نظرية المعرفة في فلسفة الشهيد باقر الصدر

الدكتورة عائشة يوسف المنّاعي

المقدمة

أولاً: الصدر في سطور

هو السيد محمدباقر بن السيد حيدر بن السيد إسماعيل الصدر الكاظمي الموسوي. ويكنّى بأبي جعفر، وينتمي إلى عائلة الصدر المشهورة بالعلم والجهاد والتقوى. والده حيدر بن إسماعيل الصدر وقد كان عالماً… وأمّه ابنة الفقيه الشيخ عبدالحسين آل ياسين أخت الشيخ مرتضى والشيخ راضي والشيخ رضا، وهم من الفقهاء البارزين، وأسرة آل ياسين من الأسر العربية العراقية المعروفة بالتقوى والعلم والصلاح.

ولد محمدباقر الصدر في مدينة الكاظمية في بغداد سنة 1353هـ الموافق 1935م. وقد برزت عليه علامات النبوغ والعبقرية في وقت مبكر فاق بها أقرانه في مختلف المجالات.

ولقد كان للإمام الشهيد إسهام فاعل في مجال تطوير حركة الفكر الإسلامي، برز ذلك في إنتاجه الفكري الذي بدأ في سن صغيرة، وفي فترة حياته القصيرة التي لا تتجاوز خمسة وأربعين عاماً، والتي تمخّضت عن العديد من المؤلفات ذات الطابع الموسوعي بموضوعاتها المتنوعة: الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية، شاهدة على براعته وإبداعه ومنهجيته العصرية في طرح الأفكار الجديدة المبتكرة من خلال الفكرة المعمقة والنظرة المدققة، التي استطاعت في وقت قصير تغيير وجه الحوزة العلمية في النجف، التي حصرها العلماء في مسائل الحلال والحرام وفتاوى الطهر والنجاسة (فاستطاع أن يغير المنهج التقليدي في التربية الدينية التي كانت تعتمد على أداء الفرائض العبادية من صلاة وصيام وحج وخمس إلى منهج رسالي متصلاً بوعي سياسي إسلامي عام).[1]

وقد استغل فرصة تولّيه منصب (المرجع) وهو منصب قيادي أول في الأمة ۔ كما يعتقد الشيعة ۔ لإصلاح تلك الحوزات ومحاولة تخليصها من تراكمات الماضي، وبذلك أعطى المرجعية دوراً جديداً كان معطّلاً، وهو أداء دورها الرسالي.[2]

ويظهر إبداع الصدر ۔ أيضاً ۔ في موضوع له أهميته القصوى، وهو اكتشافه لمنهج جديد في تفسير كيفية نمو المعرفة وتوالدها عن طريق منهج الاستقراء القائم على حساب الاحتمالات، وسمّى مذهبه ذلك بـ(المذهب الذاتي للمعرفة) في مقابل المذهبين: التجريبي والعقلي، وهذا ما سيكون موضع عنايتنا خلال دراستنا لنظرية المعرفة عند الإمام الشهيد، الذي (لم يقف عند مرحلة الاكتشاف وإنما عمّم تطبيقات هذا المنهج إلى حقول معرفية شتى فتوغل في أصول الفقه في مباحث العلم الإجمالي والتواتر والإجماع والسيرة، وهكذا قام بإعادة بناء علم أصول الدين في إطار هذا المنهج).[3]

أما عن مؤلفاته فلم نتمكن من حصرها، ولكن يمكننا أن نعدد ما عرفناه منها:

١. الأسس المنطقية للاستقراء.

٢. فلسفتنا.

٣. اقتصادنا.

۴. المرسل الرسول الرسالة.

۵. ثبوت النص القرآني وسلامته.

۶. بحث حول المهدي؟ع؟.

٧. بحث حول الولاية.

٨. نشأة التشيع والشيعة.

٩. فدك في التاريخ.

١٠. الفتاوى الواضحة.

١١. المدرسة القرآنية.

١٢. السنن التاريخية في القرآن.

١٣. بحوث في علم الأصول.

١۴. الإسلام يقود الحياة.

١۵. المعالم الجديدة.

أما ما كتب عن محمدباقر الصدر فهو لا يُعدّ شيئاً نسبة لإبداعه، بل ويؤكد عبدالجبار الرفاعي على أن الإمام ظل مهملاً (لولا مبادرات فردية للتعريف بمدرسته وقراءة الأبعاد التأسيسية في فكره، كان أبرزها الدراسة التي كتبها تلميذه السيد كاظم الحائري في مقدمة كتابه (مباحث الأصول)، والكتاب الذي ألفته نخبة من الباحثين، ونشرته دار الإسلام في لندن، والعدد الخاص من مجلة قضايا إسلامية، وأخيراً الكتاب الذي ألفه تلميذه الشيخ محمد رضا النعماني).[4]

وإضافة إلى علمه، يتحلى باقر الصدر بخصال المؤمن الصادق، من تلك الخصال: الإخلاص في سلوكه وعبادته وجهاده، وحسن تواضعه الذي يظهر أشد ما يظهر في عدم رضاه بأن يلقّب بأحد الألقاب التي يستحقها، وبخاصة أنه نشأ في بيئة تضجّ بالألقاب مثل الإمام، العلامة، آية الله العظمى، حجة الإسلام.. وغيرها، إلا أن الشهيد لم يرتض أن تتصدر مؤلفاته بأي لقب من تلك الألقاب، وطبعت كلها بإشرافه وباسمه فقط (محمدباقر الصدر).

وكان زاهداً في رغد العيش، يسكن داراً صغيرة، ورفض بشدة كل العروض التي قدّمت له من قبل بعض مريديه بالتبرع له لشراء دار أخرى.

كان ذا عاطفة جياشة صبوراً حليماً مع طلابه ومريديه وكل من حوله، بل حتى على خصومه وعساكر الأمن المكلفين بمراقبة داره.

وعلى رأس خصاله وصفاته الجرأة والشجاعة والإقدام، فكان لا يخشى في الله لومة لائم، وقد أصدر فتوى بتحريم الانتماء لحزب البعث، ومن هنا أمر صدام حسين رئيس العراق باعتقاله، تلك الشجاعة دعت القوى الاستكبارية للتفكير في التخلص منه بكل الوسائل، فدبّرت له المكائد والمؤامرات منذ أن كان شاباً في العشرين إلى أن اغتالته.

وقد كان الاعتقال الأخير له في منتصف ليلة الأحد 20 جمادى الأولى 1400هـ الموافق 5 أبريل 1980م، يقول محمد العباسي واصفاً تلك النهاية (وفي الساعة الثانية عشرة من منتصف ليل الأربعاء 23 جمادى الأولى جاء رجال الأمن في ثلاث سيارات إلى دار أحد العلماء البارزين من أسرة الصدر وأخذوه معهم إلى مقبرة دار السلام، وفي الطريق وبعد إطلاق التهديدات أبلغوه أن جثمان الشهيد الصدر وشقيقته بنت الهدى معهم في السيارة).[5]

ثانياً: المعرفة وعلاقتها بالعلم

قد يتداخل معنى المعرفة مع معنى العلم فيكون مرادفاً له، من حيث أن كلاً منهما يعني: إدراك صور الأشياء أو صفاتها أو علاماتها أو إدراك المعاني المجردة سواء أكان لها وجود خارج الذهن أم لم يكن، فيقال: علم الشيء بمعنى عرفه.

وقد عرّف التهانوي في كشّافه العلم على أنه معنى من معاني المعرفة فقال: (ومنها [أي المعرفة] العلم مطلقاً تصوراً كان أو تصديقاً).[6]

ومن هنا يستعمل المتكلمون في تعريف العلم كلمة المعرفة. فيقول الباقلاني في تعريف العلم إنه: (معرفة المعلوم على ما هو به)[7].

وللجويني تعريف آخر يقول فيه: (العلم عقد يتعلق بالمعتقد على ما هو به).[8]

وجاء في لسان العرب: (العرفان: العلم، قال ابن سيده: وينفصلان بتحديد لا يليق بهذا المكان).[9]

والقدماء يفرقون بين المعرفة والعلم فيما يقول د. صليبا بالعموم والخصوص والإحاطة في الإدراك أو عدمه:

فالمعرفة إدراك الجزئي والعلم إدراك الكلي، وأن المعرفة تستعمل في التصورات والعلم في التصديقات. ولذلك تقول عرفت الله دون علمته؛ لأن من شرط العلم أن يكون محيطاً بأحوال المعلوم إحاطة تامة، ومن أجل ذلك وصف الله بالعلم لا بالمعرفة، فالمعرفة أقل من العلم؛ لأن للعمل شروطاً لا تتوافر في كل معرفة، فكل علم معرفة، وليست كل معرفة علماً.[10]

وبحيث يمكن القول بأن العلم مجموع معارف والمعرفة جزء من العلم. ولقد اعتنى علماؤنا ۔من محدثين ومفسرين وفقهاء وعلماء كلام وفلاسفة۔ بموضوع المعارف الإنسانية عناية بلغت من الاهتمام بها مبلغاً جعلهم يفتتحون مصنفاتهم بموضوع العلم وحقيقته ومعناه، وما يحصل به العلم من النظر والاستدلال وأحكام النظر، مما يعني اهتمامهم البالغ بنظرية المعرفة في مسماها الحديث.

أما المحدثين فلفظ المعرفة عندهم له أربعة معان:

الأول: الفعل الذي يتم به حصول صورة الشيء في الذهن سواء كان حصولها مصحوباً بالانفعال أو غير مصحوب به.

والثاني هو الفعل العقلي الذي يتم به النفوذ إلى جوهر الموضوع لتفهم الحقيقة.

والثالث مضمون المعرفة بالمعنى الأول.

والرابع مضمون المعرفة بالمعنى الثاني.[11]

وتعنى هذه النظرية بالبحث في طبيعة المعرفة وماهيتها ومصادرها وموانعها وشرائطها وقيمتها ووسائلها، ويذهب البعض إلى (أن نظرية المعرفة قسم من علم النفس النظري الذي يصعب فيه الاستغناء عن علم ما بعد الطبيعة؛ لأن غرضه البحث عن المبادئ التي يفترضها الفكر متقدمة على الفكر نفسه، ومعنى ذلك أن نظرية المعرفة هي البحث في المشكلات الفلسفية الناشئة عن العلاقة بين الذات المدركة والموضوع المدرك، أو بين العارف والمعروف).[12]

وبما أن الذات لابد وأن يتجه تفكيرها إلى شيء ما، ولا تستطيع أن تفكر في العدم، كان الوجود هو موضوع المعرفة، والوجود كمفهوم فلسفي يقصد به مطلق الواقع ويقابله العدم، وهذا الواقع قد يكون في الخارج أو في الذهن (فالوجود الخارجي عبارة عن كون الشيء في الأعيان، وهو الوجود المادي[13]، والوجود الذهني عبارة عن كون الشيء في الأذهان وهو الوجود العقلي أو المنطقي).[14]

إن العلاقة ۔ التي يتحدث عنها هؤلاء ۔ تتطلب وعي الذات العارفة بالمعروف لتصبح المعرفة (عملية تجمع في داخلها بين شكل من أشكال الاتحاد وشكل من أشكال التفريق أو التمييز في الوقت نفسه)[15] بمعنى أن الذات المدركة إذا عرفت شيئاً وانطبع فيها ذلك الشيء أصبحت متحدة به، في الوقت الذي لابد وأن تتصف تلك الذات فيه بالوعي لكي تستطيع أن تعرف.

وفيما يرى (كولبة) فإن مصطلح نظرية المعرفة يطلق ويراد منه أحد معنيين: معنى عام، ويراد به العلم الذي يبحث في مادة العلم الإنساني ومبادئه الصورية، ومعنى خاص ويراد به العلم الذي يبحث في المعرفة من حيث مبادؤها المادية.[16]

وعليه فالمعنى الواسع لهذا المصطلح (يشمل كل البحوث الفلسفية الهامة التي تتعلق بظاهرة المعرفة، مثل المنطق وعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء وعلم الاجتماع والتاريخ وميتافيزيقا المعرفة. أما المعنى الضيّق فيراد به العلم الذي يبحث في ماهية المعرفة ومبادئها ومصدرها ومنابعها وشروطها ونطاقها وحدودها).[17]

أما بداية ظهور نظرية المعرفة فمرتبطة بالفيلسوف الإنجليزي لوك (1704م) حيث يعدّ هو المؤسس الحقيقي لنظرية المعرفة في العصر الحديث؛ لأنه وضع المعرفة في صورة العلم المستقل كما كان (كتابه مقالة في العقل البشري الذي صدر عام 1690م أول بحث علمي منظم في أصل المعرفة وماهيتها وحدودها ودرجة اليقين فيها)[18] إلا أن المصطلح ذاته لم يعرف إلا في وقت متأخر عليه في عام 1862م عند تسلر، وذلك في كتابه (أهمية نظرية المعرفة ووظيفتها)، وبعض الباحثين يرى أن هذا المصطلح ظهر على يد (رينهد) في عام 1832م في كتابه (نظرية ملكة المعرفة الإنسانية والميتافيزيقا).[19]

ولا يعنينا هنا تتبع الآراء العديدة حول بداية ظهور نظرية المعرفة كمصطلح يطلق على مبحث من مباحث علم الفلسفة أو المنطق، بقدر ما يعنينا بيان موقف الشهيد الصدر من مصادر المعرفة وقيمتها ومدى مشاركة كل من الذات المدركة والموضوع المدرك في المعرفة. وهي من أمهات المسائل في نظرية المعرفة التي تفرقت حولها المدارس قديماً وحديثاً، وبرغم كثرة هذه المدارس واختلافها حول المصدر الأساسي للمعرفة فإن من الممكن تصنيفها ۔حسب فلسفة الإمام الصدر۔ إلى المدارس أو المذاهب التالية:

١. المذهب التجريبي أو الواقعي، وهو المذهب الذي يرجع المعارف جميعها إلى التجربة أو الواقع، وينظر إلى العقل على أنه مرآة تعكس الحقائق الخارجية.

٢. المذهب العقلي الذي يرجع المعارف كلها إلى العقل باعتباره الأصل لكل معرفة.

٣. المذهب النقدي، وهو مذهب توفيقي بين المذهبين السابقين، ويرى أن العقل يشارك الحس ومدركاته الحسية في الحصول على المعرفة.

هذا ما لخّصه السيد الصدر في عرضه للمذاهب الفلسفية وموقفها من المعرفة؛ تمهيداً لطرح رؤيته الجديدة المتميزة في موضوع المعرفة ويقينيتها، بعد التأكيد على أهمية نظرية المعرفة والاهتمام بها في أكثر من مصدر علمي وأطروحة من أطروحاته، وبحيث تشكّل منطلقاً أو مرتكزاً ترتكز عليه جميع القواعد الفكرية في البحث؛ ليتمكن الدارس من الانطلاق بعدها إلى معرفة الكون وكل ما يتعلق به.

يقول الإمام الصدر:

تدور حول المعرفة الإنسانية مناقشات فلسفية حادة تحتل مركزاً رئيسياً في الفلسفة وخاصة الفلسفة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تحدد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأية دراسة مهما كان لونها.[20]

وفي نص آخر له يقول:

مفاهيم كل مبدأ عن الحياة والكون تشكّل البنية الأساسية لكيان ذلك المبدأ، والميزان الأول لامتحان المبادئ هو اختبار قواعدها الفكرية الأساسية التي يتوقف على مدى أحكامها وصحتها أحكام البنيات الفوقية ونجاحها؛ ولأجل ذلك فسوف نخصّص هذه الحلقة الأولى من كتابنا لدراسة البنية الأولى التي هي نقطة الانطلاق للمبدأ وندرس البنيات الفوقية في الحلقات الأخرى.[21]

ونفهم من هذين النصين أن الإيمان بالمعرفة والثقة فيها كطريق للعلم الأساسي أو البنية الأولى ۔ كما يسميها الصدر ۔ لأي كيان فكري يتوخّى إقامة فلسفة أو تصور عن الكون والإنسان وخالقهما، وبخاصة أن الحاجة لتلك الدراسة ظهرت أشد ما يكون بعد أن ظهرت النزعات المادية في الفلسفة الأوروبية الحديثة التي أنكر كثير من أصحابها ما وراء المادة واتخذوا من الشك منهجاً وطريقاً، وبعد أن شاعت تلك الأفكار في الثقافة والفنون والآداب، بل وفي الدين أيضاً، بالرغم من أن الإنسان بعقله السليم وفطرته الصحيحة لا يحتاج إلى عميق استدلال ليؤمن بالله ووجوده ووحدانيته في صنعه وخلقه، يقول الصدر:

الفكر الحديث منذ قرنين من الزمن، لم يترك هذا الوجدان طليقاً وصافياً، ومن هنا احتاج الاستدلال بالنسبة إلى من كان ملمّاً بالفكر الحديث ومناهجه في البحث، إلى تعميق وملء الفراغات التي كان الاستدلال الأبسط والأبده، يترك ملأها للوجدان الطليق.[22]

فالحاجة على ذلك ماسة لصياغة دليل ينبني على منهج قريب من الحياة اليومية للمرء ۔تلك الحياة الزاخرة بالاستدلالات الكثيرة لإثبات العديد من الحقائق، ويرى الصدر أن المنهج المستخدم لإثبات حقائق الحياة اليومية هو المنهج الذي يلتقي معه منهج الاستدلال المقترح۔ على الصانع الحكيم؛ لأن منهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم هو نفسه (المنهج الذي نستخدمه عادة لإثبات حقائق الحياة اليومية والحقائق العلمية، فما دمنا نثق به لإثبات هذه الحقائق فمن الضروري أن نثق به بصورة مماثلة لإثبات الصانع الحكيم الذي هو أساس تلك الحقائق جميعاً).[23]

في هذا الإطار، ومن منطلق هذه الأهمية القصوى جاءت عناية باقر الصدر بنظرية المعرفة، التي يرى فيها ركيزة ومقوماً أساسياً من مقومات الدين وأصوله، وهذا الترسيخ يعتمد ۔أول ما يعتمد۔ على الاستدلال الاستقرائي على وجود الصانع الحكيم.

وفي هذه الدراسة التي تدور حول (نظرية المعرفة في فكر باقر الصدر) سنحاول اقتفاء أثره في تصنيفه لعناصر نظرية المعرفة، ونستعرض معه أهم المذاهب والاتجاهات في تلك النظرية، لنصل معه إلى خلاصة رأيه وأطروحته.

المبحث الأول: المصدر الأساسي للمعرفة

يعدّ المصدر الأساسي للمعرفة أو للإدراك من أهم الموضوعات التي ثارت حولها مناقشات كثيرة وشديدة في الفلسفة قديماً وحديثاً؛ ولذلك لم يكن لباقر الصدر بدّ من استعراض تلك الفلسفات في إطار تقسيمه للإدراك إلى تصور وهو الإدراك الساذج، وتصديق وهو الإدراك المنطوي على حكم (فالتصور كتصورنا لمعنى الحرارة أو النور أو الصوت، والتصديق كتصديقنا بأن الحرارة طاقة مستوردة من الشمس، وأن الشمس أنور من القمر وأن الذرة قابلة للإنفجار).[24]

وبناء على التفرقة بين هذين الإدراكين يستعرض الصدر الفلسفات النظرية التي عالجت هذين الإدراكين من حيث تصورهما ومصدرهما الأساسي:

أولاً: التصور ومصدره الأساسي

ويعني الصدر بالمصدر الأساسي (المصدر الحقيقي للتصورات والإدراكات البسيطة)[25] لأن التصورات على قسمين (أحدهما المعاني التصورية البسيطة كمعاني الوجود والوحدة والحرارة والبياض.. والقسم الآخر المعاني المركبة، أي التصورات الناتجة عن الجمع بين تلك التصورات البسيطة)[26]، فهذه التصورات لابد أن يكون لها مصدر تستقي منه مفاهيمها، ومن هنا كان لابد للصدر من أن يعرض لأهم النظريات التي أخذت على عاتقها بيان هذا المصدر وطبيعته، من هذه النظريات:

١. نظرية الاستذكار الأفلاطونية: التي تقوم على استذكار النفس للمعلومات السابقة التي كانت قد عرفتها في عالمها السابق في تجردها، وقبل هبوطها إلى عالم الأبدان والأجسام، واستذكارها لما أدركته من حقائق مجردة ثابتة في ذلك العالم الذي سماه أفلاطون (عالم المثل) فهذه النظرية ترى أن النفس في عالم المادة (تسترجع إدراكاتها بصورة مفاهيم كلية. وعلى ذلك فليس لأدوات المعرفة دور سوى إلفات النفس إلى العالم الذي هبطت منه لتستذكر ما كانت قد نسيته).[27]

وقد انتقد باقر الصدر تلك النظرية سواء في شقها المتعلق بوجود النفس قبل هبوطها إلى البدن ۔في عالم أعلى وأسمى من وجود العالم المادي۔ أو في شقها المتعلق بإدراك النفس للحقائق المجردة أو (المثل) وأن العلم والمعرفة هو عبارة عن هذا الإدراك.[28]

٢. النظريات العقلية: وتعود لكبار فلاسفة أوروبا مثل ديكارت وكانت وغيرهما.

وتتلخص في الاعتقاد بوجود منبعين للتصورات: أحدهما الحس والآخر الفطرة، بمعنى أن الذهن البشري يملك معاني وتصورات لم تنبثق عن الحس، وإنما هي ثابتة في صميم الفطرة. والنفس تستنبط من ذاتها.

ولم تسلم تلك النظرية ۔أيضاً۔ من تفنيد السيد باقر الصدر، ولكن يثبتها بنظرته الخاصة المنبثقة من القرآن الكريم، وذلك حين يقرر أن هذه النظرية يمكن أن يرد عليها اعتراض علمي يتمثل في الرجوع بالإدراك إلى طبيعة حسية، وحينئذ تفقد هذه النظرية كل مبرراتها في جعل بعض الإدراكات فطرة في النفس.. واعتراض فلسفي مؤداه أن هذه النظرية لا تفسر لنا صدور التصورات الكثيرة أو اللانهائية عن النفس كمصدر بسيط لا كثرة فيه.. ويرى السيد الصدر أننا لو فسرنا هذه النظرية بإثبات الأفكار الفطرية التي تكون كامنة في (النفس) بالقوة، والتي تخرج إلى الفعل بعد ذلك بسبب (تطور النفس وتكاملها شعورياً، كما يشير إليه قوله تعالى: <وَ اللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ..> إلى آخر الآية الكريمة) فسوف تثبت هذه النظرية العقلية وتسلم من الاعتراضين العلمي والفلسفي، وما يحسب للشهيد الصدر في فلسفته أنه أعاد أساس هذه النظرية من منظور إسلامي لولاه لفقدت هذه النظرية تماسكها الداخلي وبناءها المنطقي.

٣. النظرية الحسية: وتقوم على الاعتقاد بأن المصدر الوحيد الذي يمد الذهن ويموّنه بالتصورات والمعاني هو الحس. أما القوة الذهنية فهي القوة العاكسة للإحساسات المختلفة في الذهن، والذهن ليس له إلا التصرف في صور المعاني المحسوسة بالتركيب أو التجزئة أو التجريد والتعميم.

وهذه النظرية نشأت كردّ فعل لنظرية الأفكار الفطرية التي مثّلها الفيلسوف الفرنسي (ديكارت)، وأول من تبنى النظرية الحسية ۔في المعرفة۔ الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، الذي قضى ۔إلى حد ما۔ على نظرية الأفكار الفطرية، واقتفى أثره بعد ذلك وواصل مهمته وطوّر من نظريته الحسية هذه طائفة من الفلاسفة الإنجليز في مقدمتهم الفيلسوفان باركلي وديفيد هيوم.. ويشير الأستاذ الشهيد إلى أن الفلسفة الماركسية تلقفت هذه النظرية الحسية وتبنتها واعتمدت عليها في نظريتها التي تقرر أن كل إدراكاتنا وشعورنا ليس إلا انعكاسات للواقع الحسي الموضوعي بصورة أو بأخرى.[29]

وقد عرض نصوصاً لأئمة الفلسفة الماركسية تصور مذهبهم المادي في المعرفة.. ثم بيّن أن النظرية الحسية تركّز على التجربة وتتخذ منها برهاناً على ما تقرره في نظرتها الحسية، مع أن التجربة تدل على أن الإحساس ينبوع أساس في التصورات، وأنه بدونه لا توجد تصورات في الذهن البشري، لكن التجربة لا تنفي قدرة الذهن على توليد معان وتصورات جديدة ليست مدركة بالحواس، وإن كانت تستمد عناصرها من الحس.

فالتجربة وإن كانت تثبت أهمية الحس في الإدراكات إلا أنها لا تجرد الذهن عن فاعليته في ابتكار تصورات جديدة مخترعة.. ويضرب السيد الصدر مثلاً لهذه الإدراكات مفاهيم ذهنية من قبيل: العلة والمعلول والعرض والإمكان والوجوب والوحدة والكثرة…

ففي مثال العلية يرصد الحس ظاهرتين متعاقبتين، أما ما بينهما من تأثير وتأثر فهو معنى لا يعود إلى الحس من قريب أو من بعيد، بل هو أمر ذهني خالص.. وبهذا تفلس النظرية الحسية، وتعجز عن تقديم تفسير صحيح لإدراكات عديدة لا تستمد من الحس ولا ترصدها الحواس.[30]

أما النظرية التي يرتضيها فهي

۴. نظرية الانتزاع: وهي نظرية الفلاسفة المسلمين بصفة عامة ۔كما يقول الصدر۔ وتتلخص هذه النظرية في أنها تقسّم التصورات الذهنية إلى قسمين: تصورات أولية، وتصورات ثانوية. الأولية هي الأساس في تصورات الذهن الإنساني، وهي تتولد من الإحساس بمحتوى هذا التصور أو ذاك بصورة مباشرة، فنحن ندرك الحرارة إذا لمسناها واللون إذا أبصرناه.. وهكذا.

وهذه التصورات هي بمثابة القاعدة أو نقطة الانطلاق للنوع الثاني من التصورات وهو التصورات الثانوية، وهي التي ينشئها الذهن وينتزعها من قاعدة التصورات الأولية، فالذهن هنا له دور الإنشاء والابتكار وليس دور التركيب والتجزئة والتجريد فقط. وهذه نقطة فارقة بين تلك النظرية والنظرية العقلية.

ويجب أن نفرّق بين انتزاع المفاهيم الكلية ۔التي تنطبق على المحسوسات مثل إنسان وفرس وشجرة۔ وانتزاع البديهيات الأولية، مثل مفهوم الوجود والعدم والوحدة والكثرة، فانتزاع الفئة الأولى (يحصل للعقل من طريق تجريد وتعميم الجزئيات المحسوسة بشكل مباشر.. أما الفئة الثانية فإنها لم ترد إلى الذهن من طريق الحواس مباشرة، وإنما الذهن بعد أن يظفر بالصور الحسية فإنه يقوم بنشاط خاص وترتيب معين لينتزع هذه المفاهيم من تلك الصور الحسية، ولهذا تسمّى الفئة الأولى بالإصطلاح الفلسفي (المعقولات الأولى) والفئة الثانية المعتمدة على الأولى (بالمعقولات الثانية)، وهذه المعقولات الثانية الفلسفية هي التي تشكّل البديهيات الأولية للمنطق وموضوعات أغلب مسائل الفلسفة الأولى).[31]

ثانياً: التصديق ومصدره الأساسي

ونقطة البداية في هذا الموضوع ۔وكما يراها الصدر۔ هي في تحديد (أصل المعرفة التصديقية والركائز الأساسية التي يقوم عليها صرح العلم الإنساني).[32]

هذا الأصل أو الأساس أو المبدأ الذي تنتج عنه المعارف البشرية هل هو العقل بمفاهيمه أو الحس بمداركه أو هو العقل والحس معاً؟

وحول الإجابة على هذه الأسئلة، ظهر اتجاهان:

الأول: المذهب العقلي، وسمّي بذلك؛ لاعتماده على العقل.

والثاني: المذهب التجريبي؛ لاعتماده على الحس والتجربة.

أما المذهب العقلي: فهو المذهب الذي ترتكز عليه الفلسفة الإسلامية وطريقة التفكير الإسلامي.[33] وفي هذا المذهب تنقسم فيه المعارف إلى طائفتين:

أولاً: معارف ضرورية أو بديهية لا تحتاج إلى دليل وبرهان مثل: (النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شيء) و(لا حادث بلا سبب محدث) و(الكل أكبر من الجزء).. إلى آخر أمثلة القضايا الضرورية.

وثانياً: معارف نظرية تستمد صحتها من معارف ومعلومات سابقة تستنبط منها، مثل (الأرض كروية) و(الحركة سبب الحرارة) و(التسلسل ممتنع)، ولولا تلك المعارف السابقة الضرورية أو البديهية لما استطاع الذهن البشري التوصل إلى معارف نظرية على الإطلاق.

إذن فالركن الأساسي للعلم بصفة عامة هو المعلومات العقلية الأولية، أو العلل الأولى للمعرفة، وهي على نحوين:

أحدهما: ما كان شرطاً أساسياً لكل معرفة إنسانية بصورة عامة، وهو مبدأ عدم التناقض.

والآخر: ما كان سبباً لقسم من المعلومات وهو سائر المعارف الضرورية[34] والعملية التي تستنبط بها المعرفة النظرية من المعارف السابقة هي التي يطلق عليها اسم الفكر والتفكير.

وكأن باقر الصدر يتحدث هنا عن العلم الحصولي بجانبيه: التصوري والتصديقي، ولا يتحدث عن العلم الحضوري بحسب تقسيم بعض العلماء للعلم ۔من حيث طبيعة وجود المعلوم واقعي والعيني۔ والعلم الحصولي هو ما ينتج بناءً على وجود واسطة بين العالم وذات المعلوم، فالوجود الخارجي للمعلوم لا يتعلق بشهود العالم به مباشرة وإنما يتعلق علمه بشيء يعكس ذلك المعلوم كالحس والتجربة والصورة والمفاهيم الذهنية، أما العلم الحضوري فالمعلوم فيه ينكشف للعالم به مباشرة بلا واسطة، مثل علم الإنسان بذاته وكونه موجوداً مدركاً وعلمه بالنفس وقواها المدركة والمحركة، وعلمه بحالاته النفسية والوجدانية.. ويدخل ضمن هذا العلم العرفان والمكاشفات القلبية على مذهب الإشراقيين.[35]

وأما المذهب التجريبي: فهو الذي يرى أن الإنسان إذا كان مجرداً من التجارب فلن تكون عنده معرفة لأي حقيقة من الحقائق، فالتجربة هي المصدر الأول لجميع المعارف، ولا توجد معارف عقلية سابقة على التجربة.

ويستخلص باقر الصدر من عرضه لهذين المذهبين حقيقة لا تخفى على كل عاقل، وهي أن المعرفة الإنسانية إذا كانت مستنتجة من بعضها البعض سواء في ذلك بالاستنباط أو بالاستقراء (فيجب أن تكون لهذه المعرفة بداية تتمثل في معارف غير مستنتجة بأي صورة من صور الاستنباط أو الاستقراء؛ لأننا لو لم نفترض هذه البداية لواجهنا متراجعة لا نهائية، ولتوقف التوصل إلى معرفة على حصول عدد لا نهائي من المعارف وبالتالي تصبح المعرفة مستحيلة).[36]

وبناءً على ذلك نخلص مع باقر الصدر في إيمانه بالمذهب العقلي وعدم إنكاره لدور التجربة إلى ما يلي:

١. المذهب العقلي هو المذهب المستحسن عند الصدر، وهو المذهب الذي يثبت العقل، بل والتجربة ۔أيضاً۔ على أنه المذهب الصحيح في تفسيره لمصدر المعارف بأنها ترتكز على معارف قبلية سابقة أو ما يسميها بالقضايا الأولية، وأن القائلين بالتجربة هم أنفسهم لا يستطيعون أن يؤكدوا قاعدتهم القائلة: (التجربة هي المقياس الأساسي لتمييز الحقيقة)؛ لأن هذه القاعدة إن كانت خطأ فقد تهاوى مذهبهم من الأساس، وإن كانت صواباً فما السبب في صوابها؟ فإن كان صوابها بلا تجربة فمعنى ذلك أنها بديهية، وهذا يهدم مذهبهم في إنكار معارف سابقة على التجربة، وإن كان صوابها بتجربة سابقة عليها فهذا أمر مستحيل؛ لأن التجربة لا تؤكد قيمة نفسها.

٢. المذهب العقلي يرى أن ميدان المعرفة البشرية أوسع من حدود الحس والتجربة، حيث إنه ينطلق إلى ماوراء المادة من حقائق وقضايا، وبذلك يتحقق للميتافيزيقا إمكان المعرفة، وليست الحقائق الميتافيزيقية وحدها التي تحتاج في إثباتها إلى العقل، بل المادة، والتي لا يمكن الكشف عنها بالتجربة الحسية الخالصة تحتاج في إثباتها إلى العقل أيضاً، إضافة إلى أن التجربة ۔في المذهب التجريبي۔ لا تتعلق بنفس المادة وحقيقتها، أو بالجوهر المادي، وإنما تتعلق بظواهر المادة وأعراضها مما يعني أن المذهب التجريبي عاجز حتى عن إثبات المادة نفسها.

٣. المذهب العقلي يؤمن بأن الفكر يسير دائماً من العام إلى الخاص، أي من الكليات إلى الجزئيات (الاستدلال القياسي)، أما المذهب التجريبي فإن الفكر أو حركة الذهن فيه تنتقل من الجزء إلى الكل، ومن الخاص إلى العام (الاستدلال الاستقرائي)، وبالرغم من ذلك فإن باقر الصدر يثبت أن (استنتاج نتيجة علمية من التجربة يتوقف دائماً على الاستدلال القياسي الذي يسير فيه الذهن البشري من العام إلى الخاص ومن الكلي إلى الجزئي، كما يرى المذهب العقلي تماماً).[37]

۴. يؤمن المذهب العقلي بالاستحالات العقلية، أما المذهب التجريبي فلا يدخل الحكم باستحالة وجود شيء أو عدم إمكان وجود شيء في نطاق التجربة عنده (وقصارى ما يتاح للتجربة أن تدلل عليه هو عدم وجود أشياء معينة، ولكن عدم وجود شيء لا يعني استحالته)[38]، ومن الطبيعي أن يجوز التناقض في ظل عجز المذهب التجريبي عن إثبات الاستحالة، وإذا جاز التناقض فإن جميع المعارف والعلوم تنهار من الجذور ومن الأساس، ولا يمكن معه إثبات قضية علمية أو حسية أو عقلية.

۵. يؤمن المذهب العقلي بقيام علاقة السببية (العلية) في المعرفة البشرية بين بعض المعلومات وبعضها الآخر. أما المذهب التجريبي فلا يمكن أن يثبت مبدأ العلية والضرورة القائمة بين ظاهرتين، بل قصاراه إثبات ظاهرتين فقط دون ما بينهما من علاقة وارتباط عِلّي، ومع انهيار مبدأ العلية تنهار أيضاً جميع العلوم الطبيعية كما يقرر الصدر.[39]

۶. وأخيراً فإن المذهب لا ينكر دور التجربة في العلوم والمعارف البشرية وفضلها العظيم على الإنسانية، ومدى خدمتها في ميادين العلم وما كشفته من أسرار الكون وغموض الطبيعة، ولكن المذهب العقلي يرى أن التجربة بمفردها لا تستطيع أن تقوم بدورها على أكمل وجه، بل هي تحتاج إلى القضايا الأولية البديهية كمبدأ أساسي تنطلق منه، فنحن والآخرون ۔فيما يقول الصدر۔ (على حد سواء على ضرورة الاعتراف بذلك المقياس الذي ترتكز عليه أسس فلسفتنا الإلهية، وإذا حاول التجريبيون بعد ذلك أن ينكروا ذلك المقياس ليبطلوا علينا فلسفتنا، فهم ينسفون بذلك الأسس التي تقوم عليها العلوم الطبيعية ولا تثمر بدونها التجارب الحسية شيئاً)[40] بل إن القضية التجريبية التي اعتبرها أرسطو من القضايا اليقينية في المعرفة البشرية يعتبرها الصدر من القضايا اليقينية المستدلة والمستنتجة وفقاً للمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي؛ لأن الاستدلال فيها احتمالي، ولذلك فهي دائماً مستنتجة بدرجة أقل من اليقين.[41]

هكذا تتطابق فلسفة الإمام الصدر ومنهجه العقلي مع معطيات الفلسفة الإسلامية، وهو إذ يقف في وجه المذهب التجريبي ۔في مختلف مستوياته ومدارسه۔ فإنه يستمد موقفه هذا من البعد العقلي في فلسفة الإسلام، تلك التي تدرج في ذات الاتجاه مع المذهب العقلي، وقد استطاع السيد الصدر بهذه الوقفة المتأصلة أن يكشف عن عوار المذهب التجريبي وتناقضه في بنائه الفلسفي بما لم يكشفه أحد من قبله.

وإذا كان المذهب الماركسي أو الفلسفة الماركسية تعدّ الصيغة الكاملة للمذهب التجريبي باعتبارها فلسفة مادية خالصة، فإن السيد الصدر قد ركّز عليها في نقده لهذا المذهب، فالماركسية برغم أنها تعتنق الرأي الثاني للمذهب التجريبي، وهو أن للمعرفة خطوتين: حسية وعقلية أو التطبيق والنظرية أو مرحلة التجربة ومرحلة المفهوم والاستنتاج، إلا أنها أرادت أن تحتفظ للتجربة بدورها كمقياس عام للمعارف البشرية، وأنه لا توجد معرفة منفصلة عنها.

ويصل الصدر ۔ بعد استعراضه لرأي الماركسية في المعرفة ۔ إلى نتيجة مضادة لا ترضى عنها الماركسية، وهي أن تلك الخطوة الثانية من خطوتي المعرفة وهي خطوة الحكم والاستنتاج ۔ التي أخذت بها الماركسية ۔ هي نفسها الخطوة التي (ارتكز عليها المذهب العقلي في القول بأن عدة من قوانين العالم العامة يعرفها الإنسان معرفة مستقلة عن التجربة، كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية ومبدأ التناسب بين العلة والمعلول).[42]

وتبقى نقطة هامة في هذا الموضوع، وهي اعتراض قد يوجّه للعقليين مؤداه: أن العقليين إذا كانوا يؤمنون بمعلومات ومعارف أولية سابقة يصفونها بالضرورية، ويدّعون أن هذه المعارف الأولية هي بمثابة الطريق الأساسي في المعرفة. فكيف تأخّرت تلك المعلومات الأولية عن ولادة الإنسان مع الإدعاء بضرورتها أو ذاتيتها؟

ويجيب الصدر على ذلك بأن المقصود بضرورية تلك المبادئ في العقل، أن الذهن لابد وأن يتصور المعاني التي تربط بينها تلك المبادئ، ومن ثم يستنبط المبدأ الأول دون حاجة منه لسبب خارجي، وضرب لذلك مثلاً (مبدأ عدم التناقض) الذي يتضمن حكماً تصديقياً بأن وجود الشيء وعدمه لا يجتمعان، فهذا المبدأ غير موجود عند الإنسان منذ ولادته؛ لأنه يتوقف على تصوره الذهني لمعنى الوجود ومعنى العدم ومعنى الإجماع، ثم يؤلف بعد ذلك المبدأ الأول القائل باستحالة وجودهما معاً أو رفعهما معاً.[43]

وما يقوله الصدر في هذا الصدد يؤكد ما قاله علماء الكلام أيضاً في هذه المسألة، فقد جاء في تفسير الفخر الرازي للآية الكريمة: <وَ اللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصٰارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ>[44]:

أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله، فالله أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف والعلوم.

وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير فنقول: التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية وإما أن تكون بديهية، والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات، فلابد من سبق هذه العلوم البديهية، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول: هذه العلوم البديهية إما أن يقال: إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة.

والأول باطل؛ لأنا بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنيناً في رحم الأمّ ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء.

وأما القسم الثاني فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب، وكل ما كان كسبياً فهو مسبوق بعلوم أخرى، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية، ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية، وكل ذلك محال.

وهذا سؤال قوي مشكل وجوابه أن نقول: الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا، ثم إنها حدثت وحصلت، أما قوله: فيلزم أن تكون كسبية، نقول: إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر.[45]

ويرى مرتضى المطهري أن الفلاسفة الإسلاميين عامة يتبنون نظرية أرسطو، ويعترفون بأن نفس الإنسان في حالة الطفولة في وضع القوة والاستعداد المحض، وهي صفحة بيضاء لم يكتب فيها شيء، ثم تبدأ المعرفة بالإدراك الحسي للجزئيات ثم الإدراكات الكلية العقلية، ويرون أن جميع التصورات البديهية العقلية يجردها العقل وينتزعها من المعاني الحسية،[46] كما سبق في حديثنا على نظرية الانتزاع في التصور.

ولابن حزم الظاهري في هذه المسألة وجهة أخرى، يرى فيها أن هذه البديهيات حاضرة في نفس الطفل، وأنه يستخدمها في تمييزه دون أي معرفة سابقة، فهو يستخدم علمه بأن الجزء أقل من الكل، وأن المتضادين لا يجتمعان، وأن الجسم لا يوجد في مكانين في آنٍ واحد دون أن يشعر بأنه يعلم هذه القضايا أو يلاحظ أنه يدركها بطريق العقل.

يقول ابن حزم في التدليل على ارتكاز هذه القضايا في نفس الطفل:

فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى، وإذا زدته ثالثة سرّ، وهذا علم منه بأنه الكل أكثر من الجزء، وإن كان لا يتنبه لتحديد ما يعرف من ذلك، ومن ذلك علمه بأن لا يجتمع المتضادان فإنك إذا وقفته قسراً بكى ونزع إلى القعود، علماً منه بأنه لا يكون قائماً قاعداً معاً. ومن ذلك علمه بأن لا يكون جسم واحد في مكانين فإنه إذا أراد الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسراً بكى.. علماً منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد أن يذهب إليه ما دام في مكان واحد. ومن ذلك علمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد، فإنك تراه ينازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه علماً منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما فيه فيدفع من في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد فيه.[47]

ويستطرد ابن حزم في ذكر تلك البديهيات التي يعلمها أو يدركها الصبي الصغير، والتي تدل على أن البديهيات فطرة وموجودة في النفس البشرية منذ أول لحظة في وعيها.

المبحث الثاني: قيمة المعرفة

تتمثل قيمة المعرفة إجمالاً في مدى درجة اليقين الذي تصل إليه إدراكاتنا تصوراً كانت هذه الإدراكات أم تصديقاً، أو بمعنى آخر في مدى إمكان كشف المعرفة عن الحقيقة، كما تتمثل من ناحية أخرى في الإيمان بإمكانية المعرفة. وهذا اليقين الذي يعتبر معياراً لقيمة المعرفة أو الإيمان بها ينقسم ۔فيما يرى الصدر۔ إلى أنواع ثلاثة:

١. اليقين المنطقي أو الرياضي: وهو الذي يقصده منطق البرهان عند أرسطو، ومعناه العلم بقضية معينة، والعلم بأن من المستحيل أن لا تكون القضية بالشكل الذي علمت عليه، فاليقين المنطقي مركب من علمين، وما لم ينضمّ العلم الثاني إلى العلم الأول لا يعتبر يقيناً في منطق البرهان، واليقين الرياضي يندرج في اليقين المنطقي؛ لأنه يعني تضمّن إحدى القضيتين للأخرى.[48]

٢. اليقين الذاتي: وهو جزم الإنسان بقضية من القضايا بشكل لا يراوده أي شك أو احتمال للخلاف فيها، وليس من الضروري في اليقين الذاتي أن يستبطن أي فكرة عن استحالة الوضع المخالف لما علم. فالإنسان قد يرى رؤيا مزعجة في نوعه فيجزم بأن وفاته قريبة، ولكنه في نفس الوقت لا يرى أي استحالة في أن يبقى حياً؛ لأن كونه غير محتمل لا يعني أنه مستحيل.

٣. اليقين الموضوعي: وهو يستلزم الصحة في مطابقة القضية التي تعلق بها اليقين مع الواقع إضافة إلى الصحة في درجة التصديق، من حيث مطابقته لمبررات موضوعية تفرض درجة التصديق تلك (ومن هنا نصل إلى فكرة التمييز بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي، فاليقين الذاتي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة سواء كان هناك مبررات موضوعية لهذه الدرجة أم لا. واليقين الموضوعي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية، أو بتعبير آخر: أن اليقين الموضوعي هو أن تصل الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية إلى الجزم).[49]

والأمر الثاني الذي يُعنى به علم المعرفة هو إمكان المعرفة والعلم بوقوعها، وهو أمر لا يقبل الإنكار ولا الشك، ولا يتردد في الاعتراف به أي إنسان سويّ عاقل لم تؤثر الشبهات على ذهنه وتفكيره، وبالرغم من ذلك فقد ظهرت في تاريخ الفلسفة مذاهب تنكر العلم مطلقاً ولا تعترف بإمكان المعرفة، مثل السوفسطائيين والشكاك واللاأدريين. وقد صنّفهم بعض علمائنا على أنهم مرضى نفسيون، وأن الله ابتلاهم بالوسواس الذهني الشديد، وبخاصة أن قسماً منهم أنكروا الوجود ذاته ناهيك عن المعرفة.

كما أظهر تاريخ الفلسفة ۔أيضاً۔ طائفة تدّعي نسبية المعرفة، بمعنى أنه لا توجد في نظرهم قضية صحيحة بشكل مطلق، واليقين عند هؤلاء لا يتعدى اليقين الذاتي.

وربما كان هذان التياران هما أبرز التيارات التي ظهرت لتشكك في إمكانية وقوع المعرفة أو تؤمن بوقوعها، لكنها لا تؤمن بقدرة المعرفة على كشف الحقيقة، وذلك إضافة إلى المذهب الذي ينكر الحقيقة إنكاراً تاماً، كما ذكرنا من قبل.

وقد انصبّ جُلّ اهتمام باقر الصدر في هذه المسألة على الفلسفة الماركسية التي يرفض أصحابها مذهب السفسطة وفلسفة الإنكار والشك، ويرون أن الفلسفة قادرة على الوصول إلى اليقين الفلسفي عن طريق إيمانها بإمكان المعرفة الجازمة الحقيقية؛ لذلك يحاول الصدر الوصول مع الماركسية إلى حقيقة موقفها ۔كممثلة للتيار المادي۔ ثم يطرح بعد ذلك وجهة نظر الفلسفة الإسلامية، لكنه يرى أنه لابد قبل ذلك من استعراض لبقية المذاهب الفلسفية؛ لأنه ۔على حد قوله۔ (لأجل أن نعرف المشكلة ونتبين مدى إمكان حلها على أساس الفلسفة الماركسية ووجهة نظر الفلسفة الإسلامية فيها يجب أن نشير بصورة سريعة إلى أهم المذاهب الفلسفية التي عالجت هذه المشكلة).[50]

من هنا بدأ باقر الصدر باستعراض تلك الفلسفات منذ العصر اليوناني حين ظهرت السفسطة في القرن الخامس قبل الميلاد وظلّت ردحاً من الزمن إلى أن ظهر سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين حاربوها. ووضع أرسطو منطقه المعروف لكشف مغالطات السفسطة (وخلاصة مذهبه في نظرية المعرفة أن المعلومات الحسية والمعلومات العقلية الأولية أو الثانوية التي تكتسب بمراعاة الأصول المنطقية هي حقائق ذات قيمة قاطعة).[51]

وظل مذهب اليقين مسيطراً على الموقف الفلسفي إلى القرن السادس عشر الميلادي، حيث نشطت العلوم الطبيعية واكتشفت حقائق لم تعرف من قبل، وخاصة في الهيئة ونظام الكون، فبعثت تلك التطورات مذاهب الشك والإنكار من جديد.

ثم ظهر في هذا الجو منهج العقليين على يدي ديكارت، الذي بدأ فلسفته بالشك الجارف المطلق، ولم يستثن من شكه إلا فكره الذي يرى أنه حقيقة واقعة، هذا الفكر الذي يعدّ نقطة الانطلاق إلى اليقين الفلسفي (أنا أفكّر فأنا إذن موجود).

ومن هذا الجانب الذاتي الذي أثبته ديكارت في تأملاته الفلسفية، راح يثبت جانباً آخر هو جانب الواقع الموضوعي، ثم رتّب الأفكار الإنسانية وصنّفها في ثلاثة أنواع:

١. أفكار فطرية مغروزة في طبيعة الإنسان، وهي هذا النوع الشديد الوضوح والجلاء من الأفكار، ومن هذا النوع فكرة (الله) والحركة والامتداد في الطبيعة.

٢. أفكار لا تتمتع بالوضوح السابق، وهي الأفكار الغامضة التي تنتج في الذهن كثمرة لتعامل الحواس مع الواقع الخارجي، وهذه الأفكار ليست لها أصالة النوع الأول، بمعنى أنها ليست فكراً إنسانياً خالصاً كما هو الحال بالنسبة للطائفة الأولى.

٣. أفكار مختلفة كتلك التي يصطنعها الإنسان ويخترع صورتها اختراعاً، وإن كان في اختراعه إياها يستمد عناصر الصورة من وقائع حسية موجودة بالفعل، وذلك مثل أن يتصور (إنساناً) له رأسان.

ويصنّف ديكارت فكرة (الله) في مقدمة الأفكار الفطرية التي تحدّث عنها في النوع الأول، ويعدّها (حقيقة موضوعية) تقع خارج فكر الإنسان وتتجاوز كل أفكاره؛ لأن فكرة الله تعادل تماماً فكرة الموجود الكامل المطلق الذي لا نهاية لكمالاته. فبالضرورة لا يكون الإنسان ۔الناقص۔ هو مصدر هذه الفكرة، ويتعين بالضرورة أيضاً أن تكون هذه الفكرة في ذهن الإنسان انعكاساً لموجود ۔بالفعل۔ كامل كمالاً مطلقاً وهو الله تعالى.

ويلاحظ الإمام الصدر أن القاعدة التي بنى عليها ديكارت فلسفته في إثبات وجوده وفي إثبات الوجود الإلهي، عرض لها الفيلسوف المسلم ابن سينا من قبل بعدة قرون، وزيّفها أو نقضها، ورأى أنها لا تعتبر أسلوباً من الاستدلال العلمي على وجود الإنسان المفكر ذاته.[52]

ويتابع الصدر تطور المذاهب الفلسفية في مشكلة (اليقين) فيعرض ۔بعد ذلك۔ للنظرية الحسية والتجريبية، ويتحدث عن جون لوك الذي يعد الممثل الرئيسي أو الناطق الرسمي باسم النظرية الحسية، فهذا الفيلسوف كان يرى أن الإدراك كله بل حتى المعارف البديهية ترجع إلى الحس والتجربة، وبالرغم من ذلك فهو يرى أن هذا الحس ليس له قيمة فلسفية قاطعة في نظرية المعرفة.

ثم يعرض الصدر للمذهب المثالي كما ظهر على يد أفلاطون فيما يسمّى بنظرية المثل عنده، وهو غير المثالية الحديثة التي اتخذت مفهوماً آخر يختلف كل الاختلاف عن المثالية القديمة، فبينما كانت المثالية الأفلاطونية تؤكد على وجود الحقيقة الموضوعية للإدراكات العقلية والحسية معاً، سارت المثالية الحديثة في طريق معاكس، فعملت على زعزعة أساس الواقع الموضوعي، وأعلنت مذهباً جديداً في نظرية المعرفة الإنسانية ألغت به قيمتها الفلسفية، وهذه المثالية الحديثة هي ما توقف عندها باقر الصدر، ورصد أهم اتجاهاتها في المدارس الآتية:

المثالية الفلسفية: ويمثلها باركلي الذي يقر بوجود شيء ما لم يكن ذلك الشيء مُدرَكاً أو مُدرِكاً يقول: (أن يوجد هو: أن يُدرِك أو أن يُدرَك). والشيء المدرك هو النفس، والأشياء المدركة هي التصورات والمعاني القائمة في مجال الحس والإدراك، أما الأشياء الموضوعية المستقلة عن حيّز الإدراك فليست موجودة.

ويفنّد باقر الصدر تلك المثالية بمهارة فلسفية بالغة الدقة، يضيق عن تفصيلها هذا البحث المحدود، فقد أثبت ۔بعد استعراض أدلة باركلي۔ أن باركلي نفسه مضطر إلى الاعتراف بوجود معارف مضمونة الصدق في التفكير البشري، ولولا ذلك لما استطاع أن يستدل على مزاعمه.

المثالية الفيزيائية: وهي التي تحاول الاستغناء عن إضافة أي حقيقة جوهرية للمادة؛ إذ العالم مردّه إلى حركة خالصة كما قال كارل بيرسون: (المادة هي اللامادي الذي هو في حركة) وهذا الاتجاه المثالي الفيزيائي كما يقول باقر الصدر:

استهوى كثيراً من الفيزيائيين فقالوا: ما دام العلم يقدم في كل يوم براهين جديدة ضد القيمة الموضوعية للمعرفة البشرية، وضد الصفة المادية للعالم، فليست الذرات أو البنيات الأساسية للمادة ۔بعد أن تبخرت على ضوء العلم۔ إلا طرقاً مناسبة للتعبير عن الفكر، واستعارات وإشارات لا تتضمن من الحقيقة الواقعية شيئاً.[53]

ويحكم الصدر على هذه الفكرة بأنها خاطئة وأن خطأها كان نتيجة لخطأ في التفكير الفلسفي، وليس ناتجاً عن برهان فيزيائي في المجال العلمي يقول:

وهكذا انبثقت النزعة المثالية أو اللاأدرية لا باعتبار برهنة العلم على صحتها وصوابها، بل باعتبار تزعزع عقيدة العلماء بالعلم وزوال إيمانهم بمسلّماته القاطعة.[54]

المثالية الفسيولوجية: وهي اتجاه ينطلق من أن الشكل الذاتي للإحساس البشري ناتج ومتوقف على تركيب الحواس والجهاز العضوي بصورة عامة للإنسان، بمعنى أن الأشياء في العالم الخارجي ليست هي التي تعطينا الإحساس بالشيء، إنما الذي يحددها هو جهازنا العصبي، والأشياء الخارجية دورها يكون في أنها سبب أولي في إثارة العمليات الحسية في أعضائنا، والجهاز العصبي هو الذي يبلور عملية الإحساس في الكيفية التي يعبر بها عن نفسه.

ويُخطّئ باقر الصدر هذا الاتجاه؛ لأنه يفتح مجالاً للتشكيك في مدى مطابقة الإحساس للواقع الموضوعي.

أنصار الشك الحديث: وهذا المذهب يعود في الأصل إلى مذهب الشك القديم الذي كان يعلن عن (لاأدرية) مطلقة، أي أن الإنسان لا يستطيع أن يعطي حكماً على الأشياء.

وكما قدمت اللاأدرية القديمة نفسها كحل وسط للصراع بين المذاهب السوفسطائية والفلسفة التحقيقية، زعمت مدرسة الشك الحديث أنها تقوم بنفس الدور كحل للصراع بين المثالية الحديثة التي زعمت بأن الواقع ليس أمراً مستقلاً عن شعور الإنسان وإدراكه، وبين الواقعية التي تؤكد على أن الواقع حقيقة موضوعية خارجية ومستقلة في ذاتها عن الإنسان بكل مشاعره وإدراكاته.

وقد عبّر الصدر عن موقع مدرسة الشك الحديث بين المدرستين المثالية والواقعية بقوله: (المثالية تزعم أن الواقع قائم في الشعور والإدراك، والواقعية تؤكد على أنه موجود بصورة موضوعية مستقلة، والشكية ترفض أن تجيب على المسألة؛ لأن الرد عليها مستحيل فلترجأ المسألة إلى الأبد)[55] وحقيقة الأمر أن هذا الشك لا يتخذ صفة الشك العلمي، بل ۔هو كما يرى الصدر۔ خطأ فلسفي أو أزمة نفسية.

ولكن وجدت طائفة تؤمن بقيمة المعرفة وموضوعيتها، ولكن نتيجة نظرياتهم العلمية أدّت بهم إلى الشك في المعرفة الذي أطلق عليه اسم الشك العلمي.

وقد ركّز باقر الصدر على أهم تلك الاتجاهات في هذا المذهب وهي:

أ ۔ السلوكية: التي اتخذت من سلوك الكائن الحي وحركاته الجسمية ۔التي يمكن إخضاعها للحس العلمي والتجربة۔ موضوعاً لعلم النفس دون الاعتراف بما وراء ذلك من عقل وشعور، وهذا الاتجاه بالتالي يؤدي حتماً إلى موقف سلبي تجاه قيمة المعرفة وإلى عدم الاعتراف بقيمتها الموضوعية.

ب ۔ مذهب التحليل النفسي عند فرويد، ويعتمد السلوك في نظريته على العناصر الشعورية، وهي مجموعة الأفكار والعواطف والرغبات التي نحس بها في نفوسنا، وعلى اللاشعور في العقل وهي شهواتنا وغرائزنا المختزنة.

ج ۔ المادية التاريخية المعبرة عن نظرة الماركسية إلى التاريخ والمجتمع والاقتصاد، وربطها للمعرفة الإنسانية عموماً بالوضع الاقتصادي، ورؤيتها لفكر الإنسان على أنه انعكاس عقلي للأوضاع الاقتصادية وما ينشأ عنها من علاقات.[56]

ويلخّص الصدر فلسفة الماركسيين في المعرفة في عناصر ثلاثة:

١. أن الحقيقة عندهم في نمو وتطور يعكس نمو الواقع وتطوره.

٢. أن الحقيقة والخطأ يمكن أن يجتمعا فتكون الفكرة الواحدة خطأ وحقيقة.

٣. أن أي حكم مهما بدت الحقيقة فيه واضحة فهو يحتوي على تناقض خاص وبالتالي على جانب من الخطأ، وهذا التناقض هو الذي يجعل المعرفة والحقيقة تنمو وتتكامل.[57]

نستخلص من هذه العناصر الثلاثة أن الماركسية تعني بالحقيقة مفهوماً آخر غير المفهوم الوحيد للحقيقة في الفلسفة الواقعية الذي يعني (مطابقة الفكرة للواقع) فالماركسية تتحدث عن تلك الحقيقة كلفظ يخلو من معناه الحقيقي؛ لذلك فهي لا يمكن أن تبرأ من نزعات الشك والسفسطة كما يقول الصدر، لمجرد اتخاذ لفظ الحقيقة وبلورته في مفهوم جديد.

ويردّ الصدر على الماركسية بإثبات الحقيقة بصورتها المقبولة بما يعني موضوعيتها وثباتها، وأنها لا يمكن أن تتطور وتنمو أو تكون محدودة في كل مرحلة من مراحل تطورها بحدود تلك المرحلة الخاصة.

والفكرة لابد أن تكون إما حقيقة مطلقة مطابقة للواقع، وإما غير مطابقة فتكون خطأ، يقول:

وأنا أعلم أن هذه الكلمات تثير اشمئزاز الماركسية، وتجعلهم يقذفون الفكر الميتافيزيقي بما تعوّدوا إلصاقه به من تُهم فيقولون: إن الفكر الميتافيزيقي يجمّد الطبيعة ويعتبرها حالة ثبات وسكون؛ لأنه يعتقد بالحقائق المطلقة ويأبى عن قبول التطور والحركة فيها، وقد انهار مبدأ الحقائق المطلقة تماماً باستكشاف تطور الطبيعة وحركتها.[58]

ثم يفنّد باقر الصدر فلسفة الماركسيين هذه، وانعكاساتها الخاطئة على الحقائق الميتافيزيقية، مبيناً أن في الميتافيزيقا (الإيمان بالحقائق المطلقة ورفض التغير والحركة فيها لا يعني مطلقاً تجميد الطبيعة. ولا ينفي تطور الواقع الموضوعي وتغيره. ونحن في مفاهيمنا الفلسفية نعتقد بأن التطور قانون عام في عالم الطبيعة، وأن كينونته الخارجية في صيرورة مستمرة، ونرفض في نفس الوقت كل توقيت للحقيقة وكل تغير فيها)[59].

ويضرب الصدر لذلك مثالاً، بأن يفترض أن الحرارة اشتدت في ماء خاص، وأنها في ارتفاعها تكون في حركة مستمرة وتطور تدريجي، وهذا يعني أن كل درجة من الحرارة يبلغها الماء فهي درجة مؤقتة، وليس للماء في هذه الحالة درجة حرارة مطلقة، بمعنى أننا إذا قسنا الحرارة في لحظة معينة ووجدناها 90 درجة فقد حصلنا على حقيقة عن طريق التجربة، وهي أن درجة الماء في هذه اللحظة هي 90، ونقول عنها حقيقة؛ لأنها فكرة مطابقة للواقع وإن كانت درجة مؤقتة وخاصة بلحظة معينة من الزمان، وهذا يعني أننا نؤمن بالتطور والتغير وفي الوقت ذاته نؤمن بأن الحقيقة ثابتة ومطلقة ولا تتغير بتغير وتطور الطبيعة، فحين حكمنا على درجة حرارة الماء بأنها 90 في لحظتها وزمنها التي كانت فيه حين اختبرناها ووجدناها قد طابقت الواقع فهي على ذلك حقيقة مطلقة في لحظتها وزمنها وظرفها المعين، ولا نستطيع أن نحكم عليها بخلاف ذلك في تلك اللحظة وذلك الزمن.

لذلك فهدف الماركسية في إخضاعها الحقيقة لقانون الحركة والتطور لم يكن إلا محاولة منها للقضاء على الحقائق المطلقة التي تؤمن بها الفلسفة الميتافيزيقية، يقول الصدر:

وقد فاتها أنها تقضي على مذهبها بالحماس لهذا القانون؛ لأن الحركة إذا كانت قانوناً عاماً للحقائق فسوف يتعذر إثبات أية حقيقة مطلقة، وبالتالي يسقط قانون الحركة بالذات عن كونه حقيقة مطلقة.[60]

النسبيون: وهم الذين يعترفون بوجود حقيقة ويؤمنون بإمكان المعرفة البشرية لها، ولكن هذه المعرفة أو الحقيقة التي يمكن للفكر الإنساني أن يحصل عليها هي معرفة أو حقيقة نسبية (بمعنى أنها ليست حقيقة خالصة من الشوائب الذاتية ومطلقة، بل هي مزيج من الناحية الموضوعية للشيء، والناحية الذاتية للفكر المدرك، فلا يمكن أن تفصل الحقيقة الموضوعية في التفكير عن الناحية الذاتية).[61]

ويرى الصدر أن أنصار هذا المذهب ينقسمون إلى اتجاهين رئيسيين، ويختلفان في معنى النسبية وحدودها في العلوم البشرية، هذان الاتجاهان هما: نسبية كانت والنسبية الذاتية.

نظرية المعرفة في الفلسفة الإسلامية

بعد دراسته المستفيضة لمجمل المذاهب الفلسفية في المعرفة ونقدها، يستخلص باقر الصدر ما يسمّيه بالخطوط العريضة لنظرية المعرفة في الفلسفة الإسلامية، وذلك على الترتيب التالي:

الخط الأول: تقسيمها للإدراك إلى تصور وتصديق، والتصور بمختلف ألوانه ليس له قيمة موضوعية؛ لأنه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا فقط. أما التصديق أو المعرفة التصديقية فهي المعرفة التي لها خاصة الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي.

والفلسفة الإسلامية في هذه النقطة لا تخرج عن المنطق الأرسطي.

الخط الثاني: ترجع المعارف التصديقية جميعاً إلى معارف أساسية ضرورية يسلّم العقل بها ويعتقد صحتها دون برهنة أو دليل، وقيمة المعرفة تكون بمقدار اعتمادها على تلك الأسس ومدى استنباطها منها، ولذلك فمن الممكن الحصول على معارف صحيحة في الميتافيزيقا والرياضيات والطبيعيات إذا التزمت بتلك المبادئ العقلية الضرورية، وتأتي نتائج الميتافيزيقا والرياضيات قطعية في الغالب دون النتائج العلمية في الطبيعيات؛ وذلك لأن الميتافيزيقا والرياضيات في التطبيق لا تحتاج إلى تجربة خارجية بعكس الطبيعيات المتوقفة على التجربة.

الخط الثالث: يبحث في مدى تطابق الصورة الذهنية ۔فيما إذا كانت دقيقة۔ مع الواقع الموضوعي الذي صدّقنا بوجوده، وفيها يرى باقر الصدر أن الصورة الذهنية التي نكوّنها عن شيء معين بالرغم من وجودها في أذهاننا إلا أنها تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافاً أساسياً؛ لأنها لا تملك خصائص الواقع التي يتمتع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء.

وهذا الشيء المتمثل في الذهن فاقد لكل الفاعلية والنشاط الذي يتمتع بها الشيء في مجاله الخارجي. وبتعبير آخر يؤكد باقر الصدر على أن الشيء الموجود في الصورة الذهنية هو الشيء الموجود في الخارج، ولكنه يختلف في لون وجوده في الصورة الذهنية عن لون وجوده الخارجي. وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو ما يسمّى في الفلسفة بالفارق بين الماهية والوجود.[62]

المبحث الثالث: الدليل الاستقرائي ومكانته من نظرية المعرفة

الاستقراء هو كل استدلال يسير من الخاص إلى العام، ولما كانت هذه الطريقة هي الأسلوب المستخدم في التجارب العلمية، فقد أطلق على (الاستنتاج العلمي القائم على أساس الملاحظة والاستنتاج العلمي القائم على أساس التجربة بالمفهوم الحديث للملاحظة والتجربة)[63].

والفرق بين الملاحظة والتجربة أن الملاحظة تتمثل في اقتصار المستقرئ على مشاهدة الظواهر على ما هي عليه في الطبيعة. أما التجربة فتعني التدخل الفعلي العملي في تعديل سير الطبيعة لتبديل ظواهرها ومشاهدة ما ينشأ عن هذا التبديل.[64]

وقد أراد باقر الصدر من تعريفه للاستقراء أن يدخل فيه الملاحظة والتجربة، وهذا أمر يخالف فيه المنطق الأرسطي الذي لم يميز ۔بصورة أساسية۔ بين الملاحظة والتجربة في موضوع الاستقراء، ومن هنا جاء تقسيمه للاستقراء إلى استقراء كامل واستقراء ناقص، فالكامل هو تتبع جميع الجزئيات، والناقص تتبع بعض الجزئيات، وفي الحالين ينتقل المستقرئ من الجزئيات إلى الحكم الكلي العام الذي يشملها جميعاً.

وفلاسفة الإسلام ينهجون نهج أرسطو في هذه المسألة، فابن سينا ۔مثلاً۔ يقول عن الاستقراء:

الحكم على كلي بما وجد في جزئياته الكثيرة، مثل حكمنا بأن كل حيوان يحرّك فكه الأسفل عند المضغ؛ استقراء للناس والدواب والطير.[65]

فالاستقراء التام ۔إذن۔ هو مسح شامل ودقيق لجميع الجزئيات ثم تعميم الحكم الثابت على كل جزئي؛ ولذلك تكون نتيجته يقينية، ولكنه لا يفيد علماً جديداً ۔كما يرى بعض الباحثين۔ لأن النتيجة فيه مساوية لمقدماتها؛ ولذلك يعدّ الاستقراء التام استنتاجاً لا استقراءً. وفائدته تنحصر في مجرد الاختصار (فهي إذن عملية إحصائية لا تفيد في تقدم العلوم الطبيعية؛ ولهذا لم يعره المناطقة اهتماماً كبيراً)[66].

وباقر الصدر يرى خلاف ذلك، بمعنى أن الاستقراء الكامل ليس من قبيل الاستدلال الكامل في منطق أرسطو، فهو لا يعدّ استقراء واحداً، بل يعدّ استقراءين: أحدهما يحصر الأفراد كقطع الحديد مثلاً كلها، والآخر يفحص أفراد تلك المجموعة قطعة قطعة.

والنتيجة التي يخرج بها هي قضية جديدة وهي كل الحديد يتمدد بالحرارة، يقول الصدر:

والاستدلال الاستقرائي على هذا الأساس صحيح من الناحية المنطقية؛ لأنه استدلال على قضية جديدة مستنتجة من القضايا التي عرفت خلال استقراءين مزدوجين.[67]

وبالرغم من ذلك يوجه باقر الصدر نقده لموقف أرسطو من الاستقراء الكامل، ولا يتسع المجال هنا لأن نستقصي نقده ذلك، إلا أن الأساس الذي بنى عليه نقده هو أن الاستقراء الكامل لا يمكنه أن يستخدم للاستدلال على القضايا الكلية في العلوم استخداماً منطقياً على أساس مبدأ عدم التناقض.

ويلخص ذلك في حكمه على أن الدليل الاستقرائي في المنطق الأرسطي يستبطن قياساً (فهو في الحقيقة دليل قياسي يسير من العام إلى الخاص، وليس دليلاً استقرائياً يسير من الخاص إلى العام)[68] يؤكد هذا رأي ابن سينا واتفاقه مع وجهة أرسطو، يقول د. إبراهيم مدكور في حديثه عن ابن سينا:

ويكاد يلتقي مع أرسطو.. فهو يقول بالاستقراء التام الذي ورد في كتاب التحليلات الأولى على صورة قياس من الشكل الأول.. وقد زعم بعض الشرّاح أن النوع الأول لا يعدّ استقراء.[69]

ويرى الصدر أن المنطق الأرسطي يسمّي هذا الدليل الاستقرائي بما يستبطن من قياس (تجربة) وهي أحد مصادر المعرفة اليقينية عند أرسطو، وذلك (خلافاً للاستقراء الناقص الذي يمثل أحد عنصري التجربة ويعطي صغرى القياس المستبطن فيها، فالتمييز بين التجربة والاستقراء الناقص في المنطق الأرسطي يقوم على أساس أن الاستقراء الناقص مجرد تعبير عددي عن الأمثلة التي لوحظت خلال الاستقراء، وأما التجربة فهي تتألف من ذلك الاستقراء ومن مبدأ عقلي مسبق، يتكون منهما معاً قياس منطقي كامل).[70]

إذن فأرسطو يثق تماماً بالاستقراء الكامل، بل ويتخذ (منه الأساس لكل الأقيسة والبراهين؛ لأن كل هذه البراهين تستمد من المقدمات الأولية، وهذه المقدمات تثبت بالاستقراء لا بالقياس).[71]

ويفهم من هذا أن الصدر في تعريفه للاستقراء أخرج منه التقسيم الأول في مفهوم أرسطو، وهو الاستقراء التام ولم يسمّه استقراءً بل سماه استنباطاً، واعتبر هذا تجاوزاً من أرسطو لمفهوم الاستقراء الذي حدده الصدر بالتعريف السابق، ويقول استيفاءً لكلامه: (وهذا يعني أن الاستقراء الذي ندرسه في بحوث هذا الكتاب هو أحد قسمي الاستقراء الأرسطي)[72] ويقصد به الاستقراء الناقص، وهو الذي يستحق معالجة الصدر له، كما يرى.

لذلك يرى كثير من الباحثين وشرّاح المنطق أن المنطق الأرسطي ينكر التعميمات الاستقرائية، ولا يعترف بالقضايا المستدلة بالاستقراء الناقص، وكان هذا ناتجاً عن فهمهم الخاطئ ۔على حد قول الصدر۔ في تفسيرهم وتمييزهم بين الاستقراء الناقص والتجربة في مفهوم المنطق الأرسطي، بأن الاستقراء الناقص هو ملاحظة الأشياء الجاهزة الموجودة في الطبيعة، وهي من هذا القبيل ملاحظة منظمة في لغة المنهج العلمي الحديث، وهي لا تصلح أساساً للعلم، أما التجربة فهي عمل إيجابي يقوم به الإنسان وفيه تأثير وتأثر؛ ولذلك فهي قادرة على إثبات التعميم.

هذا الاستقراء الذي يؤكد المنطق الأرسطي ومن تابعه من الفلاسفة على أن تعميم الظاهرة والمستنتجة فيه من استقراء حالات تختلف في بعض الخصائص الملحوظة والمقومات، يؤكدون على أنه تعميم خاطئ؛ لأن الحالات التي لم يشملها الاستقراء تختلف عن التي شملها في بعض تلك الخصائص، ولذلك (فليس من حقنا أن نستنتج استقرائياً أنها جميعاً تشترك في إيجاد ظاهرة واحدة؛ لأن من الممكن أن يكون اختلافها في الخصائص والمقومات سبباً لاختلاف نوع علاقتها بتلك الظاهرة)[73].

ويستشهد الصدر بنصين في هذا الموضوع لابن سينا والإمام الغزالي تابعا فيهما المنطق الأرسطي، يقول ابن سينا: (وأما الاستقراء فهو الحكم على كلي بما وجد في جزئياته الكثيرة. مثل حكمنا بأن كل حيوان يحرّك عند المضغ فكه الأسفل، استقراءً للناس والدواب والطير، والاستقراء غير موجب للعلم الصحيح، فإنه ربما كان ما لم يستقرأ بخلاف ما استقرئ مثل التمساح في مثالنا، بل ربما كان المختلف فيه والمطلوب، بخلاف حكم جميع ما سواه)[74].

والإمام الغزالي يقول:

ولا يكفي في تمام الاستقراء أن تتصفح ما وجدته شاهداً على الحكم إذا أمكن أن ينتقل عنه شيء، كما لو حكم إنسان بأن كل حيوان يحرّك عند المضغ فكه الأسفل؛ لأنه استقرأ أصناف الحيوانات الكثيرة ولكنه لم يشاهد جميع الحيوانات، لم يأمن أن يكون في البحر حيوان هو التمساح يحرك عند المضغ فكه الأعلى ۔على ما قيل۔ فإذن حصل من هذا أن الاستقراء التام يفيد العلم، والناقص يفيد الظن.[75]

وينكر الصدر هذا الفهم الأرسطي ۔في عدم إفادة الاستقراء الناقص التعميم۔ ويرى أن أرسطو ومن تابعه يلزمهم الإيمان بإمكان التوصل عن طريق الاستقراء الناقص إلى التعميم، بشرط أن يشترك فيه مبدأ عقلي قبلي (لأن المنطق الأرسطي لم يرد بالتجربة التي اعتبرها أساساً للعلم بالتعميم كما تقدم، إلا نفس الاستقراء الناقص، ولكن في حالة تكوين قياس منطقي يستمد صغراه من الاستقراء الناقص، وكبراه من مبدأ عقلي قبلي ينفي تكرر الصدفة، فالتجربة لا تختلف عن الاستقراء الناقص في نوعية النشاط الذي يمارسه الإنسان، وكونه نشاطاً إيجابياً فاعلاً أو مجرد ملاحظة، بل تختلف عنه في اشتمالها على مبدأ عقلي قبلي ينضمّ إلى الأمثلة الكثيرة المستقرأة فيتكون من المجموع قياس كامل).[76]

هذا الاتجاه الأرسطي في تفسيره للدليل الاستقرائي في نظرية المعرفة يؤمن بأن العقل مصدر لمعرفة قبلية مستقلة عن التجربة والاستقراء؛ ولذلك فبإمكان ذلك المنطق أن يبرر التعميمات الاستقرائية، ويرجعها إلى قضايا عقلية قبلية من قبيل المبدأ القائل: (إن الاتفاق لا يكون دائمياً ولا أكثرياً).

ويتفق باقر الصدر مع أرسطو في إيمانه بالمعرفة العقلية القبلية، ويتفق معه ۔أيضاً۔ في نقطة أخرى، وهي أن الاتفاق في الطبيعة لا يكون دائمياً وأكثرياً، ولكنه يختلف معه بل وينكر عليه أن يكون هذا القول أو المبدأ مبدأ عقلياً أولياً، وذلك (فعلمنا به ليس علماً عقلياً قبلياً بل هو نتاج من نتاجات الدليل الاستقرائي نفسه، فلا يمكن أن يشكّل الأساس المنطقي للاستقراء ويقدم له المبرر العقلي الكافي).[77]

تفسيراً لهذا النص يلقي الشهيد الصدر الضوء على مشكلات ثلاث تواجه دليل الاستقراء الناقص في محاولته للانتقال بحكمه من الخاص إلى العام، أو ما يسميها الصدر ۔على حد تعبيره۔ الطفرة من الخاص إلى العام.

ويهدف الصدر من ذلك إلى بيان موقف المنطق الأرسطي من تلك المشكلات، ومحاولته تقديم العلاج عن طريق مصادرات ثلاث يفترضها المنطق الأرسطي، بها يتمكن الدليل الاستقرائي من التعميم.

المشكلة الأولى: يجب أن يثبت الدليل الاستقرائي سببية عامة لكل ظاهرة طبيعية، وبدون إثبات ذلك يصبح ۔مثلاً۔ من المحتمل أن يكون تمدد الحديد غير مرتبط بأي سبب.

المشكلة الثانية: إذا ثبتت السببية العامة، لابد وأن يثبت سبباً بعينه، بمعنى أنه كلما تمدد الحديد ۔مثلاً۔ لابد وأن يكون سببه وجود الحرارة دون غيرها.

والدليل الاستقرائي هنا يحتاج إلى برهان يثبت به أن سبب تمدد الحديد هو الحرارة؛ لأن مجرد الاقتران بين التمدد والحرارة في التجربة لا يصلح برهاناً من الناحية المنطقية على السببية بينهما.. وبذلك تكون المشكلة في احتمال وجود الصدفة قائمة.

المشكلة الثالثة: إذا ثبتت السببية العامة والسببية الخاصة، فعلى الدليل الاستقرائي أن يثبت أن هذه السببية سوف تستمر في المستقبل في كل الحالات المماثلة التي لم تشملها التجربة ليكون التعميم شاملاً.[78]

والمنطق الأرسطي يعالج المشكلتين الأولى والثالثة عن طريق الفلسفة العقلية التي يؤمن بها ويؤمن معها بوجود معارف عقلية مستقلة عن الحس والتجربة، تلك المعارف تتمثل في مقولة: (إن لكل حادثة سبباً) وهذا مبدأ عقلي مستقل عن التجربة والخبرة الحسية، ومقولة: (إن الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدي إلى نتائج متماثلة) وهذه قضية عقلية مستقلة عن التجربة ومستنبطة بطريق البرهان من مبدأ السبيبة.

أما المشكلة الثانية: فهي التي يرى فيها المنطق الأرسطي أنها مشكلة حقيقية تقف أمام الدليل الاستقرائي الذي لا يستطيع وحده التغلب عليها؛ لذلك لابد في حلها من افتراض قضية عقلية قبلية تنفي أن يكون اقتران الظاهرتين مجرد صدفة، بذلك يستطيع الدليل الاستقرائي التعميم.

إذن فالمنطق الأرسطي يعالج المشاكل الثلاث بافتراض قضية عقلية قبلية لكل مشكلة، فيفترض مبدأ السببية لعلاج مشكلة احتمال الصدفة المطلقة، ويفترض مبدأ نفي تكرر الصدفة النسبية لعلاج مشكلة الصدفة النسبية، ويفترض مبدأ الحالات المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة لعلاج مشكلة احتمال التغير وعدم الاطراد.

ويلخّص باقر الصدر موقف المنطق الأرسطي ومصادراته الثلاث التي يفترضها لحل المشاكل التي تعترض قدرة الدليل الاستقرائي على التعميم في نقطتين رئيستين:

الأولى: أن المنطق الأرسطي يؤمن بأن الدليل الاستقرائي بحاجة إلى ثلاث مصادرات، لابد من افتراضها مسبقاً لكي يتاح للدليل الاستقرائي أن يتغلب على مشاكله الثلاث، ويؤدي إلى العلم بالتعميم المطلوب. وما لم نسلم بتلك المصادرات تسليماً مسبقاً، لا يمكن الاعتراف بالعلم الاستقرائي والمناهج الاستقرائية في الاستدلال.

الثانية: أن المنطق الأرسطي يؤمن بأن مبدأ السببية، والمبدأ الذي ينفي تكرر الصدفة النسبية، والقضية القائلة: إن الحالات المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة، هي قضايا عقلية قبلية مستقلة عن التجربة والاستقراء، ومن أجل ذلك وجد فيها المنطق الأرسطي تلك المصادرات الثلاث التي يحتاجها الدليل الاستقرائي.[79]

ويرى الصدر أن المنطق الأرسطي لم يكن موفقاً في بحثه عن تلك المصادرات؛ لأن كل مصادرة من تلك المصادرات الثلاث يمكن إثباتها عن طريق الاستقراء ذاته، يقول الصدر عن نظريته في إيمانه بالدليل الاستقرائي أنها (تؤكد أن الاستقراء يؤدي إلى التعميم بدون حاجة إلى أي مصادرات قبلية، وسوف يبدو بوضوح في ضوء تلك النظرية أن المصادرات الثلاث التي آمن بها المنطق الأرسطي، وربط مصير الدليل الاستقرائي بها، يمكن إثباتها جميعاً بالاستقراء نفسه، كما نثبت أي تعميم من التعميمات الأخرى عن طريق الدليل الاستقرائي).[80]

ويستفيض باقر الصدر بعد ذلك في كتابه (الأسس المنطقية) في شرح وتفسير وبيان فكرته تلك محاولاً إثبات فكرة قدرة الدليل الاستقرائي ۔القائم على حساب الاحتمالات۔ على إثبات وجود الصانع الحكيم.

ويعتمد الصدر في محاولته لإثبات فكرته ۔في إيمانه بالدليل الاستقرائي كمنتج للتعميمات۔ على مرحلتين يمر بهما الاستقراء، ويرى أن طريقته في تفسيره للاستقراء بهذه الصورة يختلف ويتميز عن غيره مما هو مشهور ومعروف عن الأدلة الاستقرائية:

الأولى: مرحلة التوالد الموضوعي (نظرية الاحتمال).

الثانية: مرحلة التوالد الذاتي (المذهب الذاتي).

هاتان المرحلتان ناتجتان عن جانبين من جوانب المعرفة، هما الذاتي والموضوعي، فمثلاً حين نعرف أن الشمس طالعة لابد أن نميز بين عنصرين:

أ ۔ الإدراك وهو الجانب الذاتي من المعرفة.

ب ۔ القضية التي أدركناها والتي لها واقع مستقل عن الإدراك، وهذا هو الجانب الموضوعي.

وإذن فتولد المعرفة موضوعياً لابد أن يكون عن طريق التلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى، ومن ثم تنشأ معرفة بتلك القضية من معرفة سابقة بالقضايا التي تستلزمها، وتسمّى هذه العملية بالتوالد الموضوعي؛ لأنها نابعة من التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولدة، والجانب الموضوعي من المعرفة المتولدة. ومثاله معرفتنا الموضوعية (بأن خالداً إنسان، وأن كل إنسان فانٍ) تتولد عنها معرفة (بأن خالداً فانٍ) فالنتيجة هنا جاءت ملازمة للمقدمات التي تكون منها هذا القياس.

أما التوالد الذاتي فلا يكون هناك تلازم بين موضوعي المعرفتين، بأن تكون هناك معرفة ويولد علم على أساس معرفة أخرى. والتلازم هنا يكون بين نفس المعرفتين، فهنا نجد المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى هو التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة، وأن هذا التلازم ليس تابعاً للتلازم بين الجانبين الموضوعيين.

ويرى الصدر أن المذهب العقلي الذي يمثله المنطق الأرسطي يرجع المعارف الصحيحة منطقياً إلى نوعين: معارف عقلية أولية، ومعارف مستنتجة من تلك المعارف العقلية الأولية على أساس طريقة التوالد الموضوعي.

أما المذهب الذاتي ۔الذي يمثله اتجاه باقر الصدر۔ فيذهب إلى النوع الثاني من المعارف والعلوم التي يعترف بصحتها المنطق الأرسطي مستنتجة من النوع الأول بطريقة التوالد الذاتي لا الموضوعي.

وكل التعميمات الاستقرائية يعدّها الصدر معارف ثانوية مستنتجة عن طريق التوالد الذاتي.

وهو لم يرد بإثبات ذلك إنكار دور التوالد الموضوعي في المعرفة، بل أراد أن يضيف إليه طريقة أغفلها المنطق الأرسطي، ولم يؤمن بها، يقول:

وهكذا نستطيع أن نبرهن لأنصار المذهب العقلي ۔الذي يمثله المنطق الأرسطي۔ على أن طريقة التوالد الموضوعي ليست هي الطريقة الوحيدة التي يستعملها العقل في الحصول على معارفه الثانوية، بل يستعمل إلى جانبها أيضاً طريقة التوالد الذاتي.[81]

فالتوالد الموضوعي يحتاج إلى التوالد الذاتي والعكس أيضاً.. وهذا ما يؤكد عليه الصدر من أن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل عن طريق التوالد الذاتي تمر بمرحلتين:

مرحلة التوالد الموضوعي، والمعرفة هنا تكون احتمالية (وينمو الاحتمال باستمرار ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال، غير أن طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين).[82]

هاتان المرحلتان تمر بهما كل التعميمات الاستقرائية بما يعني أن هناك صلة وثيقة بين التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي.

وهنا تخفّ حدّة الصدر في معارضته للمنطق الأرسطي في تلك المسألة، ويخشى أن يفهم من توجيه ذلك فتح المجال لاستنتاج أي قضية من أي قضية أخرى على أساس التوالد الذاتي دون تقيد بالتلازم بين القضيتين، وهذا سيؤدي إلى التوصل إلى استدلالات خاطئة، مثل أن نستنتج (أن زيداً قد مات) من (أن الشمس طالعة) وهكذا، فيرد على ذلك ويبين عن مقصده بقوله:

إن ما نقصده الآن هو أن جزءاً من المعرفة التي يؤمن بها العقليون على الأقل لم يتكون على أساس التوالد الموضوعي.. وإنما يتكون على أساس التوالد الذاتي، وهذا يعني أنا ما دمنا نودّ الاحتفاظ بذلك الجزء من المعرفة وبطابعه الموضوعي السليم، فلابد أن نعترف بطريقة التوالد الذاتي، وبأن العقل ينتهج هذه الطريقة في الحصول على جزء من معرفته الثانوية.[83]

وتدلنا نصوص باقر الصدر على أن ما يعنيه في تلك القضية هي التعميمات الاستقرائية، تلك التي يحاول إثبات صحة استنتاجها عن طريق التوالد الذاتي، بل يذهب إلى أبعد من ذلك فيؤكد على أن القضايا الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي، نجد أن قضية من هذا النوع تستند في استنتاجها إلى فئتين من القضايا، الفئة الأولى: قضايا ترتبط بإنتاج تلك القضية المعينة بالذات، والفئة الثانية: قضايا تقرر ثبوت التلازم بين الفئة الأولى والقضية المستنتجة بالتوالد الموضوعي.

ويرى أن قضايا التلازم عامة بطبيعتها، ولا تختص بإنتاج قضية دون أخرى. ويضرب الصدر لذلك مثالاً: (خالد إنسان) قضية أولى و(كل إنسان فانٍ) قضية ثانية. وهاتان القضيتان تعدّان من الفئة الأولى؛ لأنهما مرتبطان بإنتاج قضية معينة وهي (أن خالداً فانٍ). ولكن لو أضفنا إليهما قضية ثالثة (كلما كان شيء عنصراً من فئة وكانت كل عناصر تلك الفئة تتصف بصفة فإن ذلك يستلزم أن يكون ذلك الشيء متصفاً بتلك الصفة)، لكانت تلك القضية من الفئة الثانية؛ لأنها تقرر تلازماً عاماً بين شكلين من القضايا مهما كان محتواها.

ومن هذه القضايا الثلاث تصح القضية المتولدة منها بصورة موضوعية وهي (أن خالداً فانٍ).[84]

ويسمّي الصدر الاستدلال الناقص الذي يثق به بالدليل العلمي، ويعرّفه بأنه (كل دليل يعتمد على الحس والتجربة، ويتبع منهج الدليل الاستقرائي، القائم على حساب الاحتمالات).[85]

وقد أراد الصدر مخالفة الاتجاه الحسي والتجريبي الخالص بهذا الدليل، وهو يرى أن المذهب التجريبي كان بإمكانه في بحثه عن نظام الكون أن يقدم دعماً جديداً للإيمان بالله تعالى، إلا أنه استخدم من قبل أصحابه (لضرب فكرة الإيمان بالله تعالى، فما دام الله سبحانه ليس كائناً محسوساً بالإمكان رؤيته، والإحساس بوجوده، فلا سبيل ۔إذن۔ إلى إثباته، ولم يكن هذا الاستخدام على يد العلماء الذين مارسوا الاتجاه التجريبي بنجاح، بل على يد مجموعة من الفلاسفة، ذوي النزعات الفلسفية والمنطقية التي فسرت هذا الاتجاه الحسي تفسيراً فلسفياً أو منطقياً خاطئاً).[86]

هذا مع العلم بأن الاستقراء ينطوي على كل ألوان الاستدلال العلمي القائم على التجربة والحس، وأن الاستدلال العلمي هو نفس المنهج الذي يتخذه الاستقراء على إثبات الصانع بمظاهر القصد والحكمة.

الاحتمال والدليل الاستقرائي

يستعرض باقر الصدر تعريفين مشهورين للاحتمال في مذهب التوالد الموضوعي، ويستخرج منهما تعريفاً ثالثاً يراه الأنسب لمعنى الاحتمال، يعتمد فيه على مفهوم ما سمّاه بالعلم الإجمالي، وهو العلم بشيء غير محدد تحديداً كاملاً، ويفسر الصدر معنى ذلك أن المعلوم قد يكون مشخصاً محدداً، كأن يعلم المرء أن فلاناً من أصدقائه سيزوره، ويعتبر العلم في هذه الحالة علماً تفصيلياً، وليس فيه مجال للشك والاحتمال.

وقد يكون المعلوم غير محدد ولا مشخص، كأن يعلم المرء أن أحداً من أصدقائه الثلاثة سوف يزوره دون تحديد لأي منهم، فهذا العلم يعتبر علماً إجمالياً؛ لأن العلم ارتبط مع المعلوم بشيء غامض غير محدد، فيحتمل أن يزوره أحمد أو محمد أو محمود.

إذن فالعلم الإجمالي هنا تكوّن من ثلاثة أطراف وهي الزيارات الثلاث، ويسمّيها الصدر: أطراف العلم الإجمالي. وعلاقة العلم الإجمالي بكل طرف من الأطراف هي علاقة تستبطن بطبيعتها الاحتمال، والعلم الإجمالي النافع في هذه المسألة هو العلم الذي تكون أطرافه متنافية، أي لا يحتمل أن يجتمع اثنان منها في وقت واحد، فالزيارة المحتملة هي زيارة واحد من الأصدقاء فقط، وليس اثنان.

أما العلم الإجمالي الذي لا تتنافى أطرافه فمن المحتمل فيه اجتماع زيارة اثنين مثلاً، وهذا العلم يخرج عن مقصود باقر الصدر، يقول: (ونحن هنا نريد بالعلم الإجمالي ۔متى أطلقناه۔ العلم الإجمالي من القسم الأول الذي يفرض التنافس بين أطرافه).[87]

وصورة العلم الإجمالي عند الصدر تشتمل على ما يلي:

١. العلم بشيء غير محدد (كلي).

٢. مجموعة الأطراف التي يعتبر كل عضو فيها ممثلاً احتمالياً للمعلوم.

٣. مجموعة الاحتمالات التي يطابق عددها عدد مجموعة الأطراف.

۴. التنافي بين أعضاء مجموعة الأطراف.

وملخّص تلك الطريقة ۔كما يقول الصدر۔ في (أنها تتطلب افتراض علم إجمالي على نحو يكون عدد كبير من أعضائه وأطرافه مستبطناً أو مستلزماً للقضية الاستقرائية، فتصبح القضية الاستقرائية محوراً لعدد من القيم الاحتمالية بقدر ذلك العدد من الأعضاء المستبطن أو المستلزم للقضية الاستقرائية، ولابد أن يكون العلم الإجمالي المفترض مرناً بشكل يزداد فيه عدد الأعضاء التي تتضمن إثبات القضية الاستقرائية، وينمو هذا العدد باستمرار تبعاً لازدياد عدد التجارب أو الملاحظات في عمليات الاستقراء، وبهذا يصبح نمو القيمة الاحتمالية للقضية الاستقرائية مطرداً مع نمو الاستقراء وامتداده).[88]

بهذا المفهوم قدّم باقر الصدر دراسته في خطوات ثلاث:

تحديد المنهج الذي سيتبعه، وتقييم هذا المنهج وتحديد مدى إمكان الوثوق به، وتقييمه في ضوء تطبيقاته العلمية المعترف بها عند كل إنسان عاقل.

وسوف نعرض هذه النقاط الثلاث في إيجاز شديد:

١. تحديد المنهج وخطواته

يحدد باقر الصدر منهجه في خمس خطوات:

أ ۔ يواجه المرء ظواهر عديدة في مجال الحس والتجربة.

ب ۔ ينتقل بعد ملاحظة تلك الظواهر وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، وذلك عن طريق فروض صالحة لتفسير وتبرير تلك الظواهر وصلاحها، بمعنى أنها إذا كانت ثابتة في الواقع فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلاً.

ج ۔ إذا لم تكن الفرضية صحيحة وثابتة في الواقع ففرصة تواجد تلك الظواهر كلها مجتمعة ضئيلة جداً، أي تكون نسبة احتمال وجودها جمعياً إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل ضئيلة كواحد في المائة مثلاً.

د ۔ يستخلص من ذلك صدق الفرضية، والدليل على ذلك وجود تلك الظواهر التي أحس بوجودها في الخطوة الأولى.

هـ ۔ أن درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها.. فكلما كانت هذه النسبة أقل كانت درجة الإثبات أكبر حتى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية.[89]

2 و3. تقييم المنهج وكيفية تطبيقه لإثبات الصانع

اعتمد باقر الصدر في تقييمه لمنهج الاستقراء على تطبيقه على الحالات الاعتيادية من الحياة اليومية، التي يطبّق فيها الإنسان بصورة فطرية مقاييس وضوابط دقيقة لقيمة الاحتمال.

وأيضاً يستدل الصدر عليها بطريقة العلماء في الاستدلال على النظرية العلمية، فإذا صدق المنهج في كلتا الحالتين انتقل إلى بيان كيفية تطبيق هذا المنهج لإثبات الصانع الحكيم، متبعاً في ذلك خمس خطوات نعرضها بإيجاز شديد:

١. نلاحظ توافقاً مطرداً بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة وبين حاجة الإنسان ككائن حي، وتيسير الحياة له، على نحو نجد أن أي بديل لظاهرة من تلك الظواهر، يعني انطفاء حياة الإنسان وتوقفها على الأرض، ويضرب الصدر لذلك أمثلة كثيرة.

٢. هذا التوافق المستمر يمكن أن يفسر في جميع هذه المواقع بفرضية واحدة، وهي: أن نفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون قد استهدف أن يوفر في هذه الأرض عناصر الحياة، وسير مهمتها، وهذه الفرضية تستبطن كل هذه التوافقات.

٣. ننتقل بعد ذلك إلى الاحتمالات، فنتساءل إذا لم تكن تلك الفرضية ثابتة في الواقع فما هو مدى احتمال أن تتواجد كل تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعية ومهمة تيسير الحياة دون أن يكون هناك هدف مقصود؟

فإن قلنا بالاحتمال الثاني، فذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف وافتراض مشابهة الصدفة أو المادة غير الهادفة للفاعل الهادف الحكيم في كل الصفات ضئيل وبعيد جداً.

۴. إذن نرجح أن تكون فرضية الصانع الحكيم هي الصحيحة.

۵. نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال التي توصلنا إليها في الخطوة الثالثة، الذي تزداد ضآلته كلما ازداد عدد الصدف التي لابد من افتراضها فيه.. وهكذا نصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أن للكون صانعاً حكيماً بدلالة كل ما في هذا الكون من آيات الاتساق والتدبير.[90]

ويستدل الصدر بالآية الكريمة: <سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا في الْآفٰاقِ وَ في أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ>.[91]

ويقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية:

يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم، ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العليم المنزه عن المثل والضد.[92]

ويواصل باقر الصدر إثباته للصانع بالدليل الاستقرائي برسم خطوات أربع لذلك الدليل، يقول:

ونحن حين ندرس الفرضيات المتصورة بشأن تفسير مجموعة من الظواهر، كالمجموعة التي يتكون منها التركيب الفسيولوجي لإنسان معين ۔سقراط مثلاً۔ يمكننا أن نفترض الفرضيات الأربع التالية:

أولاً: فرضية تفسير تلك الظواهر على أساس أنها من صنع ذات حكيمة.

ثانياً: فرضية تفسيرها على أساس أنها صدف مطلقة.

ثالثاً: فرضية تفسيرها على أساس أنها من صنع ذات ليست حكيمة قد تصرفت تصرفاً غير واعٍ ولا هادف فأوجدت تلك الظواهر.

رابعاً: فرضية تفسيرها على أساس علاقات سببية غير واعية ولا هادفة يفترض قيامها بين المادة وتلك الظواهر.

والمطلوب إثبات الأول من هذه الأمور الأربعة، ونفي الفرضيات الثلاث الأخيرة بالدليل الاستقرائي.[93]

ويبدأ الصدر باصطناع فرضيات لكل فرضية وإسقاطها عن طريق الدليل الاستقرائي إلى أن يصل إلى إثبات الفرضية الأولى، وهي أن تلك الظواهر من صنع ذات حكيمة.

وباقر الصدر وهو يحاول إثبات الدليل الاستقرائي في هذه المسألة إنما يعتمد على القرآن الكريم، الذي استخدم هذا الدليل في كثير من آياته الداعية إلى التأمل والتفكر واستقراء الواقع بكل ما فيه من آيات كونية وآيات في الأنفس، قال تعالى:

<إِنَّ في خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلاٰفِ اللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ وَ الْفُلْكِ الَّتي تَجْرِي في الْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ النّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ السَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيٰاحِ وَ السَّحٰابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ>.[94]

هذه الآية واضحة في تفصيلها لبعض آيات الله تعالى في الكون، ودعوة أصحاب العقول إلى تأملها والتفكر فيها، ليعلموا بأن هذا الاتساق لابد أن يكون من صنع خالق حكيم.

وقد استخلص الرازي من هذه الآية (ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده سبحانه أولاً وعلى توحيده وبراءته عن الأضداد والأنداد ثانياً).[95]

ويستدل الصدر بآية كريمة أخرى في قوله تعالى: <الَّذي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ طِبٰاقاً مٰا تَرىٰ في خَلْقِ الرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرىٰ مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خٰاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ>[96] وهذه الآية واضحة ۔أيضاً۔ في أن المرء إذا أجال بصره وأعاده وكرره في السموات وخلقهن ليرى هل هناك اختلاف أو خلل أو تفاوت لم يجد ما يبحث عنه، بل يكون في تكراره لتأمله هذا تأكيد لعملية الاتساق والنظام في الكون؛ وبذلك يعلم أن هذا أمره يرجع إلى صانع حكيم، يقول الزمخشري في تفسير هذه الآية:

قوله <خَلْقِ الرَّحْمٰنِ> تعظيماً لخلقهن، وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أن خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب.. ثم قال <فَارْجِعِ الْبَصَرَ> حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة ولا تبقى معك شبهة فيه.. وأمره بتكرير البصر فيهن متصفحاً ومتتبعاً يلتمس عيباً وخللاً <يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ> أي إن رجعت البصر وكررت النظر لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور.[97]

والدليل الاستقرائي الذي سبر غوره باقر الصدر، نجد صورته في الدليل العقلي المشترك بين الفلاسفة والمتكلمين على وجود الله تعالى، ونعني به دليل العناية والنظام، الذي ضم إليه ابن رشد دليلاً آخر سمّاه دليل الاختراع، وهما دليلان عقليان نبّه عليهما القرآن الكريم في كثير من آياته.

ويرى ابن رشد أن هذه هي الطريقة الشرعية الدالة على وجود الله تعالى، وهي التي دعا إليها القرآن الكريم واعتمدها الصحابة رضوان الله عليهم، وتنحصر تلك الطريقة في جنسين ۔ كما يقول ابن رشد ۔: الأول سمّاه دليل العناية وهو يُعنى بملاحظة سريان الدقة الكاملة والإتقان البديع في الكون، ومبناه: أن جميع الموجودات متوافقة ومنسجمة مع وجود الإنسان ۔وقد ضرب ابن رشد أمثلة كثيرة على تلك الموافقات۔ إضافة إلى أن هذه الموافقة لا يمكن أن تكون من قبل الصدفة، بل لابد أن تكون من فاعل قاصد مريد.

أما الدليل الثاني: فهو دليل الاختراع، وهو يُعنى بمبدئين عقليين هما الأول: أن هذه الموجودات مخترعة مصنوعة، والثاني: أن كل مخترع فله مخترع.[98]

الخاتمة

نستلخص من دراسة فكرة نظرية المعرفة عند السيد محمدباقر الصدر ما يلي:

أولاً: لم يكن هدف باقر الصدر أن يأتي بنظرية جديدة تماماً للمعرفة، ولكنه أراد أن يثبت اتجاهاً جديداً في تلك النظرية يخالف به المنطق الأرسطي، ومن سار على دربه من الفلاسفة والباحثين المعاصرين الدارسين للاستقراء، ذلك الاتجاه يتمثل في مرحلتين يمر بهما الدليل الاستقرائي، وحين يتحدث الصدر عن الاستقراء يقصد به الاستقراء الناقص بمفهوم المنطق الأرسطي وليس الاستقراء الكامل، والمرحلتان اللتان يمر بهما هي: مرحلة التوالد الموضوعي، وهي مرحلة استنباطية تتصف بالاحتمالات، والدليل الاستقرائي في هذه المرحلة ينمّي قيمة احتمال التعميم الاستقرائي ويصل به إلى درجة عالية من درجات التصديق، مستنتجاً تلك الدرجة بطريقة استنباطية من المبادئ والبديهيات.

وبناءً على ذلك فإن نظرية المعرفة عند باقر الصدر تعنى بمنهج أساسي أراد إثبات صلاحيته في بلوغ درجة اليقين في المعارف البشرية، وعلى الأخص منها معرفة صانع وخالق هذا الكون ومدبره، هذا المنهج هو منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، الذي لا يؤمن به المنطق الأرسطي ولا غيره من الفلاسفة، ولم يتنبه إليه ۔أيضاً۔ الباحثون المحدثون الذين عالجوا مسألة الاستقراء.

وبناءً على هذا المنهج الجديد في الدليل الاستقرائي تصل المعرفة إلى درجة عالية ۔كما ذكرنا۔ من التصديق، ولكنها لا تستطيع أن ترقى لتمام اليقين، فتبدأ بعد ذلك المرحلة الثانية، وهي ما سمّاها باقر الصدر بمرحلة التوالد الذاتي التي يصطنعها منهج الدليل الاستقرائي لتصعيد المعرفة إلى درجة اليقين.

ثانياً: يؤكد الصدر على تميزه في معالجته للاستقراء في مرحلتيه، فيقول عن المرحلة الأولى ۔التوالد الموضوعي۔ وهي المرحلة الاستنباطية، وطريقته فيها:

وطريقتي في تفسير هذه المرحلة الاستنباطية للدليل الاستقرائي على هذا الأساس تتميز عن المحاولات التي عالجت هذه المرحلة من الدليل الاستقرائي، وفي حدود ما أتيح لي الاطلاع عليه.[99]

أما المرحلة الثانية ۔التوالد الذاتي۔ فكأنه يومئ في حديثه عنها إلى أنه اخترع مذهباً ثالثاً ليعالج به مسألة الاستقراء إلى جانب المذهب العقلي والمذهب التجريبي، وهذا ما يتبادر من قوله:

نريد أن ندرس الدليل الاستقرائي على أساس مذهب ثالث في نظرية المعرفة، نطلق عليه اسم (المذهب الذاتي)؛ تمييزاً له عن المذهبين: العقلي والتجريبي، ونريد بالمذهب الذاتي للمعرفة اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة يختلف عن كل من الاتجاهين التقليديين اللذين يتمثلان في المذهب العقلي والمذهب التجريبي.[100]

هذا الاتجاه الجديد لباقر الصدر اتخذه بعد اكتشافه عجز الاتجاه السائد اليوم في بحوث كثير من العلماء عن تفسير الاستقراء بوصفه تطبيقاً خالصاً لنظرية الاحتمال، الأمر الذي دعاه إلى ابتداع فكرته الجديدة؛ لأن البحوث السابقة عليه (اتجهت ۔فيما يقول الصدر۔ إلى القول بأن الدليل الاستقرائي بحاجة إلى مصادرات خاصة، ولا يمكنه أن يمارس مرحلته الاستنباطية بدون تلك المصادرات)[101] مع أن هذا الدليل لا يحتاج ۔في المنظور الجديد الذي قدّمه الصدر۔ إلى المصادرات القبلية كالتي يؤمن بها المنطق الأرسطي، ويربط مصير هذا الدليل بها، بل يؤكد الصدر على أن تلك المصادرات ذاتها يمكن إثباتها بالاستقراء نفسه، كما نثبت أي تعميم من التعميمات عن طريق الدليل الاستقرائي الذي يطابق تعريف الاستقراء الصحيح وهو (كل استدلال يسير من الخاص إلى العام).

ثالثاً: وليثبت الصدر الاتجاه السائد قام بدراسة شاملة للاستقراء خصّها بمؤلف كبير سمّاه (الأسس المنطقية للاستقراء) يقول في خاتمته:

إن هذه الدراسة الشاملة التي قمنا بها كشفت عن الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي، الذي يضم كل ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة. واستطاعت أن تقدم اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة، يفسّر الجزء الأكبر منها تفسيراً استقرائياً، مرتبطاً بتلك الأسس التي كشف عنها البحث، وتبرهن هذه الدراسة في نفس الوقت على حقيقة في غاية الأهمية من الناحية العقدية، وهي الهدف الحقيقي الذي توخّينا تحقيقه عن طريق تلك الدراسة.

وهذه الحقيقة هي أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبّر لهذا العالم، عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير.[102]

بهذا الهدف السامي أراد باقر الصدر أن يربط العلم بالإيمان، ويزيل الانفصام المصطنع بينهما من جهة النظر المنطقية للاستقراء، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم في منهجه الذي يركّز فيه على الاستدلال الاستقرائي ويعتني به عناية خاصة من بين أنواع الاستدلالات المتنوعة على إثبات الصانع الحكيم، يقول الصدر:

فكان من الطبيعي أن يتجه القرآن الكريم إلى دليل القصد والحكمة ۔بوصفه الذي يمثل المنهج الحقيقي للاستدلال العملي، ويقوم على نفس أسسه المنطقية۔ ويفضّله على سائر الصيغ الفلسفية للاستدلال على وجود الله تعالى.[103]

رابعاً: لم يتطرق باقر الصدر في دراسته لمصادر المعرفة للمصدر الديني ۔الوحي والإلهام۔ شأنه في ذلك شأن الكثير من الباحثين في نظرية المعرفة من الناحية الفلسفية والعلمية، في حصرهم مصادر المعرفة في الحس والعقل.

ولا نرى في ذلك خروجاً من الصدر على منهجه الذي اتبعه لإثبات أن لهذا الكون صانعاً حكيماً، هذا الإثبات المعتمد على الفلسفة والعلم في مواجهة المذاهب والفلسفات المادية التي كانت تستبطن هدفاً أساساً هو هدم فكرة الإيمان بما وراء الطبيعة أو بالله تعالى؛ لذلك لم يكن لموضوع المصدر المعرفي الديني ۔الوحي والإلهام۔ مجال في دراسة الصدر.

وبالرغم من ذلك فقد أكد واستدل الصدر على استعمال القرآن الكريم ۔وهو أساس الوحي۔ لأنواع الاستدلالات الحسية والعقلية على وجود الخالق، بل وأبان عن عنايته الكبيرة بالدليل الاستقرائي الذي يؤمن به باقر الصدر بصورة أكبر.

خامساً: لم يأت باقر الصدر بفكرته التي توصّل إليها في نظرية المعرفة من فراغ، بل كان دارساً عبقرياً وباحثاً متفرداً للاتجاهات الفلسفية والنظريات العلمية التي عرضها عرض الخبير الواعي، المدرك لكل مقولة ولكل فكرة، وقارن وقابل واستنتج ورجّح واختار وابتدع، ومن ثم طرح فكره ورويته لإثبات قضية إيمانية عقيدية، تعدّ أساساً تنبنى عليه جميع العقائد الإسلامية ألا وهي (معرفة الله تعالى والإيمان بوجوده) وهذه المحاولة التي حاولها هذا الفيلسوف العملاق لا يعثر عليها الباحث عند أي فيلسوف سابق، ولا يجدها في قسماتها المتكاملة إلا في كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) فهو كتاب غير مسبوق في التراث العقلي.

المصادر والمراجع

الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، أبو محمد علي بن محمد الظاهري، مطبعة محمد صبيح، القاهرة.

الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ابن رشد، محمد بن أحمد الأندلسي (595هـ)، المكتبة المحمودية التجارية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1968م.

الإشارات والتنبيهات، ابن سينا، أبوعلي الحسيني، شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق د. سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، 1968م.

الشفاء، قسم المنطق، تحقيق سعيد زيدان، القاهرة، 1964م.

لسان العرب، ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم، دار صادر، بيروت.

التمهيد، الباقلاني، أبوبكر محمد بن الطيّب، تحقيق محمد يوسف موسى، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1950م.

البرهان في أصول الفقه، الجويني، عبدالملك بن عبدالله إمام الحرمين، تحقيق د. عبدالعظيم الديب، الطبعة الأولى، قطر 1399هـ .

التفسير الكبير، الرازي، فخر الدين (606هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، 1990م.

المدلول الاجتماعي لأصول الدين عند الشهيد الصدر، الرفاعي، عبدالجبار، مجلة قضايا إسلامية، مؤسسة الرسول الأعظم، قم، العدد الثالث، 1996م.

منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، مؤسسة التوحيد، إيران، الطبعة الثانية، 1982م.

المنطق الصوري، زاهر، د. رفقي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى، القاهرة 1980م.

تمهيد للفلسفة، زقزوق، د. محمود حمدي، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، 1979م.

دراسات في الفلسفة الحديثة، دار الطباعة المحمدية، الطبعة الثانية، القاهرة، 1988م.

الكشاف، الزمخشري، محمود بن عمر، دار الكتاب العربي، بيروت 1986م.

محاضرات في نظرية المعرفة، سبحاني، الشيخ جعفر، بقلم الشيخ حسن العاملي، الدار الإسلامية، الطبعة الأولى، بيروت، 1990م.

الأسس المنطقية للاستقراء، الصدر، محمدباقر، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الخامسة، بيروت، 1986م.

فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثانية عشرة، بيروت 1982م.

المرسل الرسول الرسالة، الدار العالمية، بيروت، 1986م.

المعجم الفلسفي، صليبا، د. جميل، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، 1982م.

أسس الفلسفة، الطباطبائي، محمدحسين، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثانية، بيروت، 1988م.

نهاية الحكمة، مؤسسة النشر الإسلامي، إيران، 1404هـ.

البعد الدولي لاغتيال الإمام باقر الصدر، العباسي، محمد، البداية للنشر والإعلام، الطبعة الأولى، بيروت، 1986م.

ترجمة كتاب المدخل إلى الفلسفة لكولبة، عفيفي، د. أبو العلا، لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1942م.

معيار العلم، الغزالي، الإمام أبوحامد محمد (505هـ)، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى، بيروت، 1993م.

المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، اليزدي، محمدتقي مصباح، ترجمة محمد عبدالمنعم الخاقاني، مؤسسة النشر الإسلامي، إيران، 1407هـ.

[1]. البعد الدولي لاغتيال الإمام باقر الصدر، محمد العباسي، ص21، البداية للنشر والإعلام، الطبعة الأولى، بيروت، 1986م.

[2]. انظر: م. ن، ص 25.

[3]. المدلول الاجتماعي لأصول الدين عند الشهيد الصدر، عبدالجبار الرفاعي، ص405، مجلة قضايا إسلامية، مؤسسة الرسول الأعظم؟ص؟، إيران، قم، العدد الثالث، 1996م.

[4]. منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، ص 14، مؤسسة التوحيد، إيران، سلسلة رواد الإصلاح، الطبعة الثانية، 1998م.

[5]. البعد الدولي لاغتيال باقر الصدر، ص 11.

[6]. نقلاً عن د. جميل صليبا في المعجم الفلسفي، ج2، ص392، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية، 1982م.

[7]. التمهيد، ص12، تحقيق محمد يوسف موسى، مكتبة الخانجي، القاهرة 1950م.

[8]. البرهان في أصول الفقه، ج1، ص120، تحقيق د. عبدالعظيم الديب، الطبعة الأولى، قطر 1399هـ.

[9]. لسان العرب، ابن منظور، ج9، ص236، دار صادر، بيروت، مادة (عرف).

[10]. المعجم الفلسفي، ج 2، ص392- 393.

[11]. م. ن، ج2، ص393.

[12]. م. ن، ص478.

[13]. ينبغي أن نلفت النظر إلى أن هذا التقسيم قاصر؛ لأن الوجود الخارجي ليس محصوراً في الوجود المادي، أو كون الأشياء في الأعيان، بل يشمل الموجودات المفارقة في المقام الأول، مثل الله، ومثل العقل والنفس، بل الوجود الإلهي هو أول وأولى في مرتبة الوجود الخارجي من وجود الأشياء المادية، فالوجود الخارجي يجب أن يعرف بأنه الخارج عن الذهن، والخارج عن الذهن لا ينحصر بالضرورة في الموجودات المادية بل يشملها ويشمل الوجودات المفارقة أيضاً.

[14]. المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، ج2، ص559.

[15]. دراسات في الفلسفة الحديثة، د. محمود زقزوق، دار الطباعة المحمدية، الطبعة الثانية، القاهرة، 1988م.

[16]. انظر: المدخل إلى الفلسفة، ص37، ترجمة د. أبو العلاء عفيفي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1942.

[17]. تمهيد للفلسفة، د. محمود زقزوق، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، 1979م.

[18]. م. ن، ص115.

[19]. انظر: م. ن.

[20]. فلسفتنا، ص57، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1982م.

[21]. م. ن، ص52.

[22]. المرسل الرسول الرسالة، ص4، الدار العالمية، بيروت، 1986م.

[23]. م. ن، ص22.

[24]. فلسفتنا، ص 58.

[25]. م. ن.

[26]. م. ن.

[27]. محاضرات في نظرية المعرفة، الشيخ جعفر سبحاني، ص 135، بقلم الشيخ حسن العاملي، الدار الإسلامية، الطبعة الأولى، بيروت، 1990م.

[28]. راجع تفصيل هذا النقد في فلسفتنا، ص60.

[29]. انظر: فلسفتنا، ص65.

[30]. انظر: م. ن، ص66 ۔ 67.

[31]. أسس الفلسفة، محمدحسين الطباطبائي، ص 18، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثانية، بيروت، 1988م.

[32]. فلسفتنا، ص70.

[33]. انظر: م. ن.

[34]. م. ن، ص72 ۔ 73.

[35]. انظر: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، محمدتقي مصباح اليزدي، ج1، ص171-179، ترجمة محمد عبدالمنعم الخاقاني، مؤسسة النشر الإسلامي، إيران، 1407هـ. وانظر: نهاية الحكمة، محمدحسين الطباطبائي، ص 252و 236-237، مؤسسة النشر الإسلامي، إيران 1404هـ.

[36]. الأسس المنطقية للاستقراء، محمدباقر الصدر، ص 463، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الخامسة، بيروت، 1986م.

[37]. فلسفتنا، ص84.

[38]. م. ن، ص78.

[39]. انظر: م. ن، ص89.

[40]. م. ن، ص85.

[41]. انظر: الأسس المنطقية للاستقراء، محمدباقر الصدر، ص38.

[42]. فلسفتنا، ص93.

[43]. م. ن، ص87 ۔ 88.

[44]. النحل: 78.

[45]. التفسير الكبير، ج2، ص 72، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، 1990م.

[46]. انظر: تعليق المطهري على كتاب أسس الفلسفة للطباطبائي، ص18 وما بعدها.

[47]. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج1، ص5-6، مطبعة محمد صبيح، القاهرة، هذا وقد فنّد الإمام الصدر نظرية المعرفة أيضاً في الفلسفة الوضعية المنطقية وكشف عن زيفها في محاولاتها استبعاد القضايا الميتافيزيقية مثلما فعل مع الفلسفة الماركسية. انظر: فلسفتنا، ص96 ۔ 102.

[48]. انظر: الأسس المنطقية للاستقراء، ص322.

[49]. م. ن، ص325.

[50]. فلسفتنا، ص109.

[51]. م. ن، ص110.

[52]. راجع نقد ابن سينا لهذا المبدأ في: فلسفتنا، ص114 ۔ 115.

[53]. فلسفتنا، ص133.

[54]. م. ن، ص139.

[55]. انظر: فلسفتنا، ص142.

[56]. انظر: م. ن، ص155 وما بعدها.

[57]. م. ن، ص187.

[58]. م. ن، ص192.

[59]. م. ن.

[60]. م. ن، ص194.

[61]. م. ن، ص143.

[62]. انظر: م. ن، ص162 ۔ 166.

[63]. الأسس المنطقية للاستقراء، محمدباقر الصدر، ص23.

[64]. انظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، ج2، ص415، وأيضاً الأسس المنطقية للاستقراء، ص13.

[65]. الإشارات والتنبيهات، ج1، ص367، الطبعة الثانية، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف بمصر.

[66]. المنطق الصوري، د. رفقي زاهر، ص206، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1980م.

[67]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص24.

[68]. م. ن، ص32.

[69]. كتاب الشفاء، قسم المنطق، مراجعة وتقديم د. إبراهيم مدكور، تحقيق سعيد زايد، القاهرة 1964م، ص16.

[70]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص32.

[71]. م. ن، ص16.

[72]. م. ن، ص14.

[73]. م. ن، ص29.

[74]. الإشارات والتنبيهات، ابن سينا، ج1، ص367 ۔ 368.

[75]. معيار العلم، ص136، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى، بيروت 1993م.

[76]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص35.

[77]. م. ن، ص36.

[78]. انظر: م. ن، ص25 ۔ 27.

[79]. م. ن، ص65 ۔ 66.

[80]. م. ن، ص66.

[81]. م. ن، ص129.

[82]. م. ن، ص130.

[83]. م. ن، ص129.

[84]. انظر: م. ن، ص124 وما بعدها.

[85]. المرسل الرسول الرسالة، محمدباقر الصدر، ص19.

[86]. م. ن، ص14.

[87]. الأسس المنطقية، ص176.

[88]. م. ن، ص228.

[89]. انظر: المرسل الرسول الرسالة، محمدباقر الصدر، ص24 ۔ 25.

[90]. م. ن، ص 39 ۔ 51.

[91]. فصلت: 53.

[92]. التفسير الكبير، ج27، ص120، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، 1990م.

[93]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص403 ۔ 404.

[94]. البقرة: 164.

[95]. التفسير الكبير، الفخر الرازي، ص160.

[96]. الملك: 3 ۔ 4.

[97]. الكشاف، الزمخشري، ج 4، ص576 .

[98]. انظر: الكشف عن مناهج الأدلة، ص65-66، المكتبة المحمودية، الطبعة الثانية، القاهرة، 1968م.

[99]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص228.

[100]. م. ن، ص123.

[101]. م. ن، ص228.

[102]. م. ن، ص469.

[103]. م. ن، ص470.