مناقشة الشهيد الصدر للبراءة العقليّة:
للمحقّق الشهيد الصدر (رحمه الله) رأي معروف في نفس البراءة العقلية والتشكيك في القيمة العقليّة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وخلاصة رأي هذا المحقّق الجليل أنّ من غير الجائز قياس حق الطاعة لله (سبحانه وتعالى) على عباده بحق طاعة الموالي العرفيّة على من يتولون أمرهم وذلك لأن مولوية الله تعالى ذاتية، ومولوية الموالي العرفيّة مجعولة، ولا تقاس أحكام المولوية الذاتية في حق الطاعة بالمولوية العرفية.
وبناء عليه فإنّ انحصار حقّ الطاعة للمولى على المكلّفين فيما وصلهم من التكاليف فقط حق إلا أنه يختصّ بالموالي العرفيّة، أما حق طاعة الله تعالى على عباده فلا يقاس بما سبق بل يشمل التكاليف المحتملة أيضاً.
يقول (رحمه الله) «ونحن نؤمن في هذا المسلك بأن المولوية الذاتية الثابتة لله (سبحانه وتعالى) لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً وهذا من مدركات العقل العملي، وهي غير مبرهنة.
فكما إن أصل حق الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّليّ للعقل العملي
غير مبرهن، كذلك حدوده سعةً وضيقاً، وعليه فالقاعدة العملية الأولية هي أصالة الإشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفظ على ما تقدم في مباحث القطع»[1] .
ولكن أصالة الإشتغال العقلية، على رأي الشهيد الصدر (رحمه الله) لما كانت مقيدة بعدم ورود ترخيص من الشارع في موارد الشكّ في التكليف كانت أدلة البراءة الشرعية وإرادة بطبيعة الحال على الأصل العقلي الحاكم بالاشتغال.
مناقشة الشهيد الصدر لرأي العلمين النائيني والإصفهاني:
وبهذا الصدد يناقش (رحمه الله) تقرير كل من العلمين المحققين النائيني والإصفهاني (رحمهما الله) الذي سبق وأن شرحناه.
فيقول في مناقشة تقرير المحقق النائيني: «إن هذا الكلام مصادرة لأنّ عدم المقتضي فرع ضيق دائرة حق الطاعة وعدم شمولها عقلاً للتكاليف المشكوكة، لوضوح أنه مع الشمول يكون المقتضي للتحرّك موجوداً، فينتهي البحث إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة»[2] .
ويقول في مناقشة تقرير المحقّق الإصفهاني:
«والتحقيق أنّ ادّعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس لأحكام العقل العملي بالقبح عموماً وأنها كلها تطبيقات له وإن كان هو المشهور والمتداول في كلماته وكلمات غيره من المحقّقين إلا إنه لا محصّل له، لأننا إذا حللنا نفس مفهوم الظلم وجدنا أنه عبارة عن الاعتداء وسلب الغير حقّه، وهذا يعني افتراض ثبوت حقّ في المرتبة السابقة، وهذا الحقّ بنفسه من مدركات العقل العملي، فلولا أن للمنعم حقّ الشكر في المرتبة السابقة لما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره، فكون شيء ظلماً وبالتالي قبيحاً مترتّب دائماً على حق مدرك في المرتبة السابقة، وهو في المقام حقّ الطاعة فلابدَّ أن يتجه البحث إلى أنَّ حقّ الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف الواصلة بالوصول الإحتمالي أو يختصّ بما كان واصلاً بالوصول القطعي، بعد الفراغ من عدم شموله للتكليف بمجرّد ثبوته واقعاً ولو لم يصل بوجه»[3] .
مناقشة رأي المحقّق الشهيد الصدر (رحمه الله):
ويبدو لي إن التقرير التالي لنظرية (قبح العقاب بلا بيان) يرفع الملاحظات العلمية التي أوردها المحقق الشهيد(قدس الله نفسه الطاهرة) على هذه النظريّة التي اعتبرها الشيخ الأعظم(قدس الله سره) من البديهيّات.
وهذا التقرير يتألف من ثلاث نقاط:
النقطة الأولى:
ليس من ريب في أنّ للمولى على المكلّف حقّ الطاعة، وهذا الحقّ من الحقوق الثابتة بالقطع ولا مجال للتشكيك فيه، على خلاف في مصدر هذا الحقّ.
فإن الرأي الرسمي في علم الكلام هو شكر المنعم. والذي يتبنّاه علماء الأصول هو المولوية اللازمة للخلق والملك وكلّ منهما حقّ ولكن ضمن الصيغة التي يعرضها القرآن وهي الميثاق.
والولاية والإنعام بغير هذه الصيغة لا ينهضان بحق الطاعة. وقد شرحت النظرية القرآنية بصورة مستوفاة في كتاب (الميثاق).
ومهما يكن من أمر فإنّ حق الطاعة للمولى على المكلّف من المسلّمات التي لا مجال فيها للمناقشة. ولا يختلف العقلاء أيضاً في أن حق الطاعة إنّما يثبت للمولى على من يتولاه ـ في غير حق الله تعالى على عباده ـ في حال وصول التكليف على المكلّف وصولاً قطعيّاً.
وليس للمولى حق الطاعة على المكلّف ما لم يبلغه التكليف ـ بصورة قطعية ـ إذا تحرّى المكلّف عن التكليف في مظانّه، ولا يكفي احتمال التكليف في إثبات حقّ الطاعة للمولى على المكلّف.
وهذا الشرط (الوصول القطعي للتكليف) من أهم شروط (حق الطاعة) عند العقلاء عامّة.
وإذا توقّفنا عند ملاحظة المحقّق الشهيد الصدر(رحمه الله) في حق طاعة الله تعالى على عباده، فلا يتوقّف أحد في هذا الشرط في حقّ الطاعة لغيره تعالى من الموالي على المكلفين. ولا يختلف في ذلك مولى عن مولى، ولا يفرق الناس بين درجات الموالي في هذا الشرط.
وعلى هذا يتطابق العقلاء جميعاً، والمناقشة في ذلك مناقشة في البديهيات، والمحقّق الشهيد(رحمه الله) نفسه لا ينفي ذلك، ولا يشك فيه.
يبقى أن نعرف قيمة هذا التطابق بين العقلاء من الناحية العلمية.
لا شك أن هذا التطابق قائم على حكم العقل العملي بنفي حق الطاعة في حال عدم الوصول القطعي للتكليف، مع التحرّي عنه في مظانّه، وثبوت حق الطاعة للمولى على المكلف عند الوصول القطعي للتكليف.
وهذا الحكم العقلي من مدركات العقل العملي ومثله في ذلك مثل حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم، وهو حكم عقلي قطعي، وإمارة ذلك تطابق العقلاء على ذلك.
ولا تتوقف حجية مثل هذه الأحكام العقلية على إمضاء الشارع لها ليصح كلام المحقق الشهيد(رحمه الله) في ردّه حيث يقول(رحمه الله): «وكأنّهم قاسوا ذلك ببعض المولويات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف، نعم لو قيل بأن الشارع أمضى السيرة والطريقة المعتادة في المولويات الثابتة عند العقلاء وبمقدار ما تستوجبها من الحق فلا بأس به، ويكون مرجع هذا بحسب الحقيقة إلى البراءة الشرعية المستكشفة عن طريق إمضاء السيرة العقلائية»[4] .
فإن المورد ليس من موارد السيرة العقلائية قطعاً، وإنما هو من موارد حكم العقل العملي، شأنه في ذلك شأن حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم وإمارة ذلك جزم العقل وحكمه بثبوت ونفي حق الطاعة عند وجود هذا الشرط وعدمه، والسيرة العقلائية هي السلوك الخارجي للعقلاء، والمرتكزات العقلائية وهي عبارة أُخرى عن عرف العقلاء في شؤون الحياة، كما يقول تعالى في الطلاق: (… فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان …)[5].
فإن الإمساك بالمعروف هو الإمساك بما يتعارف عليه العقلاء في مثل هذه الموارد من الرفق والإنفاق والإحسان. وأين ذلك من حكم العقلاء جميعاً على إثبات أو نفي حقّ الطاعة للمولى على المكلف عند وجود أو عدم هذا الشرط.
وإذا ثبت أنّ هذا الحكم حكم عقلي من أحكام العقل العملي فلا نحتاج في حجيته إلى إمضاء الشارع وإنما يلازمه الحكم الشرعي بموجب حكم العقل النظري، من باب الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
وشتان بين إمضاء الشارع للسيرة العقلائية ـ الذي يؤول أمره كما يقول المحقق الشهيد(رحمه الله) إلى البراءة الشرعية ـ وبين الملازمة بين حكم العقل العملي والحكم الشرعي الذي قررناه في هذا التقرير.
نعم، لا شك أن للمولى، إذا وجد أهمية متميزة لبعض أحكامه أن يأمر المكلف بالاحتياط فيما لم يصله الحكم على نحو القطع واليقين، كما في موارد الدماء والأموال والفروج مثلاً لاهتمام الحاكم والمولى به أكثر من غيره، ولكن بشرط تبليغ الأمر بالاحتياط، ومن دون التكليف بالاحتياط، لا تحق له الطاعة من دون وصول التكليف.
ولا إشكال عند القائلين بالبراءة العقلية بوجوب الاحتياط عندما يأمر المولى بالاحتياط فيكون المورد من موارد الاحتياط الشرعي.
النقطة الثانية:
ويحكم العقل كذلك حكماً قطعياً بقبح العقاب على المولى الحكيم للمكلفين إذا خالفوه في أمر أو نهي في كل مورد ليس له حق الطاعة عليهم، لأن العقاب والمؤاخذة فيما لا يكون للمولى على المكلف (حق الطاعة) قبيح ومخالف للعدل والحكمة.
وبهذا النهج من البحث نصل بالدقة إلى ما يريده (قدس الله نفسه) من ابتناء مسألة (قبح العقاب بلا بيان) علمياً على عدم وجود (حق الطاعة) للمولى على المكلف في مرحلة سابقة فيما لم يصل التكليف إلى المكلف بصورة قطعية.
يقول (رحمه الله) في كلام سابق له نقلناه في مناقشته لتقرير المحقق الأصفهاني: «فلا بدّ أن يتجه البحث إلى أنّ حق الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي أو يختص بما كان واصلاً بالوصول القطعي»[6] .
وهو كلام دقيق وجيه، لا ريب فيه.
وقد حرصنا نحن أن نسلك هذا النهج فنثبت أولاً، في النقطة الأولى من البحث نفي حقّ الطاعة للمولى على المكلف فيما لم يصله التكليف بصورة قطعية بعد التحرّي والبحث عنه في مظانّه.
وإذا ثبت لنا ذلك بموجب حكم العقل العملي، كما أسلفنا، رتّبنا على ذلك حكم العقل القطعي بقبح عقاب المولى للمكلّف عند مخالفته للتكليف إذا لم يصله التكليف وصولاً قطعياً، وهو معنى القاعدة المعروفة لدى المشهور من الأصوليين بـ (قبح العقاب بلا بيان).
وهذه القاعدة ـ كما نرى ـ مزج بين حكمين عقليين، وليس حكماً عقلياً واحداً.
ونقطة الارتكاز في نقد المحقق الشهيد(رحمه الله) لكلمات المحققين من الأصوليين هي اعتبار القاعدة منطلقة من حكم عقلي واحد، وليست تركيباً من حكمين عقليين بالطريقة التي شرحناها.
النقطة الثالثة:
وتبقى بعد ذلك النقطة الأخيرة في هذا البحث، وهي أن غاية الجهد الذي قدمه هذا التقرير إثبات القاعدة إثباتاً عقلياً بديهياً كما يقول الشيخ (رحمه الله) للموالي على المكلفين، ولكن في غير حق الطاعة لله تعالى، ولا يقاس حق الطاعة لله تعالى على عباده بحق الطاعة الثابتة للموالي العرفية العقلائية ولا يلازم ثبوت هذه القاعدة العقلية في الموالي العقلائية العرفية المجعولة ثبوتها في المولوية الذاتية المطلقة لله تعالى يقول المحقّق الشهيد (رحمه الله):
«فلا بدّ من جعل منهج البحث ابتداءً عن دائرة مولوية المولى وأنها بأيّ مقدار وهنا فرضان:
1ـ إن تكون مولوية المولى أمراً واقعياً موضوعها واقع التكليف بقطع النظر عن الانكشاف ودرجته، وهذا باطل جزماً لأنّه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزاً ومخالفته عصياناً، وهو خلف القطع وواضح البطلان.
2ـ أن يكون حق الطاعة في خصوص ما يقطع به ويصل إلى المكلفين من المولى وهذا هو روح موقف المشهور الذي يعني التبعيض في المولوية بين موارد القطع والوصول وموارد الشك، ولكنا نرى بطلان هذه الفرضية أيضاً لأنا نرى أن مولوية المولى من أتم مراتب المولوية على حدّ سائر صفاته، وحقه في الطاعة على العباد أكبر حق لأنه ناشئ من المملوكية والعبودية الحقيقية.
3 ـ المولوية في حدود ما لم يقطع بالعدم وهذه هي التي ندعيها وعلى أساسها ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي على أساسها ذهب المشهور إلى التبعيض في المولوية، وكأنهم قاسوا ذلك ببعض المولويات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف»[7].
وبناءً على ذلك تبقى لدينا مهمة واحدة ليتم بها تقرير هذه القاعدة العقلية وشمولها لـ (حق الطاعة) لله تعالى على عباده وهي تعميم هذه القاعدة العقلية لتشمل (حق الطاعة) لله تعالى على عباده.
وهذا التعميم يثبت بصورة قطعية بملاحظة وحدة مصدر الطاعة الشرعية، أو وحدة حق الطاعة. فليس لدينا حقان ومصدران للطاعة، حق الطاعة لله وحقّ الطاعة لغير الله تعالى من الموالي، وإنما هو حق واحد ومصدر واحد.
وتوضيح ذلك: إن الطاعة لا تزيد على حالتين: إما أن تكون طاعة شرعية أو تكون طاعة غير شرعية.
والطاعة الشرعية هي طاعة الله تعالى وطاعة كل من يأمر الله تعالى بطاعته من أنبيائه ورسله(عليهم السلام) وأوصيائهم (عليهم السلام) ومن يؤمّرونهم على الناس من الأمراء ومن الدرجة الثانية والثالثة… وتدخل في هذا الحقل من الطاعة، طاعة الزوج، وطاعة الوالدين، وطاعة الأجير فإن كل ذلك يتم بأمر من الله تعالى. وفي الحقيقة هي مصاديق لطاعة الله تعالى، وفي امتداد طاعة الله وتحمل نفس قيمة وقوّة طاعة الله، وإن كانت تختلف عن طاعة الله في مساحة الطاعة فإن حق طاعة الزوج محدود في مساحة معينة، بعكس مساحة حق الطاعة لله فإنها مساحة مطلقة وغير محدودة.
وهذه المساحة هي التي تتحدّد بالجعل من قبل الله تعالى فمهما أمر الله تعالى بطاعة لأحد في مساحة يحددها للطاعة وجبت تلك الطاعة في تلك المساحة، من دون أن تختلف قيمة هذه الطاعة.
فإن قيمة حق الطاعة في كل طاعة مشروعة واحدة، لأنها جميعاً تصدر عن حق طاعة الله تعالى على عباده.
وليس من شك أن العقلاء يتطابقون على أن حقّ الطاعة مشروط بوصول التكليف إلى المكلف وما لم يصل التكليف إلى المكلف وصولاً قطعياً لم يكن للمولى حق للطاعة على المكلف.
وإذا عرفنا بوحدة حق ومصدر الطاعة الشرعية أمكننا أن نعمّم الحكم العقلي السابق في مورد حق الله تعالى على عباده بالطاعة.
وليس من شك أن لله تعالى أن يطلب الطاعة من عباده بالاحتياط في حال احتمال التكليف والشك بل الوهم أيضاً، ولكن بشرط التبليغ، ومن دون التبليغ يبقى الحكم العقلي الثابت في موارد الطاعة المشروعة نافذاً في حق طاعة الله تعالى على عباده، من دون فرق، لوحدة حق الطاعة ومصدرها. فما يشترط من شرط في حق الطاعة هناك يشترط في حق الطاعة لله وما لا يشترط هناك لا يشترط في حق الطاعة لله، وذلك لأن هذه النماذج من الطاعة واحدة. وحق الطاعة لها ولله تعالى من المتواطئ الذي لا تختلف أفراده من حيث الزيادة والنقيصة وليس من مقولة المشكك، وإن اختلفت في مساحة الطاعة.
ولا فرق فيها بين وجوب ووجوب، وطاعة وطاعة، فإنّ وجوب طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووجوب طاعة أوصيائه وخلفاء أوصيائه والحكام والمسؤولين الشرعيين من وجوب طاعة الله.
ولدى التزاحم بين هذه الواجبات نرجح الأهم من حيث متعلق الأمر والوجوب لا الأهم من حيث مصدر الأمر والوجوب، كما هو مقتضى باب التزاحم. فإن ردّ السلام ـ مثلاً ـ واجب بصريح القرآن فلو تزاحم ردّ السلام مع تكليف الوالد لولده بمهمة خطيرة قدم الولد أمر الأب على ردّ السلام وذلك لأن طاعة الأب هي من طاعة الله تعالى ولا فرق بين طاعة وطاعة إلا من حيث أهمية متعلّق الأمر.
فإذا كان متعلق الأمر في تكليف الوالد أهم من ردّ السلام قدّمه عليه لدى التزاحم على قاعدة تقديم الأهم على المهم.
فإن طاعة الوالد من الطاعة لله تعالى ووجود الوسائط لا يغير جوهر الطاعة. فيتم تقديم طاعة على طاعة بموجب أهمية متعلق الأمر لا بموجب أهمية مصدر الأمر، فإن مصدر الأمر في كل هذه النماذج هو الله تعالى.
وهذه حقيقة مهمة تعيننا في درك عمومية قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) في مورد طاعة الله تعالى وعدم وجود استثناء في البين.
والفرق بين الولايتين بأنّ إحداهما ذاتية والأخرى مجعولة وبالعرض غير فارق فيما هو المهم من هذه المسألة في اشتراط حق الطاعة للمولى بوصول التكليف أو عدم الاشتراط.
وذلك لأنّ المولويات العرضية المشروعة التي هي من النحو الثاني تتم بجعل من الله تعالى. وليست لها طاعة ومعصية مستقلة عن طاعة الله ومعصيته.
وإلى ذلك تشير النصوص الواردة عن أولياء أمور المسلمين في أن طاعتهم من طاعة الله ومعصيتهم من معصية الله ومن أطاعهم فقد أطاع الله ومن عصاهم فقد عصى الله.
فليس لهؤلاء حق في الطاعة غير حق الله تعالى.ولا وجود لحقوق متعدّدة في الطاعة حتى يمكن أن يكون حق الطاعة في الموالي المجعولة مشروطاً بوصول التكاليف وحق الطاعة من الله تعالى غير مشروط بوصول التكليف.
فإذا ثبت بالدليل العقلي اشتراط حق الطاعة المشروعة لأحد (غير الله تعالى) بالوصول والبلوغ، فإن معنى ذلك اشتراط حق الطاعة لله تعالى على عباده بالوصول والبلوغ بالضرورة، لأن ذلك الحق من هذا الحق بل لا حق إلا هذا الحق. وكل حق آخر للطاعة موهوم بالنظرة العقلية الدقيقة.
ويدلّ على ذلك دلالة قطعية ما سبق أن أشرنا إليه من تقديم الأهم على المهم من متعلق الأمر والنهي فيما إذا تزاحم أمران مولويان على المكلف أحدهما من جانب الله تعالى والآخر ممن له طاعة مشروعة على المكلف، ولا يلحظ في تقديم أحدهما على الآخر ملاحظة مصدر الطاعة ولا يلاحظ تقديم أمر الله على الأمر الآخر.
نعم يصح كلام هذا المحقق الشهيد (رحمه الله) فيما إذا كان مصدر حقّ للطاعة غير الله تعالى كما في حق طاعة أولياء الأمور في المجتمعات الديمقراطية، فإن مصدر الطاعة في النظرية الديمقراطية هو الشعب، وليس هو الله تعالى، فإذا صلح وثبت شرط عقلي في الطاعة في النظام الديمقراطي فليس يجب أن يثبت بالضرورة نفس الشرط في طاعة الله تعالى، للاختلاف العظيم بين الولاية الذاتية لله تعالى والولاية الموهومة للشعب.
وهذا حقّ، لا نناقش فيه، ولكنا وجدنا أن شرط وصول التكليف إلى المكلف يعم كل حالات الطاعة المشروعة عقلاً، فإذا ثبت هذا الشرط العقلي في مورد من موارد الطاعة المشروعة عقلاً كان لا بدّ أن يثبت في حق الله تعالى على عباده بالطاعة بالضرورة.
وبناءً عليه فإن قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) العقلية تعم كل موارد الطاعة، ولا يحتمل خروج حق طاعة الله تعالى عن هذه القاعدة العقلية، وهو الذي قرّره الوحيد البهبهاني (رحمه الله تعالى).
الشيخ محمد مهدي الآصفي
[1] دروس في علم الأصول، القسم الثاني من الحلقة الثلاثة: 33و34.
[2] دروس في علم الأصول، القسم الثاني من الحلقة الثالثة: 29و30.
[3] دروس في علم الأصول، القسم الثاني من الحلقة الثالثة: 30.
[4] بحوث في علم الأصول، مباحث الحجج والأصول العملية 1: 30، تقرير السيد محمود الهاشمي.
[5] البقرة: 229.
[6] دروس في علم الأصول، القسم الثاني من الحلقة الثالثة: 30، 31.
[7] بحوث في علم الأصول، مباحث الحجج والأصول العملية 1: 30، للسيّد محمد الهاشمي.



