تقديم «رسالتنا»

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

قد تكون قيمة بعض الكتب والمؤلفات فيما تشتمل عليه من خصائص فكرية وعلميّة وفنّية.. وقد تكون قيمة بعضٍ منها فيما يعبّر عنه من أوضاع اجتماعية وسياسيّة ودينيّة.. في نطاق الحالة الذاتية لأصحابها، أو نطاق البيئة الحيّة التي عاشوا فيها وانطلقوا منها..

وهذا الكتاب (رسالتنا) يمثل ـ في قيمته الرساليّة ـ مرحلةً متقدّمة من مراحل وعي الأمة للإسلام في حركة جامعة النجف الأشرف.. في العراق نحو الإنطلاق في خط الجهاد الواعي المتوثّب المتطلع إلى آفاق جديدة رائدة.. ولذلك، فهو يمثل تاريخ بداية هذه المرحلة الجديدة هناك.

أما تاريخ هذا الكتاب.. ومدلوله وحركته فهذا ما نحاول أن نعالجه في هذه المقدّمة.

فقد بدأ هذا الكتاب مقالاتٍ متلاحقة في مجلة الأضواء الإسلامية التي كانت تصدرها جماعة العلماء في النجف الأشرف من أجل أن تكون الصوت الناطق للإتجاه الرسالي الإسلامي في مواجهة الإتجاهات المنحرفة الإلحادية التي بدأت تتخذ لنفسها موقعاً بارزاً في الساحة العراقية بعد إنقلاب 14 تموز 1958، ضد الحكم الملكي. فقد شعرت الحوزة العملية في النجف الأشرف بأن الساحة أصبحت تحتاج إلى أدوات جديدة للصراع، وإلى أساليب متقدّمة في الدعوة.. لا سيّما، وأن التيارات المضادة كانت تعمل على مخاطبة العقل والعاطفة والغرائز لئلا تترك في الساحة فراغاً للإسلام أو للمسلمين..

وكان من نتائج هذا الشعور أن تألفت هذه المجموعة من العلماء لتفكّر في طريقة العمل وفي حركته.. وقد كان تحرّك هذه النخبة نقلةً متقدمة في تاريخ الوعي الإسلامي للنجف الأشرف، لأنهم يمثلون المستوى العالي لأساتذه الفقه والأصول في الحوزة العلمية الذين لم تكن اهتمامات الكثير منهم تخرج عن النطاق العلمي الخالص، بل ربما كان البعض منهم يعتبر الخروج عن هذا النطاق إلى المجالات السياسية، حتى الإسلامية منها، ابتعاداً عن الإختصاص، وانحرافاً عن السلوك الروحي المستقيم.. ولكنها التحديات العاصفة التي تواجه القافلة السائرة في استرخاء ودعة، فتدفعها إلى التحرك السريع المتوثب من أجل مواجهة الرياح القادمة من بعيد..

وبدأت هذه الجماعات تصدر المنشور تلو المنشور لتفتح أعين الناس وقلوبهم على التحديات الجديدة التي تواجه الإسلام من خلال حركة الثورة التي أراد الكثيرون اللعب من خلالها على مشاعر الجماهير التي اهتزت بفعل التغيير الحادث في شكل الحكم وفي شعاراته..

واعتبرت خشبة الخلاص من الحكم السابق الذي كان يمثل العمود الفقري للإستعمار البريطاني في المنطقة.. وكما هي العادة في مشاعر الجماهير.. فإنها تندفع بقوّة  نحو الإطار وتترك الصورة جانباً للذين يمسكون بالإطار.. فليست الصورة هي القضية، فلا أهميّة لنوعيتها وطبيعتها ما دام الإطار يغلّف الصورة المعروضة التي تتفق بالحجم واللون مع حجم الإطار ولونها..

وهكذا اندفعت الإتجاهات الفكرية السياسية المتعددة التي تتحرك من خلال الشعور الثوري، تتخذ لنفسها موقعاً في داخل الإطار تبعاً للريح التي تهبّ على الشارع الجماهيري.. وكانت القوميّة والشيوعيّة والإقليمية تتنافس وتتصارع فيما تطرح من شعارات وفيما تمارس من أوضاع، وفيما تركز من علاقات.. وكان (الزعيم الأوحد) للثورة (عبد الكريم قاسم) شخصاً يتميز بصفات غريبة قد تكون طبيعة في تكوينه العصبي، وقد تكون تمثيلاً في تصرفاته القلقة التي يتنقل فيها من موقع إلى موقع.. واندفعت الإتجاهات المتعددة لتأخذ من كل تصريح (للزعيم الأوحد) شعاراً يتفق مع طروحاتها الفكرية والسياسية.. وكان يملك أصول اللعبة فلا يشعر بأنّ فئةً معينة قد سيطرت على الساحة، إلا ويحاول أن يبعدها عن مواقعها لحساب فئة أخرى ليظل الصراع مستحكماً وتبقى له صفة (الزعيم الأوحد) كما هو دوره الذي أريد له في (لعبة الأمم) في المنطقة… ودخلت (جماعة العلماء في النجف الأشرف) الساحة فيمن دخلها.. من دون أن يكون للإسلام تنظيم معيّن وتخطيط مدروس صالح للإنطلاق نحو الساحة بأفكاره وشعاراته وخططه.. بل كانت هناك الأفكار العامة التي تقف ضد الإلحاد والشيوعية والإشتراكية والرأسمالية من غير وضوحٍ في الصورة، أو دخولٍ في التفاصيل ولذا كانت المنشورات الصادرة عنهم في تلك الفترة مطبوعة بطابع الحماس الإسلامي الذي وقع فيما وقع فيه الآخرون من إسباغ الصفات الكبيرة على (الزعيم الأوحد) من أجل استغلال مركزه في تقوية الساحة الإسلامية، أو في استثمار إسمه (الإسلامي) في الضغط على الفئات الأخرى.. وربما كان جنون تلك المرحلة فيما يتحرك فيه هذا الزعيم، وفيما تريد الأجهزة الإستعمارية أن تثيره في المنطقة، قد أبعد العقل عن أن ينطلق بشكل هادئ، فلم يبق له مجال إلا بأن يركب موجة الجنون في طريقه إلى الحركة العاقلة..

وشعرت (جماعة العلماء) بأن هذا الأسلوب لا يحقق أيّ تركيز للساحة، فإن الموجة قد تتطامن وتهدأ.. وتستقر على قواعد فكرية معينة من خلال تخطيط الفئات اللا إسلامية لمستقبلها الفكري والسياسي في الساحة العراقية.. وكان في داخل هذه الجماعة أشخاص طليعيون ينطلقون بعداً عن الفكر التقليدي المحافظ، ويفكرون بأن الهدى لا ينتشر إلا من حيث إنتشر الضلال..) وبدأ التفكير بالمجلة الإسلامية التي يُراد لها أن تخاطب عقول الشباب بالمفاهيم الإسلامية في ضوء أساليب العصر ومعطياته ليشعروا بأن الطروحات الجديدة التي تقدمها الفئات الأخرى لحل مشكلة الحياة والإنسان ليست علاجاً سحرياً يمكن أن يدخل الناس إلى الجنة الموعودة في الدنيا.. بل هناك المفهوم الإسلامي الذي يحقق للإنسان التوازن في الحلول الواقعية للمشاكل المطروحة في الساحة.. وتحركت في الساحة الإسلامية في النجف الأشرف من خلال هذا الإتجاه في التفكير الذي فرصته حدّة الصراع،.. الخطوات العمليّة للإتجاه الإسلامي الجديد الذي يفكر في قيادة الإسلام للحياة على أساس الفكر والعاطفة والمنهج والشريعة.. وكان الجو يسمح لهذا الإتجاه أن يبدأ في عمليّة النمّو والتطوّر.. لأن الساحة الدينية كانت قلقةً من التحديات الكافرة القاسية.. وكانت مجلة الأضواء الإسلامية باكورة هذا الإتجاه في أهدافها التي عبّرت عنها الكلمة الأولى من رسالتنا… (وليست هذه الأضواء إلا إشاعةً من نور الإسلام الوّهاج حاولنا أن تنير للأمة وتكشف عن شيء من كنوز الإسلام أو تعكس أنواره على ما يتماوج به واقع الأمة من أفكار وأحداث وهي جزءً من حركة فكرية شاملة تدعو المصلحين والقادة الإسلاميين إلى إيجادها والتوفر على تنميتها وتغذيتها لتعرف الأمة طريقها السويّ وتفهم كيف تفتح الدنيا بالمفتاح الإلهي الذي أهملته طوال السنين..).

ولا بد لنا من الإشارة إلى أن الأضواء في تخطيطها الفكري وفي حركتها الرسالية كانت خاضعة لإشراف وتوجيه مجموعة من الطاقات الفكرية الإسلامية الجديدة العاملة في هذا الإتجاه الإسلامي الكبير المتطلع إلى الحياة الإسلامية المتحركة في الفكر والحياة وفي طليعة هؤلاء كان يقف الشهيد السعيد المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر الذي كان فكره وقلمه يمثلان النقلة المتقدمة لحركة الإتجاه الإسلامي الرائد.. فقد كتب في تلك الفترة الحرجة كتاب (فلسفتنا) الذي يعتبر ـ بحقّ ـ الكتاب الذي نقل الصراع مع الشيوعيين، من أسلوب الغوغاء الذي يقوم على أساس نهج المخابرات المركزية الأميركية، إلى أسلوب الفكر العلمي، مما يعطي الإنطباع بأن الإتجاه الإسلامي الجديد لا يتحرك في مواجهته للشيوعية من المواقع السياسية الموجهة لمصلحة الغرب، بل يتحرك من موقع الإيمان بأن الطريق الوحيدة لتحصيل القناعات العقيدية، هو الحوار الفكري المبني على القواعد الفكرية الثابتة… وقد كان لتحرّك الشهيد الصدر في تلك الفترة، أثر كبير في انطلاق الخط الإسلامي الجديد في إطار نشاط (جماعة العلماء) وذلك من خلال موقعه العلمي المحترم، بالرغم من صغر سنه ـ ومن خلال موقع خاله آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين رحمه الله وأخيه الحجة السيد إسماعيل الصدر (ره) في المواقع المتقدمة للجماعة، فقد كان الشيخ آل ياسين، يعتبر في مركز الرئيس للجماعة.. وانطلقت الجماعات المثقفة الواعية من إخوان الشهيد ومقدريه معه في هذا الهدف الكبير.. وقد بدأ يكتب افتتاحية المجلة تحت عنوان (رسالتنا) إلى العدد الخامس منها.. حيث امتنع عن مواصلة الكتابة فيهال من خلال الضغوط الصعبة التي مارستها بعض مراكز القوى في الحوزة العلمية لإبعاده عن السير بعيداً في هذا الإتجاه الذي بدأ يفرض نفسه على الساحة الإسلامية، في صيغة سياسية إسلامية منظمة.. وكان من رأي هذه القوى ـ في حوارها معه ـ أن ذلك قد يترك أثراً سلبيّاً على مستقبله المؤمل للمرجعية الدينية في الوسط الإسلامي الشيعي في التحرك الإسلامي.. ولكنه ظل مواظباً على مساندة المجلة ومتابعة نشاطها وتقديم بعض الأفكار الرائدة لبعض إخوانه من المفكرين الذين استمروا ـ برغبة منه ـ في كتابة الإفتتاحيّة..

ولا بدل لنا ـ من أن نوجّه الإلتفات إلى نقطتين ـ في ختام هذا الحديث:

1ـ إن على الدارسين الذين يريدون أن يدرسوا بدايات فكر السيد الشهيد السعيد الصدر ـ قدس سره ـ أن يدققوا في هذه الحلقات الخمس من (رسالتنا) ليعفوا اتجاه فكره في تلك المرحلة، ودوره في قيادة الحركة الإسلامية في العراق من خلال الخطوط العريضة للتحرك الإسلامي التي عرضها في هذه الحلقات..

2ـ إن على الدارسين للعمل الإسلامي في العراق أن يتوفّروا على دراسة الإتجاه الإسلامي في كلمات وأبحاث مجلة الأضواء الإسلامية التي تعتبر إنطلاقةً جديدة في أجواء الحوزة العملية الدينية في النجف الأشرف، فقد استطاعت أن تدخل الفكر الإسلامي الجديد في وعي الجيل الجديد من طلاب العلم الديني هناك، واستطاعت ـ من خلال ذلك ـ أن تفتح الصراع المرير بين المحافظين والمجدّدين في داخل الحوزة..

وكان من نتائج ذلك دخول الحوزة في خط الصراع السياسي بين الإسلام وبين السلطة هناك مما جعل السلطة تشعر بخطورة الثقل الكبير الذي تمثله الحوزة في نطاق مركز المرجعية الدينية ذات العمق والإمتداد الإسلاميين في حياة الأمة. وذلك من خلال حركة الإسلام الواعية في هذا المجال.. وقد أدى هذا كله إلى تسفير الألوف من طلاب العلم إلى خارج العراق وإضطهاد وسجن الكثيرين منهم، وإعدام المئات من الطلاب والعلماء بدون محاكمة.. وحتى انتهى الأمر إلى المأساة الكبرى التي تمثلت في استشهاد المفكر الإسلامي الكبير آية الله السيد محمد باقر الصدر وشقيقته المجاهدة ـ بنت الهدى ـ على يده هذه السلطة الكافرة الطاغية.. وذلك من أجل أن تبقى للإسلام كلمته، وتمتد للكلمة آفاقها في خط الجهاد والتغيير على أساس شريعة الله.. وتلك هي قصة (رسالتنا) في الكلمة.. وقضية رسالتنا في الحياة… الفكر  والأسلوب والعمل والجهاد في سبيل الله حتى النصر أو الشهادة.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

محمد حسين فضل الله الحسني

بيروت

17 شعبان 1401هـ