مراجعة مبدئية لنظرية الشهيد محمدباقر الصدر
عبد اللطيف الحرز
طالب في الحوزة العلمية-قم
علم التفسير من العلوم القديمة التي انشغل المسلمون بها[1]، وجاء مصطلح (التفسير) كما هو معروف من (الكشف)[2]. فآلية التفسير غرضها كشف الغموض عن النص، لذا كلما ازداد النص غموضاً وإبهاماً ازدادت الحاجة إلى التفسير، وعليه فالتفسير هو وليد الحاجة والضرورة.
ولم تكن مكانة النص في الإسلام نابعة من كونه (النص / القرآن) المعجزة المثبتة لصدق الرسول الجديد، وبالتالي الانصياع بالإيمان لنبوته وتعاليمه العبادية، بل لأن هذا النص ۔ أيضاً ۔ يستوعب جميع نواحي الحياة، ويقنّن أن لا حركة للكائن البشري ما لم تستند في شرعيتها وصيغتها التنظيمية من كليات النص (حتى قال البعض إن الحضارة الإسلامية حضارة نص). ويواكب النص عمر الإنسانية إلى آخر يوم لها[3]. من هنا أعطت الحضارة الإسلامية للإنسان لقب العبودية للإله الواحد والتحرر من عبودية المخلوق، الأمر الذي يمكن ترجمته إلى (المسؤولية) لكن علماء الإسلام اصطلحوا عليه بـ(التكليف).
والتكليف هو (الكلفة) أي التعب والمشقة[4]. فإنسان الحضارة الجديدة إنسان حركي يحاول كشف أسرار الكون والطبيعة والنفس وعلاقة كل واحد منها بالآخر وعلاقتهما مع الإنسان ثم ما مدى علاقتها بربها وخالقها؛ لأن إنسان هذه الحضارة هو داعية للتغيير (عبر مفهوم خلافة الإنسان ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)[5]. لذا ما انفك الإنسان ليلاً ونهاراً عن (التكليف) من خلال حركته نحو الكمال وسيطرته على الطبيعة وإعمار الأرض وتعميق نظرته إلى الكون مستلهماً هذه الحرية من معطيات النص.
لقد كان النص واضحاً جلياً في زمن الرسالة بسبب وجود النبي(ص) لا بسبب الوضوح الذاتي له ۔ كما يقول البعض أو يتوهمه ۔ فمن غير المستوعب لدى المسلمين الأوائل أن يتفهموا مشكلتنا مع النص اليوم. لكن مع ذلك كانت عملية (التفسير) تجري بشكل مصغّر ومبسّط من خلال مراجعة البعض لصاحب الرسالة مستفهماً عن بعض آيات القرآن. لكننا مع هذا لا نستطيع ۔ وكما يفعل الكثيرون ۔ أن نقطع بسهولة أن هذه العملية المبسّطة هي بالذات ما نريده من معنى التفسير، إذ بالإمكان تحليل مسألة رجوع هؤلاء إلى الرسول(ص) لا على أساس غموض النص نفسه بل من باب أن كل ثورة (أرضية / سماوية) عندما تأتي لتزيل نظاماً من الأنظمة وتحلّ بدله سلطة ما (ثقافية / سياسية) فإنها تقوم بطرح أبعاد أخرى للمصطلحات واللغة التي كانت مبسوطة بفعل النظام السابق، فتتغير المصطلحات واللغة وحركة الإنسان وكيفية صنع الحياة والتعامل معها وإعطاء نظرة جديدة للكون.. كل ذلك لكي تزيل الثورة الجديدة الصورة القديمة التي كانت تعطيها الأنظمة السابقة.. ومن هنا فمن الطبيعي أن يستخدم القرآن ألفاظاً وتركيبات جديدة أو إعطاء مداليل خاصة لبعض المصطلحات والمنظومات بعدما كانت عامة ۔ وبالعكس ۔ أو كانت لها ميادين وحقول مختلفة.. لهذا يستفسر المسلم هل أراد القرآن من هذه الكلمة أو هذه المفردة ذات المعنى المشهور (السابق على مجيء الحضارة الإسلامية) أم أن اللفظ اكتسب معنى آخر؟.. وعليه فلن تكون هذه الظاهرة (مراجعة البعض للنبي(ص)) مصداقاً لعملية التفسير كما هو الرأي المشهور الآن[6].
وبينما كان تكليف المسلم ينصبّ على مسألة تطبيق النص على الواقع، وجعل واقعه متفاعلاً داخل التنظيمات التي يعطيها النص ۔ حيث كان المسلم يأخذ هذه المعطيات من النص مباشرة بلا كلفة تذكر ۔ أصبح المكلف المعاصر مبتلى بتكليفين ومشقّتين تزاحم أولاهما الثانية وقد تضادها في بعض الأحيان، الأولى مشقة تفسير وفهم النص والثانية تطبيق النص على الواقع ومحاولة تسيير الواقع وفق النص.
وبينما كان النص واضحاً، أصبح الآن وبالتدريج يزداد غموضاً.. وبينما كان المكلف يرجع إلى النص مباشرة، باتت هناك عدة وسائط بينه وبين النص. ولا نريد هنا بيان أسباب الغموض وكيف تولدت الوسائط[7].. لكن نجزم أن القرآن يحتوي على معان ومفاهيم مؤطرة بإطار اللغة، ومهما قيل عنه فإنه يبقى نصاً أدبياً أيضاً. وهذا النص الأدبي يعود إلى تراكيب لغوية ونحن في حركة مستمرة في الابتعاد عنه؛ لأن لكل عصر أدبه ولغته الخاصة به، إضافة إلى اختلاط المسلمين بغيرهم ومطالعتهم لنصوص ومركبات أخرى تنتمي لذلك (الغير) عن طريق الثقافات التي وفدت على المسلمين أو التي وفد المسلمون عليها.. الأمر الذي عمّق الإحساس بضرورة وجود نظرية في التفسير وضرورة اتخاذ موقف محدّد من آليات فهم النص.
وتزداد المسألة صعوبة، فبعدما كانت آلية التفسير تعتمد الروايات الناقلة عن النبي(ص) وأتباعه إلى جانب مراجعة المفردات اللغوية، ظهرت إشكاليات السند وابتعاد الرواية عن الرسول(ص)، فجاءت حركة العرفان والتصوف لتصوّر أن حروف القرآن (مرايا) وانعكاسات لوجودات مستقلة، فكل حرف عبارة عن حقيقة معينة (كأن تكون باء البسملة بداية الكون والخلق) وليس مجرد دلالة لغوية[8]. ففقدت آلية الاعتماد على اللغة مكانتها على يد هذا الاتجاه، خصوصاً وأنه لا يستخلص فهم النص عن طريق قراءته بواسطة اللغة، بل يعتمد على ذوق العارف وكشوفاته. فيما قاد دخول الفلسفة إلى الوسط الإسلامي إلى عرض قوالب جاهزة يُفرغ على أساسها النص القرآني والروائي معاً، وبذلك فقدت آلية الاستناد إلى الأخبار مصداقيتها أيضاً. الأمر الذي أدّى إلى التضخم والخروج ببعض النتائج المخالفة لبديهيات الحضارة الإسلامية، كالقول بعدم قدرة الإنسان على الفهم إطلاقاً ما لم يكن من أصحاب هذه المدرسة (قول العرفاء والمتصوفة). أو أن القرآن مجرد أمثال ۔ على نقيض قول العرفاء ۔ للجماهير فلا يحتوي على الحقيقة التي تعطيها الفلسفة فقط! ۔ كما قال الفارابي ۔ الأمر الذي ولّد ردّة فعل أدت إلى عودة هائجة في الاعتماد والتمسك بحرفية النصوص اتكالاً على قواميس اللغة والارتماء بأحضان المرويات والأخبار، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ۔ ومن أجل القضاء ۔ على رأس الفتنة وعلل المروق أن شهرت فتاوى التكفير التي وجّهت للعرفاء والمتصوفة بل والفلاسفة أيضاً، أو إعلان البراءة منهم تحت عنوان (وجدت كل تميمة لا تنفع)[9]!
فإذا ما دعت الحاجة إلى مراجعة أمر خارج النص من أجل فهمه حينما تعجز معاجم اللغة وقواميسها وموسوعات الأخبار من ملء الفراغ، كان الشعار هو <وَ الرّٰاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا>[10] للحيلولة دون حدوث (ردّة) إلى الفلسفة أو العرفان أو ما إلى ذلك، الأمر الذي أدى إلى تحجير النص وتقييده بقيود أثقلته عن التواصل مع الإنسان وجعلته ينظر إلى القرآن على أنه مقدس يجب احترامه وحفظه فقط.
وعندما تعاقبت الأيام ظل التفسير عبارة عن عملية استنباطية تنطلق من النص ولأجل النص! الأمر الذي أدى إلى ظهور حركتين في مسألة النص، تمثلت الأولى في الدفاع عن وضوح النص القرآني لتحريره من أثقال التفسيرات المختلفة، إذ القرآن (نور وهدى) فلا يحتاج إلى شيء آخر ينيره ويهدي إليه (فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدي بهداية سواه وكيف يتبين ما هو تبيان كل شيء دون نفسه!)[11]
فيما تمثلت الحركة الثانية بالدعوة للرجوع إلى قوالب العرفاء أو الفلاسفة أو منجزات العلم الحديث لكي يتاح بفضل ذلك إعادة إطلاقية النص القرآني حتى يصل إلى مجالات أرحب، الأمر الذي يتوافق مع خلوده.
وفي الحقيقة إن كلا الحركتين لم تخلوا من تعسّف، فالدعوة الأولى مصادرة على المطلوب والمدّعى وتقفز على حل البحث، إذ من الذي لا يقول أن القرآن (نور وهدى)، لكن المشكلة هل هذه النورية والهداية في معانيه المقتنصة أم هي في النص ذاته؟ هذا بالإضافة إلى أن أصحاب هذه الدعوة لم يكونوا أوفياء لهذه الدعوة إذ اعتمدوا على آليات أخرى![12]
أما الحركة أو الاتجاه الثاني (الداعي إلى اعتماد آليات خارج النص) فهي وإن أصابت بعض الحقيقة لأن من مسلّمات الحضارة الإسلامية هو الاهتمام بالنفس الإنسانية (وهذا مدخل إلى العرفان)[13] والدعوة إلى العقل (وهذا مدخل إلى الفلسفة) وأن كل ما في الكون دلائل على معارف الدين الإسلامي وحقانيتها (وهذا مدخل إلى الطبيعة والعلم)، لكن تبقى هذه الحركة وهذا الاتجاه مجرد دعوة غير محددة وغير مؤطرة بشيء، إن مجرد الاعتراف بهذه البديهيات العامة لا يبرّر جعل كتب التفسير موسوعات في الفلسفة أو التصوف أو العلوم الحديثة! والحقيقة أننا يجب أن نضع في حساباتنا ونحن نواجه النص القرآني أنه نص ينتمي إلى لغة معينة، وأن الذي أتى به أدرى به وأعرف بإراداته، وأن للنص علاقة وارتباطاً بالواقع وذلك من خلال رابطتين:
الأولى: عدم إهمال النص للنفس والعقل والطبيعة والكون.
الثانية: كان النص يتبع في صدوره وتكوّنه الحوادث المستجدة (أسباب النزول)[14].
فلا شك في كون القرآن كتاباً ينتمي إلى اللغة العربية، الأمر الذي يجعل لهذه اللغة مكانتها ومنزلتها الخاصة في آلية الفهم، خصوصاً وأن هذا النص يعدّ في ذروة البلاغة (إن القرآن الكريم يعتبر من أروع النصوص الأدبية وأبلغها تعبيراً ومضموناً)[15]. كما أن كون الرسول(ص) أعرف وأدرى بمرادات هذا النص أمر لا نقاش فيه، لكن الذي فيه مرية هو في اعتبار اللغة والأخبار قيدين للنص القرآني، وهذا ما يدعو لاستئناف المراجعة والبحث فيه.
لقد ذكر القدماء أن اللغة قيد لابد منه، لكن هذا لا يعني أن ما حددته اللغة هو تمام المعنى. لذا لجأ القرآن من أجل كسر التغلب على هذا القيد إلى ضرب الأمثال، كما أن الأخبار الناقلة عن النبي(ص) تمثّل استفسارات وحاجات ذلك العصر وذلك الفرد، وعليه يكون منظوراً فيها ذهنية السائل وفق قاعدة (إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم) الأمر الذي يعني أن اللغة والمرويات لن تكون حكماً أبداً على النص. بل إننا لو حكمنا على النص بالسجن داخل أروقة المعطى اللغوي المباشر أو داخل بوتقة المرويات (بل وحتى لو سجنّاه في زنزانات بعض معطيات الفلسفة أو العرفان أو العلوم الحديثة) لكان معنى ذلك أننا خرجنا من إحدى بديهيات الحضارة الإسلامية القائلة بأن النص القرآني نص خالد وأن المخاطب بالنص ليس هو المسلم المعاصر لعصر النزول [16]۔ وهذا معناه مناقضة النص مع نفسه ۔ إذ بناءً على ذلك سنكون قد أعطينا للقرآن بعداً محدداً، ومهما ادّعي من سعة ورحابة ذلك البعد اللغوي أو الروائي أو الفلسفي أو العرفاني أو العلمي، فهي مخالفة تعني التناقض بين القرآن وماهيته، من دون إعطاء مسوّغ معقول ومقنع لذلك!
النص والواقع
إذا نظرنا إلى الميزة الثالثة (علاقة النص مع الواقع) نجد أن الأمر بالعكس تماماً. فإن من الأمور التي لا شك فيها هي أن القرآن كان ينظر إلى واقعية البعد الروحي للإنسان معترفاً بأهميته، كما أنه يولي العقل مكانة كبيرة جداً إلى درجة دعا فيها إلى عدم الإيمان بالإسلام ما لم يؤسّس هذا الإيمان على العقل. كما أنه ينظر إلى قوانين الكون وتنظيم الطبيعة، وعليه يكون القرآن ناظراً إلى الواقع بأبعاده الثلاثة (الماورائيات، العقل، الطبيعة). فلو قيّدنا النص باللغة أو الأخبار أو الفلسفة أو العرفان أو العلم لكان معنى ذلك أن للنص بعداً واحداً فقط.. بل إن هذا البعد الواحد سيكون قيداً للنص؛ لأن كل بعد هو في حالة اتساع على مرور الزمن، وعليه سنبتلي بسجن النص من دون أي ذنب يذكر! وهذا بخلاف ما لو انطلقنا من الواقع بأبعاده الثلاثة من دون تقييد النص.
وكان النص ۔ أيضاً ۔ يأتي بعد حصول أمر (ما) في الواقع (أسباب النزول) فيكون الواقع متقدماً على النص، أي بعد ما يتشكل الواقع يأتي تشكّل النص، لكن مع ذلك يكون النص متجاوزاً للواقعة (سبب وعلة النزول) ليغطّي كل واقعة مماثلة سيأتي الزمان بها؛ لأن للنص ارتباطين يكون من خلال أحدهما فوق التاريخ، ومن خلال الآخر داخل التاريخ كما سيأتي ذلك عند ذكر نظرية الشهيد الصدر. وعليه لن يكون التفسير هو كشف النص فقط كما تقدم وكما هو مشهور، بل التفسير معرفة هل النص ناظر لهذه الواقعة؟ وهل يقصد هذا الأمر الخارجي ويشمله؟ وهو الأمر الذي تنبه بعض المفسرين لبعض جوانبه عندما طرح مسألة كون التأويل مرتبطاً بالخارج والمصداق وليس باللفظ (إن المراد بتأويل الآية ليس مفهوماً من المفاهيم.. بل هو من قبيل الأمور الخارجية)[17].
ويلاحظ القارئ أن كلا هذين البعدين يكوّن شيئاً يسمّى (روح القرآن ومقاصده) فعلى أساس الميزة الثالثة (بكلا بعديها) وحدها استطعنا الحفاظ على إطلاقية النص وخالديته (هدف وغائية القرآن) فجميع الحركات التفسيرية إنما انبثقت على أساس هذه المسألة (وإن كانت واضحة إلى هذه الدرجة) فقد تنبه الأوائل إلى أن أسلم الطرق لمعرفة روح القرآن ومراداته والحفاظ على مقاصده هو طريق المرويات والأخبار. فمن هو أعرف من النبي(ص) بمرادات النص؟! ومنها ظهرت لدينا كتب وحركات التفسير السلفي. بينما كان ينظر البعض إلى دخول الفلسفة ومعطياتها إلى النص.
وكان معنى ذلك أن القرآن مخالف لروحه الداعية إلى العقل (فإن الله سبحانه لم يبطل حجة العقل في كتابه وكيف يعقل ذلك وحجيته إنما تثبت به)[18]. بينما رأى المتصوفة أن حصر النص بالعقليات يجعل من القرآن كتاب نظريات عملية وليس كتاباً تربوياً يمجد روح الإنسان، الأمر الذي يضاد مقاصده. بينما نظر علماء الطبيعة والفلك والاجتماع ومدارس علم النفس وغيرها أننا لو قلنا بخلو القرآن من هذه الميادين كان معنى ذلك أنه ليس كتاب علم وهدى ينظر إلى الكون بأجمعه، وليس هو بالتالي كتاباً مستوعباً لجميع العصور، بما فيها (عصر العلم) وعليه فكيف يقال بخلو القرآن من ذلك؟!
لكن الجميع ومع الأسف الشديد (أدلج) هذه المسألة لصالحه في معركة نظم المعرفة والآليات، فصاغ كل اتجاه النص حسب ميولاته الثقافية وأفرغ كل واحد منهم النص من محتواه وسكبه في قوالبه الجاهزة (العرفان، الفلسفة بأنواعها، الروايات بمذاهبها، العلوم الحديثة، علوم الاجتماع، علم النفس، الفلك، النظريات السياسية والعلمية).
اتجاهات للواقع
بقي أن نشير أن مسألة (الواقع) بدورها مبتلاة بعدة اتجاهات، أهمها اتجاهان:
الأول: يدعو إلى تقييد النص بظروف معينة وزمن معين (كأن يكون هذا هو زمن ومحل صدور النص) بدعوى أن كل نص إنما هو نابع ومتجه إلى الظرف الذي يولد فيه. ويتجلى أبرز دعاة هذا الاتجاه بأعمال نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون.
فيما يدعو الاتجاه الآخر إلى امتداد رقعة النص لتشمل مشاكل المسلم المعاصر عن طريق تفريغ النص عن محتواه المبدئي وملئه بإرهاصات المشاكل الميدانية وآلياتها للمسلم الجديد ويتمثل هذا الاتجاه بأبرز دعاته (حسن حنفي). وكأن كلمات حنفي (ردّة) عرفانية صوفية عندما يقول: (إن كل إنسان له فهم خاص للنص عبر مشاكله وخبراته وإن المنهج الحق في التفسير هو منهج تراكم الخبرات)[19].
فكلا الاتجاهين يمثلان حركة (غلو)، إذ كلاهما ينظر إلى الواقع على أنه بعد واحد، ولا ينظرون إلى روح النص ومقاصده (والتي هي أحد حقائق النص) رغم أنه يدعو إليها!!
من الواضح أن مسألة (الواقع) أخذت تفرض نفسها على النخبة المسلمة (الفقيه، المفسر، عالم الكلام، الفيلسوف..) ومن الواضح أن النص الإلهي هو هبة السماء إلى الإنسان لتغيير الأرض نحو الكمال، وعلى هذا فالنص يهدف إلى عملية تقدّم دائم لكن ۔ بعد عصر الانحطاط خصوصاً ۔ وجد المسلم أن هذا النص يتضارب مع الواقع تارة ويعيق التعايش معه تارة أخرى[20].. الأمر الذي اضطره ليعيد النظر في الآليات المستخدمة في عملية التفسير، فأخذ كل مفسر يتفحص هذه الآليات وما هو موروث في هذا المضمار. فكان من ذلك خزين مدرسة أهل البيت(ع) التي هي تركة كبيرة رغم تجاهل الكثيرين لها! فقد تعرضت بعض رواياتهم إلى مسألة الواقع كما جاء على لسان الإمام الصادق (ع) أنه قال: (نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة)[21] وأيضاً روي عنه (ع) أنه قال: (إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جالٍ بصره ويفتح للضياء نظره فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور)[22].
فالتركيز على عنصر التفكر (والذي لا يتم إذا كان الأمر مقصوراً على الدلالة المباشرة فقط) وعلى كون النص ليس دلالة لغوية مباشرة (إياك أعني واسمعي يا جارة) الأمر الذي يعني عدم احتكار المفهوم المقتنص في داخل الدلالة اللغوية المباشرة.
ثم أخذت أبحاث التفسير تتطور، فبعد أن كانت تعتمد على تجميع الروايات والأحاديث (النبي والأئمة أو النبي والصحابة) أمثال تفسير القمي والعياشي، جاءت كتب التفسير الأخرى أمثال التبيان للطوسي ومجمع البيان للطبرسي، لكن هذه التفاسير بقيت مقصورة النظر على البعد الدلالي المباشر (الاعتماد على مفردات اللغة)، ولم يتطور البحث التفسيري أكثر من ذلك، ما عدا إدخال بعض البحوث الكلامية والعلمية والفلسفية كنظريات مستقلة داخل كتب التفسير أو بشكل مندمج في طيّات عملية التفسير المبعثرة.
لكن هناك ثلاثة أعمال، بعضها يستحق شيئاً من التخصيص وهو كتاب (الميزان في تفسير القرآن) للسيد محمد حسين الطباطبائي، وآخر يستحق الاستثناء وهو ما قام به الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (الكاشف)، والسيد محمد باقر الصدر في كتابه (المدرسة القرآنية).
منهج الشهيد الصدر في التفسير
يعدّ الشهيد الصدر نموذجاً فذاً للعالم المسلم، إذ كان لهذا الرجل همّ التنظير المستمر وحل مشكلة تحديد موقف إسلامي على صعيد الكثير من الميادين العلمية. فعلى عكس الكثير من الاتجاهات التي ترفض قدرة العقل البشري على فهم النص وتفسيره يؤمن السيد الصدر بإمكانية ذلك[23] ويؤمن بأن القرآن كان يهتمّ بالارتباط بالواقع، وقد تجسّد ذلك في ميدانين كحد أدنى:
الأول: كان النص مهتماً بالصياغة والنظرة الموضوعية، فالقرآن (قاوم النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الأحداث)[24].
الثاني: إن النص نزل على شكل دفعات متقطعة مختلفة باختلاف الموضوع الذي يعالجه أو المشكلة التي تقف أمامه، أي أن النص كان متناسقاً مع (الواقع) لذا ظهر ذلك وانعكس على آياته (مكي/مدني، ناسخ/منسوخ، مطلق/مقيد..)[25] فقد لاحظ الشهيد الصدر أنه بعد ما يتشكل الواقع يأتي دور النص في التشكل، لذا قام بصياغة نظرية جديدة في التفسير تقوم بمحاولة فهم النص عبر مرحلتين:
الأولى: فهم الدلالة المباشرة من النص (مفردات النص وعرض ذلك على جميع الآيات الأخرى)[26].
والثانية: هي فهم الواقع ثم العودة إلى القرآن ومحاورته.
فالسيد الصدر يرى أن هناك منهجين في التفسير؛ المنهج التجزيئي والمنهج الموضوعي. فالمفسر وفق المنهج الأول (يسير مع المصحف ويفسّر قطعاته تدريجياً بما يؤمن به من أدوات ووسائل التفسير من الظهور أو المأثور من الأحاديث، أو بلحاظ الآليات الأخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم بالقدر الذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة القرآنية)[27] وهذا المنهج هو الأسبق تاريخياً. لكن ليس المراد من النظرة التجزيئية هنا هو متابعة كل مفردة على حدة، بل المراد من التجزيئية هنا أن المفسر يعالج الموضوعات بشكل متناثر (طبعاً نحن لا نعني بالتجزيئية لمثل هذا التفسير أن المفسر يقطع نظره عن سائر الآليات ولا يستعين بها في فهم الآية المطروحة للبحث، بل إنه قد يستعين بآيات أخرى في هذا المجال كما يستعين بالأحاديث والروايات. ولكن هذه الاستعانة تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث، فالهدف في كل خطوة من هذا التفسير فهم مدلول الآية التي يواجهها المفسر بكل الوسائل الممكنة أي أن الهدف هدف تجزيئي)[28].
وبالطبع فقد كان لهذا المنهج نتائج وخيمة؛ لأنه يقطّع أوصال الحقيقة التي يريد أن يطرحها القرآن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن عملاً كهذا معناه أننا نخرج بأفكار مبعثرة دائماً، الأمر الذي يؤدي إلى عدم إمكانية بناء هرمي متصاعد للنظريات أو المعارف. (أي أنه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية ولكن في حالة تناثر وتراكم عددي دون أن نكتشف أوجه الارتباط، ودون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار)[29] وهو الأمر الذي يفسّر سبب السير البطيء لتطور النظريات والفكر الإسلامي في هذا المجال، الأمر الذي سهّل عملية (أدلجة) النص. فكل مفسر يوظف النص ويتلاعب في عملية الفهم لينصر المذهب الذي ينتمي إليه (مذهب إبستمولوجي أو مذهب أو اتجاه أيديولوجي) (وقد أدت حالة التناثر ونزعة الاتجاه التجزيئي إلى ظهور تناقضات عديدة في الحياة الإسلامية، إذ كان يكفي أن يجد هذا المفسر أو ذاك آية تبرّر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع)[30].
أما الاتجاه الثاني الذي يدعو إليه السيد الصدر، فيسمّيه بالاتجاه الموضوعي أو التوحيدي (توحيدي باعتبار أنه يوحّد بين التجربة البشرية وبين القرآن)[31] كما أنه ليس المقصود من الموضوعية هنا ما يقابل (التحيز)؛ لأن هذا أمر مفروغ منه ۔ رغم عدم تحققه في الواقع بشكل كامل ۔ بل (الموضوعية هنا بمعنى أن يبدأ من الموضوع وينتهي إلى القرآن. هذا الأمر الأول، والأمر الثاني أن يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد يقوم بعملية توحيد بين مدلولاتها من أجل أن يستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة إلى ذلك الموضوع)[32]، إذ الشهيد الصدر لا يعترض على كون القرآن كتاباً علمياً نبحث في طياته عن النظريات؛ لأنه يؤمن بأن هذا النص يحتوي على نظريات علمية في (بعض) الميادين (وذلك أن القرآن الكريم كتاب هداية وعملية تغيير، هذه التي عبّر عنها في القرآن الكريم بأنها إخراج للناس من الظلمات إلى النور)[33] كما أن الصدر يؤمن بضرورة تأصيل نظريات تنطلق من النص (مع الاستفادة الكاملة من الخبرة البشرية لتحديد موقف محدد في بعض الميادين العلمية)[34].
ويرى الإمام الصدر أن السلوك في المنهج التجزيئي يبدأ من النص إلى الواقع،[35] وإذا كانت هناك مشكلة في الفهم فهي في تحديد المصداق وتشخيص الواقع المراد[36]، بينما سلوك المفسر في المنهج الموضوعي يكون سيراً معاكساً، حيث ينطلق من الواقع وينتهي بالنص (وخلافاً لذلك المفسر التوحيدي والموضوعي، فإنه لا يبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة، يركّز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع)[37]، أي أنه بعدما كان المنهج التجزيئي ولسنين متطاولة يبعد الفكر الإنساني والخبرة البشرية ويتقوقع داخل النص جاعلاً منه ينبوعاً (أوحداً) للمعرفة ونهل الحقيقة، يقوم المنهج الموضوعي بإعادة الاهتمام بالخبرة البشرية وإعادة توازنها مع النص بعدما كانت توازيه وتتعارض معه (ما عدا تلك المحاولات التلفيقية في التفسير) وبدلاً من السير في المنهج السابق من السماء إلى الأرض ومن النص إلى الواقع، يكون السير في المنهج الجديد من الأرض إلى السماء، ومن الإنسان إلى النص، بعد أن كان من النص إلى الإنسان (بل بعد أن كان من النص إلى النص على حساب الإنسان)، وبعد أن كان الإنسان ذليلاً منصتاً ليس له دور سوى الاستماع فقط أصبح طرفاً محاوراً، فعندما يتمسك الإنسان بعرى النص لا يكون دوره (دور المستمع والمسجّل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية، ويبدأ مع النص القرآني حواراً (سؤال وجواب)، المفسر يسأل والقرآن يجيب، المفسر في ضوء الحصيلة التي استطاع أن يجمعها من خلال التجارب البشرية الناقصة وأعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكرون على الأرض لابد وأن يكون قد جمع حصيلة ترتبط بذلك الموضوع، ثم ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم، لكن لا يجلس ساكتاً فقط بل يجلس محاوراً.. ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائماً بتيار التجربة البشرية؛ لأنها تمثّل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة. ومن هنا أيضاً كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له وليست مجرد استجابه سلبية بل استجابة فعالة وتوظيفاً هادفاً للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى)[38]. وعلى هذا فالتفسير ليس تفسيراً للنص، بل هو تفسير للواقع من خلال استنطاق النص والتجربة البشرية، وعليه فالصدر قدّم نظرية أخرى في التفسير.
فالنص إذن ليس هو الهدف الأخير أو الهدف الحقيقي لعملية التفسير، بل الهدف هو كشف الواقع لكي يتسنى للإنسان استثماره والعيش فيه، لا أن التفسير (مُغيا) بالنص فيعيش الإنسان أزمة النص ويكون ملزماً بكشف ومصارعة عالمين: عالم النص وعالم الواقع، الأمر الذي جعل السيد الصدر يؤمن بأن حركة الرسالة الإسلامية لها جانبان، جانب متعال (فوق التاريخ) لارتباطه بالإله والرب، وله ارتباط بالأرض فهو جزء من التاريخ. لكن بما أن النص لا يتقيد بسبب نزوله إذن هو يمتد على طول التاريخ في بعض الأحيان[39]. يقول الشهيد الصدر:
عملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي(ص) لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي هي ربانية، هي فوق التاريخ، ولكن من حيث كونها عملاً قائماً على الساحة التاريخية، من حيث كونها جهداً بشرياً يقاوم جهوداً بشرية أخرى، من هذه الناحية يعتبر هذا عملاً تاريخياً تحكمه سنن التاريخ[40].
ولا يقصد الشهيد الصدر من هذا الكلام إفراغ النص وجعله قوالب فارغة نسكب خبراتنا فيها، بل كل ما يريده هو أن نستنطق القرآن ليحدد موقفه إزاء الواقع الذي تكشف عنه الخبرات، (فهنا يلتحم القرآن مع الواقع ليلتحم في الوقت نفسه مع الحياة؛ لأن التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أنه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن،[41] فتكون عملية منعزلة عن الواقع منفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن بوصفه القيم والمصدر الذي يحدّد في ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع)[42]. أي أن دور النص الذي يصوّره السيد الصدر لنا يشبه تصويره لدور (الفقيه)، فإنه يؤمن بأن الفقيه يستفيد من الكوادر المتخصصة ثم يصدر حكمه، أي من خلال معالجته للنصوص الفقهية ومقارنة ذلك بنتاجات أصحاب التخصص، ثم يصدر حكمه المناسب بعد تشخيص الواقع، الأمر الذي ينطبق على دور النص هنا، حيث أن المفسر وبعد أن يقوم بالمرحلة الأولى في كشف النص ومدلوله المباشر يعود ليستمع لأصحاب الخبرات المتخصصة، ثم يحدّد منظور ورؤية النص في ذلك الموضوع. وعلى هذا نفهم أن الإمام الصدر لا يرفض التفسير التجزيئي ويلغيه (كما هو الحال في موقفه من القياس الأرسطي) لكنه لا يقف عنده (لأن التفسير الموضوعي هو أفضل الاتجاهين في التفسير، إلا أن هذا لا ينبغي أن يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي. هذه الأفضلية لا تعني استبدال اتجاه باتجاه، وطرح التفسير التجزيئي رأساً.. وإنما إضافة اتجاه إلى اتجاه)[43].
من هذا نصل إلى أن الشهيد الصدر استطاع أن يحافظ على تعالي النص، كما أنه حافظ ۔ بنظره ۔ أن يكون هناك تفسير لا يخرج عن الذهنية الإسلامية ويحافظ على التجارب البشرية، لذا يشترط في (المفسر) عدة أمور:
أولاً:
يجب على المفسر أن يدرس القرآن ويفسّره بذهنية إسلامية.. فيقيم بحوثه دائماً على أساس أن القرآن كتاب إلهي أنزل للهداية وبناء الإنسانية.. وأما حين يستعمل المفسر ۔ في دراسة القرآن ۔ نفس المقاييس التي يدرس في ضوئها أي كتاب.. فهو يقع نتيجة لذلك في أخطاء كبيرة واستنتاجات خاطئة، كما يتفق ذلك لبحوث المستشرقين.. وهذا الشرط تفرضه طبيعة الموقف العلمي؛ لأن المفهوم الذي يكوّنه المفسر عن القرآن ككل يشكّل القاعدة الأساسية لفهم تفصيلاته..[44].
ثانياً:
يجب أن يتوفر في المفسر مستوى رفيع من الاطلاع على اللغة العربية ونظامها.. والقدر اللازم توفّره من هذا الشرط يختلف باختلاف الجوانب التي يريد المفسر معالجتها من القرآن[45].
ثالثاً:
ولابد للمفسر أن يحاول ۔ إلى أكبر درجة ممكنة ۔ الاندماج كلياً في القرآن عند تفسيره، ويقصد بالاندماج في القرآن: أن يدرس النص القرآني ويستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معين غير مستوحى من القرآن نفسه[46].
رابعاً:
لابد للمفسر من منهج عام للتفسير يحدّد فيه ۔ عن اجتهاد علمي ۔ طريقته في التفسير ووسائل الإثبات التي يستعملها[47].
الفوارق الأساسية بين المنهجين
أما ما هي الفوارق بين المنهجين الموضوعي والتجزيئي؟
يجيب الشهيد الصدر: أن الفوارق بينهما عديدة من أهمها:
1 ۔ إن المنهج الأول يواكب الآيات آية آية، أما المنهج الثاني فهو يتابع الموضوعات واحداً واحداً.
2 ۔ (إن الاتجاه التجزيئي يكون دور المفسر فيه دوراً سلبياً: يستمع ويسجّل. بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كنهه وإنما وظيفته دائماً في كل مرحلة وفي كل عصر أن يحمل كل تراث البشرية الذي عاشته..)[48] فيكون المفسر محاوراً وليس مستمعاً.
3 ۔ إن التفسير التجزيئي محدود العطاء، بخلاف المنهج الموضوعي الذي ينطلق من متطلبات الحياة التي لا تنتهي (فإن طاقات التفسير اللغوي ليست طاقات لامتناهية بينما.. كان التفسير الموضوعي قادراً على أن يتطور، على أن ينمو، أن يثري؛ لأن التجربة البشرية تثريه)[49].
4 ۔ إن المنهج الأول يبدأ بالنص والموضوعي يبدأ من الواقع.
5 ۔ (إن التفسير الموضوعي يتجاوز التفسير التجزيئي خطوة؛ لأن المفسر التجزيئي يكتفي بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية الكريمة، بينما التفسير الموضوعي يطمح إلى أكثر من ذلك.. يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية، يحاول أن يصل إلى مركّب نظري قرآني)[50].
6 ۔ في ضوء النقطة السابقة يكون هدف المنهج التجزيئي إعطاء معنى هذه المفردة أو تلك بينما هدف المنهج الموضوعي هو إعطاء (نظرية) ما.
والإمام الصدر بهذه النظرية يحاول أن يثور على الواقع، إذ يعتقد أن النظرة التجزيئية للأمور هي التي كانت تعيق عن إعطاء موقف محدد إزاء التنافس الضروس بين التيار الإسلامي والتيارات الأخرى، كما أن الابتعاد عن الواقع ومشكلاته أبعدت المثقف عن وظيفته، وهي إعطاء موقف إسلامي محدد ينطلق من الواقع ويعود إليه ليعالجه[51].. .
ومن هنا كان الصدر يهتم بأن تكون المعرفة (أرضية) تبدأ من الأرض وتعود إلى الأرض. يتجلى ذلك في أبرز أعماله (الأسس المنطقية للاستقراء) وتبويبه لعلم أصول الفقه. ومن هنا أيضاً جاء موقفه إزاء نظرية (اللطف) الموروثة[52] حيث أنزلها من عليائها وربطها بالأرض، ومن هنا جاءت نظرية الصدر في مفهوم استخلاف آدم وجنته الأرضية. وهكذا كان منهجه في طبيعة تعامله مع الواقع وكيفية معالجته، ولابد أن يستنفد الجهد فيعالج هذا الواقع بدمه؛ لأن عملية التغيير تتطلب الدم بالإضافة إلى الفكر والثقافة.
[1]. الطباطبائي، العلامة محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، إسماعيليان، ج 1، ص 11.
[2]. عرّفه (التفسير) صاحب الميزان بأنه (بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها). م. ن. ج 1، ص 4. وراجع الحكيم، السيد محمد باقر، علوم القرآن، ط2، ص 216.
[3]. راجع ما كتبه العلامة محمد حسين الطباطبائي في كتاب (القرآن في الإسلام) ص 34، وكتاب (الإسلام يقود الحياة) للسيد محمد باقر الصدر، ص 26.
[4]. مع الأسف كانت المردودات الذهنية من لفظة (تكليف) سلبية، رغم الإيجابيات التي ذكرت.
[5]. راجع الإسلام يقود الحياة، ص 141.
[6]. للمقارنة راجع: مفارقات محمد أركون حول الموضوع في مجلة (أبواب)، العدد 19.
[7]. راجع تحولات آليات التفكير في مسيرة علماء المسلمين في كتاب (الميزان في تفسير القرآن)، ج 5، ص 271. وراجع: مردودات ذلك على النص في ج 1، ص 5.
[8]. راجع تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي والتفسير المشهور بتفسير ابن عربي، وأيضاً راجع: منهج الأخير في موسوعته الصوفية الموسومة بـ (الفتوحات الملكية). وبشأن الطلسمات وآلية الطلسم راجع: منهج ابن تركة في شرحه لفصوص الحكم. ومع أن الطباطبائي هو أحد أهم رجال العرفان والتصوف في العصر الحديث لكنه مع ذلك يقول: (من الواضح أن القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة ولا أن المخاطبين به هم أصحاب علم الأعداد والأوقات والحروف). راجع: الميزان، ج 1، ص 7؛ ج 5، ص 281 وما بعدها من هذا الكتاب أيضاً.
[9]. م. ن، ج 5، ص 283.
[10]. م. ن، ج 1، ص 6.
[11]. كما هو الحال مع صاحب الميزان (الطباطبائي) حيث نجد في تفسيره جمع أفكار ملاصدرا الفلسفية.
[12]. هذا لا يدل على حضور العرفان أو الفلسفة أو العلم ۔ بمنظوماتها المعرفية ۔ في داخل النص إذ أن إثبات ذلك صعب.
[13]. (وأسباب النزول هي أمور وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول الوحي بشأنها). راجع: علوم القرآن، ص 38.
[14]. م. ن، ص 109.
[15]. م. ن، ص 42.
[16]. تفسير الميزان، ج 3، ص 46 وج 1، ص 13.
[17]. م. ن، ج 1، ص 5 ۔ 6.
[18]. انظر: حنفي، د. حسن، في فكرنا المعاصر. وقارن بين كلام حنفي هنا وبين بعض كلام المتصوفة، وعلى سبيل المثال راجع: ص 52 من كتاب (رسالة في الولاية) للعلامة الطباطبائي. وهذا لا يعني إنكار تأثير الخبرات الشخصية على المفسر.
[19]. كفتوى نجاسة أهل الكتاب.
[20]. الكليني، محمد بن يعقوب، الأصول من الكافي ج 2، ص 631.
[21]. م. ن، ص 600. هذا بالإضافة إلى الروايات الأخرى التي كانت تركّز على أن الآية غير محصورة بسبب النزول وإلا لكان معنى عدم خلودية أحكام النص، وهي روايات متطورة الوعي بالنسبة لمسألة مفهوم النص.
[22]. علوم القرآن، ص 233.
[23]. الصدر، السيد محمد باقر، المدرسة القرآنية، بيروت، دار التعارف، ص 7.
[24]. علوم القرآن، ص 90.
[25]. يعدّ مشروع السيد محمد حسين الطباطبائي محاولة للتفسير وفقاً لهذه المرحلة الأولى فقط. أما اعتماد (الواقع) فلم يهتم به الطباطبائي إلا بمقدار معرفة تحديد معنى اللفظ، إذ اللفظ القرآني ۔ بنظره ۔ واضح المعنى، وإنما المشكلة هي في المصداق، لذا تكون مشكلة (التأويل) بنظره هي مشكلة المصداق لا مشكلة تحديد المعنى. انظر: الميزان، ج 3، ص 49. وهذا نفس الأمر الذي يذكره السيد الصدر انظر: (علوم القرآن، ص 221) وفيما نجد الطباطبائي يقف عند هذا الحد نجد الصدر يتوسع في ذلك إلى الحد الذي يستخدم فيه شرط الواقع لتحديد ثبوت النص (هل هذا الكتاب هو القرآن فعلاً أو لا؟) انظر: علوم القرآن، ص 103.
[26]. المدرسة القرآنية، ص 9.
[27]. م. ن، ص 11.
[28]. م. ن.
[29]. م. ن، ص 12. وبخصوص تأكيد السيد الصدر على إبعاد الحس المذهبي في التفسير، راجع: محمد باقر الصدر؛ دراسات في حياته وفكره، نخبة من الباحثين، لندن، دار الإسلام، ص 443.
[30]. المدرسة القرآنية، ص 28.
[31]. م. ن، ص 29.
[32]. م. ن، ص 47. وراجع حول موضوع عملية التغيير الجذري: علوم القرآن، ص 50 ۔ 70.
[33]. م. ن، ص 34 و36.
[34]. م. ن، ص 19.
[35]. علوم القرآن، ص 221. ويقترب هنا من الطباطبائي كثيراً، حيث أنه يركّز على مسألة كون بعض الوقائع أرفع من (الحس) وأن الإنسان مرتبط ومؤنس بالحس فتصعب عليه عملية الفهم، أي أن الصدر حصر مسألة اختلاف الفهم بسبب أنس الذهن البشري بخبراته بما يخصّ الحقائق الغيبية.
[36]. المدرسة القرآنية، ص 19.
[37]. م. ن، ص 21.
[38]. علوم القرآن، ص 42. وبما أن الصدر يؤمن بأن الشريعة السماوية ربانية (المدرسة القرآنية، ص 47) وأنها إحدى سنن التاريخ فالنص هو جزء من التاريخ وهو أحد قوانينه وحقائقه، هو مرتبط بالإنسان وليس منفصلاً عنه؛ لأنه هبة السماء لهداية الإنسان في تنظيم حياته (دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى).
[39]. م. ن، ص 49.
[40]. كما يدعو إلى ذلك السيد محمد حسين الطباطبائي.
[41]. المدرسة القرآنية، ص 22.
[42]. م. ن، ص 37. وهذا يشبه موقف الإمام الصدر في نظرية المعرفة حيث أنه لم يرفض القياس الأرسطي، لكنه أضاف إليه منطق الاستقراء، وعليه فهناك منظومة واحدة في فكره يجب اكتشافها بدل أن يكون فكر الصدر أوصالاً مقطعة!
[43]. علوم القرآن، ص 243.
[44]. م. ن، ص 245.
[45]. قدر الإمكان، وإلا فإن إفناء ذلك كلياً غير ممكن.
[46]. علوم القرآن، ص 245.
[47]. م. ن، ص 246، وهذه الشروط هي قبل أن يبلور الشهيد الصدر نظريته في التفسير.
[48]. المدرسة القرآنية، ص21.
[49]. م. ن، ص 23.
[50]. المدرسة القرآنية، ص 27.
[51]. م. ن، ص 30.
[52]. راجع: بحوث في علم الأصول ج 4، ص 306، للسيد محمود الهاشمي وهي تقريرات لدرس السيد الشهيد الصدر.