نظريات العامل الواحد في تفسير التاريخ ونقدها

إسراء البياتي

مدخل في معنى التاريخ وغاياته

التاريخ هو المساحة التي تحوي مجموعة الأحداث والوقائع البشرية الماضية، وتتشكل مادته بالأساس من مجموع الأخبار والوثائق والمشاهدات.

ومنذ أن تعلّمت الأمم فن الكتابة وحفظ المعلومات ظهرت العناية بتدوين التاريخ وحفظه، وبما أن عملية تدوين التاريخ داخلة في إطار العلوم والثقافات، فهي عملية متطورة بتطور العلوم، متغيرة بتغير الثقافات، تتسع أهدافها أو تضيق بحسب الأجواء العامة التي تفرض بنفسها في تكوين آفاق المؤرخين وفي توجيه اهتماماتهم ومقاصدهم.

فعندما كانت الآلهة الأسطورية هي التي تهيمن على شعور ولا شعور الإنسان في اليونان القديمة، كانت الأسطورة المرتبطة بالآلهة الأسطوريين هي الطابع الوحيد المميز للعمل التاريخي في ذلك المجتمع، فلم تتجاوز مادته أخبار من نسج الأوهام والخيال حول تلك الآلهة، ولم تتعد أهدافه تمجيد تلك الآلهة وتعميم سلطانها ونفوذها على ذلك المجتمع.

ثم لما أخذ سلطان تلك الآلهة ينحسر بعد عهد سقراط وأرسطو ومن في طبقتهما من علماء اليونان وحكمائهم، حدثت في ثقافة المجتمع نقلة نوعية تركت أثرها بشكل طبيعي على طبيعة العمل التاريخي وأهدافه، فأصبح المؤرخ اليوناني _ بدءاً بـ(هيرودوتس) الملقب بـ(أبو التاريخ) _ ينظر إلى الواقع البشري وأحداثه بعين الاعتبار، ويرى أنها هي الجديرة بالاهتمام، وأن القيمة التاريخية تنحصر فيها دون سواها من الأساطير التي لا واقع لها.

فتلخصت أهداف المؤرخ منذ ذلك الوقت بتمجيد القادة والأبطال وتخليد إنجازاتهم الحقيقية. ومنذ ذلك الوقت أيضاً اتسعت مساحة التاريخ لتتجاوز حدود الأمة الواحدة وأمجادها، إلى ذكر ما يمكن الوصول إليه من أخبار الأمم الأخرى ذات النقل العالمي والأثر الجدير بالتخليد.

وبقيت مساحة التاريخ تتراوح بين هذين البعدين، وأهدافه تتأرجح بين هذه الغايات، حتى جاء الإسلام وظهر مؤرّخوه الكبار، ابتداءً بالقرن الثاني، وحتى القرن الثامن للهجرة، الذين استلهموا مبادئهم من القرآن الكريم ومدرسته الكبرى ومن سيرة النبي العظيم صل الله عليه و آله، فقدّموا للبشرية النماذج الأكثر تقدماً في الأعمال التاريخية لدى سائر الأمم على الإطلاق، نماذج طبعت بخصائص حية مميزة، نذكر منها ما يناسب هذا المدخل السريع، وهي التاريخ الواقعي للأحداث، بعيداً عن الأسطورة التي لم تجد لها موقعاً في تاريخ الإسلام، ثم التثبت في النقل والإسناد في الأخبار، ثم الانفتاح على الأفق الجديد الذي لم يعرفه مؤرّخو الأمم السالفة، وهو تاريخ الحضارة، الذي يستوعب البعد التربوي والعلمي والفكري. ولا غرابة في ذلك فقد تعلّموا من القرآن الكريم أن التاريخ عبرة، وأن التاريخ مدرسة.

و لم يحصل تطور يذكر على معنى التاريخ وغاياته في أوروبا الحديثة حتى بدايات هذا القرن الأخير، وربما العقد الأخير من القرن المنصرم، حيث ظهرت دراسة العالمين الفرنسيين (لإنجلوا) و(سينوبوي) في أسس نقد التاريخ ومنهج البحث التاريخي.

وحتى بدايات هذا القرن، بل حتى الحرب العامة الثانية كانت المدرسة التاريخية في ألمانيا ما زالت الأوسع انتشاراً في أوروبا، وهي مدرسة تقليدية لم يتجاوز التاريخ فيها نطاق الجهد الأدبي الفردي، الذي يتعامل مع أحداث التاريخ وكأنها أجزاء مقطعة من أشلاء شتى، لا يربطها شيء، إذ الحادثة التاريخية وفق رؤية هذه المدرسة، مثلها مثل الفرد الذي لا يتكرر في غيره، وليس هناك معنى للتاريخ وراء هذا التصور.

ولكن هذه المدرسة التقليدية انهزمت إلى الأبد مع هزيمة ألمانيا العسكرية في الحرب العامة، لتحل محلها المدارس الحديثة التي كانت منذ مطلع هذا القرن تنادي بوعي أعمق للتاريخ، وبأن التاريخ علم له صلاته الوثيقة بعلوم أخرى ذات صلة بالمجتمع، ومع تطور علم الاجتماع وعلم النفس وظهور علم الأنثر وبولوجيا، وتطور علم الاقتصاد، ابتدأت تظهر ملامح الصلات الوثيقة بين علم التاريخ وهذه العلوم، ليتخذ البحث التاريخي شكلاً أكثر تعقيداً ودقة وشمولاً.

من علم التاريخ إلى فلسفة التاريخ

علم التاريخ واحد من العلوم التي وجدت في الفلسفة ما يكمل أغراضها ويمنحها بعداً حيوياً متحركاً، يزيد في قيمة ما تقدمه من أبحاث، ويضفي على الكثير من أبحاثها معنى جديداً، الأمر الذي يضع العلم ۔ وهو هنا علم التاريخ ۔ على طريق مفتوح يمضي فيه قدماً بمزيد من التعمق والاتساع؛ إذ أن فلسفة التاريخ هي التي ستبرز المعنى الحقيقي للتاريخ، فالصيرورة التاريخية، على سبيل المثال، واحدة من المعاني الهامة لحركة التاريخ والخصائص الأساسية فيها، لا يمكن فهمها إلا من خلال فلسفة التاريخ، التي ستكون أداتها الأولى ما يقدمه علم التاريخ من أبحاث تاريخية.

هل للتاريخ روح، هل له قوانين، هل له طبيعة خاصة؟ هذا ما تبحثه وتكشف عنه فلسفة التاريخ.

ففلسفة التاريخ هي التي كانت وراء تغير اهتمام المؤرخ من التاريخ للأشخاص وحدهم إلى التاريخ للحضارات. وهي التي كشفت عن خصائص عامة للحضارات وعوامل نشوئها وتطورها وتدهورها.

ومنذ زمن بعيد وضع بعض مشاهير المؤرخين نصب أعينهم مهمة البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الحدث التاريخي، وتفسير بعض الظواهر التاريخية، وقد كانت البدايات بسيطة بطبيعة الحال شأنها شأن البداية في ظهور أي نوع من أنواع العلوم والفنون، ثم أخذت تتسع شيئاً فشيئاً مع أجيال المؤرخين، وحتى أخذت شكلاً مميزاً ومساحات واسعة عند المسعودي، حيث درس بشكل أكثر وضوحاً ولأول مرة آداب الرياسة، وضروب أقسام السياسة المدنية: الملوكية منها والعامية، مما يلزم الملك في سياسة نفسه ورعيته. ووجوه أقسام السياسة الربانية، وعدد أجزائها، ولأي علة لابد للملك من دين، كما لابد للدين من ملك، ولا قَوام لأحدهما إلا بصاحبه، ولِم وجب ذلك وما سببه؟ وكيف تدخل الآفات على الملك، وتزول الدول، وتبيد الشرائع والملل؟ والآفات التي تحدث في نفس الملك والدين، والآفات الخارجة المعترضة لذلك وتحصين الدين والملك، وكيف يعالج كل واحد منهما بصاحبه إذا اعتل من نفسه أو من عارض يعرض له، وماهية ذلك العلاج، وكيفيته وأمارات إقبال الدول. وسياسة البلدان والأديان والجيوش على طبقاتهم ووجوه الحيل والمكايد في الحروب ظاهراً وباطناً، وغير ذلك من أخبار العالم وعجائبه).[1]

ولكن هذه الجهود لم تأخذ شكل النظرية المنظمه إلا على يد ابن خلدون (808 هـ) في مقدمته الشهيرة، والتي مثلت المصدر الأول في موضوعه لفلاسفة التاريخ في أوروبا في العصر الحديث.

والمسألة الأكثر أهمية وذات الصلة بموضوع بحثنا، هي أن فلسفة التاريخ نفسها قد خضعت دائماً للاتجاهات الفلسفية العامة التي كوّنت الرؤى الفلسفية القبلية لهذا الفيلسوف أو ذاك قبل اهتمامه بتفسير حركة التاريخ وظواهره، فجاء تفسير التاريخ ۔ تحت تأثير هذه الظاهرة ۔ تابعاً للرؤى الفلسفية العامة للكون والحياة، مادية أو مثالية أو لاهوتية أو طبيعية، إلا في القليل النادر حين يجعل المفكر مادة التاريخ وأبحاثه مصدره الأول والأساس في تفسير الأحداث والظواهر التاريخية دون توجيهها القسري بحسب الوجهة الفلسفية التي آمن بها مسبقاً.

فلو نظرنا إلى الظروف السياسية التي كان يعيشها ابن خلدون والذي عاش مقرّباً عند عدد كبير من الأمراء والسلاطين، حيث كان الصراع القبلي محتدماً بين ملوك المغرب العربي، ومن طبيعة هذا الصراع أن تكون عصبية القبلية هي الحاسمة في نتائجه، ندرك جيداً لماذا اعتبر ابن خلدون العصبية وحدها مفتاحاً أساسياً وسرّاً كبيراً وراء حركة التاريخ ونشأة الدول وسقوطها. وفي مثل هذا التأثير سيقع الكثير ممن عني بتفسير التاريخ من بعد ابن خلدون.

فتاريخ البشر هو تاريخ المجتمعات، والمجتمعات تحرّكها معادلات الحياة وقواها المتنوعة: عقيدية تختلط فيها الأساطير والأديان والمبادئ، واجتماعية تمتزج فيها جميع العناصر الداخلة في تركيبة مجتمع، من ماضٍ زمني، وموروث ثقافي وجغرافية واقتصاد.[2]فإذا ما حدث وكان المفكر مفسراً للتاريخ، وتفسير التاريخ ۔ كما نعلم ۔ توسيع للتحليل صوب الماضي والمستقبل اللذين يندّان كثيراً عن الحصر والضبط والتحديد، فإن لنا أن نتصوركم سيجيء هذا التفسير مطبوعاً بطابع العصر الذي يعيشه المفسر، وكيف أن الأشياء والوقائع والأحداث في الماضي والمستقبل، ستأخذ اللون الذي يجد المفسر نفسه مضطراً إلى النظر من خلال زجاجته التي أسقطت عليها مواصفات العصر الضلال والأضواء. وهذا يؤدي إلى أن تبعد التفاسير الوضعية، بدرجة أو أخرى، عن العلمية والموضوعية والحياد.[3]

فلقد عانى تاريخ البشر عامة وتاريخ الإسلام خاصة، من (تاريخ) مَن ليس بمؤرخ، ونقد من لا يمتلك أدوات النقد، وفلسفة من لم يتوغل في أعماق طبائع البشر، وتحليل من قبع وراء ذاته، مندهشاً بها عن سائر أدوات البحث والتحليل.[4]

التفسير الإسلامي والرؤية القبلية

في مقابل الرؤية القبلية والموقف المسبق المنحاز، يقف المنهج الموضوعي، الذي يفترض أن يكون الموضوع فيها حيادي بالنسبة لكل العوامل ذات العلاقة بالبحث.

فأين يقع التفسير الإسلامي للتاريخ بين هذين الأسلوبين؟

فهل كونه إسلامياً يعني بالضرورة أن يكون محكوماً برؤية قبلية رسمت له إطاره المحدد، وأن دوره الحقيقي يتمثل بمحاولة حشر حركة التاريخ كله في ذلك الإطار، أو اختزال التاريخ البشري بما ينتظم ضمن حدود ذلك الإطار؟

إن كل تفسير للتاريخ يستند إلى أيديولوجية معينة تمّت صياغتها ضمن عمليات عقلية متأثرة بالبيئة الثقافية، فتجذبه باتجاه، ناضرة من اتجاه آخر، إلى الحد الذي تمنح فيه عامل الجذب الدور الحاسم في الحياة البشرية، وتلغي أو تهمّش أدوار العوامل الأخرى.. إن كل تفسير يستند إلى أيديولوجية كهذه فلابد وأن يقع ضحية رؤيته الخاصة، فيمارس من حيث يدري أو لا يدري عملية حشر وإقحام حركة التاريخ البشري كله ضمن القوالب الجاهزة التي أعدتها له تلك أيديولوجيته، وإن لم يستطع إقحام جميع الأحداث الهامة واستعصت عليه بعضها، فإنه سيضطر إلى اختزال التاريخ بما يمكن سبكه في تلك القوالب.

فالموقف الأيديولوجي البحت لا يقوم بتفسير الواقع من خلال حركته ومعادلاته كما هي، وإنما يتجه دائماً إلى محاولة تدعيم النظرية الخاصة والبرهنة عليها، من خلال الانتقاء والتحميل والتفسير الإسلامي للتاريخ ليس من هذا القبيل؛ لأن الإسلام لم يقدّم نظرية مصاغة باجتهادات أشخاص تأثروا بزمانهم ومكانهم، ليحاول إقحام التاريخ الذي هو حركة البشر في كل زمان ومكان، في قوالبها.

كلا، ليس في الإسلام شيء من هذا القبيل، فالذي قدّمه الإسلام ما هو إلا قراءات معمّقة لوقائع التاريخ الكبرى، بقصد اكتشاف العوامل الفاعلة والمؤثرة في حركة الأمم في سلّم الحضارات، صعوداً وهبوطاً.

فهي قراءة موضوعية لتجارب البشرية، كما كانت في الواقع، مع تسليط الأضواء على العوامل الأساسية ذات الأثر المباشر أو الأساسي في صناعة أحداثها.

هذا ما قدّمه القرآن الكريم، من خلال استعراضه لقصص الأنبياء والأمم وتركيزه على العبرة والموعظة في هذه التجارب البشرية.

من هنا فإن الذي يستفيده المفكر الإسلامي، فيلسوف التاريخ، ليس إطاراً نظرياً محكوماً بعوامل الزمان والمكان، وإنما هو خطوط عامة تمثل انعكاساً حقيقياً لتجارب البشرية في واقعها.

فمن الخطأ إذن أن ينسب التفسير الإسلامي للتاريخ، بهذا المعنى، إلى الرؤى القبلية والتحيزات الذاتية.

فماركس مثلاً تصور مجتمعاً بدون طبقات ثم نظّر رؤيته الفلسفية إلى التاريخ حسب هذه الفكرة القبلية ۔ أي قبل التجربة ۔ ورسم معالم حركة التاريخ على شكل مراحل، من مرحلة المشاعة البدائية إلى المرحلة الأخيرة: المرحلة الشيوعية.

ونفس الأمر بالنسبة لـ (أجوست كونت) الذي نظر إلى حركة التاريخ من خلال فكرة مسبقة: سيادة الفكر الوضعي. فحقب (أ. كونت) حركة التاريخ انطلاقاً من هذه الفكرة القبلية.[5]

والأمر نفسه لهيغل وفيكوياما وفولتير و.. سنأتي عليه بشكل مفصل إن شاء الله تعالى.

ولكن الأمر يختلف تماماً في الاتجاه الإسلامي، حيث إننا لا نجد في سياق التفسير الإسلامي للتاريخ سوى (معالم يقدّمها القرآن الكريم ترشد عملية التنظير في مجال فلسفة التاريخ مثلاً: وعد الله بنصر المستضعفين في صراعهم ضد المستكبرين، انتصار الحق على الباطل. وقد ساعدت هذه المبادئ والمعالم القبلية المفكرين المسلمين وخاصة الشهيد الصدر على توقع سقوط النظامين: الاشتراكي والرأسمالي وسيادة النموذج الحضاري الإسلامي).[6]

نظريات العامل الواحد في تفسير التاريخ

إن الجمهرة الكبيرة من الناس تحاول دائماً أن تخضع بعض القضايا وعلى جميع الأصعدة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو بيئية أو تاريخية وحتى الاجتماعية والدينية منها، إلى حصرها تحت سبب رئيسي، وجعل هذا الأخير هو العامل الوحيد في نشوء هذه القضايا أو تلك، ويرجع هذا التنظير إلى مردود الثقافة التي يعيش فيها ذلك الشخص المفسّر، أو حسب الفكرة التي تحوم حول رأسه وقناعته بأنها الأجدر في هذا التفسير، نأتي مثلاً على الصعيد السوسيو لوجي حالة الزواج، فالبعض اعتبر حب الاستقرار هو المحرك لهذا المشروع وآخرون اعتبروا غريزة الأمومة أو الأبوة على الأثر الفعال في ذلك أو لبناء كيان مستقل تجعل هذا الفرد أو ذاك يبحث عن الزواج.. وهكذا كل حسب الفكرة التي يعتبرها هي المؤثرة.

أما دارسوا التاريخ ۔ الغربيون ۔ فالبعض اعتبر العامل الجغرافي هو الذي يبني التاريخ والحضارات، واعتد هيغل في مثالية العالم المثالي هو الأساس لا غير، وفريق قال بعامل المادة ۔ الاقتصادي ۔ بغض النظر عن العوامل الأخرى، وهكذا. ومن اللطيف أن أحد الغربيين قال بتأثير العامل الوراثي هو الأوحد والأهم.

لكن من الملاحظ أن كل هذه العوامل مشتركة في صناعة التاريخ ولا ينبغي عزل أحدها؛ لأن اجتماعها يساعد في ديمومة وتراكم الأحداث وتنوع النشاط البشري.

وللأسف الشديد ما زالت هذه التيارات تعتمد على العامل الواحد في تفسير أحداث التاريخ، الأمر الذي يضطرها إلى تضخيم دور هذا العامل على حساب العوامل الأخرى التي ستهمل تماماً رغم وجودها الواقعي، مما يجعل من هذا النوع من الدراسة بعيداً عن الموضوعية بقدر ما أهمله من عوامل ذات صلة بالموضوع، وما اصطنعه من ناحية أخرى ليمنح العامل المنتخب لديه دوراً فوق دوره الواقعي.

و نحاول في هذا البحث أن نستعرض أهم النظريات التي اعتمدت العامل الواحد في تفسير التاريخ مع شيء من المقارنة والنقد:

مونتسكيو (1689 _ 1755م) والعامل الجغرافي

من أشهر فلاسفة عصر التنوير فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو، وهذا الأخير فسّر حركة التاريخ وبزوغ الحضارات وعادات وطبائع البشر تفسيراً جغرافياً (فالتغيرات التاريخية عنده مظاهر مختلفة لجوهر واحد).[7] بل وسبب الظروف الجغرافية كان الدين الإسلامي أكثر ملائمة للشعوب المشرقية والمسيحية للشعوب الأوروبية.

واعتبر مونتسكيو العوامل المادية الطبيعية أوالمعنوية الاجتماعية ذات الأثر الفعال في سير الدولة وشخصية الأمة، وأن مزاج الإنسان وأخلاقه وحتى عاداته، كلها نابعة من تأثير الطقوس الجوية على جسم الإنسان وما به من عصارات وإفرازات، (فحيوية الناس في المناطق الباردة غيرها في المناطق الحارة، وقد ترتب على ذلك كثير من الأنظمة الاجتماعية ذات الطابع الخاص في المناطق الحارة كتعدد الزوجات وتحريم الخمر وحجاب النساء، كذلك تأثر به نظام الأمة؛ إذ العبودية طابع المناطق الحارة، ومن ثم سادها النظام الاستبدادي في الحكم!)[8]

بل وإن (حالة القحط قد أدت بالتتار إلى كثرة الحروب والتعطش للدماء والتدمير، بينما تميل القبائل العربية إلى الحرية وإن عانت من القحط أيضاً)،[9]هذا تأثير العوامل المادية الطبيعية.

أما العوامل المعنوية أو الاجتماعية من أهمها المسائل الاقتصادية وأمور الدين، (أما المسائل الاقتصادية فيعرض مونتسكيو لأنظمة التجار والضرائب في بعض المجتمعات القديمة خصوصاً الدولة الرومانية وعوامل تطورها وأثر القوانين الوضعية في النقد وحركة التجار وانعكاس ذلك على عدد السكان وحركتهم ونموهم وتكاثفهم أو تخلخلهم..).[10]

ويتبنى هذا المذهب الجغرافي على مقدمتين:[11]

الأولى: ينسبها إلى علم الأجناس، الذي يقرّر أن الإنسان قد انتشر منذ فجر التاريخ البشري انتشاراً واسعاً في الأرض، فتعرض نتيجة ذلك الانتشار إلى فروق مناخية عظيمة، وهذه الظروف المناخية قد ميّزت الجماعات البشرية بخصائص فسيو لوجية ونفسية متفاوتة.

والمقدمة الثانية: ينسبها إلى علم النفس الاجتماعي، الذي يقضي بوجود صلة وثيقة بين قيمة الخصائص النفسية وبين طبيعة المزايا الفسيولوجية المتفاوتة، (لكن مونتسكيو رغم تركيزه على العوامل الجغرافية، فإنه يحكم على المجتمعات التي تتغلب عليها تأثيرات العوامل الجغرافية بالجمود والضعف وعدم القدرة على الإبداع والتطور).[12]

إن ظروف البيئة تؤثر على حضارات الأمم والشعوب وذات دور في نموها وتبعثرها، لكن لا ينبغي أن نعتبرها هي العامل الوحيد في بناء ذروة التاريخ، بل انضمام هذا العامل مع مجموعة عوامل أخرى يمكن أن يؤثر بشكل أو بآخر في سير التاريخ، لا أن نعزل هذه الظروف عن بقية الحوادث الطبيعية وغير الطبيعية ونعتبره الوحيد في تراكم الأحداث واطّرادها.

ومن أوضح الشواهد التاريخية على ذلك ما حدث لأسبارطا وأثينا: كانت ولايات الإغريق (في الفترة الواقعة بين السنة 733 و325 ق.م) تجابه مشكلة زيادة السكان، فحين ازداد ضغط هذه المشكلة زيادة بالغة قامت الولايات المختلفة بوضعها حلولاً مختلفة (فبعضها مثل كورنتوس Corinth وخالكيس Chalcis تخلصت من زيادة السكان بأن اغتصبت واستعمرت أقاليم زراعية في الخارج وراء البحر، في صقلية وجنوب إيطاليا وتراقيا وأماكن أخرى. ولما كانت هذه المستعمرات الإغريقية قد انشأت بهذا الشكل، فقد وسعت البقعة الجغرافية للمجتمع اليوناني دون أن تغير شخصيته. ولكن ولايات أخرى اتخذت حلولاً نتج عنها تغيير في طريقة حياتها، فسبارطة أوجدت لأبنائها الأرض بأن هاجمت أقرب جيرانها من الإغريق واحتلت أراضيهم، وكانت النتيجة أن حصلت سبارطة على ما كانت تريده من الأراضي الجديدة، ولكن ثمن ذلك كان حروباً متكررة لا تنتهي مع شعوب مجاورة. ولأجل معالجة هذا الموقف اضطر رجال الحكم في سبارطة إلى أن يجعلوا حياة سبارطة حياة عسكرية من رأسها إلى قدمها، وذلك بإعادة القوة إلى أنظمة اجتماعية بدائية مألوفة عند عدد من المجتمعات الإغريقية، واستخدامها، وذلك في الوقت الذي أصبحت فيه هذه الأنظمة في سبارطة وغيرها على وشك الزوال.

أما (أثينا) فقد عالجت مشكلة السكان بطريقة أخرى، فقد وقّفت إنتاجها الزراعي للتصدير وبدأت الإنتاج ثم طورت أنظمتها السياسية بحيث تعطي حصة عادلة من القوة السياسية للطبقات الجديدة التي أوجدهما هذا التجديد الاقتصادي.

وبتعبير آخر تفادى رجال الحكم في أثينا من ثورة اجتماعية بأن قاموا بثورة اقتصادية وسياسية، وإذا اكتشفوا هذا الحل للمشكلة العامة بمقدار ما كان لها من أثر عليهم هم أنفسهم، فإنهم فتحوا مصادفة طريقاً جديداً لتقدم المجتمع اليوناني كله.[13]

سان أوغسطين (354 _ 430) ونظرية العناية الإلهية

تشير نظرية العناية الإلهية إلى أن التاريخ مسرحية ألّفها الله ويمثلها الإنسان، أي أن وقائع التاريخ تخضع للمشيئة الإلهية. والإيمان بالعناية الإلهية في التاريخ يقتضي إيماناً بالله تعالى، فإنها ليست مجرد نظرية ولكنها ترقى إلى مستوى الاعتقاد. وتنكر هذه النظرية القول بالمصادفة؛ لأنها لا تعني إلا الفوضى والعبث، ولولا التدخل الإلهي لأصبح التاريخ كومة مضطربة من عصور متراكمة في عبث أو مأساة رهيبة دون بداية معقولة أو نهاية مقبولة.[14]

آمن الكثير بنظرية العناية الإلهية، كالمصريين والبابليين والآشوريين والأكاديين ثم اليونان، من خلال أن الإنسان جزء من الكون وتسري عليه من النواميس ما يسري على الكون، لكن (اتخذت العناية الإلهية معنى مخالفاً لدى بني إسرائيل، إذ ليس للإنسان دور ثانوي بالنسبة للكون تجري عليه أحكامه ۔ كما كان تصور الحضارات القديمة ۔ بل احتل التاريخ منذ بدء الخليقة إلى سلسلة أنبياء بني إسرائيل جزءاً هاماً في العهد القديم، ومن ثم لم ينفصل التاريخ عندهم عن الدين).[15]

وإن العناية الإلهية مقصورة على شعب الله المختار، وتدخل (يهوه) في وقائع التاريخ من أجل شعبه وأنه سيحقق وعده إليهم بالعودة إلى أرض الميعاد (وتقوى هذه العقيدة لديهم إبّان التشتت والنفي والاضطهاد).[16]

واندلعت نظرية العناية الإلهية بشكل صارخ من الكنيسة الكاثوليكية بعد قيام المسيحية، وأصبحت ذات طابع مسيحي متبلورة عند أكبر فلاسفة اللاهوت سان أوغسطين الذي ذهب إلى أن (الشر قد دخل العالم بمعصية آدم، وكما أن في الإنسان نزعتين: نزعة حب الذات إلى حد الاستهانة بالله، ونزعة حب الله إلى حد الاستهانة بالذات، كذلك في المجتمع مدنيتين: المدنية الأرضية أو مدنية الشيطان، والمدنية السماوية أو مدنية الله، تعمل الأولى على نشر الظلم ونصرته، وتجاهد الثانية في سبيل العدالة، ولقد كانت مدنية الله مختلطة بمدنية الشيطان حتى ظهور نبي الله إبراهيم، ثم تميزت المدنية السماوية فأصبحت في بني إسرائيل، والمدنية الأرضية في سائر الحضارات).[17]

ومهّدت هاتين المدنيتين لظهور السيد المسيح، فمهّدت له المدنية السماوية ۔ بني إسرائيل ۔ له روحياً وبقية الحضارات المتمثلة بالمدنية الأرضية له سياسياً، ومن ثم يجب أن تتحد هاتين المدنيتين روحياً وسياسياً، فالجانب الروحي متمثلاً بـ(الكنيسة) والجانب السياسي متمثلاً بـ(الدولة)، وبالتالي يجب أن تخضع الدولة لمدنية الخير (الكنيسة) من أجل تحقيق سعادة الدنيا والآخرة و(تشرف الكنيسة على الدولة حتى توجهها إلى الحياة الآخرة وتمكّن الدولة الكنيسة من تحقيق أغراضها).[18]

ويعتبر اللاهوت المسيحي أهم واقعة تاريخية شهدها البشر هو صلب السيد المسيح من أجل البشر، كي يفدي خطاياهم، واقعة تاريخية لا يمكن أن تتكرر لفرد آخر، فإنهم يقيسون بعقولهم الضيقة أحكام العقل الإلهي، وبناءً على هذا التصور رأوا أن هذا التفسير هو وحده الذي يكشف عن حكمة الله تعالى الخفية في الوقائع، فواقعة طوفان نوح لا تفسر إلا في ضوء الخطيئة الأصلية من ناحية واكتمال معناها بظهور المسيح من ناحية أخرى، إن عمل الله واضح في انتصار المسيحية أكمل مظاهر العناية الإلهية.

هذا وبعد ما يقارب اثني عشر قرناً ظهرت نظرية الأسقف (جاك بوسويه) لاستمرار تفسير التاريخ من وجهة نظر الكنيسة، وذهب هو الآخر إلى أن التاريخ يهدف إلى إعلاء كلمة الله، والمقصود بكلمة الله عنده: سلطان الكنيسة.

واستعرض في كتابه (مقال في التاريخ العالمي) تاريخ العالم من وجهة نظر دينية، اعتباراً من هبوط آدم عام (4004 ق.م)، وحتى اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية عام (312م) واستخلص مادته التاريخية هذه من الكتاب المقدس لا من وثائق التاريخ ومستنداته، والتاريخ عنده تحكم شعوبه قوانين وضعية قبل شريعة موسى ثم قانون سماوي منذ موسى إلى أن تمّت النعمة الإلهية بالمسيح.[19]

وبالتالي فإن هذه النظرية ۔ نظرية العناية الإلهية ۔ بصورة عامة لا تتجاوز العقيدة المسيحية، بل قيّدها رجال اللاهوت ۔ وكما رأينا ۔ بسلطان الكنيسة الكاثوليكية فيمكن القول إلى أنها ذو مساحة ضيقة ومتقوقعة على نفسها غير مهتمة بالجمع الحضاري على مر عصوره، ومتجاهلين شأن الحضارات القديمة. ولا نتفاجأ حينما نرى أنها مرفوضة من قبل كل المؤرخين وفلاسفة التاريخ وحتى بعض الكاثوليك أنفسهم.

(وبذلك انحسر تاريخ العبرانيين الذي بالغ رجال اللاهوت في قيمته التاريخية إلى مكانته الحقيقية، هذه لا ترقى بأية حال إلى مكانة أية حضارة من حضارات الشرق القديم).[20]

إنها لا تعد تفسيراً لتاريخ البشرية، فقد قيّدت منذ البداية مفهوم العناية الإلهية بالحالة المسيحية، بحيث يتعذر على غير المسيحي أن يسلّم بها، وجعل البشر لعبة بين الله والشيطان، إنها في الحقيقة أشبه بسرد قصصي لا واقع له، فهو يعجز عن تفسير أضيق واقعة تاريخية تتماشى مع واقعها الذي تكونت فيه، بل لقد ذهب (هرنشو) إلى أنها (ليست فلسفة ولا تأريخاً وإنما مجرد لاهوت مقصص قام به خيال قديس، لقد مسخ فيه الحقيقة وجعل البشر كقطع شطرنج في لعبة على رقعة الزمان بين الله والشيطان).[21]

فبعيد عن الحقيقة تصور حضارات العالم القديم على أنها تمثّل الشر، وأبعد عن الحق حتى من الناحية الدينية البحتة تصور بني إسرائيل على أنهم ممثلون للخير أو مدينة الله وإلا كيف يفسّر قتلهم الأنبياء، ومن ثم وجدت هذه النظرية ردود فعل عنيفة في عصر التنوير.[22]

وانتقد (فولتير) نظرية العناية الإلهية كأساس لتحديد مسار التاريخ، وشنّ حملته على الكنيسة ورجال الدين المؤرخين؛ لما انطوت عليه نظريتهم من روح عنصرية متعالية وفكرة جبرية خرافية، فالدور التاريخي الذي مثّله اليهود يعكس ۔ كما يرى فولتير ۔ أنهم أحقر شعوب الأرض، قطّاع طرق ممقوتون مخرّفون همجيون، منحطّون في الفقر وَقِحون في الغنى، إذا كتب لهم الظفر فتكوا بالمغلوبين وبطشوا بالنساء والأطفال في نشوة جنونية، وإن كتبت عليهم الهزيمة تجدهم في مذلة مشينة ومهانة مزرية، فهل شمل الله بعنايته هذا الشعب الوضيع كما تقول التوراة ليكون شعب الله المختار، أو ليكونوا مخلّصي الجنس البشري؟!

وفي ناحية أخرى أفصح (فولتير) عن خطأ الاستناد إلى قصص العهد القديم واتخاذها أساساً للتاريخ ليس لمبالغة هذه القصص في الاهتمام بالعبرانيين واحتقار شعوب الشرق الأخرى فحسب، بل لأن هذه القصص موضع شك من الناحية التاريخية.

وانتقد بشدة وجود الشر في العالم.. ذلك أنه إما أن الله قادر على أن يزيل الشر عن العالم أم لا، أو أنه يريد الشر أو لا يريده، أو أنه قادر ومريد، فإذا كان مريداً إزالته ولا يقدر فذلك ينقص من قدرته المطلقة، وإذا كان يقدر ولا يريد فذلك ينقص من خيرته، وإذا كان لا يقدر ولا يريد، فذلك ينقص من قدرته وخيرته معاً، وإذا كان يقدر على إزالته ويريد ذلك فمن أين جاء الشر في العالم؟[23]

الشهيد الصدر انتقد أيضاً التفسير الغيبي الجبري للأحداث من خلال طرحه لسنن التاريخ، فهناك سنن إلهية ضمن قوانين وضوابط مشروطة، لكنه لم ينفرد بها لتفسير نواميس الطبيعة وأحداث العالم الماضي أو الحاضر؛ لأن هناك عوامل أخرى فعّالة في هذا الوجود الزمني المتراكم.

انطلاقاً من قوله تعالى: <أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ>[24]، ونظائرها من الآيات القرآنية التي تقرر أن الساحة التاريخية مثل كل القضايا والساحات الأخرى لها سنن وضوابط.

لقد ألغى الإسلام _ بهذا المفهوم _ النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية لتفسير الأحداث.. وهذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهّد إلى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون إلى محاولة فهم التاريخ فهماً علمياً.[25]

و القرآن الكريم بلغ في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية أن أناط نفس العمليات الغيبية في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها، فالإمداد الإلهي الغيبي الذي يسهم في كسب النصر جعله القرآن الكريم مشروطاً بالسنة التاريخية <أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّٰا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ..>.[26] و<إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاٰثَةِ آلاٰفٍ مِنَ الْمَلاٰئِكَةِ مُنْزَلِينَ>.[27] فالإمداد الإلهي الغيبي مشروط بسنة تاريخية <إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا>. وهكذا يقوم تفسير التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم.[28]

يقول الدكتور عماد الدين خليل في تحليله لمصادر الحدث التاريخي:

إن أي حدث تاريخي إنما يجيء تعبيراً عن إرادة الله تعالى، ولكن ليس كما يفهمه أصحاب التفسير الإلهي والجبريون من إلغاء لوجود الطبيعة ولدور الإنسان؛ ذلك أن الفعل الإلهي ۔ كما بيّنه القرآن في حشر كبير من آياته ۔ يتخذ شكلين رئيسيين:

أولهما: الإجراء المباشر للفعل التاريخي، وهذه المباشرة تكون على مستويين: المستوى الأول اعتماد نواميس الطبيعة والتساوق معها. والمستوى الثاني: تجاوز مقاييس الطبيعة، في ما يُعرف بالمعجزات.

و ثانيهما: الفعل الإلهي غير المباشر في التاريخ، وهو ما يجيء عن طريق الحرية الإنسانية ذاتها.[29]

و لو سلّطنا الضوء على تفسير الأحداث حسب هذه النظرية لرأينا أنها تنفي إرادة الإنسان بكل جوانب تحركه وعلى مر العصور، وكأن التاريخ يسير وفق قانون النظرية اللاهوتية لا غير، ناسين أو متناسين أهم العوامل التي ساعدت على رسم التاريخ برقعة الزمان.

والصحيح أن حركة التاريخ ثلاثية الوجود (الله تعالى + الطبيعة + الإنسان) هي التي تخلق التاريخ، فعلاقة الإنسان بالطبيعة وبالله عزّ اسمه هي التي تبني التاريخ ولو لا تدخّل الإنسان كيف يمكن أن نتصور ديمومة التاريخ؟!

فعلاقة الإنسان بالله؟عز؟ مع اندماجه بالطبيعة الحية بما تضم المجتمع هو المصدر الأساس الفعال في نمو وسير الأحداث وتسرّع حركتها، فالتاريخ (هو الذي يشمل الإنسان في كل جوانبه، إلى درجة أن الزمان هو الذي يعيش الإنسان فليس الإنسان هو الذي يعيش التاريخ)[30]، أي أن الإنسان هو الفاعل الأساسي في نشوء التاريخ وحركته لا الأحداث التاريخة (لأن هذه الأخيرة لا تستمد معناها إلا من الإنسان).[31]

فسلب إرادة الإنسان واختياره يتضمن بالتالي نفي سنن التاريخ وقوانينه. فهذه الإرادة هي المحور الأساس في تسلسل الأحداث وفي نجاح الحضارات وتدهورها، بل ونزول البلاء أيضاً، فقد جاء في كتاب الله العزيز: <إِنَّ اللَّهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ..>[32] و<وَتِلْكَ الْقُرىٰ أَهْلَكْنٰاهُمْ لَمّٰا ظَلَمُوا وَجَعَلْنٰا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً>،[33] طرح السيد الصدر هذا المفهوم باعتبار أن إرادة الإنسان هي المحور الفعّال في البناء الحضاري التاريخي، وتسلسل أحداثهما:

ويظهر جلياً دور الإنسان الحر في التاريخ في كافة السنن التاريخية التي عرضها القرآن الكريم على شكل (القضية الشرطية) أي الشرط والجزاء.. فهذه السنن تلعب دوراً عظيماً في توجيه الإنسان حين تعرّفه بإمكاناته الحرة إزاء الجزاء، فما عليه إلا أن يوفر شروط القانون ليأتي الجزاء مناسباً لفعله الحر.

إذن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس في حركة التاريخ، وأن هذه الحركة غائية مربوطة بهدف، وليست سببية فقط، أي أنها حركة مشدودة إلى المستقبل، فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من أنظمة التاريخ، وهذا المستقبل يتحرك من خلال وجود الذهن البشري، وهذا الأخير هو، المحرك، والمدار لحركة التاريخ.

إذن فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان ۔ الفكر والإرادة ۔ وبين البناء الفوقي والتاريخي للمجتمع، هي علاقة تبعية ۔ حسب طرح السيد الشهيد ۔ أي علاقة سبب ومسبب، فكل تغير في البناء الفوقي والتاريخي للمجتمع إنما هو مرتبط بتغير المحتوى الداخلي.[34]

ويرى الصدر أن ارتباط الإنسان بالتعالي ۔ ربانية السنة التاريخية ۔ أي انشداده بالله تعالى في تحركه داخل منحنى التاريخ، مع تفاعله بالأنظمة الكونية وقوانينها، إلغاء لـ(التفسير الإلهي للتاريخ) الذي يربط الحادثة التاريخية بالله تعالى مع عزلها عن بقية الحوادث الواقعة، وفي إسباغ الطابع الغيبي لسنن التاريخ يحوّل المسألة إلى مسألة غيبية وعقائدية، فيخرج القرآن عن إطاره العلمي الموضوعي في حين نجد أن القرآن الكريم (بلغ في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية أن أناط نفس العملية الغيبية في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها، فالإمداد الإلهي الغيبي الذي يسهم في كسب النصر جعله القرآن الكريم مشروطاً بالسنة التاريخية <أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّٰا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ..>[35] وهكذا يقوم تفسير التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم).[36]

وهكذا يمكن القول بأن علاقة التاريخ بالتعالي[37] لا تشكّل عائقاً إبستمولوجياً أمام التنظير الفلسفي للتاريخ، فالتعالي والقدر والإمداد الغيبي سنة من سنن الله. هذه المفاهيم القرآنية لا تتناقض مع العلاقة السببية التي تخضع لها الحوادث التاريخية.

إن خضوع التاريخ لسنن الله يعني ربط عالم الشهادة بعالم الغيب من جهة، وربط الحوادث التاريخية بعضها ببعض من جهة أخرى.[38]

فهذه السنن التي يسير التاريخ بمقتضاها لا تتناقض مع حرية الإنسان وحركته (إذ لا يمكن للإنسان أن يساهم في حركة التاريخ ما لم يخضع التاريخ إلى نظام أو سنن. فالحرية لا تعني الفوضى والعبث، وتدخل الإنسان في حركة التاريخ هو سنة من السنن الإلهية في الكون).[39]

فالشهيد الصدر ۔ كأحد منتقدي هذه النظرية ۔ تناول هذا المفهوم بعمق، وحاول أن يبيّن رؤية الإسلام إلى التاريخ بأنها ليست رؤية وضعية ۔ كما ذهب إليها أصحاب هذه النظرية ۔ بل رؤية علمية من خلال ربط التاريخ بالغيب، وفق نظام متكامل، إضافة إلى أنه لا يمكن أن ننفي تدخّل العقل في حل الظواهر التاريخية؛ لأنه لا يمكن للتاريخ أن يتحرك بعوامله الذاتية فحسب، بل لابد من تشابك العوامل لتكونه تاريخاً حقيقياً لا مجرد قشرة يعبث بها الهواء. فالحوادث التاريخية لا تتخبط بصورة عشوائية؛ بحكم خضوعها إلى قوانين وسنن ثابتة.

من كل هذه الجوانب يتبين تهافت هذه النظرية في تفسير التاريخ، وهكذا كل نظرة تنحصر في زاوية واحدة من زوايا التاريخ فإنها تشكّل عائقاً منهجياً في تفسير ما وقع من أحداث، فهي أضعف من أن تقف على قدمين ثابتين أمام النقد.

هيغل (1770 _ 1831) والبعد المثالي لتفسير التاريخ

صراع الأضداد أو ما يسمى بالجدل، الديالكتيك (فكرة + نقيضها)، هو البعد الذي اعتمده هيغل في تنظيره لحركة التاريخ، فالتاريخ عبارة عن مزيج من الأضداد؛ إذ لا يمكن أن تتوضح الأحداث والحقائق دون صراع، والديالكتيك هو سر حركة التاريخ، فكل فكرة تولد معها أضدادها ونقائضها، ويستمر الصراع دائماً، ثم تلتقي هذه المبادئ المتناقضة في نقطة عليا هي (الموحّد) أو (العقل المطلق).

وهذا الموحد يندفع مرة ثانية إلى الحد الأقصى، وينشب صراع جديد فيتولد حينئذ مرة أخرى موحد يحوي ما هو فعّال من كل من الفرضية ونقيضها، وبهذا الأسلوب الثلاثي تتقدم الفكرة حتى تصل آخر الأمر إلى (المطلق) الذي نستطيع أن نبقى نتأمله إلى الأبد دون أن نتبين فيه أي تناقض.[40]

وهذا المطلق (له وجود ذاتي أزلي.. ومنه تنبثق الطبيعة، وهي تغايره تماماً، فهي مقيدة محدودة ومتفرقة.. وبذلك ظهرت الفكرة المطلقة في ما وجوده مقيد محدد، في ما هو نقيض للفكرة في العقل المطلق..).[41]

فالتاريخ إذن ذو حركة تصاعدية أبدية نحو المطلق، فذروة التطور ۔حسب رأى هيغل۔ هي نتيجة صراع الأضداد، فكل ظاهرة تحمل نقيضها في داخلها، يدفعها إلى الأمام ويؤدي إلى تحطّمها وتحوّلها إلى شيء آخر، فتحطّم الظاهرة الأولى إنما هو فرصة لانبثاق ظاهرة جديدة، غير أن هذه الظاهرة الجديدة تحتوي على كل العناصر الفعالة للظاهرة السابقة.

صيرورة التاريخ هذه ليست متروكة ۔ عند هيغل ۔ للمصادفة، إنما وراءها تخطيط يقود هذا الصراع وهذه الحركة التكاملية من أجل الهدف الأساس الذي يتمثل في تطوير (روح العالم) حتى تبلغ غايتها في (تحقيق الذات).

يقول هيغل:

إننا نستنتج من تاريخ العالم أن تطوره كان دائماً صيرورة عقلية، وأن هذا التاريخ قد أنشأ الطريق المنطقي الضروري لروح العالم، تلك الروح التي طبيعتها دائماً واحدة لا تتغير، والتي تعرض هذه الطبيعة في ظواهر وجود العالم.. لذا فإن حركة التاريخ إنما هي انعكاس لعواطف البشر وعبقرياتهم وقواهم الفعالة التي تقوم بدورها على مسرح العالم الكبير، وإن الصيرورة التي تقررها المشيئة السامية المهيمنة والتي تعرضها تلك العواطف والعبقريات والقوى الفعالة، هذه الصيرورة تكوّن ما يسمى بصورة عامة بخطة المشيئة العليا.[42]

وحتى على مستوى النظريات الفلسفية، فالنظرية المطروحة في كل حقبة من الحقب ما هي إلا تعبير عن صيغة إدراك روح العالم لذاتها، وهذا النحو من الإدراك يواكب دائماً المحتوى التاريخي لمرحلة ظهور هذه النظرية، ففي المرحلة اللاحقة سوف يظهر هذا الشكل قديماً، يزيحه نقيضه ۔ الظاهرة الجديدة ۔ التي تعبّر من خلالها روح العالم عن ذاتها بشكل آخر، أكثر تطوراً وأقرب إلى الغاية.

و هكذا ستمضي سلسلة الصراعات الحتمية التي لا تتوقف، والتي يظهر من خلالها أن الإنسان يجري ضمن إرادة روح العالم وقانونها الخاص في التطور، وليس هذا الذي يصنع التاريخ، فعظماء الرجال والعباقرة ليسوا هم صانعوا التاريخ، بل هم أدوات في تحقيق التطور والنمو، مثلهم كمثل الذي يضع حجراً في أكداس البناء؛ لأن جميع الأعمال تتم بأمر (روح العالم) وقوله في العظماء: (إنهم ربما يعتبرون أنفسهم رجالاً أحراراً يستمدون باعث حياتهم من أنفسهم ومما يشعرون به شخصياً من أنواع الاهتمام والميول، ولكن الحق أنهم جميعاً دمى في يدي (روح العالم)!)[43]

والشيء الذي يميز هؤلاء العظماء عن غيرهم هو صفاء النظر؛ لأنهم يسمعون نداء (روح العالم) بوضوح أكثر من عامة الناس، وهم ۔ بنظر هيغل ۔ معصومون من الخطأ، ولا يجوز انتقادهم..!

الدولة في فلسفة هيغل

نظر هيغل إلى الدولة بأنها الروح المتجسدة تجسداً كاملاً على الأرض ويعرّفها هيغل بـ(الفكرة الإلهية) وهي الصورة النهائية التي تمثّل موضوع التاريخ، وعلى الأفراد ۔ بحكمهم أعضاء الدولة ۔ أن يلتزموا بالطاعة التامة للدولة؛ لأنها تمثل ۔ عند هيغل ۔ العقل المجرد، وهذا الأخير هو عقل مطلق، وعلى ذلك فهي لا تعترف بسلطة سوى سلطتها، وتتركز الدولة في سلطة الملك أو الحاكم وهو الذي يعبر عن روح العالم (وحتى إن بدا الملك أو الحاكم قاصداً مصالحه الذاتية فإنه من خلال هذه المصالح تتحقق رسالة التاريخ).![44]

ولذلك وصف هيغل بأنه (فيلسوف مجلس الحكم السرّي وحكم طبقة إداريي الدولة).![45]

أهم الملاحظات العلمية على ميتافيزيقية هيغل

يلاحظ بدءاً على تنظيره في سير التاريخ البعد عن الواقع الحقيقي، فهو لم يعط للمادة التاريخية إلا أضيق مكان، بينما أسند وقائع التاريخ إلى قوة خفية هي التي تسيطر على أفعالنا وخلجاتنا، وهو لن يعطي جواباً على السؤال المطروح: إذا كانت كل الأفعال والحوادث في العالم وعلى مر العصور ليست نتيجة الإرادة الشعورية الواعية للأفراد، فكيف تم القيام بها؟! إن فلسفة هيغل هي عبارة عن ملاحظات ومشاهدات روحية ليست منطقية ولا تتوفر على بعد معقول.

أضف إلى ذلك أن فلسفته السياسية ليست ناتجة عن فلسفته الخالصة، فمشروع الاستبداد وعلاقة الفرد بالمجتمع ليستا نتيجتين منطقيتين لهذه الفلسفة، ومن الواضح أن آراءه السياسية هي من نتاج عقله، فهو رجل مستبد.

يقول (بوبر):

إن هيغل قبلي جديد، أخرج أرنباً حقيقياً من تحت قبعته مابعدالطبيعة الحريرية، وهو أمر سهل بمساعدة المنهج الديالكتيكي! ولولا دعم الحكومة البروسية لم يتمكن أن يصبح أول رجل منقذ في الوسط الفلسفي الألماني. أقول بالتأكيد إن فلسفة هيغل مستلهمة من دوافعه لاسترجاع حكومة فردريك الثالث، لذا يجب أن لا نعتبرها فلسفة حقيقية.. .[46]

وليس غريباً أن يرفض المؤرخون والفلاسفة أيضاً أحكامه التاريخية؛ وذلك لخلوّها من أي مضمون. والآن مع التفصيل الكامل لكل فقرة من فقرات طرحه الفلسفي:

١. لو سلمنا واعتقدنا أن كل فكرة أو فرضية تولّد معها نقيضها، فلابد أن يكون هذا النقيض من الفرضية من كل جوانبها، وهذا يعني عدم وجود عامل مشترك أو توافق بين النظامين، فكيف نسلّم إذن باتفاق النقيضين بعد دورة صراع؟

إن الاتحاد بين الأضداد لا يكون ممكناً إلا حين يكون هنالك توافق أو شبه توافق بينهما، ولو فرضنا وجود عوامل مشتركة بين الأضداد فحينئذ لا يمكن أن نطلق عليهما اسم النقيضين، وبالنتيجة يكون التوفيق بين الفكرة ونقيضها ناتج عن (تجاذب) لا تنافر وصراع. وقد ادّعى هيغل أن هذا النقيض لا ينفي إلا النواحي الناقصة من الفكرة أو الفرضية الأخرى، فهذه مغالطة كبرى تبين أن صراع الأضداد منطقي وهذا مرفوض قطعاً.

٢. يقول هيغل:

إن الأفراد ليس لهم من الخطوط العريضة من التطور التاريخي إلا معلومات بسيطة جداً فيما يقومون به فعلاً، إذ أنهم كلهم مجرد أدوات وليسوا سادة هذه الصيرورة التاريخية، فهذه الصيرورة صيرورة لاشعورية بالنسبة للأفراد.

حسناً لو كانت كل الأفعال والحوادث ليست نتيجة إرادة الأفراد الواعية فكيف تم القيام بها؟

إن هيغل لا يعطي جواباً معيناً عن هذا، بل إنه ليبدو كأنه ليس الأمر المهم هو كيف تم القيام بها، وإنما إلى أي حد تبدو هذه الصيرورة اللاشعورية، حين نلتفت إلى الوراء لننظر إليها، منطقية ممكنة التصور؟ وهو يتحدث عن كل هذا التطور كما لو لم يكن من عمل القوى العقلية لأي شخص، وهو مع ذلك من عمل (العقل بصورة عامة)، كأن الأفكار يمكن أن تؤدي عملها دون أن تكون هذه الأفكار في عقل أي شخص.

هذه الطريقة من الكلام ليست سوى إضفاء الارتباك والإبهام على الكلمات.[47] قال بليخانوف: وجد هيغل نفسه في ذات الحلقة المفرغة، التي وقع فيها علماء الاجتماع والمورخون الفرنسيون، فهم يفسرون الوضع الاجتماعي، بحالة الأفكار، وحالة الأفكار بالوضع الاجتماعي.. وما دامت هذه المسألة بلا حل، كان العلم لا ينفك عن الدوران في حلقة مفرغة، بإعلانه أن (ب) سبب (أ) مع تعيينه (أ) كسبب لـ(ب).[48]

٣. ثمة ناحية أخرى ناتجة عن عدم السير الصحيح في أفكار هيغل، فهو يعتقد أن كل عصر جديد أرقى من الذي سبقه (لأن الموحد الذي هو نتيجة التوفيق بين العناصر الصحيحية الفعالة من الفرضية ونقيضها، يجب أن يخطو خطىً واسعة إلى الأمام، وكل حضارة إذن يجب أن تليها حضارة أرقى منها، لكن هذا أمر ينفيه تاريخ الحضارات، فليس هناك نموّ متناسق يتبع نظاماً لا شذوذ فيه ويمكن نقله من شعب إلى شعب في هذا العالم!)[49]

إننا إذا اعتقدنا أن الموحد الحضاري لعصرنا هذا هو ناتج ثانوي للدم السليم النقي لكل الحضارات السابقة التي عرفها الإنسان حتى الآن، فإنه طبعاً يجب أن يكون أحسنها وأكملها من كل الوجوه، لكننا نجد الحقيقة مخالفة لذلك تماماً، فعصرنا عصر يسير فيه الانحطاط الخلقي عند الناس جنباً إلى جنب مع التقدم المادي، فكيف يستطيع هيغل وأتباعه أن يوفقوا بين هذين الاثنين؟[50]

يقول (توينبي): لقد ارتقى علمنا فبلغ درجة لم يسبق له أن بلغها.. ومع ذلك فقد انتكسنا في نفس الوقت في الحروب الطبقية والقومية والعنصرية إلى الأعماق قد لا يكون سمع بها أحد قبلنا.

4. وقع هيغل في تناقض نظريته ۔ روح العالم ۔ تتجه نحو تحقيق الكمال، مع أن هيغل ركّز في نظامه الفلسفي على عدم تواجد فكرة الانتهاء في الحين نفسه (ادّعى أن دولة بروسيا كانت قد بلغت الكمال حقاً بحيث لم تكن أي ثورة تالية تستطيع أن تأتي بغير المصائب في أعقابها).[51]

يقول ول دورانت: من غير الطبيعي أن يتحول هذا الفيلسوف الداعي إلى الصراع كوسيلة للنمو والتطور والرقي إلى مؤيّد للقناعة والرضى! ولكن الإنسان في سن الستين له الحق في أن يطلب الهدوء! ومع ذلك فإن التناقض في أفكاره كان أعمق بكثير من أن يحقّق السلام.. وحالف هيغل الحكومة البروسية وربط نفسه بها، وباركها بكونها التعبير الأخير عن المطلق، وتمتّع مقابل هذا التأييد والولاء بمركز علمي كأستاذ في الجامعة، وأطلق عليه أعداؤه اسم الفيلسوف الموظف.[52]

5. هيغل يكره كل ما يعارض العقل البشري؛ لأنه هو وحده الذي يوجّه العالم، وأن مبدأ الصيرورة الكونية والأنظمة الاجتماعية وأشكال الحكم تسير وفق خطوات مبدأ العقل وحركته؛ لذلك قال قولته الشهيرة: (إن كل ما كان معقولاً فهو حقيقي وكل ما كان حقيقياً فهو معقول) ومن هنا وضع هيغل نظريته الديالكتيكية المثالية وهي (بتطور العقل تتطور الحقيقة).

(بيند توكروجه) علّق على هذه الناحية الفلسفية بقوله: (إن فكرة هيغل عن الحياة كانت فلسفية، بحيث إن النزعتين: المحافظة والثورية، كل في دورها، تجد فيها ما يبررها، وفي هذه النقطة يتفق (إنجلز) الاشتراكي والمؤرخ المحافظ (تراتيشه)؛ لأن كليهما يرى أن تماثل المعقول والحقيقي يمكن أن يدعى إليه بصورة متساوية في كل الآراء السياسية والأحزاب التي تختلف عن بعضها، لا من ناحية هذه الصيغة المشتركة، بل في تعيين ما هو المعقول والحقيقي وما هو غير المعقول وغير الحقيقي. وفي كل مناسبة يعد ذلك الحزب السياسي العدّة لشنّ حرب على نظام أو طبقة من طبقات المجتمع فإنه يدّعي أن خصمه مخالف للمعقول، أي أنه ليس له وجود ملموس وحقيقي، ويكون بهذا الادعاء قد وضع نفسه مع الفلسفة في خط واحد).[53]

برغم من أن هذه النظرة تتعانق مع كل معالم الفجور والطغيان، فهي أيضاً لا تبتعد عن البلبلة والهيجان، فلو سلمنا أن المعقول حقيقي، وتبيّن أن الحقيقي غير معقول ولا يتماشى مع أفكاره، فهذا دليل على أنه صار قديماً عتيقاً، ولابد إذن أن يُحكم عليه بالتحطيم والفناء، فبالفترة التي كانت فيها الملكية قائمة تكون معقولة وفي الوقت الذي أصحبت فيها غير معقولة زالت وبعدت عن الحقيقة المدعاة.

إذن كيف يمكن أن تميز أنظمة الحكم معقولة أو مخالفة للمعقول؟

يمكن أن يجاب على ذلك: النصر والهزيمة في الميدان الحربي هو الذي يقرر ذلك.

(ففي هذا النظام الذي يمتزج فيه غير المحدود والمحدود في شيء واحد، والخير والشر يؤلفان صيرورة واحدة، والتاريخ فيه هو عين حقيقة الفكرة والروح، ولا شيئاً خارج إطار تطورها التاريخي، في هذا النظام تكون كل حقيقة، لمجرد كونها حقيقة، حقيقة للفكرة وتابعة للكل المحسوس الذي لا يتجزأ؛ لذا فكل التاريخ عنده يصير تاريخاً مقدساً)،[54] حتى لو كان وبالاً عليه، فكيف لو حكم التاريخ عليه بالفناء والتحطم؟!

6. ولابد أن نقف في نهاية الأمر عن مفهوم الدولة في نظرية هيغل، فهو يعتقد أن الانفصال مستحيل في عالم الحقيقة، وهو يرى أن (الكل المطلق) وحده هو الحقيقي وكل ما دونه إنما هو وهم وخيال، وبذلك استنتج أن الدولة هي المجسدة للكل فهي الحقيقة الصادقة وفيها وحدها توجد الفكرة الإلهية، وأن الفرد لو أراد أن يحقّق وجوده لم يستطع ذلك إلا كعضو من أعضاء الدولة (ولكن في هذه الفكرة شيئاً كثيراً من التناقض، فالمشكلة: هي لماذا يجب علينا أن نأخذ الدولة وحدها كتجسيد لكل ولماذا لا تأخذ العالم كله كـ(كل) والدولة بمثابة أقسامه؟ إن ذلك أقرب إلى الحقيقة وأكثر اتفاقاً مع فلسفة هيغل)؛[55] لأن روح العالم هي المسيطرة على أرجاء الأرض وكل ما فيها من دول وأفراد، فكل أفعالنا هي امتثالاً لها ووفقاً لرغبتها، فهذا التعظيم المفرط للدولة جعل الناس يخضعون لها بدون قيد أو شرط حتى لو كانت الدولة صارمة في قوانينها!!

إن الفاشية هي الطفل السياسي الذي أنجبته ديالكتيكية هيغل، يقول (دوغلايى إينسلي):

إن اعتبار هيغل للحقيقي والعقلي شيئاً واحداً قد أدّى به إلى أن يساند باندفاع عمل الدولة وكل العظماء.. إن (موسوليني) ليتحدث عما في قلب هيغل حين يقول: إن الدولة هي المطلق حين تقارن بكل الأفراد أو الجماعات،إن توسع الأمة عرض جوهري للحيوية، ونقيضه هو علامة التردى والانحطاط.[56]

هذا بالإضافة إلى أن ساسة الدولة الكبار هم بمثابة المعصومين، فلا يجوز لأحد انتقادهم ولا حتى معارضتهم؛ لأن كل ما يقومون به صحيح ويجب أن يطاع وينفّذ حتى لو تعارضت مع الأخلاق، مما أدى ذلك إلى اتباع أوامر الحكام اتباعاً أعمى بعيداً عن الحق!!

٧. ومن أجل أن يبرهن (هيغل) على صحة ديالكتيكيته، تلاعب بالحقائق التاريخية وغضّ النظر عن واقعها، حينما جعل العالم ذا شكل ثلاثي يتمثل في العالم الشرقي والإغريقي والعالم الجرماني، وهذه عنده هي الفرضية ونقيضها الذي يمكن أن يصبح لها واقع محسوس من خلال هذه الصيغة المطروحة، ففي تصوره (أن العالم الشرقي عرف ويعرف أن شخصاً واحداً فقط حرّ، والعالم الإغريقي الروماني أن بعض الناس أحرار. والعالم الجرماني أن كل الناس أحرار؛ لذا فشخصية الأول استبدادية والثاني ديمقراطية وأريستقراطية، والثالث ملكية. وهذا الاستنتاج قد أراد الوصول إليه لغرض مساندة الحكم الملكي في ألمانيا؛ ولأجل أن يثبت هذا الثلاثي فإنه بمحض هواه غطّى حقائق كثيرة في المكان والزمان ومارس أسلوباً انتقائياً يرفضه المنهج التجريبي العلمي الصحيح).[57]

هذا (ولقد أصبحت نظريته التاريخية جزءاً من أيديولوجية أبشع النظم السياسية وأكثرها تعصباً وبربرة. إنه النظام النازي).[58]

هذا من وجهة نظر الفلاسفة والمؤرخين الكبار. أما من وجهة نظر دينية:

انتقد السيد الصدر المفهوم المثالي للتاريخ من خلال نظرته العلمية للواقع وللظواهر التاريخية والاجتماعية، فالحوادث التاريخية لا تتخبط بصورة عشوائية، وإنما من خلال مجموعة عوامل مترابطة، الواحدة مكملة للأخرى مع ارتباطها بالتعالي من خلال وجود سنن إلهية.. كل هذه العوامل مشتركة في البناء الحضاري، أو في السقوط الحضاري، واعتمد بتحليله لتاريخ الحضارات على التفسير السوسيولوجي (علم الاجتماع) والتاريخي (تسلسل الحوادث) لتفسير التاريخ، وبذلك تجدر الإشارة بنا أن تذكر بعض المؤاخذات التي طرحها السيد الشهيد على تفسير هيغل المثالي من خلال وقفة مقارنة بين الاثنين:

المجتمع كائن عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الأفراد، وكل فرد ليس إلا بمثابة الخلية في هذا العملاق الكبير.. إذن كل قابلية وكل إبداع وكل فكرة هو قابلية ذلك العملاق وإبداعه، وكل فرد إنما هو تعبير عن نافذة من النوافذ التي يعبّر عنها ذلك العملاق الهيغلي.. هذا التصور ليس صحيحاً ۔ في محاضرة للسيد الشهيد حول السنن التاريخية ۔ يقول الشهيد الصدر:

نحن لسنا بحاجة إلى مثل هذا الافتراض الأسطوري، لكي نميز بين عمل الفرد وعمل المجتمع.. باعتبار أن المجتمع يشكّل أرضية له، ويشكل علة مادية له.[59]

لقد بنى هيغل رؤاه الفلسفية على أسس لم يختبر صحتها، فتسرع في استنتاجه وفي تعميمه في صياغة مذهبه الفلسفي، أما الصدر فإنه انطلق من مبدأ عقلاني موضوعي علمي في تحليله لهذه الظواهر والنواميس الطبيعية، اعتمد على القرآن الكريم في صياغة أفكاره الفلسفية وعلى النظرة الدينية الجادة التي لا تخرج عن الواقع الحقيقي، وأن الصدر بمواقفه إزاء الظواهر والوقائع التاريخية لا ينفي حقائق التاريخ، فمن خلال وعيه أكد على عقلانية التاريخ، والتي تستمد مصدرها من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والروحية، كل هذه العوامل ذات الأثر الفعال في سير حوادث التاريخ وترابطها، وفي نظر الصدر الإنسان هو المؤثر الحقيقي في صناعة التاريخ، وليس التاريخ هو صانع الإنسان ۔كما ذهبت إليه المدرسة الوضعية۔ وأن الوقائع التاريخية لا تستمد معناها إلا من الإنسان لا من خلال عقل كوني، وأن كل أفعال وحركات الإنسان طبيعية وإرادية، فلا معنى لكونه خاضعاً لقوة هي المسيطرة على أفعاله وخلجاته من أمثال روح العالم حسب نظرية هيغل. إذن فالشهيد لم يهرب من الواقع من خلال تفسير مثالي طوباوي متطرف كما هو الأمر عند هيغل.

إن هيغل عندما جعل التاريخ هو المرجعية التي تكفي نفسها بنفسها كان أمام خيارين:

إما أن يترك التاريخ مفتوحاً، يعني أن فيلسوف التاريخ لا يعرف من التاريخ إلا جزءاً صغيراً لا يسمح له بإعطاء معنى لحركة التاريخ ككل، ويتوقع معالم هذه الحركة.

والخيار الثاني هو أن يختم هيغل التاريخ بظهور نابليون، الأمر الذي يجعل هيغل يقول بنهاية مصطنعة للتاريخ.

وبذلك لم يتردد هيغل باتجاه الخيارين المطروحين، واختار ختم التاريخ بدلاً من فتحه للمجهول، وبذلك استسلم هيغل لوقائع التاريخ وبدأ يقدّسها.. وهنا لابد للتاريخ هو الذي يحكم على المؤرخ لا المؤرخ نفسه هو الذي يحكم على التاريخ (باستثناء هيغل في نظر هيغل!)[60]

وهذا الموقف هو من أخطر المواقف في حياة الشعوب؛ لأنه يبرر الواقع مهما كان فاسداً لمصالح تغيب فيه معالم الأخلاق والتصور، بصورة مباشرة (هيغل) أو غير مباشرة (الفلاسفة الآخرون)، (أما في الرؤية الإسلامية التي يطرحها الصدر فالمعيار يوجد خارج التاريخ؛ لأنه ذو مصدر متعالي يؤثر في التاريخ ولا يتأثر به).[61]وبذلك يستمد التاريخ معناه من علاقة الإنسان بالمثل الأعلى (علاقة النسبي بالمطلق).

والصدر يطرح معنى التاريخ بنظرته الإسلامية معتمداً على الرسالات السماوية وعدم تخلّيه عن ظهور الإمام المهدي عليه السلام ووعد الله بنصر المؤمنين، ضمن هذه الجوانب العقائدية يعطي للتاريخ معنى وفي نفس الوقت يتضمن تدخّل الإنسان في حركة التاريخ، فلو سارت الحضارات في معنى التاريخ هي التي تتقدم، أما لو خالفت هذا الاتجاه المتعالي فهي أحق بالانحطاط من غيرها من الشعوب.

فهيغل عندما يضع فلسفته كنهاية للتاريخ يتجاوز ۔ في سياق الرؤية الصدرية ۔ درجة الفيلسوف ليضع نفسه أنه اكتشف ما لم يكتشفه أحد، اكتشف المنطق الداخلي لحركة التاريخ اكتشافاً نهائياً، فهو قد سعى إلى وعي يمثل منتهى صيرورة كونية. لا شك أن هذه النبوءة ليست إلا نبوءة مزيفة، أي (نبوءة وضعية) لا تملك مقومات التعالي على التاريخ حتى تتمكن من اكتشاف منطق حركته ومنتهى صيرورته.[62]

فنهاية التاريخ هذه أحد الاختلافات الجذرية بين فلسفة التاريخ التي صاغها الصدر والفلسفات الغربية الأخرى، والنقطة الثانية تتمثل بالدولة (إذا كانت الدولة عند هيغل هي المجسّدة لله في التاريخ أو هي الإله، فإنها عند الصدر مجرد وسيلة لحفظ حركة التاريخ من الانحراف عن خط الخلافة، فالدولة هنا ۔ على عكس نظرية هيغل ۔ هي لون من ألوان العبادة..).[63]

إن الحضارة الإسلامية ۔ في نظر الصدر ۔ لن تتحقق بدون دولة، فالدولة هي أداة للتفعيل الحضاري، فليست هي كنهاية للتاريخ ۔ كما في فلسفة هيغل المثالية ۔ ولا هي أداة (شر ووسيلة للاستقلال) يجب أن تزول ۔ كما يرى ماركس ۔ إنما هي ظاهرة نبوية وضرورة حضارية، ومن خلال هذا التصور ندرك علاقة الدولة بالتاريخ وبالتعالي معاً.. وهذا ما جعل الدولة في نظر الصدر تتجه نحو الكونية، فظهور الإمام المهدي؟عج؟ هو جانب من جوانب علاقة التاريخ بالتعالي، وهذا ما يجعل الدولة تسير في خط تصاعدي حتى تصير دولة كونية في عصر الظهور.

وهكذا يمكن أن نستنتج من كتابات الصدر أن لفكرة نهاية التاريخ معنيين:

المعنى الأول: نهاية التاريخ بصورة نهائية، بحيث لا يمكن تصور نموذج حضاري آخر غير النموذج الغربي: هيغل، ماركس، فوكوياما.

المعنى الثاني: نهاية التاريخ مرتبطة بتتابع الأجيال أو الحقب التاريخية، وهو تتابع يتجه نحو غاية ليست من صنع الإنسان وتصورها: لأن مصدرها إلهي، فليس هناك نهاية للتاريخ، بل نهاية لمرحلة تاريخية معينة هي مرحلة الحضارة الغربية، وبداية فصل جديد من فصول التاريخ المتمثل في مرحلة دخول النموذج الحضاري الإسلامي، في مسرح التاريخ لقيادة البشرية، فالأمة الإسلامية قد أدخلت في تاريخ غير تاريخها منذ القرن التاسع عشر عصر ما يسمى بعصر النهضة، أدخلت في تاريخ الغرب. فالحضارة الغربية تعرف ۔ وخاصة في هذه السنوات الأخيرة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران ۔ بأن الحضارة الوحيدة التي تجابهها هي الحضارة الإسلامية. [64]

هذا وانقسم أتباع (هيغل) إلى كفّتين: يمين ويسار، ظهر (كارل ماركس) وصاغ نظريته معتمداً على فلسفة هيغل للتاريخ، لكن طوّرها وصاغها بأسلوب جديد، فبدلاً من (المطلق) الذي يكوّن وينظّم أحداث التاريخ عن طريق (روح العالم) جعل (الحركة الجماهيرية + قوة الاقتصاد والإنتاج)، هي المسبب في حركة التاريخ ونموه المطّرد، والآن لنأتِ إلى نظرية (ماركس) بصورة أكثر تفصيلاً وأوضح تحليلاً:

الديالکتيک المادي لماركس (1818 _ 1883)، وإنجلز (1820 _ 1895) والبعد الاقتصادي

قد اعتمد ماركس وإنجلز على مبدأ الديالكتيك الهيغلي، فانتزعا هذا المبدأ وصبغاه بطابع مادي، باستخدام (الشيء) بدل (الفكرة)، ومع ذلك فهما لم ينقصا من شأن هيغل ونزعته المثالية، يقول إنجلز عن جدل هيغل:

إنه عمل لم يضطلع به أحد منذ أرسطو سوى هيغل، إنه أعظم ما أنجزته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.[65]

وقد صاغا نظريتهما اعتماداً على العالم الاقتصادي وبعيداً عن المثالية، وقد أكد ماركس على حقيقة العالم الخارجي وأن المثل الأعلى من أفكار وغيرها تكون نتيجة البيئة الاقتصادية المادية وفقاً لتغيرها، صراع المتناقضات لا يحصل في عالم الأفكار ۔ كما في نظر هيغل ۔ وإنما تحدده طبيعة الأحوال الواقعية بسبب التغيرات الاقتصادية في المجمتع!!

ومن هنا فقد انتصرا للطبيعة على الدين وعلى العقل، يقول ماركس:

إن العزة الإلهية والهدف الإلهي هي الكلمة الكبيرة المستعملة اليوم لتشرح حركة التاريخ، والواقع أن هذه الكلمة لا تشرح شيئاً.[66]

وإليك توضيح الفكرة المادية؛ تتضمن المادية التاريخية أمرين:

الأمر الأول: هو أن هوية التاريخ مادية.

والثاني: أن حرکات التاريخ ديالکتيکية.

يقول (ستالين) في توضيح هذه الفكرة:

إنه ۔ الديالكتيك ۔ وجهة النظر القائمة على أن أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات داخلية؛ لأن لها جميعاً جانباً سلبياً وآخر إيجابياً، ماضياً وحاضراً، وفيها جميعاً عناصر تضمحلّ أو تتطور، فالنضال بين القديم والجديد، بين ما يفنى وما يتطور، هو المحتوى الداخلي لحركة التطور.. هو المحتوى الداخلي لتحوّل التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية.[67]

إذن فهذا الديالكتيك قائم على أساس تقديم المادة، مما لها أثر فعّال في سير الحياة الاجتماعية، وأن الفكر هو من نتاج المادة الديالكتيكية، فهم ۔ الناس ۔ يدخلون غمار الإنتاج الاقتصادي الاجتماعي ومن حيث لا يشعرون، أي دون إرادتهم، يكونوا ظروفاً معينة، فيتكون الكيان الاقتصادي للجميع، وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها مجمل التطورات السياسية، والذي يعين هذا الوعي هي الحياة الاقتصادية، وفي الحين الذي تصل به قوى الإنتاج المادية مرحلة عالية من التطور، يظهر التناقض بين الملكية الاجتماعية وقوى الإنتاج الفردية، ويحل هذا التناقض عن طريق القضاء على الملكية الاجتماعية ۔النظام البدائي ۔ ليسود محله النظام الإقطاعي.

فتاريخ المجتمعات القديمة وحتى هذا العهد كله تاريخ صراع بين الطبقات، وتنتهي هذه الحرب إما بتدمير هذه الطبقات الإقطاعية المتصارعة معها، أو بإقامة مجتمع آخر ضمن شروط معينة.

وبتطبيق هذا الأسلوب في البحث نرى أن التاريخ يدل على أن تطور المجتمع الإنساني سار من نظام المشاعية البدائية أوالجماعية، إلى نظام الطبقات، متمثلاً في انقسام المجتمع إلى سادة وعبيد في العصور القديمة، وإلى سادة إقطاعيين وأقنان (Serfs) في العصر الإقطاعي، ورأسماليين وعمّال أجراء في العصر الحديث. وهذا التطور يتجه إلى نظام جديد تزول فيه المصالح الاقتصادية المتضاربة، أي علاقات الجماعات بقوى الإنتاج، وهذا هو قانون التطور في تاريخ البشر برأي ماركس.[68]

بذلك حلّ النظام الرأسمالي مكان الإقطاعية، وهذه الرأسمالية اتخذت العمل الجماعي سمة أساسية لزيادة قوى الإنتاج وعلاقاته (فحلّ العمل الاجتماعي محل الإنتاج الفردي..).[69]

وحينما تتطور قوى الإنتاج ستقلّ سيطرة الرأسمالية عليها، فلابد إذن من استبدال الرأسمالية التي أصبحت عائقاً في طريق التطور الاقتصادي بمجتمع تكون فيه وسائل الإنتاج ملكاً مشتركاً، وهذه الأخيرة ۔ المرحلة الاشتراكية ۔ تمهّد للشيوعية، انطلاقاً من مبدأ (كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته).

وكل هذه التغيرات تتم عن طريق الثورة لا الصراع بين الفرضية ونقيضها، كما ذهب إليه هيغل من قبل (وهكذا ينقسم تاريخ البشرية إلى خمسة مراحل وأدوار: بدائية، إقطاعية، برجوازية، اشتراكية، شيوعية، وفق مسيرة من التطور الحتمي، بفعل الصراع بين علاقات الإنتاج القائمة وبين العلاقات التي تفرضها قوى الإنتاج ووسائله المتطورة، وعن طريق تغيرات كمية تتحول بواسطة العنف والثورة إلى تغيرات كيفية).[70]

يقول ماركس في مقدمة كتابه نقد الاقتصاد السياسي:

في الإنتاج الاجتماعي الذي بزواله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى عنها.. وعلاقات الإنتاج هنا تطابق مرحلة محدودة من تطور قواهم المادية في المجتمع، والمجموع الكلي لهذه العلاقات يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع.. . فأسلوب الإنتاج في الحياة المادية يعيّن الصفة العامة للعمليات الاجتماعية والسياسية والروحية في الحياة.

وبعد كلام طويل قال:

وعن طريق الصراع القائم بين قوى الإنتاج الاجتماعية وعلاقات الإنتاج لا يزول أي نظام اجتماعي أبداً قبل أن تنمو كافة القوى الإنتاجية التي يكون لها في مجال النمو.. . ومن العبث أن نضيف أن الناس غير أحرار في اختيار قواهم الإنتاجية، وهي الأساس الذي يقوم عليه تاريخهم كله؛ لأن كل قوى إنتاجية قوة مكتسبة، أي هي ثمرة فعل ونشاط سابق.. .[71]

وعليه فالتفكير الماركسي حول الوجود الإنساني للعمل والوجود العملي للإنسان، كتفكير (ديكارت) في الوجود العقلي للإنسان وتفكير (برجسون) في الوجود الاستمراري له، فيقول (ديكارت): (أنا أفكّر فأنا موجود)، ويقول (برجسون): (أنا مستمر فأنا موجود). ويقول (ماركس): (أنا أعمل فأنا موجود). ولا يريد أحد من هؤلاء العلماء أن يثبت الذات الإنسانية من هذه الطرق المختلفة (الفكر، الاستمرار، وغير ذلك)، بل إن بعضهم لا يقول بوجود الإنسان وراء هذه الأمور، بل إن كلاً منهم يريد أن يبين ضمناً جوهر الإنسانية وواقعيتها الوجودية. فمثلاً (ديكارت) يريد أن يقول ضمناً: إن وجودي يساوي وجود الفكر، فإذا لم يكن هناك تفكير فلستُ موجوداً.. ويريد (ماركس) بدوره أن يقول: إن وجود الإنسان الواقعي هو العمل، فهو جوهر الإنسانية فقوله: أنا أعمل فأنا موجود، ليس معناه أن العمل دليل وجوده، بل معناه أن العمل هو عين وجوده، وأنه وجوده الواقعي.

إذن فمن وجهة نظر الماركسية يعتبر الوجود الإنساني للإنسان اجتماعياً لا فردياً، ثم إن وجوده الاجتماعي، هو العمل الاجتماعي، أي العمل المتجسد، وكل أمر فردي كالإحساس الفردي والعواطف الفردية، وكل أمر اجتماعي من قبيل الفلسفة والأخلاق والفن والدين مظاهر الوجود الواقعي للإنسان وتجلّياته، لا عين وجوده الواقعي.

وعليه فالتطور الواقعي للإنسان هو بعينه تطور العمل الاجتماعي، ولكن التطور الفكري والعاطفي والشعوري كل ذلك مظاهر التطور الواقعي له وتجلّياته، فالتطور المادي للمجتمع مقياس التطور المعنوي..، وهذا النوع من التفكير وإن كان عجيباً في نظرنا، حيث إننا نعتقد أن واقع الإنسان هو نفسه وذاته وهي جوهر غير مادي.. وليس منتوجاً للمجتمع، إلا أن رجلاً كماركس الذي لا يفكّر إلا في إطار مادي محض لابد له من تفسير الجوهر الإنساني وواقعه تفسيراً بيولوجياً، ولابد له من أن يقول: إن جوهره ليس إلا تركيبه الجسماني المادي.. ولكن ماركس يرفض هذه النظرية، ويدّعي بأن جوهر الإنسانية يتشكل في المجتمع، لا في الطبيعة، والذي يتشكل بالطبيعة هو الإنسان بالقوة لا الإنسان بالفعل.. لكنه لا يكتفي بالقول: إن هوية التاريخ مادية، بل يقول: إن هويته اقتصادية.!![72]

من أهم المؤاخذات على الديالكتيكية المادية هي:

١. فقدانها للدليل، حيث إنها لا تعدو فرضية من دون دليل، فلو كانت نظرية فلسفية تاريخية لابد وأن تعتمد على تجارب الأحداث التاريخية في الأزمنة الماضية ثم تعمّم هذه لسائر الأزمنة، أو ينبغي أن تعتمد على شواهد من التاريخ وتعممها على الحاضر والمستقبل (أو يكون إثباتها عن طريق القياس والاستدلال المنطقي على أساس الأصول العلمية، أو المنطقية والفلسفية التي تكون مقبولة مسبقاً، وفرضية المادية التاريخية لا تبتني على شيء من المذكورات).[73]

فهي لم تنشأ في الأصل على أساس استقراء تاريخي يشمل مساحات متعددة من العالم وشعوباً مختلفة، وإنما كانت صياغة نظرية أساسها النظر والتحليل العقلي، كما أن أفكار كل من ماركس وإنجلز هي وليدة الأوضاع الاجتماعية للعصر الذي عاشا فيه، فقد ظهرا في عصر كانت يقدّس الثروة المادية على أنها الهدف الأساس في الحياة.. مما جعلهم يفكرون أنه لا يوجد شيء وراء المادة.

إذن فوسائل الإنتاج هذه هي السبب الأصيل للتاريخ، من خلال تحكمها بعلاقات الإنتاج، حسب رأي الماركسيين.

إن هذا النوع من التفكير حتماً سيجر وراءه نتائج سلبية في دراسة أحوال المجتمعات، فلو نظرنا إلى المجتمعات المختلفة والتي تخضع لعوامل مادية متشابهة، فيجب عليها المواجهة بأسلوب واحد للنجاة من هذه المشكلة، والتاريخ الإنساني حينما يفتح لنا أحشاءه نرى أنه يكذّب هذه الفرضية المدّعاة، وعلينا أن نستعين بمثال من واقع التاريخ لتوضيح ما طرحناه: (ما قدّمه التاريخ عن ولايات الإغريق الثلات بين سنة 325 ق.م و733 ق.م، إذ كانت وسائل الإنتاج عاجزة عن مواجهة الضغط الناجم عن تزايد السكان، فالذي وقع أن كل واحدة من الولايات الثلاث قد واجهت المشكلة وعالجت وسائل الإنتاج بأسلوب خاص مختلف عن الأسلوب الذي اعتمدته الأخرى)،[74] فمثلاً (كورنثوس وخايكس) ۔كما أوضحنا سابقاً۔ واجهت المشكلة باستعمار أقاليم زراعية وراء البحر فتوسعت حينها البقعة الجغرافية لليونان دون أن تتغير شخصية وولايات أخرى واجهت الضغط السكاني بأسلوب آخر فنتج عنه تغير في طريقة حياتها فسبارطة احتلّت بعض المناطق المجاورة لها من الإغريق وضمّت إليها ما كانت تريده من الأراضي عن طريق حروب متكررة، فصارت حياة (سبارطة) عسكرية لتعيد القوة المادية إلى أوساطها. أما (أثينا) فقد عالجت مشكلتها بأسلوب آخر، اهتمت بتصدير المنتجات، وبذلك نجحت في مواجهة مشكلة السكان.

ومن هذه الأمثلة وغيرها كثير يمكن أن نستنتج أن ردود الأفعال متغيرة حسب طبيعة الحياة التي تعيشها هذه الحضارات وفق تحديات الأوضاع المادية.

٢. يقول الدكتور عماد الدين خليل في هذا الصدد من خلال التقابل الفعال بين الإنسان والمادة:

إن دور الإنسان في الطبيعة هو دور السيد الذي سُخّرت له هذه الطبيعة، فهو يخطّط وينفّذ، وليس هو مجرد أداة لتنفيذ خطط الطبيعة ومتطلبات العلاقات المادية <وَسَخَّرَ لَكُمْ مٰا في السَّمٰاوٰاتِ وَمٰا في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ في ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ>[75] وفي الوقت ذاته فإن الإنسان ينفعل بالطبيعة أيضاً، وإن حركة الوقائع التاريخية ليست سوى نتاج هذه التقابل الفعال بين الإنسان وبين المادة، فعلاً وانفعالاً. لكن السؤال المهم لمن الكلمة النهائية في صياغة التاريخ للإنسان أم للمادة؟

جوابه: إن ذلك الدور للإنسان، فهو الذي يمسك بالفعل ويعطيه ملامحه النهائية.[76]

٣. إن الرابط بين التغير الاجتماعي وعملية التطور الاقتصادي أقل بكثير تأثيراً وبساطة وكفاية مما يقرّه علم النفس الماركسي الذي يفتقر إلى الكفاءة، والذي ربما هو الضعف القتّال للحتمية كلها، فقد أكد ماركس أن الإنسان يستجيب للتغيرات التي تدخل في نظام الإنتاج.. أما كيف تدخل فهو لا يقول لنا؛ لأنه يتكلم كما لو كان الأسلوب الفني المتغير في الإنتاج هو نفسه يوضح نفسه، وهو السبب الأول في صيرورة هي ۔ ببساطة ۔ محتومة. إنه تجاهل تعقيدات التعود من جهة والنفور من جهة أخرى. إنه يبسّط النظرات التي تتجمع حول الأنظمة، فالتماسك والإخلاص بالنسبة للعائلة والمهنة والأمة، كلها خاضعة للطبيعة الاقتصادية.. إن الحل الذي استهدفته هذه المحاولة يستبعد تأثير عوامل أخرى كثيرة جداً.[77]

4. إن الشهيد مطهري يلتفت التفاتة رائعة من خلال تفسيره للدليل الفلسفي للمادية التاريخية قائلاً: إن وسائل الإنتاج ليست جامدة ثابتة، بل هي بدورها أيضاً تتغير وتتطور على مر الزمن، كما تتغير أفكار الإنسان وأوضاعه الاجتماعية، فتموت وسيلة إنتاج وتولد وسيلة أخرى. فمن حقنا أن نتسائل عن السبب الأعمق الذي يطور القوى المنتجة، ويكمن وراء تاريخها الطويل، كما نتسائل عن الأسباب والعوامل التي تضع الأفكار، أو تضع الأوضاع الاجتماعية.

ونحن حينما نتقدم بهذا السؤال إلى (بليخانوف) ۔ صاحب الدليل الفلسفي من كبار الماركسيين ۔ وأضرابه، فإن هؤلاء حين يجيبون على سؤالنا، يحاولون أن يفسروا تاريخ القوى المنتجة وتطورها، بالقوى المنتجة ذاتها، قائلين: إن قوى الإنتاج، هي التي تطور نفسها، فيتطور تبعاً لها المجتمع كله، ولكن كيف يتم ذلك؟ فهي ۔ الماركسية ۔ تقول في تفسير ذلك: إن القوى المنتجة ۔ خلال ممارسة الإنسان لها ۔ تولد وتنمّي في ذهنه باستمرار الأفكار والمعارف التأملية[78] وغيرها عن طريق ممارسة القوى الطبيعة المنتجة. فتصبح هذه الأفكار قوى يستعين بها الإنسان لتطوير هذه الوسائل المنتجة.

فينقد الشهيد مطهري هذه الحالة بقوله: إذا كان هذا ممكناً من الناحية الفلسفية وجاز أن يسير التفكير في حلقة دائرية ۔كما صنعت الماركسيه بالنسبة إلى القوى المنتجة وتطورها۔ فلماذا لا يمكن فلسفياً، أن نصطنع نفس هذا الأسلوب في تفسير الوضع الاجتماعي؟! فوعي الإنسان العلمي للكون، ينمو باستمرار من خلال التجربة الطبيعية، وتنمو بسبب التجربة الطبيعية وقواها المنتجة نفسها، وكذلك وعي الإنسان العملي، للعلاقات الاجتماعية ينمو باستمرار من خلال التجربة الاجتماعية، وتتطور بسببه التجربة الاجتماعية نفسها وعلاقاتها السائدة.

وعلى هذا الأساس لا مانع من ناحية فلسفية يمنع الماركسية من أن تفسّر الوضع الاجتماعي، عن طريق الآراء العملية، ثم تفسّر تغير الآراء وتطورها عن طريق التجربة الاجتماعية المتمثلة في الأوضاع السياسية والاقتصادية وغيرها؛ لأن هذا التفسير المتبادل للوضع الاجتماعي والوعي العملي نظير تفسير الماركسية ۔ تماماً ۔ لكل من تاريخ القوى المنتجة والوعي العلمي بالآخر. وبعد هذا كله يوجّه الشهيد سؤاله: لماذا يجب أن ندخل وسائل الإنتاج في حساب التفسير التاريخي والاجتماعي؟!

إن الضرورة الفلسفية ومفاهيم العلة والمعلول التي أكد عليها إنجلز، حيث أكد على إمكان هذا اللون من التفسير ونوّه بأن الديالكتيك لا يقرّ تصور العلة والمعلول بوصفهما قطبين متعارضين تعارضاً حاداً، كما اعتبار غير الديالكتيك إدراكها كذلك، فهم يرون دائماً أن العلة هنا والمعلول هناك، وإنما يفهم الديالكتيك العلة والمعلول من شكل فعل وردّ فعل للقوى، تسمح لنا بمثل هذا التفسير، فإن كانت توجد أسباب تمنع عن الأخذ به، فإنما هي الملاحظات والتجارب التاريخية، وتناول الشهيد ذلك في الدليل العلمي للمادة التاريخية لسنا بصدده الآن.[79]

5. ارتكز المذهب الماركسي على نزعة تاريخية لا أخلاقية، فهو لم يميز بين القيمة الحقيقية للوجود بين حركة التاريخ حينما اعتبر أن القوانين والأخلاق كلها من نتاج الحالة الاقتصادية في المجتمع، فهذا الموقف الذي اعتبر فيه لا وجود للحالة الأخلاقية مطلقاً وعدم وجود قانون ثابت من أخطر المواقف في حياة وحركة الشعوب.. (لكنه كان في الوقت نفسه يعتبر نظرية المادية التاريخية قانوناً مطلقاً، ولم يلتفت إلى أنه من نتاج الحالة الاقتصادية التي عاشها هو وأصحابه).[80]

هذا من ناحية فلسفية ومن ناحية أخرى تناول الصدر مشكلة حركة التاريخ وتغيرها وذهب باتجاه معاكس لماركس الذي يرى أن وسائل الإنتاج هي المحرك للتاريخ، وهو المؤثر في طبيعة الإنسان، فالصدر يرى أن الإنسان هو العنصر الرئيسي في حركة التاريخ من خلال ارتباطه الثلاثي: علاقة الإنسان بالإنسان وبالطبيعة وبالله؟عز؟، إضافة إلى أنه أعطى للعامل الاقتصادي والاجتماعي دوره في حركة التاريخ، فهذه العوامل ضرورية في تغير الأحداث لكنها ليست كافية.

ويتم التغير في نظر الصدر من داخل الإنسان من ذاته لتنتهي إلى المجتمع، انطلاقاً من مبدأ قرآني <إنَّ اللَّهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ>،[81] فالمحتوى الداخلي للإنسان النفسي والروحي، هو القاعدة الأساسية في حركة التاريخ وفي بناء المجتمع ۔ لا المادة ۔ وهذا المجتمع لا يتغير إلا بتغير القاعدة.

إذن فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان ۔ الفكر والإرادة ۔ وبين البناء الفوقي والتاريخي للمجتمع هي علاقة تبعية، أي علاقة سبب بمسبب، فكل تغيّر في البناء الفوقي والتاريخي للمجتمع إنما هو مرتبط بتغير المحتوى الداخلي.[82]

لذلك فتغير العالم فكرة ملازمة لفهم العالم في نظر الصدر، يقول غالب حسن:

.. فهو ۔ أي الصدر ۔ قد تجاوز هيغل باتجاه ماركس، واستوعب ماركس باتجاه هيغل، ولكن لا على أساس الجمع التلفيقي المفتعل، وإنما برؤية شاملة نابعة من ذكائه المفرط ومنغمسة بحرارة إيمانه..[83]

6. وانطلاقاً من موضوع السنن التاريخية في القرآن الكريم طرح السيد الشهيد الصدر العلاقة بين الاستقامة من خلال تطبيق أحكام الله في الأرض، وبين وفرة الإنتاج، قال تعالى: <وَأَنْ لَّوِ اسْتَقٰامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنٰاهُمْ مٰاءً غَدَقاً>،[84] يحدثنا عن العلاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام الله تعالى وبين وفرة الخيرات وكثرة الإنتاج، ليؤكد أن تطبيق شريعة السماء وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع يؤدي دائماً وباستمرار إلى زيادة الإنتاج وإلى كثرة الثروة، فهذه إذن سنة من سنن التاريخ.[85]

7. يقول پروفسور اليكساندر غري:

هناك حقيقة لا ينكرها إلا القليلون، وهي أن التاريخ إذا أريد له أن يكون شاملاً يجب أن يسجّل في صفحاته كل شيء عن مخزن حفظ الأطعمة في المطبخ، ولكن هناك أيضاً شيئاً كثيراً في التاريخ غير العامل الاقتصادي، فالإنسان لا يقصر حياته أن يحبو على بطنه، فهناك كل أشكال الحماس والولاء والإيحاء والإلهام التي تحفّز الإنسان للعمل، والتي هي رغم ذلك غير اقتصادية بتاتاً ولكنها في نفس الوقت تؤثر على الظروف الاقتصادية، وفوق كل ذلك فإن تأثير الذهن على الذهن مع نتائج هذا التأثير البعيدة، وهو من أعظم أنواع التأثير في العالم، يستعصي على التفسير الاقتصادي. ولو فرضنا أنه يمكن أن نفسّر كيف جاء دانتي، ومحمد صل الله عليه و آله، وكالفن وماركس ولويد جورج وجورج روبي حينما جاءوا فعلاً، فستبقى مسألة أكثر صعوبة بكثير، وهي أن نفسر كيف أو لماذا جاءوا في الأصل؟ ولماذا لم يبقوا في عالم العدم؟ والأمر الذي يزيد على هذا صعوبة هو أن نفسّر كيف يجد الرجل العظيم جماعته الذين ينطقون بلسانه والذين ينقلون تأثيره هنا وهناك في أجزاء مختلفة من العالم؛ إذ أن كالفن كان يمكن ألا يجد (نوكس Knox) و(ماركس) كان يمكن ألا يكون له (لينين).

إن الأصوب عند تفسير التاريخ أن يتواضع المرء، وربما أن يعتقد بعدم كفاية عقله لإدراك الغيبيات، ذلك أنه يدرك أن تاريخ الإنسان إنما تكوّنه عوامل كثيرة ليس الاقتصاد إلا عاملاً واحداً منها ربما لم يكن أكثرها أهمية.[86]

٨. أن كارل فيدرون يلاحظ ملاحظة بارعة؛ إذ يقول:

إن قوى الإنتاج وظروف الإنتاج تؤثر دائماً على بعضها ويقرر بعضها بعضاً.. كما أن اختراع أسلحة جديدة يؤثر في الحروب ويحدد نتيجتها، والحروب تؤدي دائماً إلى اختراع أسلحة جديدة وأشكال جديدة من التنظيم العسكري، ومع ذلك فلن يزعم إلا مخبول أن تطور الأسلحة وتنظيم الجيش هو سبب الحروب والعامل الأساسي في التاريخ العسكري.[87]

٩. لقد قام ماركس ۔ كما فعل هيغل وشبنجلر ۔ لكي يجعل نظريته تبدو مستساغة، بتحريف كثير من الحقائق، وتجاهل بعض الحوادث المهمة في التاريخ التي لم تساند ما ذهب إليه، ولأجل أن يثبت صحة نظرياته استخدم الحوادث التي وقعت في (الأغوار البعيدة من الزمن) مما لا يمكن التحدث عنه بشكل أكيد، ومما يكن أن يفسره المرء بسهولة أي تفسير يشاء، ثم إنه يصعب بل يستحيل الوصول إلى أية حقيقة على أساس هذه الحوادث التي وقعت قبل التاريخ، فهي مغطّاة بحجاب كثيف من الزمن، ولكن ماركس وإنجلز بنيا جُلّ بحوثهما عليها، حتى صرّح إنجلز:

أن ما ارتكبته أنا وماركس في بعض الكتب من الخطأ في أهمية الاقتصاد لم يشمل أحداث زماننا؛ لأننا لما وصلنا إلى تفسيرها واجهنا الواقع الخارجي بنفسه، فلم نرتكب ذلك الخطأ بالنسبة إليها.[88]

وأما الأحداث التاريخية القديمة لا تؤيد هذه الفرضية، فكل من يقرأ كتاب (قال الفيلسوف) لبعض الماركسيين في تفسير أحداث التاريخ بالمادية التاريخية يتعجب بشدة من تلك التأويلات. فانتخبنا مقداراً لا بأس به من دراسات (مورغان Morgan) عن قبائل (أركوني)، وكتاب (جورج لودفيغ فون) ما ورد:

عن العادات البلدية وعادات الأراضي الزراعية عند قدامى الألمان، وهذان الكتابان يبحثان كيف كان الحال في عهد ما قبل التاريخ.. فهي يمكن أن تحرف بسهولة لأجل الوصول إلى نتائج كانت في الذهن بادئ الأمر. وها نحن نأتي بمثال بهذا الصدد، أن القبائل الرحّل التي تعيش على الصيد تنظر إلى المرأة نظرة احتقار؛ لأن المرأة لا فائدة منها في الصيد وتربية المواشي وغيرها.. ولكن لما أخذ الشعب بالزراعة وأصبحت هذه عملاً في المجتمع، ارتفع مركز المرأة أيضاً في ميزان التقدير.. إن السبب الأساسي لهذا التغير الجذري سبب اقتصادي صرف، فيما أن المرأة أصبحت ذات قائدة للناس في نواح عديدة في غرس الأشجار وبذر البذور وما شاكل ذلك.. ارتفعت مكانتها.

إننا أولاً لا يمكن أن نجزم بأن المرأة كانت تحتقر عند قبائل العالم، ففي الهند كانت المرأة موضع احترام كبير وثانياً: أن ما بين ما هو مسجّل لدينا أن شعوباً عديدة كانت _ رغم كونها زراعية _ لا تحترم نساءها.

ولقد أصاب (كارل فيدرون) حين قال: إنه بما أن المرأة قد عملت في الحقول، فيجب أن تكون قد نالت الاحترام وأعطيت مركزاً قيادياً في المجتمع فكرة غريبة مضحكة!! فمتى وأين سجّل التاريخ إله العمل وحده قد قاد إلى مركز كريم، وإلى القوة والسلطة؟[89]

ولا يمكنني إخفاء تعجبي من أن نظرية تكون إلى هذا الحد فاقدة لكل أساس واعتبار ومغايرة للعلم، ومع ذلك تشتهر بأنها علمية، وهنا يتجلى التأثير العجيب للدعاية).[90]

١٠. المادية التاريخية تنقض نفسها: ثمّة ملاحظة أخرى يجب أن تؤخذ على المادية الماركسية، يعتقد ماركس أن أفكار واتجاهات عصر ما إنما هو نتاج مرحلة التطور الاقتصادي؛ لذلك لا يمكن أن يوجد قانون في العالم مطلق بسبب تأثير الحالة المادية، وبذلك وقع في تناقض كبير فمن ناحية هو لا يرى شيئاً أبدياً وأخرى يعرض هذه الفكرة على أنها مطلقة!!

وهنا تناقض لم يستطع أحد من تلامذة ماركس أن يزيله، فنحن نعتقد أن فلسفة عصر ما ناتجة عن البيئة المادية له، فهذا ينطبق على الماركسية نفسها، فأفكار ماركس لا يمكن أن تكون صحيحة ومنطقية على كل الأزمنة؛ لأنها أيضاً انعكاس للعصر الذي عاش فيه.

وكل ما جاء به ربما كان ملائماً لزمنه هو، ولا يمكن بعد زمانه ذاك أن يكون صالحاً للعصور التي تلته. فمن تغير الزمان لابد لفلسفته أن تتغير.[91]

١١. ومن العجيب أن (إنجلز) ذكر في رسالة له إلى رجل يدعى (يوسف بلوخ) يتحمل ويحمل ماركس قسماً من مسؤولية هذا الخطأ وبتعبيره (هذا المسخ) إذ يقول:

إني وماركس نتحمل قسماً من مسؤولية هذا الأمر الذي جعل الشباب يهتمون بالعامل الاقتصادي أكثر مما هو حقه. أما نحن فكنا مضطرين في مواجهة المخالفين لنا إلى الإصرار على هذا الأصل الذي كانوا يرفضونه؛ ولذلك لم تكن لنا فرصة ولا مجال للاعتراف بحق سائر العوامل التي كانت بدورها شريكة في العمل.[92]

١٢. الدولة في نظر الماركسية: فسّر ماركس الدولة على أساس العامل الاقتصادي، والتناقض الطبقي، من خلال نشوب الصراع بين طبقة المجتمع المتمتعة بوسائل إنتاج جيدة وبين الطبقة الضعيفة، أي الفقيرة.. وهكذا تبرز الطبقة الغالبة وتحصن نفسها من خلال أدوات سياسية؛ كل ذلك من أجل حماية مصالحها الاقتصادية، ويقصد بالأداة السياسية هي الحكومة بمختلف أشكالها التاريخية.

لكن هذا التفسير المادي الماركسي للدولة أو الحكومة لا يتمتع بقيمة علمية، فهو قائم على عدة افتراضات، وهذه الافتراضات لا تكتسب تلك القيمة العلمية لتفسير أغوار الزمن الماضي على غرار طرح فلسفي.

ويمكن لنا أن نأخذ مثالاً واقعياً ۔ إذا أمكن ۔ لنرى مدى فقدان هذا الدليل للعلمية الموضوعية، من خلال نشوء الدول على أساس تعقيد الحياة المدنية:

ففي مصر القديمة ۔ مثلاً ۔ لم تكن الحياة الاجتماعية فيها ممكنة، بدون جهود معقدة جسيمة، وعمل واسع شامل، لتنظيم جريان وفيضان الأنهر الكبيرة، وتنظيم شؤون الري، فظهرت الدولة لتيسير الحياة الاجتماعية، والإشراف على العمليات المعقدة، التي تتوقف الحياة العامة عليها؛ ولأجل هذا تجد أن طائفة (الأكليروس) المصريين، كانوا يتمتعون بمكانة عليا في جهاز الدولة المصرية القديمة، لا على أساس طبقي، وإنما على أساس الدور الخطير الذي لعبته معارفهم العلمية، في نظام الزراعة المصرية.[93]

وبذلك لا يمكن أن نعتبر هذا التفسير ۔ التفسير الماركسي للدولة ۔ علمياً ما لم يدحض كل الافتراضات ويقدم دليلاً من صلب الواقع على زيف كل فرضية.

وفقدت الماركسية سندها العلمي لتفسير الظواهر التاريخية، فقد قال إنجلز:

ولكن فيما كان البحث عن هذه الأسباب المحركة في التاريخ مستحيلاً تقريباً، في سائر المراحل السابقة، بسبب تعثّر علاقاتها وتخفيها مع ردود الفعل التي تؤثربها، فإن عصرنا قد بسط هذه العلائق كثيراً، بحيث أمكن حل اللغز، فمنذ انتصار الصناعة الكبرى لم يعد خافياً على أحد في إنكلترا، وبأن النضال السياسي كله يدور فيها حول طموح طبقتين إلى السلطة، ألا وهما: الأرستقراطية العقارية، البورجوازية.[94]

ومعنى هذا أن الوضع الاجتماعي في إنكلترا كان كافياً في رأي (إنجلز) ۔ علمياً ۔ بأن العامل الاقتصادي أو التناقض الطبقي هو المحرك الأساسي في تاريخ الإنسانية كلها (بالرغم من أن فترات التاريخ الأخرى لا تكشف عن ذلك؛ لأنها غائمة معقّدة كما اعترف بذلك (إنجلز) نفسه، فمشهد واحد من مشاهد التاريخ في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، استطاع أن يقنع الماركسية بأن القوى المحركة للتاريخ، عبر عشرات الآلاف من السنين، هي قوى العامل الاقتصادي.[95]

يقنعها بذلك لأن هذا العامل هو المسيطر آنذاك على مشهد من مشاهد التاريخ (مشهد إنكلترا) لكن هذه لا تكفي للديل على سيطرته، فقد عمم جزءً من حادثة تاريخية على مساحة التاريخ، على كل أدوار التاريخ، بصورة عامة، دون النظر إلى أنه قد تكون هناك أسباب وعوامل خاصة في هذه المنطقة أو تلك (فيجب قبل إصدار الأحكام النهائية في حق التاريخ، أن يقارن المجتمع الذي بدأ العامل الاقتصادي مسيطراً عليه، بالمجتمعات الأخرى، حتى يبحث عما إذا كان لهذه السيطرة ظروفها وأسبابها الخاصة).[96]

ومرة أخرى يصرح (إنجلز) على خطئه من جرّاء تطبيق الديالكتيك على مجتمع آخر، بقوله: (وغني عن البيان بأنني كنت قد عمدت إلى سرد المواضيع في الرياضيات والعلوم الطبيعية، سرداً عاجلاً وملخصاً، بغية أن أطمئن تفصيلاً إلى ما لم أكن في شك منه بصورة عامة، إلى أن نفس القوانين الديالكتيكية للحركة، التي تسيطر على العفوية الظاهرة للحوادث في التاريخ، تشق طريقها في الطبيعة).[97]

13. الصراع: إن الصراع أحد العوامل المحركة للتاريخ البشري، فنشوء الحضارات وتدهورها يرتبط ارتباطاً كلياً بمسألة الصراع مع ما يرافقه من عوامل أخرى.

(والصراع المتنوع المتقابل قائم أيضاً في صميم العلاقات البشرية، في الإيمان والكفر، أو الحق والباطل، ومن خلال هذا الطرح يتحرك التاريخ.. تلك هي القاعدة الأساسية، والصراع ليس محصوراً في التناقض والتقابل، بل يمتدّ إلى العلاقات الإيجابية التكاملية المتبادلة بين الأممم والأقوام <يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقٰاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ>[98]).[99]

إذن فالصراع بنوعيه السلبي والإيجابي، إضافة إلى الاستجابة وردّ الفعل للتحديات الداخلية والخارجية، هي التي تشكّل معاً عوامل تحريك التاريخ، وليس صراع النقيضين وحده ۔ كما رأى الديالكتيكيون، هيغل وماركس وإنجلز ۔ ولا هو التحدي والاستجابة وحده ۔ كما رأى تويني ۔ وأخيراً أن الصراع ليس دائماً قوة إيجابية تشدّ حركة التاريخ إلى الأمام، بل ربما يمخّض الصراع عن ردّة عكسية إلى الوراء، وربما تمخّض عن تفتت التجربة التاريخية نفسها.. فمن جهات ثلاثة إذن تميز الصراع في المفهوم الإسلامي عنه في المفهوم الديالكتيكي.[100]

إلا أن القرآن الكريم حينما يتحدث عن (الصراع) الناجم عن التغاير البشري في المذاهب والأجناس واللغات والبيئات الجغرافية، لا يقصر المسألة عن التقابل والتدافع، إنما يمدها إلى ساحة أوسع، ويعطي للصراع البشري آفاقاً بعيدة المدى مبتدئاً بإشهار السلام وتمتد لكي تصل إلى الموقف الأكثر إيجابية، والذي يجعل هذا التغاير البشري سبباً لعلاقات إنسانية متبادلة بين الأمم والأقوام، والشعوب تسعى للتقارب والتعاون والتعارف، مع بقاء كل منها على مذهبه أو جنسه أو لونه أو لغته أو بيئته الجغرافية: <يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقٰاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ>، وبينما تسعى معظم المذاهب التفسيرية والمعطيات الفكرية للوضعيين إلى تصوّر عالم لا صراع فيه ۔ الهيغلية في مرحلة تجلي المتوحد، والماركسية في مرحلة حكم البروليتاريا ۔ يسود السلام والمحبة فتتجاوز بهذا واقعيتها وعلميتها.[101]

وبذلك تبتعد عن الأساس الفعال في التاريخ البشري الذي يولد الحضارات.. فكانت تفاسير غير واقعية ولا ممكنة، أما القرآن الكريم فقد انطلق من موقف واقعي جدي، فهو لم يتحدث عن تراكم زمني غير ممكن الحدوث، انبثقت معالمه عن رؤية شاملة من الماضي إلى الحاضر ثم المستقبل.

الشهيد الصدر وتنظيره لحركة التاريخ

إن الشهيد الصدر لم ينطلق من فاعل واحد لسير الحضارات أو التاريخ بصورة عامة، فالإنسان له دور فعال في سير التاريخ ووجدانه، وليس التاريخ هو واجد الإنسان، والتاريخ يستمد قيمته من الإنسان لا العكس، من خلال التعامل الثلاثي (الإنسان مع الإنسان) و(الإنسان مع الطبيعة) و(الإنسان والطبيعة مع الله تعالى) رفق (سنن إلهية محددة).

خلافة الإنسان في الأرض وكذلك مجمل العوامل الطبيعية البيئية، بل حتى الدولة لها أثر بارز في هذا الوجود السلفي.

وعرّف الساحة التاريخية بأنها الساحة التي تحوي جميع الحوادث والقضايا، وبعض هذه الأحداث تنطبق عليها سنن إلهية، نعم، بعضها فالبعض الآخر مرتبط بقوانين فيزيائية فسلجية أو قوانين الحياة ۔ حسب تعبير السيد الشهيد ۔ ولم يترك هذا التنظير دون مثال، فقال:

موت أبي طالب، موت خديجة في سنة معينة، حادثة تاريخية مهمة تدخل في نطاق ضبط المؤرخين، وأكثر من هذا هي حادثة ذات بعد في التاريخ ترتّبت عليها آثار كثيرة، ولكنها لا يحكمها سنة تاريخية، تحكمها قوانين فسلجية، تحكمها قوانين الحياة التي فرضت أن يموت أبوطالب؟رضو؟، وأن تموت خديجة؟عها؟ في ذلك الوقت المحدد، ولكن الذي يتحكم في هذه الحادثة هي قوانين فسلجية، جسم أبي طالب وجسم خديجة، قوانين الحياة التي تفرض المرض والشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف خاصة.[102]

ولم يجعل الصدر تحليله لوقائع التاريخ ذا إطار ضيّق خاص بالأفراد (الأبطال)، بل تجاوز السرد التاريخي، واعتمد على التاريخ السوسيولوجي (علم الاجتماع) فترابط الأحداث أو الظواهر الاجتماعية عبر التاريخ لها القيمة الكبرى في تواجد التاريخ، لكنه لم يقف في تحليله عند هذا الحد، بل اعتمد على أسس أخرى تمثّل وعيه الكامل في دراسة أحوال التاريخ، لكنه عمّق دراسته من خلال بحثه المفصل في سنن التاريخ على أنها القضية الفعالة في حركة التاريخ.. إضافة إلى أن (لاختيار الإنسان موضعه الرئيسي في التصور القرآني لسنن التاريخ).[103]

وهذه السنن تلعب دوراً بارزاً في توجيه الإنسان؛ لتعرّفه بإمكانياته الحرة، وإن هذه الإرادة الحرة أو ما يسميها الشهيد الصدر بـ(المحتوى الداخلي) هي الأساس في حركة التاريخ إلا أن حركة التاريخ حركة غائية، أي أنها مربوطة بهدف وتتجه نحو المستقبل، وهذا الأخير هو أحد الأنشطة المحركة للتاريخ بفضل الذهن البشري الذي يمتزج مع الفكر والإرادة.

إذن إن المحتوى الداخلي للإنسان يجد الغايات التي تحرك التاريخ، وهذه الغايات يحددها المثل الأعلى، فإنها جميعاً تنبثق عن وجهة نظر رئيسية إلى مثل أعلى للإنسان في حياته. إذن إن المثل الأعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية، وهذا المثل الأعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة إلى الحياة والكون.. والقرآن الكريم يطلق على المثل الأعلى اسم (الإله)، فقال تعالى: <أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً>،[104] عبّر حتى عن (الهوى) بأنه إله حينما يتصاعد هذا الهوى تصاعداً مصطنعاً فيصبح هو المثل الأعلى وهو الغاية القصوى لهذا الفرد أو ذاك، وهذه (الآلهة) هي التي تصنع مسار التاريخ.

وهذه المثل العليا التي تتبناها الجماعات البشرية على ثلاثة أقسام:[105]

القسم الأول: المثل الأعلى الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه، ويكون منتزعاً من واقع ما، تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات، أي أن الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا لم يستطع أن يرتفع على هذا الواقع، وأن يتجاوز هذا الواقع، بل انتزاع مثله الأعلى من هذا الواقع بحدوده، بقيوده، بشؤونه.

وهذا المثل الأعلى الذي يكون منتزعاً عن الواقع الذي تعيشه الجماعة مثل أعلى تكراري، وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الأعلى حركة تكرارية، أخذ الحاضر لكي يكون هو المستقبل، وتبنّي هذا النوع من المثل الأعلى يقود إلى أحد سببين بحسب تصورات القرآن الكريم:

السبب الأول: سبب نفسي وهو الألفة والعادة والضياع، وإذا انتشرت هذه الحالات في قوم، في مجتمع، حينئذ يتجمد ذلك المجتمع؛ لأنه سوق يصنع آلهة من واقعه، هذه الحالة عرضها القرآن من قبيل المجتمعات التي واجهت الأنبياء حينما جاءوهم بمثل أعلى.. سيطر الواقع على أذهانهم وتغلغل الحس في طموحاتهم بلغ إلى درجة تحوّل هذا الإنسان من خلالها إلى إنسان حسي لا مفكر. <قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَهْتَدُونَ>.[106]

والسبب الثاني: سبب اجتماعي (خارجي) وهو تسلط الفراعنة والطواغيت على مر التاريخ، ومن مصلحة الفرعون على مر التاريخ أن يغمض عيون الناس على هذا الواقع، فيحول الواقع إلى إله ۔ مثل أعلى ۔ لا يمكن تجاوزه. وهذا أيضاً ما عرضه القرآن الكريم: <وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ يٰا أَيُّهَا الْمَلَأُ مٰا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرِي>.[107]

فالمجتمعات والأمم التي تعيش هذا المثل الأعلى المنخفض فإنها تعيش حالة تكرارية، يعني أن حركة التاريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية، وهذه الأمة تأخذ بيدها ماضيها إلى الحاضر، ليس لها مستقبل في الحقيقة وإنما مستقبلها هو حاضرها.

القسم الثاني: هذا النوع الثاني يعبّر عن كل مثل أعلى للأمة يكون مشتقاً من طموح الأمة، من تطلعها إلى المستقبل، تحفّز نحو الجديد، نحو الإبداع والتطوير. وإن هذا الطموح الذي منه انتزعت الأمة مثلها، كان طموحاً محدوداً كان طموحاً مقيداً لم يستطع أن يتجاوز المسافات الطويلة.

وفي هذا المثل الأعلى جانب موضوعي صحيح، وهو أن الإنسان عبر مسيرته الطويلة لا يمكنه أن يستوعب برؤيته الطريق الطويل كله، لا يمكنه أن يستوعب المطلق؛ لأن الذهن البشري محدود، فهو لذلك يستوعب نفحة من المطلق تنير له الدرب، ولكن الخطر في هذه المسألة، أن هذه القبضة التي يقبضها الإنسان عن المطلق، يحوّلها إلى مثل أعلى (مطلق) هنا يكمن الخطر؛ لأنه حينما يضع مثله الأعلى وينتزع هذا المثل الأعلى من ذهنه، حينئذ سوف يخدمه هذا المثل في المرحلة الحاضرة، سوف يهيّئ له إمكانيات النمو بقدر طاقات هذا المثل، بقدر إمكاناته المستقبلية، سوف يحرك هذا الإنسان وينشّط، لكن سرعان ما سوف يصل إلى حدوده القصوى وحينئذ سوف يتحول هذا المثل نفسه إلى قيد للمسيرة، إلى عائق عن النظور، إلى مجمّد لحركة الإنسان.

فالإنسان إذن ۔ الذي يقف على طريق التاريخ الطويل ۔ له أفق بحكم تصوره الذهني.. وإذا قارنّا بين هذين النوعين من المثل العليا: المثل العليا من الواقع والمثل العليا المشتقة من طموح محدود، يمكننا أن نلاحظ أن المثل العليا المشتقة من الواقع كثيراً ما تكون قد مرّت بمرحلة هذه المثل العليا التي تعبر عن طموح محدود، يعني كثيراً ما تكون تلك المثل من النوع الأول امتداداً للمثل من النوع الثاني، بأن يبدأ المثل ويبدأ هذا المثل الأعلى مشتقاً من طموح، لكن حينما يتحقق هذا الطموح المحدود، حينما تصل البشرية إلى النقطة التي أثارت هذا المثل، يتحول هذا المثل إلى واقع محدود بحسب الخارج، حينئذ يصبح مثلاً تكرارياً.

القسم الثالث: هو المثل الأعلى الحقيقي، وهو الله، وهذا المثل سوف يحلّ التناقض الذي واجهناه في النموذجين السابقين بأروع صورة، لقد تمثل التناقض هناك بأن الوجود الذهني للإنسان محدود والمثل الأعلى يجب أن يكون غير محدود.. هذا التنسيق بين المحدود وغير المحدود سوف نجده في المثل الأعلى الذي هو الله؛ ذلك لأن هذا المثل الأعلى ليس من نتاج الإنسان أو من إفرازاته الذهنية، بل هو مثل أعلى له واقع عيني، هو موجود مطلق في الخارج.

ومن هنا حرص الإسلام على التميز دائماً بين الوجود الذهني وما بين الله تعالى الذي هو المثل الأعلى.

إذن فإن التاريخ يتحرك من خلال البناء الداخلي للإنسان، الذي يصنع للإنسان غاياته، هذه الغايات تُبنى على أساس المثل الأعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات. لكل مجتمع مثل أعلى هو الذي يحدد في تلك المسيرة معالم الطريق.

إن الصدر قد حلّل علاقة الواقع بالمثال أو علاقة ما هو كائن بما يجب أن يكون من موقع منهجي، معرفة قوانين وسنن حركة التاريخ؛ لذلك اختلفت رؤية الصدر إلى مستقبل الأمة والبشرية كلها عن سائر المفكرين الغربيين، وكذلك عن كثير من المفكرين المسلمين الذين تغافلوا عن هذا المنهج العلمي فسقطوا في فخّ المثالية المتطرفة، وبدلاً من المعرفة الحقيقية لعوامل التغير لجأوا إلى الأطروحات التمجيدية والأخلاقية وإلى ردود الفعل الانفعالية تجاه ثقل الواقع والمستقبل الموعود.[108]

فالشهيد الصدر لم يردّد ۔ كغيره من المفكرين المسلمين ۔ مقولة الإسلام صالح لكل زمان ومكان من موقع تمجيدي، بل حاول تحليل ظروف العصر ومشكلاته من خلال توقعات المستقبل ومتطلبات الإسلام، فربط في منهجه هذه المقولة وتعامل عن طريقها مع الإسلام ومع التاريخ.

وبذلك نجح في صياغة منهجه على رؤية فلسفية إلى التاريخ.

[1]. التنبيه والأشراف، المسعودي، ص 2 ۔ 3.

[2]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، صائب عبدالحميد، ص 5، بتصرف.

[3]. التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل، ص 11.

[4]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، صائب عبدالحميد، ص 5.

[5]. دراسات في حياته وفكره، محمدباقر الصدر، محمد عبداللاوي، ص 193.

[6]. انظر: موضوع الأيديولوجية والعقيدة وفلسفة التاريخ، ص 194.

[7]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، صائب عبدالحميد، ص 87، وانظر: المذاهب الكبرى في التاريخ، ص 197 ۔ 198.

[8]. في فلسفة التاريخ، د. أحمد محمود صبحي، ص 86.

[9]. م. ن.

[10]. م. ن، ص 87.

[11]. اقتبس هذا الموضوع من كتاب علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 87.

[12]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، صائب عبدالحميد، ص 88، عن أحمد محمود صبحي في فلسفة التاريخ.

[13]. التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل، ص 52 ۔ 53، عن عبدالحميد صديقي.

[14]. انظر: في فلسفة التاريخ، أحمد محمود صبحي، ص 166 ۔ 167.

[15]. انظر: في فلسفة التاريخ، ص 167 والمذاهب الکبری في التاريخ، ص 98 ۔ 99.

[16]. م. ن، ص 168.

[17]. م. ن، ص 169.

[18]. م. ن، ص 170.

[19]. انظر: م. ن، ص 170 ۔ 174.

[20]. انظر: م. ن، ص 175.

[21]. في فلسفة التاريخ، أحمد محمود صبحي، ص 170 ۔ 171.

[22]. م. ن، ص 171.

[23]. م. ن، ص 182 ۔ 186.

[24]. يوسف: 109.

[25]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، صائب عبدالحميد، ص 134 وعن السنن التاريخية في القرآن الكريم، الأسلوب الثالث، ص 71 ۔ 72.

[26]. البقرة: 214.

[27]. آل عمران: 124.

[28]. علم التاريخ ومنهاج المؤرخين، ص 138 ۔ 139.

[29]. م. ن، ص 126.

[30]. انظر: التعالي وأبعاده المعرفية، محمد عبداللاوي، ص 200.

[31]. م. ن.

[32]. الرعد: 11.

[33]. الکهف: 59.

[34]. انظر: علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 139 ۔ 141.

[35]. البقرة: 214.

[36]. م. ن، ص 138 ۔ 139.

[37]. أي بالعقيدة الإلهية.

[38]. التعالي وأبعاده المعرفية، ص 199.

[39]. م. ن، ص 202.

[40]. التفسير الإسلامي للتاريخ، د. عماد الدين خليل، ص 23.

[41]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، صائب عبدالحميد، ص 92.

[42]. انظر: التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 25.

[43]. م. ن، ص 25.

[44]. في فلسفة التاريخ، د. أحمد محمود صبحي، ص 211.

[45]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 93.

[46]. مجلة التوحيد، العدد 94، محرم 1419ق ومايس 1998 م. السنة السادسة عشر، دراسة حول الفلسفة السياسية في الإسلام، صادق حقيقت، ص 102.

[47]. التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 31.

[48]. المجتمع والتاريخ، مطهري، ص 295، عن فلسفة التاريخ، ص 44.

[49]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 93 ۔ 94.

[50]. التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 34.

[51]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 94؛ والتفسير الإسلامي للتاريخ، ص 35.

[52]. قصة الفلسفة، ص 381 ۔ 382.

[53]. التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 35 ۔ 36. عن تفسير التاريخ، عبدالحميد صديقي، ترجمة كاظم الجوادي، ص 76 ۔ 77، الدار الكويتية للطباعة والنشر.

[54]. م. ن، ص36، عن تفسير التاريخ، عبدالحميد صديقي، ص 78.

[55]. م. ن، 37.

[56]. م. ن، ص 38 ۔ 39، عن تفسير التاريخ، عبدالحميد صديقي، ص 80 ۔ 81.

[57]. م. ن، ص 39، عن تفسير التاريخ، عبدالحميد صديقي، ص 81 ۔ 82؛ وانظر المذاهب الكبرى في التاريخ، ص 232.

[58]. في فلسفة التاريخ، د. أحمد محمود صبحي، ص 317.

[59]. المدرسة القرآنية، الشهيد محمد باقر الصدر، ص 99 ۔ 100.

[60]. انظر: التعالي وأبعاده المعرفية، ص 208.

[61]. م. ن، ص 208 ۔ 209.

[62]. م. ن، ص 234.

[63]. انظر: م. ن، ص 240 ۔ 244.

[64]. م. ن، ص 281، بتصرف.

[65]. في فلسفة التاريخ، ص 219.

[66]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 95، عن بؤس الفلسفة، کارل مارکس، ص 123 ۔ 124، دار اليقظة العربية، سوريا، ومكتبة الحياة لبنان، انظر أيضاً: فلسفتنا، ص 192 و213.

[67]. م. ن، ص 95، عن المادية الديالكتيكية، ستالين، ص 16، وأيضاً: فلسفتنا، ص 188 ۔ 190.

[68]. انظر: التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 44 ۔ 45.

[69]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 96.

[70]. م. ن، ص 97.

[71]. التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 46، بتصرف وتلخيص.

[72]. انظر: المجتمع والتاريخ، المطهري، ص 98 ۔ 100.

[73]. م. ن، ص 129.

[74]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 97۔ 98.

[75]. الجاثية: 13.

[76]. م. ن، ص 126، عن التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 154 ۔ 155.

[77]. التفسير الإسلامي للتاريخ، عن تفسير التاريخ عبدالحميد صديقي، ص 93.

[78]. لإيضاح الأفكار التأملية راجع هامش ص 298 من كتاب المجتمع والتاريخ، مطهري.

[79]. راجع المجتمع والتاريخ، ص 297 ۔ 300.

[80]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، د. صائب عبدالحميد، ص 99.

[81]. الرعد: 11.

[82]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 141، عن السنن التاريخية، عناصر المجتمع في التاريخ.

[83]. محمد باقر الصدر دراسات في حياته وفكره، محمد عبداللاوي، ص 266.

[84]. الجن: 16.

[85]. انظر: علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 137.

[86]. التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 53 ۔ 54، عن عبدالحميد صديقي، ص 98 ۔ 99.

[87]. م. ن، ص 54 ۔ 55.

[88]. المجتمع والتاريخ، مطهري، ص 129.

[89]. التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 56.

[90]. المجتمع والتاريخ، مطهري، ص 147.

[91]. التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 60، بتصرف.

[92]. المجتمع والتاريخ، ص 133، عن ماركس وماركسيسم، ص 245.

[93]. م. ن، ص 311.

[94]. م. ن، ص 317، عن لودفيج فيورباخ، ص 95.

[95]. م. ن، ص 318.

[96]. م. ن.

[97]. م. ن، ص 318 ۔ 319، عن ضد دوهرنك، ج2، ص 193.

[98]. الحجرات: 13.

[99]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، ص 139، عن التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 239۔242.

[100]. انظر: م. ن، ص 130.

[101]. انظر: التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل، ص 244.

[102]. انظر: المدرسة القرآنية، الشهيد الصدر، ص 87.

[103]. علم التاريخ ومناهج المؤرخين، صائب عبدالحميد، ص 139، نقلاً عن السنن التاريخية في القرآن.

[104]. الفرقان: 43.

[105]. السنن التاريخية في القرآن، الشهيد الصدر، ص 147، بتصرف.

[106]. البقرة: 170.

[107]. القصص: 38.

[108]. محمد باقر الصدر دراسات في حياته وفكره، محمد عبداللاوي، ص 260.