كؤوس النار

الشاعر السيد مدين الموسوي

لبيكَ ما تعبتْ بالشدوِ أوتارُ   ما زالَ صوتُكَ تضرى فوقَهُ النارُ
وما برحتُ أغنِّيها محبَّبَةً   إليَّ يبعثُها دِفْءٌ وقيثارُ
ولا تزالُ بقايا الكأسِ تُلهِمُني   وحياً فتصحو تراتيل واذكارُ
يعيدُ صوتُكَ اصداءً تجمّلُها   في هدأةِ الليلِ أكوابٌ وسُمّارُ
وهَبْتَها مِن لظى عينيكَ بارقةً   فصفّقتْ بكؤوسِ النارِ أقمارُ
دعتْكَ تمنُحها دفئاً وقافيةً   لتُنزلَ الوحيَ أطيافٌ وأشعارُ
ياواهبَ الأكؤسِ الحمراءِ لذتَها   أنِلْ نداماكَ ما تُصفي وتختارُ
  ***  
إني لمستُ على نخلِ الفراتِ ندىً   مِن فيضِ كفَّيْكَ لاحتْ فيهِ آثارُ
وفي وجوهِ الصبايا لا تزالُ رؤىً   خضراءُ توعدُها بالغيث أخبارُ
باتتْ مع الصبواتِ البيضِ ساهرةً   لعلَّ وجهكَ معقوداً لهُ الغارُ
يأتي معَ الفجرِ شمساً لايغيّبُها   ليلٌ وإن أُسدلتْ للغيبِ أستارُ
وفي الغريِّ تجلّتْ كلَّ ساكنة   عصفاً تناجيهِ أضراسٌ وأظفارُ
وفي الجنوبِ سمعتُ الصمتَ ملحمةً   يحكي رؤى الرملةِ السمراءِ أيارُ
مدّتْ لذكراكَ رغمَ القيدِ أذرعها   ورغمَ مامنعتْ بالحقدِ أسوارُ
في كلِّ ومضٍ أرى السحبَ ماطرةً   تستافُ منها ليومِ الطهرِ أطهارُ
وأنتَ مازلتَ تحدو عزَّ خطوتِها   إلى المعالي ومنكَ الصوتُ زءَّارُ
سمعتُ في تَمتَماتِ الجُرحِ منك صدىً   يبوحُ في عمقهِ غيبٌ وأسرارُ
إنَّ الدماءَ التي روّتْ مساربُها   درباً تهاوى على جنبيهِ ثوّارُ
لابُدَّ أن تغضبَ الدنيا لغضبتها   وأن تَغذَّ عليهِ السيرَ أحرارُ
فلا القيودُ ولا الأحجارُ تمنعها   وكلُّ ماصاغتِ الأحجارُ أحجارُ
فالخلدُ ليسَ لمن تُحنى رؤوسُهُم   للريحِ إنْ دبَّ عصفٌ منهُ هدّارُ
ولا لمن يطحن المنفى عزائمَهمْ   ولا لمن إنْ رماهُ الضيمُ خوّارُ
للباذلينَ بقايا الروحِ إنْ خفقتْ   برايةِ الفتحِ آجالٌ وأقدارُ
فالثأرُ يبعثُ حياً رمسَ صاحبهِ   ولا حياةً إذا لم يُطلبِ الثارُ
  ***  
عينانِ لا زالتِ الدنيا يَغالبُها   ذعرٌ إذا عادها مِنهنَّ تذكارُ
عينٌ تصدُّ بها ما كانَ يقذفهُ   زيفٌ لترعاهُ أيمانٌ وأيسارُ
وعينُ جود يُفيض الحبُّ لفْتَتَها   كأنما هي جنّاتٌ وأنهارُ
رعيتَ فيها غِراساً شبَّ يافعُها   في غمرة خاضَها عصفٌ وإعصارُ
أطبقتَ جفنيكَ تحمي طلعَ زهرتها   لتُجتنى في غدِ الآتينَ أثمارُ
وحلَّقتْ منكَ روحٌ في معارِجها   كيما تُلقِّنُ فنَّ الطيرِ أطيارُ
ومُذ وهبتَ لها ماكنتَ تحسبُهُ   زيتاً تُشَبُّ به نارٌ وأنوارُ
راحتْ تحلِّقُ في دنياكَ واعدةً   بأنّ أيامها للظلمِ إِنذارُ
حتى إذا عركتها كفُّ نازلة   وأومأ المجدُ أنَّ الدهرَ غدّارُ
مرّتْ تصولُ وفي أرواحِها كِبَرٌ   وفي شَباها دمٌ بالنصرِ فوّارُ
ألقتْ أعنّتها في معرك لَجِب   واِستمطرَ الجرحَ للفادين إيثارُ
في آخرِ الدربِ صوتٌ منكَ يدفعها   وفي مبادئهِ سبطٌ وكرّارُ
  ***  
أَعِزْ لياليَّ مِن نجميكَ بارقَةً   فقد تمنّتْكَ عند الخطفِ أبصارُ
وخلِّ موحشةً أرختْ كلاكِلها   على رؤايَ بومضٍ منكَ تنهارُ
عادتْ بذكراكَ أحزانٌ تؤرّقني   وشبَّ بي جامحٌ للثأرِ نغّارُ
يصيحُ بي إنْ تناءت عنكَ أشرعتي   وغاب في اللُّججِ العمياءِ بحّارُ
وميضُ عينيكَ أسيافٌ تلاحقني   أنّى نأيتُ لها برقٌ وأمطارُ
ورجعُ صوتِكَ إن صُمّتْ مسامعُها   دنياً، يطوفُ عليها وهو موّارُ
أغيبُ عنكَ وملءُ الروحِ منكَ ندىً   ومنكَ أدنو وحبلُ الودِّ جرّارُ
حتى أذوبَ بجرح كنتَ راعفَهُ   حباً ويأخذني بالوجدِ تيارُ
فتعتريني حنيناً هاجَ مُنتفضاً   كما تقابلُ لفحَ النارِ أزهارُ
وحولَ صوتكَ ألقى أمةً نفضتْ   جراحَها زيتَ غيظ وعدُهُ نارُ
تكلّلتْ من هوىً أطلقت حرقتَهُ   كما يُزيِّنُ وجهَ الصخرِ نوّارُ
دماكَ أصدقُ وعداً وهي صامتةٌ   وقد يضيق ببطنِ الغمدِ بتّارُ
وأنتَ إن لم تعد روحاً بأضلعنا   فلا تملّتْكَ أرواحٌ وأعمارُ
  ***  
سألتَ أمسكَ عن أفق يطوف بهِ   زحفٌ من النجمِ بالآمالِ سيّارُ
دَنی مِنَ الشمسِ يحكي سَفَر غربتِهِ   وكم تضيع بأفقِ النجمِ أسفارُ
فغابَ لا الشمسُ آوتهُ ولا سكنتْ   أفلاكُهُ حيثُ أن الفلكَ دوّارُ
أينَ استقرَّ بهِ نوءٌ وأين مَضتْ   بهِ المسافاتُ فالأوطانُ أوكارُ
تفرّطتْ مثلُ حبِّ العِقدِ لمّتُهُ   كما يفرّطُ حبَّ الدُّر إسوارُ
ماذا يلمُّ شتات النجمِ في أفق   سمح تُحلّ بهِ للقلبِ أزرارُ
ومن يعيدُ لها حَباً وقد بذلتْ   أرواحها حين حاقتْ فيهِ أخطارُ
ومن يشدُّ جراحاً بعد ما بئستْ   من كلِّ كفٍّ تحابيها وتمتارُ
ما قيمةُ الأرضِ إن لم تؤوِ عاشقها؟   وقيمةُ الدارِ إن ضاقت بهِ الدارُ ؟