منتدى المنهاج: حوارات حول شخصية السيد الشهيد وفكره ودوره اجرتها هيئة تحرير مجلة المنهاج مع ثله من العلماء والمفكرين هم:
المشاركون: العلامة السيد محمد حسن الامين، العلامة الشيخ حسن طراد، د. حسن حنفي، د. محمد البشير المغلي، الشيخ د. فتحي
تكن شخصية السيد الشهيد محمد باقر الصدر متعددة الجوانب، ومتفردة على مختلف المستويات، وما كان ممكنا ان يكتمل التعرف اليها من طريق الدراسات والمقالات فحسب، ولهذا رات هيئة تحرير مجلة المنهاج ان تعتمد مقاربة اخرى تتمثل في اجراء حوارات مع علماء ومفكرين عرفوا السيد الشهيد معرفة شخصية وثيقة او من خلال كتبه وآثاره العلمية. فسعت الى عدد من العلماء والمفكرين تطلب منهم المشاركة. ووفقت، بعون اللّه، الى اجابات نخبة منهم هم: السيد محمد حسن الامين، الشيخ حسن طراد، الدكتور حسن حنفي، الدكتور محمد البشير الهاشمي مغلي، الشيخ دكتور فتحي يكن، عن كثير من الاسئلة التي طرحتها، وفي ما ياءتي يجد القارئ الاسئلة والاجابات عنها… وكان اللقاء الاول مع سماحة السيد محمد حسن الامين. وفي ما ياتي نقدم ما دار، في حوارنا معه، من اسئلة واجوبة.
عرفتم السيد الشهيد معرفة شخصية وحضرتم مجالسه، هل يمكن ان تقدموا للقارى صورة عن هذه الشخصية كما عرفتموها معرفة مباشرة؟
تعرفت الى شخصية الشهيد الصدر مباشرة في اعوام الستينات، في النجف الاشرف، ايام طلب العلم، وحضرت بعض دروسه والكثير من مجالسه. لا يستطيع المرء ان يقدم صورة وافية عن هذه الشخصية المتميزة، ولكن ذلك لا يمنع من قراءة بعض عناوين هذه الشخصية، بدءا من المميزات الخاصة بهذه الشخصية، وهي مميزات الخلق النبيل، والعلم الوفير، والورع، والحب. واركز على كلمة «الحب» فاقول: ان كل من اتصل بالسيد الشهيد خرج باحساس مفاده ان هذا الرجل، على الرغم من توفر عناصر النبوغ الفكري والعلمي في شخصيته، فان العنصر الجاذب في شخصيته هو هذا المقدار من الحب، حب الاخر، حب الحقيقة، حب يكاد يكون في اطار شبه شخصي ايضا. واعتقد ان هذه الصفة تلازم عظماء الرجال الذين يغيبون الكثير الكثير من حضور «الانا» في داخلهم، لان همومهم العامة وهموم التغيير تملا وجدانهم، وتملا آفاق سلوكهم الى درجة لا يعود هناك متسع للاهتمام بذواتهم. اقول هذا الكلام، وانا اعلم ان شخصيات كثيرة علمية وفكرية في الحوزة العلمية في النجف الاشرف كان السيد الشهيد يتميز اذا قورن بها بهذه الجاذبية الشخصية، التي اعتقد ان مصدرها هو هذا الحب العارم للاخر وللحقيقة… وانتقل من هذه الخاصية الى المنحى الفكري الذي تمثله شخصية السيد الشهيد، حيث الانطباع المباشر الذي يخرج به من يجلس اليه، هو هذا النوع من التكامل في هذه الشخصية. يوجد اختزان جدي وكامل لتراثنا العلمي والفقهي والاصولي والفلسفي والتاريخي، وما عدا ذلك من المعارف الاسلامية، ولكنها لدى السيد الشهيد تعود لتغدو كانها انتاج، او ابداع شخصي، بمعنى ان لدى الشهيد طاقة في تحويل الخبرة السائدة الى معرفة جديدة. والسر في ذلك يعود الى ان السيد الصدر لم يكن يعتقد ان العالم هو كتاب متحرك… كان ينظر الى المعرفة على انها انبثاق حي وحيوي ومعاصر وملامس بصورة كاملة ودقيقة لتطلعات عصره وجيله… ثم ان السيد كان رجلا مستقبليا، فانت حين تستمع اليه وتحاوره فانك تشعر من دون شك بانه، بالاضافة الى هذه القدرة الفائقة على اختزال الماضي، مسكون بالمستقبل لدرجة ان هاجسه الاساس هو المستقبل اكثر من الماضي. وهذا ما جعله ينطلق مبكرا في اعادة انتاج الفكر الاسلامي على النحو الذي مكنه من ان يحدث نقلة نوعية في هذا الفكر وينجز مشروع معاصرة حقيقية، ربما كانت تحتاج الى عدد كبير من الرجال وعدد من المؤسسات ايضا، لكن السيد الشهيد استطاع ان يحدث هذه النقلة النوعية خلال مدة قصيرة من الزمن بالمقارنة مع الازمنة التي تحتاج اليها مثل هذه النقلات الكبيرة في تاريخ الفكر وفي تاريخ المؤسسات جميعها. وتجلى ذلك في جميع ما انتجه السيد الشهيد، سواء على مستوى العلوم الاكاديمية، اي الفقه والاصول، ام على مستوى الفلسفة، ام على مستوى الرؤية الفكرية للازمة البشرية المعاصرة ولازمة الفكر الاسلاميالمعاصر. وبالتالي فان هذه المعارف التي نتكلم عليها جزء اساسي منها موثق في مؤلفاته التي يتيح الاطلاع عليها جزءا من معرفة السيد الشهيد، ولكن هذه المعرفة من وجهة نظري لا تكتمل الا بهذا النوع من التماس الشخصي، اوالمعرفة الشخصية للسيد الشهيد، وهذه القدرة الفائقة على رؤية الواقع ونقده. واذكر ان السيد الشهيد، بالاضافة الى هذه الاهتمامات الكثيرة التي كان يواجه مسؤولياتها في الحوزة وفي التاليف والكتابة، كان يتابع بصورة دقيقة المميزات الفكرية وحتى الشخصية لدى عدد كبير من طلاب العلم آنذاك، وكان لا يقلل من اهمية اي موهبة، بل كان يشجعها، ويظهر وهو يشجع هذه الموهبة سواء كانت ادبية ام فكرية انه على المام دقيقبالموضوع الذي تنطلق منه هذه الموهبة وتصب فيه. ولا انسى، هنا، ان اشير الى ان السيد، في جلساته، واحيانا قبيل وقت الدرس، كان حريصا على ان يظهر انه ليس مجرد ناقل معرفة او حتى انه ليس منتجا للمعرفة بمعزل عن الاهتمامات الاجتماعية والسياسية التي تدور في عصره، فكان يلمح، من خلال بعض ما يرويه لطلابه، الى امور، ثم يتركهم، بعد ذلك، يفكرون بمغزاها وبما المح اليه هذا الرجل.ذات مرة اذكر انه تكلم على احد اساتذة الحوزة الكبار وكنا في مجلسه فقال: ان هذا الاستاذ الكبير الذي كان يدرسيوميا، والذي كان حريصا على ان يدرس في جميع الايام من دون عطلة، كان ان حصلت احداث سياسية دموية فيعصره في العراق، فجاء الطلاب او بعض الطلاب، وكانوا يعتقدون ان استاذهم سوف يعطل في مثل هذا اليوم، ولكن الاستاذ جلس على عادته وفتح الكتاب وشرع في الدرس، ودرس الطلاب الموجودين، فساله احدهم، بعد انتهاء المحاضرة، او الدرس: كيف تدرس في مثل هذا اليوم الذي تعرف ماذا جرى فيه؟
فاجاب الاستاذ: ان هذا لا يجوز ان يعطل دروسنا على الاطلاق، فنحن نهتم بالدرس وبالدرس فحسب. وكان السيد، وهو يروي لنا هذا الحادث،حريصا على ان لا ينال من شخصية هذا العالم الكبير، ولكنه ترك لنا هامشا كبيرا لننتقد نحن هؤلاء العلماء الكبار الذين لم يكونوا قادرين على ان يعيشوا قضايا عصرهم، وكانوا يظنون اننا اذا كنا حريصين على الدرس فقط، نستطيع ان نحقق غاياتنا ونقوم بواجباتنا فيما السيد الشهيد كان يريد القول: ان النجف الاشرف ليست مجرد مكان لتلقي الدروس فحسب، بل هي، ايضا، مكان لتحسس المشكلات التي تعصف بعالمنا الاسلامي وبالعراق وبما حولنا، وان المدرس الكبير يجب ان يكون فيه شيء من نزعة القيادي المسؤول الذي يعطي مساحة مهمة للاحداث الاساسية التي تدور فيعصره، وان الدرس ليس كل شيء رغم اهميته. اقول: ان المرء، لو اراد ان يستطرد، لتكلم طويلا عن مثل هذه المميزات التي طبعت شخصية السيد الشهيد، والتيكرسته معلما متميزا في تاريخ النجف وفي التاريخ الفكري والسياسي الاسلامي المعاصر، وبالتالي فنحن نعتقد انمزيدامن تخصيص الابحاث والدراسات عن هذه الشخصية هو جزء من تخصيص الابحاث والدراسات عن مرحلة بكاملها وعن مفصل من مفاصل النهوض الفكري الاسلامي الشيعي بكامله.
ما موقع السيد الشهيد ودوره في تطور حركة الفكر الاسلامي المعاصر؟
يعد السيد الشهيد احد كبار المفكرين الاسلاميين المعاصرين،… وتتصف شخصيته بالكثير من المميزات والخصوصيات في انتاج المعرفة وفي المنهج الذي اسهم في ارساء حركة الفكر الاسلامي المعاصر الراهنة. وهنا اود ان اشير الى ان السيد الشهيد، بالاضافة الى اهتمامه باطلاق
حركة الفكر الاسلامي المعاصر، كان مشغولا، بحكم موقعه، بجانب اساسي هو الدراسات الحوزوية ومناهج الدراسات الحوزوية، وكانت حركته في هذا الاتجاه تحاول ان تلائم بين تطوير الدراسات الحوزوية وانجاز معطيات ميدانية في مجال الفكر الاسلامي المعاصر غير الحوزوي. ولعل الظروف والمعطيات الضاغطة، داخل الحوزة في العراق، كانت مؤثرة الى درجة لم تتح الفرص والامكانات الكبيرة لكي يقدم السيد الشهيد نماذج اكثر كمية وكثافة مما قدمه، ولكن ضياع مثل هذه الفرصة لم يكن عبثيا ، وانما كان لحساب ما انجزهعلى مستوى التطوير المنهجي للدراسة الحوزوية نفسها، ونحن ندرك ان تطوير مثل هذه الدراسة هو نقلة نوعية لكي يكون العالم المسلم المتخرج من هذه الحوزة معدا لان يسهم في حركة تطوير الفكر الاسلامي المعاصر والاجابة عن الاسئلة التي تتحدى هذا الفكر. سوف اشير، هنا، الى عمل فكري فلسفي تفسيري قام به السيد الشهيد، وهو عمله المتعلق بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم.
نحن نعرف ان السيد الشهيد، عندما اطلق هذه الاطروحة، بدا كانه يقترح مجرد منهج للتفسير يتميز ببعض الخصائص الايجابية التي لا توجد في مناهج التفسير القديم، حيث اقترح ان يكون التفسير الموضوعي على هذا الشكل: انت تستحضر مشكلة من المشكلات التي تواجهها في عصرك، ثم تذهب الى القرآن الكريم، فتساله عن هذهالمشكلة، فيجيبك القرآن الكريم عنها. بعضهم راى ان مثل هذا التفسير الموضوعي موجود من خلال الموضوعات الاسلامية التي بحثها مفكرون اسلاميون وكتاب اسلاميون واستشهدوا عليها بالقرآن الكريم، قالوا: ان هذا هو ايضا تفسيرموضوعي. انا اعتقد ان ما يرمي اليه السيد الشهيد، ويريد ان يغرسه ويرسيه في الوجدان الفكري والعلمي لطلابه وللمثقفين المسلمين هو ان هناك فاصلا بين المعرفة الاسلامية وبين الهموم التي تتراكم شيئا فشيئا عبر التطور السريع الذي شهدته القرون المتاخرة. كان السيد الشهيد لا يستطيع ان ينتقد بصورة مباشرة المعرفة الموروثة، ويريد معرفة مستقبلية. اراد، من خلال التفسير الموضوعي، ان يدفع بالمثقف، او المفكر، او طالب العلم المسلم، الى التفكير فيالعصر وفي مشكلات العصر اكثر فاكثر، وان يجعل من هذا الطالب، او هذا المفكر، عنصرا فاعلا في استقراء المعطيات الجديدة والمتجددة باستمرار للقرآن الكريم، والتي حرم القرآن الكريم منها لان الكثير ممن يقراونه ويريدون تفسيره يلجاون، دائما، الى من فسره في السابق. السيد الشهيد الذي يشير الى ان القرآن هو نص متجدد كان يريد ان يربط هذه المقولة بمسار حيوي ومسار تطبيقي، اي ان هذا القرآن ما دام هو كلام اللّه المتجدد، فاذا علينا ان نكون على معرفة بما يتجدد من قضايا الفكر والوجود والاجتماع الانساني لنسال القرآن عنها. هذا ينطلق من عنوان اساسي هو ما اشرت اليه سابقا، ومفاده ان السيد الشهيد كان عقلا مستقبليا، وكان يدرك ان الامة الاسلامية عاشت قرونا من الجمود، ما جعلها امة غير فاعلة وغير منتجة في عصرها، وان اعادة الامة الى موقع التفاعل والانتاج والابداع في عصرها يتطلب اختراق هذا القدر الكبير من العصور الجامدة، التي لم تبدع فيها هذه الامة. وهذايتم عبر التفكير في قضايا المستقبل، وبالتالي في قضايا المعرفة التي انتجتها مسيرة الانسان. انا لم اجد مفكرا اسلاميا،على اهمية حرصه على الاطروحة الاسلامية، متعاطفا مع الانجازات الفكرية الانسانية بالدرجة التي وجدت عليها الشهيد الصدر، فهو حتى في مجال تفنيده ومناقشته لما انتجته الفلسفات الحديثة فانك، لا شك، سوف تشهد هذا النوع من التنويه والاعجاب بكثير من المسائل التي حققتها هذه المعرفة الحديثة، وهذا يتجلى سواء في كتابه: «فلسفتنا» او«اقتصادنا»، وبصورة اساسية يتجلى في كتابه «الاسس المنطقية للاستقراء» التي يبدو فيها السيد الشهيد فيلسوفا حقيقيا ،فيلسوفا يشكل حلقة من حلقات الفلسفة الكبيرة في عصرنا، وهذا لا يمكن ان يتم من دون تماس واهتمام فعلي واعجاب فعلي بالنتاج الفلسفي الانساني الاسلامي وغير الاسلامي، وكان بعضهم يرى ان مثل هذا الانتاج لا علاقة له بالاهتمامات الحوزوية والدينية، وفي هذا اقدر ان السيد الشهيد عندما انجز مثل هذا الكتاب: «الاسس المنطقية للاستقراء» كان يرمي الى ان يجعل اهتمام الحوزة العلمية الدينية ينصب في مثل هذه الاتجاهات التي كان يراهن علىانها هي التي ستشكل رافعة التغيير والتطور باتجاه فكر اسلامي معاصر وفاعل ومنتج يحقق هذه النهضة الحديثة. قدم السيد الشهيد نظرية في تحصيل المعرفة وتقديمها تتمثل في عدد من كتبه منها:
«فلسفتنا» و«الاسس المنطقية للاستقراء». بم تتميز هذه النظرية من سواها؟ في «فلسفتنا» السيد الشهيد ينجز حلقة اولى من تفكيره الفلسفي ومن اسهاماته الفلسفية في عصرنا، لكن الطابعالاساسي ل«فلسفتنا» هو انجاز نقدي، يعني ان السيد الشهيد حاول ان ينتج ملامح فلسفة اسلامية جديدة، او مختلفة منخلال المنهج النقدي للفلسفة الماركسية (المادية) بصورة اساسية. في كتابه «الاسس المنطقية للاستقراء» فان السيد الشهيد انتقل الى طور اعلى، حاول ان ينتج جانبا اساسيا من نظرية المعرفة الاسلامية. نحن نعرف ان الفلاسفة المسلمين هم من المسهمين الاساسيين في تاريخ الفلسفة بانتاج نظرية المعرفة، ولكن السيد الشهيد، كجميع المفكرين الكبار، يدرك ان نظرية المعرفة لم تكن نظرية فلسفية تم انتاجها لدى الفارابي وابن سينا وحتى الفلاسفة الغربيين، وانتهى امرها عند هذا الحد، فان كل تطور في الفكر الانساني وفي الفلسفة وفي العلوم سوف يكون عاملا جديدا من عوامل اعادة النظر في الاسس التي استندت اليها نظرية المعرفة، وجاء كتابه «الاسس المنطقية للاستقراء» متميزا، اذ انه ينتج مفهوما اسلاميا ابداعيا لنظرية المعرفة، جاء ليحتوي على معطيات نقدية لنظرية المعرفة منذ ارسطو وصولا الى عصرنا الراهن، وليضيف الى ذلك عنصرا جديدا هو نظرية الاحتمالات. دخل السيد في آخر اهتمامات الفلسفة الحديثة، وادخل نظرية الاحتمالات في هذه الاطروحة الفلسفية المهمة، بصورة منهجية علمية دقيقة اعاد فيها الاعتبار الى المنهج العقلي. السيد الشهيد هو احد رواد المنهج العقلي في الفلسفة، وفي نظرية المعرفة بالذات، ولكن ليس مجرد نسخة عن القائلين بهذا المنهج العقلي، فقد بلور هذا المنهج بصورة مبتكرة، مستفيدا، بشكل كبير، من استيعاب هذا المنهج العقلي الذي بدا منذ اليونان وصولا الى الفلاسفة المسلمين، وفلاسفة العصور الوسيطة الى عصرنا الراهن. وانتج، من خلال ذلك، ومن خلال نزعته النقدية لهذه المدارس، ومستفيدا من معرفته الدقيقة آخر اهتمامات الفلسفة الغربية، ومنها نظرية الاحتمال، لينشى هذا البنيان الفلسفي الذي استطيع ان اصنفه بانه جزء من اعادة الاعتبار لنظرية المعرفة واعادة طرحها من جديد على مستوى عصرنا وادخال الحيوية الاسلامية الى هذهالنظرية. وبنظرية الاحتمالات، وهي نظرية استخدمت في العلوم، وفي الفلسفة العلمية تقريبا، استطاع السيد الشهيد ان يثبت من جديد وجود اللّه سبحانه وتعالى، وان يكافح الاتجاهات الالحادية التي حاولت ان تستخدم نظرية الاحتمال نفسها لتثبت الاراء الالحادية. ومما يقوله السيد في ادبيات هذا الكتاب: ان «الاسس المنطقية للاستقراء»، علاوة على تماسكه المنهجي، قلص فرصة الملحد الى نسبة واحد الى مليارين على الاقل. اذا كان احتمال وجود اللّه وعدم وجوده متساويا عند بعضهم، فان ادخال نظرية الاحتمال الى الفلسفة في المجال الالهي اثبت ان فرصة الملحد للقول بالالحاد لاتتجاوز واحدا على مليارين فقط. وانا اود الاشارة اليه لاننا نفتقد مثل هذا التماسك المنهجي. هذا الترابط الهرمي الذي يبدا من القاعدة وينتهي الى ذروة معينة غير موجود، بصورة دقيقة، في انجازاتنا الفلسفية بعد عصور ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرهم. ولا استطيع القول ان انجازات الشهيد الفلسفية متضمنة في انجازات «صدر المتالهين» وغيره علىاهميتهم، ففي انجازاته وحده، في مجال الفلسفة، يوجد تجديد لم نلحظه عند مفكر اسلامي معاصر على الاطلاق. يعد السيد الشهيد رائدا في مواجهة مشكلات العصر الاقتصادية. ما الذي اضافه في هذا المجال، وبخاصة في كتابيه:«اقتصادنا» و«البنك اللاربوي في الاسلام»؟ انا اعتقد ان اهمية كتاب «اقتصادنا» لا تكمن في درجة انجازه للنظرية الاقتصادية الاسلامية بقدر ما تكمن في النقد الاسلامي المتنور للاسس والمرتكزات التي تقوم عليها النظريات الاقتصادية والماركسية، يعني الاقتصاد الموجه. السيد الشهيد، في كتاب «اقتصادنا»، انجز الاسس والمنطلقات التي تمكن الباحثين النشطين والطموحين من ان يحققوا هذا الهدف، وهو اقامة نظرية اقتصادية اسلامية، على الرغم من انني اشك في ان السيد الشهيد من الذين يعتقدون بامكان انجاز نظرية اقتصادية شاملة وحاسمة ونهائية، فهو تحدث بصورة واضحة، وخصوصا في كتابه راطروحته «البنك اللاربوي» عما يسمى بمناطق الفراغ في الاحكام وفي الشريعة الاسلامية، وكاني به يريد ان يلمح او يصرح بان ما هو مناطق فراغ شاءت الحكمة الالهية ان ينجز ملؤها بالجهد البشري، فهو اذا من الذين يرون ان الانجاز البشري هو جزء من عملية انجاز التاريخ وليس الاحكام الشرعية وحدها، بدليل ان الاحكام الشرعية في شان الاقتصاد تقدم توجهات عامة ومبادى عامة، من ينجز هذا المسار الفعلي التاريخي للاقتصاد؟ ينجزه الناس المسلمون في مثل حضارتنا الاسلامية وفي مثل مجتمعنا الاسلامي. فالسيد الشهيد لم يكن يدعي انه يقدم اطروحة شاملة للاقتصاد الاسلامي، ولكنه كان يريد ان يشير الى ان الاقتصاد الاسلامي وعلوم الاقتصاد هي امور ينجزها الناس، ينجزها البشر، ولكن المبادى العامة هي التي تراقب هذه الانجازات وتضع الارضية الفلسفية لها. اذن الاقتصاد الاسلامي، في كتاب «اقتصادنا»، هو اقتصاد ينتمي الى بنية فكرية، ويتاسس على قاعدة فكرية مختلفة عنالقاعدة التي يقوم عليها الاقتصاد الراسمالي، ومختلفة عن القاعدة التي يقوم عليها الاقتصاد الماركسي، وهذا ما حرصالسيد على ان يبلوره في كتاب «اقتصادنا». اي ان للاقتصاد الاسلامي مرجعية فكرية يجب ان تستعيدها، ويجب ان نحقق هذه المرجعية الفكرية من خلال العودة الى الكتاب والسنة من جهة، ولكن ايضا من خلال مناقشة الاطروحات الاقتصادية العالمية الراهنة الموجودة حاليا، مناقشتها فلسفيا، لان كل نظرية اقتصادية خلفها نظرية فلسفية من جهة اخرى. وهذه المحاولة في الحقيقة بداية، جاء «البنك اللاربوي» ليشكل تطبيقا عمليا لهذه الاطروحة النظرية، فاقترح بنية للبنك اللاربوي، لكنه، في الوقت نفسه، راى ان هذه الاطروحة ليست اطروحة نهائية، فانك تستطيع ان تقدم اطروحة للبنك مختلفة عن الاطروحة التي تقدمها في ظل بنية اقتصادية ربوية تتحكم بعالمنا الراهن، فهو حاول اذن ان يوفق بين اطروحة بنكية لا ربوية في ظل اقتصاد ربوي مطروح علينا في هذه المرحلة الزمنية من عالمنا وبينفكرة ان يكون هناك بنك لاربوي، ولكن في اطار احكام الاسلام جميعها، يعني انه قدم مشروعا، لامكانية قيام بنكلاربوي حين يتاح للمجتمع ان يطبق احكام الاسلام بصورة متكاملة، وقدم امكانيات فقهية لتعامل لاربوي في ظل الواقع الربوي الراهن حاليا. هذا ما تتضمنه اطروحة «البنك اللاربوي» التي تشكل تطبيقا ميدانيا لنظريته، او لمحاولته النظرية التي اطلقها في كتاب«اقتصادنا» التي ناقش فيها بعمق الاسس التي ترتكز عليها الراسمالية والاشتراكية في آن واحد. الى من كان يتوجه الشهيد الصدر في خطابه التجديدي، هل كان يتوجه الى طائفة معينة او الى المسلمين جميعهم؟ السيد الشهيد مرجع ديني، او على الاقل، وفي البداية، مشروع لمرجع ديني في حوزة النجف الاشرف، ولكنه كان يحمل هموما تتجاوز ذلك. انه كان يعيش قضية التجدد الحضاري الاسلامي بصورة شاملة. انا اعتقد ان السيد الشهيد لم يكن يتوجه الى طائفة معينة، وان كان يعيش في داخل طائفة معينة، وبالتالي يراعي معطيات تاريخية لطائفة معينة، ولكنه كان يتوجه الى ابعد من ذلك بكثير. واذا اخذنا انجازاته الاسلامية الفكرية الاحظنا انها تتجه الى المسلمين جميعا، اي تتجه الى هموم التجدد الحضاري، واحداث النقلة النوعية في التجدد الحضاري للمسلمين، وكان يحاول ارساء نهضة اسلامية حديثة هي على صلة، من دون شك، بما نسميه عصر النهضة في اواخر هذا القرن الذي يشكل جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وآخرون رموزه المعروفة في ذلك الحين، لكن بعد مرور اكثرمن سبعين سنة على قيام هذه النهضة بدا ان بنية الفكر الاسلامي باتت بحاجة الى تجديد هذه النهضة، فكان السيد الشهيد احد الاعلام البارزين في العمل على تجديد هذه النهضة الاسلامية. وبطبيعة الحال لا بد من ان يكون التوجه، هنا، للبنية الاسلامية بصورة عامة، وان كان المرتكز الذي انطلق منه السيد الشهيد هو الحوزة العلمية في النجف الاشرف والتي تعبر، بصورة تاريخية، عن الطائفة الشيعية، اي الشيعة الاثني عشرية. تحدثتم عن سعي السيد الشهيد لانجاز التجدد الحضاري الاسلامي، هل كانت لديه رؤية الى ما يسمى اليوم ب«حوارالحضارات»؟ نحن نطرح هذا السؤال ونعلم انكم معنيون بهذا الامر. بالتاكيد، وهذا ما اشرت اليه في محاضرة عن «حوار الحضارات»، فاننا نصنف، بصورة مباشرة وبالبداهة، السيد الشهيد الصدر بوصفه احد كبار دعاة الحوار الحضاري، حوار الحضارات وليس صراع الحضارات، بل يمكننا القول ان السيد انجز شوطا كبيرا في مجال حوار الحضارات، خصوصا اذا فهمنا حوار الحضارات بوصفه مفهوما مركبا وليس بسيطا، لان جزءا من حوار الحضارات له طابع صراعي، كما ان جزءا من صراع الحضارات له طابع حواري. السيد الشهيد الذي يقارع الحضارة المادية او الحضارة الراسمالية او الاشتراكية الماركسية، في الحقيقة لم يكن يقارعها لالغائها، انه كان محاورا حصيفا لهذه الحضارة الغربية يتركز همه على اظهار العناصر الحيوية في الفكر الاسلامي والبنية الاسلامية التي تمكنها من ان تكون محاورة لهذه الحضارة ذات الوجهين الراسمالي والاشتراكي.
ان الاسلام يمتلك المعطيات التي تمكنه من ان يكون محاورا فعليا وصولا الى العقيدة التي يتضمنها فكر الشهيد الصدر، وهي ان يكون الاسلام موجها الى العالم كله، ولكن بالتاكيد السيد لم يستعمل مصطلح الحوار الحضاري، وربما يكون قد استعمله ولكن لا اذكر، الا انه كان منغمسا فيه الى ابعد حدود الانغماس، وكان فاعلا فيه الى ابعد حدود الفاعلية، فهو الذي فتح العقل الاسلامي على مثل هذا الحوار في مساحة واسعة من المسلمين ومن المفكرين المسلمين ومن علماء المسلمين، وبالتالي فانه يشكل جزءا من تراثنا الحديث باتجاه ارساء قواعد حوار الحضارات واسسه في مواجهة نهج صراع الحضارات. نهج السيد الشهيد ينطلق من التكامل، وهو يدين ادانة كاملة منهج الصراع، اي التنابذ، اي النفي والنفي المتبادل في البنية الانسانية، فهو اذا احد كبار المفكرين الانسانيين ايضا بالاضافة الى كونه مفكرا اسلاميا. هذه النظريات التي تشمل مختلف شؤون الحياة، الا تندرج في سياق نظرية شاملة لاقامة دولة اسلامية؟ وهذا يقودنا الى الحديث عن دور السيد الشهيد السياسي الجهادي؟
بالتاكيد، فان السيد الشهيد كان يرى ان الاسلام فقد الكثير من خصائصه الفعلية عندما تم الفصل بين الاسلام بوصفه معرفة وعقيدة من جهة وبين الاسلام بوصفه اطروحة حياة واطروحة تاريخ واطروحة مجتمع ودولة من جهة اخرى. وهو، في جميع ادبياته، يركز على هذه النقطة بالذات، ولعل من ابدع ما كتبه، في هذا المجال، هو مقدمة كتابه «اقتصادنا» الثانية. هذه المقدمة التي يشرح فيها بصورة بالغة الدقة والعمق والمسؤولية الازمة، ازمة التراجع والتخلف العربي الراهنة، وانهيار التنمية على مستوى العالم العربي، ويقدم لهذه التنمية مبادى اساسية تشعر، من خلالها، انالسيد الشهيد يربط موضوع التنمية الاقتصادية ببنية الامة الثقافية، وانه لا يمكن ان تتحقق التنمية بدرجة تجعلنا بموازاةالتنمية الغربية وبموازاة التفاعل مع هذه التنمية الغربية الا من خلال انجاز هذا التكامل بين التنمية المادية وبين المعطيات الروحية والفكرية التي يشكو المجتمع الاسلامي من غيابها.
فهو اذا يشير الى اننا لا يمكن ان نحقق حركة نهوض حقيقية، ونقدم تنمية حقيقية الا بالربط بين التنمية الاقتصادية وبين العقيدة التي نختزنها والمغيبة عن المجال التاريخي لهذه التنمية، بما يعني ان السيد الشهيد كان يدعو، او يعمل، لقيام بنية اسلامية متكاملة. لا شك في ان صيغة الدولة هي احدى الصيغ المهمة في تفكير السيد الشهيد. وهنا اعود الى فكره السياسي، ارى ان هذا الافق المتكامل في رؤيته الفكرية، هو الذي شكل الاساس في تفكيره السياسي في ضرورة العمل لايجاد نظام اسلامي، وبالتالي فان هذا الفكر كان له تاثيره واشعاعاته، التي يمكن اليوم، ونحن ندرس الحركة الاسلامية،ان نرى التاثير المباشر وغير المباشر لهذه الرؤية على قيام الحركات الاسلامية التي تدعو، بصورة واضحة ودقيقة، لقيام الدولة الاسلامية، عدا عن ان موقف الشهيد الاخير تجاه قيام الثورة الاسلامية في ايران كان واضحا بانه شعر بان هناك حلما شخصيا، اذا صح التعبير بان هناك احلاما شخصية، قد تحقق من خلال ايجاد اطار اسلامي يمكن للسيد الشهيد،اي يمكن لفكر السيد الشهيد، بان يجد ميدانه الحيوي والملائم، ليغدو فكرا ميدانيا وليس فكرا نظريا، اي ليطبق اطروحته الاسلامية، فهو اذا لا شك من دعاة قيام الكيان السياسي الاسلامي الذي يحقق لعملية التجدد الحضاري اطارها السياسي.
المعروف ان السيد الشهيد كتب في دستور الدولة الاسلامية كانه كان يهيى لقيام هذه الدولة، او يتوقع قيامها؟
لا شك في ذلك، وهذا ما اقترحه على الثورة الاسلامية الايرانية، وهذا الدستور هو احدى الصيغ التي اقترحها على الجمهورية الاسلامية، على ان موضوع قيام دولة اسلامية، وان كان هو الهدف الذي لا شك فيه لدى السيد، الا ان هذا الموضوع هو سياسي، بمعنى ان الشغل فيه مرة يكون في المجال النظري لانجاز النظرية حول الدولة، ومرة يكون العمل فيه سياسيا عمليا. انا اعتقد ان السيد الشهيد اشتغل في الجانب النظري الحقيقي في هذا المجال، وبالتالي فان النظام السياسي في العراق لم يكن لينتظر لتنطلق حركة ميدانية في هذا الاتجاه. وارى ان هذه الانجازات النظرية البالغة الاهمية للسيد الشهيد هي في محصلتها مشروع قيام دولة اسلامية، الامر الذي دفع النظام السياسي في العراق للتعامل مع السيدالشهيد الصدر بوصفه عدوا للنظام السياسي، حيث ان جميع انجازاته في هذا المجال تهدف الى انتاج نظام مختلف كل الاختلاف عما هو قائم ولا يزال قائما حتى هذا اليوم.
تتحدثون دائما عن ضرورة تلازم المعتقد مع الموقف لدى الانسان، الا ترون ان السيد الشهيد، الذي استشهد في سبيل معتقداته، يمثل الانموذج الاعلى لهذا الانسان؟ لا اظن انه يوجد لدينا نماذج كثيرة في هذا المجال، وهذا الرجل حقيقة متميز، وانا كنت اراه مشروع شهيد حتى قبلاحتدام الصراع السياسي في العراق لشدة ما يتماهى في داخله الجانبان الفكري والعملي، النظري والمسلكي. هو يمثلهذا النوع من التطابق الكامل بين النظرية والسلوك على مستوى سلوكه الشخصي، لكن هذا لا يعني ان السيد الشهيد كان يعتقد ان الفترة المناسبة للقيام بحركة سياسية كاملة هي تلك الفترة التي عاشها في الستينات، فهو كان يعمل علىانجاز القاعدة النظرية للحركة السياسية اكثر مما عمل في النشاط السياسي الميداني من دون ان ننفي حركته في هذا المجال، ومن دون ان ننفي مواقفه السياسية الشجاعة في هذا المجال، لكنني اعتقد ان السيد الشهيد لم يعط الاولوية فيعمله للحركة الميدانية بقدر ما اعطاها للعمل الفكري والنظري الذي يؤسس لهذه الحركة الميدانية التي تحتاج، بالاضافة الى الاساس النظري المتين، والى الظروف المؤاتية ايضا، ولا ادري الى اي حد يمكن القول بان السيد الشهيد،في اواخر الستينات، او في اواخر السبعينات، قد بدا، او تمكن من البدء بتنظيم سياسي كامل للقيام بهذا الانجاز.
انا اعتقد انه لم يكن قد انجز هذا الامر من دون ان انفي انه كان غاضبا وناقما على النظام العراقي، داعيا الى تغيير هذا النظام ومؤيدا لقوى التغيير لهذا النظام.
هل من كلمة اخيرة؟
الحقيقة، كلمتي في هذا المجال، هي الدعوة مجددا لقراءة السيد الشهيد قراءة مسؤولة وهادفة تنطلق من كونه يشكل مفصلا حيويا من مفاصل السعي الى التجدد الحضاري الاسلامي، وفي الوقت نفسه ادعو الى تمثله بوصفه يمثل هذا المفصل، وادعو ايضا الى طموح اكبر هو ان نبدا من حيث انتهى السيد ايضا الى تطوير حركته الفكرية، حركته البنيوية الكاملة، وبالتالي تعميم هذا الانموذج الذي يمثله السيد الشهيد الصدر على جميع النخب الاسلامية، وهي تعمل على تحقيق مشروعها الفكري والسياسي في عالمنا المعاصر.
ـ سماحة العلامة الشيخ حسن طراد هو احد تلامذة الشهيد الصدر(رض) المبرزين الذين حضروا دروسه ومحاضراته، وتعاملوا معه، طوال سنوات، فعرفه عن قرب. التقيناه، وكان هذا الحوار: كيف تقومون، سماحتكم، صلتكم العلمية والروحية بهذا العالم والمفكر الاسلامي الكبير؟
ان صلتي بهذا العالم العظيم والمحقق الجليل والفيلسوف العملاق هي صلة تاريخية عميقة الجذور، واسعة الافاق، بدات منذ اليوم الاول الذي قدر لي فيه ان اتوفق لاخذ درس الاصول، بمستوى بحث السطوح العالية من الكفاية بجزئيها للمحقق الخراساني (قده)، والرسائل للشيخ الانصاري (قده)، على يد اخيه العلامة الجليل والمجتهد الكبيرسماحة حجة الاسلام والمسلمين السيد اسماعيل الصدر (قده). وكان ذلك اول وصولي من لبنان الى النجف الاشرف سنة 1954م، بعد ان
طويت رحلة المقدمات المعهودة في النحو والصرف والبلاغة ومنطق الحاشية والشمسية والمعالم في الاصول والجزء الاول من مختصر الفصول، تمهيدا للشروع بدراسة الكفاية مع دراسة الشرائع، على يد افاضل علماء لبنان في ذلك التاريخ. وبعد الفراغ من دراسة الكتابين المذكورين (الكفاية والرسائل)، على يد العلامة اسماعيل الصدر، بدات بحضور بحث الخارج في الاصول على يده، واستمر على الاعطاء والافادة وطلابه الفضلاء على الاخذ والاستفادة، مدة غير قصيرة،وبعدها توقف عن ذلك لتلبية نداء الواجب المقدس الذي توجه نحوه، بطلب اهالي مدينة الكاظمية للانتقال اليها ليقوم بدور المعلم والمرشد المربي في تلك المدينة التاريخية المقدسة. وعلى اثر ذلك، وبلا فاصل، بدات بحضور بحث الخارج في الاصول على يد الشهيد الصدر (قده)، مع اخذ درسين آخرين في خارج الاصول والفقه على يد آية اللّه العظمى السيد الخوئي (قده). وهكذا بقيت ملازما لدرس الشهيد مدة لاتقل عن ثلاث عشرة سنة. والذي جذبني الى حضور بحثه العلم هو ما عرف به (قده) من عمق الفكر ودقة النظر ومحاولة اعطاء كل موضوع حقه بالبحث العميق والاحاطة المستوعبة. وهذا وذاك هو ما كنت راغبا فيه، وحريصا عليه، منذ بدات بدراسة المقدمات المعهودة والسطوح بمرحلتها الاولى، ثم السطوح بالمستوى العالي المتمثلة، بابحاث الكفاية والرسائل في الاصول والمكاسب في الفقه، حيث كنت حريصا على مطالعة الشروح وما تشتمل عليه غالبا الاشكالات العلمية الواردة، ولو ظاهرا، مع الاجابات المفيدة والحلول السديدة. وكان ذلك من اجل تحصيل مطالب الكتاب باتقان واحاطة. وبقيت على ذلك مدة استفادتي العلمية من مدرسة الشهيد (قده) التي اخذت طابعا متميزا لفت الانظار وبعث على التقدير والاكبار. وبذلك يعرف مدى صلتي العلمية بهذا المحقق الكبير والفيلسوف القدير وما استفدته منه خلال المدة المذكورة. وحيث ان اشباع الجوعة الفكرية وازالة الظما العقلي بالغذاء العلمي الوافي والشراب الثقافي المروي ينعكس ايجابا على العلاقة الروحية، حيث تتعمق وتقوى بقدر قوة رابطة العقل والفكر الاخذ المستلهم بالعقل والفكر المعطي والمعلم.
اجل، على ضوء ادراك مدى التفاعل والتجاوب الحاصل بين عقل الشهيد الاستاذ المفيد وفكره وبين وعقل تلميذه المستفيد وفكره، وما يرتب على ذلك من الانجذاب الروحي، يعرف مدى عمق الصلة الروحية التي صهرت روحيهما في بوتقة الحب والاخلاص والتقدير والاجلال، لتجعلهما بمنزلة الروح الواحدة الحالة في جسمين متقابلين، بحيث يصبح هذا الانصهار والوحدة الروحية المعنوية مصداقا لصدر بيت الشعر القائل: «انا من اهوى ومن اهوى انا».
حبذا لو تفضلتم بالحديث عن موقع الشهيد الصدر(قده) بين العلماء المراجع والمفكرين الاسلاميين المعاصرين. ان الموقعية التي وصل اليها الشهيد الصدر(قده) بين المراجع والمفكرين بلغت المرتبة السامية في ميزان التقدير والاعتبار، انه(قده) تمتع بنبوغ متالق، وهمة عالية، وعزيمة ماضية، ورغبة جامحة لا تعرف معها الملل، ولا يعترف بالصعوبات، بدليل انه كان يملا فراغ ست عشرة ساعة من الوقت مكبا على الافادة بقلمه مؤلفا، ومنبره مدرسا، ومدرسة منزله مربيا، وعلى الاستفادة بالمطالعات الموسوعية المتنوعة من اجل الالمام والاحاطة بكل ما تحتاجه الساحة الفكرية وعلى نطاق واسع، الامر الذي مكنه من اغناء المكتبة العربية والاسلامية بمؤلفاته القيمة المتنوعة المعهودة.
كما زود الاسلام والمسلمين، بل والمجتمع العام، بعلماء اجلاء، ومدرسين فضلاء، ومجاهدين مضحين في سبيل القضية العادلة التي جاهد من اجلها، واستشهد في سبيلها. اجل، ان مجموع هذه المزايا والخصوصيات التي تجمعت في شخصيته متاثرا بعامل الوراثة، فهو من اسرة علمية قيل في حقها: لا يوجد فيها عالم من علمائها الاجلاء الا وهو مرجع عام يقود الامة، او مجتهد مجاهد في سبيل نصرة الحقفي مختلف المجالات. واذا اضيف الى عامل الوراثة الفاعلة عامل التربية الواعية الموجهة، فذلك نور الى نور. وحيث كان محققا ومحلقا في جميع العلوم والفنون العلمية المعهودة، والعصرية المنشودة، فقد ملك اعجاب جميع الطبقات والفئات وتقديرها، فالفقهاء يقدرونه لعمقه الفقهي، والاصوليون لدقته واحاطته الاصولية، والفلاسفة لنضج فلسفته، ورجال الاقتصاد لبلوغه قمة النجاح في اقتصاده، وهكذا وعلى مثلها فقس ما سواها.
كيف تقومون منهج الشهيد الصدر في البحث الفقهي والاصولي؟ وما الذي يمتاز به هذا المنهج من خصائص؟
قد عرف منهجه، في هذين البحثين، مما اشرت اليه خلال الاجابة عن السؤالين السابقين. وللتفصيل اقول: لقد تميز فيذلك، وفي سائر العلوم التي كتب فيها، او درسها، بعمق النظر ودقة الفكر، ليبرز البحث العلمي باسلوب عميق ومستوعب لما يناسب ان يذكر فيه من الخصوصيات الدقيقة. كما تميز ايضا بمحاولة التجديد في اي بحث من الابحاث التي تطرق لها تدريسا او تاليفا. وبرز ذلك باسلوب العرض المفصل والترتيب الفني الذي راعاه بين موضوعات البحث مع اختيار بعض المصطلحات العصرية التي تلقي الضوء على المضمون المقصود بيانه للقارى والمجتمع، وذلك مثلاصطلاح «العناصر المشتركة» الذي اطلقه على القواعد الاصولية التي يمكن الاستفادة منها في كل باب من ابواب الفقه.واكد الاصطلاح المذكور باطلاق عنوان: «منطق الفقه» على علم الاصول بالوجه المذكور نفسه، لاطلاق اصطلاح العناصر المشتركة على القواعد الاصولية، وهو تطبيق قواعده والاستفادة منها في كل باب من الابواب الفقهية، كما يستفاد من علم المنطق بوجه عام في جميع العلوم والفنون. ويتضح ما ذكرته للاجابة على هذا السؤال الثالث بمطالعة حلقاته الاصولية، حيث تميزت من غيرها من كتب الاصول بالخصوصيات المشار اليها، مع تحرره من الاسلوب التقليدي المعهود المتبع من جهة ترتيب الابحاث والموضوعات،ومن حيث الاسلوب البياني الدارج لدى الكثيرين.
ما هي ابرز آراء الشهيد الصدر الفقهية والاصولية التي تميز بها، او اضاف فيها جديدا الى نظريات من سبقه من الفقهاءوالاصوليين؟
ان الاراء الفقهية والاصولية التي تميز بها الشهيد (قده)، من غيره من الفقهاء والاصوليين، كثيرة بحكم رغبته في التجديد ودقة نظره التي توحي له غالبا بالاراء الجديدة المفيدة، وساقتصر على ذكر مثالين من آرائه الجديدة في علم الاصول التي خالف فيها المشهور: الاول: اعتماده، في حجية الاجماع، على نظرية حساب الاحتمالات التي تحرر بها من عامل الكم الذي يفهم اعتباره من كلمات الكثيرين المفسرين للاجماع، وقد استطاع ببركة تطبيقه النظرية المذكورة ان يتحلل من هذا العامل ويرى ان لا موضوعية له، ويرى ان الميزان في حجيته هو كل ما تؤدي ملاحظته الى حصول العلم او الاطمئنان الملحق به بمطابقة مضمون الاجماع للواقع وان الحكم الذي قام عليه صادر من الشارع. والمثال الثاني: انكاره للبراءة العقلية المعتمدة على نظرية قبح العقاب بلا بيان.وقد اخذ المشهور بهذه النظرية، وبنى عليها البراءة العقلية في كل مورد لا يوجد فيه بيان من قبل الشارع على الحكم الشرعي. ولا يخفى ان البراءة العقلية انما يحتاج اليها في المورد الذي لا تجري فيه البراءة الشرعية المستفادة من الكتاب الكريم، مثل قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، او من السنة المطهرة، واوضح مصاديقها حديث الرفع المشهور، وذلك لانه بعد صدور المؤمن الشرعي من العقاب لا يبقى هناك شك واحتمال، محصوله حتى يحتاج الى ما ينفيه. وبالاعتبار المذكور تكون البراءة الشرعية حاكمة على البراءة العقلية لرفعها لموضوعها، وهو الشك واحتمال العقاب تعبدا.
وحاصل الوجه الذي اعتمده الشهيد لانكاره البراءة العقلية، رغم ذهاب المشهور اليها وعملهم بها، هو ان تطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان انما يصح بالنسبة الى المولى العرفي باعتبار ان حق الطاعة الثابت له على عبده وبموجبه وجبتعليه تاديته، وحرمت مخالفته، انما ثبت له عليه ببناء العقلاء وجريان سيرتهم على ثبوت هذا الحق للمولى على عبده.وبعد التامل وملاحظة ان العقلاء لا يعطون للمولى هذا الحق الا في المورد الذي يحصل للعبد العلم او الاطمئنان آبتوجيه التكليف اليه من قبل المولى وفي ما عداه من الموارد التي لا يحصل له فيها الا الظن او الشك بتوجه هذا التكليف نحوه فلا يحكمون بثبوت حق الطاعة له على عبده لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. واما المولى الحقيقي، وهو اللّه سبحانه المالك لكل كيان العبد المادي والمعنوي، فلا مجال لتطبيق القاعدة العقلية المذكورة بالنسبة اليه، وذلك لان حق الطاعة الثابت له على عبده بحكم العقل السليم والعقلاء الحكماء، لا يختص ثبوته له عليه بخصوص مورد العلم، بل يشمل حتى مورد الظن والشك، لان اللّه سبحانه مالك لكل طاقاته المادية والمعنوية،ولا يجوز له ان يصرف او يتصرف بها في اي مورد من الموارد بالفعل والاقدام او الترك والاحجام الا مع اقران رضا المولى بذلك. وحيث لا يحرز رضاه بالترك في مورد الشبهة الوجوبية ولا بالفعل في مورد الشبهة التحريمية، فلا بد له من الاحتياط بفعل جميع الافراد والاطراف في مورد الشبهة الاولى، وبتركها في مورد الثانية لان ذلك هو الذي يحرز رضا المولى به من دون سواه من التصر فات كما هو واضح.
ما هي ابرز جهود الشهيد الصدر واسهاماته الفكرية في حقول المعرفة الاسلامية الاخرى التي كتب فيها غير الفقه والاصول؟
ان جهود الشهيد الصدر واسهاماته المشكورة التي قدمها في حقول المعرفة الاسلامية، غير الفقه والاصول، كثيرة ومشهورة ابرزها كتب «فلسفتنا» و«اقتصادنا» و«الاسس المنطقية للاستقراء» و«المدرسة القرآنية» و«التفسير الموضوعي للقرآن الكريم»، وهو مجموع محاضرات القاها على الحشد الغفير من طلابه وبقية احبابه في النجف الاشرف قبل شهادته.
كيف تقومون حركة الشهيد الصدر الجهادية من اجل رفعة الاسلام وتحكيم الشريعة الاسلامية في الحياة في مختلف مجالاتها؟
ان حركة الشهيد الجهادية من اجل تحقيق الهدف المذكور، وهو هدف الانبياء والائمة السادة النجباء والمصلحينالعظماء في التاريخ، كانت حركة رائدة وقائدة قام بها منذ احس بضرورة العمل الاسلامي الموضح لاهداف الاسلام،والمزيل لجميع العقبات التي تعترض سبيل انتصاره وانتشاره، وقد اعد لاضطلاعه بهذا الدور الرسالي عدته اللازمة،حيث وسع دائرة ثقافته العصرية الرسالية، وذلك باطلاعه على اهم العلوم العصرية المتنوعة ليخاطب الجيل المعاصر بلغته المفهومة لديه والمؤثرة على سير تفكيره، ليتحول من خط الانحراف الفكري والعملي الى نهج الاسلام القويموصراطه المستقيم. وتاتي مؤلفاته الفكرية الرائعة والرائدة، وخصوصا «فلسفتنا» و«اقتصادنا» و«الاسس المنطقية للاستقراء»، لتكون الشاهد الحي المعبر عن سعة دائرة معارفه ومدى تاثيرها على الفكر المعاصر، الامر الذي ساعده على بناء قاعدة شعبية واسعة اكثر افرادها من الشباب الطليعي المثقف. ولا تزال صورة مجلسه اليومي الذي كان يستقبل فيه، يوميا، الوافدين لزيارته على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم،ماثلة في ذهني تبعث في العقل النور، وفي النفس الاعجاب والتقدير بما كان يجيب به عن اسئلتهم مع تنوعها وعمقالكثير منها، وبهذا وذاك كان بجدارة واستحقاق مرجع العصر وقائد الامة العامة في طريق الرسالة الخالدة والمنطلق بهانحو اهدافها السامية وخصوصا جيل الشباب منها، حيث شغفوا به حبا وتفاعلوا مع دعوته الواعية الرائدة المحركة للعودة الى الاسلام من جديد، لتدرك به كل ما تصبو اليه وترغب فيه من الاهداف الرسالية التي تنعش الانسان فردا ومجتمعا ، ماديا ومعنويا، دنيويا واخرويا، وليس غريبا ان يكون كذلك ما دام مشرعا من قبل رب العالمين الذي بعث به سيد المرسلين ليكون رحمة للعالمين، وآخر دعوانا ان الحمد للّه رب العالمين.
والتقينا المفكر الاسلامي، الاستاذ الدكتور حسن حنفي، وكان هذا الحوار:
حبذا لو تفضلتم بالحديث عن موقع الشهيد الصدر بين المفكرين الاسلاميين المعاصرين؟
الحقيقة ان الشهيد السيد محمد باقر الصدر يعد من اهم المجددين الاسلاميين في الفكر الاسلامي الحديث، له وعي شديد بالتراث القديم، وباهم نقاط ابداعه، وبخاصة علم اصول الفقه، والمنطق، ومناهج البحث. وهذا جانب مهم، لان الذي غلب على الفكر الاسلامي حتى الان هو: اما العلوم النقلية من تفسير مثل تفسير المنار الخ… او العلوم العقدية مثل الرد على الدهريين للافغاني، لكن لم يات احد من المفكرين لكي يذهب الى مظان التجديد في الفكر الاسلامي، مظانه الاولى مثل اصول الفقه ومناهج البحث: كان لديه اي السيد الصدر وعي شديد في التمايز بيننا وبين الغرب، فقد راى ان الحضارة
الاسلامية لها مسارها ولها علومها التي قد تتفق مع المسار الغربي او قد تختلف معه، وعبر عن ذلك في معظم عناوينه:
«اقتصادنا» و«فلسفتنا»، حتى يعطي الاحساس بالهوية المستقلة عن المسار الغربي، واخيرا لم يكن مجرد عالم بالتراث القديم او ناقد للتراث الغربي، ولكنه كان ملتزما، يحمل هموم الاوطان، وكان يناضل، وهو انموذج المفكر العالم المتميز، القادر على الممارسات العملية.
اصدر الشهيد الصدر كتابه «اقتصادنا» بجزئيه ما بين عامي 1959 و1961، كيف تقومون جهوده العلمية في هذا الكتاب؟ وهل لا يزال يتمتع بقيمة كبيرة في نظركم؟
يعد هذا الكتاب من اهم المحاولات التي وجدت في الفكر الاقتصادي الاسلامي قبل ما يسمى البنوك اللاربوية والبنوك الاسلامية وقبل ان يتحول بعضها، وينهار بعضها الاخر في شركات توظيف الاموال. في رايي ان الاسلام نظام حياة، واهم دعامة لنظام الحياة هو العامل الاقتصادي، فتصدى الصدر لهذه القضية، وتكلم ليس فقط عن الربا باعتباره من المحرمات، ولكنه استطاع ان يصوغ النظرية الاقتصادية نظرية علمية محكمة، لماذا الربا؟ لان في الاقتصاد: المال لايولد المال، ولكن المال هو اداة لتوفير عمل، اداة للانتاج، اداة للاستثمار، وبالتالي حاول ان يعيد تاويل الربا، فحاول ان يدخله في النظرية الاقتصادية العامة، النظرية الملكية، والى اي حد توجد في الاسلام ملكية؟ وهل هي ملكية خاصة او ملكية عامة، وهل هي ملكية مستغلة او ليست مستغلة، وفي النهاية ككثير من المفكرين المعاصرين ادرك ان المال والملكية في الاسلام، هي وظيفة اجتماعية، وان المسلم له حق الانتفاع وحق الاستثمار وحق التصرف، ولكن ليس له حق الاحتكار ولا حق الاستغلال ولا حق الاكتناز… وكذلك حاول ما تعلمناه جميعا من ان الاسلام له نظرية لا هي اشتراكية مغالية كما هو الحال في الاشتراكية العلمية، التي يمنع فيها الفرد من المبادرات، وطبعا ليست الراسمالية التي تقوم على الربح والاستغلال، فحاول ان يقيم ما يسمى بالنظرية الثالثة التي تقال الان في الغرب بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، ومفادها ان الاسلام يؤمن بان هناك قطاعات لا يمكن ان تكون موضوعا للملكية الفردية استشهادا بالحديث الشهير: ان الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلا والنار. ومن ثم فقطاعات الزراعة والصناعة والكهرباء والمياه، هذه القطاعات العامة، تكون في اطار من الملكية العامة حتى لا يقوم احد باستغلالها. اما في ما يتعلق بالتجارة الصغيرة، وفي ما يتعلق بالمبادرات في الخدمات، وفي ما يتعلق بنقل التجارة من هنا وهناك او الصناعات الحرفية الصغيرة، فهذه يمكن ان تكون في ملكية الافراد. ومن ثم ان «اقتصادنا» هو دخول في اهم عامل من عوامل التنمية الاجتماعية واقامة الدول، وهو الاقتصاد، مبينا للناس ان التجديد لا يكون فقط في تصور النبوة ولا في تصور الايمان والعمل والمعاد، ولكن في المكونات والمدعمات الرئيسية لبناء الدول.
ما هي رؤيتكم للامام محمد باقر الصدر الفيلسوف، وما هي ابرز آرائه ومؤلفاته الفلسفية التي لفتت انتباهكم؟
ما قاله في «فلسفتنا» هو، في الحقيقة، يجمع بين الرؤى المثالية والتاكيد على اهمية العالم الطبيعي الاجتماعي، الوجود مع الاخرين. وفي الوقت نفسه، يؤكد متطلبات الروح وايضا لا يغفل متطلبات البدن، ومن ثم يجمع بين الرؤية الغربية التي غلبت عليها المادية والرؤية المغالية في التصوف التي غلبت عليها النزعات الروحية، فهو يجمع بين الاثنتين، بالاضافة الى انه ناقد للاتجاهات المثالية الغربية وكيف انها لم تؤثر في حياة الغرب، فظل الغرب ماديا. كما ينقد اتجاهات المادية الغربية وكيف انها تتصور المادة باعتبارها عالما مغلقا بذاته وكان ليس لها خالق الخ… ومن ثم في هذا الكتاب المهم «فلسفتنا» يحاول محمد باقر الصدر ان يعطي المسلمين هذا الاطمئنان النظري وهذا الملاء الايديولوجي الذي نشعر جميعا اننا ما زلنا في حاجة اليه.
كيف تقومون حركة الشهيد الصدر الجهادية من اجل رفعة الاسلام وتحكيم الشريعة الاسلامية في الحياة في مختلف مجالاتها؟
وجد الامام الشهيد محمد باقر الصدر في العراق، الامر الذي حتم عليه ظرفا خاصا. بالرغم من اعتزازنا بالعراق، وبالرغم من رفضنا للحصار الامريكي للعراق، وبالرغم من دفاعنا عن اطفال العراق ونساء العراق وشعب العراق ضد هذا الظلم،الا ان نظم الحكم في العراق تميزت بانها لا تعطي عناية كافية للمقهورين، ربما ينقصها الكثير من التعددية السياسية،ربما ان الاخوة الشيعة في العراق يشعرون بانهم مهمشون في الحياة العامة، وبالتالي استطاع الامام الشهيد محمد باقرالصدر ان يتحول من مجدد فكري يفسر القرآن تفسيرا موضوعيا الى عالم ياخذ هذه الموضوعات الرئيسية في الانسان والطبيعة وفي العمل وفي الجهاد والكفاح ويطبقها عمليا في ظروف العراق.
وقد استطاع ان يمد الشيعة بالعراق بفكرمتجدد، لان الحوزات العلمية في النجف كان يغلب عليها الطابع التقليدي، وبالتالي فان يحول شيعة العراق الى جموع واعية بالقضايا الرئيسية في البلاد، هذا انجاز ضخم، ثم انه كان ايضا ممثلا للمعارضة السياسية لنظم القهر التي تعم العالم العربي والاسلامي، استطاع ان يجن د الجماهير وان يحظي بتقدير الناس، وان يفرض احترام الناس له من كل الفرقاء. كان وطنيا، تهمه امور المواطنين جميعهم، ومن ثم كان يمكن ان يكون بؤرة للحياة السياسية الوطنية في العراق.
يعد الامام الشهيد محمد باقر الصدر مؤسس العلوم الاسلامية الانسانية الحديثة، ما رايك؟
استطاع الصدر ان يدخل في مضامين العلوم الاجتماعية الانسانية كالاقتصاد والسياسة والاجتماع والتاريخ ومن ثم فهوله دور مهم، لا اقول في «اسلمة العلوم» كما هو موجود حاليا، اي ان ناخذ انتاج الحضارة الغربية ونسلط عليه بعض الايات القرآنية والاحاديث النبوية، ولكن كان يبدع في العلوم الاجتماعية الانسانية، وفي ذهني: الانسان وكرامة الانسان وعلاقة الانسان بالمجتمع وعلاقة الانسان بالدولة، اي انه استطاع ان يعطينا رؤية اسلامية انسانية حديثة تحمي المسلمين من الوقوع في النقيضين: اما العودة الى الفقه القديم او الارتماء في احضان الغرب والايديولوجيات السياسية، من ليبرالية واشتراكية وقومية غربية، واستطاع ان يعطي العالم الاسلامي فكرا جديدا، ويشبع تطلعاته نحو العدالة الاجتماعية ونحو الحرية ونحو الوحدة، وفي الوقت نفسه من منظور اسلامي، ويتمثل جهده الرئيسي في التفسير الموضوعي في القرآن الكريم، هذا انجاز ضخم، تعودنا جميعا على ان المفسرين يبداون من سورة الفاتحة حتى سورة الناس، هو لا، جمع كل الايات حول الطبيعة، حول الوحي، حول النبوة، حول المجتمع، حول الاقتصاد، حول المال…حتى يساهم في خلق ايديولوجية اسلامية، لان القرآن الكريم الموضوعات فيه متفرقة، فحاول ان يجمعها. والقضية الثانية هي محاولة تجديد علم اصول الفقه ونقده لمدرسة الاخباريين، اي المدرسة النقلية في علم اصول الفقه،والاعتماد على دليل العقل في المصالح العامة. وبحوثه عن الدليل اللفظي في اصول الفقه بين ان اللغة ما هي الا اداة، ولكن اللغة تشير الى عالم الاشياء في العالم الطبيعي. وليت احباءه وتلاميذه يستانفون تجديد المنطق الاسلامي (علم اصول الفقه) وفي الوقت نفسه يستانفون التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.
كيف تقومون كتاب الشهيد الصدر «الاسس المنطقية للاستقراء» وما هي ابرز معالم النظرية المنطقية ونتائجها الفلسفية فيه؟
الغرب كان، ولا يزال حتى الان، يزهو بانه مكتشف العلم، وانه الذي وضع المنطق التجريبي، وانه هو الذي نقد المنطق الارسطي الشكلي، وان «فرنسيس بيكون»، في المنطق الجديد او الالة الجديدة، وجون ستيوارت ميل هما اللذان استطاعا ان يؤسسا المنطق التجريبي الحديث وانهما وراء النهضة العلمية. ولكن الذي يفكر في المنطق التجريبي، وهوالمنطق الذي يبدا بالافتراض، ثم بالملاحظة، ثم بالتحقق من الفروض للانتهاء الى القانون العلمي يجد انه ما زال منطقا منقوصا ، لان الاستقراء، اي استقراء الجزئيات للوصول الى الكليات، لن يكون تاما. فالعالم لا يستطيع ان يجرب على كل الوقائع، فهذا ما لا حدود له به، والافتراض الذي يقوم على الملاحظة، هو افتراض من طبيعة العقل والتحقق من صدق الافتراض قد يطول وقد يقصر، وهذه الافتراضات تتغير من جيل الى جيل، ومن فترة الى فترة، لذلك راى الامام الشهيد محمد باقر الصدر انه لا يمكن للاستقراء الا ان يكون له اساس آخر غير استقرائي سماه الاسس المنطقية، اي ان العقل باولياته، وبديهياته، وطبيعته، وان الوحي في النهاية هو منطق للعقل، يعني ان الاستقراء الصرف التجريبي ان لم يقم على اسس نظرية معيارية فلن يستطيع ان يصل بالتالي الى حكم يقيني، وكان الامام الشهيد يعتمد في ذلك علىكثير مما كتبه الفقهاء والاصوليون، يعني الشاطبي في الموافقات تكلم عن الاستقراء المعنوي، اي ان القياس الشرعي يقوم على استقراء الجزئيات لكي نصل الى الكليات، وهو علم القواعد الفقهية مثل: «لا ضرر ولا ضرار» و«الضروريات تبيح المحظورات» و«دفع المضار مقدم على جلب المصالح»… هذا من استقراء احكام الشريعة الجزئية، ومن ثم فان استقراء احكام الشريعة الجزئية لا يؤدي بالضرورة الى حكم كلي ان لم يكن هناك حكم كلي سابق يستطيع ان ينير الجزئيات وان يجمع الجزئيات، وهذا يعني ان الامام محمد باقر الصدر يحاول، هنا، الجمع بين الاستنباط والاستقراء في منهج متكامل لا يضحي بالجزء من اجل الكل، كما هو الحال في الاستنباط، ولا يضحي بالكل من اجل الجزء، كماهو الحال في الاستقراء العلمي الغربي كما بينه جون ستيوارت ميل.
هل من دور لكتابات السيد الشهيد في ما يسمى «التقريب بين المذاهب»، او في بلورة رؤية اسلامية شاملة غير مذهبية؟
ليس مهمة الشهيد الصدر التقريب بين المذاهب هذه مهمة فقهاء عاديين، لكنه يريد ان يبين الى اي حد يستطيع الفكر الاسلامي ان يبدع من جديد، في علوم جديدة، كيف يستطيع ان يجدد العلوم الاسلامية القديمة آخذا بعين الاعتبار تحديات العصر، لم ينشغل هو بالسنة ولا بالشيعة ولا بالتقريب بين المذاهب الفقهية، ولكن بالعودة الى الواقع والعودة الى حياة الناس والعودة الى مصالح الناس والعودة الى المصالح العامة، اي العودة الى الميادين التي يتحقق فيها الاسلام، وهذه الميادين هي الكفيلة بان تصهر هذه المذاهب وهذه التيارات عن طريق منطق التعارض والتراجيح، كيف يستطيع الانسان ان يرجح مذهبا على مذهب بناء على المصالح العامة واحتياجات الواقع. هو لم يبدا من الكتاب، لميبدا من الفقه، ولكنه بدا من المصلحة، لذلك كثيرا ما يشير في دروس علم الاصول الى اهمية المعلم والى اهمية تجديد علم الاصول، وبالتالي في المصالح العامة التي هي اساس التشريع تتوحد المذاهب.
كيف نتواصل مع مدرسة الشهيد محمد باقر الصدر الفكرية؟
وكيف نستطيع تنمية معالمها؟
ظروف العراق الان صعبة، فالعراق محاصر، والنجف ينالها من الحصار الكثير، ربما في قم يعرفون محمد باقر الصدرجيدا، وربما يعرفونه، ايضا، في الدوائر الاسلامية الغربية، كنت في لندن في الصيف الماضي، والقيت ورقة عن اصول الفقه عند محمد باقر الصدر في ندوة كبيرة عن علماء النجف الاشرف، عن دور المدن العراقية… في الدوائر الاسلامية الغربية وفي الحوزات العلمية في ايران، في قم، وربما لو تم التعاون اكثر بين العلماء العرب والعلماء في ايران، ولو تمانشاء منابر واحدة لتجديد العلوم القديمة، ومنها علم اصول الفقه وعلوم التفسير، وان يحدث تآلف وتفاعل بين العلماء العرب والعلماء في ايران، وان يفك العراق عن عزلته بحيث تتحول النجف الاشرف الى ملتقى كثير من العلماء من جميع التيارات، ربما لو توفرت الظروف لتم التواصل والنمو… هنا الظروف نفسها التي دفعت الى خروج محمد باقرالصدر، تدفع الى خروج احفاد له.
كلمة اخيرة البدايات، عند الامام الشهيد محمد باقر الصدر، بدايات جيدة، وضع يده على مظان الاجتهاد والابداع في الثقافة الاسلامية، استطاع ان يحدد موقفنا الحضاري تماما في هذا الحوار والجدل بين الانسان والاخر من دون الوقوع فيالانغلاق على الذات، والقول: ان ما لدينا افضل ما في العالم، وان السلف خير من الخلف، ومن دون الانفتاح الذي يصلالى حد التبعية، والنقل عن الغرب. عرف الغرب جيدا، عرف الفلسفات الغربية جيدا، واطلع عليها، لكنه اخذ منهاموقفا نقديا، فاذا اهم انجاز للامام الشهيد محمد باقر الصدر هو الرغبة في التجديد والرغبة في تجاوز القدماء من دون الوقوع في حبائل المحدثين، ولم يتحول من نقل القدماء الى نقل المحدثين، ولكنه حاول الخروج على مناهج النقل، وفي الحوزة العلمية التي لا يزال يغلب عليها الحفظ والتكرار والاعجاب بالقدماء استطاع بممارسة السلاح النقدي وسلاح العقل والمعرفة الواسعة ان يبين ان الاسلام في العصر الحديث قد تكون له صياغة مختلفة تماما عما ورثناه من القدماء، والاسلام ما زال في طوره الاول.
للاسف تلاميذ محمد باقر الصدر قلة، المدرسة لم تستمر، ربما ظروف العراق تعقدت اكثر، ربما ظروف الحوزة العلمية، ربما مزيد من الضغط على الاخوة في النجف الاشرف جعل هذه المحاولة التي بداها محمد باقر الصدر مرتبطة بشخصه وباسمه وبدوره من دون ان يكون له تلاميذ. وتحدث المفكر الجزائري الاستاذ الدكتور محمد البشير الهاشمي مغلي عن الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رض)، فوصفه ب«ذلك الطود الذهبي الاشم»، وراى ان منهجه الفكري هو «باقرية خارقة للحدود». وتناول، في حديثه، غير مسالة، ما يمثل اجابة عن عدد من الاسئلة يطرحها موقع الشهيد الصدر ودوره في الحركة الفكرية والجهادية الاسلامية… كيف يرى ابن الجزائر الى السيد محمد باقر الصدر(رض) وانجازاته؟
ماذا عسى ابن الجزائر، في عصر مدلهمات الفتن وهي تنهمر كقطع الليل البهيم، ان ينبس في مهيب حضرة استاذية مرموقة تعطرت بشهادة الفتح مغنما، الا ان ياسره الوجوم من هيبة عملاق العصر، او تستبد به الربكة من وقار فخر علماء الاسلام، جهبذ المجددين، وكبير العارفين، صدر الفقهاء الورعين، وباقر علوم الدين والدنيا: بالفقه، بالعلم، بالاخلاق كان له مناقب غطت الافاق.. بالكرم للّه در القائل فيه ايضا: يا باقرا لعلوم الدين، يا جبلا من الصمود وطودا في ربى القمم يا واهبا لحمى الاسلام مهجته وصادعا بسنا التوحيد والقيم يا فلتة من نسيج الدهر ما وجدت لها مثيلا دنا الماضين في القدم ماذا عسى حفيد الامير عبد القادر وتلميذ المدرسة الباديسية الا ان يبين عن قصوره في الوفاء بعرفان الجميل لهذا الطود العظيم الذي كان تراثه الفكري بعامة والعلمي بخاصة، للامة الاسلامية جمعاء، وللجزائر على الاخص، في مرحلة ما بعد الاستقلال، ولما تلتئم فيها جراحها الجهادية ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم، وما عتمت ان طفقت تحمر بعض ساحاتها الجامعية، وكاد «الاستعمار» يصبغ مدارجها، وهي لا تملك تاريخيا، كجاراتها، القرويين والزيتونة والازهر الشريف، منارة اشعاع فقهي بعد، كان تراث الصدر ذاك بمثابة القلاع المحصنة والدروع الواقية من جارف التيارات الحمراء التي هبت ريحها السموم من المعسكرات الشرقية في حماة تباريها في انشاء انظمة اجتماعية ودول نمطية مؤدلجة على انقاض الراسماليات المتعفنة والطبقات المتكلسة.
اجل! في تلك الحقبة العصيبة التي سادت فيها الصراعات الفكرية في العالم، وكانت بلادي تائهة في مفترق الطرق السياسية والايديولوجية، وان كانت قلوب عبادها عامرة بايمان فوار، الا انها كانت تتلمس طريقها بفعل مبثوث ضبابيات الانتلجنسيا التغريبية الى هويتها وانيتها واصالتها. ومن عجب انها لم تلبث ان وضعت اسلحتها التي كانت تشهرها في وجه المحتل الغاصب المعتدي الذي رام استلابها منها وانسلاخها عنها، حتى همت امية عاتية تضرب اطنابها على اذهان نزر من المثقفين التنويريين الجدد، بما لم ينالوا،فصموا وعموا عن روح الدين ونظامه، وشمولية عقيدته، وشريعته السماوية ومنهاجه.
ما دور الشهيد الصدر في مسار الحركة الفكرية المعاصرة؟
لا مرية في انه، رحمه اللّه تعالى، كان بحق المنقذ من بهارج «راس المال» وسفسطائيات «المادية الجدلية» وبلسما واقيا من زخارف العناوين الوصولية التافهة، او التلفيقات المغالطة بالمواكبات الانتهازية الظرفية من قبيل مزاعم«الاشتراكية الاسلامية!» و«ابي ذر الاشتراكي» و«الاشتراكيون انت امامهم!؟». فكانت سفينة «فلسفتنا» منجاة بقواربها المنهجية والتحليلية والفكرية والمنطقية من تلك المزق. ومتقاة من تلك التناقضات والمراوغات الدخيلة. كذلك كان رسو «اقتصادنا» خير مسعف من الارتطامات العنيفة بمشاريع الانظمة الشرقية والغربية المتهاطلة، حيث مرفا النظرية الاسلامية الشافية المتكاملة و«عبارات» الاجتهادات اللبيبة في«منطقة الفراغ». ثم اضحى الامل معقودا بعد ذلك على نجدة هندسة معمار المجتمعات المسلمة التنظيمي بتصورات اصيلة من وحي شرعة الاجتماع الاسلامي تكون مطهرة من رواسب الجاهليات البالية والحديثة، والمزمع اعدادها فيمشروع «مجتمعنا» ليتم بذلك بناء الصرح الاسلامي المتكامل في حياة الامة المعاصرة كلها. وان تجسدت بعض لبناته في الاطروحة المتميزة ل«البنك اللاربوي في الاسلام» تعويضا عن الربا، باعتباره اخطر مقوض لاركان المجتمع واجلب للخراب والافلاس والمظالم من شتى المفسدات الاخرى. انها لعمري كتب علمية نفيسة لا تكاد تخلو من اقباسها النورانية مكتبة خاصة او عامة في ربوع الجزائر، بل في جميع اقطار الشمال الافريقي ولا غرو!
في معرض ما سيفيض به الخاطر من دون اضطرار الى التقيد باكراهات المعايير الاكاديمية التقليدية في كتابة التراجم، لاسيما منها هاتيك التي تعنى بالعظماء.. لا لشيء الا ليكون الحديث مرسلا من دون تكلف ولا مصانعة، ولكي يشف اكثربهذه الحرية المنهجية في التحرير عن الصدق في التعبير والموضوعية في التقرير والواقعية في الوصف والتحبير، نتناول بلمس خفيف نبذا ونثارات خاطفة في غير ما ترتيب مسبق ولا فرز مقصود، من الجوانب المتعددة لهذه الشخصية العالمية الفذة البارزة. والا فانه كما قال الشاعر الجزائري في عبقريته:
هو المارد العملاق دربه
وليس له الا السماء نصير
ثم انى ليراع قد تدبس ذؤابته او تتعثر، ان يلم المامة عابرة على الادنى، بمحيط طوفانه المعرفي وعطائه الاكاديميالثر… الا ان يكون في المامه نسيج وحده من العلماء الربانيين او الاحناء المتفردين: فرد يقوم بما تقوم جحافل او فوق ما يرجى وما يترقب ما الصفة الابرز التي تلفت في شخصيته وعلمه؟
قل نظير للامام الصدر (رض)، في تجسيد مثل هذا الحديث الشريف الذي يعتصر رسالية: «يحمل هذا الدين، في كل قرن، عدول، ينفون عنه تاويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد»
او في العمل بصلابة نادرة بقول الامام علي (ع): «اخذ اللّه على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم» او في اقتفاء اثر الرسل في منهاج الدعوة الحق الى اللّه تعالى، ذلك: «ان اللّه جعل في كل من الرسل بقايا من اهل العلم يدعون من ضل الى الهدى، ويدعون الى اللّه، فابصرهم. فانهم في منزلة رفيعة وان اصابتهم من الدنيا وضيعة. انهم يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنور اللّه من العمى. كم قتيلا لابليس قد احيوه؟ وكم من تائه ضال قد هدوه؟ يبذلون دماءهم دون هلكة العباد، وما احسن اثرهم على العباد!»
فبخ بخ له حيث: نال الشهادة مسرورا بها جذلا فليخلو اليوم محفوظا من العدم وليس اقل في الشهادة له باحسان من معموله لهذه الاية الكريمة الممجدة لامثاله الصناديد الشمخ:
(الذين يبلغون رسالات اللّه ويخشونه ولا يخشون احدا الا اللّه وكفى باللّه حسيبا) [الاحزاب:39].
وميزته في ذلك كله، تقديره لمبدا العمل بعلمه الوضاء ذاك، وهو ان يسوق كلمة اللّه سبحانه بمثل تلك المواصفات النوعية الصارمة لكي تكون بحق مشعلا للانسان المعاصر في الوقت الذي اخذت فيه ضروب الشموع الاخرى تتخافت فلا تضيء ولا نملك الا ان ندلي بشهادة ابداعه المبتكر في اعادة صياغة رسالة اللّه صياغة جديدة جميلة شاملة اصيلة تمهد، ايما تمهيد ماهر، لانسان القرن العشرين المتذبذب الحائر في ان يدع ضلالته ليجد ضالته في كنف الدين الاسلامي الحنيف في طبعته العلمية القشيبة التي يبرع الامام الصدر، رحمه اللّه تعالى، في تقديمها. تصدى الشهيد الصدر لنقد الفكر المادي المعاصر، ما اهمية هذا النقد؟
ان العلامة الصدر (رض) هو فخر المفكرين الاسلاميين وانه لاجرا من تصدى، بجدارة عالية، لنقد الفكر المادي المعاصر نقدا علميا مفعما ما له كفء. سيما ساعة استعلى بضراوة في تحدي الفكر الديني بعامة الى حد الاستهتار به بعد محاولات النسف والتقويض. ولقد ساعده على عمليات التحطيم، فضلا عن الادوات المفاهيمية المستحدثة وجدليات منهج التحليل، ما تراكم من استبدادات
الكنيسة واعتسافات البرجوازية المترفة في غضون التاريخ الغربي منجانب، وقيام النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي المنبثق عنه في واقع ماثل تجسد في ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي سابقا. كما خدمه، من جانب آخر، ايديولوجيا ودعائيا واعلاميا، انتشاره في ما كان يعرف سابقا بدول شرقاوروبا الشيوعية. ولكم تبلغ عبقريته الفكرية من الروعة والعمق في تحليله النقدي الرافض لثنائية التفسير الافلاطوني القديم للعلاقة بينالروح والجسم، باعتبارها علاقة بين قائد وعربة يسوقها. والمشخص لقصور التعديلات التي اجراها ارسطو بادخال فكرة الصورة والمادة. ولاخفاق نظرية الموازنة التي جاءت في تخمينات ديكارت. وانما الذي انتبه اليه ما بلوره الكشف الفلسفي الاسلامي لصدر المتالهين الشيرازي الذي استلهم تصميمه الافضل فيتفسير الانسان على اساس العنصرين: الروحي والمادي، من الحركة الجوهرية المتكاملة في وجودهما من دون حدود فاصلة كالتي كان يتخيلها ديكارت حين اضطر الى انكار التاثير المتبادل والقول بمجرد الموازنة. كما انه ابدع فيتعليل اختلافه عن اقطاب الماركسية. لا سيما راي جورج بوليتزر القائل بان «الظروف الاجتماعية للحياة هي المنظم الحقيقي للحياة العضوية الذهنية» حيث ابطل الزعم بالالية في الادراك البشري، واثبت بالامثلة المناسبة ان الافكار والادراكات ليست مجرد ردود فعل منعكسة عن المحيط الخارجي كما تدعي المدرسة السلوكية، ولا هيحصيلة تلك الردود المحددة من قبلها والمتطورة بتتبعها كما تعتقد الماركسية.
فكان بهذا التحليل البارع محررا للفكر الانساني من ربقة الظروف المحدقة، كانه يريد ان يقول: انما الانسان ابن عقيدته وليس بالضرورة ابن واقعه وبيئته. والا فكيف تامره العقيدة بالتغيير في حالة فسادهما ونشوزهما عن امر اللّه تعالى؟
وفي تصديه لراي ستالين في «كون اللغة هي الواقع المباشر للفكر» يقرر على النقيض من ذلك ان الفكر انما هو نشاط ايجابي فعال للنفس، وليس رهن ردود الفعل الفيزيولوجية. وان اللغة ليست الا اداة لتبادل الافكار وليست هي المكونة لتلك الافكار. ولذلك فقد نفكر في شيء ونفتش طويلا عن اللفظ المناسب له للتعبير عنه.
وبذلك نلفيه هنا، ايضا يرفع لواء التحديد من جديد لفك رقبة التفكير الحر من اغلال اية لغة آسرة. على هذا النحو تسلس الارادات طليقة من جميع سلاسل القهر والجبر والقدريات المزعومة على اذهان الناس واراداتهم. الا ان ذلك هوالفهم العميق العميق لابعاد عقيدة التوحيد في مجال تحديد الفكر الانساني من مكبلاته الخفية والظاهرة ومن قيود استراتيجيات الفلسفات المدمرة لجوهر ما في عقل الانسان الذي كرمه اللّه تعالى، وهو نفيسة التفكير الاراديالحر! وصدق من قال: بعثت في امة الاسلام فكرتها من بعد ما خمدت في غابر القدم طرحت افكارها يوما بفلسفة حتى تفلسف من في غاية الهرم ورحت تنفثها في الاقتصاد رؤى من الكتاب وطه انبل القيم تغطرست قبلها للشرق داعية حمراء حتى بدت هتاكة العصم ومال كفك صوب الغرب يسالها عن راسمال نما من ادمع الامم فمتخم مسرف شكواه ببطنته ومدقع مملوء في حالة العدم.
ما هي اهم مميزات النهج التجديدي للشهيد الصدر؟
ان مجرد الايماء الى بعض مميزات عملاق الفكر الاسلامي المعاصر ونهجه التجديدي امر عويص. واعوص منه مهمة الاحداق بها من اطرافها المتعددة. فالاحرى في كل جانب من جوانب عظمته، وفي كل موهبة من مواهبه الكثيرة، ان يستجليها البحث العلمي المتاني في رسائل واطروحات جامعية. بل الاولى ان تفرد، لمزيد عناية، بدراسة اكاديمية متخصصة. لا سيما ان العلامة الصدر (رض) قد ترك في شتى المجالات العلمية والفقهية والفكرية نواة مدرسية جديرة بالاحتذاء والاثراء في ورشات عمل علمي هادف، يفتح لها آفاق الديمومة ودروب الانتشار. واخال هذا المشروع الواعد ادنى ما يقدم وفاء لفكر الرجل ومنهاجه اللذين غزوا براعم عقول الجيل الماضي التي تراها تبلورت في فحول مفكري اليوم ودعاته. والا فمن ذا الذي يرتاب في اقتداره الكبير على استيعاب اعقد المسائل الفلسفية القديمة والحديثة وطاقته الجياشة بالنقد الوجيه والنفس الطويل في التتبع المتبصر من دون كلل ولا ملل. ومدى توفيقه في التخريج والتركيب والصياغة المستلهمة من اوعية الوحي واستثمارها بمهارة في توليد الفكر الاسلامي الذي ينزله مهيمنا في الراهن على الوقائع المستجدة والاحداث الجارية وما يحتف بها من مؤثرات داخلية وخارجية. ذلك فعل المنخل العلمي الرفيع الذي اوتيهوالمعارف الموسوعية التي مرئها. وفي ذلك ايضا منيحة لطف مخصوص ان ينشد اليه القارى انشدادا. لا، بل يطمئن اليه تحليلا وافتاء وتفكرا وانتقادا وتدريسا… للامتلاء الفقهي الذي ينطلق منه وللاضطباع العلمي الذي ابقر به. ناهيك عن المنطق السليم الذي تميز به، فاستغل ادواته في خدمة اساليب الدعوة والتعليم. الى جانب امتلاكه ناصية المنهجية الموفقة وانقياد ملكة الاجتهاد اليه انقيادا ذا طابع خاص. فضلا عن مرجعيته الفذة وعلميته الثائرة وسداد في فهم الوحي، ومحظوظية غير عادية في التمتع بحلل الفتح الرباني في روائع التفسير الموضوعي الذي دشن معالمه.
لا بل كون مدرسته الحديثة بما لا نظير له البتة، وكل من عداه عالة عليه ولا مراء.
الى من يتوجه الشهيد الصدر بخطابه التجديدي هذا؟ وما هو تاثير هذا الخطاب؟
هذه السمات وعديد غيرها، مما يندرج ضمن الاتجاهات التجديدية لتراثه الضخم، اهلت مقروئيته العريضة فيالاوساط الجامعية والاكاديمية والثقافية عبر البلاد العربية والاسلامية بل وغيرها، كما اضفت على كتاباته واجتهاداته ومحاضراته وفتاويه خصوصية عالمية كانها التسامي على المذهبية الضيقة المنفرة والانفراد بلباقة تتساوقها مرونة في مناهج الطرح وبراعة التمثيل وقوة الاستنتاج على نحو لا يملك معه العقل والقلب والضمير الا ان يذعن للحقائق الساطعة المبرهن عليها والمدلل.ولان هذه المصداقية التي منحها متالقة الى حد ان المخاطب يشعر من دون لاي برسالة الخطاب تبلغ الى شغاف قلبه لتحمل اليه قناعة مفعمة بالايمان الفياض بحتمية انتصار الاسلام، وتنقل اليه ملموس وعد اللّه سبحانه بنصرة المسلمين كذلك وفقا للسنن، بل وفوق السنن احيانا ايضا.. واللّه على كل شيء قدير. وللّه در مادحه، حيث قال:
هزات من عالم بالزيف منغمس
بكل ما حوت الدنيا من النظم
لذا سلكت طريق الحق منتصبا
وما ترددت في لاء ولا نعم!
فدم خالدا لك قلب الدهر مضطجع
يا نافث الروح في الموتى وفي الرحم
وعزاؤنا في شهادته بشارة الحق سبحانه اذ يقول: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم اللّه من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [آل عمران:169 و170].
وخير سلوان في ذكرى استشهاده العشرين ان يعبق منا بطيب هذه الابيات وخالص الترحمات:
يا صدر طابت بك الاجداث وازدهرت
على هدى اللّه وسط الخلد فلتنم
ان غاب شخصك فليبق هواك على
مر العصور بقاء الحق والكلم
ومسك الختام مراهنة الشاعر الجزائري مصطفى محمد الغماري:
اراهن ان الظالمين قبور
وانك في درب الحضور حضور
وتحدث الداعية الشيخ الدكتور فتحي يكن عن الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، فقال تحت عنوان: «الشهيدالصدر في خاطري»:
انه من القلة التي جاد بها القدر، انه الموسوعي في معرفته، الرسالي في تطلعاته، الجهادي في حركته، المتوقد في فكره،انه العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر رحمه اللّه. لقد خاض في جميع فروع المعرفة الاسلامية، خوض المتيقن المتبحر، فكان بحرا في الفقه واصوله، فيلسوفا في منهجه ومعرفته، مجددا ومجتهدا. لقد ادرك اهمية الفلسفة والفكر، وتاثيرها على العقول والافهام، فكتب «فلسفتنا»، وضمنه المفاهيم الاساسية عن العالم، والفلسفات البارزة فيه، والقى عليها الضوء موضحا الاطر والاسس والركائز التي تقوم عليها المذاهب الاجتماعية، وشرح كامل نظرياتها. وقد اسدى بذلك خدمة جلى لحركة الوعي الاسلامي التي استمدت من تلك الطروحات الكثيرمن الوعي والمعرفة للتصدي للزحف الفلسفي، بمدارسه المختلفة، والذي كان يصب حممه على العالم الاسلامي، فيعملية غسل دماغ مركزة وماكرة..
لقد اهتم بالمنهج اهتمامه بالفكرة، ايمانا منه بان المنهج الصحيح يزيد الفكرة وضوحا، ويحملها بجلاء الى الاذهان،فقام، رحمه اللّه، بدراسة شاملة نوعية، قدم من خلالها اتجاها جديدا في نظرية المعرفة، تؤكد على ان العلم والايمان مرتبطان في اساسيهما المنطقي الاستقرائي، وذلك في عز الهجمة الشرسة على الاسلام واتهام اتباعه بمعاداة العلم واظهار التناقض بين الايمان والعلم. وعلى هذا اسست العلمانية وجودها وتمددها، فكان لهذا الفكر الاسلامي الذي كان من رواده السيد محمد باقر الصدر الاثر الايجابي في جلاء الغشاوة ودحض الشبهات. ولقد شعر، رحمه اللّه، بالدور المتنامي للمال والاقتصاد، واحس بمحاولة ابعادهما عن دورهما الاسلامي، فكان ان برزهذا الدور ووضعه في قالبه الاسلامي الشمولي، وبقي كتابه «البنك اللاربوي في الاسلام»، وسفره «اقتصادنا» مرجعينضخمين في عالم المال والاقتصاد الاسلامي. لقد كانا الجذوة التي اقتبس منها الاخرون، وساروا مهتدين بها.
ومن خلال هذه المؤلفات تقوت الحركة الاسلامية في مواجهة النظام المالي الربوي والانظمة الاقتصادية الراسمالية والماركسية. واستطاعت ان تقدم البديل من خلال مؤسسات مالية اسلامية اخذت تشق طريقها وتنمو وتتزايد
بفضلاللّه تعالى، ثم بفضل جهود امثال صاحب الذكرى. وتناول الشهيد محمد باقر الصدر مشاكل الامة وهمومها، وتحدث عن القدرات الهائلة التي تمتلكها الامة الاسلامية
في مجال التطوير الحضاري والقضاء على اوضاع التخلف. وامتاز في جميع كتاباته واقواله بالاسلوب الموضوعي النقدي الواضح الذي لا يحتمل المواربة. لقد كان، رحمه اللّه، مفكرا سياسيا واقتصاديا وفيلسوفا وفقيها… وقبل كل ذلك كان رساليا بكل ما لهذه الكلمة من معنى. وان الساحة الاسلامية اليوم لتفتقر لامثاله.