الأستاذ زكي الميلاد
باحث وكاتب من المملكة العربية السعودية ، رئيس تحرير مجلة الكلمة
مجلة المنهاج / 17
وضعيات وسياقات
وضعيات الفكر الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين كانت متأثرة إلى حد كبير بظهور الدولة العربية الحديثة التي ورثت مرحلة ما بعد الاستعمار الأوروبي، لكنها كانت امتداداً لأنساقه الثقافية ومنظوماته الفكرية والمرجعية، التي أخذت منها كل ما يرتبط بتكوين الدولة وتشكيل مؤسساتها وصياغة أنظمتها وقوانينها وتشريعاتها. المهمة التي نهضت بها النخب السياسية والثقافية ذات النزعة العلمانية، التي اكتسبت تعليمها من مدارس أوروبا وجامعاتها، وظلت وثيقة الصلة بالثقافة الأوروبية. ومن الواضح أن هذه المهمة لم تكن بعيدة عن أنظار الجهات الأوروبية المستعمِرة وتخطيطها، وهي الجهات التي كانت تدرك أكثر من غيرها أن مهمتها لا تنتهي أو تتوقف بمجرد سحب سيطرتها العسكرية المباشرة عن المناطق التي استعمرتها. فأوروبا جاءت إلى هذه المنطقة لكي تبقى فيها وتجذّر وجودها وتربطها بمنظومتها الثقافية والسياسية والقانونية، وبنظام مصالحها القومية والاستراتيجية، وذلك لخلفيات ترجع إلى طبيعة تاريخ هذه المنطقة ودياناتها وحضاراتها وتراثها، وهي الخلفيات التي شكّلت بواعثها في الحروب الصليبية ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين، والتي دفعت (نابليون) إلى أن يضمّ إلى حملته العسكرية على مصر بعثة علمية سنة 1798م. فالغرب كان مسكوناً منذ القديم بالشرق الذي عرفت فيه أقدم الحضارات وظهرت فيه الديانات السماوية الكبرى وعرف بأرض الرسالات.
لذلك فإن قيام الدولة العربية الحديثة كان بداية لقطيعة معرفية ومرجعية، وصدامية في ما بعد مع المنظومة الثقافية الإسلامية، تشهد على ذلك الطريقة التي تعاملت بها الدولة العربية مع كل ما يرتبط بهذه الثقافة من مؤسسات وهيكليات.
فقد تعرضت هذه المؤسسات إلى الإهمال والإضعاف، ووضعت الدولة بعضها تحت وصايتها وهيمنتها مثل المؤسسات الوقفية والمعاهد الدينية وضيقت على الجامعات الدينية وقلصت من وجودها وفاعليتها وأسست ما هو بديل عنها، وهي الجامعات التي حاولت الدولة الاهتمام بها ورعايتها لضرورات بناء الدولة المدنية الحديثة والنهوض بها وتحديثها.
فالثقافة الإسلامية لم تكن المنظومة المرجعية للدولة العربية الحديثة، فقد انقلبت عليها، وإن دوّنت في دساتيرها أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي والمصدر الرئيسي للتشريع أو المصدر الوحيد على اختلاف التعابير، واشترطت أن يكون رئيس الدولة مسلماً، جميع هذه البنود التي دوّنت في مقدمة الدساتير لم يكن لها أي أثر حقيقي في علاقة مرجعية بالثقافة الإسلامية، إلا في بعض الجوانب الشكلية والطقوسية المخصصة لبعض المناسبات، حيث تحاول الدولة بتقصّد أن تظهر شكلاً من علاقتها بالدين.
هذه الوضعيات أسهمت في تراجعات الفكر الإسلامي وركوده، والذي كان بارزاً في المنطقة العربية آنذاك هو فكر الإسلاميين المصريين وبالذات المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين، والذين كان لهم دور مهم على الصعيد الفكري في أكثر المراحل والظروف حساسية وخطورة، وذلك بعد إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924م، وتوسّع النفوذ الأوروبي وتغلغله في المنطقة العربية والإسلامية على مختلف الأصعدة.
لذلك، فإن المقولة الرئيسية التي تم التركيز عليها والانطلاق منها هي مقولة (شمولية الإسلام)؛ وهي المقولة الفعالة في مواجهة ما تعرضت له المنطقة من تجزئة وتقسيم، وما تعرض له الفكر الإسلامي من إشكاليات حاولت الفصل بين الدين والدولة والشريعة والحياة.
هذا الدور الفكري البارز من طرف الإسلاميين المصريين لم يستمر على النسق نفسه وفي وتيرة متصاعدة، فقد تعرض لنكسات وتصادمات حدّت من فاعليته وتقدّمه، بعد اغتيال القائد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين الشيخ (حسن البنا) (1324 ۔ 1368ق/1906 ۔ 1949م) وإعدام المفكر القانوني (عبد القادر عودة) سنة 1954م، والذي اشتهر بكتابه (التشريع الجنائي في الإسلام مقارناً بالتشريع الوضعي)، وكان إعدامه نتيجة التباينات الثقافية ۔ التي كانت وراء الصدام والتعارض بين جماعة الإخوان المسلمين وحكومة (جمال عبد الناصر)، وفي سنة 1966م أعدم الشهيد (سيد قطب) (1324 ۔ 1386ق/1906 ۔ 1966م) أحد أكثر المفكرين الإسلاميين تأثيراً في الحياة الفكرية العربية والإسلامية. هذه الأحداث كان لها أعمق الأثر على بنية جماعة الإخوان وتكوينها وعلى مساراتها والأوضاع التي وصلت إليه.
ما نخلص إليه هو أن الدولة العربية الحديثة لم تكن لها إسهامات حقيقية في تطور الفكر الإسلامي، ليس هذا فقط، بل كان دورها عكسياً فقد أسهمت في تراجع حركية هذا الفكر وتوقّفها، بعد أن قطعت صلتها به معرفياً ومرجعياً إلا في نطاقات محدودة ولحاجات توظيفية وشكلانية. فالدولة بمؤسساتها وأجهزتها كانت المؤثر الأكبر على مجريات الأمور؛ إذ إنها فتحت المجال أمام نشاط النخب العلمانية التي تعاظم دورها، لذلك وجد الفكر الإسلامي نفسه مدفوعاً لحماية ثغوره الفكرية والتشدد تجاه مسألة الهوية، وبتعبير الدكتور (محمد محمد حسين) في عنوان كتابه سنة 1966م (حصوننا مهددة من داخلها). ومعظم كتابات الإسلاميين آنذاك كانت متأثرة بتلك السياقات وكانت تغلب عليها النزعة الدفاعية التي تستشعر الخطر والتآمر الداخلي والخارجي، والتأكيد على مبدأ الثقة بالإسلام بوصفه خياراً حضارياً شاملاً، أو بوصفه عقيدة وحياة كما درجت على ذلك العديد من الكتابات الإسلامية. والتقويمات تكاد تتوافق حول تلك المرحلة والوضع الذي كان عليه الفكر الإسلامي خلالها؛ وذلك لشدة وضوحها والتعبير المتزايد عنها في أدبيات الإسلاميين.
في ظل تلك الوضعيات جاءت كتابات السيد محمد باقر الصدر (1353 ۔ 1400ق/1935 ۔ 1980م) التي كانت حدثاً فكرياً بارزاً استوقف انتباه مختلف النخب المتعارضة في رؤيتها الفكرية والثقافية، بالمستوى العلمي والمنهجي الذي كانت عليه، وبقوة المنطق والبرهان والتحليل والنقد، وبالسمات الشاخصة بوضوح كبير على تلك الكتابات. فمنذ صدور كتاب (فلسفتنا) سنة 1959م الذي تلاه كتاب (اقتصادنا) سنة 1961م وكتاب (البنك اللاربوي في الإسلام) سنة 1969م إلى كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) سنة 1972م، والأنظار تتوجه باهتمام كبير نحو هذه الكتابات، وقد تعزز هذا الاهتمام بتلاحق هذه المؤلفات وتنوّع موضوعاتها، وهي من الموضوعات الدقيقة والمعقدة والصعبة حسب تصنيفها العلمي، وقد توقف أو تراجع الإبداع والابتكار العلمي فيها في الكتابات الإسلامية المعاصرة، وبالذات خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فلم تكن هناك تراكمات معرفية تسهم في بناء لبنات هذه العلوم وفي تطورها العلمي والمنهجي، بحيث نعدّها متصلة بكتابات السيد الصدر، أو من أرضيات التأسيس والتكوين المعرفي والمنهجي. في حقل الفلسفة هناك تراجعات كبيرة في دراسات الإسلاميين لهذا الحقل الذي يعدّ من أقدم حقول المعرفة. ولعل الكتاب الجدير بالذكر في هذا المجال والذي يسبق كتاب فلسفتنا هو كتاب (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) للشيخ (مصطفى عبد الرازق) (1302 ۔ 1366ق/1885 ۔ 1946م) الصادر سنة 1944م، وهو في الأصل محاضرات دراسية ألقاها المؤلف في الجامعة المصرية أواخر الثلاثينات، إلى جانب كتاب آخر صدر سنة 1947م للدكتور (إبراهيم مدكور) عنوانه (في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق)، وقد اختلف المنحى الموضوعي والمنهجي بين هذه المؤلفات، فكتاب عبد الرازق كان القصد الأساسي منه الدفاع عن أصالة التفكير الفلسفي عند المسلمين، وأسبقية النظر العقلي في الإسلام قبل تدخّل العوامل الأجنبية، وذلك في سياق نقد آراء بعض المفكرين الغربيين في أحكامهم على الفلسفة الإسلامية منذ مطلع القرن التاسع عشر إلى أواخر الثلاثينات من القرن العشرين. وهو المنحى الذي عكسه مدكور في كتابه. فإذا كان الكتاب الأول أقرب إلى تاريخ الفلسفة، والثاني دراسة في المنهج والتطبيق، فإن كتاب فلسفتنا يبحث في صلب الفلسفة ومرتكزها الرئيسي، أي في نظرية المعرفة، وهي حسب السيد الصدر نقطة الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تحدّد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأي دراسة مهما كان لونها، وهي القضية ۔ كما يضيف السيد الصدر ۔ التي تدور حولها (مناقشات فلسفية حادة تحتلّ مركزاً رئيسياً في الفلسفة وخاصة الفلسفة الحديثة).[1] إلى جانب هذا الاختلاف المنهجي هناك أيضاً الاختلاف في الدواعي والبواعث، فالكتابان الأولان كانت بواعثهما تستجيب لحاجات معرفية ذات علاقة بالآراء والأحكام ووجهات النظر، أما كتاب فلسفتنا فكان يستجيب لحاجات موضوعية في الدرجة الأساسية، نتيجةً لتعاظم الأفكار الشيوعية والماركسية في العراق والعالم العربي خلال حقبة الخمسينات، وهذه النقطة هي كذلك من ملامح المفارقات، فقد كان الكتّاب الغربيون وأفكارهم معنيين بالجدل والنقاش في الكتابين السابقين، وبالذات أفكار المفكر الفرنسي (أرنست رينان) الاستفزازية والسجالية في تصوير العقل العربي بالدونية وعدم تفوقه في النظر العقلي والفلسفي، بينما كان كتاب فلسفتنا سجالاً نقدياً ومعرفياً مع الشيوعيين والماركسيين بصورة رئيسية.
أما كتاب اقتصادنا فالصورة حوله أوضح بكثير، فالكتابات الإسلامية في هذا الحقل لم يكن مشهوداً لها بالتفوق والتجديد والابتكار قبل كتاب اقتصادنا وبعده بما يقارب العقدين من الزمن. فقبله كانت المساعي الأكثر جدية ۔ كما يرى الدكتور (شبلي الملاط) ۔ متمثلة بما خلفه (ابن خلدون) (732 ۔ 808ق/1332 ۔ 1406م) من تراث يصفه بالقهيب، ويستشهد على ذلك بكتاب (موسوعة الاقتصاد الإسلامي) الذي صدر في مجلدين بالقاهرة سنة 1980م، لمؤلفه (محمد عبد المنعم الجميل)؛ حيث أطال الحديث عن مقدمة ابن خلدون، مع أن جهوده في هذا المجال ۔ كما يضيف الملاط ۔ ليست فريدة أو جديدة؛ إذ سبقه في الاستفادة من تلك المقدمة العالم القانوني (صبحي المحمصاني) في أطروحته للدكتوراه عن (الآراء الاقتصادية لابن خلدون)، وقد قدمها في العشرينات من القرن الأخير. أما بعده فقد صدرت أعداد كبيرة من الكتب والمقالات حول الاقتصاد الإسلامي في الإنكليزية كما في العربية، لكن الكثير منها ۔ حسب رأي الملاط ۔ يميل إلى العموميات ويفتقر إلى الدقة، الأمر الذي يحول دون صدور بحوث جدية ومنهجية، لهذا السبب والكلام للملاط تتسم كتابات محمد باقر الصدر في الاقتصاد والحقل المصرفي بأهمية بارزة. فقبالة خلفية كلاسيكية لم يكن فيها وجود لعلم الاقتصاد، يقصد بذلك عصر ابن خلدون، وعالم إسلامي لم يخرج مع حلول عام 1960م بأي فكرة متساوقة ومتماسكة في هذا المجال، أعد الصدر كتابين جديين ومطولين عن الموضوع هما: اقتصادنا والبنك اللاربوي في الإسلام.[2]
أما في حقل المنطق فإن كتاب الأسس المنطقية للاستقراء يُعدّ من المؤلفات الأقل شهرة؛ بمعنى أنه لم يُعرف على نطاق واسع مقارن بالكتابين المذكورين، مع أنه الكتاب الذي يرى تلامذة المؤلف أنه من أكثر مؤلفات السيد الصدر التي تبرز عبقريته العلمية. ولا شك في أن الكتاب يبرز هذا التفوق العلمي والفكري، فقد اقتحم حقلاً فائق الدقة في نمطيه القديم والحديث، بكفاءة علمية عالية وبثقة علمية كبيرة من المؤلف، حيث اعتبر محاولته في هذا الكتاب (إعادة بناء نظرية المعرفة على أساس معين)؛[3] أي على أساس اجتهادي خاص به. ومن الواضح أن الكتابات الإسلامية في هذا الحقل ۔ لا أقل في القرن الأخير ۔ لم تسجل تفوّقاً يذكر أو ابتكارات ذات قيمة معرفية، والذي كان سائداً إما يتناول تاريخ المنطق بطريقة مدرسية، أو لا يتجاوز المنطق الكلاسيكي القديم الذي ينتسب إلى أرسطو مؤسسه الأول، وهو المنطق الذي استطاع أن يفرض سيطرته لقرون طويلة وعلى حضارات مختلفة بما في ذلك الحضارة الإسلامية، مع أنه تعرض لنقد علمي محكم ومتماسك من العلماء المسلمين يرجع بعضه إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، مع ذلك هيمن المنطق الأرسطي حتى على الحوزات والجامعات الدينية التي يعرف عنها الحذر في اختيار مناهجها الدراسية. أما عنصر التميز في محاولة السيد الصدر فيتمثل في قدرته النقدية والتحليلية وسعيه الجادّ في التوصل لابتكارات وأفكار جديدة.
فالكتاب يحاول أن يعالج عجز المنطق الأرسطي عن إعطاء تفسير مقبول للدليل الاستقرائي، كما يدرس المذهب التجريبي الحديث الذي لا يمكنه ۔ حسب السيد الصدر ۔ أن يقدم التفسير الأساسي للدليل الاستقرائي. ثم ينتقل الكتاب من النقد والتحليل إلى التأسيس والابتكار. وفي نظر الدكتور (عبد الكريم سروش) الذي كانت له محاولة نقدية لعلها الأولى ۔ التي تتناول هذا الكتاب ۔ فهو يحوي حسب رأيه على (أبدع الأفكار والابتكارات الفلسفية للشهيد السيد محمد باقر الصدر، وهو إلى ذلك من أحلى ثمرات ذهنه الوقّاد وعقله الباحث المبدع. وما نستطيع أن نقوله بجرأة هو أن هذا الأثر يمثّل أول كتاب يصدر من يراع عالم وفقيه مسلم طوال التاريخ الإسلامي، يتناول واحدة من أهم المسائل المصيرية في فلسفة العلم والمنهج المعرفي العلمي، تعاطاها المؤلف ببصيرة وإحاطة كاملة ترافقت مع عقل وآراء حكماء الشرق والغرب والتعامل معها نقدياً. وفي الوقت نفسه لا يزال الأسس المنطقية هو أكثر كتب هذا العظيم خفاء وعدم شهرة، فهو لا يزال مجهولاً خفياً لا يعرف اسمه ولا قدره).[4]
ما أريد التوصل إليه هو أن كتابات السيد الصدر لم تكن تستند على تراكمات معرفية سابقة عليه، تعكس تنامي تلك العلوم وتطورها، في نطاق الكتابات العربية والإسلامية، وإنما هي تأسيسات واجتهادات وابتكارات لا تحسب أو تصنف إلا إلى صاحبها ومؤلفها، وهذا من أكثر ما يميز هذا العطاء الفكري ويلفت النظر إليه، وهو عطاء يمكن النظر إليه بوصفه يمثّل أبرز انعطافات الفكر الإسلامي خلال العقود الأولى من النصف الثاني للقرن الأخير وأهمها. الانعطافة المقطوعة الصلة بما قبلها كما أوضحت ذلك، وبما بعدها أيضاً كما سوف أشرح ذلك لاحقاً.
تحولات وتاريخات
ما نجزم به هو أن كتابات السيد الصدر تؤرخ لتحول فكري في غاية الأهمية والتطور عند النظر إلى سياقات تحولات الفكر الإسلامي المعاصر، فالتراجع أو الركود الذي كانت عليه حركية هذا الفكر خلال تلك المدة يختفي، وإذا بتلك الحركية تشهد قفزة نوعية تصعد بها نحو مستويات متقدمة بظهور تلك الكتابات.
هذا التحول، على قيمته المعرفية والمنهجية لم يؤرخ له بإدراك أو بغير إدراك في الكتابات العربية والإسلامية التي حاولت أن تؤرخ لحركة الأفكار الإسلامية الحديثة والمعاصرة في تطوراتها وتحولاتها على أساس منهجية التقسيمات والتحقيبات الزمنية والتاريخية، مع معرفتنا بأن هذا النوع من الاهتمام قد تراجع في الكتابات العربية ولم تتحفز له الكتابات الإسلامية. فالكتابات العربية في هذا المجال توقفت في أزمنة معينة ولم تستكمل في الأزمنة التي جاءت بعدها، مع أنها كانت متأثرة بأرضياتها ومكوناتها وشروطها. والمحاولات الأبرز هي تلك التي لم تتجاوز العقود الأولى من القرن العشرين، مثل محاولة (ألبرت حوراني) في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة) الذي اشتهر كثيراً في هذا المجال والذي يتناول الحقبة ما بين 1798 و1939م، أو كتاب علي المحافظة (الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة)؛ حيث يؤرخ للحقبة الممتدة ما بين 1798 و1914م، وهكذا كتاب هشام شرابي (المثقفون العرب والغرب) الذي يبحث في الحقبة التي يطلق عليها عصر النهضة، ما بين 1875 و1914م. والمحاولة التي تجاوزت تلك الحقبة امتدت ما بين 1930 و1970م للدكتور (محمد جابر الأنصاري) في كتابه (تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي).
أما الكتابات الإسلامية فإن الأبرز من بينها كتاب (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) للدكتور (محمد البهي) الذي تتبع حركة الأفكار الإسلامية إلى حقبة الخمسينات. والمحاولات التي جاءت بعد ذلك على قلتها ومحدوديتها، فإن أشهرها كتاب (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) للدكتور (فهمي جدعان)، وهو العمل الذي يتوجه إليه النقد أكثر من غيره، وذلك من جهة موضوعه ومنهجه؛ فقد بذل المؤلف جهداً واضحاً في تتبع أفكار علماء العالم العربي المسلمين ومفكريه، بمشرقه ومغربه، على مدار قرن كامل، مع تأكيده وحرصه ۔ كما يقول ۔ على (إحياء أعمال عدد من المفكرين العرب المسلمين الذين أهملتهم الدراسات الحديثة بالإجمال إهمالاً لا يغتفر).[5] هذه الالتفاتة من الدكتور جدعان ترتدّ عليه بصورة أشد وبشكل لا يغتفر ۔ كما في عبارته ۔ إذ إنه أهمل وألغى أعمال العلماء والمفكرين الشيعة في العالم العربي وكتاباتهم وأفكارهم، وفي مقدمتهم السيد الصدر الذي اعتبر الدكتور الملاط مؤلفاته بأنها (ضامنة لصاحبها في تاريخ العالم الإسلامي في القرن العشرين منزلة توازي في رفعتها تلك التي يحظى بها المصلحون العظماء من وزن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده).[6] ويضيف في مكان آخر: (فقد حوّله نشر كتابيه فلسفتنا واقتصادنا إلى المنظّر الأول للنهضة الإسلامية).[7] هذا الكلام من الدكتور الملاط يقوله بتجرد وبنزعة أكاديمية ولم يخاطب به العالم العربي، فقد كتبه في الأصل باللغة الإنكليزية ونال عليه جائزة (جمعية الدراسات الشرق الأوسطية) في الولايات المتحدة الأمريكية لأفضل مؤلف أكاديمي لعامي 1993 و1994م.
والحقيقة أن كل من اطلع على مؤلفات السيد الصدر لا يمتلكه إلا أن يقدّر هذا العالم أرفع تقدير، وهذا هو حال العديد من الباحثين والمفكرين الذين يختلفون في اتجاهاتهم الفكرية حين تعرفوا على تلك الكتابات. لذلك سوف ننظر دائماً إلى كتاب الدكتور جدعان ونرى أنه يتصف بالنقص والإجحاف والإقصاء الذي لا يغتفر لمؤلفه، مع تقديرنا لقيمة الكتاب وموضوعه والجهد الواسع المبذول فيه. وإذا حاولنا أن نتحرى تفسيراً لموقف الدكتور جدعان، فقد نتوصل إلى شيء من ذلك القبيل لعله يصلح أن يكون تفسيراً لموقفه، وذلك في كتاب آخر له بعنوان (نظرية التراث) حيث يصنف العالم العربي بأنه عالم سنّي في سياق حديثه عن (نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر) وتسويغه لعدم التطرق إلى نظريات الشيعة حين يصل إلى حدث التحول الإسلامي في إيران، وبنص عبارته (لا مكان للخوض في هذا البحث في نظريات الشيعة في الدولة، لأن المفكرين العرب المسلمين الذين يدور عليهم هذا البحث ينتمون جميعاً إلى العالم العربي الذي هو عالم سنّي. لكن يمكن التعرف على مبادئ الفكر الشيعي الإيراني المعاصر في هذه المسألة).[8] ويذكر بعض المؤلفات الشيعية الإيرانية مثل كتاب (الحكومة الإسلامية) للإمام (الخميني) (1320 ۔ 1409ق/1902 ۔ 1989م) وكتاب (معالم الحكومة الإسلامية) للشيخ (جعفر سبحاني)، ويضيف إليها كتاب السيد الصدر (الإسلام يقود الحياة) في طبعته الخاصة بوزارة الإرشاد الإسلامي. فإذا كانت قناعة الدكتور جدعان بأن الشيعة الموجودين في العالم العربي ليسوا عرباً فإنه يقع في خطأ فادح لا يليق به على الإطلاق. نقول هذا من غير أن نتوسع في نقض هذا الخطأ.
في مقابل ذلك يأتي العمل الذي أنجزه (منير شفيق) في كتابه (الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات) وهو أشبه ما يكون ببليوغرافيا لقضايا الفكر الإسلامي المعاصر ومسائله ومفاهيمه؛ حيث تتبّع بجهد واضح نصوص علمائه ومفكريه وكتاباتهم، ومع أنه حصر عمله في أهل السنة العرب لأسباب منهجية كما يقول، إلا أنه ألمح إلى أهمية ما قدمه الشيعة العرب، وبعبارته لم تتعرض هذه الورقة ۔ كما يصف عمله ۔ (لدراسة الفكر الذي أنتجه علماء ومفكرون من أهل الشيعة العرب، بالرغم من أهميته الموازية، لسبب نقص في بعض المراجع التي أرخت لها ولأسباب منهجية؛ علماً أن لهذا الفكر إسهامات جادة وهامة، يظل كل بحث عن الفكر الإسلامي المعاصر في البلدان العربية ناقصاً إن لم يدرسها. الأمر الذي يتطلب إجراء دراسات تناسق في تاريخها بين مختلف إسهامات الفكر الإسلامي المعاصر سنياً وشيعياً وعالمياً).[9] ومع ذلك فإن المؤلف لم يستطع أن يتجاوز إسهامات السيد الصدر الذي تكرر ذكره في ثمانية مواقع من الكتاب، فيصف مؤلفاته بأنها من الدراسات العميقة والجادة،[10] ويخصّ بالذكر كتابيه اقتصادنا وفلسفتنا، فعن الأول يقول: (أما كتاب اقتصادنا للإمام محمد باقر الصدر فيمثّل موقعاً علمياً مرموقاً، لا من جهة الفقه فحسب، وإنما أيضاً من جهة علم الاقتصاد. وقد أثبت قدرة عالية في مناقشة النظريات الاقتصادية في الماركسية والرأسمالية).[11] أما كتاب البنك اللاربوي في الإسلام فيصفه (بجهد علمي فائق الأهمية).[12]
لذلك فأي محاولة تؤرخ لتطور الأفكار الإسلامية المعاصرة على أساس منهجية التقسيم والتحقيب التاريخي والزمني، وتستثني كتابات السيد الصدر أو تُغيّبه لأي سبب كان، هي محاولات ناقصة ولا تفسّر إلا على خلفيات غير موضوعية وعلمية. والمحاولات التي وقعت في مثل هذا الإشكال تعامل معها المثقفون الشيعة بنقد شديد يصاحبه في العادة إحساس نفسي غير مريح. وهذا ما يفسر الطابع العاطفي والنفسي المهيمن على بعض الكتابات التي نشرها بعض تلامذة السيد الصدر أو المقربين منه، حيث تنطلق في الغالب بدافع المظلومية أو التجاهل، فتندفع نحو المبالغة أحياناً في تصوير شخصية السيد الصدر ومنزلته الفكرية، مع ما له من عظمة وعبقرية. إلا أن هذه الصورة قد تغيرت بشكل كبير مع حدث الثورة الإسلامية في إيران؛ حيث اكتسب السيد الصدر معرفة واسعة، لكن ليس بصفته الفكرية ونبوغه في هذا الجانب، وإنما بصفته السياسية كزعيم معارض في العراق، خصوصاً بعد استشهاده المفجع سنة 1980م. فقد غطت شهرته السياسية خلال مدة وجيزة على شهرته الفكرية وتوجهت إليه الأنظار باهتمام كبير من تلك الناحية. ولعل في دراسة الدكتور الملاط شهادة على هذه الحقيقة، فقد تعرّف إلى السيد الصدر من وجهته السياسية بوساطة صوره التي عُلقت على جدران المناطق الشيعية في بيروت بعد استشهاده؛ حيث كان يمرّ في طرقها وشوارعها تجنّباً لزحمة السير وهو في طريقه إلى الجامعة اليسوعية التي تقع في الشق الشرقي من بيروت، وذلك في شتاء سنة 1981 ۔ 1982م، قبيل الغزو الإسرائيلي للبنان، وقد قاده هذا التعرف بعد سلسلة مواقف إلى أن يكتشف الوجهة الفكرية للسيد الصدر، فقاده هذا الاكتشاف إلى قرار الكتابة عنه. فقبل الثمانينات ۔ كما يرى الملاط ۔ كان السيد الصدر عالماً مجهولاً في العالم العربي، ولا يعني لأحد في الشرق الأوسط، باستثناء قلة من المتبحرين في العلم والدراسة، أكثر من مجرد كتاب، عنوانه اقتصادنا، وعشية فاجعة في العراق انتهت بالإعدام في ظروف غامضة. لكن هذه الصورة ۔ كما يضيف الملاط ۔ قد تغيرت في الثمانينات، وكان (حنّا بطاطو) قد لفت الانتباه إلى أهمية الصدر بالنسبة إلى حركات المقاومة الشيعية السرية في العراق، في مقال نشرته له عام 1981م، فصلية (ميدل إيست جورنال) التي تصدر في واشنطن.. وفي خلال مدة قصيرة أصبح من المستحيل تجاهل أهمية الصدر في انبعاث الحركات السياسية الإسلامية في العراق وفي العالم الشيعي وحتى في العالم الإسلامي كله. فقد عدّه كتّاب قارنوا بين ظواهر الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط، محورياً في ما يتعلق بالعراق. ثم جاء الإقرار بهذه الأهمية من إسرائيل وبعدها فرنسا؛ حيث خصّته بملف مطول عام 1987م مجلة جديدة حسنة الاطلاع على شؤون المنطقة،[13] كما يصفها الملاط.
ولا شك في أن كتابات بعض الإسلاميين العراقيين ۔ في تلك الآونة ۔ أسهمت في تعزيز الوجهة السياسية للسيد الصدر، الوجهة التي تزايدت وكانت على حساب وجهته الفكرية التي هي بالتأكيد الأبرز والأعمق والأكثر جوهرية في شخصية السيد الصدر.
تجديدات وتطويرات
لقد كشفت مؤلفات السيد الصدر عن مدى الجهد الذي بذله في تكوين هذه المعارف وفي غير حقل معرفي، فقد أصبح متمكناً وبارعاً فيها وناقداً لها ومجدداً في الرؤية الإسلامية المتصلة بها، كمحاولته ۔ مثلاً ۔ اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام.. وهذه العلوم لم تكن من الحقول الدراسية في البيئة العلمية التي كان ينتسب إليها في مدينة النجف الأشرف بالعراق، والتي تعرف بالحوزة العلمية الدينية. والذي كان سائداً من تلك العلوم ۔ كالفلسفة والمنطق ۔ لا يتجاوز الجانب القديم منها ولا يتعدى إلى الجانب الحديث الذي نشأ وتطور في منظومة الفكر الأوروبي الحديث وامتد إلى نطاق عالمي واسع؛ حيث أصبح هو المهيمن على دراسات التعليم العالي في المعاهد والجامعات، بما في ذلك جامعات العالم العربي والإسلامي.
فالسيد الصدر وإن كان قد درس هذه العلوم في جوانبها التقليدية القديمة، إلا أنه بالتأكيد لم يدرسها في جوانبها الحديثة، وهي الجوانب التي برع فيها واشتهر بها. الأمر الذي يلفت النظر إلى مستوى التثقيف والمعرفة والاطلاع الذي بذله السيد الصدر في هذه الحقول. وهو الاستفهام الذي حمله معه الدكتور (محمد شوقي الفنجري) أستاذ مادة الاقتصاد بجامعة القاهرة، في لقائه بالسيد الصدر في بيته، عن أي جامعة من جامعات العالم تلقى دراسته؟[14] كما أن هذه المؤلفات أظهرت درجة الوعي والإدراك اللذين اتصف بهما السيد الصدر تجاه علاقة الدين بالثقافة والشريعة بالحياة والإسلام بالعصر، وتجاه حركة الأفكار وتطور الثقافات وانعكاساتها على المجتمعات العربية والإسلامية. وهو الذي طوّر بنفسه هذا الوعي بالمستوى الذي وصل إليه، حتى لو كان متأثراً بالنشاطات الإصلاحية التي نهض بها بعض المصلحين السابقين عليه في داخل العراق بوجه خاص، أمثال الشيخ (محمد حسين آل كاشف الغطاء) (1295 ۔ 1373ق/1876 ۔ 1954م) والسيد (هبة الدين الشهرستاني) (1301 ۔ 1386ق/1884 ۔ 1967م) والشيخ (محمد رضا المظفر) وآخرين. الوعي الذي قاده لأن يقتحم علوم العصر والمعارف الإنسانية، لكي يبرهن على جدارة الإسلام وقدرته على أن يقدّم معالجة لمشكلة النظام الاجتماعي وينفرد بمنهج ورؤية يختلفان كلياً وجذرياً، وفي المنظور الفلسفي والكوني العام والشامل عن النظامين الرأسمالي والشيوعي، ويقدّم الإسلام في صورته الحضارية المشرقة ليكسب به ثقة العالم. فكان طموحه في نهاية المطاف ۔ كما يقول ۔ تكوين (صورة ذهنية كاملة عن الإسلام، بوصفه عقيدة حية في الأعماق ونظاماً كاملاً للحياة ومنهجاً خاصاً في التفكير والتربية).[15]
فقد استطاع السيد الصدر أن يعيش العصر ويصنع لنفسه حضوراً في قمة العلم والثقافة، وهو في بيئة كثيراً ما يتوجه إليها النقد من العلماء المصلحين داخلها بانغلاقها وجمودها وتقليديتها وانقطاعها عن قضايا العالم والعصر والحياة. والذي يعرف طبيعة هذه البيئة ومكوناتها وشروطها يدرك كم يحتاج المرء إلى شجاعة نفسية وجهود فكرية لكي يتغلب على عقبات كثيرة وتقاليد ضاغطة ونظام شديد التمسك بموروثاته الموغلة في القدم.
وحينما استحوذت هذه العلوم الحديثة على اهتمامات السيد الصدر لم تتأثر اهتماماته التخصصية والأصلية بالعلوم التي تعدّ (الأساسية)، حسب النظام التعليمي الديني السائد في الحوزات العلمية، وأهم هذه العلوم ۔ بصورة خاصة ۔ الفقه وعلم أصول الفقه، ولم يشكك أحد بقدرته الاجتهادية والاستنباطية في هذه العلوم، فقد شملها بتجديداته وتطويراته، خصوصاً في جوانب المنهجية التي هي من أكثر الجوانب حاجة للتجديد في تلك العلوم وطبيعة مناهجها. ففي مجال الفقه كانت له محاولة لتطوير ما يعرف في الدراسات الدينية الشيعية بالرسالة العملية في كتابه (الفتاوى الواضحة)، فقد كان يسعى لأن تكون هذه الرسالة على غير النمط التقليدي المتوارث وباللغة التي لا تفهم إلا بصعوبة حتى عند المتعلمين والمثقفين، واقترح منهجية جديدة لتقسيم الأحكام الشرعية، حيث قسّمها إلى أربعة أقسام، هي:
1 ۔ العبادات، وتشمل الطهارة والصلاة والصوم والاعتكاف والحج والعمرة والكفارات.
2 ۔ الأموال، وهي على نوعين: الأموال العامة، وتشمل كل مال مخصص لمصلحة عامة، وتدخل ضمنها الزكاة والخمس. والأموال الخاصة، وهي ما كان مالاً خاصاً.
3 ۔ السلوك الخاص، وهو كل سلوك شخصي للفرد لا يتعلق مباشرة بالمال ولا يدخل في عبادة الإنسان لربه.
4 ۔ السلوك العام، وهو سلوك ولي الأمر في مجالات الحكم والقضاء والحرب ومختلف قضايا العلاقات الدولية، ومن ذلك القضاء والشهادات والحدود وغير ذلك.
ولعل السيد الصدر هو أول من لفت إلى علاقة الفقه والاجتهاد بالمستقبل في موضوع نشره منذ وقت مبكر بعنوان (الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد)، عبّر فيه عن رؤية تنويرية شديدة الوعي والإدراك بالانكماش والتراجع الذي حصل لحركة الاجتهاد، وتحوّل الفقه من فقه الأمة والمجتمع إلى فقه الفرد والأحوال الشخصية، وهيمنة النزعة الفردية على ذهنية الفقيه وعلى التفكير الفقهي بصورة عامة، وانكماش الفهم والمضمون الاجتماعي العام والواسع في النظر للنص الفقهي والديني عموم.
أما في حقل أصول الفقه فقد أدرك الحاجة إلى كتابة مدخل يشرح فيه تاريخ حركة الاجتهاد وطبيعة الظروف التي أثرت على تطوراتها وتحولاتها على صورة مراحل متعاقبة في كتابه (المعالم الجديدة في الأصول) صدر سنة 1385ق/1964م، ولا يزال هذا الكتاب يعدّ من أفضل ما كتب في موضوعه ومرجعاً مهماً في حقله. أما كتابه (دروس في علم الأصول) صدر سنة 1397ق/1977م، فقد أراد منه أن يدرس أصول الفقه بوصفه علماً من خلال منهج متعاقب المراحل وبطريقة تصاعدية تسهّل عملية الفهم وتطوّر الذهنية الأصولية بصورة تدريجية، على النمط الأكاديمي الحديث في التعليم العالي، لا أن يدرس هذا الحقل بوساطة آراء وأفكار تنتمي إلى أزمنة غابرة، وتنسب إلى أشخاص مهما كانت درجة تفوّقهم العلمي. ولهذا فقد رأى أن هذا الكتاب لا يعبّر عن آرائه ووجهات نظره الأصولية التي يستقل بها، أو يشرح قناعاته التي توصل إليها. كما أنه أراد من هذا الكتاب دراسة علم الأصول بالمستوى الذي وصل إليه هذا العلم في حلقات تطوره وتقدمه، وبالنظريات والابتكارات المتجددة التي دخلت على هذا الحقل، لا أن يدرس بالمستوى الذي كان عليه قبل عدة قرون. وقد شرح رؤيته المنهجية في مقدمة هذا الكتاب، حيث تضمنت ملاحظات نقدية مهمة جديرة بالتأمل.
من جهة أخرى فقد كشف السيد الصدر للأوساط العلمية والأكاديمية قيمة الفقه الإسلامي وثروته العلمية وعلاقته بالعلوم الاجتماعية وبالاقتصاد بوجه خاص، وهو من أكثر العلوم اهتماماً في الأنظمة الاجتماعية السائدة عالمياً، وذلك حينما أصدر كتابه اقتصادنا الذي رجع فيه إلى الفقه بتراكماته العلمية واجتهاداته التشريعية، التي هي من أوسع التراكمات في تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، كما تشهد على ذلك المؤلفات والموسوعات الضخمة في هذا الحقل. وعزز من القناعة بهذا العلم المهجور في الدراسات الاقتصادية الحديثة وفي التعليم الأكاديمي. وقد رأى الدكتور (محمد المبارك) أن كتاب اقتصادنا هو (أول محاولة علمية فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الإسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة الإسلامية بطريقة جمع فيها بين الأصالة الفقهية ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته).[16]
كما أن مؤلفات السيد الصدر وجهت الأنظار إلى الحوزات العلمية وحوزة النجف بالذات، بوصفها نظاماً للتعليم والبناء العلمي الذي ينسب إلى المدرسة الإسلامية الشيعية، وهي الحوزات التي لم يكن يعرف عنها إلا القدر القليل والغامض أحياناً عند النخب والأوساط العلمية والثقافية في العالم العربي والإسلامي. وقد ظلت هذه الحوزات تدافع عن نفسها وسمعتها ووجودها وكسب الاعتبار العلمي لها، مقابل ما كانت تتمتع به جامعة الأزهر في مصر من شهرة واسعة. فالموقع الفكري للسيد الصدر كان يمثّل وجهاً ناصعاً ومشرقاً للحوزة العلمية التي ينتسب إليها، وحينما كان جوابه على سؤال الدكتور محمد شوقي الفنجري أنه لم يدرس في أي جامعة من جامعات العالم، لا في العراق ولا في خارجه وإنما في مساجد النجف وهي أمكنة الحوزة للدراسة والتعليم، رد عليه الفنجري: إن مساجد النجف أفضل من جامعات أوروبا. وفي إحدى زيارات المفكر الفرنسي (روجيه غارودي) إلى العراق طلب من الجهة التي دعته أن يلتقي بالسيد الصدر بعد أن عرّف به الدكتور الفنجري وأطلعه على كتابي فلسفتنا واقتصادنا،[17] وكانت هذه رغبة الكثير من الباحثين والمفكرين العرب عند زيارتهم للعراق. وعندما انعقد مؤتمر المحامين العرب في إحدى دوراته بالعراق، قام وفد كبير من المشاركين يتقدمهم الدكتور (عصمت سيف الدولة) بزيارة السيد الصدر في النجف. وفي هذه اللقاءات كانت تجري مناقشات موسعة حول القضايا الفكرية البارزة في وقتها.
أما المثقفون الدينيون فقد وجدوا في تلك المؤلفات ثقة كبيرة بأنفسهم وبالذات في مطارحاتهم مع أصحاب الأيديولوجيات المغايرة والماركسيين منهم بوجه خاص، الذين كانت تنشط معهم المطارحات في أروقة الجامعات في العالم العربي بصورة عامة وفي جامعات العراق بصورة خاصة. فكتاب اقتصادنا كان المنطق الأقوى في مواجهة المقولة الشهيرة التي كانت تتردد في ذلك الوقت من الماركسيين بأنه لا يوجد في الإسلام اقتصاد أو نظام اقتصادي. أما كتاب فلسفتنا فكان برهاناً دامغاً في نقد الأسس العلمية للنظرية الماركسية، بشكل أحرج أصحاب هذه التوجهات الذين طالما تبجحوا بشعاراتهم التي لم تحقق لهم شيئاً، مثل شعارات العدالة الاجتماعية ومجتمع بلا طبقات ودولة رعاية الكادحين والمحرومين، إلى جانب مقولات الاشتراكية العلمية والجدلية التاريخية وغيرها. كما أن تلك الكتابات أسهمت في إقناع بعض أولئك بالتوجه نحو الدين والاقتلاع الفكري من تلك الأيديولوجيات. والمثقفون الدينيون، من جهتهم أيضاً كانوا يرون أن تلك الكتابات تمثّل برنامجاً طموحاً وعالياً في بناء الثقافة الدينية المتماسكة وتكوينها، وفي تكوين المثقف الديني الواعي بقضايا العصر وتحدياته الفكرية.
تقويمات ومآلات
في سنة 1997م وبمناسبة الذكرى السابعة عشرة لاستشهاد السيد الصدر نشر الأستاذ (محمد عبد الجبار) موضوعاً ملفتاً للانتباه، ولعله محرجٌ في نظر الكثيرين، كشف فيه عن نقاشات تدور ۔ كما يقول ۔ في بعض الأوساط الإسلامية حول فكر السيد الصدر، تتمحور ۔ على حد وصفه ۔ بالتساؤل المبكر عن إمكان تجاوز هذا الفكر، وما إذا كان الوقت قد حان للقيام بهذه الخطوة، واختار عنواناً لموضوعه من صلب ذلك النقاش وهو (هل حان الوقت لتجاوز فكر الإمام الصدر؟ وما هي شروط ذلك؟).[18] ومع أن الكاتب برهن على مشروعية هذا النوع من النظر والنقاش لدواعٍ فكرية وموضوعية تحدث عنها، وحاول الرجوع إلى بعض آراء السيد الصدر ليقنع على ما يبدو بهذه المشروعية، مع ذلك فإنه كان مقتنعاً، وهذا ما خلص إليه في نهاية مقاله بأن فكر السيد الصدر لا زال يملك الكثير مما يمكن أن يقدّمه للبشرية. وبعد خمسة أشهر على نشر الموضوع كنت في زيارة إلى لندن وتداولنا الحديث معاً حول تلك القضية، وكانت وجهة نظري آنذاك أن صياغة الإشكالية بذلك الشكل ليست دقيقة، فالمسألة ليست في التجاوز أو عدم التجاوز، وإنما في القدرة على بناء التراكمات المعرفية والانطلاقة منها نحو تأسيسات جديدة، فنحن لم نرتقِ إلى مستوى ذلك الفكر في قمته وشموخه، ولم نتمثله في المستوى الذي كان عليه فكرياً ومنهجياً، فكيف نتجاوزه!؟
فالتحدي الذي أمامنا ۔ منذ غياب السيد الصدر إلى هذا الوقت وإلى سنوات قادمة على ما يبدو ۔ هو كيف نبني على ذلك الفكر؟
السيد الصدر بمؤلفاته فتح على الحوزات أوسع باب للحداثة والمعاصرة، وهو من أشدّ ما تفتقده هذه الحوزات ومن أكثر ما يعرقل تواصلها مع العصر ويشلّ قدرتها في مشاركاتها الحضارية على النطاقات العالمية. مع ذلك فإن هذه الحوزات قد تنكرت لتلك المؤلفات ولم تنفتح عليها أو تتأثر بها، وبذلك تكون قد ضيعت عليها فرصة حيوية في الاقتراب من العلوم والمناهج الحديثة؛ وذلك في الوقت الذي وجدت فيه بعض الجامعات العربية في تلك المؤلفات وبالذات كتاب اقتصادنا، معرفية ومنهجية تصلح لأن تكون مناهج من نوع قيم ومتقدم لبرامجها الدراسية، وهذا ما أقدمت عليه بالفعل بعض جامعات العالم العربي في مشرقه ومغربه.[19] الأمر الذي يبرز جدلية الحداثة والمعاصرة بين الحوزات والجامعات ويؤكدها، ويبين أنه بقدر ما تنفتح هذه الحوزات على قضايا العصر وتسري فيها روح التجديد والتطوير، بقدر ما تدرك قيمة تلك المؤلفات.
من جهة أخرى فتلك المؤلفات كشفت أن الحوزات العلمية لم تكن غائبة عن الحداثة والمعاصرة بالمطلق وبصورة نهائية، فمن قلب تلك الحوزات وعمقها برز السيد الصدر، وهو الذي لم يسافر في حياته من العراق إلا مرتين، واحدة إلى الحج والثانية لزيارة أقربائه في لبنان. وقد برهن في الوقت نفسه على إمكانية أن تكتشف الحوزة طريقها إلى الحداثة والمعاصرة وتتواصل مع العالم والعصر وتنفتح على العلوم والثقافات والمناهج.
يضاف إلى ذلك أن تلك المؤلفات لم تستكشف أو تهضم أو تستوعب بالمستوى العلمي والمنهجي الذي عرفت به، ولم يظهر من يتخصص في تلك العلوم أو من يتحفز نحوها باهتمام كبير أو من يدرك آفاقها وأبعادها ويسعى سعيه إلى ذلك. فلم تظهر كتابات أو دراسات وأبحاث في هذا الاتجاه ولم يبرز من يواصل النهج العلمي الذي شقّ طريقه السيد الصدر، أو من يرتقي إلى درجات عالية من الفهم والنقد والتجديد نحو تلك العلوم.
أما الكتابات التي نشرت حول السيد الصدر وإن كانت مؤثرة وجدانياً ونفسياً، باعتبارها تبرز مظلوميته واستشهاده، فمعظمها قليل الأهمية على مستوى الدراسات والأبحاث العلمية والأكاديمية، التي يفترض منها الالتزام بقواعد البحث العلمي وشروطه، حيث تدرس الظواهر والقضايا والمفاهيم بقدر كبير من التجرد والعقلانية وعدم التحيز.
وهذه هي الملاحظة التي التفت إليها ۔ منذ سنوات ۔ بعض المثقفين العراقيين من الوسط الإسلامي، بقصد النهوض بدراسات جديدة تكون على قدر من الكفاءة العلمية أنضج فكرياً من التي قبلها. وهي أيضاً الملاحظة التي التفت إليها الدكتور الملاط في أثناء إعداده وتحضيره لكتابه، وأشار إليها حينما اطلع على ما كتب عن السيد الصدر.
وقد ظهرت بعض الكتابات المحدودة والضعيفة والعاجزة التي حاولت أن تبرز المنحى المذهبي في كتابات السيد الصدر وبالذات كتابه اقتصادنا، وتلمس الاختلاف والتباين على أسس ذهنية مذهبية تكرس الفروقات، كأن القصد منها وضع حد أمام توسّع تلك الكتابات وانتشارها. وفي هذا الصدد جاء كتاب (الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه السنة: قراءة نقدية في كتاب اقتصادنا)[20] اشترك في تأليفه كل من (يوسف كمال) و(أبو المجد حرك)، وقد وصف الناشر كتاب اقتصادنا بأنه من أشهر الكتب الشيعية في الاقتصاد الإسلامي، لكي يؤكد أهمية النقد الذي يحتويه هذا الكتاب وضرورته. لا نريد التوغل في ملاحظات هؤلاء الكتاب لعدم موضوعيتها ولتواضع كفاءتها العلمية والمنهجية، خصوصاً إذا وُضعت إلى جانب ما يناقضها من شهادات الكثيرين، وإزاء الشهرة الواسعة التي اكتسبها الكتاب بين مجتمعات وجامعات ونخب متعددة المذاهب والاتجاهات والبلدان. الأمر الذي يعزوه الملاط إلى حرص السيد الصدر على تجنب مطبات التعصب الطائفي.. ونجاحه في هذا المضمار في العالم السني، حيث تدرس كتاباته في الجامعات، هو شهادة على أهمية الشمولية في إسهاماته على الصعيد الإسلامي.
ويصح هذا القول على نحو خاص عن كتابه اقتصادنا الذي يرى فيه أنه فريد بغياب أي نعرة طائفية شيعية ظاهرة عن تحليله ومصادره.[21] وفي تونس نشر الأستاذ (صلاح الدين الجورشي) نصوصاً من كتابات السيد الصدر الاجتماعية والاقتصادية في أواخر الثمانينات، وقد بذل الناشر ۔ كما يقول الملاط ۔ كل جهد لشرح مدى خلوّ كتابات الصدر من التعصب الطائفي[22] إلى غير ذلك من الشهادات.
القسم الآخر من هذه التقويمات هو المآلات التي وصلت إليها أو التي ستصل إليها أفكار السيد الصدر نتيجة التحولات والتغيرات المتسارعة والمتعاظمة التي حصلت في العقدين الماضيين على نطاقات مختلفة، عربية وإسلامية وعالمية، وفي مجالات عديدة، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وجغرافية وإعلامية وتكنولوجية؛ حيث تغيرت معها صورة العالم في مراكزه وأقطابه ومنظوماته، وسوف تتغير أكثر مع ظاهرة العولمة وثورة المعلومات؛ حيث جعلت المجتمع الإنساني مفتوحاً لكافة احتمالات التغيير واتجاهاته المتوقعة وغير المتوقعة. فكتابات السيد الصدر قد ارتبطت بأوضاع فكرية واجتماعية واقتصادية كانت ملحة وضاغطة في وقتها ومتأثرة بها إلى حد كبير، وبالذات مؤلفاته فلسفتنا واقتصادنا والبنك اللاربوي في الإسلام.. فكيف يمكن أن تقوَّم هذه الكتابات على ضوء التحولات الراهنة؟
لعل كتاب فلسفتنا هو أكثرها تأثيراً وأشدها وضوحاً، وهو يمثل مسوغاً لمشروعية فتح مثل هذا النوع من النظر والتقويم. فقد ارتبط هذا الكتاب بتصاعد الأفكار الشيوعية في العراق والعالم العربي خلال حقبة الخمسينات التي شهدت ازدهاراً لحركة الشيوعيين العرب وتوسّع نشاطهم الفكري، واحتكاكه بالأوساط الدينية، وتغلغله في شرائح تنتسب لهذه الأوساط، فقد خرج منها من أصبح ۔ في ما بعد ۔ مفكراً بارزاً مثل (حسين مروّة) في لبنان وغيره في مناطق عربية أخرى. هذا الصعود فتح معه سجالات ساخنة وعنيفة مع الإسلاميين. وقد صدر كتاب فلسفتنا استجابة لتلك الوضعيات وتحدياً للأفكار الشيوعية والماركسية، ويمكن اعتباره من أقوى وأعمق ما صدر عن الإسلاميين في نقد الأسس الفلسفية والعلمية التي ترتكز عليها الماركسية وتحليلها. فهذه هي قضية الكتاب ومهمته الرئيسية كذلك.
والسؤال المشروع والمقنع الذي يفرض كامل النظر حوله: ماذا بقي من موضوع الكتاب وقضيته بعد سقوط الماركسية وانهيار معقلها التاريخي في الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشرقية في أوروبا؟ فقد عادت الماركسية إلى الماضي كما جاءت منه، وانقلب عليها التاريخ بعد أن جعلت منه علمها الرئيسي ووصفت حركتها بالجدلية التاريخية. أما بقاياها اليوم بالقدر الضئيل والمحدد التي هي عليه، فتطفح بالانكسار والهزيمة ولا تمثّل حضوراً ونشاطاً فاعلاً ومتضامناً. وهذه هي النتيجة التي توصل إليها الملاط، ومن السهولة إدراكها واكتشافها.
وحسب رأي الملاط فإنه (من الصعب الجزم بأن هذا الكتاب أثرى النقاش الفلسفي في العالم الإسلامي إلى حد كبير.. فهو يحمل طابع الأوضاع الملحة والمستوجبة عناية عاجلة التي أنتجته.. ۔ فقد ۔ صدر كردّ فعل على تعاظم التيار الشيوعي في العراق، وبخاصة في أوساط الشيعة الأكثر حرماناً. وكان الهدف الأول للصدر صدّ ذلك التيار بتوفير فهم أفضل وتفحّص أدق لمنهج الماركسية والمصطلحات الخاصة بها.. . أما الجهد المبذول لهذا الكتاب ۔ بالنسبة إلى مجتهد شيعي ۔ فهو أمر لافت للأنظار بمنحاه الفذ. لكن إمكانات النجاح البعيد الأمد لكتاب بني على أساس المادية الجدلية ل۔ (ستالين) والشيوعي الفرنسي (جورج بوليتزر) كان محكوماً عليها بالإخفاق. ولذا يشعر القارئ الآن بأن لكتاب فلسفتنا تلك النكهة المميزة للغة تخطاها الزمن.. . فالأوساط الفلسفية اليوم تعتبر دعاوى ستالين وبوليتزر وحتى (انغلز) عتيقة الطراز. وكان لاضمحلال تلك الحجج تأثير سلبي على البحث الفلسفي للصدر لأنه أولاها أهمية لا تستحقها.. . أما الأعمال الأصلية الأكثر جدية ۔ مثل (رأس المال) لماركس ۔ فلم تكن قد صدرت بعد ترجمة موثوقة وجديرة بالاعتماد من الأصل الألماني إلى العربية، ولذا أعاقت نوعية المواد المتوفرة في قراءة الصدر للكلاسيكيات الماركسية).[23] هذا النقد من الملاط يشفعه في أكثر من مكان في كتابه بالإشادة به، إذ يعدّه قد (نجح إلى حد كبير وخرج بنقد فذ في تعمقه وشموله، وفي الحرص على تجنب الإفراط في التبسيط.. ويبقى كتاب فلسفتنا نموذجاً جيداً للجهود الشاملة التي بذلها الصدر لوضع منهاج فكري إسلامي مكتمل).[24]
أما الكتابات الاقتصادية للسيد الصدر فقد استجابت لتطورات متعاقبة أعطت فاعلية وحركة لتلك الكتابات، فكتاب اقتصادنا في الجانب النقدي والمقارن منه الذي تضمنه القسم الأول من الكتاب، قد أولى أهمية أكبر لنقد الفكر الاقتصادي الماركسي في تطوره التاريخي الجدلي والحتمي، أكثر من اهتمامه بنقد الفكر الاقتصادي الرأسمالي، وذلك لأن طبيعة الظروف التي أحاطت بالكتاب كانت محرضة على ما يبدو، وشكلت بواعث أساسية لقضايا البحث وموضوعاته ومفاهيمه، كما أن المساحات المخصصة في الكتاب تبرز هذه الأهمية. وفي وقت آخر جاء كتاب البنك اللاربوي في الإسلام الذي ارتبط بقضايا ذات علاقة بالاقتصاد الرأسمالي؛ حيث شهد نشاطاً ملحوظاً في حقبة السبعينات مع السيولة المالية الكبيرة في الدول المنتجة للنفط، بعد ما عُرف اقتصادياً بالطفرة النفطية التي نشط معها نظام البنوك والمصارف المالية، واستدعت معها نقاشات حول قضايا الربا والفائدة، وإمكانية أن تكون هناك بنوك لاربوية. وفي عام 1979م صدر كتاب الإسلام يقود الحياة استجابة لظروف مختلفة تماماً عن التي قبلها؛ حيث أخذت منحى أسلمة الدولة والمجتمع بعد التحول الإسلامي في إيران. وقد تضمن هذا الكتاب ستّ حلقات، ثلاث منها كانت ذات علاقة بموضوع اقتصاد المجتمع الإسلامي، وهي (صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي).
وقد بقيت هذه الكتابات إلى هذا الوقت تحتفظ بحضورها وبمكانة مرموقة، وتعدّ مراجع أساسية في مجالاتها وموضوعاتها، ونادراً ما تجد كتاباً في الاقتصاد الإسلامي لا يكون كتاب اقتصادنا من مراجعه المهمة، وهكذا في ما يكتب حول البنوك اللاربوية والمصارف الإسلامية. ومن شهادات الدكتور الملاط قوله: (إلى هذا اليوم ما زال اقتصادنا الأثر الأهم شأناً والأكثر شمولاً بين كل ما كتب عن الاقتصاد الإسلامي).[25] وهذه هي رؤيته لكتاب البنك اللاربوي في الإسلام. مع ذلك فقد استجدت تطورات غير تلك التي استجابت لها الكتابات المذكورة، وكانت على احتكاك بها، وفي امتحان لأطروحاتها، منها تطورات ذات علاقة بحركية الأفكار والمفاهيم والنظريات، ومنها ذات علاقة بالوقائع والتطبيقات والتجريبات. في نطاق الأفكار فإن كتاب اقتصادنا وقت صدوره كانت هناك ندرة واضحة في الكتابات الإسلامية حول قضايا الاقتصاد الإسلامي ومفاهيمه، فكان هذا الكتاب هو الأبرز من بينها بلا منازع. فالكتب التي يقارنها الدكتور الملاط بكتاب اقتصادنا هي كتاب السيد قطب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) صدر في عام 1949م، وكتاب علال الفاسي (في المذاهب الاقتصادية) صدر في عام 1971م؛ حيث يرى فيهما هيمنة سيد قطب وعلال الفاسي على الساحتين المصرية والمغربية، ويعلق على ذلك بقوله: (لكن أفضل إنجازاتهما في هذا المجال قاصرة عن بلوغ مستوى أعمال الصدر من حيث النوعية والمنزلة).[26]
وحسب نظر الدكتور محمد المبارك فإن أفضل من كتب في الدراسات المقارنة اثنان، هما الأستاذ أبو الأعلى المودودي (1321 ۔ 1398ق/1903 ۔ 1979م) في كتابه (الإسلام والنظم الاقتصادية المعاصرة)، والسيد محمد باقر الصدر في الجزء الأول من كتابه اقتصادنا. وقد التفت الملاط للأستاذ المودودي في هامش الكتاب، وكانت لديه وجهة نظر حوله عبّر عنها بقوله: (من الممكن إضافة المودودي الذي كان من المجاهدين الباكستانيين الهامين في الحركة الإسلامية، لكنه أقل تشويقاً على المستوى الفكري).[27]
أما في العقدين الأخيرين فقد صدرت كتابات إسلامية جديدة ومهمة، ونخصّ بالذكر منها مؤلفين للدكتور (محمد عمر شابرا) هما (نحو نظام نقدي عادل)[28] و(الإسلام والتحدي الاقتصادي)،[29] وعنصر التميز في هذين الكتابين أنهما يعكسان الخبرة العملية والتجريبية التي عايشها المؤلف إلى جانب المعرفة العلمية المعاصرة في هذا الحقل فقد عمل منذ سنة 1965م لأكثر من عقدين مستشاراً اقتصادياً لمؤسسة النقد العربي السعودي، كما عمل مدرساً لمادة الاقتصاد في غير جامعة أمريكية.
مع ذلك فإن هذه الكتابات ۔ بما في ذلك كتابا الدكتور شابرا ۔ لا تتجاوز أو تتخطى كتاب اقتصادنا الذي يتفوق عليها في الجانب النظري والتأصيل المعرفي والفقهي، إلا أنه ليس الكتاب الوحيد البارز والمتفوق في مجاله كما كان سابقاً.
وفي نطاق الوقائع والتجريبات فقد ظهرت محاولات إسلامية جادة في حقل البنوك والمصارف المالية، واستطاعت أن تقطع شوطاً كبيراً ومهماً كسبت على أثره اعترافاً وحضوراً على الصعيد العربي والإسلامي وحتى العالمي، وكونت لها خبرة وتجربة وراكمت معارفها وعلومها في هذا الحقل، وقد وصل عدد البنوك الإسلامية ۔ حتى عام 1999م ۔ إلى 200 بنك موزعة على أكثر من 25 بلداً في مختلف قارات العالم، وجذبت من الودائع ما قيمته 112 مليار دولار، وحققت نمواً بمعدل 3/5 بالمئة في عام 1997م. فإذا كان كتاب البنك اللاربوي في الإسلام قد صدر مع بدايات التفكير والاهتمام بإنشاء نظام البنوك اللاربوية وإمكانية توافقها مع قوانين الشريعة الإسلامية. فإن المصارف الإسلامية اليوم قد تجاوزت الإشكاليات النظرية ونوعية المشكلات التي كانت قائمة في ذلك الوقت. ويبقى لكتاب البنك اللاربوي في الإسلام قيمته بوصفه جهداً نظرياً وتأصيلاً فقهياً هو من بواكير الاهتمام بذلك الموضوع.
وهناك تطور آخر حاول دراسته وتكوين نتيجة حوله الدكتور الملاط مع انبثاق تجربة إسلامية سعت إلى أسلمة الدولة والمجتمع والحياة العامة على نطاق شامل ومحكم بعد التحول الإسلامي في إيران؛ حيث يتوافق السيد الصدر مع هذه التجربة من جهة الانتساب إلى قاعدة الاجتهاد الإسلامي الشيعي. فقد طرح الملاط سؤالاً حاول البحث عن إجابة له، وهو (هل نجح الصدر في جعل اكتشافه الاقتصاد الإسلامي قابلاً للتطبيق؟) والنتيجة التي توصل إليها الملاط هي أن كتاب اقتصادنا لم يأخذ حيزه وفاعليته من التطبيق في التجربة الاقتصادية والإسلامية في إيران، على عكس المبادئ الدستورية كما يرى الملاط؛ حيث من الممكن اقتفاء أثر تسلسل شبه مباشر في نصوص محكمة مثل (اللمحة الفقهية) للصدر والدستور الإيراني لعام 1979م. وعن وجهة نظره في كتاب اقتصادنا يقول: (على الرغم من التحليل المطول لملكية الأراضي والنظام الاقتصادي لم يعرض اقتصادنا التقنيات الممكن تطبيقها في اقتصاد يبحث عن إرشادات محددة بدقة)، ويرى أن ثروة الكتاب وضلاعته العلمية توحيان بأن بعض النماذج أسّست في هذا المجال وفقاً لأفكار بحثت أول مرة بالتفصيل في اقتصادنا.. . وما يخلص إليه أن فضائل الكتاب تكمن في هذه النماذج والمثل أكثر مما هي في تطبيق الآراء على اقتصاد دولة إسلامية.[30]
من المؤكد أن هذه الآراء الناقدة لا تقلل من شأن كتاب اقتصادنا الذي برهن بكفاءة عالية وفي وقت مبكر على إمكانية اكتشاف المذهب الإسلامي والنظام الإسلامي في الاقتصاد، وأعطى ثقة كبيرة لأي محاولة إسلامية لأن تتخذ من الإسلام قاعدة مرجعية وإطاراً معرفياً في بلورة النظم الاقتصادية والتفكير الاقتصادي العام وصياغتها. وهذه من أكثر القضايا جوهرية؛ حيث تتأسس عليها جميع الخطوات الأخرى التخطيطية والتطبيقية وجملة السياسات العامة. وحينما ظهرت التجربة الإسلامية في إيران لم يقدم لها السيد الصدر كتاب اقتصادنا ليكون تصوراً لاقتصادها الوطني، وإنما أسهم برؤية أخرى تلك التي عبّر عنها في كتابه الإسلام يقود الحياة، ولم يتطرق فيه إلى كتاب اقتصادنا، مع أن أغلب موضوعاته تدور حول الاقتصاد. ولعله كان قاصداً في استعماله لتسمية (اقتصاد المجتمع الإسلامي)، والفارق أن في كتاب اقتصادنا كان الحديث يدور حول المذهب الإسلامي في الاقتصاد، ولم يكن للمجتمع الإسلامي موضوع يسوغ الحديث حوله في إطار خصوصياته ومكوناته وشروطه الزمانية والمكانية.
كلمة أخيرة
من المؤكد أن الفكر الإسلامي المعاصر قد تأثر كثيراً في حركة نموه وتطوره وتجدداته بغياب السيد الصدر الذي مثّل قمة عالية في منظومة هذا الفكر، ونهض بوعي لم تنقطع تأثيراته إلى هذا اليوم، وأعطى زخماً للمشروع الإسلامي المعاصر على امتداد العالم الإسلامي، وتأثّر به أوسع قطاع من المثقفين الدينيين المتنورين. فهو المفكر الذي كان التجديد والتطوير والابتكار منطلقاته الأساسية في جميع أبحاثه ودراساته ومؤلفاته، ولم يكن مجرد داعية لهذه العناصر، بل كان ممارساً ومتمثلاً لها، كما برهنت على ذلك مؤلفاته.
وباستشهاده أصبح مصدّقاً لأفكاره وشاهداً عليها وعلى الفكر الإسلامي. لقد كان إعدامه من أعظم فواجع الفكر الإسلامي، فأي أمة هذه التي يعدم فيها مثل الصدر، وأي أمة هذه التي يقتل فيها عظماؤها!؟ مع ذلك توّج الصدر عظمته بتلك الشهادة، وبعث في الأمة روحاً وصحوة ويقظة؛ حيث كان رسولياً في فكره وحسينياً في شهادته. لقد أدى الصدر مهمته ورسالته، ونحن الذين لم نؤد مهمتنا ورسالتنا لأننا لم ننجب صدراً بعد الصدر!
[1]. فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر، بيروت: دار التعارف، 1982م، ص 57.
[2]. انظر: كتاب تجديد الفقه الإسلامي.. محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، د. شبلي الملّاط، ترجمة غسّان غصن، بيروت: دار النهار، ط1، 1998م، ص 147. سوف نعتمد هذا الكتاب مرجعاً أساسياً في هذا البحث لخصوصيته الأكاديمية.
[3]. الأسس المنطقية للاستقراء، السيد محمد باقر الصدر، بيروت: دار التعارف، ط4، 1982م، ص 7.
[4]. قضايا إسلامية. (إيران)، العدد الثالث، 1417ق/1996م، ملف: فكر الإمام الشهيد محمد باقر الصدر.. قراءات في الأبعاد التأسيسية، أسئلة الذكرى في الواقع الفكري الراهن، خالد توفيق، ص 372. نقلاً عن كتاب باللغة الفارسية: تفرج صنع، عبد الكريم سروش، طهران: مؤسسة فرهنكي صراط، ط3، 1373ش، ص 426.
[5]. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، د. فهمي جدعان، عمان: دار الشروق، ط3، 1988م، ص 12.
[6]. تجديد الفقه الإسلامي.. محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ص 49.
[7]. م. ن، ص 23.
[8]. نظرية التراث.. ودراسات عربية وإسلامية أخرى، د. فهمي جدعان، عمان: دار الشروق، ط1، 1985م، ص 100، في الهامش. وقد صدر هذا الكتاب في طبعة جديدة بعنوان مختلف هو (الماضي في الحاضر)، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
[9]. الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات، منير شفيق، بيروت: الناشر للطباعة والنشر، تونس: دار البراق، ط3، 1991م، ص 9.
[10]. م. ن، ص 36.
[11]. م. ن، ص 48.
[12]. م. ن، ص 32.
[13]. تجديد الفقه الإسلامي.. محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ص 11، وقد تضمن الكتاب توثيقاً عما نشر باللغات الأجنبية في هذا الصدد حول السيد الصدر.
[14]. عن كتاب: الشهيد الصدر.. سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمد رضا النعماني، نشر المؤلف، إيران، 1996م، ص 66. والمؤلف لم يؤرّخ متى حصل هذا اللقاء ولعل الأقرب خلال فترة السبعينات.
[15]. اقتصادنا، السيد محمد باقر الصدر، بيروت: دار التعارف، ط16، 1982م، ص 27.
[16]. نظام الإسلام: الاقتصاد مبادئ قواعد عامة، محمد المبارك، بيروت: دار الفكر، ط2، 1980م، ص 17.
[17]. انظر: كتاب الشهيد الصدر.. سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 67 و68. وحسب رواية الكتاب فإن اللقاء لم يحدث؛ حيث أظهرت الجهة الحكومية العراقية موقفاً في غاية الغرابة بنفيها أن يكون هناك شخصٌ عراقي في داخل العراق بذلك الاسم، واختلقت مسرحية مفضوحة بغرض إقناع ضيفها بصحة كلامها.
[18]. انظر: جريدة الحياة (لندن)، العدد 12447، الجمعة 28 آذار ۔ مارس 1997م.
[19]. في غير مكان في كتابه يؤكد الدكتور الملاّط على هذه الحقيقة، انظر: ص 116 ۔ 189.
[20]. صدر الكتاب في القاهرة، نشرته دار الصحوة، 1987م/1408ق.
[21]. تجديد الفقه الإسلامي، ص 166 ۔ 193.
[22]. م. ن، هوامش الكتاب، ص 284.
[23]. م. ن، ص 16 و18 و195.
[24]. م. ن، ص 195 و18.
[25]. م. ن، ص 189.
[26]. م. ن، ص 193.
[27]. م. ن، ص 283، هامش رقم 44.
[28]. نشرته بالإنجليزية المؤسسة الإسلامية في بريطانيا عام 1985م، وصدرت ترجمته العربية عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي في أمريكا. أخذ عليه المؤلف جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية عام 1990م.
[29]. صدر الكتاب في طبعته الأولى عام 1996م، بالتعاون بين المعهد العالمي للفكر الإسلامي والمعهد العربي للدراسات المالية والمعرفية بالأردن.
[30]. تجديد الفقه الإسلامي، ص 194.