم المصادر الطبيعية إلى:
_ الأرض.
_ المواد الأولية التي تحويها الطبقة اليابسة من الأرض.
_ المياه الطبيعية.
_ بقية الثروات الطبيعية كاللآلئ والمرجان والطيور وقوة انحدار الشلّالات.
ثم بدأ بدراسة هذه المصادر:
1.الأرض
وقد قام بتقسيم الأرض إلى أربعة أقسام رئيسية، ثم جمع أحكام كل قسم من ناحية الملكية، بعد ذلك استنتج(قده) من مجموع هذه الأحكام أن ملكية الأرض نلحظها بلحاظين:
اللحاظ الأول مع إغفال العنصر السياسي:
فهنا الأرض تكون غالباً على قسمين: إما عامرة طبيعياً وهي ملك للدولة، وإما أن تكون ميتة فهي ملك للإمام أيضاً، وهي ملكية ذات طابع عام.
قال(قده):
نستطيع الآن أن نستوعب الصورة كاملة وأن نحدّد النظرة العامة، فالأرض بطبيعتها ملك الإمام، ولا يملك الفرد رقبتها، ولا يصلح أي اختصاص فردي بها إلا على أساس ما ينفقه الشخص على الأرض من عمل لأجل إعدادها واستثمارها، وهذا الاختصاص أو الحق الذي يكسبه الفرد نتيجة لعمله فيها لا يمنع الإمام عن فرض الطسق أو الضريبة على الأرض المحياة لتساهم الإنسانية الصالحة كلها في الاستفادة منها، ولا يتعارض هذا مع العفو عن الطسق أو الضريبة أحياناً لظروف استثنائية.[32]
اللحاظ الثاني مع إبراز العنصر السياسي:
إن مساهمة الأرض فعلاً في الحياة الإسلامية وتوفير إمكاناتها المادية بشرياً تنشأ تارة عن سبب اقتصادي، وهو عملية الإحياء التي ينفقها الفرد على أرض داخلة في حوزة الإسلام، كما تنشأ تارة أخرى عن سبب سياسي، وهو العمل الذي يتم بموجبه ضم أرض حية عامرة إلى حوزة الإسلام، وكل من العملين له اعتباره الخاص في الإسلام.
وهذا العمل السياسي على نوعين: إما فتح الأرض جهادياً، وإما إسلام أهلها عليها طوعاً، والأول يعتبر عمل الأمة لا عمل الفرد؛ ولذلك تكون هي صاحبة الأرض، ويطبّق على الأرض مبدأ الملكية العامة. وأما الثاني فهو عمل الأفراد الذين أسلموا طوعاً؛ ولأجل ذلك اعترف الإسلام هنا بحقهم في الأرض العامرة التي أسلموا عليها، وسمح لهم بالاحتفاظ بها.
فالشريعة على الصعيد النظري إذن لم تعترف بالملكية الخاصة لرقبة الأرض إلا في حدود احترامها للملكيات الثابتة في الأرض قبل دخولها في حوزة الإسلام طوعاً وصلحاً.
وهذا الحكم إنما يشرّع نظراً لمراعاة مصلحة الرسالة، وإلا فلو أخذت هذه الأرض منهم لشكّل ذلك عقبة كبيرة في وجه الدعوة وامتدادها في مختلف مراحلها.
وبعد هذا التقسيم الرياضي للأراضي وأنواعها وبيان أحكام كل قسم يخطو خطوة أخرى متقدمة ويحاول تنضيج هذه الصورة التشريعية؛ وذلك أن الموارد التي لم نحكم بكونها ملكاً للدولة هي:
أولاً _ الأرض المفتوحة العامرة حين الفتح:
إن هذه الأرض قبل الإحياء كانت ميتة، فرقبتها ملكاً للدولة وللمحيي لها ۔ وهو هنا الكافر _ له حق الإحياء، والنصوص بشأن الأرض المفتوحة لا يفهم منها سوى أن ما كان للكافر من حق في الأرض ينتقل بالفتح إلى الأمة ويصبح حقاً عاماً، ولا تدل على أن حق الإمام يسقط بالفتح؛ لأن المسلمين إنما يغنمون من أعدائهم لا من إمامهم، وعلى هذا فسوف تظل رقبة الأرض ملكاً للإمام ويتحول ما فيها من حق خاص إلى حق عام للأمة.
ثانياً _ الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً:
والكلام فيها نظير الكلام في المفتوحة عنوة، أي أن رقبة الأرض للدولة وكان لصاحبها حق خاص وهو حق الإحياء، والإسلام يحقق ما له من حقوق، لا أنه يمنحه من الحقوق ما لم يكن له، وعليه فيظل محتفظاً بحق الإحياء مع بقاء الأرض ملكاً للدولة، ولهذا وجدنا أنه إذا أهمل الأرض ولم يعمرها كان على الإمام أن يبادر إلى الاستيلاء عليها.
ثالثاً _ الأرض التي صولح أهلها على أن تكون لهم:
إن عقد الصلح هو عقد سياسي، وليس عقد معاوضة، فلا يعني إسقاط ملكية الدولة لرقبة الأرض، وإنما يعني رفع اليد عن أرضهم وتركها لهم في مقابل امتيازات معينة، ووجوب الوفاء بهذا العقد يحتّم على الإمام ألّا يفرض عليهم أجرة، وهذا غير نقل ملكية رقبة الأرض، فالمصالحة على أن تكون الأرض لهم تعني المدلول العملي لهذه العبارة؛ لأنه هو المهم بالنسبة إلى المصالحين، لا المدلول التشريعي.
فإذا تم كل ما تقدم أمكن القول بأن المبدأ في الأرض أن تكون كلها ملك الدولة، ولا استثناء لذلك إطلاقاً، وإلى جانب ذلك يوجد حق الإحياء الذي يجعل الفرد المحيي أولى من غيره إذا مارس الإحياء في حالة عدم منع الإمام منه سواء كان مسلماً أو كافراً، ويكون حقاً خاصاً غير أنه إذا كان كافراً واحتلّ المسلمون أرضه عنوة في حرب جهادية تحوّل هذا الحق الخاص إلى حق عام وأصبح قائماً بالأمة الإسلامية ككل، أي تتحول من الأموال الخاصة للدولة إلى الأموال العامة لها التي لابد أن تستثمرها في المصالح المقررة لها مع الاحتفاظ بها.
2. المواد الأولية في الأرض
وهي تنقسم إلى:
أ_ المعادن الظاهرة: أي تكون طبيعته المعدنية بارزة التي لا تحتاج إلى تعدين، وهي خاضعة لمبدأ الملكية العامة، والمراد بها لجميع الناس لا خصوص المسلمين، أي من المشتركات العامة.
ب_ المعادن الباطنة: وهي التي تحتاج إلى تعدين، وهي على قسمين:
الأول: القريبة من سطح الأرض، وهي كالظاهرة.
الثاني: البعيدة من سطح الأرض، وهي لا تملك بالملكية الخاصة، وإن اختلف في كونها من المشتركات العامة أو أنها ملك للدولة.
وإنما أجازت الشريعة لكل فرد أن يأخذ من مواردها المعدنية وفقاً لحاجته دون إضرار بالآخرين، هذا بالنسبة إلى المعادن الظاهرة.
وأما المستترة كمناجم الذهب والحديد فهي يمكن أن تملك ملكية خاصة باكتشافها عن طريق الحفر؛ لأن الحفر بمنزلة الإحياء، كما أنه أسلوب للحيازة، والحيازة تعتبر سبباً لتملك الثروات الطبيعية، ولكن هذه الملكية لا تمتد في أعماق الأرض وإلى عروق المادة المعدنية وجذورها، وإنما تشمل المادة التي كشف عنها الحفر، كما أنها لا تمتد أفقياً خارج حدود الحفرة التي أنشأها المكتشف إلا بالقدر الذي يتوقف عليه ممارسته لاستخراج المادة من الحفرة. وهو ما يسمى فقهياً بحريم المعدن.
وهذا لا يمنع أي فرد آخر أن يمارس الحفر في موضع آخر من نفس ذلك المعدن ولو كان يمتص نفس الينابيع والجذور التي يمتصها المكتشف الأول؛ لأن الأول لا يملك العروق والينابيع.
نعم هناك اتجاه فقهي يذهب إلى تملك المادة المستخرجة خاصة، وإن كان له حق الأولوية في الاستفادة من الحفرة التي حفرها.
ثم إنه يمكن القول: إن لم يكن إجماع بعدم الفرق بين المناجم الموجودة في الأرض التي لا يختص بها أحد وبين المناجم التي توجد في الأراضي المملوكة أو المختصة، أي لا تكون ملكاً لأصحاب الأراضي، وإن وجب لدى استثمارها الاستئذان من صاحب الأرض؛ لأن إحياء المنجم يتوقف على التصرف في الأرض، وقد أفتى بذلك الإمام مالك.
وللدولة الحق في إقطاع الأرض أو المعدن إلى فرد من أجل إحيائه إذا رأت أن السماح للأفراد باستثمار تلك الثروات أفضل الأساليب للاستفادة منها في ظرف معين، فهو أسلوب من أساليب الاستثمار؛ ولذلك لا يجوز للدولة إقطاع الفرد ما يزيد على طاقته ويعجز عن استثماره.
وليس الإقطاع سبباً لتملك الفرد المقطع المصدر الطبيعي، وإنما للفرد حق الاستثمار ليس إلا؛ ولذا يجب أن لا تطول الفترة المتخللة بين الإقطاع والبدء بالعمل.
وأما بعد ممارسته العمل فإن الإقطاع لا يبقى له أثر من الناحية الشرعية، بل يحلّ العمل محله، فيصبح للفرد من الحق في الأرض أو المعدن ما تقرره طبيعة العمل، كما تقدم.
ونحن نلاحظ أن الإقطاع يكون في حدود المصادر الطبيعية التي من شأن العمل فيها أن يمنح العامل حقاً أو لوناً من الاختصاص بها، وهي الموات، وأما إذا لم يكن المصدر الطبيعي بحاجة إلى إحياء ولا يؤدي فيها العمل إلى حق خاص للعامل فلا يجوز الإقطاع. وأما إقطاع الأرض الخراجية التي هي ملك للأمة فهو ليس إقطاعاً في الحقيقة بل هو تسديد لأجرة على خدمة؛ إذ قد يتفق للدولة أن تمنح شيئاً من الأرض الخراجية وتسمح له بالسيطرة على خراجها الذي هو ملك للأمة، ويجب صرفه في مصالحها، ومنها دفع أجور الولاة والقضاة، فكما يمكن دفع أجورهم مباشرة من بيت المال يمكن أن يكون بالسماح لهم بالحصول مباشرة على ربح بعض أملاك الأمة، وليس للفرد المقطع أي حق أصيل في رقبة الأرض ولا في منافعها.
كما أن الإسلام أيضاً منع الحمى الذي كان يمارسه الأقوياء في الجاهلية، وحصر ذلك في النبي الذي لا يحمي لنفسه وإنما كان يحمي لصلاح عامة المسلمين.
3. المياه الطبيعية
وهي على قسمين:
أ _ المصادر المكشوفة كالبحار والأنهار والعيون الطبيعية: وهذا القسم من المياه يعتبر من المشتركات العامة بين الناس، فليس لفرد خاص أن يتملكها، لكن إذا حاز شخص منها كمية ملك الكمية التي حازها، وبدون الحيازة لا يملك من الماء شيئاً، فلو تسرّب الماء من النهر إلى منطقة دون عمل منه فلا يبرر تملّكه له، بل يبقى الماء على إباحته العامة ما لم يبذل عمل في حيازته.
ب_ المياه الجوفية: وهذا القسم لا يختص به أحد ما لم يعمل للوصول إليه والحفر لأجل كشفه، فإذا كشفه إنسان بالعمل والحفر أصبح له حق في العين المنكشفة يجيز له الاستفادة منها ويمنع الآخرين من مزاحمته؛ لأنه هو الذي خلق بعمله فرصة الانتفاع بتلك العين، فهو أولى بها من غيره ويملك ما يتجدد من مائها؛ لأنه لون من ألوان الحيازة، ولكنه لا يملك نفس العين الموجودة في أعماق الطبيعة قبل عمله؛ ولذا يجب عليه إذا أشبع حاجته من الماء بذل الزائد للآخرين مجاناً؛ لأن المادة لا تزال من المشتركات العامة.
4. بقية الثروات الطبيعية
وتعتبر من المباحات العامة، وهي الثروات التي يباح للأفراد الانتفاع بها، وتملك رقبتها، فالإباحة في المباحات العامة إباحة تملّك لا مجرد إباحة انتفاع.
وقد أقام الإسلام الملكية الخاصة للمباحات العامة على أساس العمل لحيازتها على اختلاف ألوانه، ولا تملك بدون العمل، فلا يكفي دخولها في حدود سيطرة الإنسان لتصبح ملكاً له ما لم ينفق عملاً إيجابياً في حيازتها.
المرحلة الثانية: اكتشاف النظرية العامة
إن دراسة النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج تكون في عدة خطوات، وفي كل خطوة يتم تناول جانباً منها، ويُجمع من البحوث السابقة النصوص التشريعية والفقهية والأحكام التي تكشف عن ذلك الجانب وتبرهن عليه.
وبعدها تُجمع في النهاية خيوط النظرية كلها في مركّب واحد وتعطى لها صيغة عامة.
1.الجانب السلبي من النظرية[33]
ولنبدأ بالجانب السلبي من النظرية، ومحتوى هذا الجانب ۔ كما سنعرف ۔ الإيمان بعدم وجود ملكيات وحقوق خاصة ابتدائية في الثروة الطبيعية الخام بدون عمل.
بناؤه العلوي:
- ألغى الإسلام الحمى، وقال: لا حمى إلا لله وللرسول، وبذلك نفى أي حق خاص للفرد في الأرض بمجرد السيطرة عليها، وحمايتها بالقوة.
- إذا أقطع ولي الأمر أرضاً لفرد اكتسب الفرد بسبب ذلك حق العمل في تلك الأرض، دون أن يمنحه الإقطاع حقاً في ملكية الأرض، أو أي حق آخر فيها، ما لم يعمل وينفق جهده على تربتها.
- لا تملك الينابيع والجذور العميقة للمنجم ملكية خاصة ولا يوجد لأي فرد حق خاص فيها، كما أوضح العلامة الحلي ذلك في التذكرة قائلاً: (وأما العرق الذي في الأرض فلا يملكه بذلك ومن وصل إليه من جهة أخرى فله أخذه).
- المياه الطبيعية المكشوفة كالبحار والأنهار لا تملك ملكية خاصة لأحد، ولا يوجد لفرد حق خاص فيها. قال الشيخ الطوسي في المبسوط: (ماء البحر والنهر والعيون النابعة في موات السهل والجبل، كل هذا مباح، ولكل واحد أن يستعمل منه ما أراد، كيف شاء؛ لخبر ابن عباس عن النبي(ص): الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ).
- إذا زاد الماء الطبيعي فدخل أملاك الناس واجتمع دون أن يحوزوه بعمل خاص، لم يملكوه، كما قال الشيخ في المبسوط.
- إذا لم ينفق الفرد جهداً في الصيد، بل دخل الحيوان في سيطرته لم يملكه، ففي قواعد العلامة الحلي يقول: (لا يملك الصيد بدخوله في أرضه ولا بوثوب السمكة إلى السفينة).
- وكذلك الحال في الثروات الطبيعية الأخرى، فإن دخولها في سيطرة الشخص دون عمل لا يبرر تملّكها، ولذا جاء في التذكرة: (أن الشخص لا يملك الثلج الذي يتساقط في حوزته بمجرد سقوطه على أرضه).
الاستنتاج
من هذه الأحكام ونظائرها في المجموعة ۔ التي مرت بنا من التشريع الإسلامي ۔ نستطيع أن نعرف أن الفرد لا يوجد له بصورة ابتدائية حق خاص في الثروة الطبيعية يمتاز به عن الآخرين على الصعيد التشريعي، ما لم يكن ذلك انعكاساً لعمل خاص فيها، يميزه عن غيره في واقع الحياة، فلا يختص الفرد بأرض إذا لم يحيها، ولا بمعدن إذا لم يكشف عنه، ولا بعين ماء إذا لم يستنبطها ولا بالحيوانات النافرة إلا إذا صادها، ولا بثروة على وجه الأرض أو في السماء إلا إذا حازها، وأنفق جهده في ذلك.
ونحن نرى من خلال هذه الأمثلة أن العمل ۔ الذي اعتبر في النظرية الأساس الوحيد لاكتساب الحقوق الخاصة بصورة ابتدائية في ثروات الطبيعة ۔ يختلف مفهومه النظري حسب اختلاف طبيعة الثروة ونوعها، فما يعتبر عملاً بالنسبة إلى بعض الثروات الطبيعية، وسبباً كافياً لقيام الحقوق الخاصة على أساسه، لا يعتبر كذلك بالنسبة إلى نوع آخر من الثروة، فالحجر في الصحراء يمكنك أن تمتلكه بالحيازة، فالحيازة بالنسبة إلى الحجر عمل تعترف به النظرية، وتسمح بقيام الحقوق الخاصة على أساسه، ولكنها لا تعترف بالحيازة بوصفها عملاً، ولا تسمح بقيام الحقوق الخاصة على أساسها في الأرض الميتة والمنجم والينابيع الطبيعية للماء، فلا يكفي لكي تختص بأرض أو منجم أو عين ماء في أعماق الأرض أن تسيطر على تلك الثروات وتضمها إلى حوزتك، بل لابد لك في سبيل اكتساب حقوق خاصة فيها أن تجسّد جهودك في الأرض والمنجم والعين، فتحيي الأرض وتكشف المنجم وتستنبط الماء، وسوف نحدد في النواحي الإيجابية من النظرية مفهومها عن العمل والمقياس الذي تتبعه في منح صفة العمل للجهود المتنوعة التي يمارسها الإنسان في حقول الطبيعة وثرواتها، وحين نستوعب ذلك المقياس نستطيع أن ندرك حينئذ لماذا كانت حيازة الحجر سبباً كافياً لتملّكه، ولم تكن حيازة الأرض عملاً ولا مبرراً لاكتساب أي حق خاص في تلك الأرض.
2. الجانب الإيجابي من النظرية
والجانب الإيجابي من النظرية يوازي جانبها السلبي ويكمله، فهو يؤمن بأن العمل أساس مشروع، لاكتساب الحقوق والملكيات الخاصة في الثروات الطبيعية.
فرفض أي حق ابتدائي في الثروات الطبيعية منفصل عن العمل هو الصيغة السلبية للنظرية.
والإيمان بالحق الخاص فيها على أساس العمل هو الصيغة الإيجابية الموازية.
بناؤه العلوي
- من أحيا أرضاً فهي له، كما جاء في الحديث.
- من حفر معدناً حتى كشفه كان أحق به، وملك الكمية التي كشفت عنها الحفرة، وما إليها من مواد.
- من كشف بالحفر عيناً طبيعية للماء فهو أحق بها.
- إذا حاز الفرد الحيوان النافر بالصيد، والخشب بالاحتطاب، والحجر الطبيعي بحمله، والماء من النهر باغترافه في آنية وغيرها ملكه بالحيازة، كما نص على ذلك الفقهاء جميعاً.
الاستنتاج
كل هذه الأحكام تشترك في ظاهرة واحدة، وهي أن العمل مصدر للحقوق والملكيات الخاصة في الثروات الطبيعية، التي تكتنف الإنسان من كل جانب، وبالرغم من أن هذه الظاهرة التشريعية نجدها في كل تلك الأحكام، فإننا بالتدقيق فيها وفي نصوصها التشريعية، وأدلتها يمكننا أن نكتشف عنصراً ثابتاً في هذه الظاهرة، وعنصرين متغيرين يختلفان باختلاف أنواع الثروة وأقسامها، فالعنصر الثابت هو ربط الحقوق الخاصة للفرد في الثروات الطبيعية الخام بالعمل، فما لم يقدم عملاً لا يحصل على شيء، وإذا اندمج مع ثروة طبيعية في عملية من العمليات، استطاع أن يظفر بحق خاص فيها، فالعلاقة بين العمل والحقوق الخاصة بشكل عام هي المضمون المشترك لكل تلك الأحكام والعنصر الثابت فيها.
وأما العنصران المتغيران فهما نوع العمل، ونوع الحقوق الخاصة التي يخلقها العمل، فنحن نرى أن الأحكام التي شرعت الحقوق الخاصة على أساس العمل يختلف بعضها عن البعض في نوع العمل الذي جعلته مصدراً للحق الخاص، وفي نوع الحقوق الخاصة التي تنجم عن الأرض، فالأرض لا تعتبر حيازتها عملاً، بينما يعتبر العمل لحيازة الحجر في الصحراء سبباً كافياً لتملكه كما ألمعنا إلى ذلك قبل لحظات، وكذلك نرى الإحياء الذي يعتبر عملاً بالنسبة إلى الأرض والمعدن لا يؤدي إلا إلى حق خاص للفرد في رقبة الأرض والمعدن يكون الفرد بموجبه أولى من غيره بهما، ولا يصبح مالكاً للأرض والمعدن نفسهما، بينما نجد أن العمل لحيازة الحجر من الصحراء واغتراف الماء من النهر يكفي سبباً من الناحية الشرعية لا لاكتساب حق الأولوية في الحجر والماء فحسب، بل لتملكهما ملكية خاصة.
فهناك اختلاف بين الأحكام التي ربطت الحقوق الخاصة للفرد بعمله وجهده في تحديد نوع العمل الذي ينتج تلك الحقوق، وفي تحديد طبيعة تلك الحقوق التي ترتكز على العمل؛ ولأجل ذلك سوف يثير هذا الاختلاف عدة أسئلة يجب الجواب عليها، فلماذا مثلاً كان العمل لحيازة الحجر والماء من النهر كافياً لاكتساب العامل حقاً فيه، ولم يكن هذا النوع من العمل في الأرض والمعدن مثلاً سبباً لأي حق خاص فيهما؟ وكيف ارتفع الحق الذي كسبه الفرد من الماء عن طريق حيازته من النهر إلى مستوى الملكية بينما لم يتح لمن أحيا أرضاً أو اكتشف منجماً أن يملك الأرض أو المنجم، وإنما منح حق الأولوية في المرفق الطبيعي الذي أحياه؟ ثم إذا كان العمل سبباً للحقوق الخاصة فما بال الفرد إذا وجد أرضاً عامرة بطبيعتها، فاغتنم الفرصة الممنوحة لها طبيعياً وزرعها وأنفق على زراعتها جهداً لا يحصل على حقوق مماثلة لحقوق الإحياء، مع أنه قدّم على تربتها كثيراً من الجهود والأعمال؟ وكيف أصبح إحياء الأرض الميتة سبباً لحق الفرد في رقبة الأرض ولم يصبح استغلال الأرض العامرة وزراعتها مبرراً لحق مماثل للفرد؟
إن الجواب على كل هذه الأسئلة التي أثارها اختلاف أحكام الإسلام بشأن العمل وحقوقه ليتوقف على تحديد الجانب الثالث من النظرية الذي يشرح الأساس العام لتقييم العمل في النظرية، ولكي نحدد هذا الجانب يجب أن نجمع تلك الأحكام المختلفة بشأن العمل وحقوقه التي أثارت هذه الأسئلة، ونضيف إليها سائر الأحكام المماثلة التي تشابهها، ونكوّن منها بناءً علوياً نصل عن طريقه إلى تحديد معالم النظرية بوضوح؛ لأن مجموعة هذه الأحكام المختلفة تعكس في الحقيقة المعالم المحددة للنظرية، وسوف ننجز ذلك كله الآن.
3. تقييم العمل في النظرية
1.إذا مارس الفرد أرضاً ميتة فأحياها كان له الحق فيها، وعليه طسقها، يؤديه إلى الإمام ما لم يعف عنه، كما جاء في مبسوط الشيخ الطوسي في كتاب الجهاد، وفقاً للنصوص الصحيحة الدالة على أن من أحيا أرضاً فهو أحق بها وعليه طسقها، وبموجب الحق الذي يكسبه لا يجوز لآخر انتزاع الأرض منه ما دام قائماً بحقها، بالرغم من أنه لا يملك رقبة الأرض نفسها.
2. إذا مارس الفرد أرضاً عامرة بطبيعتها، فزرعها واستغلها كان من حقه الاحتفاظ بها ومنع الآخرين من مزاحمته في ذلك ما دام يمارس انتفاعه بالأرض، ولا يحصل على حق أوسع من ذلك يخوّله احتكارها ومنع الآخرين عنها حتى في حالة عدم ممارسته للانتفاع؛ ومن أجل هذا كان الحق الناتج عن استثمار أرض عامرة بطبيعتها يختلف عن الحق الناتج عن إحياء أرض ميتة، فإن حق الإحياء يمنع أي فرد آخر من الاستيلاء عليها بدون إذن المحيي ما دامت معالم الحياة باقية فيها، سواء كان المحيي يمارس الانتفاع بالأرض فعلاً أم لا.
وأما الحق الذي يكسبه الفرد نتيجة لزراعته أرضاً حية بطبيعتها فهو لا يعدو أن يكون حق الأولوية بالأرض ما دام يمارس انتفاعه بها، فإذا كفّ عن ذلك كان لأي فرد آخر أن يستفيد من الفرصة الممنوحة طبيعياً للأرض ويقوم بدور الأول.
3. إذا حفر الفرد أرضاً لاكتشاف منجم فوصل إليه، كان لآخر أن يستفيد من نفس المنجم إذا لم يزاحمه، وذلك بأن يحفر في موضع آخر ۔ مثلاً ۔ ويصل إلى ما يريد من المواد المعدنية. كما نص على هذا العلامة في القواعد قائلاً: (ولو حفر فبلغ المعدن لم يكن له منع غيره من الحفر من ناحية أخرى، فإذا وصل إلى ذلك العرق لم يكن له منعه).[34]
4. يقول الشهيد الثاني في المسالك عن الأرض التي أحياها الفرد ثم خربت: (إن هذه الأرض أصلها مباح، فإذا تركها عادت إلى ما كانت عليه وصارت مباحة، كما لو أخذ من ماء دجلة ثم ردّه إليها. وإن العلة في تملك هذه الأرض الإحياء والعمارة، فإذا زالت العلة زال المعلول وهو الملك).[35]
ومعنى هذا أن الأرض إذا أحياها الفرد تصبح حقاً له، ويبقى حقه فيها ما دام إحياؤها متجسداً فيها، فإذا زال الإحياء سقط الحق.
5. وعلى هذا الضوء إذا حفر الفرد في أرض لاكتشاف منجم أو عين ماء فوصل إليها ثم أهمل اكتشافه حتى طمّت الحفرة أو التحمت الأرض بسبب طبيعي، فجاء شخص آخر فبدأ العمل من جديد حتى اكتشف المنجم، كان له الحق في ذلك، وليس للأول حق منعه.
6. الحيازة بمجردها ليست سبباً للتملك أو الحق في المصادر الطبيعية من الأرض والمنجم وعيون الماء، وهي نوع من الحمى، ولا حمى إلا لله وللرسول.
7. الحيوانات النافرة المتمردة على الإنسان تملك بالقضاء على مقاومتها واصطيادها، ولو لم يحزها الصائد بيده أو شبكته فلا يجب في تملك الصيد الاستيلاء الفعلي، فقد قال العلامة الحلي في القواعد:
إن أسباب ملك الصيد أربعة: إبطال منعته، وإثبات اليد عليه، وإثخانه، والوقوع فيما نصب آلة للصيد، وكل من رمى صيداً لا يد لأحد عليه، ولا أثر ملك فإنه يملكه إذا صيّره غير ممتنع وإن لم يقبضه.[36]
وقال ابن قدامة:
ولو رمى طائراً على شجرة في دار قوم فطرحه في دارهم فأخذوه فهو للرامي دونهم؛ لأن ملكه بإزالة امتناعه.[37]
ونفس الشيء صرّح به جعفر بن الحسن المحقق الحلي في شرائع الإسلام.[38]
8. من حفر بئراً حتى وصل إلى الماء، كان أحق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه، فإذا فضل بعد ذلك وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج إليه، كما نص على ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط، وقد مر بنا النص سابقاً.
9. إذا ملك شخص مالاً بالحيازة ثم أهمله وسيّبه زال حقه فيه وعاد مباحاً طلقاً، كما كان قبل الحيازة، وجاز لآخر تملكه؛ لأن إعراض المالك عن الانتفاع بملكه وتسييبه له يقطع صلته به، كما جاء في حديث صحيح لعبد الله بن سنان عن أهل البيت(ع) أنهم قالوا: (من أصاب مالاً أو بعيراً في فلاة من الأرض كلّت وتاهت وسيّبها صاحبها لما لم يتبعه، فأخذها غيره فأقام عليها وأنفق نفقة حتى أحياها من الكلال ومن الموات فهي له ولا سبيل له عليها، إنما هي مثل الشيء المباح) [39] والحديث وإن كان يدور حول بعير مسيّب، ولكنه حين عطف البعير على المال عرفنا أن القاعدة عامة في كل الأحوال.
10. لا يوجد للفرد حق في رقبة الأرض التي يرعى فيها غنمه، ولا يتملك المرعى بممارسته للرعي فيه، وإنما يكتسب حقاً فيه بالإحياء فقط؛ ولذا لا يجوز للشخص أن يبيع مرعاه إذا لم يكن قد اكتسب حقاً فيه قبل ذلك بالإحياء أو الإرث من المحيي ونحو ذلك.
وقد جاء عن إدريس بن زيد أنه سأل الإمام موسى بن جعفر(ع) وقال له إن لنا ضياعاً ولها حدود، ولنا الدواب وفيها مراعي، وللرجل منا غنم وإبل ويحتاج إلى تلك المراعي لإبله وغنمه، أيحل له أن يحمي المراعي لحاجته إليها؟ فأجاب الإمام بأن الأرض إذا كانت أرضه فله أن يحمي ويصير ذلك إلى ما يحتاج إليه. ثم سأله عن الرجل يبيع المراعي، فقال له: إذا كانت الأرض أرضه فلا بأس[40]. فإن هذا الجواب يدل على أن نفس عملية اتخاذ الأرض مرعى لا توجد حقاً للراعي في الأرض يسوغ له نقل هذا الحق إلى غيره بالبيع.
في ضوء هذا البناء العلوي، وإشعاعه الخاص من القاعدة المذهبية نستطيع أن ندرك معالم النظرية، وبالتالي أن نجيب على الأسئلة التي قدمناها سابقاً.
أ_ العمل الاقتصادي أساس الحقوق في النظرية
فالنظرية تميّز بين نوعين من الأعمال، أحدهما: الانتفاع والاستثمار، والآخر: الاحتكار والاستئثار. فأعمال الانتفاع والاستثمار ذات صفة اقتصادية بطبيعتها، وأعمال الاحتكار والإستئثار تقوم على أساس القوة ولا تحقق انتفاعاً ولا استثماراً مباشراً.
ومصدر الحقوق الخاصة في النظرية هو العمل الذي ينتمي إلى النوع الأول، كاحتطاب الخشب من الغابة ونقل الأحجار من الصحراء، وإحياء الأرض الميتة. وأما النوع الثاني من العمل فلا قيمة له؛ لأنه مظهر من مظاهر القوة، وليس نشاطاً اقتصادياً من نشاطات الانتفاع والاستثمار للطبيعة وثروتها. والقوة لا تكون مصدراً للحقوق الخاصة ولا مبرراً كافياً لها.
وعلى هذا الأساس ألغت النظرية العامة العمل لحيازة الأرض والاستيلاء عليها ولم تقم على أساسه أي حق من الحقوق الخاصة؛ لأنه في الحقيقة من أعمال القوة، لا من أعمال الانتفاع والاستثمار.
ب ۔ الحيازة ذات طابع مزدوج
ونحن حين نقرر هذا، قد نواجه السؤال عن الفرق بين حيازة الأرض وحيازة الحجر بحمله من الصحراء، والخشب باحتطابه من الغابة، والماء باغترافه من النهر، فإذا كانت الحيازة مظهر قوة، وليست ذات صفة اقتصادية كأعمال الانتفاع والإستثمار فكيف جاز للإسلام أن يفرق بين حيازة الأرض وحيازة الخشب ويمنح الأخيرة حقوقاً خاصة، بينما يلغي الأولى ويجردها من كل الحقوق؟
وأعمال الاحتكار والاستئثار في النظرية الإسلامية لا يقوم على أساس شكل العمل، بل قد يتخذ الشكل الواحد للعمل طابع الانتفاع والاستثمار تارة وطابع الاحتكار والاستئثار تارة أخرى، تبعاً لطبيعة المجال الذي يشتغل فيه العامل، ونوع الثروة التي يمارسها، فالحيازة ۔مثلاً۔ وإن كانت من الناحية الشكلية نوعاً واحداً من العمل، ولكنها تختلف في حساب النظرية العامة باختلاف نوع الثروة التي يسيطر عليها الفرد؛ لأن حيازة الخشب بالاحتطاب، والحجر بنقله من الصحراء ۔ مثلاً ۔ عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار. وأما حيازة الأرض والاستيلاء على منجم أو على عين ماء فليس من تلك الأعمال، بل هو مظهر من مظاهر القوة والتحكم في الآخرين.
ولكي نبرهن على ذلك يمكننا أن نفترض إنساناً يعيش بمفرده في مساحة كبيرة من الأرض، غنيّة بالعيون والمناجم والثروات الطبيعية، بعيداً عن المنافسة والمزاحمة وندرس سلوكه وما يمارسه من ألوان الحيازة. إن إنساناً كهذا لن يفكر في الاستيلاء على مساحة كبيرة من الأرض، وما فيها من مناجم وعيون وحمايتها، لأنه لا يجد داعياً إلى هذه الحماية ولا فائدة يجنيها منها في حياته، ما دامت الأرض بخدمته في كل حين، لا ينافسه فيها أحد، وإنما ينصرف مباشرة إلى إحياء جزء من الأرض يتناسب مع مستوى قدرته على الاستثمار.
ولكنه بالرغم من أنه لا يفكّر في حيازة مساحات كبيرة من الأرض، يمارس دائماً حيازة الماء بنقله إلى كوزه، والحجر يحمله إلى كوخه، والخشب يوقد عليه النار؛ لأنه لا يتاح له الانتفاع بهذه الأشياء في حياته إلا بحيازتها، وإعدادها في متناول يده.
فحيازة الأرض وغيرها من مصادر الطبيعة لا معنى لها إذن عندما تنعدم المنافسة، بل الإحياء وحده في هذا الحال هو العمل الذي يمارسه الفرد في الطبيعة لاستثمارها والانتفاع بها، وإنما تكتسب حيازة الأرض قيمتها عندما توجد المنافسة على الأرض وتشتد، فينطلق كل فرد للاستيلاء على أوسع مساحة ممكنة من الأرض وحمايتها من الآخرين، وهذا يعني أن حيازة الأرض وما إليها من مصادر الطبيعة ليست عملاً ذا صفة اقتصادية من أعمال الانتفاع والاستثمار، وإنما هي عملية تحصين لمورد طبيعي وحمايته من تدخل الآخرين فيه.
وعلى العكس من ذلك حيازة الخشب والحجر والماء، فإنها ليست عمل قوة، وإنما هي بطبيعتها عمل اقتصادي من أعمال الانتفاع والاستثمار؛ ولهذا رأينا أن الإنسان المنفرد في حياته يمارس هذا اللون من الحيازة بالرغم من تحرره عن كل دافع من دوافع القوة واستعمال العنف.
وهكذا نعرف أن حيازة الأشياء المنقولة من ثروات الطبيعة ليست مجرد عمل من أعمال القوة، وإنما هي في الأصل عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار يمارسه الإنسان ولو لم يوجد لديه أي مبرر لاستعمال القوة.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندرج حيازة المصادر الطبيعية من أراضي ومناجم وعيون في أعمال الاحتكار والقوة التي لا قيمة لها في النظرية، وندرج حيازة الثروات التي تنقل وتحمل في أعمال الانتفاع والاستثمار التي هي المصدر الوحيد للحقوق الخاصة في الثروات الطبيعية.
ونخرج من ذلك بنتيجة، وهي أن الصفة الاقتصادية للعمل شرط ضروري في إنتاجه للحقوق الخاصة، فلا يكون العمل مصدراً لتملّك المال ما لم يكن بطبيعته من أعمال الانتفاع والاستثمار.
ج_ النظرية تميز بين الأعمال ذات الصفة الاقتصادية
ولنأخذ الآن أعمال الانتفاع والاستثمار التي تحمل الطابع الاقتصادي لندرس موقف النظرية من تقييمها ونوع الحقوق التي تقيمها على أساسها. ولا نحتاج في هذا المجال إلى أكثر من تتبع الفقرة الثانية والفقرة العاشرة من البناء العلوي السابق، لنعرف أن الشريعة لا تمنح الفرد دائماً الحق والملكية في مصادر الثروة الطبيعية من أرض ومناجم وعيون بمجرد ممارسة الفرد فيها لعمل خاص من أعمال الانتفاع والاستثمار.
فنحن نرى مثلاً في الفقرة الثانية أن ممارسة الزراعة في أرض عامرة بطبيعتها لا يمنح الفرد الزارع من الحق فيها ما يمنحه الإحياء في أرض ميتة، ونلاحظ في الفقرة العاشرة أيضاً أن الانتفاع بالأرض باتخاذها مرعى لا يعطي الراعي حقاً في تملك الأرض، مع أن استخدامه لها في الرعي عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار.
فهناك إذن فارق يجب اكتشافه بين إحياء الأرض وما إليه من أعمال، وبين استثمار الأرض العامرة في الزراعة والرعي، بالرغم من أن هذه الأعمال تبدو جميعاً ذات صفة اقتصادية وألواناً من الانتفاع والاستثمار لمصادر الثروة الطبيعية. وباكتشاف ذلك الفارق نتقدم مرحلة جديدة في تحديد النظرية العامة واستيعابها.
د_ كيف تقوم الحقوق الخاصة على أساس العمل
والحقيقة أن هذا الفارق يرتبط كل الارتباط بالمبررات التي آمنت بها النظرية لمنح الفرد حقوقاً خاصة في الثروة الطبيعية على أساس العمل.
فلكي نفهم باستيعاب الفرق نظرياً بين المجموعة التي عرضناها من أعمال الانتفاع والاستثمار ذات الصفة الاقتصادية، يجب أن نعرف التكييف النظري للحقوق الخاصة التي ربطت بالعمل، وكيف وإلى أي مدى يلعب العمل دوره الإيجابي في النظرية؟ وما هو المبدأ الذي ينشئ العمل على أساسه حقوقاً خاصة للعامل في الثروة التي يمارسها بعمله؟ فإذا عرفنا هذا المبدأ استطعنا في ضوئه أن نميز بين تلك المجموعة من أعمال الانتفاع.
ويمكننا تلخيص هذا المبدأ على ضوء البناء العلوي الكامل للنظرية في الصيغة التالية: أن العامل يملك نتيجة عمله التي يخلقها بجهده وطاقته في المواد الطبيعية الخام، وهذا المبدأ يسري على كل أعمال الانتفاع والاستثمار التي يمارسها الفرد في الطبيعة ومصادرها الخام، من دون تمييز بين عملية إحياء الأرض الميتة أو كشف المنجم أو استنباط الماء أو زراعة الأرض العامرة بطبيعتها أو استخدامها في رعي الحيوانات وتربيتها، كل ذلك عمل وكل عمل مع مادة خام من حق العامل أن يقطف ثماره بتملك نتيجته.
ولكن حق العامل في امتلاك نتيجة عمله في مصدر طبيعي، لا يعني أن جميع هذه الأعمال تتفق في نتائجها لكي تتفق في نوع الحقوق التي تسفر عنها، بل إنها تختلف في نتائجها وعلى هذا الأساس تختلف في نوع الحقوق الخاصة التي تنشأ عنها، فإحياء الأرض ۔مثلاً۔ عملية يمارسها الفرد في أرض ميتة لا تصلح لإنتاج وانتفاع، فيزيل عن وجهها الصخور الصمّاء ويوفر كل الشروط التي تجعلها قابلة للانتفاع أو الإنتاج، ويحقق عن طريق ذلك نتيجة مهمة بسبب إحيائه للأرض لم تكن موجودة قبل الإحياء، وليست هذه النتيجة وجود الأرض نفسها؛ لأن عملية الإحياء لا تخلق الأرض، وإنما هي الفرصة التي خلقها الفرد بعمله وجهده، فإن إحياء الأرض الميتة يؤدي إلى خلق فرصة الانتفاع بالأرض واستثمارها، إذ لم تكن هذه الفرصة متاحة قبل إحيائها وإنما نتجت عن عملية الإحياء.
والعامل يملك وفقاً للنظرية العامة هذه الفرصة بوصفها نتيجة لعمله وملكيته للفرصة تؤدي إلى منع الآخرين عن سرقة هذه الفرصة منه، وتضييعها عليه بانتزاع الأرض منه، والانتفاع بها بدلاً عنه؛ لأنهم بذلك يحرمونه من الفرصة التي خلقها بجهده في عملية الإحياء وملكها بعمل مشروع، ولأجل ذلك يصبح الفرد بإحيائه الأرض أولى بها من غيره، ليتاح له الانتفاع بالفرصة التي أنتجها، وهذه الأولوية هي كل حقه في الأرض، وهكذا نعرف أن حق الفرد في الأرض التي أحياها مردّه نظرياً إلى عدم جواز سرقة الآخرين نتيجة عمله وتضييع الفرصة التي خلقها بعمله المشروع.
وإحياء المنجم أو عين الماء المستترة في أعماق الأرض كإحياء الأرض الميتة في هذا تماماً. فإن العامل الذي يمارس عملية الإحياء يخلق فرصة الانتفاع بالمرفق الطبيعي الذي أحياه، ويملك هذه الفرصة بوصفها ثمرة لجهده، فلا يجوز لغيره تضييع الفرصة عليه. وللعامل الحق في منع الآخرين إذا حاولوا انتزاع المرفق منه. ويعتبر هذا حقاً في الأرض والمنجم والعين، مع فوارق سوف ندرسها بعد لحظات.
وأما ممارسة الفرد للزراعة في أرض عامرة بطبيعتها أو استخدام أرض لرعي الحيوانات، فهذه الأعمال وإن كانت من أعمال الانتفاع والاستثمار في المصادر الطبيعية، ولكنها لا تبرر وجود حق للزارع والراعي في الأرض؛ لأنه لم ينتج الأرض نفسها، ولا فرصة عامة كالفرصة التي أنتجها إحياء الأرض الميتة. صحيح أن الزارع أو الراعي أنتج زرعاً، أو ربّى ثروة حيوانية عن طريق عمله في الأرض ولكن هذا يبرر تملكه للزرع الذي أنتجه، أو للثروة الحيوانية التي تعاهدها، ولا يبرر تملكه للأرض وحقه فيها.
فالفرق إذن بين هذه الأعمال وعمليات الإحياء أن تلك العمليات تخلق فرصة للاستفادة من الأرض أو المنجم أو العين، لم تكن قبل الإحياء، فيملكها الفرد، ويكتسب عن طريق تملكه لهذه الفرصة حقه في المصدر الذي أحياه، وأما الأرض العامرة بطبيعتها أو الأرض الخضراء بطبيعتها التي يمارس فيها الفرد عملية الزرع أو الرعي فقد كانت فرصة الانتفاع بها في الزرع والرعي موجودة قبل ذلك، ولم تنتج عن العمل الخاص، وإنما الشيء الذي نتج عن عمل الزارع ۔ مثلاً ۔ هو الزرع، ولا شك أنه من حقه الخاص؛ لأنه نتيجة عمله.
وفي هذا الضوء نستطيع الآن أن نستنتج شرطاً جديداً في العمل الذي يتيح حقاً خاصاً في المصادر الطبيعية، فقد اكتشفنا ۔ آنفاً ۔ الشرط الأول، وهو أن يكون العمل ذا صفة اقتصادية، ونستنتج الآن الشرط الثاني، وهو أن يخلق هذا العمل حالة أو فرصة معينة جديدة يملكها العامل ويكتسب عن طريقها حقه في المصدر الطبيعي.
وإلى هذه الحقيقة كان الإمام الشافعي يشير حينما استدل على أن المعدن الباطن المستتر لا يملك بالإحياء بأن المحيا ما يتكرر الانتفاع به بعد عمارته بالإحياء من غير إحداث عمارة وهذا لا يمكن في المعادن، بمعنى أن الفرصة التي يخلقها الإحياء في المعدن محدودة، فيكون الحق محدوداً تبعاً لذلك.
وهذا الاكتشاف للترابط بين حق العامل في المصدر الطبيعي، والفرصة التي ينتجها العمل في ذلك المصدر، يترتب عليه منطقياً أن يزول حق الفرد في المصدر إذا تلاشت تلك الفرصة التي أنتجها؛ لأن حقه في المصدر الطبيعي كان يقوم ۔ كما عرفنا ۔ على أساس تملكه لتلك الفرصة، فإذا زالت سقط حقه، وهذا ما نجده تماماً في الفقرة الرابعة والخامسة من البناء العلوي الذي قدمناه.
ولنأخذ الآن أعمال الإحياء هذه التي تمنح الفرد العامل حقاً خاصاً في المصدر الطبيعي، كإحياء الأرض واستخراج المنجم واستنباط العين؛ لكي ندرس بدقة موقف النظرية منها، ونرى ما إذا كانت نفس هذه الأعمال تختلف في الحقوق التي تنتجها بعد أن درسنا الفرق بينها وبين سائر أعمال الانتفاع والاستثمار، وعرفنا قبل ذلك الفرق بين أعمال الانتفاع والاستثمار بشكل عام، وأعمال الاحتكار والاستئثار.
ونحن إذا استعرضنا من البناء العلوي المتقدم الحقوق التي تقوم على أساس أعمال الإحياء، وجدنا أنها تختلف من عمل لآخر، فالأرض التي أحياها الفرد لا يجوز لفرد آخر بدون إذنه استثمارها والتصرف فيها، ما دام الفرد الذي أحياها يتمتع بحقه في الأرض، بينما نجد أن الفرد إذا استنبط عيناً كان له الحق في مائها بقدر حاجته، وجاز للآخرين الاستفادة من العين فيما زاد على حاجة صاحبها.
ولهذا كان على النظرية أن تشرح السبب الذي أدّى إلى اختلاف حق العامل في أرضه التي أحياها، عن حق العامل في العين التي استنبطها، ولماذا سمح لأي فرد بالاستفادة من ماء العين إذا زاد على حاجة صاحبها ولم يسمح لأحد بزراعة الأرض التي أحياها العامل بدون إذنه، ولو لم يستغلها العامل في الزراعة فعلاً؟
والواقع أن الجواب على هذا جاهز في ضوء معلوماتنا التي اكتشفناها حتى الآن عن النظرية فإن العامل يملك قبل كل شيء نتيجة عمله، وهي فرصة الاستفادة من المصدر الطبيعي، وملكيته لهذه الفرصة تحتّم على الآخرين الامتناع عن سرقتها منه وتضييعها عليه، وبذلك يحصل على الحق الخاص في المصدر الذي أحياه، وهذا كله يطّرد في سائر المصادر دون فرق في ذلك بين الأرض والمنجم والعين، فالحقوق التي تنتج عن إحياء تلك المصادر الطبيعية متساوية.
والسماح للغير بالاستفادة من عين الماء فيما زاد على حاجة العامل دون الأرض لا ينشأ من اختلاف الحقوق، بل ينبع عن طبيعة تلك الأشياء فإن الفرصة ۔ التي يملكها الفرد نتيجة لحفره العين، واكتشافه للماء ۔ لا تضيع عليه بمشاركة شخص آخر له في الانتفاع بالماء ما دامت العين غزيرة تفيض عن حاجته، فالعين الثرية بالماء لا تضيق عادة عن تزويد فردين بالماء وإشباع حاجتهما؛ وبهذا يظل العامل محتفظاً بالفرصة التي خلقها دون أن يؤدي انتفاع الآخر بالعين في شربه وشرب ماشيته إلى فوات تلك الفرصة منه.
وعلى العكس من ذلك الأرض التي يحييها الفرد، ويخلق فيها فرصة الانتفاع بها عن طريق إحيائه لها، فإن الأرض بطبيعتها لا تتسع لاستثمارين في وقت واحد، فلو بادر شخص إلى أرض محياة واستثمرها لانتزع بذلك من العامل الذي أحياها الفرصة التي خلقها؛ لأن الأرض إذا وظفت في إنتاج زراعي لا يمكن أن تقوم بدور مماثل، ولا أن تستغل لأغراض الإنتاج من قبل فرد آخر.
وهكذا نعرف أن الأرض المحياة لا يجوز لغير العامل الذي أحياها أن يستثمرها وينتفع بها؛ لأنه يضيع على العامل الفرصة التي يملكها بعمله، فلكي يحتفظ العامل بهذه الفرصة لا يسمح لغيره باستثمار الأرض، سواء كان العامل يفكّر في استغلال الفرصة فعلاً أو لا؛ لأنها على أي حال فرصته التي خلقها، ومن حقه الاحتفاظ بها ما دامت جهوده التي أنفقها لإحياء الأرض مجسدة فيها، وخلافاً لذلك يسمح في عيون الماء لغير العامل الذي اكتشفها أن يستفيد منها فيما زاد على حاجة العامل؛ لأن ذلك لا يجرد المكتشف من الفرصة التي خلقها، لقدرة العين على تلبية طلبات العامل الذي اكتشفها، وإشباع حاجة الآخرين في وقت واحد، فاختلاف الأرض عن العين في طبيعتها وطريقة استغلالها هو السبب الذي يفسر السماح للآخرين بالاستفادة من العين دون الأرض.
وأما المنجم المكتشف، فقد أجاز الإسلام لأي فرد أن يستفيد منه بالطريقة التي لا تؤدي إلى حرمان المكتشف من الفرصة التي خلقها، وذلك بالحفر في موضع آخر من المنجم أو بالاستفادة من نفس الحفرة التي أنشأها المكتشف الأول إذا كانت واسعة تتيح للغير أن يستفيد منها دون أن ينتزع من المكتشف فرصة الانتفاع.
فالمقياس العام للسماح لغير العامل أو منعه عن الانتفاع بالمرفق الطبيعي ۔ الذي أحياه العامل وخلق فيه فرصة الانتفاع ۔ هو مدى تأثير ذلك على الفرصة التي خلقها العامل باحيائه للمصدر الطبيعي.
هـ _ أساس التملك في الثروات المنقولة
وحتى الآن كنا نحصر الحديث تقريباً بالعمل في المصادر الطبيعية كالأراضي والمناجم وعيون الماء، ولابد لكي نستوعب المحتوى الكامل للنظرية أن نفحص بتدقيق تطبيقات النظرية على غير المصادر الطبيعية من الثروات المنقولة، وأوجه الفرق بينها وبين المصادر والمبررات النظرية لهذه الفروق.
والشيء الوحيد الذي مرّ بنا عن موقف النظرية من الثروات المنقولة، أن حيازة هذه الثروات تعتبر نظرياً عملاً ذا صفة اقتصادية من أعمال الانتفاع والاستثمار، خلافاً لحيازة المصدر الطبيعي التي تحمل طابع الاحتكار والاستئثار، ولا تتسم بالصفة الاقتصادية.
وقد استخدمنا فرضية الإنسان المنفرد، للتدليل بها على هذا الفرق بين حيازة المصادر الطبيعية وحيازة الثروات المنقولة.
فالاستيلاء إذن على كمية من الماء أو من خشب الغابة أو أي ثروة طبيعية أخرى بالإمكان نقلها يعتبر قبل كل شيء عملاً من أعمال الانتفاع والاستثمار؛ ولهذا تدخل حيازة الثروات المنقولة في حساب النظرية، التي لا تعترف بعمل سوى أعمال الانتفاع ذات الصفة الاقتصادية.
ولكن الحيازة ليست هي العمل الوحيد الذي تعترف به النظرية، وتقيمه في مجال الثروات المنقولة، فهناك نوع آخر من العمل في هذا المجال، يشبه أعمال الإحياء في المصادر الطبيعية، وهو العمل لإيجاد فرصة الانتفاع بالثروة الطبيعية المنقولة إذا كانت تشتمل بطبيعتها على مقاومة للانتفاع بها، كصيد الحيوان النافر، فإن العمل الذي يشلّ به الصياد مقاومة الحيوان الذي يصطاده يخلق فرصة الانتفاع بذلك الحيوان بسبب القضاء على مقاومته، كما يخلق العامل فرصة الانتفاع بالأرض الميتة عن طريق إحيائها والقضاء على مقاومتها وتذليل تربتها.
فالحيازة والعمل لإيجاد فرصة الانتفاع نوعان من العمل، يحملان معاً الطابع الاقتصادي في مجال الثروات المنقولة، ولكن العمل لإيجاد فرصة جديدة للانتفاع بالثروة كالصيد، يمتاز عن الحيازة بدوره الإيجابي في خلق هذه الفرصة؛ إذ أن الحيازة ذات دور سلبي من هذه الناحية؛ لأنها بوصفها مجرد عملية استيلاء على الثروة لا تخلق فيها فرصة جديدة للانتفاع بها بشكل عام، فأنت حين تحوز حجراً من الطريق العام أو ماءً من البئر لا تخلق في الحجر والماء فرصة جديدة للانتفاع بهما بشكل عام لم تكن من قبل؛ لأن الحجر أو الماء كان معروضاً للجميع، ولم تزد على أن سيطرت عليه وادّخرته لحاجتك. صحيح أنك نقلت الحجر إلى بيتك والماء إلى آنيتك، ولكن هذا لا يخلق فرصة لم تكن من قبل للانتفاع بالمال بشكل عام؛ لأن هذا النقل إنما يمهد لانتفاعك بالحجر أو الماء، ولا يذلّل عقبة عامة في هذا السبيل، ولا يمنح المال صفة تجعله أكثر استعداداً أو لياقة للنفع بصورة عامة، كإحياء الأرض الذي يقضي على مقاومة الأرض للانتفاع بها بشكل عام، ويمنحها كفاءة جديدة للقيام بدورها العام في حياة الإنسان.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقارن الصيد، وما إليه من أعمال كخلق فرصة جديدة في الثروات المنقولة بعملية إحياء الأرض؛ لأن الصيد والإحياء يتفقان في خلق فرصة عامة لم تكن متاحة من قبل، ونقارن حيازة الثروة المنقولة بعملية زراعة الأرض العامرة بطبيعتها، فكما أن زراعة الأرض العامرة طبيعياً لا تخلق في الأرض فرصة جديدة وإنما هي عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار، كذلك حيازة الماء من العيون الطبيعية.[41]
وهذا التمييز بين حيازة الثروات المنقولة، وبين العمل فيها لإيجاد فرصة الانتفاع ۔ كالصيد وما إليه من أعمال ۔ لا يعني انفصال هذين الأمرين أحدهما عن الآخر دائماً فإن الحيازة كثيراً ما تقترن بخلق فرصة جديدة في الثروة، فتندمج الحيازة مع خلق الفرصة الجديدة عملية واحدة، كما قد يوجد كل منهما بصورة منفصلة عملياً عن الآخر.
فهناك من الثروات ما يحتوي على درجة من المقاومة الطبيعية للانتفاع به، كالسمك في البحر والفائض من ماء النهر الذي يجري بطبيعته ليتلاشى في نهاية الشوط في أعماق البحر، فإذا قضى الصياد على مقاومة السمك بإغرائه بدخول شبكته التي يصطاد بها فقد حازه، وخلق فيه أيضاً فرصة الانتفاع نتيجة للقضاء على مقاومته خلال عملية واحدة، كما أن اختزان الماء الفائض من النهر يعتبر حيازة له، وهو في نفس الوقت يخلق فرصة الانتفاع، نتيجة لمنعه من الهروب إلى البحر والتسلل إليه.
وقد يمارس الفرد عملاً لخلق فرصة جديدة في الثروة والقضاء على مقاومتها الطبيعية، دون أن تتحقق خلال ذلك حيازة الثروة، كما إذا رمى الصائد بحجر على طائر محلّق في الجو فشلّ حركته واضطره إلى الهبوط في منطقة بعيدة عن موضع الصائد، وأصبح في وضع لا يسمح له إلا بالمشي كالدواجن، فالفرصة الجديدة للانتفاع قد انجزت في هذه العملية عن طريق اصطياد الطائر والقضاء على مقاومته بقذف الحجر عليه، ولكن الطير وهو يمشي بعيداً عن موضع الصائد لا يعتبر في حيازته وتحت يده، وإنما تتم حيازته له إذا تعقّبه الصائد وأخذه.
وقد يحوز الفرد ثروة دون أن يمارس عملاً لخلق فرصة جديدة فيها، كما إذا كانت الثروة مستعدة بطبيعتها للانتفاع بها، ولا تشتمل على مقاومة تحول دون ذلك كحيازة الماء من العيون والحجر من الأرض.
فالحيازة وخلق الفرصة لونان من العمل قد يندمجان في عملية واحدة وقد يفترقان.
ولنعبر عن اللون الثاني من العمل الذي يخلق الفرصة بالصيد، بوصفه المثال البارز للعمل المنتج لفرصة جديدة في الثروات المنقولة.
ولكي ندرس هذين اللونين من العمل على صعيد النظرية سوف نتناول كلاً من الحيازة والصيد بصورة منفصلة عن الآخر؛ لاكتشاف الأحكام المختصة به، وطبيعة الحقوق التي تنتج عن كل من العملين، والأساس النظري لها.
و_ دور الأعمال المنتجة في النظرية
فالصيد إذا درسناه بصورة منفصلة عن الحيازة، نجد أنه عمل ينتج فرصة معينة، فمن الطبيعي أن يمنح العامل حق تملك الفرصة التي نتجت عن عمله، كما يملك العامل في الأرض فرصة الانتفاع التي نجمت عن إحيائه للأرض، وفقاً للمبدأ الآنف الذكر في النظرية، الذي يمنح كل عامل في الثروة الطبيعية الخام حق تملك النتيجة التي يسفر عنها العمل.
وعن طريق تملّك الصائد لهذه الفرصة يصبح له حق خاص في الطير الذي اصطاده واضطره إلى الهبوط والمشي على الأرض، ولو لم يحزه ۔ كما يدل عليه إطلاق النصوص التشريعية ۔ فلا يسمح لفرد آخر أن يبادر إلى الطير ويستولي عليه، أو يغتنم فرصة اشتغال الصياد عن حيازته بمواصلة عملية الصيد مثلاً فيسبقه إليه؛ لأن ذلك يؤدي إلى حرمان العامل من الفرصة التي خلقها بالصيد.
فحق الصياد في الطائر الذي اصطاده لا يتوقف على حيازته له أو البدء في الانتفاع به فعلاً، بل مجرد الفرصة التي خلقها بعمله يخوّله الحق فيه؛ لأن هذه الفرصة ملك للعامل الذي خلقها، سواء فكّر فعلاً في الانتفاع بصيده وبادر إلى حيازته أو لا.
وبهذا كان الصياد نظير العامل الذي يحيي الأرض، فكما لا يجوز لفرد آخر أن يستثمر الأرض ويزرعها، ولو لم يمارس المحيي الانتفاع بها فعلاً، كذلك لا يصح لغير العامل الذي ذلل الصيد وقضى على مقاومته أخذ الصيد ما دام الصياد محتفظاً بحقه، ولو لم يبادر إلى حيازته فعلاً.
ولكن الطير الذي شلّت حركته نتيجة لاصطياده، إذا استطاع قبل أن يبادر الصياد إلى حيازته أن يسترجع قواه، أو يتغلب على الصدمة، ويحلّق في الجو من جديد، زال عنه حق الصياد؛ لأن هذا الحق كان يعتمد على تملك العامل للفرصة التي أنتجها بالصيد، وهذه الفرصة تتلاشى بهروب الطائر في الجو، فلا يبقى للصائد حق في الطير، وهو في هذا يشبه أيضاً العامل الذي يحيي الأرض ويكتسب حقه فيها على هذا الأساس؛ إذ يفقد حقه في الأرض إذا انطفأت فيها الحياة، ورجعت مواتاً من جديد، والسبب نظرياً واحد في الحالتين، وهو أن حق الفرد في الثروة يرتبط بتملكه للفرصة التي تنتج عن عمله، فإذا زالت تلك الفرصة وانعدم أثر ذلك العمل زال حقه في الثروة. فالصيد في أحكامه إذن حين ينظر إليه بصورة مستقلة عن الحيازة يشابه إحياء المصادر الطبيعية، وهذا التشابه ينبع ۔كما رأينا۔ من وحدة التفسير النظري لحق العامل في صيده وحق العامل في الأرض الميتة التي أحياها.
ز_ دور الحيازة للثروات المنقولة
وأما الحيازة فهي تختلف عن الصيد المجرد في أحكامها؛ ولهذا نجد أن الفرد إذا ملك طيراً بالحيازة ودخل في حوزته أصبح من حقه استرجاعه إذا طار وامتنع، فاصطاده آخر، وليس للآخر الاحتفاظ به، بل يجب عليه رده إلى من كان الطير في حوزته؛ لأن الحق المستند إلى الحيازة حق مباشر، بمعنى أن الحيازة سبب مباشر لتملك الطير، وليس تملك الطير مرتبطاً بتملك فرصة معينة ليزول بزوالها.
وهذا هو الفرق بين الحيازة وغيرها من العمليات التي مرت بنا، فالصيد كان سبباً لامتلاك الصائد للفرصة التي أنتجها، وقام على هذا الأساس حقه في الطير، والإحياء كان سبباً لامتلاك العامل للفرصة التي نجمت عن الإحياء، ونتيجة لذلك حصل على حقه في المرفق الذي أحياه، وأما حيازة الثروات المنقولة فهي بمجردها سبب أصيل ومباشر لتملك الثروة.
وهذا الفرق بين الحيازة وغيرها من الأعمال يحتّم علينا مواجهة السؤال التالي على الصعيد النظري: إذا كان حق الفرد في المصدر الطبيعي الذي أحياه أو في الصيد الذي اصطاده يقوم على أساس امتلاكه نتيجة عمله، وهي فرصة الانتفاع بذلك المصدر، فعلى أي أساس يقوم حق الفرد في الحجر الذي يلقاه في الطريق فيأخذه لنفسه؟ أو حقه في الماء الراكد الذي يحوزه من بحيرة طبيعية؟ مع أن حيازته هذه للحجر أو للماء لم تنتج فرصة عامة جديدة في المال كما ينتج الصيد وإحياء الأرض؟
والجواب على هذا السؤال: أن حق الفرد هذا لا يستمد مبرره من تملك الفرد لفرصة نتجت عن عمله، وإنما يبرره انتفاع الفرد بذلك المال، فكما أن من حق كل عامل أن يمتلك الفرصة التي ينتجها عمله، كذلك من حقه أن ينتفع بالفرصة التي هيأتها له الطبيعة بعناية الله تعالى، فالماء مثلاً إذا كان في أعماق الأرض وكشفه الفرد بالحفر، فقد خلق فرصة الانتفاع به وأصبح جديراً بامتلاك هذه الفرصة، وأما إذا كان الماء مجتمعاً طبيعياً على سطح الأرض، وكانت فرصة الانتفاع به ناجزة بدون جهد من الإنسان، فلابد أن يتاح لكل فرد أن يمارس انتفاعه بذلك الماء، ما دامت الطبيعة قد كفتهم العمل ومنحتهم فرصة الانتفاع.
فإذا افترضنا فرداً اغترف بإنائه من الماء المجتمع طبيعياً على وجه الأرض فقد مارس عملاً من أعمال الانتفاع والاستثمار في مفهوم النظرية كما مر بنا في مستهل البحث، وما دام من حق كل فرد أن ينتفع بالثروة التي تقدمها الطبيعة بين يدي الإنسان، فمن الطبيعي أن يسمح للفرد بحيازة الماء المكشوف على وجه الأرض من مصادره الطبيعية؛ لأنها عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار وليست عملاً من أعمال الاحتكار والقوة.
وإذا احتفظ الفرد بالماء الذي حازه كان له ذلك، ولا يجوز لآخر أن ينازعه فيه، أو ينتزعه منه وينتفع به؛ لأن النظرية ترى حيازة الماء وما إليه من الثروات المنقولة عملاً من أعمال الانتفاع، فما دامت الحيازة مستمرة فالانتفاع مستمر إذن من قبل الحائز، وما دام الحائز مواصلاً لانتفاعه بالثروة فلا مبرر لتقديم فرد آخر عليه في الانتفاع بها إذا أراد.
وهكذا يظل الفرد متمتعاً بحقه في الثروة المنقولة التي حازها، ما دامت الحيازة مستمرة حقيقة أو حكماً[42]، فإذا تنازل الفرد عن حيازته بإهمال المال والإعراض عنه، انقطع انتفاعه به، وسقط بسبب ذلك حقه في المال، وأصبح لأي فرد آخر الاستيلاء عليه والانتفاع به.
وهكذا يتضح أن حق الفرد في الماء الذي حازه من البحيرة أو الحجر الذي أخذه من الطريق العام لا يستند إلى تملكه لفرصة عامة ناجمة عن عمله، وإنما يقوم على أساس ممارسة الفرد للانتفاع بتلك الثروة الطبيعية عن طريق حيازته لها.
وفي هذا الضوء نستطيع أن نضيف إلى المبدأ المتقدم في النظرية القائل: (إن كل عامل يملك نتيجة عمله) مبدأ جديداً وهو أن ممارسة الفرد للانتفاع بثروة طبيعية يجعل له حقاً فيها ما دام مواصلاً لانتفاعه بتلك الثروة، ولما كانت الحيازة في مجال الثروات المنقولة عملاً من أعمال الانتفاع فيستوعبها هذا المبدأ، ويقيم على أساسها حقاً للفرد في الثروة التي حازها.
ح_ تعميم المبدأ النظري للحيازة
وهذا المبدأ لا ينطبق على الثروات المنقولة فحسب، بل ينطبق على المصادر الطبيعية أيضاً، إذا مارسها الفرد بعمل من أعمال الانتفاع، كما إذا زرع أرضاً عامرة بطبيعتها، فإن زراعته لها عمل من أعمال الانتفاع، فيكسب على أساس ذلك حقاً في الأرض يمنع الآخرين من مزاحمته وانتزاع الأرض منه، ما دام يواصل انتفاعه بها، ولكن ليس معنى هذا أن مجرد حيازة الأرض ۔ مثلاً ۔ تكفي لاكتساب هذا الحق فيه كحيازة الماء؛ لأن حيازة الأرض ليست من أعمال الانتفاع والاستثمار، وإنما ينتفع بالأرض العامرة عن طريق زراعتها مثلاً، فإذا باشر العامل الزراعة في أرض عامرة بطبيعتها وواصل هذا النوع من الانتفاع بها، لم يجز لآخر انتزاع الأرض منه ما دام العامل مستمراً في زراعتها؛ لأن الآخر ليس أولى بها ممن ينتفع بها فعلاً، وأما إذا ترك العامل زراعتها والانتفاع بها فلا يبقى له الحق في الاحتفاظ بها، ويجوز عندئذ لفرد آخر ممارستها في عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار.
ونلاحظ في حال ترك الفرد الانتفاع بالأرض الفرق بين المبدأين، فحق الفرد الذي يقوم على أساس مواصلة الانتفاع بثروة طبيعية يزول بمجرد ترك الفرد للانتفاع بالأرض وعدم مواصلته، بينما يظلّ الحق القائم على أساس تملك العامل للفرصة التي يخلقها ثابتاً، ما دامت الفرصة باقية وجهود العامل مجسّدة في الأرض ولو لم يكن يمارس الانتفاع بالأرض فعلاً.
تلخيص النتائج النظرية
يمكننا أن نستنتج الآن من دراسة النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج مبدأين أساسيين في هذه النظرية:
أحدهما: أن العامل الذي يمارس شيئاً من ثروات الطبيعة الخام يملك نتيجة عمله، وهي الفرصة العامة للانتفاع بتلك الثروة، ونتيجة لتملك العامل هذه الفرصة يكون له الحق في نفس المال تبعاً لما تفرضه ملكيته للفرصة التي أنتجها عمله ويرتبط حقه في المال بملكية هذه الفرصة، فإذا انعدمت وزالت الفرصة التي خلقها سقط حقه في المال.
والمبدأ الآخر: أن ممارسة الانتفاع بأي ثروة طبيعية تمنح الفرد الممارس حقاً يمنع الآخرين عن انتزاع الثروة منه ما دام يواصل استفادته منها، ويمارس أعمال الانتفاع والاستثمار؛ لأن غيره ليس أولى منه بالثروة التي يمارسها لتنتزع منه وتعطى للغير.
وعلى أساس المبدأ الأول تقوم الأحكام التي نظمت الحقوق في عمليات الإحياء والصيد، وعلى أساس المبدأ الثاني ترتكز أحكام الحيازة للثروات المنقولة التي وفّرت الطبيعة فرصة الانتفاع بها للإنسان.
فخلق فرصة جديدة في ثروة طبيعية والانتفاع المستمر بثروة توفرت فيها الفرصة طبيعياً هما المصدران الأساسيان للحق الخاص في الثروات الطبيعية.
والطابع المشترك لهذين المصدرين هو الصفة الاقتصادية، فإن كلاً من خلق فرصة جديدة أو الانتفاع بثروة على أساس الفرصة المتاحة طبيعياً يعتبر ذا صفة اقتصادية، وليس من أعمال القوة والاستئثار.
[1]. المدرسة القرآنية، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، ج13، ص 40 ۔ 41.
[2]. يونس: 49.
[3]. الأعراف: 34.
[4]. المدرسة القرآنية، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، ج 13، ص52 ۔ 53.
[5]. الأنعام: 72.
[6]. المائدة: 38.
[7]. المدرسة القرآنية، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، ج 13، ص 38.
[8]. الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، ج 12، ص 193 ۔ 197، طبعة دار التعارف للمطبوعات.
[9]. م. ن، ص 199.
[10]. انظر: تعارض الأدلة الشرعية، ص 319.
[11]. انظر: م. ن، ص 333 ۔ 334.
[12]. انظر: اقتصادنا، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، ص 373، طبعة دار التعارف للمطبوعات.
[13]. الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنة، ص 64 وما بعدها.
[14]. اقتصادنا، ص 684، طبعة دار التعارف للمطبوعات.
[15]. انظر: صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر،ج 12، ص 43، طبعة دار التعارف للمطبوعات.
[16]. انظر: اقتصادنا، ص 378.
[17]. انظر: اقتصادنا، ص 374.
[18]. انظر: اقتصادنا، ص 398 ۔ 399.
[19]. انظر: م. ن، ص 400.
[20]. انظر: اقتصادنا، ص 329.
[21]. آل عمران: 137.
[22]. اقتصادنا، ص 399.
[23]. انظر: مجلة فقه أهل البيت، العدد 16، ص 72 ۔ 74.
[24]. الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنة، ص 127، النقل مع الواسطة.
[25]. انظر: مجلة المنهاج، العدد 17، ص 185، حول منهج الشهيد الصدر(قده)، التسخيري.
[26]. م. ن، ص 184.
[27]. المدرسة القرآنية، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، ج 13، ص 39.
[28]. م. ن، ص 40.
[29]. الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، ج 12، ص 197 ۔ 199.
[30]. لمحة تمهيدية عن دستور الجمهورية الإسلامية، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، ج 12، ص 18.
[31]. انظر: اقتصادنا، ص 407 ۔ 524، طبعة دار التعارف.
[32]. اقتصادنا، ص 458.
[33]. نظراً لدقة الأبحاث الآتية لم نحاول اختصارها بل عرضناها كما هي من دون تصرف. اقتصادنا، ص 500 ۔ 524.
[34]. قواعد الأحكام، العلامة الحلي، ص 222، الطبعة الحجرية.
[35]. المسالك في شرح شرائع الإسلام، ج 12، ص 400، الشهيد الثاني علي بن أحمد العاملي، نشر مؤسسة المعارف الإسلامية.
[36]. قواعد الأحكام، العلامة الحلي، ص 152، الطبعة الحجرية.
[37]. المغني، ابن قدامة، ج 9، ص 382.
[38]. شرائع الإسلام، المحقق الحلي، ج 3، ص 203.
[39]. الكافي، ج 5، ص 140.
[40]. انظر: الوسائل، ج 12، ص 276، الباب 22 من عقد البيع وشروطه، ح 1.
[41]. يلاحظ هنا أنا لم نقارن بين حيازة الماء المباح وحيازة الأرض العامرة بطبيعتها، وإنما قارنّا بين حيازة الماء وزراعة الأرض العامرة؛ وذلك لأن حيازة الأرض ليست عملاً من أعمال الانتفاع والاستثمار ۔ كما مر سابقاً ۔ أما حيازة الماء فهي من أعمال الانتفاع ذات الصفة الاقتصادية، كزراعة الأرض العامرة بطبيعتها. الشهيد(قده)
[42]. نريد باستمرار الحيازة حكماً: الحالات التي تنقطع فيها الحيازة لسبب اضطراري، كالنسيان والضياع والاغتصاب ونحو ذلك، فإن الشريعة تعتبر الحيازة وممارسة الانتفاع مستمرة حكماً، ولذا تأمر بإرجاع المال الضائع أو المغتصب إلى حوزة صاحبه، ومردّ هذا الاعتبار في الحقيقة إلى التأكيد على العنصر الاختياري، وسلب الأثر عن حالات الاضطرار في مختلف مجالات التشريع. الشهيد(قده)