وإنّا حين نتكلّم عن الحضارة الإسلاميّة وإقامتها مقام الحضارة الغربيّة وأيّة حضارة أخرى لم ينزل بها القرآن مهما كان شكلها ومهما كان مصدرها، لا نريد من الأمّة أن تستغني عن المدنيّة الحديثة وعلومها كما يدّعي بعض الناس ويزعم أنّ إعادة الحضارة الإسلاميّة معناها إعادة تلك الحياة البدائيّة التي كان يحياها المسلمون في مدينة الرسول ورفض سائر ما جاءت به المدنيّات الحديثة من وسائل الحياة ومرفّهاتها. وهذا الزعم افتراءٌ على الإسلام، فالحضارةُ غيرُ المدنيّة، ذلك أنّ الحضارة هي مفاهيم الأمّة عن الحياة، والمدنيّة هي أساليب الحياة التي تتطوّر بتطوّر العلوم والاكتشافات، والحضارة الإسلاميّة تقوم على أساس ربط الحياة الإنسانيّة بمبدعٍ حكيمٍ خلق تلك الحياة، ووضع لها نظامها الأفضل وتقرّر أنّ سعادة هذه الحياة إنّما تحصل بتطبيق النظام الإلهي عليها، وأنّ الهدف الذي يجب أن يعين في الحياة هو رضا الله تعالى الذي يتحقّق بإقامة مجتمع عادل على وفق نظامه، وعلى العكس من ذلك كلّه كلُّ حضارة غير حضارة الإسلام التي جاء بها القرآن، فإنّ الحضارات الأخرى تقيم الحياة على أساس فصلها عن الدين، وتقصي الدين عن موضعه من القاعدة الاجتماعيّة للحياة، وتعرّف السعادة بأنّها المنفعة واللذّة وتجعل الهدف لكلّ إنسان الحصول على أكبر نصيب من هذه المنفعة واللذّة. ومن أجل ذلك كان من الطبيعي ما وقع في الحضارة الغربيّة وغيرها من إقصاء الأخلاق والقيم عن قيادة الحياة العامّة وما منيت به الإنسانيّة من تكالب الأقوياء على الضعفاء، وتنافسهم في الاستعمار واستعباد الشعوب لأنّ المقياس هو المنفعة مهما كانت هذه المنفعة قاسية في حساب الضمير ومحرّمة في حكم الله المقدّر الحكيم.
🔸 ومضات، ص ٢٩٣