اقتصادنا في الألفية الثالثة

الدكتور موفق الربيعي ۔ لندن

صعوبة البحث

1 ۔ من الصعب تقويم (اقتصادنا) تقويماً موضوعياً بمعزل عن مشاعر الحب والتقدير والعرفان التي تملأ جوانح الباحث لصاحب الكتاب، خاصة عند أولئك الذين عاصروه وصاحبوه وغرفوا من بحره وشربوا من نبعه الصافي. هنا تختلط المشاعر مع التقويم الأكاديمي العلمي الموضوعي.

2 ۔ الصعوبة الثانية هي أن الباحث يشعر وكأنه يقف أمام عملاق من عمالقة التاريخ يتهيب عندما يريد أن يشير إلى ثغرة؛ لأنه يخشى أن يكون قد فاته جانب آخر لم يلتفت له يجيب على الإشكال الظاهري فيبقى في حيرة وتردد في التأشير على مواطن يراها جديرة بالتقويم.

مشكلة المصطلح

هل يصح أن نطلق على اقتصاد يعالج النواحي الاقتصادية في المجتمع الإسلامى مصطلح (اقتصادنا). لماذا لم يطلق صاحب (اقتصادنا) على كتابه (الاقتصاد الإسلامي) وأطلق عليه (اقتصادنا) بدلاً عن ذلك؟

هل يمكن الحديث عن: التكنولوجيا الإسلامية أو الفيزياء أو الكيمياء الإسلاميتين أو العلم الرقمي الإسلامي.

وإذا قورن بالمذاهب الاقتصادية الأخرى مثل اقتصاد آدم سميث وكارل ماركس سوف نلحظ أن تلك المذاهب مبنية على أسس تجريبية وإحصائية وبعضها على قواعد تطبيقية. وقد تطورت هذه المذاهب من خلال الممارسات العملية حتى أصبحت موجهة باتجاه تنمية وتطوير الأنظمة والمناهج المتبعة في تلك النظريات والمذاهب.

فعلى هذا الأساس فإن أكثر ما يمكن أن نتوقع مما يسمّى بـ(الاقتصاد الإسلامي) هو:

1 ۔ تحديد أهداف عريضة مقبولة ضمن المنظومات الإسلامية العامة.

2 ۔ تحليل لرؤى ومشاكل اقتصادية تعنى بشكل خاص بالمجتمعات الإسلامية.

فعلى أساس هذا الفهم في التعريف يكون الاقتصاد الإسلامي فرعاً صغيراً من نظريات التنمية والتطوير الاقتصادي في أي بلد، أي جزء من قوانين تحليل الربح والكلفة والتحويل العام وبقية فروع نظرية التنمية الوطنية.

وقد حاول الكثيرون إعطاء تعريف للاقتصاد الإسلامي ولم يوفقوا، ففي السبعينات ۔ مثلاً ۔ أعيت السبل مفكرين وإسلاميين في بنك التنمية الإسلامي، ثم بعد ذلك (المؤتمر الإسلامي في لندن) تبعها مؤتمر مكة في أكتوبر 1978 وما خرج عنه. مع أن كل ذلك جاء متأخراً على (اقتصادنا) فإنهم لم يوفقوا في وضع تعريف يحدد ما هو (الاقتصاد الإسلامي).

وبات (الاقتصاد الإسلامي) يتجه نحو تطوير السياسات والمؤسسات الاقتصادية التي ينجذب إليها المسلم الملتزم وأصبح (الاقتصاد الإسلامي) يحاول أن يسد حاجات هذه المجموعة من المسلمين الملتزمين. ولم يطرح نظرياً أو عملياً أي حل اقتصادي كامل وشامل ضمن أطروحة إسلامية عامة، أي كجزء من كل في منظومة المناهج الإسلامية. ورغم هذه الجهود الجبارة بقي الاقتصاد الإسلامي محدداً في قضية واحدة: ألا وهي تجنب الربا في المعاملات الشخصية والمؤسسات. ولم يطرح الاقتصاد الإسلامي كبديل حقيقي ودائمي للاقتصاد المعاصر.

استمر هذا الوضع حتى اكتشف (العالم الإسلامي) أو أعاد اكتشاف (اقتصادنا) بعد عشرين عاماً من كتابته.

اقتصادنا – الأطروحة

لا يخفى أن (اقتصادنا) جاء رد فعل على تصاعد المد الشيوعي في الشرق العربي ولكن الكتاب ذهب إلى أكثر من ذلك، حيث تجاوز رد الفعل من أجل تقديم البديل. فلم يقل اقتصادنا (لا إله) فحسب ولكنه أردفها بـ(إلا الله) وهذا هو ديدن معظم الأعمال الجبارة في التاريخ، فهي ابنة الظروف ولكنها تتجاوز الظرف الزماني والمكاني لتقدم البديل االأكثر تطوراً.

يمكن تقويم الأطروحة على ضوء قضيتين:

1 ۔ الزمان الذي كتبت به الأطروحة.

2 ۔ التجارب العملية التي استفدنا منها منذ كتابة الأطروحة.

هنالك عدة أشياء استحدثت منذ ظهور (اقتصادنا) إلى الوجود، بعضها إثر على النتائج التي توصّل إليها (اقتصادنا) بشكل أو آخر من أمثلتها:

۔ القطبية الآحادية وتأثيراتها على الاقتصاد العالمي، وسيطرة التنافس الاقتصادي البحت.

۔ غياب التنافس الأيديولوجي.

۔ انتشار ظاهرة (شركات متعددة الجنسيات).

۔ التضخم الاقتصادي وتباطؤ النمو سيطر على الاقتصاد الغربي في الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات.

لقد مثَّل ثلث الكتاب تقريباً نقضاً ونقداً للماركسية والدياليكتيك الذي لم يعد له أثر ولا عين. بينما يعطى (اقتصادنا) اهتماماً أقل مما ينبغي للرأسمالية مما يعادل  من الكتاب. ويمكن تفسير ذلك بأن السيد الصدر كان قلقاً من تحدي الماركسية ونظريتها في ذلك الوقت؛ لأن الاشتراكية كانت قد رسخت أقدامها في عراق الستينات. فالخطر المحسوس هو من الشيوعية، أما الديمقراطية الليبرالية وما يتبعها من قواعد اقتصاد السوق فلم تمثل خطراً آنياً في العراق حينئذ وإنما كانت خطراً.

الاقتصاد الإسلامي في (اقتصادنا)

يلخّص (اقتصادنا) الاقتصاد الإسلامي بـ:

1 ۔ الاقتصاد المختلط شخصي، عام. دولة وتعاوني.

2 ۔ الحرية الاقتصادية للأفراد محددة بـ:

أ ۔ المسموح المعنوي للأفراد.

ب ۔ الممنوع الاجتماعي.

3 ۔ تحقيق العدالة الاجتماعية أو التوازن الاجتماعي.

الفكرة الأساسية التي يتبناها (اقتصادنا) هي أن تطبيق الاقتصاد الإسلامي لا يمكن لوحده، إنما ينبغي أن يكون ضمن المنظومة الإسلامية الكاملة. فمن هذا الأساس لا ينبغي تسمية (اقتصادنا) بالمرادف الشائع الاستعمال (الاقتصاد الإسلامي) وينبغي تسمية (الاقتصاد ضمن الإسلام).

ومن أجل تطبيق (الاقتصاد ضمن الإسلام) في مجتمع ما لابد من تحقيق ثلاثة شروط:

1 ۔ نظام فكري إيماني إسلامي مقبول بصورة عامة لدى أفراد ذلك المجتمع.

2 ۔ تقييم الأشياء والموضوعات في ذلك المجتمع تكون على أساس الأولوية للإسلام، أي أن المجتمع يعتمد في تقييمه للأشياء بشكل تلقائي على القيم والتعاليم الإسلامية. أي أن المعيار الأساسي في المجتمع هو معيار إسلامي.

3 ۔ ردود الفعل العاطفية والنفسية للناس تكون إسلامية. هذا هو الفرق الجوهري بين ما طرحه (اقتصادنا) في أطروحة (الاقتصاد ضمن الإسلام)، أي ضمن منظومة الأنظمة الإسلامية الأخرى وما طرحه الآخرون من مفكرين إسلاميين بما فيهم المتأخرين.

و(اقتصادنا) يقول: أسلمة المجتمع أولاً ثم تطبيق الاقتصاد ضمن المنظومة الإسلامية الكلية. ومن خلال ذلك نستطيع القول: إن السيد الصدر كان يدعو إلى الأسلمة الكلية للمجتمع (فكراً وسلوكاً)، من خلال مراجعة اجتماعية وسياسية كلية بعكس ما طرحه الآخرون في طريقة سد الثغرات في اقتصاديات الدول غير المؤسلمة.

و(اقتصادنا) يؤكد الصعوبات الجمة التي يواجهها أي باحث يتبنى أي حل جزئي انتقائي، ويرفض تشكيل وتطبيق أي خطط أو مناهج اقتصادية تسبق أسلمة المجتمع. فهو يدعو إلى بناء الأسس الفكرية والسلوكية للمجتمع على أساس الإسلام ثم إلى بناء (اقتصاد ضمن الإسلام).

ويرفض اقتصادنا أي منهج ترقيعي لسد الثغرات الاقتصادية إسلامياً في اقتصاد دولة غير مؤسلمة؛ لأن هذه الدول غير المؤسلمة اقتصادياتها مبنية على أساس النظام الربوي الذي هو أساس الأسس في الاقتصاد والعمود الفقري الذي يرتكز عليه الاقتصاد الحديث.

اقتصادنا يرفض تحويل الاقتصاد الإسلامي إلى علم. ولكن يذهب إلى أكثر من ذلك ليحدد العلاقة بين الاقتصاد في الإسلام والعلم من خلال طرح الفكرة التالية: يحدد المجتمع الإسلامي أولاً الأهداف التي يريد التوصل إليها اقتصادياً ثم بعد ذلك يتم تشكيل الهياكل والخطط والسياسيات الاقتصادية التي توصله إلى تلك الأهداف.

ويمكن أن تستعمل القواعد العلمية الاقتصادية في هذه الخطط والسياسيات، وتساعد على تعيين وتقرير الحقائق الاقتصادية، وتساعد في فهم الفرضيات والاحتمالات في الممارسات الاقتصادية.

وهذه القواعد العلمية الاقتصادية التي يستعملها (الاقتصاد ضمن الإسلام) يمكن أن تكون ماركسية أو رأسمالية ما دامت أسس علمية بحتة ليس لها مضامين فكرية. أي أن (اقتصادنا) لا يرفض استخدام القوانين الاقتصادية العامة التي يمكن تطبيقها بغض النظر عن الأبعاد الثقافية والاجتماعية والدينية لأي مجتمع.

اقتصادنا والرأسمالية

يختصر اقتصادنا الرأسمالية ويرجعها إلى دعائمها الأساسية الثلاثة:

1 ۔ حق التملك الخاص

2 ۔ الحق في التصرف في الملك الخاص

3 ۔ الحق في الإنفاق في الملك الخاص

وهذه المسلمات الثلاثة توضع مقابل وتنتج عنها ثلاثة آخر:

1 ۔ التنافس

2 ۔ عدم العدالة

3 ۔ الشعور بعدم الأمان الاجتماعي

وبعد ذلك يتعامل (اقتصادنا) مع القوتين اللتين تدفعان الاقتصاد الرأسمالي وتحركانه وهما:

1 ۔ موضوعة الاستعمالات الشخصية.

2 ۔ قوانين العرض والطلب.

ويتوقف (اقتصادنا) عند هذا الحد.

كان يمكن لاقتصادنا أن يعطي وقتاً ومجالاً أوسع من ذلك ويطوّر أطروحته لتتناول الأسس الأخرى للرأسمالية وخاصة التي وضعها أعلام الرأسمالية المتأخرين من أمثال كينز وفريدمان وفون هايك ومايزز في كلا الجناحين الرأسمالية المحافظة والرأسمالية الليبرالية (المتحرره)، أي الاقتصاد الحر المحافظ والاقتصاد الحر المعاصر.

النقطة الأخرى هي ما يتعلق بالتصدي للرأسمالية. كان يمكن لاقتصادنا أن يركّز في نقده على اقتصاد السوق وليس الرأسمالية كما عرفت تاريخياً.

(اقتصادنا) اتبع طريقة تاريخية في نقده وتصديه للرأسمالية فقد تتبع الخطوات التاريخية للرأسمالية واصفاً وناقداً ومهدّماً الأسس الفكرية للرأسمالية. النقد والتجريح كان أقوى في اقتصادنا عندما تعرض إلى الأفكار الرأسمالية عند جهابذة الرأسمالية ومفكريها في القرن التاسع عشر وتناول بالنقد أفكارهم الليبرالية. ولكن لم يتطرق اقتصادنا إلى الأفكار المعاصرة الحديثة لاقتصاد السوق.

هذه الثغرة كان يمكن أن تمر بدون ملاحظة في الستينات عندما كان أثر الجهابذة التاريخيين للرأسمالية لا زال محسوساً، ولكن منذ الستينات ولحد الآن تعرض الفكر الاقتصادي في الغرب إلى تطورات وتحولات هائلة من أمثال ظهور التفكير النقدي[1] والاقتصاد التقليدي المتجدد،[2] وكذلك عالم جديد باسم نظرية التطور والنمو الاقتصادي، حتى أن مفكرين من أمثال كينز ومارشال وسكومبتر والذين كانوا هم من المؤسسين والرواد في تطوير الأسس الرأسمالية في القرن العشرين أصبحت أعمالهم الآن عرضة للنقد والتجريح والتعديل.

الثروة في (اقتصادنا)

اقتصادنا يقول: إن الرأسمالية تتبنى فكرة أن مصدر الثروة محدودة وهي موزعة بين مصالح متضاربة ومتنافسة. ومن هذه ينتج قوانين العرض والطلب وآليات التسعير والتوفير والاستثمار وغيرها.

وحسب (اقتصادنا) الماركسية هي أن العلاقات الاقتصادية هي نتيجة صراع وتفاعل: الإنتاج والتوزيع والعلاقة الجدلية بينهما. وإن كل الثروات ومصادرها تملك من قبل المجتمع ككل وذلك من خلال جهاز الدولة المركزي. وعلى هذا الأساس فيصبح الاقتصاد عملية رياضية وأرقام ليس إلا. وهذه العملية الرياضية البحتة تتعلق بنظرية وممارسة التخطيط المركزي للحكومة.

اقتصادنا يتبنى أن الأساس الاول في (الاقتصاد ضمن الإسلام) هو أن الله(عز) خلق الثروة بكمية تكفي للنوع الإنساني ولكن الإنسان أساء استعمالها و(الاقتصاد ضمن الإسلام) يحاول حل المعضلة من خلال:

1 ۔ توزيع الثروة.

2 ۔ والقضاء على سوء استخدام الثروة.

وكلا هذين الهدفين هو عبادة.

اقتصادنا يحاول أن يعيد تعريف مبدأ الفائدة أو الربح ليقول: إن الربح التجاري ۔ أي الناتج عن المرابحة ۔ مسموح به ويشجع الإسلام عليه. ويمكن أن ننظر له وكأنه نقيض إيجابي لنظرية فائض القيمة عند ماركس.

في المفهوم الرأسمالي: الحق طبيعي للإنسان في الحصول على أقصى ربح. ولكن اقتصادنا يتبنى فكرة أن الربح وتحصيل الثروة ينبغي أن يكون من خلال العمل والجهد المبذول. أما التداول أو المرابحة بصرف المال وجعل الفائدة والربح من خلال التبادل المالي الصرف غير مسموح به؛ لأنه تعامل ربوي.

وعلى هذا الأساس طرح (اقتصادنا) مفاهيم اقتصادية إسلامية: المشاركة والمرابحة والمضاربة وهي معاملات يشجع عليها داخل (الاقتصاد ضمن الإسلام).

فقد وضع (اقتصادنا) نظرية بديلة لنظرية الشرق والغرب (الماركسية والرأسمالية) اللتين تعتمدان على نظرية واحدة وهي (نظام القيمة).

طرح (اقتصادنا) الرأسمالية والماركسية ووضع خطوط فاصلة وعازلة وحتمية بينهما، لعل ذلك كان مبرراً من أجل تقريب المفهومين إلى أذهان القراء من خلال طرح الأشياء وأضدادها.

ولعل (اقتصادنا) أعطى القارئ حينئذ جزءً، وليس كل حقيقة وواقع الصورة في الغرب الرأسمالي والشرق الماركسي سابقاً.

لقد بدأت حركة جديدة تنمو في الدول التي كان يحكمها اقتصاد السوق، وهذه الحركة نمت بشكل مضطرد وأصبحت فاعلة في الساحة السياسية والاقتصادية وهي الحركة (الديمقراطية الاجتماعية) والتي خففت من غلواء الرأسمالية ولم تعد الرأسمالية تطرح ولا تطبّق بشكلها الكامل.

وتأسس على ضوء مفهوم الديمقراطية الاجتماعية دولة الرعاية الاجتماعية[3] وتطور القطاع العام بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، وكذلك ازدادت حالات إشراف الدولة ووضع القوانين لتنظيم حركة السوق والاقتصاد.

كل ذلك قلل من أهمية الرأسمالية باعتبارها حالة البعد الواحد في الاقتصاد الحر في المجتمعات الغربية، حتى أصبح الاقتصاد الإسلامي ۔ إذا استثنينا منه الجانب العبادي ۔ يماثل في كثير من جوانبه اقتصاد الحركات الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا الغربية في حقبة الستينات والسبعينات.

ومن جانب آخر فإن مركزية الاقتصاد والطبيعة الشمولية للنظام الماركسي كان لهما الأثر البالغ على تطبيقات النظرية وممارستها على أرض الواقع. وهذه التطبيقات العملية للنظرية الماركسية والصعوبات التي واجهها التطبيق أثّر بشكل أو آخر على فهم الآخرين للنظرية، وكان ينبغي أن يأخذ اقتصادنا هذا التحوير بنظر الاعتبار.

كان يمكن لاقتصادنا أن يستفيد كثيراً لو تعرض بشكل من الأشكال إلى التجربة العملية للدول الرأسمالية أو الماركسية.

ومن جهة أخرى يمكن أن نقول إن أي متتبع اقتصادي أو قارئ واع كان يمكن أن يستفيد كثيراً من (اقتصادنا) لو اختبر نظريته على الواقع العملي، أي نظرية (الاقتصاد ضمن الإسلام). فلو تعرض (اقتصادنا) نفسه للاختبار العملي من خلال التطبيق الفعلي في مجتمع إسلامي لتمكن السيد الصدر أن يطور النظريات والنتائج على ضوء تجربة الواقع.

فيمكن أن تقول إن (اقتصادنا) كان بحثاً نظرياً حلّق في علوه في عنان السماء، ولكنه كان يحتاج إلى محاكاة الواقع العملي سواء في دحضه النظري للرأسمالية أو تصدّيه للأسس النظرية للماركسية أو حتى في طرحه البديل الإسلامي الموسوم بالمذهب الاقتصادي الإسلامي.

يبقى السؤال: هل كان اقتصادنا ينتهي إلى نتائج مغايرة لما هي عليه الآن؟ لا أعتقد أن اقتصادنا كان يمكن أن يخرج بنتائج مغايرة عما هو عليه ولكن كان يمكن أن تكون هذه النتائج مبنية على أسس عملية تطبيقية وأدلة وتجارب واقعية سواء بالنسبة إلى الرأسمالية أو الماركسية أو حتى نظرية في (الاقتصاد في الإسلام).

وأخيراً فقد انتهى اقتصادنا بعدد من الأسئلة بقدر ما أجاب عليه من أسئلة:

مثال: التطبيقات والخطط العملية للاقتصاد الإسلامي تركت بدون توضيح ولم تطرح رؤية واضحة عن كيفية تشكيل وإدارة المؤسسات الاقتصادية للدولة في حالة قيامها، ولا كيفية عمل هذه المؤسسات في حالة قيام دولة تقوم على معاني وأسس فكرية وثقافية إسلامية.

من الصعب إعطاء تصور كامل وتفصيلي عن طريقة عمل هذه المؤسسات ووضع الأنظمة الاقتصادية لها قبل إنشاء عدد جيد منها ومراقبة عملها وتقييم أدائها وفعاليتها مع التزامها بالمثل والقيم الإسلامية كما جاءت في (اقتصادنا). وكان يمكن للسيد الصدر أن يستفيد من الملاحظات والتجارب العملية والأمثلة الحية التي ترافق التجربة، وكان يمكن أن يعيد كتابة (اقتصادنا) مدعماً بالأمثلة العملية والتجارب التطبيقية ولجاء اقتصادنا أقوى وأمتن مما هو عليه الآن.

كل ما قلنا بصدد (الثغرات) في (اقتصادنا) هومن وحي(النظر إلى الأشياء من الخلف) أي بمعنى آخر: رؤية الماضي بعين الحاضر مع الاستفادة من الزمن واستحقاقاته.

ماذا لو جاء السيد الصدر وأعاد كتابة (اقتصادنا) في ضوء أحداث العقدين الماضيين وبالخصوص ماذا ستكون الطبعة المنقّحة الأخيرة من اقتصادنا في سنة 2000 خاصة بعد عشرين عاماً من ظهور المجتمع الإسلامي في إيران أو تأسيس وتطوير عدد من المؤسسات الاقتصادية الإسلامية في عدة أقطار مسلمة وغير مسلمة، أو انهيار النظام الماركسي والسيطرة الكاملة لاقتصاد السوق وفلسفته على العالم، بما في ذلك الدول التي بقيت اسمياً ماركسية مثل الصين وفيتنام.

لا أستطيع أن أدّعي أنني أعرف كيف كان يمكن أن تكون الطبعة المنقّحة لسنة 2000 على يد السيد الصدر، ولكن إذا حاولنا استمزاج منهجه في البحث والتحليل استطعنا أن نخرج ببعض الاستنتاجات:

فمثلاً يؤكد اقتصادنا أنه لا يمكن إقامة مؤسسات اقتصادية إسلامية ناجحة إلا إذا كان المجتمع التي تقوم به مهيئاً أو في طريقه إلى الالتزام بالقيم والمثل الإسلامية ثقافياً وفكرياً.

إذا أسسنا على ذلك فيمكن أن نقول: إن اقتصادنا سوف لا يوافق على فرض المؤسسات الاقتصادية الإسلامية على مجتمع ليس فيه المقبولية المجتمعية للإسلام ثقافياً وفكرياً، أي أن النشاطات الاقتصادية ومناهجها في (الاقتصاد في الإسلام) تتطور وتنمو بموازاة وبشكل تدريجي وعضوي مع الأسلمة المتدرجة والكلية للمجتمع.

وكان يمكن لصاحب (اقتصادنا) أن ينظر بعين الشك والريبة لإقامة مؤسسات اقتصادية إسلامية مثل المصارف الإسلامية في مجتمعات غير مؤسلمة أو مجتمعات اقتصادها مبني على أسس غير إسلامية في التوزيع والإنتاج. ونتيجة ذلك يصبح الاقتصاد في الإسلام شأناً سياسياً وجزءً لا يتجزأ من شؤون السلطة السياسية والحكم القائم.

في التحليل النهائي يمكن القول إن الاقتصاد الموسوم بالإسلامي في عصرنا الحاضر يمكن إقامته من خلال ثلاثة طرق:

1 ۔ من خلال إعادة أسلمة المجتمع بواسطة برنامج سياسي إسلامي. وفي هذه الحالة سوف يكون الاقتصاد في الإسلام ناتجاً طبيعياً وإفرازاً تكوينياً لعملية أسلمة المجتمع. وهذا هو الطريق الذي اتبعته الجمهورية الإسلامية في إيران وإلى حد ما في السودان وإلى حد أقل بكثير في الباكستان.

2 ۔ يمكن إقامة الاقتصاد الإسلامي بواسطة المحاولة والخطأ والدخول الحذر للمؤسسات الإسلامية في اقتصاديات دول ذات اقتصاد غربي. وهذا الطريق اتبعته بعض الدول الخليجية وماليزيا ومصر. وفي هذه الدول المؤسسات الاقتصادية الإسلامية ومؤسسات التكافل لا يسمح لها بالعمل فقط، وإنما تعطي أفضلية من قبل الدولة وتوفّر لها تسهيلات إيجابية على حساب غيرها، بينما يترك المجتمع يختار أي مجموعة من المؤسسات يريد أن يدعمها أو يتعامل معها.

3 ۔ الطريق الأخير هو استعمال طرق التعامل المالي الإسلامية بين المسلمين الملتزمين إسلامياً أو القريبين منهم. وهذه المؤسسات الاقتصادية الناتجة عن هذا التفاعل والتعامل الحر بين أناس قد قرروا أن يتعاملوا بينهم بطرق إسلامية صحيحة وبمحض إرادتهم. ومن جملة فوائد هذا الطريق هو دفعه الأفراد والمجموعات إلى مزيد من الأسلمة وهذا الأسلوب منتشر بين الجاليات المسلمة في الغرب.

(اقتصادنا) بعد أربعين عاماً

(اقتصادنا) بدون شك أو ريب كان (الدستور) الذي اهتدى به الإسلاميون حينئذ. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تمكّن (اقتصادنا) أن يخترق الزمن ويحضر فاعلاً وحيوياً في الألفية الثالثة؟

والجواب على هذا التساؤل معقّد وليس بالأمر الهيّن. لا شك أن اقتصادنا كان (الكتاب) كان كتاب زمانه وتمكّن من دحض الماركسية حينئذ وطرح البديل وأعطى شحنة عمل ودليل، وأصبح دستوراً يهتدي به الإسلاميون حينئذ وبوصلة يتجه لها العاملون. ولا شك أنه كان موجهاً لقراء ذلك الزمان بهمومهم وآمالهم وطموحاتهم، وناقش بطريقة عملاقة شؤون تنتمي إلى حقبة النصف الثاني من هذا القرن.

لا شك أن قسماً كبيراً من (اقتصادنا) لا زال حياً وصحيحاً ورائداً في مجاله وبنفس الوقت هناك فصول في (اقتصادنا) بحاجة إلى إعادة كتابة وأخرى إلى توسعة وأخرى إلى شرح وأخرى إلى تحديث وأخرى إلى تعليق وأخرى إلى تعديل. أربعون عاماً مرت على اقتصادنا أوصلته إلى مرتبة الكتب العملاقة ولكنها في الوقت نفسه أظهرت بعض الثغرات والمحدودية في بعض الجوانب، والتي هي بحاجة إلى مراجعة وتغيير أو تحديث.

خلال الأربعون عاماً الماضية حدثت تغييرات سياسية واقتصادية ضخمة في العالم والعالم الإسلامي، ومن المجحف حقاً القول: إن هذه التغييرات ليس لها أثر على الاستنتاجات التي توصل لها (اقتصادنا).

وهناك ثلاثة مساحات تحتاج إلى مراجعة وإعادة بحث وتحديث:

يظهر (اقتصادنا) بشكل مباشر أو غير مباشر قلقه من انتشار آثار الماركسية. ولو أعيد كتابة (اقتصادنا) الآن لما استحق أن يضع ولو فقرة صغيرة تعالج الماركسية. بينما حازت الماركسية على أكثر من ثلث الكتاب بوصفه الحالي؛ لأن اقتصادنا كان موجهاً إلى قراء من نوع آخر وحقبة أخرى؛ لأن تحدّي القيم والمبادئ الإسلامية في عصرنا الحاضر لم يأت من الماركسية وإنما جاء من مصادر أخرى.

إن صمود باع الغرب في العالم وسيادة نظام السوق، فرض مجموعة جديدة من التحديات للإسلام وقيمة في داخل وخارج العالم الإسلامي. أضف إلى ذلك التطور التقني المتسارع وقوة وأهمية الشركات متعددة الجنسيات وكونها العصب الحيوي للاقتصاد العالمي والعولمة وآثارها السلبية والإيجابية على العالم والعالم الإسلامي بشكل خاص، وكذلك تطور ونمو الرأسمالية اليابانية والتي هي ليست غربية ۔ في منظومتها القيمية والثقافية ۔ في الشرق الأدنى وجنوب شرق آسيا. وكذلك انتشار أجهزة وأنظمة الاتصالات والمعلومات واختراع الكومبيوتر، كل ذلك وغيره لم يكن معروفاً في الستينات عندما ولد (اقتصادنا). كيف يواجه الإسلام هذه التحديات وهذه القوى الجديدة خاصة في ظرف غابت فيه القطبية وانفرد الغرب الرأسمالي بعد أن استسلم الشرق الماركسي بدون شروط.

(اقتصادنا) ينبغي أن يراجع وسوف لا يستطيع أي شخص مراجعته وتحديثه إلا شخصية عبقرية مثل السيد الصدر.

(اقتصادنا) ينبغي أن يراجع ليصبح بإمكانه أن يتعاطى مع هذه التطورات الهائلة ويعايشها مع حاجات العالم الإسلامي وفهم الإسلام من منظور الألفية الثالثة.

[1]. Monetarist.

[2]. Economics Neoclassical.

[3]. Wellfare State.