الخصائص التربوية لمنهجية الشهيد الصدر (رضي الله عنه)

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

الشهيد الصدر(قدس سره) مرجع اسلامي متميز، خص بمواهب وقدرات نادرة ومستوىً فريد من النبوغ والابداع، وكانت حياته زاخرة وزاهرة بالكثير من الخصوصيات، التي تركها ثروة غنية للامة الاسلامية عموما ولبناة حضارتها على وجه الخصوص.

وكان لابد للشهيد الراحل (قدس سره) ان يلعب دوراً عظيماً في ترسيخ وتعميق الجانب الفكري والدستوري للدولة الاسلامية التي قامت بقيادة زعيمها الفذ الامام الخميني (قدس سره) وصيانة مسيرتها الفتية من عوامل الانحراف والتيه، والتعقد، لما امتاز به هذا الرجل من قوة عقلية هائلة، وايمان الهي عميق بالتجربة الاسلامية الرائدة، وعلم مستفيض بتفاصيل معانيها ومفاهيمها وقيمها، ومراميها الالهية البعيدة، مما كان يوفر للمسيرة الالهية الجديدة السرعة والاتقان. ويجنبها الكثير من المطبات والعوائق غير الطبيعية.

غير ان يد الاستكبار اللئيمة وبتخطيط مقصود ومدبر مع صنائعها من «مسوخ نظام بغداد التكريتي» حرمت الدولة الاسلامية والامة الاسلامية من وجود هذا العالم الرباني الموهوب وسط التجربة الجديدة، سعيا منها لوضع العصي في عجلة تقدمها.

لقد كانت عملية انتزاع هذا الشهيد الكبير وآخرين من عمالقة الفكر الاسلامي الاصيل كالشهيد مطهري وبهشتي (قدس سره) من صميم حياة الثورة الاسلامية هدفا استكباريا يرمي الى افراغ التجربة الاسلامية من محتواها الفكري والعملي والمبدئي فما تلبث ان تتخبط وسط الترجيحات والشعارات السياسية والخطوط الفكرية المختلفة فتسقط، ليعاود الاستكبار ترديد مقولته القديمة المستهلكة بعدم جدوى تدخل الدين وعلمائه في الشؤون السياسية، وليوحي لابناء الامة الاسلامية بخطئهم في هدر دماء الآلاف من ضحايا الثورة وشهداء الاسلام. وليرسخ في النفوس التي صنعت نصر الاسلام الجديد هزيمة نفسية تحملهم على الانكفاء والعزلة الاجتماعية التي افلح الاستكبار في ابقائها كذلك طيلة قرون التبعية والضياع السياسي التي مرت على امتنا.

اذ ان بناء دولة عقائدية صامدة تحتاج الى الجهد الفكري الاصيل والجهد العلمي المؤمن معا فاذا ماتعطل احد الشرطين تعثرت العملية او فشلت. فالامكانية الفكرية لبناء دولة الاسلام لاتعني فقط المعرفة الفقهية او الاطلاع على الفكر الاسلامي او الضلوع في الفقه وأصوله والقرآن الكريم وتفسيره والحديث وعلومه. فهذا كله مطلوب وضروري ولكنه جانب واحد من الضرورة فقط، وهناك الحاجة الماسة الى وضع الخطط والمناهج لتطبيق الاصول الاسلامية في بنية الدولة الاسلامية الجديدة، ومالم تتوفر في القيادة القدرة الفكرية على وضع هذه المناهج والخطط فمن الممكن ان تفشل عملية وضع الاسس والهياكل التنظيمية للدولة الاسلامية، وربما تدخل اثناء ذلك عناصر غير اسلامية أو تقتبس مناهج غريبة عن الاسلام، وتختلط الانظمة الاسلامية بالانظمة الغربية وقد يصعب التمييز بينها وفرزها، ومن الممكن ان تواجه القيادة صعوبة في صياغة التكييفات القانونية اللازمة.. الخ من عقبات تحتاج الى اصالة فكرية وعمق مبدئي وذهنية مستوعبة منفتحة على واقع الاحداث والظروف الاجتماعية المختلفة بحيث تكون قادرة على قيادة التجربة وصيانتها من عوامل الانحراف أو السقوط، وهذه الذهنية لاتوجد الا عند مجتهد واع منفتح على العصر وذي قدرة خلاقة في الابداع التنظيمي، مما يجعل وجوده في صميم التجربة ضرورة ماسة وحاجة ملحة. لذلك وجدنا ان قوى الاستكبار المهزومة في معركتها مع الاسلام صممت على استئصال أمثال هذه المحاور الهادية من مجتمعنا بجد.

ولكن اللّه القدير الذي يرعى مسيرة التوحيد والهدى لايترك الركب بلا منارات مضيئة فعوض عن فقد امثال هؤلاء الافذاذ بزخم هائل من حركة واعية تدب في جسم الامة وروحها تستنهض بها الهمم وتوقظ فيها الامل والقدرة.

في هذا البحث نحاول ان نسلط الاضواء على الخصائص التربوية لمنهجية الشهيد الصدر (قدس سره) في كتبه التي الفها وسيرته العملية التي اختطها والنهاية الكريمة التي ختم حياته بها، عسى ان نوفق في استعراض جانب من جوانب حياته المشعة بالخير والعطاء.

1ـ الهدفية: في كل الكتابات والنشاطات التي قام بها شهيدنا العزيز خلال حياته الكفاحية المبدعة كانت ترتسم امامه الاهداف الكبيرة الثابتة والمقدسة لمسيرة الانسان في الوجود والغايات التي خلقه اللّه لاجلها، واراده ان يكدح سعيا باتجاهها، فالانسان كائن مستخلف في الارض تحمل ثقل الامانة الربانية وهو ممتحن ازاء ادائها باخلاص وايمان وهو متضامن مع الجماعة البشرية في نتائج هذا الكدح على طريق رضا اللّه تعالى لذلك فهو يرمي الى تغيير قيم الفرد والجماعة بشكل يتسق والهدف من عملية الاستخلاف الرباني للجماعة البشرية، اذ ان وعي ظاهرة الاستخلاف وحقيقتها المطلوبة يعني القضاء على كل العوائق المصطنعة والقيود التي تجمد الطاقات البشرية وتشلها وتعمل على هدر امكانات الانسان ومواهبه التي حباه اللّه بها، لتصبح فرص النمو متوفرة توفرا حقيقيا.

والنمو الحقيقي في مفهوم الاسلام ان يحقق الانسان الخليفة على الارض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعا في ذات اللّه عز وجل الذي استخلفه واسترعاه امر الكون فصفات اللّه تعالى واخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة واهداف للانسان الخليفة فقد جاء في الحديث، «تشبهوا باخلاق اللّه».

ولما كانت هذه القيم على المستوى الالهي مطلقة ولا حد لها وكان الانسان الخليفة كائنا محدودا فمن الطبيعي ان تتجسد عملية تحقيق تلك القيم انسانيا في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث الى اللّه. وكلما استطاع الانسان من خلال حركته ان يتصاعد في تحقيق تلك المثل ويجسد في حياته بصورة أكبر فأكبر عدالة اللّه وعلمه وقدرته ورحمته وكرمه ورفضه للظلم والجبروت سجل بذلك انتصارا في مقاييس الخلافة الربانية واقترب نحو اللّه في مسيرته الطويلة التي لاتنتهي الا بانتهاء شوط الخلافة على الارض[1] (يا أيُّها الانسان انك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه)[2] كما ان على الجماعة التي تتحمل مسؤولية الخلافة ان توفر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير كل الشروط الموضوعية وتحقق لها مناخها اللازم وتصوغ العلاقات الاجتماعية على اساس الركائز المتقدمة للخلافة الربانية[3].

فالاساس من الحركة الاجتماعية للمجتمع والنمو الفردي للشخصية المسلمة عنده ان يحققا الاهداف الربانية الكبيرة ( ياايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء للّه)[4] ولذلك رسخ (رضي الله عنه) هذا المفهوم بشكل عملي ومنهجي في كل مؤلفاته وكتاباته وفي كل ماتحدث به تلامذته واتباعه ونظر فيه للطليعة المؤمنة التي تأثرت به، وحملت افكاره.

اذ ان الرسالة الاسلامية عنده لم تعد مجرد نظرية تصلح للتباحث على اساسها في المدارس الاسلامية والحوزات العلمية او قيماً مثالية يكال لها المديح والثناء في المناسبات والمحافل، انما هي مسيرة ذات منهج واهداف، والذي يتشرف بالانضواء تحت لوائها لابد ان يتفانى بصدق في تمثلها سلوكاً عملياً متحركاً في ذاته وثورة اخلاقية عامة تترسمها الجماعة المؤمنة سننا واعرافا ماثلة في البيت والشارع والمؤسسات المجتمعية المختلفة.

لذلك وجدناه (رضي الله عنه) مرجعاً دينياً وقائداً اجتماعياً، يسعى نحو تحقيق اهداف الرسالة بالكتابة والعمل، فحول المرجعية من قيادة ذات اسلوب فردي الى مؤسسة قيادية ذات مسؤليات عالمية، ونشر اطروحته في المرجعية الصالحة او (الرشيدة) لتكون منهج مسيرة جديدة لعالم المسلمين الذين ينهضون باعباء الامانة الرسالية[5].

2ـ الشمولية: ان الرجل الذي عرف الهدف من المسيرة الانسانية من وجهة نظر الاسلام وشخص المبدأ والمنتهى في حركة المجتمع والفرد لم يفته ان ينظر للاسلام (وهو نتاج العقل والمنطق) الذي تتحرك باتجاهه الانسانية نظرة شمولية كلية مستوعبة بعكس غيره من الذين تصدوا لدراسة الاسلام في احد جوانبه، واهملوا بقصد او دون قصد جوانبه الاخرى المهمة.

ان النظرة الشمولية الكلية للاسلام اعطت الرسالة صورة واضحة لمعتنقيها كما كشفت وجهها المشرق والخطر لاعدائها، بحيث ازداد ابناؤها بها تشبثاً وتمسكاً، اعتزازا منهم بقيمها الفذة، ودفعت اعداء امتنا الى اليقظة في مواجهة موجة الوعي التي استحدثها هذا المفكر الرباني بعرضه الشمولي للاسلام.

لقد استطاع (رضي الله عنه) ان يضع منهاجاً شاملاً لبناء الامة الاسلامية والانسان الملتزم يعتمد على اصول اعتقادية عقلية ناضجة وينهج قيماً ربانية سامية في التعامل مع الغير ومع الذات ومع اللّه، ويسعى حثيثا في خلق مسار اجتماعي واع وانشاء دولة اسلامية تطبق فيها احكام اللّه العادلة وحدها.

وقد تجلى منهجه الشمولي هذا بطرح الاسلام دينا كاملا فيه العقيدة والنظام والمنهج بحلقات ثلاثة منسجمة بعضها بعض مؤكداً كمال الاسلام من جهة واصالته واستقلاليته من جهة ثانية، بحيث لايحتاج الاسلام الى الاقتباس من الشرق أو الغرب، كما وضح تميز المنهج الاسلامي عنها بالكمال والافضلية ولم يطرح الاسلام مبدأً في مصاف المبادئ الاخرى او مدرسة في مصاف المدارس الاخرى (كالرأسمالية والماركسية) بل طرحه منهجاً صاحب احقية يستمدها من أفضليته الموضوعية والمصدرية، وعلى هذا الاساس هاجم المدارس الفكرية الاجتماعية الاخرى ولم يقف موقف المقارنة السليمة التي عقدها مفكرون آخرون.

وقدم في هذا الاتجاه كتاب (فلسفتنا) الذي وظف فيه الفلسفة للدفاع عن العقيدة الاسلامية حين رسم من خلال موضوعاتها الصورة الصحيحة لاخطر قضية حياتية قائمة في مسيرة الانسان العملية والاخلاقية والسلوكية وهي طريقة التفكير عند الانسان، حيثُ المنهجُ في الفهم والعرض والتبليغ وبحث فيه كل المسائل الشائكة بشأن الكون والحياة والانسان والمجتمع والدولة والنظام، باسلوب واضح وشيق.

حتى ان الاستاذ اكرم زعيتر السياسي الاردني المعروف علق على هذه الدراسة بقوله: «وبعد فان كتاب فلسفتنا هو دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية وخاصة بين الفلسفة الاسلامية والمادية الدياكتيكية الماركسية وهذه الدراسة تتسم بالدفاع المنطقي الحار عن الميتافيزيقية الالهية حتى يمكن القول ان الكتاب هو جهد فلسفي منطقي موفق لنسف الاسس الفلسفية للالحاد وانني اعتقد ان المادية الدياكتيكية الماركسية لم تجابه بمناقشة فلسفية واعية فاهمة ولم تقرع بردود علمية من قبل كتّاب العرب المتفلسفين كما جوبهت وكما قرعت بهذا الكتاب»[6].

ويأتي في سياق تقديمه الاسلام للامة ضمن هذا الاتجاه الشمولي الكلي كلماته التي كتبها لمجلة الاضواء النجفية تحت عنوان (رسالتنا)، فعرفها للناس على انها رسالة خالدة متطورة تستجيب لمطالب الزمن وتبدلاته، وهي انسانية عالمية لاتعرف حدوداً إقليمية أو صيغاً قومية، وهي انقلابية تغييرية لاتقر من القيم الشائعة الا مايأتلف منها ومبادئ العقيدة السليمة، وهي قادرة على حل مشكلات الانسان المتنوعة التي تتضاعف بسبب تغربه عنها واقصائها عن التصدي اليومي لشؤون الحياة العامة.

كما انها قاعدة للوحدة الحقيقية الاجتماعية، «هذه الوحدة التي دعا اللّه تعالى عباده المتقين الى تحقيقها، فهي ليست وحدة المصالح وليست تقوم على الارغام، وانما تنبع من القلوب المؤمنة باللّه والعاملة له، فهي وحدة تتفق وواقع الكائن الانساني حيث تترك له مجاله وشخصيته وتهيِّئ له جميع وسائل النمو والتفتح وتوازن بين طاقاته فلا تغلب فيه طاقة على طاقة واستعداد على استعداد. فالاسلام ينظم مصالح الافراد والطبقات والمصالح العامة ويوفر لها الانسجام والتناغم فلاتتصادم فتؤدي بالمجتمع الى التصدع والانحلال[7].

3ـ العملية: لقد تعامل الشهيد (قدس سره) مع الفكر الاسلامي تعاملا عمليا واقعيا بعيداً عن النظرة المثالية معتبراً اياه ذا وظيفة اجتماعية تستهدف اصلاح المجتمع واقامة نمط من الحياة الفاعلة على اساسه وسط الصراعات الايديولوجية التي اجتاحت العالم في القرن الحالي، كما استهدف تربية جيل من الناس على هذه المفاهيم املا في احياء الجذوة الاسلامية التي طمسها الاستكبار العالمي عن طريق الغزو العسكري لبلادنا.

يقول (رضي الله عنه) في مقدمة كتاب فلسفتنا: «غزا العالم الاسلامي منذ سقطت الدولة الاسلامية صريعة بايدي المستعمرين سيل جارف من الثقافات الغربية القائمة على اسسهم الحضارية، ومفاهيمهم عن الكون والحياة والمجتمع فكانت تمد الاستعمار امدادا فكريا متواصلا في معركته التي خاضها للاجهاز على كيان الامة وسر اصالتها المتمثل في الاسلام.

ووفدت بعد ذلك الى اراضي الاسلام السليبة امواج اخرى من تيارات الفكر الغربي ومفاهيمه الحضارية لتنافس المفاهيم التي سبقتها الى الميدان، وقام الصراع بين تلك المفاهيم الواردة على حساب الامة وكيانها الفكري والسياسي الخاص.

وكان لابد للاسلام ان يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير وكان لابد ان تكون الكلمة قوية صريحة واضحة كاملة شاملة للكون والحياة والانسان والمجتمع والدولة والنظام ليتاح للامة ان تعلن كلمة (اللّه) في المعترك، وتنادي بها وتدعو العالم اليها كما فعلت في فجر تاريخها العظيم»[8].

وهكذا فهو يدعو العالم الى كلمة اللّه المتمثلة بالرسالة الخاتمة ليعود المجتمع الى وضعه التاريخي العظيم زمن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، ومن أجل توضيح معالم التعامل في المجتمع الاسلامي واسلوب العلائق بين الناس، قدم للعاملين دراسات عملية وافية تبسط لهم السبيل.

وقد كان سفره النفيس (اقتصادنا) محطة شاخصة على هذا الشوط، كما كان ينوي رحمه اللّه اصدار (مجتمعنا) دراسة اخرى يتناول فيها افكار الاسلام عن الانسان وحياته الاجتماعية وطريقته في تحليل المركب الاجتماعي وتفسيره، ليخلص بعد ذلك الى مرحلة ثالثة من الكتابة تشمل النظم الاسلامية للحياة التي تتصل بافكار الاسلام الاجتماعية وترتكز على صرحه العقائدي الثابت[9].

لقد عرض الشهيد الصدر (رضي الله عنه) النظرية الاقتصادية الاسلامية في كتابه (اقتصادنا) بشكل عملي وواقعي، معتمدا في ذلك على استيعابه الرائع لمفاهيم وقيم ومبادئ الرسالة الاسلامية، ومستفيدا من موقعه الاجتهادي في الحوزة العلمية بما مكنه من صياغة اطروحة ناضجة ومتكاملة للبنية الاقتصادية كما يريدها الاسلام. وهنا انقل لكم فقرة من فقرات كتابه لنرى كيف يربط بين المعتقد التوحيدي في شخصية الانسان المسلم والانتاج الاقتصادي. يقول (رضي الله عنه): «فنظرة انسان العالم الاسلامي الى السماء قبل الارض يمكن ان تؤدي الى موقف سلبي تجاه الارض ومافي الارض من ثروات وخيرات يتمثل في الزهد والقناعة والكسل اذا فصلت الارض عنه السماء واما اذا البست الارض اطار السماء واعطى العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الانسان المسلم الى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة باكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي وبدلا عما يحسه اليوم المسلم السلبي من برود تجاه الارض أو مايحسه المسلم النشيط الذي يتحرك على وفق اساليب الاقتصاد الحر أو الاشتراكي من قلق نفسي في اكثر الاحيان، ولو كان مسلما قيما سوف يولد انسجام كامل بين نفسية انسان العالم الاسلامي ودوره الايجابي المرتقب في عملية التنمية»[10].

لقد ربط رحمه اللّه الجهد البشري المبذول في كل المجالات، بالقيمة الغائية التي يسعى الانسان الى تحقيقها، فقد اعطى الشريعة الاسلامية بشروحاته هذه واطروحاته صفة تطبيقية في عصر اتهمت فيه هذه الشريعة بالرجعية والجمود أو في احسن احوالها بالمثالية والطوبائية.

وبذلك يكون قد وظف الجوهر الحيوي المتحرك في الاسلام وبشكل تفصيلي في حياة الفرد المسلم والمجتمع الاسلامي.

ولذا فاننا حين نقرأ رسالته العملية التي طرحها لمقلديه نجده يختلف تمام الاختلاف عن غيره في اسلوب كتابتها الميسرة لغير المختصين بالدراسات الفقهية من عموم الناس، مبتعداً قدر الامكان عن استعمال الكلمات الغريبة والقديمة، وان هو اخطر الى استعمالها في معانيها الاصطلاحية، نراه يبادر الى شرحها وكشف مضامينها.

وحين يخطط لكتابة هذه الرسالة نجده يستعمل تقسيماً جديداً لمباحث احكامها يتوافق تماما مع نظرته العملية للشريعة الاسلامية مما يجعل الرسالة اكثر يسرا في تداولها بين اولئك المقلدين.

فقد اشتمل القسم الاول منها على احكام العبادات.

والقسم الثاني على مبحث احكام الاموال وهو يشتمل على الاموال العامة والاموال الخاصة.

والقسم الثالث يحتوي على السلوك الخاص.

اما القسم الرابع فيحتوي على السلوك العام[11].

وهو انما يكتب (الفتاوى الواضحة) «ان الرسائل ـ الرسائل المتداولة ـ لم تعد تدريجا بوضعها التاريخي المألوف كافية لاداء مهمتها بسبب تطور اللغة والحياة، واحكام الشريعة العامة وان كانت ثابتة، ولكن اساليب التعبير تختلف وتتطور من عصر الى عصر آخر وواقع الحياة تتجدد وتتغير وهذا التطور الشامل في مناهج التعبير ووقائع الحياة يفرض وجوده على الرسائل العملية بشكل وآخر.

والمصطلحات الفقهية التي تعتمد عليها الرسائل العملية غالبا للتعبير عن المقصود، قد كان من مبرراتها تاريخيا اقتراب الناس سابقا من تلك المصطلحات في ثقافتهم، بينما ابتعد الناس عنها اليوم وتضاءلت معلوماتهم الفقهية حتى اصبحت تلك المصطلحات على الاغلب غريبة تماما.

وعرض الاحكام من خلال صور عاشها فقهاؤنا في الماضي أمر معقول، فمن الطبيعي ان تعرض احكام الاجارة مثلا من خلال افتراض استئجار دابة للسفر ولكن اذا تغيرت تلك الصور، فينبغي ان يكون العرض لتلك الاحكام نفسها من خلال الصور الجديدة، ويكون ذلك اكثر صلاحية لتوضيح المقصود بالتعبير المعاصر.

والوقائع المتزايدة والمتجددة باستمرار، بحاجة الى تعيين الحكم الشرعي ولئن كانت الرسائل العملية، تاريخيا، تفي باحكام ماعاصرته من وقائع: «فهي اليوم بحاجة الى ان تبدأ تدريجا باستيعاب غيرها مما تجدد في حياة الانسان»[12]، وعلى العموم فأن الشهيد الصدر (رضي الله عنه) قدم الاسلام لقرائه ومقلديه ولجميع المسلمين دينا عمليا يعالج مشاكل العصر ويتذلّل في طريقه مستجدات الصعاب.

4ـ الايجابية والثورية: لم يقدم الشهيد المرجع النظرية الاسلامية لقرائه على انها مجرد نظرية متكاملة وغنية يستفيد منها الباحثون والكتاب ومدرسو الثقافة الاسلامية فحسب، بل قدمها ثورةً مغيرة وانقلاباً جذرياً للواقع الاجتماعي المعاصر باتجاه القيم والمفاهيم التي بلورها وجسدها وانتزعها من صميم الاسلام علاجاً ناجحاً للادواء والامراض الاجتماعية والاخلاقية والسياسية والاقتصادية والروحية التي اصيب بها من جراء الركض المستمر والانبهار اللامحدود بالحضارة المادية.

لقد حدد الشهيد (قدس سره) المسار الجديد للحركة الالهية في صلب الواقع الاجتماعي واعتبر هذا التحديد امتدادا لنضال وكفاح كل الانبياء والرسل باتجاه تحكيم المبادئ الالهية العادلة في المجتمعات التي بعثوا فيها. كما اعتبر العمل التغييري الجذري للمؤسسات الاجتماعية والوضع الاجتماعي العام للامة بما فيها الافراد كعناصر مؤثرة في الحركة الاجتماعية موضوعات ذات بعد عملي ومؤثر في اي تغيير اجتماعي وسياسي مقصود ولذلك كان يؤكد أهمية وقسمة الايتين الكريمتين (لايغير اللّه مابقوم حتى يغيروا مابانفسهم )[13] و(ذلك بأن اللّه لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا مابأنفسهم)[14].

ولذلك فانه يلخص الفكرة الاسلامية في الرسالة الاسلامية على انها «فكرة انقلابية ثورية لانها تصنع للانسان قواعده الرئيسة التي تتبلور طبقاً لها شخصيته الروحية والفكرية من نظرة عامة نحو الحياة والكون ومقياس عملي اعلى في الحياة وطريقة عقلية عامة في التفكير ثم تقييم المجتمع على اساس تلك الاسس التي كونت منها شخصية الانسان الكاملة، فالمسألة في نظر الاسلام هي صنع انسانية بخصائصها الروحية والفكرية التي تتيح لها القيام باعبائها ورسالتها في العالم وليست ترميما واصلاحا لجانب اجتماعي فقط»[15].

وعمل رحمه اللّه على تربية الطليعة الرائدة من رجال الحركة الاسلامية في العراق وفي بلاد اسلامية اخرى على نهجه الحركي الايجابي هنا، حتى نمت الثورة الاسلامية في نفوسهم ونفوس الناس من حولهم، فصارت اليوم نارا تأكل الطغاة وتؤرقهم، ومصنعا يصنع الغد الاسلامي للامة التي عرفت طريق خلاصها ونجاتها.

فالشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) هو مؤسس الفكر الثوري في الحوزة النجفية الحديثة وباني صرح الحركة الاسلامية في العراق وباعث اطروحة القيادة المرجعية باسلوبها الموضوعي.

ان هذه الصروح الثلاثة هي من نتائج النظرة الايجابية الحركية والثورية للامام الشهيد (رضي الله عنه) وهي انقلاب واضح على الاتجاهات السلبية والتقليدية التي سادت الى امد معين اجواء الامة والحوزة والمرجعية.

وبادر (رضي الله عنه) في هذا العصر المظلوم من حياة التغرب والاغتراب لامتنا الى تحفيز الاجواء المحيطة به للعمل على صنع مستقبل يقوم على قواعد العدل الالهي بالدعوة الى انشاء حكومة اسلامية تكون امتدادا واعياً للحركة الالهية التي جسدها الانبياء والمرسلون على طول مسار التاريخ فهو يرى «ان الانبياء ظلوا يواصلون بشكل واخر دورهم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولى عدد كبير منهم الاشراف المباشر على الدولة كداود وسليمان (عليهما السلام) وغيرهما وقضى بعض الانبياء كل حياته وهو يسعى في هذه السبيل كما في حالة موسى (عليه السلام) واستطاع خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله) ان يتوج جهود سلفه الطاهر باقامة انظف وأطهر دولة في التاريخ شكلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الانسان وجسدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً.

وعلى الرغم من ان هذه الدولة قد تولاّها في كثير من الاحيان بعد وفاة الرسول الاعظم قادة لايعيشون اهدافها الحقيقية، ورسالتها العظيمة فان الامامة التي كانت امتدادا روحياً وعقائدياً للنبوة ووريثا لرسالات السماء مارست باستمرار دورها في محاولة تصحيح مسار هذه الدولة واعادتها الى طريقها النبوي الصحيح وقدم الائمة عليهم السلام في هذه السبيل زخماً هائلاً من التضحيات التي توجها استشهاد ابي الاحرار وسيد الشهداء ابي عبد اللّه الحسين مع الصفوة من أهل بيته واصحابه في يوم عاشوراء.

وقد امتدت الامامة بعد عصر الغيبة في المرجعية كما كانت الامامة امتدادا بدورها للنبوة وتحملت المرجعية اعباء هذه الرسالة العظيمة وقامت على مر التاريخ باشكال مختلفة من العمل في هذه السبيل او التمهيد له بطريقة اخرى.

وقد عاش العالم المسلم الشيعي دائماً مع كل الصالحين وكل المستضعفين من ابناء هذه الامة الخيرة عيشة الرفض لكل الوان الباطل والاصرار على التعلق بدولة الانبياء والائمة بدولة الحق والعدل التي ناضل وجاهد من اجلها كل ابرار البشرية واخيارها الصالحين»[16].

ويرى الشهيد الصدر بأن الشعب المسلم انما يشكل القاعدة الكبرى لهذا الرفض البطولي والثبات الصامد على طريق دولة الانبياء والائمة والصديقين باعتباره الجزء الاكثر التحاما مع المرجعية الدينية واسسها المذهبية.

وبفضل هذا الالتحام الرائع بين القاعدة الرافضة والقيادة الحكيمة التي تجسدت بشخص الامام الخميني (قدس سره) استطاعت ان تطيح بطاغوت ايران وبكل المصالح الاستكبارية التي كان يمثلها.

ومن هنا كان طرح المرجعية الرشيدة للجمهورية الاسلامية شعاراً وهدفاً وحقيقةً، تعبيراً حياً عن ضمير الامة وتتويجاً لنضالها وضماناً لاستمرار هذا الشعب في طريق النصر الذي شقه له الاسلام.

فالمرجعية بمنظار الشهيد الكبير تعني «حقيقة اجتماعية موضوعية في الامة تقوم على اساس الموازين الشرعية العامة وهي ـ تطبيقاً ـ تتمثل فعلا في المرجع القائد للثورة الاسلامية الذي قاد الشعب قرابة عشرين عاما وسارت الامة كلها خلفه حتى حقق النصر.

واما مقولةً عليا للدولة الاسلامية على الخط الطويل فهو يرى ان تتوفر في الشخص الذي يجسد هذه المقولة:

1ـ صفات المرجع الديني من الاجتهاد المطلق والعدالة.

2ـ ان يكون خطه الفكري من خلال مؤلفاته وابحاثه واضحا في الايمان بالدولة الاسلامية وضرورة حمايتها.

3ـ ان تكون مرجعيته بالفعل في الامة بالطرق الطبيعية المتبعة تاريخيا.

4ـ ان يرشحه اكثرية اعضاء مجلس المرجعية ويؤيد من قبل عدد كبير من العاملين في الحقول الدينية كعلماء الحوزة وطلبتها والعلماء والوكلاء وأئمة المساجد والخطباء والمؤلفين والمفكرين الاسلاميين، وفي حالة تعدد المرجعيات المتكافئة من ناحية هذه الشروط يعود الى الامة امر التعيين من خلال استفتاء شعبي عام»[17].

وهكذا ختم الشهيد الصدر (قدس سره) حياته الزاخرة بالعلم والعطاء وهو يجسد المفاهيم الحية التي استنبطها من واقع الاسلام العظيم، فكان رجل تنظير وفكر، كما كان رجل ثورة وجهاد، ومثلما كان المرجع والفقيه.

وهل كان يليق بمثله الا ان يسعد بالشهادة ؟!

فالذي قاد شعبه الى الصراع مع الباطل والطغيان، وانصهر وهو المرجع المفكر بكل خصوصياته وميزاته في شخص القائد العظيم امام الامة الذي رأى وجوب طاعته باعتباره رائد المسيرة وزعيمها، وطلب من شعبه ان يذوبوا في الامام لانه ذاب في الاسلام وثار من اجله.

فسلام عليك ايها الشهيد السعيد يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا.

علي الاديب

[1]الاسلام يقود الحياة للشهيد الصدر ص 141

[2] الانشقاق / 6.

[3] الاسلام يقود الحياة ص 142

[4] النساء / 135.

[5] انظر الجانب الحركي في شخصية الشهيد الصدر / بحث منشور في: مجلة الجهاد العدد الخامس لسنة 1403 هـ.

[6] مجلة الاضواء السنة الاولى العدد الاول 1379 هـ نقلا عن صحيفة الحياة الدورية.

[7] رسالتنا ص 31.

[8] فلسفتنا ص 6

[9] اقتصادنا ص 27 مقدمة الطبعة الاولى.

[10] اقتصادنا ص 22 من مقدمة الطبعة الثانية

[11] الفتاوى الواضحة ص 99 المقدمة.

[12] المصدر السابق.

[13] الرعد / 11.

[14] الانفال / 53.

[15] رسالتنا ص 64.

[16] الاسلام يقود الحياة ص 6.

[17] الاسلام يقود الحياة ص 13، 14.