الصدر مفكراً ومصلحاً إصلاح المرجعية وتطويرها

محمدباقر الناصري

ملاحظة: البحث يدور حول المحور الأول ۔ المقترح ۔ ويتناول جوانب من مشاريع الشهيد الصدر في إصلاح المرجعية، وتبنّي المرجعية الموضوعية الصالحة، وكذلك رؤيته في المناهج والأساليب الدراسية في الحوزة العلمية، ونقده البنّاء لواقع هذه المؤسسة العلمية العريقة.

محتويات البحث

۔ تمهيد

۔ أصول فكرة الإصلاح والتطوير.

أولاً: إصلاح الحوزة العلمية.

ثانياً: إصلاح المرجعية الدينية.

تمهيد

حياة العلماء وأعمالهم العلمية هي أحد أهم مصادر بناء الوجود الإسلامي والإنساني، وقاعدة من قواعد رفد الإنسانية وشموخ بنائها الحضاري؛ إذ يقاس رقي الأمم ورفعة شأنها بمقدار ما تملك من العلماء والمفكرين، وبمقدار ما تبديه الأمم من التفاعل والرعاية والاهتمام برموزها العلمية من النوابغ والحكماء والمفكرين.

ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى آية الله الشهيد السيد محمدباقر الصدر، فلقد حقّق للعلم والدين وللأمة الإسلامية وجوداً علمياً وفكرياً واجتماعياً.. رسالياً متميزاً، أقر الجميع بتقدمه وتفوقه وعطاءاته في الميدان الذي طبع بطابعه في إصلاح وتطوير الحوزة العلمية والمرجعية الدينية، وهو الأمر الذي سنحاول إلقاء بعض الأضواء على جوانب منه.

أصول فكرة الإصلاح والتطوير

تولد حركة الإصلاح والتطوير في الأمم الحية مع حركة هذه الأمم، وتنمو وتتوسع جنباً إلى جنب مع نماء الأمة وتوسّعها وارتفاع شأنها، عملاً بهدي الكتب السماوية، ونهج الأنبياء والأئمة والرساليين من العلماء.. وذلك متابعة والتزاماً بالقاعدة القرآنية: <إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ..>[1].

وكلما كان الكيان والمبدأ رسالياً، طموحاً نحو الأهداف العامة، كان الإصلاح والتطوير ملازمين له، قال تعالى: <وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ>.[2]وقد بشّر الله تعالى أولئك الذين يتحرون الأفضل والأتم. فقال تعالى: <فَبَشِّرْ عِبٰادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولٰئِكَ الَّذِينَ هَدٰاهُمُ اللّٰهُ وَ أُولٰئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبٰابِ..>.[3] وقد حث القرآن الكريم الإنسان على التفكر واستيعاب التجربة والخبرة من الظواهر الكونية، وهي آيات الله الكبرى، فقال تعالى: <إِنَّ في خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاٰفِ اللَّيْلِ وَالنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي الْأَلْبٰابِ>.[4]

ومن المروي المأثور عن رسول الله صل الله عليه و آله أنه قال: (.. يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد..)، وروي عنه صل الله عليه و آله أنه قال: (من تساوى يوماه فهو مغبون..).

والحوزة العلمية، وهي المؤسسة العلمية الإسلامية، كانت ولا زالت واحدة من أهم قواعد ومنطلقات وأسس العمل من أجل العلم والشريعة الإسلامية، ودين الله الخالد، وكلمته الباقية وحكمه الفصل. قال: <وَمٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ..>.[5]

وقد وضع رسول الله صل الله عليه و آله نواة وأسس الكيان العلمي في الإسلام والحضارة الإسلامية منذ الأيام الأولى لهجرته المباركة إلى المدينة المنورة، وتأسيسه لقاعدة الحكم الإسلامي العتيد فيها، فقد حث صل الله عليه و آله أصحابه ومن حوله على طلب العلم والمعرفة والتعلم، ابتداءً من حفظ القرآن الكريم وتفسيره، وتعليمه للناس، وتعلّم ما فيه من فقه، ونشره بين الناس، وإرسال المبلغين العلماء لتعليم الناس، منطلقاً في ذلك من رؤية كلية شاملة، شرعها وفرضها الإسلام؛ وعمل بها المسلمون، تقوم على الاهتمام بالعلم والعلماء.

وقد كرّس القرآن الكريم العشرات بل المئات من آياته المباركة، الداعية إلى العلم والتعليم، المشيدة بفضل العلم والعلماء، المؤكدة على نشر العلم، واعتباره السلّم الأول لرقيّ الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، قال تعالى: <إِنَّمٰا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ..>[6]، وقال تعالى: <قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ..>.[7]

وقد ورد الحث النبوي الشريف على طلب العلم والمعرفة بأعلى صيغ الحث والتشويق، فقال صل الله عليه و آله: (اطلبوا العلم ولو بالصين)، (فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم) و(طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ألا إن الله يحب بغاة العلم).

وعنه صل الله عليه و آله أنه قال: (من طلب باباً من العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة في الجنة).[8]

ومن هنا جاء اهتمام الأمة بالعلم والعلماء، وتأسيس المراكز العلمية كقواعد لنشر الإسلام والدعوة إلى الله تعالى في إطار من العلم والمعرفة والعرفان.

وقد ارتبط اهتمام الأئمة عليهم السلام، ومن بعدهم العلماء والمصلحين بالإصلاح والتطوير والتقويم مع اهتمامهم بالدين والعلم وسعادة البشر، وورد توالي الحث على ذلك بمختلف الصيغ والأساليب، كما هو صريح في الرواية المشهورة: (من تساوى يوماه فهو مغبون)، وقوله صل الله عليه و آله: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان..).

وقد استأثرت محاولات التطوير والتجديد والتصحيح باهتمام العلماء منذ أقدم العصور، وستبقى إلى آخر يوم من أيام الدنيا، إذ لا تبلغ مرحلة إلا وتستعد لأخرى، كما هو واضح من المحاولات الدائبة من كافة المصلحين، وحثّهم المستمر عليه، يقول الإمام الراحل الخميني (طاب ثراه) في إشارة منه للعلاقة الوطيدة بين النقد والحرية والإصلاح المطلوب:

(ينبغي أن يكون هناك نقد، فما لم يكن هناك نقد لا يكون إصلاح، وإن النظرة القائلة: إن ذكر نقاط الضعف يؤدي إلى إضعاف الدولة الإسلامية نظرة خاطئة؛ لأن انتقاد تحرك معين أو سياسة ما يعني بالضبط دعم الدولة، على وسائل الإعلام أن تسمح لرقابة الأمة بحرية أوسع، ومن الحفاظ على هذه الحرية وتوسيع نطاقها؛ لأن حرية التعبير من مستلزمات تقدم المجتمع).[9]

لقد استوعب الشهيد الصدر هذا الفهم الاجتماعي، ومعطيات وأصول الفكر الإسلامي، وتعمّق في فهم فلسفة الإسلام في التغيير والتطوير ومارس علمياً وعملياً محاولات بناء وإصلاح واقع المسلمين المتردّي، وخصوصاً مراكز ومؤسسات (الحوزة العلمية) وقيادتها التاريخية العتيدة المتمثلة بالمرجعية الدينية.

ومن الواضح أن هناك اشتباكاً وتداخلاً في الحديث والمسار والنتائج بين كل من المرجعية الدينية والحوزة العلمية، وأن لكل من الموضوعين من الخصوصيات والمميزات ما لا يمكن تجاهله، إلا أن الإمام الشهيد الصدر حاول معالجة الموضوعين معاً مبتدئاً ۔أولاً۔ بنقد ما ابتليت به المؤسسات العلمية ۔ الحوزة العلمية ۔ من الجمود والتقليد والسلفية، والوقوف عند عطاء القرون البعيدة في المسار العلمي الإسلامي، والتردد في محاولة أي تغيير أو تطوير للمناهج العلمية وللكتب والمباحث الدراسية، حتى شاع عنه رحمه الله مصطلح النزعة الاستصحابية، حيث يقول معبّراً عن نقده الجمود: (الاستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول، طبّقناه على أساليب العمل، وطبقناه على حياتنا فكنا نتجه دائماً إلى ما كان، ولا نفكّر أبداً في أنه بالإمكان أن يكون أفضل مما كان؟) واتجه الإمام الصدر ۔ ثانياً ۔ إلى إصلاح وتطوير (المرجعية الدينية) بنفس المنهجية التي عُرف بها وأصبحت خاصاً به.

أولاً: إصلاح الحوزة العلمية

من خلال استقراء ما كتبه الإمام الشهيد الصدر رحمه الله وما ألقاه من دروس على تلامذته في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وكذلك من خلال كتاباته من كتب دراسية في الأصول والفلسفة والفقه والتفسير..، نجد بوضوح، وباستمرار أن هذا المصلح الكبير قد قام بجهد كبير في عملية نقد وإعادة بناء للكيان العلمي الإسلامي الشيعي في الحوزة العلمية، وكما أسلفنا فقد شاع عنه نقده للمناهج والمقررات العلمية المتبعة؛ إذ كان يقول ناقداً للجمود: (الاستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول طبقناه على أساليب العمل، وطبقناه على حياتنا، فكنا نتجه دائماً إلى ما كان، ولا نفكر أبداً في أنه بالإمكان أن يكون أفضل مما كان؟) ويضيف رحمه الله:

لابد أن نتجرد من النزعة الاستصحابية ومن نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة إلى كل أساليب العمل، هذه النزعة التي تبلغ القمّة عند بعضنا، حتى أن كتاباً دراسياً مثل ۔أمثّل بأبسط الأمثلة۔ إذا أريد تغييره بكتاب آخر في مجال التدريس، وهذا أقل مظاهر التغيير، حينئذ يقال: لا، ليس الأمر هكذا، لابد من الوقوف، لابد من الثبات والاستمرار على نفس الكتاب الذي كان يدرس فيه الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه أو المحقق القمي رضوان الله عليه هذه النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائماً نعيش مع أمة قد مضى وقتها، مع أمة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابستها؛ لأننا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع أمة لم يبق منها أحد، وقد انتهت، وحدثت أمة أخرى ذات أفكار أخرى، ذات اتجاهات أخرى، ذات ظروف وملابسات أخرى.. .[10]

وحتى لا يُساء فهم هذا الصوت المخلص، فالرفض هنا ليس لكل قديم؛ وإنما الرفض للجمود والتحجر وعدم الحساب للزمان ومستجداته في الوسائل والأدوات المناسبة، سواء في كيفية عرض المادة العلمية، بعد فرض حاجة الطالب الحوزوي لهذه المادة بالذات، أو آلية العرض وأسلوب الطرح والكتابة وطرق التدريس، والتأكيد على نقاط الضعف في الدراسة، وهي أمور ارتفعت فيها أصوات الروّاد الأوائل ممن سبق السيد الشهيد الصدر، فكان إقدامه حافزاً ومشجعاً للكثيرين بالنقد الشديد لنظام الحوزة العلمية ومناهجها الدراسية، فقبل أكثر من خمسين عاماً تحدّث الإمام الراحل محمدرضا المظفر رحمه الله وهو أحد المصلحين المنادين بإصلاح الحوزة العلمية محذّراً ومنبّهاً من مغبّة وعواقب الثغرات والنواقص في المناهج الحوزوية، حاكياً عن هموم النخبة الواعية من العلماء والمفكرين الذين كانوا يعملون على إصلاح نواقص الدراسات العلمية في معاهد النجف الأشرف، كفقدان نظم التدريس والامتحانات والمواد العلمية والانتظام في الأوقات والشهادات.. وهي أمور كانت تهدّد المفكرين منا بشلل الحركة العلمية في مستقبل الجامعة القريب والبعيد، يوم أن اصطدمت سفينة هذه الجامعة القديمة العريقة بتيارات هذا العصر الجديد، فهزّتها في بحر متلاطم.[11]

ويضيف الشيخ المظفر واصفاً محاولات الإصلاح وأجواء التعسف الفكري تجاه المصلحين. فيقول رحمه الله:

.. ولا أزال أحتفظ بمحاضر جلسات جماعتي الأولى تلك، وبمذاكراتي الخاصة عنها وعن غيرها، وهي على بساطتها تمثّل لي مقدار التكتم والخوف الذي يساورنا، وكان عملنا وتفكيرنا مقتصراً على تفقّد المفكرين من أصحابنا الذين يحسّون بالداء مثلنا، وبالرغم من مواصلة الجلسات والتفكير طيلة عام واحد، لم نستطع أن نخرج صوتنا من غرفتنا إلا بعض الشيء ولم نستطع أن نضمّ إلينا أكثر من عشرة أعضاء.. .[12]

ولا تعني هذه الصورة المعبرة عن الأجواء النفسية لما يعانيه المصلحون في النجف الأشرف فقط، بل هي متشابهة ومتماثلة في كثير من الحواضر العلمية التاريخية مثل قم، كما وردت في دروس وملاحظات الأساتذة كالسيد حسين البروجردي، والشهيد مطهري وكذلك بقية المراكز العلمية في العراق ولبنان والأزهر والزيتونة والقيروان وغيرها.

ولم تكن هذه الأجواء والعقد ضد الإصلاح والمصلحين لتؤثر على حركة الإصلاح، بل بقيت جذوة فكرة الإصلاح في الحوزة العلمية متّقدة وتزداد اندفاعاً وقوة بتنامي الوعي، ولو فتّشنا في تاريخ هذه المعاهد الإسلامية العريقة وحياة المصلحين فيها لقرأنا العجب العجاب.

والسيد الشهيد الصدر رحمه الله يقف في أول صف المصلحين الواعين المغيرين الذين قدّموا لفكرة إصلاح الحوزة والدراسات فيها أكثر من مشروع، وهو على اطلاع وإدراك بأن مشروع الإصلاح والتطوير بقدر ما يختزن من خطورة وأهمية، فإنه يحمّل الروّاد والمصلحين أكبر قدر من المتاعب ويستبطن الكثير من الأمراض المزمنة، وقد استفحل فيها داء السكوت، وما من سلعة أنفق من النفاق والمداهنة وسيطرة العوام والجهال على العلماء والمفكرين وعلى الجو العام، حيث كمّموا أفواه العلماء وأقلام المصلحين، وعلى حد قول المصلح هبةالدين الشهرستاني، وهو من روّاد الإصلاح الأوائل، إذ قال:

.. فصار العالم والفقيه يتكلم من خوفه بين الطلاب غير ما يتلطف به بين العوام وبالعكس، ويختار في كتبه الاستدلالية غير ما يفتي به الرسائل العملية، ويستعمل في بيان الفتوى فنوناً من السياسة والمجاملة خوفاً من هياج العوام.. .[13]

ويضيف السيد هبةالدين رحمه الله معلّقاً على هذه الحالة فيقول:

.. لكن هذه الحالة تهدد الدين بانقراض معالمه واضمحلال أصوله؛ لأن جهال الأمم يميلون من قلة علمهم ونقص استعدادهم وضعف طبعهم إلى خرافات وبدع الأقوام والمنكرات، فإذا سكت العلماء ولم يزجروهم أو ساعدوهم على مشتهياتهم غلبت زوائد الدين على أصوله، وبدعه على حقائقه، حتى يمسي ذلك الدين شريعة وثنية همجية تهزأ بها الأمم.. .[14]

وقد جاء تحرك الشهيد الصدر رحمه الله لإصلاح الحوزة العلمية من زوايا متعددة، وشاملاً، منها:

1.فقد شخص ۔ أولاً ۔ ضعف وانحسار دور الاجتهاد العام من خلال نقاط ضعف تسرّبت إليه، منها ۔ كما أسماه رحمه الله ۔ (النزعة الفردية في الفقه) والدراسات الفقهية؛ إذ شخّص هذه الظاهرة حسب قوله:

بعزوف الفقهاء والمجتهدين ۔ أو أغلبهم ۔ عن الاهتمام بالشأن العام للأمة، فأخذ الاجتهاد يركّز باستمرار على الجوانب الفقهية الأكثر اتصالاً بالمجال التطبيقي الفردي، وأهملت المواضيع التي تمهّد للمجال التطبيقي الاجتماعي؛ نتيجة لانكماش هدفه، واتجاه ذهن الفقيه حين الاستنباط ۔ غالباً ۔ إلى الفرد المسلم، وحاجته إلى التوجيه، وهي أمور وقضايا، وإن كانت مطلوبة وجليلة، إلا أنها جاءت على حساب الجماعة المسلمة، وحاجتها إلى تنظيم حياتها الاجتماعية وهذا الاتجاه الذهني ۔ الفردي ۔ لدى الفقيه لم يؤدّ فقط إلى انكماش الفقه من الناحية الموضوعية، بل أدّى ۔ بالتدريج ۔ إلى تسرّب الذهنية الفردية إلى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها، وكان من نتائج ترسيخ هذه النظرة رسوخ اتجاه علم في الذهنية الفقهية يحاول دائماً حل مشكلة الفرد المسلم عن طريق تبرير الواقع وتطبيق الشريعة عليه بشكل من الأشكال.[15]

وهذا التحليل العميق لم يتنبه إليه إلا خواص المفكرين، إن لم يكن من بنات أفكار الشهيد الصدر لوحده، ولم يسبقه إليه سابق، وقد حاول المتأخرون معالجة هذه السلبيات وعلى ضوء ما شخّصه، خصوصاً وقد اتضحت الحاجة إليه، واتضحت معالمه بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وتصدّي الفقهاء للشؤون العامة، فقد برزت نقاط الضعف هذه عند كثير من الفقهاء والمجتهدين، ولم يستطيعوا أن يلجوا الميدان العملي للأمة وفي إحكام وإدارة شؤونهم بعد أن تربّوا ولفترات زمنية طويلة على الحالة الفردية، حيث حصروا اهتمامهم بالميادين الخاصة للإنسان المسلم في عباداته وسلوكياته.. ومن هنا برزت الحاجة ملحّة لإعادة النظر في هيكلية ومضامين الدراسات في الحوزة العلمية، ومجالات العمل الاجتهادي.

ومن هنا برزت الدعوة للتمازج بين الحوزات العلمية والجامعات الحديثة، كما هو معروف من مشروع آية الله الشهيد بهشتي وآية الله المطهري، والذي أكده ودعمه الإمام الخميني (أعلى الله مقامه) وظل يطرحه كثيراً في أحاديثه ولقاءاته مع طلاب الحوزة والجامعات، وألّفت لذلك لجان علمية مشتركة عالية بين الحوزة العلمية والجامعات، وسار على ذلك خلفه سماحة قائد الثورة الإسلامية آية الله السيد علي خامنئي في دعم هذا المشروع، وفي توسيع الذهنية الاجتهادية للخروج من مأزق الفردية إلى العالم الأرحب الأوسع في الفقه والاجتهاد.

وأضاف عليها سماحة السيد خامنئي التأكيد على مبدأ التكامل بين فقهاء الأمة ومجتهديها عبر مشروعه في الحث على التخصص العلمي.. وكلها مساعٍ تصبّ في مشروع إصلاح الحوزة العلمية وإعادة صياغتها علمياً وإدارياً، ولكنها جميعاً لا زالت تراوح مكانها مع الأسف.

2.­ ومن زاوية ثانية ترك السيد الشهيد الصدر آثاراً بليغة وواضحة في إصلاح الحوزة العلمية، وذلك من خلال أهم مفاصل الدرس العلمي، وهو إصلاح وتجديد علم الأصول، إذ قدّم فيه من البحوث والدراسات ما تجمع الأوساط العلمية على جدارته مضموناً وأسلوباً، والتي فرضت وجودها وأخدت طريقها للكثير من حلقات الدرس في الحوزات العلمية في العراق وإيران وسوريا ولبنان والهند وغيرها، بالإضافة إلى اهتمام المحافل العلمية والجامعات بما تضمنته كتاباته الأصولية لما فيها من نظريات علمية، بعد أن خلّص هذا العلم من بعض الزوائد والتراكمات التي لا حاجة لها، والتي أثقلت كاهلة لقرون عديدة.

وفي الواقع إن محاولات الشهيد الصدر رحمه الله لم تتوقف عند حدود إعادة كتابة علم أصول الفقه، أو محاولة توجيهه للاجتهاد نحو الشأن العام الاجتماعي، وتخليصه من النزعة الفردية، وإنما امتدّت إلى كل مجالات واهتمامات الحوزة العلمية كالفقه وإعداد دروس في التفسير والفلسفة والاقتصاد وغير ذلك من حقول المعرفة والعلوم التي يحتاجها طالب العلوم الإسلامية، بروح متجددة متطورة تختزن منظوراً شاملاً وتعتمد روح التفتح على الموروث الفكري الإسلامي الأصيل، وفي نفس الوقت تعتمد على التفتح على التجديد، وعلى معطيات الحياة المعاصرة في معطياتها العلمية وأساليبها المتطورة.

ثانياً: إصلاح المرجعية الدينية

وإذا ما انتقلنا بالحديث من الحوزة العلمية، باعتبارها المؤسسة العلمية المتخصصة بالدراسات العلمية الإسلامية، وجهود السيد الشهيد الصدر الناجحة في إصلاحها إصلاحاً شاملاً، فإن ذلك يدعونا بالضرورة إلى وقفة أخرى عند المرجعية الدينية، ويستوقفنا فيها العديد من النقاط والأسئلة، مثل: ماذا تعني المرجعية الدينية، وإلى أين انتهت، وما هي عوامل القوة والضعف فيها، ثم ما هو دور ومشروع الشهيد الصدر في إصلاحها، وما هي مهمة العلماء المعاصرين، وما هي علاقة ودور الأمة في مشاريع وأفكار إصلاحها..؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الملحة الحائرة، وهناك بلا شك العديد، الكثير من القضايا والتفصيلات لا يمكن طرحها؛ لأنها تحتاج إلى فسحة وبحوث موسّعة فكرية وتاريخية واجتماعية لا يسعها هذا البحث، نأمل في العودة إليها إن شاء الله تعالى في مناسبات تكميلية لاحقة؛ ولذا سنقف عند أبرز النقاط التي أثرناها:

ماذا تعني المرجعية الدينية؟

قد يقال: لا يوجد نص شرعي تاريخي صريح ومباشر في الفكر الإسلامي يؤكد استعمال لفظ المرجع والمرجعية بمعناها المعروف الآن، إلا أنه يمكن القول: إن ذلك مأخوذ من مفهوم الموضوع ومادته المشتقة من الرجوع والاتّباع والاعتماد، بغض النظر عن خصوصيات الرجوع والراجع والمرجوع إليه، فالرجوع لغة: العود، وقد استعمل في القرآن الكريم في معناه اللغوي في مجالات متعددة، منها الإيجابي المحبّب ومنها السلبي المبغوض ومنها غير ذلك.

ومما يناسب موضوعنا قوله تعالى: <إِلَى اللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ..>[16] وقوله تعالى: <يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ>.[17]

وهو ليس ببعيد في الاشتقاق من قوله تعالى: <وَمٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .. >.[18]

وإن أقرب نص حديثي يمكن أن يواكب النص القرآني ويؤكد معنى الرجوع والمرجعية هو قول الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (.. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم).[19] بالإضافة إلى أحاديث عديدة ونصوص لعلماء وفقهاء كبار عبّروا فيها عن الفقيه بالمرجع، وجرى في الأدبيات والمخاطبات والمراسلات استعمال المرجع والمراجع والمرجعية الدينية.. فإذن لا دقة ولا صحة لما يقوله البعض من أن كلمة مرجع أو مرجع أعلى هي من مصطلحات المتأخرين، وبالتحديد في النصف الثاني للقرن العشرين فقد أجمع الشيعة الأمامية الاثنا عشرية على أن الإمام الثاني عشر، الإمام المهدي الحجة بن الحسن؟عج؟ هو الذي أرجع الناس في أحكام الدين والفتاوى وإدارة شؤون المؤمنين إلى العلماء، رواة الحديث من ثقاة المؤمنين بعد أن أملت عليه الظروف موضوع الاختفاء والغياب، سواء في مرحلة التمهيد في الغيبة الصغرى بإرجاع الناس إلى نواب الإمام الأربعة المعروفين في تلك الفترة وهم المعروفون بالسفراء الأربعة: عثمان بن سعيد، ومحمد بن عثمان، والحسين بن روح، وعلي بن محمد السمري أو الصيمري، والذي انتهت فترتهم في المائة الثالثة للهجرة النبوية، وبها انتهت فترة الغيبة الصغرى عام 320هـ، لتبدأ فترة الغيبة الكبرى وانقطاع الاتصال المباشر المعروف بين الإمام المهدي عليه السلام وبين الأمة، وحيث بدأت مرجعية العلماء الفقهاء كمراجع للطائفة، ومن أوائل المراجع في الغيبة الكبرى أو ما عرف بالنيابة العامة علماء كبار معروفون أمثال علي بن بابويه القمي المتوفى عام 329ق، وأبي جعفر الكليني المتوفى أيضاً في نفس العام، ثم من بعده ابن قولويه المتوفى 368ق، ثم الشيخ المفيد، ثم ابن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق، فالسيد المرتضى، فالشيخ الطوسي، وهكذا إلى هذا العصر، رحم الله الماضين من العلماء وحفظ الله الباقين.

ونحن لسنا بصدد التوسع في تعداد المراجع والمرجعيات، ولكننا نحاول ۔ بإيجاز ۔ أن نضع مسألة المرجعية الدينية في سياقها التاريخي، تمهيداً لموضوعنا، وهو يدور ۔كما أسلفنا۔ حول رؤية الشهيد الصدر في إصلاح هذه المؤسسة العتيدة؛ إذ كان الشهيد الصدر من السباقين في التفكير بإصلاح هذه المرجعية، وكان دائب الاتصال والحديث عن دور المرجعية الدينية، وضرورة إجراء الإصلاحات الشاملة في هذا المركز الإسلامي الكبير، وإن سنن الحياة ومنهج التكامل والتطوير يستدعيان التفكير بالموضوع، خصوصاً بعد أن وصلت الأمة في ارتباطها بالمرجعية مدارج عالية، انطلاقاً من توسع مفهوم المرجعية الدينية وتعدد آفاقها ومسؤولياتها؛ لذا فقد أولى رحمه الله هذه المسألة عناية فائقة، وأعطاها بُعداً حركياً وبادر مبادرات عملية بطرح عناوين هذا التغيير، حيث شاع عنه طرحه لمشروع الإصلاح المرجعي، والذي أسماه حيناً بالمرجعية الموضوعية وتارة بالمرجعية الصالحة وثالثة بالمرجعية الرشيدة.

وإذا تحرّينا الدقة فإن تعدد هذه التسميات يشير إلى تعدد مضامينها ومفاهيمها، ومقاصد الشهيد الصدر فيها، وقد سعى رحمه الله لوضع نواة هذا الإصلاح، وخصوصاً بين تلامذته ومريديه، ودعا إلى تدارسها وتطبيقها، وهو ما سمعناه منه نصاً في بحوثه العامة، ومجالسه الخاصة، وكتب في ذلك ولو بالشكل العام، دون الدخول في التفاصيل، وهذا يستدعي دراسة أفكاره ومشاريعه، خصوصاً بعد تنامي الصحوة الإسلامية ودخول الأمة أطواراً متقدمة، ولارتباط الأمة بالمرجعية الدينية، وتعدّد مسؤولياتها، وكلاً من الأمة والمرجعية تمثّلان الكيان الإسلامي العام والمجتمع البشري الشامل، وحيث إن البشرية تعيش تطورات تشمل نمط الحياة، ووسائل الاتصال والأفكار والمعارف والإدارة، وأساليب التعاطي.. فلا يمكن للمرجعية الدينية ۔ في مثل هذه الظروف ۔ أن تتخلف عن هذه التطورات، أو تنغلق على نفسها ضمن الأطر والأساليب القديمة والتي باتت حتماً عاجزة عن تلبية حاجات المرجعية الدينية العامة وحاجات الأمة، في ضرورة متابعة شؤونها وتنظيمها، بما يفي بالتزاماتها تجاه الأمة من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وتوزّعهم في مختلف بقاع العالم واندماجهم في شتى حقول الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية.

لهذا أدرك الإمام الشهيد الصدر أهمية إعادة النظر في المرجعية الدينية وأهمية الإصلاح والتطوير، وحاول جاهداً طرح رؤيته في الدعوة إلى تطويرها وإصلاحها، واعتبر ذلك ضرورة حياتية يميلها الدين والأخلاق، فقال في إحدى محاضراته: (.. من مظاهر أخلاقية الإنسان العامل هو الاتجاه إلی التجديد في أساليب العمل، ونحن عندنا نظرية وعندنا عمل، النظرية هي الإسلام، ولا شك ولا ريب أن ديننا ثابت لا يتغير ولا يتجدد، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يفترض كون هذا الدين بحاجة إلى تغيير أو تحوير أو تطوير؛ لأن هذا الدين هو أشرف رسالات السماء وخاتم تلك الأديان، الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى للإنسان في كل مكان وفي كل زمان؛ ولهذا فالصيغة النظرية للرسالة صيغة ثابتة لا تتغير، ولا يمكن أن نؤمن فيها بالتجديد..) ويضيف رحمه الله محذّراً من سوء الفهم في معنى التغيير والتجديد، فيقول رحمه الله:

من الخطأ ألف مرة أن نقول بأن الإسلام يتكيف وفق الزمان، الإسلام هو فوق الزمان والمكان؛ لأنه من وضع الواضع الذي خلق الزمان والمكان، فقد قدر لهذه الرسالة القدرة على الامتداد مهما امتد المكان والزمان، فالصيغة النظرية للإسلام صيغة ثابتة، فوق التجدد وفوق التغيير، لابد لها أن تحكم كل عوامل التغيير، وكل عوامل التجدد..

وأما العمل في سبيل هذه النظرية.. ففي أساليب العمل الخارجي، كانت لدينا حالة، أنا أستطيع أن أسميها حالة النزعة الاستصحابية، الاستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول طبّقناه على أساليب العمل، وطبقناه على حياتنا، فكنا نتجه دائماً إلى ما كان، ولا نفكّر أبداً في أنه هل بالإمكان أن يكون أفضل مما كان..؟ وهذه النزعة الاستصحابية إلى ما كان والحفاظ على ما كان تجعلنا غير صالحين لمواصلة مسؤولياتنا؛ وذلك لأن أساليب العمل ترتبط بالعالم، ترتبط بمنطقة العمل، ترتبط بالبستان الذي نريد أن نزرع فيه، وهذا البستان، وهي الأمة التي تريد أن تزرع فيها بذور الخير والتقوى والورع والإيمان.. ليست كلها حالة واحدة، الأمة تتغير، وحيث إن الأمة اليوم غير الأمة بالأمس، لا يجوز لك أن تتعامل مع الأمة اليوم كما تتعامل مع الأمة بالأمس.. أنت اليوم حينما تريد أن تتصل بإنسان من أبناء الأمة في بلد آخر لا تمشي على رجليك، ولا تركب حيواناً، وإنما تركب سيارة أو طائرة لكي تصل إلى هناك.. يجب أن يكون واضحاً عندنا أننا يجب أن نتعامل مع هذا الإنسان الحي الموجود في الخارج، فلابد من أن نفكّر دائماً في الأساليب التي تنسجم مع هذا الإنسان.. أليس بالإمكان هذا..؟

وينتقل الشهيد الصدر رضوان الله عليه بعد هذه المقدمات المنطقية في تشخيص فكرة التطوير والتجديد، وبعد تشخيص دوائر العمل والنقاط المطلوب تجديدها.. إلى وضع خطوات وممارسات عملية للإصلاح في هيكلية المرجعية الدينية، يقول رحمه الله:

فكر الشهيد الأول في أن يضع قواعد لهذه المرجعية، لكن هذه القواعد أهي هي..؟ لابد وأن تبقى بحدودها التي كانت في أيام المماليك؟ تلك الحدود التي كانت في أيام المماليك في سوريا تصدق على ما هو موجود اليوم في العالم، مع تغير العالم، وليس العالم اليوم عالم المماليك..؟

ويتخذ الشهيد الصدر رحمه الله من ذلك النموذج منهجاً ومبرراً لمواصلة عملية التطوير والتغيير، ويطرح عدة تساؤلات علمية ومنطقية للخروج من دوائر الجمود والتحجر، لينطلق في مسار التفكير والتغيير: (ما هو العمل؟ كيف العمل؟ ما هي أساليب العمل؟ كيف يمكن تحديد أساليب العمل، بالشكل الذي ينسجم مع أمة اليوم؟) وهذه أسئلة صعبة، وقد يكون الجواب عليها أصعب؛ لأنه ليس هناك ترويض فكري، وليس هناك مطالعات عامة أو خاصة كافية؛ إذ قد تجد الجواب على مسألة أصولية؛ لأن هذا الإنسان أو ذاك قد درس الأصول لمدة عشرين عاماً واكتسب الاستعداد والمطالعات العامة والخاصة، (وأما مثل هذه الأسئلة، فحيث أنها بنفسها أيضاً أسئلة دقيقة، ومرتبطة بمدى خبرة الإنسان وتجاربه واطلاعه على ظروف العالم؛ لهذا قد يجد صعوبة في الجواب على هذه الأسئلة، لكن هذه الصعوبة لابد من تذليلها بالبحث والتفكير ومواصلة البحث والتفكير، إذن فلابد أن نجعل جزءاً من وظيفتنا أن نفكّر دائماً في أنه كيف نغير أساليب العمل..؟ كيف ننسجم مع وضعنا وبيئتنا؟)[20]

ويحاول الشهيد الصدر رحمه الله أن يقرّب الموضوع إلى ذهن السامع، ويزيل العقبات أمام مشروع الإصلاح والتغيير، ويدفعنا للسير في طريق الإصلاح، وبلورة خطوات فكرية ۔ عملية، فيقول:

.. إذن يجب أن نفتح أعيننا على العلم، إذن يجب أن نعيش الخبرة والتجربة في العالم، إذن يجب أن نفكّر في أساليب العمل، لا بالطريقة التي نفكّر بها في علم الأصول.. وأما العمل الاجتماعي فهو بحاجة إلى حدس اجتماعي والحدس الاجتماعي يتكون من خلال التفاعل مع الناس، من خلال الاطلاع على ظروف العالم.. من خلال الاطلاع على الملابسات، من خلال الاطلاع على التجارب التي قام بها الآخرون.. من خلال المقارنة بين أحوالنا وأحوال الآخرين.. .[21]

وهو رحمه الله يرسم الفكرة بكافة أبعادها، ويدفع راية الإصلاح في الاتجاه الصحيح، ويحدد المسار الصحيح في قراءة القضايا والمشاكل وفي فهم أبعادها وظروف العمل؛ إذ أن مشكلة إصلاح المرجعية الدينية حملت من التراكمات والضغوط ما أثقل كاهلها، وصيّرها في حوزة خشناء، كما يقول علي أمير المؤمنين عليه السلام: (.. فصيّرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها)[22]، وهو تصوير ينطبق على الحالة، وإن اختلف المورد، إلا أن الشبه واضح والتشابه كبير والمشكلة تنوء بثقل التعقيدات والحاجة إلى فهمها، والإصرار على الإصلاح فيها، فإن كثيراً من العلماء والمصلحين حاولوا، وفي مراحل مبكرة، النزول إلى المستويات العملية، وكما عرفنا من حياة وأنشطة علمائنا في النجف الأشرف وقم ولبنان، أمثال جمال الدين الأفغاني والميرزا النائيني والسيد محسن الأمين والسيد عبد الحسين شرف الدين، وكاشف الغطاء والجزائري والمظفر والإمام الخميني والشهيدين البهشتي والمطهري وغيرهم.

وحاول بعض المصلحين ۔ كما فعل الشهيد مرتضى المطهري ۔ أن يلج ميدان الإصلاح بعقد مقارنة بين أوضاع المرجعية الدينية الشيعية والمرجعيات الدينية الأخرى مشيراً إلى نقاط الضعف والقوة في كل منها، يقول رحمه الله:

لو قارنا بين مسلك علماء الدين في إيران ۔يقصد في العالم الشيعي۔ وفي مصر بزعامة الجامع الأزهر، للاحظنا وجود امتياز لكل من هاتين المؤسستين على الأخرى، ففي مصر يعيّن رئيس الجمهورية رئيس الجامع الأزهر، بالنظر لأسباب خاصة يأتي على رأسها عدم وجود ميزانية مستقلة للجامع الأزهر، وكذلك وجود نظرة مختلفة في مصر بشأن ولي الأمر.. إن زعيم مصر الديني لا يمكن أن يبلغ من القوة والقدرة بحيث يستطيع في قضية مثل قضية التبغ أن يسقط حكومة، لماذا؟ لأنه ۔أي زعيم الأزهر۔ متكئ على الدولة، ولكن من جهة أخرى نجد أن عالم الدين المصري بالنظر لكونه لا يجد أي لا يعتمد بحصوله على مرتّبه ومورد معاشه في أيدي الناس، فإنه لا يكون متكئاً على العامة، وتكون له حرية الرأي والعقيدة، ولا يخفي الحقائق ولا يكتمها؛ لأنه لا يخشى الناس)

ثم يخطو الشهيد المطهري رحمه الله خطوة جريئة في تسمية الأشياء بأسمائها ووضع النقاط على الحروف في حالة المرجعية الدينية الشيعية، بوقوعها تحت الضغوط فيقول:

إنه لمن المستبعد أن يقدر رئيس ديني شيعي في هذه الظروف الحاضرة، مهما يكن حي الضمير وطالب إصلاح ومخلصاً على إصدار فتوى مثل الفتوى التي أصدرها الشيخ شلتوت، والتي حطّم بها طلسماً دام أكثر من ألف سنة، أو حتى يخطو خطوة أصغر من تلك الخطوة بكثير…[23]

ثم ينتهي الشهيد المطهري رحمه الله إلى النتيجة المنطقية التالية، فيقول:

إذا اعتمدت المؤسسة الدينية على الناس نالت القدرة، ولكنها تخسر الحرية، وإذا اعتمدت على الحكومات فقدت القدرة واحتفظت بالحرية.. فالمؤسسة التي تتكئ على الناس تكون قادرة على محاربة ظلم الحكومات وتجاوزها، ولكنها ضعيفة في محاربة خرافات الجهلة وعقائدهم الباطلة. أما إذا استندت المؤسسة إلى الحكومات فإنها تكون قادرة على محاربة العادات والأفكار الجاهلية، وتكون ضعيفة في وجه ظلم الحكومات وتجبّرها.[24]

وفي محاولة لمعالجة موضوعية لحل هذه الإشكالات وإيجاد طرق للتخلص من السلبيات، يضيف الشيخ المطهري رحمه الله واضعاً يده على مكمن الداء، فيقول:

عندي أن استناد ميزانية علماء الدين على الناس ليس هو سبب ضعفهم، إنما سبب الضعف هو عدم وجود تنظيم لهذه الميزانية، وهو الذي يؤدي إلى هذه المنقصة الكبيرة، فبتنظيم ميزانيتهم يمكن إزالة المنقصة الكبرى، بحيث يكون لعلماء الدين الشيعة كل القدرة والحرية، وهدف كلامنا في هذا الموضوع هو أن نبلغ بالمؤسسة الدينية إلى هذه المرحلة المثالية.. .[25]

ويقف الشهيد المطهري طويلاً أمام هذه الفكرة، فمشكلة إيجاد وتنظيم ميزانية مالية في إطار مؤسسة هو ۔ في نظره ۔ جزء من حل، وإن إخراج المرجعية الدينية من مخاطر الفوضى المالية الضاربة بأطنابها في وضع المرجعية الدينية يعتبر هو الأساس في كثير من المشاكل، وإن في حلها وتنظيمها حلاً لأكثر مشاكل المرجعية الدينية، إن لم يكن حلاً جذرياً لجميع المشاكل، إذ يقول رحمه الله:

ليس طريق الإصلاح إلا يكون للحوزة الدينية ميزانية، وأن يكون على كل شخص أن يعيش من عرق جبينه، ولا طريق الإصلاح هو أن يصبح علماء الدين عندنا مثل علماء الدين في مصر أتباعاً للدولة، طريق الإصلاح واحد: تنظيم الميزانية الموجودة فعلاً، إن ميزانية الحوزة الدينية عندنا تعاني من حالة مماثلة لتلك، ولا طريق لإصلاحها إلا بإخضاعها للتنظيم، وبإيجاد صندوق عام ودفاتر حسابات وأرصدة في مراكز الحوزات، بحيث إن أحداً لا يستطيع أن يقبض مالاً من الناس مباشرة، بل يأخذ كل بحسب الخدمة التي يؤديها من ذلك الصندوق الذي يكون تحت تصرّف علماء الدين من الطراز الأول، فيعتاشون منه.. فلو أصبح هذا الحال لما راح أحد يتصل بالناس بصورة مباشرة، ولتحرر مراجع التقليد المحترمون ولانتفت عن المساجد صور كونها أمكنة للكسب ووضع حد لحالتها المؤسفة هذه.[26]

وقد ناقش هذه المسألة عدد كبير من العلماء المصلحين، سواء في مجالسهم العلمية الخاصة، أو في كتاباتهم المنشورة، يقول الشيخ محمد إبراهيم جنّاتي بعد سرده لحالة المرجعية، ناقداً بعض ما تعانيه هذه المؤسسة العتيدة، من حالة الفردية في الأهداف والأساليب يقول:

نلاحظ أن المرجعية ما فتئت تعيش حالة شخصية؛ ولذلك فإن الذين يعاونونها يلتفون حول الشخص، بحيث تكون القضية في وعيهم لخدمة الشخص ولا يكون الشخص في خدمة القضية، فجُلّ اهتمام من يحيطون بالمرجع هو الاهتمام باسم المرجع بتأكيد شخصيته وفاعليته ومصداقيته لدى الناس.. إن مشكلة المرجعية في كل تاريخها كانت شخصاً، كانت تعتمد على مستوى هذا الشخص، وعلى مبادراته، وعلى سعة أفقه، والظروف والأشخاص المحيطين به، ومن هنا فإننا في الوقت الذي نؤكد أن المرجعية في كل تاريخها قامت بمبادرات مهمة في الدائرة الشيعية، وأنها حفظت التشيع بطريقة أو بأخرى، لكنها لم تفكّر بأن تتحمل مسؤولية التشيع أمام كل المتغيرات الواقعية على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وعلى مستوى التطورات التي انطلقت في العالم؛ ولذلك فإننا نعتقد أن المرجعية ۔ بمسارها الفردي الحالي ۔ لم يعد باستطاعتها أن تقوم بما يرفضه عليها موقعها القيادي الكبير، وبمسؤولياتها تجاه الشيعة على الأقل، إذا لم نقل باتجاه المسلمين كافة؛ لأن التشيع ليس طائفة، وإنما هو خط في الإسلام.

ويضيف الشيخ جنّاتي مؤكداً ما شخّصه الشهيد الصدر والعلماء المصلحون من عجز المرجعية الدينية بوضعها الحالي ۔ الفردي ۔ عن أداء التزاماتها الفعلية والمستقبلية، فيقول:

إننا نعتقد أن المرجعية ۔ مع احترامنا للأشخاص الذين يتحركون في دائرتها أو يشرفون عليها أو يقودونها ۔ لا تستطيع أن تواجه تطورات العصر؛ ولذا فهي تعيش انكماشاً في دائرتها الخاصة، في نطاق الفتاوى أو في نطاق بعض الأعمال التي تتحرك هنا وهناك.. .

ويضيف الشيخ قائلاً:

إن المرجعية الدينية حتى وإن نهضت في بعض الأحيان بالمهام الجسام، إلا أن الإصلاح وحركة التغيير، إذا لم تكن شاملة وعامة، والتغيير إذا لم يكن أساسياً في منهج المرجعية، وتحولها إلى مؤسسة ذات مناهج ثابتة في الوعي والممارسة.. فإنها ستنتكس، وتعود بعد غياب المرجع الواعي المتحرك فيقول: (ولذلك فإننا نتصور أن الواقع الإسلامي الشيعي، الذي استطاع أن يجد في مرجعية الإمام الخميني الصدمة الكبرى لكل الأوضاع المتخلفة التي عايشها والارتباك الذي تتخبط فيه، لا يزال هناك الواقع خاضعاً لكثير من المؤثرات السلبية هنا وهناك، وبفعل فقدان الخط البياني المتحرك بطريقة تصاعدية منظمة، ولأنك عندما تلتقي بمرجعية رائدة، فإنها قد تخلفها مرجعية عادية جداً، قد تجمد تلك الروح التي كانت قد انطلقت أو تحركت…

لهذه الأسباب ولغيرها كان منهج الشهيد الصدر في الإصلاح يرنو نحو إيجاد صورة وفكر وجوّ علمي يعزز دور المرجع، ويحرس مشروع وعمل المرجعية، وذلك بإصلاح هيكل المرجعية باعتبار أن مهمة الإصلاح هي مهمة عامة ومشتركة، يتحمل مسؤوليتها:

أولاً: العلماء والمفكرون الإسلاميون، ومن يهمّهم شأن الإسلام والصحوة الإسلامية، إذ أن إصلاح هذه المؤسسة القيادية هو الأساس والقاعدة لإصلاح كثير من أمور وقضايا الأمة، وأخذها لمكانها الطبيعي، ولابد للعلماء والمصلحين أن يتحركوا بجدّ في هذا المجال، بإثارة هذه الفكرة وعبر البحوث والدراسات والمؤتمرات.

وثانياً: لابد للأمة، وهي التي انتشر فيها الوعي، وانتقلت في عملها وعلاقتها من الخير الفردي ۔ في المرجعية ۔ الذي كان سائداً لقرون، وكان في يوم ما وافياً بالغرض، وكافياً لحجم الأمة ودورها ومدى ارتباطها بالمرجعية الدينية.. بل إن كثيراً من طبقات الأمة بلغت من النضج والوعي، وإدراك المسؤولية حد الاستغاثة، لإصلاح شأن المرجعية الدينية، والانتقال بها من طور الحالة الفردية إلى دائرة الإدارة المركزية المؤسساتية، وبكل ما تعنيه هذه الكلمات.

وإذا كانت شرائح وطبقات الأمة الواعية تواصل الارتباط بالمرجعية بصورتها الفردية إلى اليوم، فإنها تؤدي بذلك أدب الطاعة والارتباط، لأسباب نفسية أخلاقية أدمنتها عبر قرون، وصارت تتحرك وتؤدي التزامات وتمارس دوراً تقليدياً، انطلاقاً مما تحمله من تقديس واحترام موروث، وبهذه الصورة.

وهذه الشرائح والطبقات، ومع أخلص صيغ أدائها للولاء والطاعة والالتزام، فإنها لا تخفي تبرّمها من سلبيات الحالة الفردية، كما لا يخفي المخلصون قلقهم من محاذير ومخاطر الإصرار على انعدام الإصلاح، وتأخر الانتقال بالمرجعية الدينية إلى الطور المنظّم المؤسساتي. إن الإصرار على الأساليب القديمة يضر بسمعة ومنهج مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ويعرّضها إلى التخلف عن ركب الحياة. وعن تقدم الأمة وسنن التطور الحتمية.. وإن اتساع شأن الأمة وتعقّد المسؤوليات وتعدد التزامات المرجعية الدينية، تحتّم على الجميع العمل الجاد الواعي لاستيعاب حركة الإصلاح وفهمها، للوفاء بالالتزامات المرجعية.

وأما كيف يؤدي هذا الإصلاح وكيف يتم تصور وبناء صيغة للانتقال بالأمة من المرجعية الفردية إلى المرجعية المؤسسة، وتحديد آليات وميادين العمل؟ فهذا ۔ كله ۔ هو مسؤولية العلماء والمفكرين الذين يهمّهم أمر الإسلام، وهو أمر لابد أن يدرك بعناية فائقة، بما يحفظ للمرجع والمرجعية دورها المرسوم لها من الله تعالى ومن الرسول صل الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، وبما يهيّئ للمرجع أداء دوره في خدمة الأمة، واستيعاب صحوتها والوفاء بالالتزامات الشرعية المتزايدة باطراد في هذا العصر، وكلما سمحت الأمة والمرجعية الدينية لآثار التطور والنهوض أن تنفذ إلى أعماق الوجود الإسلامي، وتلبّي حالة النهوض والصحوة، بما يتفق وأسس وثوابت الدين والعقيدة، وبما يؤكد مرونة التشريعات الإسلامية في إطار فهم مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وفقهاء مدرستهم الواعين المخلصين، كنا قريبين من الإصلاح وكنا نسير بالطريق الصحيح إن شاء الله.

ومما لا شك فيه أن العلماء والمفكرين واعون تماماً لمستجدات العصر وآفاق الصحوة الإسلامية ويدركون حجم التوسع وحجم المسؤوليات التي أنبطت بهم، وفي المقدمة منهم السيد الشهيد الصدر؛ ولذا نجده يستمع إلى نداءات الأمة المتعالية، الداعية إلى الإصلاح في المرجعية الدينية لتكون وافية بسعة الصحوة وامتداداتها. وإن هذه المرجعية إن لم يجرِ عليها الإصلاح والتنظيم المناسبان فستكون خسارة الأمة كبيرة بذلك، وستؤدي ۔لا سمح الله۔ إلى انتكاسه في واقع الأمة الإسلامية ومستقبلها، قد يكون أقلها ۔ أو أولها ۔ تمزّق الأمة، وتمرد كثير من شرائحها الاجتماعية، وربما تجبرها على الخروج عن دائرة السيطرة والالتزام والضبط عن مسيرة الصحوة الإسلامية واستمرارها، ونموّها ورسوخها، كما لا نرغب أن تنفرد بعض الأطراف ۔ في الأمة ۔ بأن تستبق علماءها ومفكريها في معالجة مثل هذه القضايا والمشاكل، وهذا ما شخّصه الإمام الصدر، ودعا إلى معالجته في أكثر من مناسبة؛ إذ أن مشروع بناء المؤسسة المرجعية وإعادة نشاطها وصياغة هيكلها العام.. هو شأن كبير جداً يستدعي أن لا ينفرد أحد أو جهة واحدة بتخطيطه ورسم كافة أبعاده ومساراته كما لا ينبغي لأحد أن يبادر إلى رفضه ابتداءً، والوقوف بوجه خطوات المرجعية والإصلاح، فمواقف المعارضة المتشنجة والرفض السلبي والإعراض لمجرد الإعراض يزيد المسألة تعقيداً، ولا يقدّم شيئاً أو حلاً، وبعيداً عن الرفض المتشنج وبعيداً عن الحالة العاطفية والتي قد تطغى على بعض دعاة الإصلاح يمكن أن تختصر المسافات، بهدف الوصول أمثل الصيغ، والتي تطرح بهدوء.

فيجب أن لا يشتطّ بنا الرفض فنتناسى أن المرجعية الإسلامية عموماً، والشيعية بصورة خاصة ۔ وفي إطارها المرجعي التاريخي العتيد ۔ لا شك أنها أمل الأمة وأمل الصحوة الإسلامية، وقد دخلت هذه المرجعية التاريخ، وأطلت على الدنيا بمشاريعها العظيمة، كالجمهورية الإسلامية في إيران، وتوسّع الوجود الإسلامي والشيعي، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، كماً وكيفاً، وبشكل لا يمكن تجاهله، أو غض الطرف عن مشاريعها المباركة.. إلا أن رؤية الشهيد الصدر، وعدد غير قليل من العلماء المصلحين ۔ قبله وبعده ۔: أن المرجعية الإسلامية الشيعية، بآلياتها الفردية المحدودة وأوضاعها، وما تعرّضت له من ابتلاءات وشراسة المواجهة، وخصوصاً في قاعدتها التاريخية في النجف الأشرف، وما تعرّضت له من تدمير متعمد.. كلها عوامل تؤكد حاجة المرجعية الدينية إلى الإصلاح والتغيير، وهو ما نقرأه صريحاً في تحرك الإمام الشهيد وعبر أبحاثه الفكرية والعلمية والسياسية، وعبّر عنها أحياناً بالمرجعية الصالحة والمرجعية الموضوعية والمرجعية الرشيدة، والأسماء الثلاثة وإن كانت تنطوي على بعض الخصوصيات التي تميز بعضها عن بعض، إلا أن جوهر المشروع واحد، وهو الخروج بالمرجعية من حالتها الفردية التاريخية إلى حالة المركزية المؤسساتية العامة، وأنه لابد للمرجعية أن تتحرك وتعمل في دائرتين:

الأولى: العمل على أن لا تكون المرجعية، ولا تبقى شخصاً أو تراثاً خاصاً فردياً، بل يجب أن تكون مؤسسة بحيث أن المرجع عندما يأتي فإنه يأتي إلى مؤسسة تختزن تجارب المراجع السابقين، وبحيث تكون كل الملفات والوثائق، والتي تمثل علاقات المرجعية بالعالم وتجاربها، وخصوصيات القضايا التي عالجتها، حتى في مسائل الاستفتاءات والأسئلة والأجوبة.. وهذه تمثّل ثروة علمية كبيرة، يجب أن تكون محفوظة للأمة، توضع تحت تصرف المرجعية الجديدة، والتي ستجد كل هذه القضايا والتجارب جاهزة في مؤسسة المرجعية، وليبدأ المرجع ۔أو المرجعية۔ من حيث انتهى المرجع السابق، لا ليبدأ بعيداً عن كل التجارب السابقة.

والثانية: ومن جانب آخر، فقد بات واضحاً أن الأمة تنتظر من المرجع ۔ كما هو شأن الأئمة عليهم السلام الذين خلفهم العلماء بقيادة الأمة ۔ أن يكون حاضراً في قضاياها في ساحات العالم، وأن تطلّ المرجعية على أحوال العالم، ومجريات الأحداث.. لارتباط كل ذلك بأحوال المسلمين وشؤونهم، فقد بات العالم ۔ كما يقال ۔ كقرية واحدة صغيرة، سواء على صعيد الاتصالات أو علی صعيد العمل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي.. ولا يمكن أو يتسنى الإلمام والإحاطة بهذه الشؤون والقضايا الكبيرة والمتشعبة للمرجع كفرد يعيش في جزء قصير من العالم، أو واقع تحت هيمنة حاكم ظالم مستبد، كما هو الحال في العراق وغيره.

وأما التساؤل حول الكيفية التي يمكن أن تتم فيها تنظيم وإنجاز هذا المشروع؟ ومدى إمكانية تطوير حالة المرجعية الفردية والنهوض بها؟ وكيفية بناء واختيار هيأتها ومؤسساتها؟ وهل يمكن تطوير المرجعية عبر وسائل هادئة وتدريجية؟ وهل يسمح القديم بإفساح المجال الجديد؟ وكيف يمكن الاستفادة من المعطيات العلمية في التنظيم والاتصال؟ بهدف الوصول لأمثل الصيغ والأساليب والوسائل لإنجاز وأداء واجبات المرجعية الدينية؟ فهي قضايا وأمور تفصيلية، تحمل في كثير من الأحيان طابعاً فنياً تنظيمياً يمكن أن تقوم بها، وإعدادها مؤسسات وتجمعات ذات صفة استشارية فنية، والأمة بحمد الله تعالى تمتلك في أبنائها من الكفاءات العلمية والفنية المخلصة ما يمكن لهم أن يؤدّوا أدواراً مهمة ومفيدة.

إن السيد الشهيد الصدر رحمه الله جاهد مخلصاً من أجل الانتقال ۔ فكرياً ۔ بالحوزة العلمية، والمرجعية من طور إلى طور أكثر تقدماً وأكثر فاعلية، ووضعها في آفاق رحبة، ووضع الأسس العامة لفكرة الإصلاح، وهي فكرة أخذت طريقها الواضح في مسار الأمة والمصلحين، وظهرت آثارها الجلية في أجيال جديدة تؤمن بالإصلاح وتمارسه، وأخذت الأمة طريقها في المشاركة والبناء في مسيرة لا يمكن أن تتوقف، هي مسيرة وفكرة السيد الشهيد الصدر ومعه المئات من العلماء والمصلحين الرساليين.

بقيت المراحل اللاحقة والخطوات العملية تنتظر التحرك، وهي مسؤولية الجميع وخاصة العلماء الواعون.

<وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ>.[27]

والحمد لله رب العالمين.

[1]. الرعد: 11.

[2]. التوبة: 105.

[3]. الزمر: 17 ۔ 18.

[4]. آل عمران: 190.

[5]. التوبة: 122.

[6]. الفاطر: 28.

[7]. الزمر: 9.

[8]. انظر هذه الأحاديث الشريفة وأمثالها كثيرة جداً، ميزان الحكمة، ج 3، ص 2070 ۔ 2072.

[9]. انظر: جداليات الفكر الإسلامي المعاصر، حلقة رقم 13، ص 48.

[10]. من دروس السيد الشهيد الصدر، طبعت في كراس (المحنة).

[11]. مذكرات محمدرضا المظفر كما يرويها الشيخ محمد مهدي الآصفي عن الأستاذ الإمام المظفر. وانظر: جدل التراث والعصر، الحلقة 7، ص 92.

[12]. م. ن.

[13]. انظر: جدل التراث والعصر، ص 80.

[14]. م. ن.

[15]. انظر: الشهيد الصدر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد في بحوث الإسلامية، ص 79 ۔ 81، ط دارالزهراء، بيروت، لبنان.

[16]. المائدة: 105.

[17]. سبأ: 31.

[18]. التوبة: 122.

[19]. انظر وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 18، ص 101.

[20]. انظر: ذلك في محاضرة ارتجلها الشهيد الصدر في بحثه الخارج في مسجد الطوسي في النجف الأشرف. والمعرفة بمحاضرة (المحنة). طبعت في كراس في مدينة قم ۔ إيران، عام 1404ق، ص74 ۔ 89.

[21]. م. ن.

[22]. نهج البلاغة، الخطبة الثالثة لأميرالمؤمنين عليه السلام.

[23]. الشيخ محمود شلتوت هو شيخ الأزهر الشريف، اختير لمشيخة الأزهر عام 1958م. وهو صاحب الفتوى المشهورة التي يقول فيها: إن مذهب الجعفرية ۔ المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية ۔ مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب.. وقد نشرت الفتوى في الكثير من صحف مصر والعالم الإسلامي، ونصها موجود في كتاب (البرهان على عدم تحريف القرآن)، للسيد مرتضى الكشميري، ص268.

[24]. انظر: آراء الشهيد المطهري في كراس (روحانيت ومرجعيت) مع عدد من آراء العلماء والباحثين في جدل التراث والعصر، الحلقة 7 لعبد الجبار الرفاعي، ص185.

[25]. م. ن.

[26]. م. ن.

[27]. التوبة: 105.